المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 779 - بتاريخ: 07 - 06 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٧٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 779

- بتاريخ: 07 - 06 - 1948

ص: -1

‌زعيمان

للأستاذ عباس محمود العقاد

والزعيمان هما أحمد عرابي المصري، وإبراهام لنكولن الأمريكي، وكلاهما كان صاحب دور حاسم في تاريخ وطنه، وكلاهما كانت سيرته موضوع كتاب من تأليف كاتب واحد، وهو الكاتب المحقق الأستاذ محمود الخفيف.

تقرأ في الصفحات الأولى من كتاب أحمد عرابي: (مهما يكن في الأمر فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة، وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصاً فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة نجم من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية من القضايا الوطنية الكبرى).

ثم تقرأ الكتاب إلى صفحاته الأخيرة فتخرج منه بهذه الصورة التي إرتسمها المؤلف وثبت ألوانها وظلالها بالوقائع والأسانيد وجمع لها من الوثائق ما لا غنى عنه في فهم هذا الزعيم، ولا في فهم مصر الحديثة وعوامل نهضتها ودخائل تاريخها في الجيلين الأخيرين:

ومما لا شك فيه أن زعيم الثورة المصرية في القرن التاسع عشر قد أصاب وأخطأ، وقد نجح وأخفق، وقد أحسن وأساء. ولكنه لم يكن قط خائناً متواطئا مع الإنجليز على مصلحة وطنه كما افترى عليه خصومه، وإنما خانه التوفيق كما خانه بعض أعوانه، وكان تصرف الإنجليز معه بعد إخفاقه تصرفا طبيعياً لا غرابة فيه إذا رجعنا إلى المعهود من سياستهم ومن خططهم في معاملة أمثاله، فهم لم يرفعوا عنه العقوبة القصوى لتواطؤه بينهم وبينه قبل الثورة العرابية أو بعدها، ولكنهم فعلوا ذلك لأنهم لم يعاقبوا أحداً من الزعماء الوطنيين بعقوبة أشد من عقوبته كما رأينا في مصر والهند والسودان وأفريقية الجنوبية وغيرها من البلدان التي كانت لهم يد في محاسبة زعمائها، ولأنهم من الجهة الأخرى كانوا يسوغون احتلالهم لمصر بفساد الأحوال فيها، فلم يكن في وسعهم أن يحكموا بأقصى العقوبة على رجل يثور على فساد الأحوال.

وليس تمحيص التاريخ المصري، ولا تمحيص الزعيم المصري، كل ما يستفاد من قراءة كتاب الأستاذ الخفيف عن فترة الثورة العرابية، فإن أساليب السياسة الأوربية في القرن

ص: 1

العشرين، وأساليب الاستعمار الأوربي على العموم، بعض ما يستفاد من هذه الكتاب الذي يعد في بابه قليل النظير.

أما سيرة إبراهام لنكولن فهي السيرة الوحيدة التي ظهرت في اللغة العربية لهذا الرجل العظيم، وهي سيرة لم يستوعبها كتاب واحد ولا كتب عدة في اللغة الإنجليزية بين المتكلمين بها أو القادرين على الاطلاع فيها، حيث يعلم الناس كثيراً من تاريخ الولايات المتحدة، فيستغنون عن إقحام هذا التاريخ في سيرة هذا الزعيم أو ذاك.

والواقع أنه لا توجد في التاريخ كله فائدة أو عبرة لا تستخلص من سيرة إبراهام لنكولن في حياته الشخصية أو حياته العمومية سواء تعلقت هذه العبرة بأطوار العظماء أو بأطوار الأمم في نشأتها، أو بأطوار السلم والحرب، أو بعجائب الأخلاق ونقائض الأراء.

فقد يستغني القارئ بسيرة مستوفاة لإبراهام لنكولن عن سير مئات من العظماء ومئات من الحوادث، ولا يفوته شيء ذو بال.

وهنا موضع الصعوبة في استيفاء كتاب عربي لهذه السيرة الجامعة، وقد كانت صعوبة قائمة أمام كل مؤلف تعرض لهذه السيرة من الغربيين فضلا عن الشرقيين.

ويستطيع القارئ أن يعرف لنكولن معرفة صحيحة من كتاب الأستاذ محمود الخفيف، لأنه يعرفه كما كان عظيما غاية في البساطة، بسيطاً غاية في العظمة، أميناً في السياسة، سياسياً في الأمانة، فكها يضحك الثكالى، وحزيناً لا يفارقه حزنه مدى الحياة، كريماً في الصداقة والخصومة: يقف جلسات الوزارة ليستقبل فلاحاً صديقاً من رفقة صباه، ويقهر خصومه كل القهر فلا ينتقم منهم ولا يفكر في إذلالهم، بل يعرف لهم حقهم ويصون عليهم كرامتهم، ويسعى في ذلك كأنه يسعى في مكافأة ولي من أوليائه يدينه بالحب والوفاء.

تلك صفات لهذا الرجل العظيم تعرفها من هذا الكتاب، ولكنك مع هذا لا تحيط بكل شيء ولا تعرف كل شيء، بل تعرف ما لابد منه ويبقى من وراء هذا التعريف الضروري مجال واسع للمزيد.

ومن المباحث التي تجاوزها الكتاب، ما يساعد القارئ كثيراً على تعليل هذه الصورة الصادقة التي تتجلى له من سيرة هذا الزعيم العجيب.

فليس في الكتاب تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه، وليس فيه إلمام كاف

ص: 2

بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه، يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.

ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات.

فقد كان لنكولن مديناً بتعليمه لأمه، ولولا هذه العناية من أمه لعاش ومات فلاحاً لا يسمع أحد باسمه في غير بلده الذي يعيش فيه.

وقد كانت هذه العناية وراثة من أعجب الوراثات، لأن أمه كانت من سلالة غير شرعية لفتاة بلغ من رغبتها في العلم - على خلاف عادة النساء والرجال في زمانها، أنها أقبلت على دروسها الخاصة فأحبت أستاذها واستسلمت له وتعرضت للمهانة في سبيله.

وكان لنكولن يعلم هذا ويتحدث به على دأبه من الصدق والصراحة، وكان يعزو إلى هذه السلالة كثيراً من خلائقه وميوله، ولاسيما الميل إلى المعرفة والاستزادة منها ولو لم تكن من لوازم عمله، كاقباله على تعلم الهندسة والفلك ودراسة شكسبير وبعض الآثار اليونانية، وهو محام لا يحتاج إلى هذه المعلومات.

وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح.

وعمل المصادفة في تواريخ العظماء يفتقر إلى توضيح هذه المواقف وتحليل أسبابها وملابساتها، لأننا نرى فيها عمل العظيم وعمل البيئة في توجيه أكبر الحوادث التي اشتغل بها التاريخ.

أما مقتله فلا يفهم على حقيقته من التاريخ الأمريكي إلا إذا عرف القاتل وعرفت دواعيه إلى اقتراف هذه الجريمة، وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية؛ ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق.

والذي يبدو للوهلة الأولى من كتابي الأستاذ الخفيف أنه موفق في تحقيق معلوماته وفي وزن أبطاله.

ص: 3

إلا أنه حين يحتاج إلى الميزان المشترك بين أبطال متعددين، يضطرب في الميزان بعض الاضطراب.

ومن أمثلة ذلك في تاريخ لنكولن أن كلامه عن بطله صحيح، وأن كلامه عن دوجلاس مزاحمه صحيح؛ ولكنه إذا عرض الرجلين على (الميزان المشترك) لم يبلغ من الدقة ما يبلغه من وزن كل منهما على انفراد.

ومن أمثلته في تاريخ أحمد عرابي أنه لم يحرر الميزان كل التحرير عند الحكم على عرابي ومن يمده مثلا، أو عند الحكم على سائر النابهين الذين اشتركوا في حوادث الثورة العرابية.

فقد يكون عشرات من الرجال في الحادث الواحد مختلفين متنابذين، ويكون لكل منهم حقه في الرأي، وحقه من العذر وحقه من التعظيم.

ولكننا نلاحظ هذه الملاحظات العابرة وننتهي منها إلى تقدير لا شك فيه لكتابي المؤلف عن هذين الزعيمين، وذاك أنهما على التحقيق مصدر لا غنى عنه للعمل بكلا الرجلين في اللغة العربية، وإن الصعوبة التي واجهت مؤلفهما الفاضل لا تغمط الجهد الكبير الذي توفر عليه، فاستحق به ثناء الناقد وإقبال القارئ واستزادة المستزيد

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌منادمة الماضي:

2 -

زيارة لحصن الأكراد

أدب وحرب

للأستاذ أحمد رمزي بك

22 -

لفت حصن الأكراد أنظار رجال الآثار والعلماء من أواخر القرن الماضي، وكتبوا الكثير عنه، ولهم المطبوعات والرسوم التي تدل على عملهم المتواصل.

23 -

وكان آخر ما ظهر من عمل جدي إنشائي: هو عمل البعثة التي أقامت اكثر من عشر سنوات ابتداء من عام 1927 وظهرت نتيجة أبحاثها في المجموعة المسماة التي طبعتها مصلحة الآثار الفرنسية تحت عنوان وهو كتاب من أعظم الكتب الأثرية تأليف ويزيد من قيمة هذا العمل أن البعثة أعادت هذا الحصن إلى بعض رونقه القديم، وأخذت في هذا العمل سنوات عدة، ولذا جاء عملها في الوجهتين: الأثرية والعلمية من الأعمال الخالدة.

24 -

وإني إذ أشير إلى هذا ارجوا أن أجد من السلطات المصرية والسورية اهتماماً يفوق هذا الاهتمام لإعادة قلاع القاهرة ودمشق وحلب إلى ما كانت عليه في إبان سطوتها وعزها على نمط لا يقل في قيمته العلمية والأثرية عما قامت به بعثة حصن الأكراد الفرنسية.

25 -

وأخذ على البعثة الفرنسية هدمها لقبور من ماتوا من المسلمين ودفنوا داخل الحصن، ومنهم من كان يحكم هذا الحصن باسم مصر نائباً عن السلطة المصرية، أذكر من ذلك تربة الأمير صارم الدين قايماز الظاهري السعيدي أول نائب للسلطنة بعد الفتح، توفي سنة 673 ودفن بالحصن. وحقق سوبرنهيم الكتابة التي على شاهد القبر ورسمها، وليس لهذه التربة أثر بعد الترميمات، ولم يكن من حقوق البعثة أن تعبث برفات قائد مصري كبير بعد أن رقدت بالحصن الذي افتتحته جنوده مئات السنين.

26 -

اعتاد الناس حينما يتحدثون عن أثر مثل حصن الأكراد أن يشيروا إلى الحروب الصليبية وأثرها ونتائجها وبعض حملاتها، وموضع هذا الأثر في تاريخ هذه الحروب: ولا شك في أن هذه الطريقة واجبة الاتباع، ولكني سأخالف هذه القاعدة من بعض النواحي.

ص: 5

27 -

ذلك لأن أغلب حملات الحروب الصليبية قد أصبحت معروفة ومتداولة، ولم يعد من المفيد إعادة الكثير مما قرأه الناس عنها: ثم قد يتسع البحث إلى مناطق تبعدنا عن الغاية التي رسمناها لأنفسنا وهي حصن الأكراد وزيارته.

28 -

ولذلك سنشير إلى المنطقة التي فيها حصن الأكراد وأثرها في الحروب الصليبية، ونأتي ببعض النتائج التي حصلنا عليها من أثر هذه الحروب فينا.

29 -

يفسر الأتاتورك مصطفى كمال رئيس الجمهورية السابق تاريخ الحروب الصليبية بأنها الهجوم المضاد الأول من الدول المسيحية ضد الإسلام: لأن الفتوحات الإسلامية وانتصارات المسلمين أثارت بوقفتها هجوماً مضاداً فهو يرى أن حروب الصليبين الأولى كادت تقتلع ملك المسلمين بأكمله، وأن وقفة الحروب الصليبية في الامارات اللاتينية أوجد الحرب الثابتة في المراكز المحصنة، والتي دامت حتى أتم المسلمون أهبتهم، وجاءت هجماتهم التالية التي قدفت بالفرنج إلى الساحل: فكانت الرد على الهجوم المضاد المسيحي.

30 -

ففي فترة الهدوء والاستجمام بين الهجومين أنشأ الصليبيون خطاً من الحصون والقلاع، يبدأ من خليج العقبة ويمر بالكرك والشوبك، ويلتقي مع سلسلة الحصون التي تحمي إنطاكية، وتنحدر مع جبال العلويين حتى جبل لبنان.

ففي منطقة الوسط تماماً يقع مثلث مكون من الحصون الثلاثة: في شمال مصياف، وفي الجنوب حصن الأكراد، وإلى الغرب صافيتا

31 -

فهذا المثلث الواقع على منطقة جبلية يسيطر على عدة طرق حيوية بالنسبة لمقاطعة طرابلس الصليبية، وعلى مناطق زراعية خصبة تجعل المحتلين لهذه القلاع لا يهتمون بغير قلاعهم وأملاكهم، ويسهل عليهم الاتصال فيما بينهم بالنيران لتبادل المساعدة، ولصد كل عدوان يأتي إليهم. ولذلك استمرت هذه البقعة شوكة في جنب المسلمين منذ أيام صلاح الدين ومن قبله إلى أيام الملك الظاهر بيبرس.

32 -

والحرب هي الحرب في كل الأزمان تتطور قواعدها وأساليبها ولا تتبدل أهدافها. فهدفها الأول: هو تحطيم قوة المقاومة لدى الخصم وتدميره.

ولا شك في أن الحملات الصليبية الأولى لم تصل إلى أغراضها؛ فإن قوة المسلمين لم تحطم في يوم من الأيام - وإن الفترة بين دخولهم فلسطين وإخراج صلاح الدين لهم من

ص: 6

القدس بعد معركة خطين كانت من فترات الثبات والتركز كما قال مصطفى كمال. وقد دامت 90 عاماً - وكانت كل المعارك الصغيرة من قبيل الهجمات التعرضية التي يقوم بها جيش من وراء الاستحكامات ثم يعود إليها بعد إتمام غرضه.

33 -

هذه الاستحكامات الدائمة هي القلاع التي أشرنا إليها والتي تمكن صلاح الدين بعد هجومه العام من انتزاع أكثرها من أيدي الصليبيين، ولكنه توفى قبل أن يتم العمل الذي بدأه لذلك وبقى حصن الأكراد لم يسلم إليه، وعادت حالة الاستقرار والهدوء من وراء القلاع، وإن كانت تغيرت عقلية ملوك الصليبيين فأصبحت مصر هدفاً لحملاتهم للقضاء عليها حتى يتم لهم تحطيم قوة المسلمين وتدميرها تدميراً تاماً.

34 -

وهناك حقيقة لابد من إعلانها وهي تتلخص في إفلاس الخلافتين العباسية في بغداد والفاطمية في مصر في اتخاذ موقف يسمح لكل واحدة أو لكلتيهما معاً من البروز كقوة مجاهدة مكافحة تصلح لقيادة المسلمين في عراك يمثل الموت والحياة للعالم الإسلامي، فهذا الموقف السلبي انتهى بهما إلى النتيجة الطبيقية المحتمة وهي زوال الخلافة الفاطمية من الوجود وضعف الخلافة العباسية إلى أن صفيت على يد هولاكو.

35 -

والقارئ لأخبار الصليبيين عند نزولهم لدمياط وخصوصاً لأخبار نشاطهم وحماسهم عندما وصلت لهم أنباء استيلاء التتار على بغداد يخيل إليه أن قواد الصليبيين قد وثقوا من أن العالم الإسلامي قد زال من الوجود بزوالها مع أن أثر الخلافة العباسية كان ضئيلا جداً في الحروب الصليبية لدرجة لا يصدقها العقل

36 -

والفضل الأكبر في صد الحروب الصليبية وإعداد أول هجوم إسلامي على معاقل الصليبيين في فلسطين هو لمصر تحت قيادة صلاح الدين الذي ورث هذا النشاط عن نور الدين الشهير.

وهذا ما أدركه كتاب الصليبيين، وما شعر به قوادهم بعد وقت طويل، وما باح به الجنرال كاترو بقوله: إن مصر في مطالبتها بعودة الدستور والحياة النيابية في سوريا ولبنان إنما تريد أن أن تعلب الدور الذي لعبه من قبل صلاح الدين في شئون دمشق

37 -

والعمل الحاسم لآخر هجوم إسلامي كان لمصر تحت قيادة الملك الظاهر بيبرس هذا الهجوم العام الذي سقطت فيه إنطاكية وحصون الشمال، وأخيراً حصن الأكراد وغيره من

ص: 7

حصون الوسط.

38 -

ولو أعقبت وفاة بيبرس فترة هدوء واستجمام لعادت الحروب الصليبية مرة أخرى، ولكن قلاوون وابنه الأشرف كانا أسرع إلى مداومة الزحف واستغلال الموقف، فلم يقف الهجوم الثالث حتى حقق ما كان يؤمله كل من صلاح الدين وبيبرس، فسقطت طرابلس ثم عكا التي قال عنها الشاعر في مدح الأشرف خليل بن قلاوون:

صدمتها بجيوش لو صدمت بها

صم الجبال أزالتها ولم تزل

(البقية في العدد القادم)

أحمد رمزي

ص: 8

‌بين بدر وأحد:

الفدائي الأول

للأستاذ عمر الخطيب

مد الليل جناحه وشمل الكون ظلام دامس. . . وتحرك الجيش الصغير في هدأة الليل وغمرة الظلام من المدينة يتقدمه القائد الأعظم (رسول الله) ومن ورائه أصحابه كالكواكب المتلالئة حول البدر المنير. . . ساروا وقد سبقهم الخيال إلى ماء (بدر) حيث يعسكر المشركون الذين تجمعوا ليحبطوا دين الله ويقتلوا رسول الله ويؤدبوا أصحابه (الصابئين). . . فاستحث القوم جيادهم وأسلسوا لها القياد، وقلوبهم تخفق شوقاً للجهاد، ونفوسهم ترقص طرباً بلقاء أعداء الله الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم. . . ولم يكن أحب للمسلم إذ ذاك من خوض ساحات الشرف حيث يصول ويجول ويجندل الأقران ويصدع الشجعان، وقد آلى على نفسه أن يستشهد في سبيل العقيدة التي يؤمن بها، والمبدأ الذي ملك عليه لبه. . .

ولما كانوا (بعرق الظبية) استشار الرسول أصحابه، فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، وقام المقداد بن عمرو فقال:(يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أن وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون)!

وسكت الناس بعد أن استمعوا لمقالة المقداد، فقال رسول الله: أشيروا عليّ أيها الناس، وكان يريد بكلمته الأنصار الذين أعطوه موثقاً أن يؤازروه وينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. . .

فقام صاحب رايتهم (سعد بن معاذ) وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهدنا ومواثيقنا. . . على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك. . . فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. فتهلل وجه الرسول واطمأنت نفسه، ووثق من إخلاص الجند لقائدهم واستبسالهم في سبيل دينهم

جاء (أنس بن النضر)، وقد كان غائباً عن المدينة، فغدا إلى المسجد ليؤدي الفريضة خلف رسول الله ويستمع إلى حديثه العذب الجميل ويجتمع مع إخوانه الصادقين ليتدارسوا

ص: 9

القرآن، ويتعاونوا على الخير، ويفكروا فيما يرفع شأن دينهم ويحقق لهم أمانيهم. . . وما إن دخل المسجد حتى ألفى نفسه وحيداً بين شيوخ كبار، وصبية صغار، يركعون ويسجدون، ويضرعون ويبتهلون، فراعه أن يجد المسجد على غير ما ألفه، واستوضح من القوم الخبر فأنبؤوه بأن الرسول في غزوة يقاتل المشركين. . . فأفلت من يده ودمعت عينه ندماً على ما فاته من الجهاد مع رسول الله، ورجع خائباً إلى بيته وفي قلبه أسى وفي صدره غصة وفي نفسه حسرة!

ورجع المسلمون من (بدر)، وقد نصر الله حزبه وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وقتلوا من قريش مقتلة عظيمة، ونالوا منها مغانم كثيرة، ومكن الله للمسلمين من أعدائهم حتى صرعوا رؤوس الجاهلية وأقطاب الشرك. . . عادوا وأكاليل النصر فوق هاماتهم يتقدمهم الرسول الكريم، فاستقبلتهم المدينة جذلة فرحة، وزغرد النساء، وأنشد الصبيان، والقلوب مفعمة بالعزة والفرح. . . وجاء (كعب بن مالك) شاعر الرسول ينشد:

عجيب لأمر الله والله قادر

على ما أراد ليس لله قاهر

قضى يوم بدر أن نلاقي معشراً

بغوا وسبيل البغي بالناس جائر

وقد حشدوا واستنفروا من يليهم

من الناس حتى جمعهم متكاثر

وفينا رسول الله والأوس حوله

له معقل منهم عزيز وناصر

فلما لقيناهم وكل مجاهد

لأصحابه مستبسل النفس صابر

شهدنا بأن الله لا رب غيرُه

وأن رسول الله بالحق ظاهر

وقد عريت بيض خفاف كأنها

مقاييس يزهيها لعينيك شاهر

بهن أبدنا جمعهم فتبددوا

وكان يلاقي الحين من هو فاجر

فكب أو جهل صريعاً لوجهه

وعتبة قد غادرنه وهو عاثر

لأمر أراد الله أن يهلكوا به

وليس لأمر حمَّه الله زاجر

وما إن استقر بالرسول المقام ووزع الغنائم على الجنود وأعطى كل ذي حق حقه حتى جاءه (أنس بن النضر) والدموع تذرف من عينيه والأسى يعقد لسانه والحسرة تلوح من أسارير جبينه. . . جلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ليعتذر عما صنع ويعطيه عهداً وموثقاً على أن يكون الجندي الأمين و (الفدائي) الصادق إذا ما حارب الرسول المشركين

ص: 10

مرة أخرى. . .

قال: (يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين. لئن الله أشهدني قتال المشركين. . . ليرين الله ما أصنع. . .

رجعت قريش إلى مكة تبكي قتلاها وناح النساء عليهم شهراً كاملاً بعد أن جززن رؤوسهن. . . رجعوا وقد تركت (بدر) في نفوسهم أثراً عميقاً حز في قلوبهم وحفزهم إلى العمل على الأخذ بالثأر ولم الشعث وجمع الشتات والاستعداد لمعركة أخرى ينتقمون فيها لما أصاب ساداتهم يوم بدر ويمحون عار الهزيمة الذي لحقهم وكاد يودي بمكانتهم بين العرب وقد أدركوا أنهم إن لم يأخذوا على يد هؤلاء المسلمين ويفصموا عروتهم ويضعفوا قوتهم فسيقضي على قريش بالذلة والضعة بعد العزة والمنعة.

وعزموا على القتال وحشدوا الجموع وجهزوا الجيش والتقوا مع المسلمين جانب (أحد) وكان المسلمون إذ ذاك قلة وقد باغتهم العدو وأصبح قريباً من ديارهم. . وكان اليوم جمعة، فصلى الرسول بالناس وأخبرهم بأن النصر لهم ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم؛ ولبس لأمة الحرب وتقلد السيف وتقدم بالمسلمين نحو (أحد) وأمر بعضاً من أصحابه أن يرابطوا في أعلى الجبل وأن يرشقوا المشركين بالسهام، وأوصاهم بأن لا يتركوا مكانهم حتى ولو ظهر المسلمون على أعدائهم. . . ودقت الساعة وابتدأت المعركة فكان النصر فيها باديء ذي بدء حليف المسلمين إذ حملوا على أعدائهم حملات صادقة زعزعتهم وقذفت في قلوبهم الرعب وأدركوا أنهم إزاء قوم ذوي بأس شديد يكرهون الحياة ويطلبون الموت نصرة للعقيدة ودفاعاً عن المبدأ. . فتراجعوا وفروا منهزمين. . ولما رأى (النابلة) أن العدو قد انهزم وترك وراءه الأموال والمتاع والسلاح نسوا أمر رسول الله فتركوا أماكنهم وأسرعوا لينالوا ما بقى من الغنائم. . وهنا اغتنم الأعداء الفرصة فكروا عليهم من خلفهم وأخذوا مواقعهم وأشروا عليهم وشرعوا يرمونهم بالنبال، وجعل الفرسان يحملون عليهم بالسيوف حتى رجحت كفة الأعداء وكاد يقضي على المسلمين. . .

رأى (أنس بن النضر) ما أصاب المسلمين وكيف أن الله قد أخدهم ببعض ما كسبوا، وذكر العهد الذي قطعه لرسول الله على نفسه، وثارت في نفسه عزة الإسلام وطفرت الدمعة من عينيه حزناً على ما أصاب المسلمين فرفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما

ص: 11

صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين)) ثم امتطى صهوة جواده واستل سيفه وشرع رمحه وتقدم نحو صفوف الكفار فاستقبله (سعد بن معاذ) فقال له أنس (يا سعد بن معاذ!. . . واهاً لريح الجنة! إني لأجد ريحها ورب النضر عند هذا الجبل) وألفى أبا بكر وعمر وقد انتحيا جانب الجبل وألقيا بأيديهما فقال: ما يجلسكم!. . . قالوا: قتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه) ثم ألقى بنفسه في أنون المعركة واستقبل الموت استقبالا رهيباً لا عهد للناس بمثله وقد وهب روحه (فداء) للإسلام الذي آمن به والرسول الذي اتبعه.

انجلى غبار المعركة وهدا صليل السيوف ورجعت الجيوش أدراجها وبقى من المسلمين من يلم القتلى ويحمل الجرحى. . . وافتقد المسلمون (أنس بن النضر) فلم يجدوه بين الجرحى أو القتلى فاشتد حزنهم عليه وعظم مصابهم به وأيقنوا بأنه قد أصبح أسيراً في يد المشركين يسمونه سوء العذاب وينتقمون منه شر انتقام؛ وبعد قليل جاءت أخته (الربيع) لترى أخاها فألفت المسلمين حيارى لا يعرفون من أمره شيئاً، وأخبروها بأنهم لم يجدوه بين القتلى أو الجرحى، فأنعمت النظر في وجوههم التي مثل بها المشركون فلم تجد بين هذه الوجوه التي شوهها الأعداء ما يدل على أن أخاها منهم، وكادت تقطع بما قطع به القوم لولا أن وقع بصرها عقواً على (بنانه) وكان جميل البنان فعرفته بها وأيقنت أنه (أنس) فأكتب عليه وهي تبكي ووقف المسلمون إزاءه يترحمون عليه ويسألون الله له الجنة.

يقول أنس بن مالك (فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون).

ويقول (كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا).

(المعادي)

عمر الخطيب

(فتى الفيحاء)

ص: 12

‌كم بيننا من الكتاب؟

للأستاذ عبد المنعم الصاوي

من الكاتب؟. . .

إذا كان كل من يحمل قلماً يستطيع أن يخط به كلاما يمكن أن يقرأ، ويؤدي إلى معنى من المعاني، أيا كان هذا المعنى.

إذا كان هذا يسمى كاتباً، إذن لجاز لنا أن نسمى أطفال المدارس الابتدائية كتاباً!!

وإذا كان الكاتب هو ذلك الذي يستطيع أن يملأ عدة أعمدة من صحيفة أو مجلة أو كتاب، في أي وقت يشاء، أو في أي وقت يطلب إليه أن يكتب. . .

إذا كان هذا هو الكاتب، إذن لأخرجنا الكتابة عن نطاقها الفني، وحدودها المتسامية، وجعلناها أقرب إلى الصناعة منها إلى الفن الجميل المتسامي!!

فمن إذن الكاتب؟. . . من هو؟

هو الذي يحمل قلماً، وفكرة، وأمانة. . فأما القلم فوسيلة، وأما الفكرة فنهج، وأما الأمانة فهي الهدف.

وليس القلم هو ذلك الشيء الصغير المتواضع الذي يستطيع أي إنسان أن يملكه، مادام يستطيع أن يدفع ثمنه الزهيد الصغير. . . وإنما القلم معنى من المعاني الكامنة في النفس، قبل أن تكون كامنة في الجيب، أو في مجال بيع الأقلام بمختلف أنواعها. .

هذا المعنى الكامن في النفس، يستمد عناصره، ووجوده، وكيانه كله. . . من الدم، والألم، والقلب معاً.

وليست فكرة، هي أن تدرس كتاباً، أو عدة كتب. . . أو أن تنتهي من دراسة، ولو كانت جامعية.

لا، ليست هذه هي الفكرة، وإنما هي قبل كل شيء فلسفة تتخذها بعد أن تكون قراءات الزمن في الكتب وفي الحياة، وتجارب السنوات وشدائد الأيام، واستقصاء المعارف والحقائق الكونية الراسخة في طبيعة البشر. . . بعد أن تكون كل هذه العناصر قد تفاعلت في نفس إنسانية ذواقة، متفتحة، مشرقة، لماعة، بارعة، فاستقرت أخيراً فيها حقيقة واحدة، تكون منهجاً واحداً، يتخذه الكاتب فلسفة في الحياة.

ص: 14

وليست الأمانة هي أن تحمل رسالة معينة وتسعى إلى تحقيقها بمختلف الوسائل. . ليست هذه هي الأمانة. . . وإنما هي أسمى من هذا بكثير.

هي أمانة الكاتب لقلمه المستمد من دمه وعرقه وآلامه وقلبه. . . أمانته تجاه هذا القلم، فإذا هذا القلم أقدس ما يملك، لا يستبيح لنفسه أن يتجنى عليه باستعماله استعمالا غير مشروع، أو استعمالا يجاوز الحق، ولو في واحد من مائة، فان مجاوزة الحق تتساوى: واحداً في المائة، ومائة في المائة.

وهي أمانة الكاتب تجاه منهجه الذي كونته الدراسات والقراءات والتجارب والدموع. . . لا يتصرف في هذه الفكرة إلا في حدود تتسق معها ولا تنبو عنها. . ولا تتنافر أو تتناحر مع فلسفة الكاتب في حياته.

وهي أمانة الكاتب تجاه مجتمعه الذي يعيش فيه. . . أمانته تجاه العقول والأفكار التي تتناول إنتاجه وتتأثر به، وتحذو حذوه. . .

وهي أمانة الكاتب تجاه التاريخ الذي يتناوله، ويسجل عليه، ما أفاد، وما أضر، ويضعه في القائمة البيضاء، أو ينخفض به إلى مستوى الذين لا يرتفعون عن القائمة السوداء.

إذا توفرت هذه العناصر كلها في شخص فهو الكاتب، وإلا لم يكن كاتباً، وأصبح من الجناية على المجتمع وعلى الأفكار وعلى الأخلاق، وعلى مستقبل الجيل أن بعد هذا الشخص كاتباً. . . بل أصبح من الجناية فعلا، أن تفتح لأمثال هذا الإنسان المتجني صفحات الصحف، وأنهار المجلات، وأبواب دور النشر.

والسؤال الآن هو: كم كاتباً في مصر؟

في مصر سبع صحف يومية تصدر كل صباح، وثلاث تصدر كل مساء، عدا المجلات الأسبوعية التي لا يدركها الحصر، غير المجلات الشهرية، والنشرات الكثيرة العديدة.

وفي كل صحيفة من هذه الصحف، مقال واحد على الأقل، أما في المجلات فكل منها تحوي عدة مقالات.

ولو أننا استعرنا الطريقة الأمريكية في الأحصاء، لأمكننا أن نقول إن القراء المصريين يواجهون كل يوم بحوالي عشر مقالات وقصص لعشرة كتاب. . .

ومعنى هذا أن هناك سبعين قلماً تسود هذه الصفحات البيض، وتطلع بها على القراء!!

ص: 15

كم مقالة من هذه المقالات، وكم قلماً من هذه الأقلام، يستحق أن يعني به عقل واحد، أو تفكير واحد، أو قارئ واحد؟. .

وكم من هؤلاء الكتاب، لهم أقلام، وأفكار، وأمانات؟

هل هم هؤلاء الحزبيون الذين لا يمسكون أقلامهم إلا ليصفوا وجه كبير بأنه أقرب إلى وجوه الملائكة طهراً. . . ويصفوا ذاك الكبير بأنه مقلوب السحنة يحاكي الشياطين!!

أم هم أولئك الذين يتعرضون لخفايا السياسة، دون أي علم بعلم السياسة أو فن السياسة أو خفايا السياسة. . . ويتبجحون فإذا هم يوجهون، ويرسمون الخطوط وينقدون، بل ويكيلون اتهامات لا حصر لها، زاعمين أن لهم مكان القيادة بين الساسة والزعماء!!

أم هم هؤلاء الذين يتناولون حقائق الفن بأقلام هزلت وضعفت حتى لا تكاد ترى ولا تبصر، فإذا الكلام عن الفنون كله وصف لعيون هذه الممثلة أو تلك، أو صيحات هذا الممثل أو ذاك، أو هزات بطن هذه الراقصة أو تلك!!

أم هم أولئك الذين ينتجون ألوان الأدب من شعر وقصة ومسرحية، دون دراية بفن ولا علم. . . ودون أن تتكون لديهم ملكة الخلق والانتاج، فإذا إنتاجهم كله وصف سخيف، وحوار ممل، وحوادث تهدف إلى استغلال أرخص العواطف وأحط النزعات!!

أين هم إذن. . . على صفحات الصحف والمجلات؟.

لو استطعنا أن نجد واحداً أو اثنين أو ثلاثة. . . فمن يكون بقية السبعين؟

هل هم كتاب؟

لست أجيب، وإنما أترك الإجابة لقراء هؤلاء المساكين. . .

بقيت الكتب. . . ودور النشر التي أصبحت مفتوحة الأبواب لكل طارق.

كم من هذه الكتب يمكن أن يكون ذا فائدة أو أثر للقراء. . .؟

وكم من كتابها يصح أن يعدوا بين الكتاب؟

إننا لحسن الحظ نجد أن عدد قراء الكتب، المنكوبين بما فيها قليل، ولهذا يهون الشر.

ما سبب هذا الوضع الغريب المخجل الشاذ؟

وماذا يكون علاج هذه الحالة العجيبة؟

وكيف يمكن أن تتعدل هذه الأوضاع الغريبة؟

ص: 16

نترك هذا الآن. . . إلى عودة.

عبد المنعم الصاوي

الأستاذ بقسم الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

ص: 17

‌من تاريخ الطب الإسلامي

لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني

سفير إيران بمصر

- 4 -

ذكرنا في حديثنا السابق محملا عن طب العرب في الجاهلية، ونبذة عن مصادر الطب الإسلامي وتأثير علوم اليونان فيه، وتحدثنا عن كيفية نقل علوم اليونان وسائر الأمم إلى العربية، وذكرنا أن المسلمين بدأوا ترجمة العلوم منذ القرون الأول الهجري أي من بدء تعرفهم عى الأمم الأخرى واتصالهم بها، وقلنا إن هذه التراجم قد تحسنت بالتدريج واتسعت دائرتها حتى بلغت ذروتها في زمن المأمون، وكان للايرانيين حينذاك نفوذ كبير في المجتمع الإسلامي، أي عندما كانت النهضة العلمية الإسلامية في أوجها، وإن عدداً كبيراً من مترجمي هذا العصر قام بإصلاح التراجم السابقة.

وفي حديثنا اليوم سنتكلم بإيجاز عن هذا العصر ثم نتحدث عن ظهور كبار الأطباء المسلمين من أصحاب الرأي والنظر وعن مطالعاتهم ودراساتهم في الأمراض والعلل وعلاجها، وفي مطالعاتهم عن أحوال المريض بجانب سريره، ونذكر نبذة عن البيمارستانات عند المسلمين.

كان المأمون مهتما بهذا الأمر لدرجة أنه كان يبعث الهدايا الثمينة لملوك الروم ويسألهم مقابل ذلك الإذن في إنفاذ بعض المختار من كتب الفلسفة والعلوم القديمة المخزونة المدخرة لديهم إليه، وكان من جملة شروط الصلح بين الخلافة الإسلامية، وامبراطورية روما الشرقية، أن يأذن امبراطور الروم للمسلمين بشراء الكتب العلمية اليونانية من البلاد التابعة له، وكانت الكتب التي تصل إلى المأمون خير الهدايا التي يبعث بها إليه الملوك.

يقول ويتينجتون في مؤلفه عن تاريخ الطب: (إن فتوح المسلمين العلمية ليست بأقل أهمية من فتوحهم للبلاد وغزوهم لها)

وقد اقتدى بالمأمون كثير من السراة الأغنياء من أهل الفضل والذوق وبذلوا جهوداً كبيرة في ترجمة الكتب العلمية ونقلها إلى العربية.

ص: 18

وكان من نتائج هذا الاهتمام والتشجيع أن ظهر عدد كبير من مهرة النقلة في ذلك العصر.

يذكر المؤرخون أن المأمون كان يعطي حنين بن اسحق العبادي ما يعادل وزن الكتب التي يقوم بنقلها إلى العربية ذهباً

وكان يشتغل في دار الترجمة التي كان يرأسها حنين أكثر من تسعين مترجماً ينقل الكتب، ومن مشاهيرهم ابن أخته حبيش الأعسم، وعيسى بن علي، وعلي بن يحيى، وأيوب الأبرش، وحجاج بن مطران.

وبفضل جهود هؤلاء وعلو هممهم وبصرف الأموال الكثيرة وتحري الدقة المتناهية نقلت إلى العربية كتب كثيرة نفيسة حقاً تجد في كثير من كتب التاريخ، ولاسيما في كتاب الفهرست لابن النديم، أسماءها وعناوينها بالتفصيل. غير أن كثيراً من هذه الكتب قد ضاع بسبب ما أصاب القسم الأكبر من البلاد الإسلامية في القرن السابع للهجرة من الخسائر نتيجة لحملة المغول عليها. وليس لدينا الآن من آلاف الكتب غير أسمائها؛ وربما كان هناك كتب كثيرة ضاعت وضاعت معها أسماؤها أيضاً

وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن شيوع عقيدة الأشاعرة الجامدة الشديدة التحفظ، وتغلبها على طريقة المعتزلة الحرة في البحث العلمي والديني، وعوامل كثيرة أخرى كانت قد أثرت في النهضة العلمية الإسلامية فحدَّت من تقدمها قبل حملة المغول، إلا أن هذه النهضة العلمية كانت لا تزال بعد على شيء من القوة، وكان مقام العلم والأدب لا يزال شامخاً إلى ان جاءت حملة المغول كالسيل الجارف فأصابتها بصدمة قوية فلم تقم لها بعد ذلك قائمة.

إلا أن حملة المغول هذه لم تصب العلوم الطبية بما أصابت به غيرها من العلوم من ضرر، لأن أفراد قبائل المغول على رغم بربريتها كانوا يهتمون بصحتهم وسلامة أبدانهم، لذلك فقد حفظوا كتب الطب من الإضمحلال والضَياع، كما أن حبهم الشديد للشهرة وخلود الذكر كان من الأسباب التي صانت كتب التاريخ من الضياع والفناء.

إن هذه العاطفة اعني حبهم للشهرة وخلود الذكر لم تصن كتب التاريخ من الضياع فحسب، بل كانت سبباً لتأليف كتب أخرى نفيسة في هذا الباب، مثل تاريخ جهانكشاي للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين بن فضل الله الحمداني، وتاريخ الوصاف لفضل الله الشيرازي، وتاريخ كزيده لحمد الله المستوفي القزويني، وهي كلها معتبرة من الآثار

ص: 19

والمؤلفات التاريخية الخالدة

والخلاصة أن أكثر المؤلفات التي نقلت في عهد المأمون إلى العربية كانت تراجم متقنة تدل على دقة المترجمين وحسن قريحتهم، وأن تبويب الكتب المترجمة إلى فصول ومقالات وأبواب مع ذكر المراجع والمصادر التي نقلت عنها التراجم تدل على ذوقهم السليم.

وبعد أن تعرف المسلمون عن طريق هذه التراجم على مصادر الطب الأصلية، وبعد أن عم البحث العلمي وأنشئت البيمارستانات والمعاهد العلمية وتكونت حلقات الدرس - ولهذا بحث مهم خاص ليس الآن محله - بدأ دور استقلال الأطباء المسلمين في بحثهم وتأليفهم. وفي هذا العهد الجديد شرع هؤلاء بتدوين ما فهموه من التراجم في مؤلفات خاصة حسب ذوقهم الخاص، وأضافوا إلى ذلك كله خلاصة مطالعاتهم وتجاربهم الشخصية فكان من نتاج ذلك كتب مستقلة في الطب للمؤلفين المسلمين.

وكان لمسلمي إيران خدمات مهمة في هذا الباب أيضاً لسابقتهم وماضيهم الطويل في الطب منذ عهد الساسانيين بفضل المدارس الطبية العظيمة التي كانت في إيران ومنها مدرسة جنديسابور. لذلك فإن كثيراً من الأطباء ذوي الرأي والنظر والأساتذة الكبار والمؤلفين المشهورين كانوا من الإيرانيين ولاسيما في القسم الشرقي من البلاد الإسلامية.

أم الطب في المغرب والأندلس، فإن له بحثاً خاصاً مستقلا؛ والكلام في أحوال فلاسفة تلك البلاد وأطبائها كابن رشد وابن زهر وخلف بن العباس الزهراوي الشهير بجراح العرب وابن جلجل وابن وافد واسحق بن عمران وأحمد بن الجزار القيرواني وأضرابهم، يحتاج لبحث طويل في عدة محاضرات، ولاسيما الكلام عن أثرهم في البلاد المجاورة لأسبانيا والطلبة الذين وفدوا إلى الأندلس من سائر بلاد اوروبا للدرس والتحصيل، والكتب العربية التي نقلوها إلى اللاتينية والعبرية وغيرهما - وهذه كلها أمور ذات شأن تقتضينا أن ندرسها دراسة عميقة، ونخصها بمحاضرة أخرى إن سمح الوقت بذلك.

كان أكبر هَمِّ معظم العرب في العصور الإسلامية الأولى هو درس اللغة العربية وعلوم القرآن والشريعة، ولم يكونوا ليهتموا كثيراً بسائر العلوم.

يقول جولد زيهير المستشرق المعروف وهو من أكبر المستشرقين تضلعاً في اللغة العربية، وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي - إن عدد علماء العرب حتى في علوم

ص: 20

القرأن والشريعة كالتفسير والحديث والفقه كان أقل من عدد العلماء من غير العرب في هذه العلوم أيضاً.

ومن الأمور التي استرعت نظر الأستاذ ادوارد براون فأشار إليها في مؤلفه (الطب الإسلامي) إن الأطباء العرب ولاسيما المسلمين منهم لم يكونوا محل ثقة العرب واعتمادهم في العلاج؛ وقلما كانوا يرجعون إليهم في ذلك. ويستشهد الأستاذ براون برواية ذكرها الجاحظ في كتاب البخلاء عن طبيب مسلم من العرب اسمه أسد بن جاني أكسد، فقال له قائل:(السنة وبئة والأمراض فاشية وأنت عالم ولك جد وخدمة، ولك بيان ومعرفة، فمن اين تأتي هذا الكساد؟ قال أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب، بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً ومرايل ويوحنا وبيرا (ويقصد الأسماء اليونانية أو السريانية أو الآرامية) وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى وأبو زكريا وأبو إبراهيم (أي كنى اليهود أو النصارى) وعلى رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود؛ ولفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جند يسابور (يقصد لسان أهل إيران). والخلاصة أن معظم الأطباء الكبار من المسلمين في عصر النهضة العلمية والاستقلال الفكري في الإسلام كانوا من الإيرانيين، وكان أطباء هذه الحقبة من أصحاب الرأي والنظر مما جازوا مرحلة التقليد والتسليم لآراء أسلافهم؛ فإنهم كانوا يبذلون غاية الجهد ويعملون رأيهم فيميزون بين الصحيح والسقيم من الآراء، ويضيفون إليها من عندهم الشيء الكثير؛ وخير مثال لهؤلاء محمد بن زكريا الرازي الذي جمع في مؤلفيه كتاب المنصوري وكتاب الحاوي كل المعارف الطبية التي كانت موجودة في زمنه من مؤلفات من سبقه من الأطباء من يونانية وغير يونانية، ونقدها نقداً علمياً يدل على علو كعبه وطول باعه وإحاطته التامة، وزاد عليها مشاهداته وتجاربه الشخصية، كما أنه ألف كتاباً في الحصبة والجدري، ولم يكن أحد من الأطباء الذين سبقوه، قد عرف أن هذين المرضين مرضان مستقلان. وله غير هذه الكتب رسائل خاصة عن تجاربه الشخصية ومطالعاته في البيمارستانات، وبجانب فراش المرضى، ورسائل أخرى في المبادئ الخلقية التي يجب على الطبيب مراعاتها والسير بموجبها بحكم الواجب، وفي هذه الرسائل أيضاً تتجلى اختباراته الشخصية

ص: 21

بوضوح تام.

ومن مؤلفات الرازي كتاب باسم شكوك الرازي على كلام جالينوس فاضل الأطباء في الكتب التي نسبت إليه؛ ولديَّ نسخة خطبة منه يقول في مقدمتها:

(إني لأعلم أن كثيراً من الناس يستجهلوني في تأليف هذا الكتاب، وكثيراً منهم يلوموني ويعنفوني على مناقضة رجل مثل جالينوس في جلاله ومعرفته وتقدمه في جميع أجزاء الفلسفة ومكانه منها، وأجد أنا لذلك مضضاً في نفسي، إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق على منة، وأكثرهم لي منفعة؛ به أهديت، وإثره اقتفيت، ومن بحره استقيت، مما لا ينبغي أن يقابل به العبد سيده، والتلميذ أستاذه، والمنعم عليه ولي نعمته، وبودي يشهد الله أن هذه الشكوك التي أنا ذاكرها في هذا الكتاب، لم تكن في كتب هذا الرجل الخير الفاضل العظيم قدره، الجليل خطره، والعام نفعه، الباقي في الخير ذكره، لكن صناعة الفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم ولا مساهلتهم، وترك الاستقصاء عليهم، ولا الفيلسوف يحب ذلك من تلاميذه والمتعلمين منه كما قد ذكر ذلك أيضاً جالينوس في كتابه في منافع الأعضاء حيث وَّبخ الذين يكلفون أتباعهم وأشباعهم القبول منهم بلا برهان. وكان أكثر ما عزاني وسهل على أن هذا الرجل الجليل لو كان حياً حاضراً لم يلمني على تأليف هذا الكتاب، ولم يثقل ذلك عليه إيثاراً منه للحق وحباً لتقصي المباحث. إلى أن يقول: (وأما من لا منى وجهلني في استخراج هذه الشكوك والكلام فيها فإني لا أرتفع به ولا أعده فيلسوفاً إذ كان قد نبذ سنة الفلاسفة وراء ظهره، وتمسك بسنة الرعاع من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم.

هذا أرسطاطاليس يقول - اختلف الحق وفلاطن وكلاهما صديقان لنا، إلا أن الحق أصدق لنا من فلاطن. وهو يقاومه ويناقضه من أجل آرائه، فقد ناقض أرسطاطاليس في أوضح أجزاء الفلسفة بعد الهندسة الذي هو المنطق يبين غلطه في كثير من المواضع، حتى أنه يتعجب ويقول: لست أدري كيف ذهب على الحكيم هذا المعنى وهو في غاية الوضوح!

وتذكرنا هذه المقدمة بمقدمة أخرى للشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه حكمة المشرقيين وفيها ينتقد فلسفة المشائين.

والذين يتبين من مطالعة هذه المقدمة أن تحولا فكرياً عظيما كان قد طرأ على ابن سينا في

ص: 22

أخريات أيام حياته نتيجة المطالعة والدرس، إذ نراه يبدي آراءه دون أن يتقيد بفلسفة المشائين، وبينهما حسب فلسفة اليونان ولو خالفت فلسفة المشائين، أو باينت آراءه التي كان قد أبداها الشيخ نفسه حتى ذلك التاريخ.

وبما أن النمو العقلي والفكري عند الحكماء والفلاسفة وتقدمهم في هذا الباب يشبهان إلى حد كبير تقدم الأطباء المسلمين في العلوم الطبية، أعني أن النسبة بين أطباء عصور النهضة وعهد ظهور التأليف المستقلة، وبين مترجمي الكتب الطبية في العصور الأولى من الإسلام هي نفس النسبة بين مترجمي المؤلفات الفلسفية في العصور الأولى ومترجمي كتب الفلسفة في العصور المتأخرة، أرى أن أذكر لحضاراتكم هنا هذه المقدمة القيمة.

(يتبع)

ص: 23

‌من مغموري العلماء

للأستاذ محمد كرد علي بك

ابن حيان - (بقية ما نشر في العدد 777)

من الحكايات التي ساقها ابن حيان قوله: سمعت إسحق بن أحمد القطان البغدادي بتستر يقول: كان لنا جار ببغداد كنا نسميه طبيب القراء، كان يتفقد الصالحين ويتعاهدهم. فقال لي دخلت يوماً على أحمد بن حنبل؛ فإذا هو مغموم مكروب. فقلت. مالك يا أبا عبد الله؟ قال: خير. قلت: ومع الخير؟ قال: امتحنت بتلك المحنة (القول بخلق القرآن) حتى ضُربتُ ثم عالجوني وبرأت، إلا أنه بقى في صلبي موضع يوجعني هو أشد عليَّ من ذلك الضرب. قال: قلت اكشف لي عن صلبك، قال: فكشف لي فلم أر فيه إلا أثر الضرب فقط؛ فقلت: ليس لي به معرفة، ولكن سأستخبر عن هذا. قال: فخرجت من عنده حتى أتيت صاحب الحبس، وكان بيني وبينه فضل معرفة. فقلت له: أدخل الحبس في حاجة؟ قال: ادخل. فدخلت وجمعت فتيانهم، وكان معي دريهمات فرقتها عليهم، وجعلت أحدثهم حتى أنسو بي؛ ثم قلت: من منكم ضُرب أكثر؟ قال: فأخذوا يتفاخرون حتى اتفقوا على واحد منهم أنه أكثرهم ضرباً، وأشدهم صبراً. قال: فقلت له أسألك عن شيء؟ قال: هات. فقلت: شيخ ضعيف ليس صناعته كصناعتكم، ضرب على الجوع للقتل سياطاً يسيرة؛ إلا انه لم يمت وعالجوه وبرأ؛ إلا أن موضعاً في صلبه يوجعه وجعاً ليس له عليه صبر. قال: فضحك. فقلت: مالك؟ قال: الذي عالجه كان حائكا. قلت: فما الحيلة؟ قال: يُبطُّ صلبه، وتؤخذ تلك القطعة ويرمى بها، وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته. قال: فخرجت من الحبس؛ فدخلت على أحمد ابن حنبل، فوجدته على حالته؛ فقصصت عليه القصة. قال: ومن يبطه؟ قلت: أنا. قال: أوَ نفعل؟ قلت: نعم. قال: فقام فدخل ثم خرج وبيده مخدتان، وعلى كتفه فوطة؛ فوضع إحداهما لي والأخرى له؛ ثم قعد عليها، وقال: استخر الله. فكشفت عن صلبه وقلت: أرني موضع الوجع. قال: ضع إصبعك عليه؛ فإني أخبرك به. فوضعت إصبعي وقلت: هاهنا موضع الوجع قال: ههنا أحمد الله على العافيه. فقلت: ههنا؟ قال: هاهنا أحمد الله على العافية. فقلت: هاهنا؟ قال: هاهنا أسأل الله العافية. قال: فعلمت أنه موضع الوجع. قال: فوضعت المبضع عليه فلما أحس بحرارة المبضع وضع يده على

ص: 24

رأسه وجعل يقول: اللهم اغفر للمعتصم حتى بططته. فأخذت القطعة الميتة ورميت بها، وشددت العصابة عليه، وهو لا يزيد على قوله: اللهم اغفر للمعتصم. قال: ثم هدأ وسكن؛ ثم قال: كأني كنت معلقاً فأحدرت. قلت: يا أبا عبد الله إن الناس إذا امتحنوا محنة دعوا على من ظلمهم، ورأيتك تدعو للمعتصم. قال: إني فكرت فيما تقول، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة. هو مني في حلّ.

ومن حكاياته أيضاً: أنبأنا محمد بن صالح الطبري بالصيمرة، حدثنا محمد بن عثمان العجلي قال: لما حدث شريك بحديث الأعمش عن سالم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا خالفوكم فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم؛ فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء. فسعى به إلى المهدي فبعث إلى شريك فأتاه فقال: حدثت بها؟ قال: نعم. قال: عمن رويتها؟ قلت: عن الأعمش. قال: وبلى عليه! لو عرفت مكان قبره لأخرجته فأحرقته بالنار. قلت: إن كان لمأموناً على ما روى. قال: يا زنديق لأقتلنك. قلت: الزنديق من يشرب الخمر ويسفك الدم قال: والله لأقتلنك. قلت: والله لأقتلنك. قلت: أو يكفي الله. قال: فخرجنا من عند فاستقبلني الفضل بن الربيع فقال: ليس لك موضع تهرب إليه. قلت: بلى. قال: فانه أمر بقتلك. قال: فخرجت إلى جبل، فخرجت يوماً أتجسس الخبر فأقبل ملاح من بغداد، فاستقبله ملاح آخر من البصرة؛ فسأله: ما الخبر؟ قال: مات أمير المؤمنين. قلت يا ملاح قرب فقرب.

الماوردي سنة 450

إمام في الفقه والأصول والتفسير، بصير بالعربية، كاتب من الطراز الاول؛ نشأ في البصرة، وتولى القضاء في بلدان كثيرة، وكان شافعي المذهب، وقيل إن فيه عبقة من الاعتزال. صنف كتباً لم ينشر بالطبع منها غير (الأحكام السلطانية) و (أدب الدنيا والدين) و (أعلام النبوة) و (قانون الوزارة)، ومن كتبه الضائعة (الحاوي) في الفقه، قيل لم يصنف مثله. وله تفسير القرآن الكريم، والنكت والعيون، والإقناع في المذهب، وغير ذلك، وعمَّر ستاً وثمانين سنة وسكن بغداد بأخرة.

هذا موجز ما ترجم له المترجمون، وما أثر من كتبه غاية الإبداع في تصنيفه، تظهر فيها

ص: 25

شخصيته، وتتجلى تجاربه ومعرفته بأمور الدول، وتاريخ الحركات الفكرية والسياسية في الإسلام. تتمثل الماوردي وأنت تقرأ الأحكام السلطانية عالماً عصرياً قتل الحياة تجربة، وما دَوَّن للناس إلا ما ينفعهم بإيجاز لا خلل فيه، وهو من الكتب التي إذا قرأتها مرة ساقتك بدون نقصد منك إلى معاودة قراءتها؛ بل لو قرأتها مرات شاقتك فتتصفحها مرة ومرة. وحقاً إن هذا السفر الممتع هو مرجع فريد في فنه: كتاب في جرم صغير ونفع غزير. ولو لم يكن غيره من المصنفات لكفي أن يعدّ صاحبه من أعظم المؤلفين المجودين وأنت إذا حدقت النظر في هذا الإبداع تراءى لك أن الماوردي لم يتقن من فنون العلم غير هذا العلم، وإنه شغل بوضعه زمناً طويلاً في حياته، فقد جمع هذا العظيم إلى معرفته الكاملة بشرع الإسلام معرفة توازيها في سياسة الناس، وحسن القضاء بينهم، وقيام الدول ونُظمها. ولقد أفاض في الأحكام السلطانية في الخلافة، وتقليدها، والوزارات وأنواعها، والإمارات والولايات، والقضاء وضروبه، والمظالم والنقابات والجبايات من خراج وجزية وصدقات وحمى وأرفاق وإقطاعات، وكلام على أنواع الدواوين، وأحكام الجرائم والحسبة والمنكرات والمعروفات، وغير ذلك مما له مساس بأحوال المجتمع، وفيه مقنع لمن ادعوا أن المسلمين أيام عزهم كانوا يسيرون على غير قوانين مدونة. وما أشبه كتاب الأحكام السلطانية بالشريعة الإسلامية يصلح لكل جيل وكل قرن، لا يعروه عتق ولا وهن. وأنت كلما أمعنت النظر في صفحاته زدت حرمة لصاحبه، وإعجاباً بما خطته أنامله على القرطاس، ولا نعدو الحق إذا قررنا أن كتاب (أدب الدنيا والدين) هو أيضاً من أمتع ما كتب علماء الأخلاق والتربية، مصادره الكتاب الكريم، والسنة الصحيحة، وأقوال الحكماء والبلغاء، وفيه طائفة من الشعر البديع والنثر المنسجم؛ لو درسه الطالب أجزأه عن المطولات، وكان له مادة يستشهد بها مدى حياته.

وبعد فان الماوردي لا يعدُّ من المكثرين جداً من التأليف، ولكنه يحشر في المجودين جداً فيه؛ فهو نابغة عصره في تطبيق مفاصل الشريعة، واستبطان أسرارها، أتى بجديد ما كان يعرفه الناس، ولا اهتدت إليه القرائح قبله، وأخذ من القديم كل ما ينفع ويرفع، وكان له من توليه القضاء درس حال البيئات الكثيرة ومن طول عمره معوان على تفهم ما قرأ وثقف ودرّس، وتمثل ما روى وروى. وبتفرغ قلبه من هموم الحياة فرغ وقته لنشر أنوار علمه؛

ص: 26

فأخذ بمجامع القلوب في حياته ومماته، وكان اعتداله وإخلاصه ما كف الألسن عنه حياً، وخالف عرف أبناء جيله في مسائل اجتهد فيها فتحملوه وما تبرموا به، واكتفى من دنياه بما أعطته فكان خير معلم ومرشد.

ولقد روى في أدب الدنيا والدين شيئاً دل على بعد غوره وفرط دهائه قال: وربما صنع ذا السفاهة من طلب العلم أن يصور في نفسه حرفة اهله وتضايق الأمور مع الاشتغال به حتى يسمهم بالأدباء، ويتوسمهم بالحرمان؛ فإن رأى متحلياً بالعلم هرب منه، كأنه لم ير عالماً مقبلاً وجاهلاً مدبراً. ولقد رأيت من هذه الطبقة جماعة ذوي منازل وأصول، كنت أخفي عنهم ما يصحبني من محبرة وكتاب لئلا أكون عندهم مستثقلا وإن كان البعد عنهم مؤنساً ومصلحاً، والقرب منهم موحشاً مفسداً

وهاك مثالاً واحداً من إخلاصه في قضائه وتحريه للحق: أما أمر الخليفة أن يزداد في ألقاب جلال الدولة ابن بويه لقب (ملك الملوك) لم يُفتِ مع من أفتى بجواز ذلك؛ مع أنه كان من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عنه. فطلبه جلال الدولة، فمضى إليه، على وجل شديد؛ فلما دخل قال له: أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين؛ فزاد بذلك محلك عندي.

وقال عن نفسه في كتاب أدب الدنيا والدين: ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعا بعلمه؛ حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منهن جواباً، فأطرقت مفكراً، وبحالي وحالهما معتبراً؛ فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب. . . أنت زعيم هذه الجماعة؛ فقلت: لا. فقالا: واهاً لك، وانصرفا ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي؛ فسألاه فأجابهما مسرعاً بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين لعلمه. فبقيت مرتبكا، وبحالتهما وحالي معتبراً؛ وإني لعلي ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي. فكان ذلك زاجر نصيحة ونذير عظة تذلل بها قياد النفس، وانخفض لها جناح العبج؛ توفيقاً منحته ورشداً أوتيته. وحق عليّ من ترك العجب بما يحسن أن يدع التكلف لما لا يحسن، فقد نهى الناس عنهما

ص: 27

واستعاذوا بالله منهما.

محمد كرد علي

ص: 28

‌نهاية شاعر

للأستاذ علي العماري

كانت ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة في السنة الثالثة والعشرين بعد الهجرة ليلة فاصلة بين عهدين من عهود الإسلام: عهد الأمن والسلامة والهدوء، وعهد الغدر والعدوان والفتنة؛ فقد تنفس صبحها عن حادث جليل، وجناية مروعة اهتزت لها أركان الدولة العربية، وأحدثت في الإسلام الحدث، وأي نازلة أروع من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟!

في هذه الليلة ولد لرجل من رجالات قريش طفل أسماه (عمر) وكناه (أبا الخطاب) ذاك أمير العدل والحزم والحكمة، وهذا أمير اللهو والغزل والشعر، لذلك كأن أهل التوقي إذا تذاكروا - فيما بعد - شئون هذه الليلة جرت على ألسنتهم هذه الكلمة (أي حق رفع، وأي باطل وضع)

نشأ (أبو الخطاب) كما ينشأ لذاته من فتيان قريش المترفين يسحب ذيول الصبا، ويجري ملء عنانه في مراتع الهوى والجمال. غنى واسع، وجاه عريض، وعز باذخ، وقد أعانه على ذلك وسامة تحب، وظرف يعشق، ولسان ساحر، وقلب شاعر، وإنما تركه سراة قريش، وأغضى عنه شيوخها، يمتع في مجالي شبابه، ويفتن في ذكر فنونه وفتونه، ويتبع فتياتها، ويشبب بهن (رعاية لأسرته، وفخراً بشاعريته، وترقباً لتوبته)

وربما كانوا يرجعون أن يرفع في الشعر قدرهم، ويعلي فيه سناهم، ولقد نالوا من ذلك ما أرادوا، فإن العرب كانت تقر لقريش بالفضل في كل شيء إلا الشعر، حتى نبغ ابن أبي ربيعة فأقرت لها بالشعر أيضاً.

وكأنما أغرته كل هذه الأسباب مجتمعة، فاندفع لا يلوي على شيء، وسدر في غوايته لا يبالي أحداً، وكان عبثه لا يكاد يتعدى النساء، فهو يواعدهن ويتحدث إليهن ويخدعهن، ثم يودع ذلك كله في شعر قصصي رقيق، وأسلوب لين عذب (وإن له لموقعاً في القلوب، ومدخلا لطيفاً، لو كان شعر يسحر لكان هو). (فلشعر ابن أبي ربيعة لوطة بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، وما عصى الله بشعر قط اكثر مما عصى بشعر ابن أبي ربيعة). وقد جمح به الصبا والغزل، فاتخذ أيام الحج مواسم لصبواته، ومشاعر البيت الحرام مرابع

ص: 29

لهواه:

ليت ذا الدهر كان حتما علينا

كل يومين حجة واعتمارا

وهكذا كان ينظر هو وأترابه لأيام الحج:

تلبث حولا كاملا كله

لا نلتقي إلا على منهج

في الحج إن حجت وماذا مني

وأهله إن هي لم تحجج

ما منىً وما أهله إن لم يلق صاحبته؟

ولم أر كالتجمير منظر ناظر

ولا كليالي الحج أفلتن ذاهوى

وكم مالئ عينيه من شيء غيره

إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى

نعم كان شعره السحر، يستميل به القلوب، ويستنزل به المتأبى، ويتأنس الشارد، وينزل الأعصم من فنده، وكأنما انفجر له - وحده - ينبوع الشعر الغزِل، فورد منه المنهل الصافي النمير. وليس هناك شك في أن سؤوات الناس، بل وعامتهم أحسوا بالشر يتمثل في شعره، ورأوا رءوس الشياطين تطل من قوافيه، فخافوا على فتياتهم أن يتصباهن هذا العبث، ومنعوا أن تدخل دفاتره البيوت، أو يسمر به مع ربات الخدور، وقالوا:(ما دخل على العواتق في خدورهن شيء أضر عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة). وقال هشام بن عروة: (لا ترووا فتياتكم شعر عمر لا يتورطن في الزنا تورطاً).

غير أن هذا الشاعر يتنصل من كل ما ينسبه إلى نفسه، ويزعم أنه يقول وقلبه مطمئن بالإيمان، ويذيع في الناس.

إني امرؤ مولع الحسن أتبعه

لا خطر لي منه إلا لذة النظر

وما نلت منها محرماً غير أننا

كلانا من الثوب المورد لابس

نجيين نقضي اللهو في غير مأتم

وإن رغمت مِ الكاشحين المعاطس

ويساير بعض فتيان قريش، وقد تقدمت به السن فيقول له: يا ابن أخي قد سمعتني أقول في شعري: قلت لها وقالت لي، وكل مملوك لي حر إن كنت كشفت عن فرج حرام قط، فيقول الفتى: قمت وأنا متشكك في يمينه فسألت عن رقيقه فقيل لي: أما في الحوك فله سبعون سوى غيرهم.

ويمرض فيجزع أخوه الحارث جزعاً شديداً، فيقول له عمر: أحسبك إنما تجزع لما تظنه

ص: 30

بي، والله ما أعلم أني ركبت فاحشة قط

وهكذا يحاول أن يدفع عن نفسه ما وقر في أذهان الناس مما أخذوه من شعره، فيصدقه قوم، ويؤكدون عفته وطهارته، فيذكر بعض الرواة أن عمر عاش ثمانين سنة فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة. ويروي صاحب الأغاني عن الزبير بن بكار قال:(لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفاً، يصف ويقف، ويحوم ولا يرد). ويكذبه آخرون، ويجابهونه بهذا التكذيب، ويعتمدون فيما يعتمدون على اعترافه على نفسه في بعض الأحايين، وتشك طائفة ثالثة في مبلغ قوله من الصدق حتى معاصروه أنفسهم لا يطمئنون إِلى شيء من هذا.

ولاشك أنه بذلت محاولات كثيرة لرده عن غوايته، وصرفه عن حياة اللهو والعبث. ويبدو أن شيئاً منها لم يفلح، وأن الأمر كان كما يقول عبد الملك بن مروان:(أما أن قريشاً تعلم أنك أطولها صبوة، وإبطاؤها توبة).

وفي بعض الروايات أنه تاب على حدود الأربعين، ونذر لئن قال بيتاً ليعتقن به رقبة، ثم انصرف إلى بيته مهموماً مكتئباً، وربما مكث على هذه التوبة أياماً، لكن الحنين عاوده، والشوق إلى الشعر استبد به، فأطرق وفكر، فأدركت جارية ما بنفسه من أسف على توبته فقالت له إن لك لأمراً، فاندفع يقول شعراً، فكان تسعة أبيات، فأعتق تسعة من عبيده، وفي هذا الشعر يقول:

تقول وليدتي لما رأتني

طربت وكنت قد أقصرت حينا

أراك اليوم قد أحدثت شوقاً

وهاج لك الهوى داء دفينا

وكنت زعمت أنك ذو عزاء

إذا ما شئت فارقت القرينا

فقلت شكا إلى أخ محب

كبعض زماننا إذ تعلمينا

وذو القلب المصاب وإن تعزى

مشوق حين يلقي العاشقينا

ولعل أخاه الحارث - وكان ديناً عفيفاً لم تلد أمة خيراً منه كما يقول عبد الملك - كان أكثر الناس وعظاً له، وربما حاول غير مرة أن يكبح جماحة، ويصرفه عن صويحباته، وربما بذل في ذلك غاية وسعه، وأفرغ له كل جهده، ولكنه لم يفلح أيضاً؛ وعاد يقول:(ما أرى عمر ينتفع بوعظنا) أغراه بالمال، وبعث به إلى اليمن حيث أخواله، رجاه أن يثوب إلى

ص: 31

رشده، ويقلع عن أباطيله إذا فارق هذه البسمات الوضاء، وترك تلك الوجوه الصِّباح التي ألفها وألفته، ولكن الحنين يراجعه، والشوق يعاوده، إلى صاحبته الثريا فيقول:

هيهات من أمة الوهاب منزلنا=إذا حللنا بسِيف البحر من عدن

لا داركم دارنا يا وهب أن نزحت

نواك عنا ولا أوطانكم وطني

فلست أملك إلا أن أقول إذا

ذكرت لا يبعدنْكِ الله يا سكني

بل ما نسيت ببطن الخيف موقفها

وموقفي وكلان ثم ذو شحن

وقولها للثريا يوم ذي خشب

والدمع منها على الخدين ذو سنن

بالله قولي له في غير معتبة

ماذا أردت بطول المكث في يمن

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها

فما أخذت بترك الحج من ثمن

وهكذا يعتذر بغير العذر، ويتكئ على غير عصاه، وإلا فما لهذا الفاتك والحج يتعلل به، ويتباكى على فوته؟!!

ومهما يكن من أمره فإن طول نظري قيما أحاط بأخريات حياته يقضي على أنه نسك، ولكنه لم ينسك استجابة لوعظ واعظ، ولا خضوعاً لإرادة مريد، وإنما رأى الستين نقلت على كاهله، والسن تخونته، وغزلان الحجاز تنفر منه، بعد أن انطفأت جمرة شبابه، وخمد مشبوب عاطفته، فماذا يصنع؟ هربت منه اللذات، وتنكرت له الصبابات، فليمل إلى جنب الله، وليستجب لداعي التوبة، وهو يرى الموت على حبل ذراعه، وينظر قبره قد حفر، وإنها لفرصة قد انتهزها، لما تولى عمر ابن عبد العزيز الخلافة بعث إليه فلما جاءه قال له: هيه:

(فلم أر كالتجمير منظر ناظر) وذكر له البيتين اللذين ذكرناهما آنفاً، ثم قال: فإذا لم يفت الناس منك في هذه الأيام، فمتى يفتلون؟ أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك؛ ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هو الله ألا أعود إلى مثل هذا الشعر، وأجدد توبة على يديك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم. فعاهد الله على التوبة

والذين يؤكدون أن عمر تاب رهبة من خليفة المسلمين يجهلون كل الجهل طبائع النفوس إذا عمرت، فإن الرجل مهما أسرف على نفسه، فسيجد من تقدم سنه ما يوحي إليه بالإنانة

ص: 32

إلى الله، ولاسيما إذا كان ما تصبو إليه نفسه غير ممكن، ويجهلون كذلك مكانة ابن أبي ربيعة في قريش، وأنه أرفع - لو أراد - من أن يخضع لتهديد خليفة. وكيف هو الذي شبب ببنات الخلفاء وأخواتهم؟

ورواية أخرى تحدثنا أنه مد خطوه إلى أبعد من ذلك، فإنه عرض على الخليفة يغزو في البحر، وكأن الله أراد به الخير، فمات شهيدا. قال عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:(فاز ابن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة؛ غزا في البحر فأحرقوا سفينته فاحترق)

علي العماري

مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان

ص: 33

‌اللقيطة

للأستاذ حسني كنعان

إن هذه الوليدة التي أولدها (ترومان) بالأمس معترفاً بصراحة نسبها، وسماها أهلوها (دولة إسرائيل) ما كادت تتلقفها أيدي القابلات الآسيات حتى تلففتها يد عزرائيل وخنقت في مهدها قبل أن تهبط الأرض وتتفتح عيناها للنور وتستنشق النسيم، حتى أن بعض أعضاء مجلس الأمن من المحبذين لها اضطروا إلى استبدال هذا الإسم تحت تأثير ممثل سورية العلامة الداهية الأستاذ فارس بك الخوري، فأطلقوا عليها (السلطات اليهودية)، وبهذا التأثير وهذه الحملة الصادقة قضى على أحلام اليهود ودفنت آمالهم، وبات من المحقق أن يبحث لها مولدوها عن قبر بدلا من هذا المهد الذهبي الذي كان ينتظرها طوال هذه السنين تمخضت بها. وهكذا شأن كل وليدة لقيطة غير صريحة النسب، فاعتراف بعض الدول الموالية لأهلها بها لم يفت في سواعد العرب المناضلين المكافحين عن عروبة الديار التي يراد إقامة المهد فيها، ولم يفل من عزائمهم ومضائهم. إن الأمة العربية جمعاء من أقصى حدود النيل إلى تهامة فنجد فاليمن فإلى الغوطتين وشواطئ فينيقية فإلى مياه الرافدين والأردن كلها هبت هبة رجل واحد وبقلب واحد شاهرة الحسام في وجه هذه اللقيطة الباغية، وفي وجه كل من لف لفها أو والاها أو قال بقولها، ولن تتراجع عن تصميمها ما لم يكتب لها النصر - بإذن الله - أو الموت والإبادة - لاسمح الله ولاقدر -!

وليست الأمة العربية وحدها هي التي ستكون حائلا دون تحوي وتقوي هذه اللقيطة الأفعى، بله جميع الأمم الشرقية التي تتاخم حدود أراضيها للبحر الأبيض المتوسط، ستكون عوناً للعرب على خنق اللقيطة وعدم السماح لها بالظهور والبقاء. وستقف بجانبها دول أوربية لها ضمائر تساند العرب في حقهم. وسوف لا تتكرر مأساة التصويت على التقسيم مرة ثانية، لأن الدول بدأت تتراءى لها مناورات البيت الأبيض والكرملين، وبدأت تنظر إلى القضية الفلسطينية العادلة بغير النظرة التي كانت تنظرها يوم عرضت على التقسيم والتصويت. .

حتى أن الشعب الأمريكي جله إن لم نقل كله ناقم على سياسة حكومته لتحيزها لجانب دون آخر لأن الأوربيين والأمريكيين وإن كانوا لا يمتون إلى العرب بصلة أو نسب، فإن

ص: 34

بعضهم (عندهم ضمائر). . . ودليلي على ذلك حادثة المستر كارلتون عميد الكلية الأمريكية في الشهباء وقنصل أمريكا الفخري، والحديث الذي دار بينه وبين المحافظ الأستاذ عادل العظمة الذي جاء فيه أن اعتراف المستر ترومان بالدولة اليهودية (التي ولدت ميتة) لا يعبر عن وجهة نظر الشعب الأمريكي، وهو يعبر عن رأيه بمفرده. . . وإن جميع الأمريكيين يعرفون مكر اليهود وخداعهم ومقدرتهم على اشتراء الضمائر والأصوات والتلاعب بالعواطف ببذل الأموال وبذل أشياء أخر.

ثم قال العميد: (إن الأغلبية في الشعب الأمريكي تشجب عمل ترومان وتمقته، وسيظهر أثر ذلك في الانتخابات الآتية، حيث ينتظر أن يسقط فيها هذا الصهيوني الأول سقوطاً مربعاً ما بعده من سقوط. . .)

فرد عليه المحافظ شاكراً له هذه العواطف الفياضة نحو العرب وقضيتهم العادلة. وقال فيما قاله: يحق للسوريين أن يدهشوا كل الدهشة لموقف الشعب الأمريكي النبيل الذي لم تمت فيه الضمائر ولم تبلغ منه الغايات، فالسوريون قاطبة يقدرون مزايا الإخلاص والحرية والعدالة في الشعب الأمريكي الذي لهم بينه جاليات ومؤسسات، وما من أحد ينكر فضل الدنيا الجديدة على المدنية والحضارة. ولأمر ما صوت السوريون للأمريكيين مفضلهم على جميع أمم أوربا يوم عرض عليهم الانتداب عام 1920، عندما أبصروا أن لابد من انتداب دولة ما من الدول الحليفة عليهم)

وكان لكلمة عطوفة المحافظ التأثير الحسن لدى العميد الأمريكي، ذهب بعدها شاكراً، مودعاً بمثل ما استقبل، وهذا دليل قاطع على نقرة الشعوب الحرة من سياسة حكوماتها، ومقت الصهيونية المتجنية الآثمة العاتية.

فالأمة العربية بأسرها لا يرتضى واحد من رجالاتها المسئولين ان يمثل الدور الذي مثله من قبله أبو عبد الله الصغير فيستحق لعنة الأحفاد كما استحقها ذلك الخليفة (الضعيف الإرادة).

وإنما يريد كل واحد منهم أن يمثل ذلك الدور الذي مثله المعتصم العباسي، فيلبي نداء الفتاة العربية السبية في فلسطين، كما لباها ذلك الخليفة بعمورية.

وبهذا يصبح كل عربي في نفسه معتصما، فلا يتخلف أحد عن إجابة النداء والواجب. إن

ص: 35

في تقديم الدم كما فعل طلاب المدارس العليا بدمشق، وذلك بتقديم دمائهم لجرحى المجاهدين، وهي أقصى ما يملكونه، أو في المال أو في التضحية بكل ما يمتلكون

إن هذه الجيوش العتيدة الزاحفة إلى ساحات الجهاد في الأراضي المقدسة، أولى القبلتين، لتطهيرها من أرجاسها وأنجاسها تخوض اليوم هناك مع شذاذ الآفاق معركة الموت أو الحياة، وهي لن تتراجع عن تصميمها - كما جاء سابقاً - ما لم يكتب لها الظفر بدفن اللقيطة وأهلها. . . وما غلب قوم عن قلة إن كانوا متساندين متعاضدين، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء من عباده، وهو جدير بمنحه للمؤمنين. . .

وإن مصر وهي المتبنية لهذه الحركة التحريرية نظراً لنمو نواة الجامعة العربية في واديها وعلى ضفاف نيلها السعيد، لن يعجزها المال والرجال، وتكتل الشعوب العربية في ظليل راياتها لمتابعة هذه الحركة حتى النصر النهائي، فإما رايات خفاقة إلى الأبد، وإما ميتة شريفة - لا قدر الله - وحياة خالدة عامرة بالجهاد والمفاخر. . .

وليست هذه هي المأثرة الأولى التي حفزت هذا القطر الشقيق إلى تبني قضايا العرب، وهو مأثرة من مآثر لا تزال مائلة للعيان في الزحف المصري لإقامة الدولة العربية الكبرى في ظل ساكن الجنان جد الأسرة العلوية محمد علي باشا وولده إبراهيم. . .

(دمشق)

حسني كنعان

ص: 36

‌في أخريات الشباب

للأستاذ حسين الظريفي

أصبحت لا غضا ولا ذاويا

أحيي شباباً لم يعد ذاهيا

مالت إلى المغرب شمس له

كان الضحى أمس بها ضاحيا

لقد مضى عهد الصبا وانقضى

مقتضيا أوطاره قاضيا

إذا تذكرت احايينه

كنت به القصة والراويا

يا حُسن أيام بصدر الصبا

لم يبق منها الدهر لي باقيا

كانت بها لي ميعة من صبا

أسحب من أذيالها الضافيا

تغفل عيني عين دهري إذا

ما رحت فيها لاعباً لاهيا

لا أحسب الشمس سوى غادة

تستأسر الحاضر والباديا

دانية منا على نأيها

يا رُب ناء لم يكن نائيا

إذا أطلت من عل لم تدع

شيئاً على وجه الثرى خافيا

كانت ترى مني أخا غفلة

عما جرى أو لم يزل جاريا

طفلا ترى في جنبات الحمى

لم يرى أهلوه له ثانيا

وطالما كانت على دجلة

تبصر مني كاتبا ما حيا

ألبس من أنوارها حلة

لا تعدم العاطل والحاليا

وقد أظل الصبح مستدفئاً

من شدة البرد بها شاتيا

ولا تغيب الشمس حتى أرى

عنها بديلا ولها قافيا

وربما مر سحاب بها

فاتخذت منه لها واقيا

تبدو نجوم الليل من بعدها

مبدية ما لم يكن باديا

أطمع أن تطرح في راحتي

ولو بذلت الثمن الغاليا

وما لعينيَّ هلال بدا

إلا وأعجبت به رائيا

أحسبه من فضة زورقا

من الحبيبين جرى خاليا

والبدر يهدي الليل من نوره

ما لم يعد ليلا به داجيا

لم ألفه للشمس إلا أخا

كان وما زال لها تاليا

ص: 37

وكلما مر نسيم الصبا

مر بجنبي رائقا صافيا

ولم يزل دهري بي ماضيا

لا تعبا يوما ولا وانيا

حتى انجلى شرخ شبابي به

مستهديا مهتديا هاديا

يبسط من راح الهوى راحة

ولم يكن من راحة صاحيا

إذا دعته للعلى دعوة

أدرك فيها المثل العاليا

شرخ شباب ما تذكرته

إلا وقد عدت له ثانيا

يحضرني معتملا آملا

ورائحاً في يومه غاديا

صاحبت مذ صاحبته مهجة

تفتح الحب بها ناميا

ثم استوى فيها على سوقه

ثم تبدى زاهراً ذاهيا

ثم انثنى يعطي الجنى عن غنى

يشبع من كان به طاويا

غذيت آدابي بأثماره

وما يزال الطاعم الكاسيا

سقيا لشرخ من شباب مضى

ما كنت في يوم له ساليا

أصبح أبياتاً يغني بها

فتطرب السامع والشاديا

حليت ديواني بها قائلا

لولا حلاها لم يكن حاليا

لم تبقى عندي من شبابي سوى

بقية لست لها باقيا

ولست بالجاهل ما في غد

ولو على الناس بدا خافيا

كأنني بالشيب في لمتي

أوقد ناراً وانتضي ماضيا

لا يترك الدهر له صاحبا

حتى يرى شيخاً به فانيا

ذان الجديدان يجدان بي

ولا يجددان لي باليا

فلا أطاش الله لي رمية

كنت عليهما بها راميا

حسين الظريفي

ص: 38

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

عاصفة بولندية حول (بانت سعاد):

لأول مرة تقع في يدي - من بريد الرسالة - (النشرة الإخبارية)

للمفوضية البولونية بالقاهرة، وثبتت عيني بها على موضوع أخذ نحو

صفحتين منها، جعل عنوانه (خطاب مفتوح إلى الدوائر العلمية: كعب

بن زهير بين وارسو والقاهرة - قصة مخطوط عربي قديم)

وتتلخص القصة كما رونها النشرة في ان مستشرقين يملكان نسختين خطيتين لقصيدة (بانت سعاد) لكعب بن زهير، وهذان المستشرقان هما البروفسور كوفالسكي البولندي، والدكتور فيشر الألماني؛ أما فيشر فقد أهدى نسخته إلى دار الكتب المصرية، وأما كوفالسكس فهو يعمل منذ ثلاثين عاماً في تصحيح المخطوط وإعداده للنشر، وأبلغ المستشرقين بشروعه في العمل (كما أعلن احتفاظه بحق الأسبقية في هذا العمل) ولما شرع في طبع الكتاب جاءت الحرب فتوقف نشر الكتاب وما كادت تنتهي حتى استألف عمله، وأتم طبع الكتاب. وفي يناير سنة 1948 بلغ كوفالسكي أن دار الكتب المصرية في سبيل إعداد المخطوط الذي لديها للنشر معتمدة في ذلك على ما تركه لها فيشر، فأرسل إليها كتاباً (يعرب فيه عن رأيه في أن قيام دار الكتب بإعداد مخطوط انتهى طبعه بالفعل، مضيعة للوقت وإسراف في الجهد والمال، وأن من المصلحة العلمية توحيد الجهود والاقتصار على ما أتمه بالفعل) ولما لم يتلق رداً على هذا الكتاب أرسل إلى المفوضوية البولندية بالقاهرة لتتصل بدار الكتب في هذا الشأن، فكتبت المفوضية إلى الدار تسأل عن حقيقة هذا الموضوع، فلم تتلق منها رداً (فأرسلت أحد موظفيها في يوم 17 مارس 1948 فقابل حضرة مدير دار الكتب الذي أبلغه صحة ما وصل إلى علم البروفسور كوفالسكي، وأن الأستاذ أحمد زكي العدوي رئيس القمص الأدبي في الدار يقوم في الوقت الحاضر بإعداد المخطوط وأنه أنجز نصفه تقريباً. ووعد حضرة مدير دار الكتب ممثل المفوضية بإرسال رد رسمي إلى المفوضية بوجهة نظر الدار، ولكن لم يصل هذا الرد إلى المفوضية).

ثم ختمت النشرة الموضوع بقولها: (ولما كانت مهمة المفوضية هي حماية حقوق المواطنين

ص: 39

البولنديين، ولما كانت المفوضية حريصة كل الحرص على تجنب أي شائبة تشوب العلاقات الثقافية بين بولندا ومصر والعالم العربي، فإنها تنشر هذه القصة لتحيط المهتمين بالأمر بأسبقية البروفيسور كوفالسكي في هذا العمل العلمي، وهي ترجو مخلصة في أن يوفر الآخرين (كذا) الجهد والمال الذي يبذل لإنجازه بالفعل).

وأول ما يسترعي النظر في هذه القصة هو اشتغال المستشرق كوفالسكي بتصحيح قصيدة (بانت سعاد) منذ ثلاثين عاماً، وحرصه على إعلان أسبقيته في إخراجها وطبعها، مع أنها غير محتاجة إلى كل هذا الجهد، ومع أنها كما قال جورجي زيدان في آداب اللغة العربية (طبعت مراراً بمصر وأوربا وشرحها كثيرون منهم ابن دريد والتبريزي وغيرهما في العصور المختلفة إلى الآن، ومن الأصل والشروح نسخ كثيرة في مكاتب برلين ولندن والاسكوريال ومصر وغيرها).

والظاهر أن المخطوط الذي طبعه كوفالسكي هو ديوان كعب ابن زهير وفي جملته قصيدة (بانت سعاد) وأن املوفضية البولندية لم تفهم عنه تماماً، ويدل على هذا أيضاً أن النسخة التي أهداها فيشر إلى دار الكتب المصرية (والتي تقول النشرة إنها مثل نسخة كوفالكسي) هي مخطوط جامع لشعر زهير بن أبي سلمى وابنه كعب، وقد وصفه فيشر في كتابه المصاحب للمخطوط، إلى مدير دار الكتب المصرية (وكان إذ ذاك الدكتور منصور فهمي) بقوله:(يحوي هذا المخطوط القديم ديوانين من الشعر العربي القديم، أحدهما للشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمى والآخر لإبنه كعب بن زهير شاعر (البردة). وسبق أن قلت لكم: إن من رأيي أن هذا المخطوط القديم جدير بأن يصور تصويراً شمسياً وأن تضم النسخة المصورة إلى مجموعة المخطوطات التي بدار الكتب المصرية. كذلك جدير بأن يصدر في طبعة منقولة عن هذه النسخة المصورة. واليوم لازالت عند رأيي هذا وعلى أي حال فديوان كعب بن زهير جدير بهذا، لأنه لا يعرف له نسخة ثانية. وهذا سبب عدم نشره حتى الآن ما عدا البردة) وقد نشر هذا الكتاب في صدر (ديوان زهير بن أبي سلمى) الذي أخرجته دار الكتب المصرية والذي قالت في أول مقدمته: (هذا ديوان زهير بن أبي سلمى، وسيليه في النشر ديوان ابنه كعب. ولم يعرف شعر كعب مجموعاً في دوان قبل ذلك وسنشرع في إخراج شعر كعب عقب ظهور هذا الديوان الجامع لشعر زهير وقد

ص: 40

اعتزمت الدار نشر هذين الديوانين بعد أن اهتدت إلى مخطوط جامع لشعرهما محفوظ بمكتبة الجمعية الشرقية الألمانية بمدينة هلة يرجع تاريخه إلى سنة 533 هجرية).

ودار الكتب تعمل الآن فعلا في إخراج ديوان كعب بن زهير، وقد تولى إتمام تصحيحه الأستاذ عبد الرحيم محمود بعد وفاة الأستاذ زكي العدوي في أوائل مايو الفائت، وقد أوشك الأستاذ عبد الرحيم علي الفراغ منه، وستصدره الدار قريباً. ومما يذكر أن الأستاذ الميمني الهندي عثر في استامبول على مخطوط لديوان كعب بن زهير مع شرح له، وأرسله إلى دار الكتب لطبعه، فوجدت الدار أن شرح مخطوط فيشر (وهو للسكري) أو في من شرح مخطوط الميمني (وهو للاحول) ومع ذلك فهي تستفيد من شرح الأحوال في تصحيح المحرف من شرح السكري وغير ذلك.

ومن غيريب الاتفاق أن المستشرق كوفالسكي توفى في أول مايو الماضي فقد نشرت المفوضية البولندية نبأ وفاته في نفس النشرة التي فصلت فيها الموضوع الذي نحن بصدده، وغرابة الاتفاق أنه توفى في الأسبوع الذي توفى فيه الأستاذ زكي العدوي. .

وقال لي الأستاذ مرسي قنديل مدير دار الكتب المصرية: جاء إلى موظف مصري بالمفوضية البولندية، وكلمني في هذا الموضوع، وعرض على ملازم من علم المستشرق كوفالسكي في ديوان كعب نب زهير فوجدتها تختلف عن عملنا في بعض النواحي فمنهجه يفيد المستشرقين أكثر مما يفيد القارئ العربي بخلاف منهجنا الذي يتجه إلى تحقيق الفائدة الكاملة للقارئ العربي، على أننا ننشر ديوان كعب بن زُهير تنفيذاً للبرنامج الموضوع لإحياء آدابنا العربية، ولنا في ذلك طريقتنا وجهودنا الخاصة، فهل نقطع العمل في إخراج كتاب لأن أحداً ما أبلغنا أنه أخرج هذا الكتاب؟

وبعد فماذا تريد المفوضية البولندية؟ إنها تذكر أمرين: (حماية حقوق المواطنين البولنديين) و (الحرص على العلاقات الثقافية بين بولندا ومصر والعالم العربي) فما هو حق المواطن البولندي الذي طبع كتاباً تطبعه دار الكتب المصرية؟ إن كانت تريد إعلان سبقه فلم يعتد أحد على هذا الحق؟ وإن كانت تبغي النصح لنا بادخار الجهد والمال وعدم بذلهما في علم تم مثله كما قالت، فنحن أدرى - مع الشكر - بتقدير قيم العمل في خدمة أدبنا، ولا أريد أن أظن أنها ترمي إلى عدم المنافسة في بيع نسخ الديوان. .

ص: 41

أما (العلاقات الثقافية) فإن الأمر لا ينبغي أن يمسها بسوء. . . وهو على كل حال أهون من حادث السفينة البولندية في مياه تل أبيب، ومن تأييد بولندا قيام دولة يهودية بفلسطين فإذا كان هذا وذاك لم يؤثرا في العلاقات السياسية فإن ديوان كعب بن زهير سيمر هو أيضاً بسلام.

دعاء جديد:

وضع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الجامع الأزهر دعاء، ليقنت به المسلمون في صلاتهم، نصه:

(اللهم انصرنا فإنك خير الناصرين، وثبت أقدام عبادك المجاهدين، واضرب بسيوفهم أعناق أعدائك الباغين، وأنزل سكينتك على قلوب المؤمنين، وأيدهم بنصر من عندك مبين، يا أرحم الراحمين، وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)

وقد ألف فضيلته هذا الدعاء لمناسبة الحال الحاضرة، حال القتال في فلسطين، وفضيلته يعلم أن المجاهدين في فلسطين لا يحاربون بالسيوف، ولو أن السيوف كانت أسلحتهم لما طالت أعناق أعداد الله الباغين، فدونها إذن حقول الألغام ومرامي المدافع ومساحب الدبابات والمصفحات.

وذلك الدعاء - ولاشك - تجديد، فقد ألفه شيخ الأزهر زيادة على الدعاء المأثور، ولكن التعبير بالسيوف لا يتلاءم مع هذا التجديد، فهلا قال فضيلته بدلا من ذلك:

(واضرب بقاذفات قنابلهم مستعمرات الصهيونيين، ودك بدباباتهم ومدافعهم حصون الباغين، واجعل ألغام الأعداء برداً وسلاماً على عبادك الفدائيين).

أغنيات قومية:

قالت إدارة الإذاعة إنها عنيت منذ بداية الحرب واشتراك الجيش المصري فيها، بتقديم برامج حماسية لتقوية الروح القومية وإن المطربين بها اتجهوا بوحي من شعورهم، وبتوجيه في إدارة الإذاعة، إلى هذا الغرض مما أضفى على برامجنا لوناً جديداً لم يكن مأوفاً منذ وقت طويل.

قرأت هذا الكلام في مجلة الإذاعة، ثم سمعت مطرباً يغني إحدى الأغنيات التي وصفتها

ص: 42

الإذاعة بأنها قومية، سمعته يردد:

ما نفوتش مطرحنا

إحنا العرب إحنا

وسمعت مطربة تغني أغنية (قومية) أيضاً مطلعها:

عايز أعيش عايز اتهنى

عايز أشوف نفسي في جنة

فهل قصارى جهادنا أننا (ما نفوتش مطرحنا)؟ وهل يُضفي الذي (عايز يتهنى) لوناً جديداً على برامج الإذاعة. .؟

فرحة النصر:

كنت قرأت إعلاناً عن ظهور ديوان شعر منثور اسمه: (وحي القيثارة) لزينب محمد حسين. ولم يتح لي بعد أن أقرأ هذا الديوان، ولكني قرأت لصاحبته بالعدد الأخير من جريدة الحوادث قصيدة عنوانها (فرحة النصر) قالت فيها:

(إن حبيبي الشجاع في سبيل الحق قد ذهب بعيدا. . .

تحرسه عين الله ودعوات قلبي الشاب. . .

وتهتف له ملائكة السماء هتافات الحب وتباركه. . .

غداً تعود إليَّ يا بطلي الحبيب مكللا بأكاليل النصر. . .

وفي عينيك نظرة مشرقة جذابة. . .

تتحدث عن بطولتك وجهادك. . .

وبسمتك الرقيقة تزيدها شجاعتك فتنة وجمالا. . .

وصوتك الهادئ المعبر. . يضفي بكلماتك المتحمسة على رجولتك قوة ومهابة. . .)

لم أستطع أن أخفي ارتياحي إلى هذا المسلك الشعري وإن يكن في أول الطريق، فهذه الشاعرة تحس بما حولها، وتؤدي مشاعرها هذا الأداء السليم الصادق الذي ينم على شخصية الأنثى وحسن تقديرها للبطولة.

وإذا كنا قد اغتبطنا بالمقاتل الشجاع في فلسطين فإنا نغتبط أيضاً بشاعرة تحدثه هذا الحديث. . .

مسابقة أدبية ثقافية:

ص: 43

قررت وزارة المعارف تنظيم مسابقة أدبية ثقافية، تمنح للفائزين فيها جوائز مختلفة، وهي كما يلي:

1 -

تمثيليات قصيرة للمسرح المدرسي، وقيمة جائزتها الأولى أربعون جنيهاً للتمثيلية ذات الفصل الواحد، وسبعون جنيهاً لذات الفصلين؛ وقيمة الجائزة الثانية ثلاثون جنيهاً لذات الفصل الواحد، وخمسون جنيهاً لذات الفصلين.

2 -

تمثيليات قصيرة للاذاعة المدرسية، وجائزتها الأولى ثلاثون جنيهاً، والثانية عشرون جنيهاً.

3 -

المسرحيات العامة، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.

4 -

القصة الطويلة، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.

5 -

القصص القصيرة، وجائزتها الأولى خمسة وعشرون جنيهاً، والثانية عشرون جنيهاً.

6 -

بحوث أدبية وفنية، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.

7 -

بحوث في التاريخ والآثار، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.

8 -

الرحلات، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.

9 -

العلوم المبسطة، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.

الباطن غير الواعي:

عقب الأديب (عثمان موسى) على فقرة مما كتبته في تلخيص محاضرات تيمور، تقتضي تفريقاً بين العقل الباطن والواعي - قال:(والمفهوم أن الباطن والواعي اسمان لمسمى واحد).

ويظهر أن هذا الفهم مستقر عند الأديب في عقله الباطن، وكان في حاجة إلى مراقبة من عقله الواعي. .

من قال لك يا سيد عثمان إن الباطن والواعي اسمان لمسمى واحد؟!. .

العباس

ص: 44

‌رسَالة النقد

على هامش كتاب:

سعد زغلول من أقضيته

(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكري

وإعجابي)

للأستاذ عدنان الخطيب

خسارة:

عرف الشاب (العمل الحكومي) صغيراً، عرفه في أبشع صورة وفي أجملها، عرفه يوم كان (راتبه) يملأ جيبه وكلتا يديه، عرفه جميلا في مظهره ومكانته عند الناس، ولكنه عرفه قبل كل شيء سماً قاتلا يميت المواهب، ويقضي على ما في النفس الأبية من عزة وكرامة، عرفه قيداً في عنق صاحبه، يحد من نشاطه ويقيد من حركاته، ومايزال يضيق حوله حتى تنفلج أعصابه وتنشل حركته، ثم لا يكون إلا كالقبر لا هواء فيه ولا نور، ولا حيلة لمن فيه إلا انتظار يوم البعث والنشور، يوم الإحالة على (المعاش) والاعتكاف في البيت شيخاً أحنت الأيامه عظامه، وتصلبت منها شرايينه، ينتظر يومه الأخير، كما كان ينتظر آخر الشهر يوم القبض ووفاء الديون.

نعم عرف الشابق (الوظيفة) وخير حقيقتها فجزع من مصير كمصير أربابها، وهو الذي شرب لنا الكرامة والأنفة رضيعاً، وعشق الحرية وجوّها يافعاً، ثم كان جريئاً بفطرته وولائته، لا يعرف كبيراً لا يقال الحق في وجهه، ولا يعترف بفضل لمن لم يكن من أهل الفضل ولا الفضيلة من صفاته، جزع من أن تطول أيامه فيها فتخف قدرته على الانفلات من أسارها، فتركها غير آسف عليها، ثم ساح في الأرض ليزيد في علومه وتجاربه، ويرضى ضميره وطموحه، وعاد يعمل حراً طليقاً في المهنة التي ارتضاها لنفسه وأحب العمل فيها على منهج رسمه بنفسه، وأسلوب يتفق وآماله ومبادئه.

بدأ الشاب يعيش العيشة التي كان يهواها ويصبو إليها، وأخذ يملأ أوقات فراغه بتدوين

ص: 45

ذكرياته ورحلاته، وكان (للوظيفة) وقصص (الموظفين) حظ منها عظيم. لقد فضح شيئاً من حياتهم والجو الذي يعيشون فيه، وحلل نفسية (الموظف) تحليلا ليس فيه رفق ولا محاباة، وإن كان فيه بعض العطف وكثير من الشفقة. قرأ الناس بعض ما نشر من هذه المذكرات فعجبوا منها واستغربوا ما فيها. أضحك بها بعض زملائه القدماء، وأبكى الكثير منهم على نفوس أفسدها جو (الوظيفة) وحياة خسروا فيها أثمن ما في الحياة، خسروا فيها حرية التفكير، ولذة الانطلاق من القيود.

هذه هي قصة الشاب الذي خسر اليوم حرية (المحامي) التي أحبها، وجو (المحامات) الذي عاش فيه طلقاً عاملا على تحقيق رغباته العلمية، وبلوغ أهدافه الثقافية.

أليس من الغريب أن يخبرك هذا الشاب بنفسه أنه ترك اليوم مهنته ليقوم (بعمل حكومي) كلف به، وهو الذي رفض قبله عدة مرات تكليفاً له في (الوظائف) الهامة قيمته، وفيه تقدير لدراسة عالية أضافها إلى دراسته القانونية. إن قائداً من قواد الجبهة الوطنية ومعلماً من معلمي الإخلاص والنزاهة يدير اليوم وزارة العدل في سورية، يطلب من الشاب أن يؤدي (خدمة مدنية) في جبهة (القضاء) الوطنية فيحار الفتى ويكاد يرفض لولا أن ثقة الطالب ثقة غالية نادرة لا تباع ولا تشترى بمال، ولولا أن مقر (الخدمة) في (جبهة) لا ذل فيها ولا صغار، ولا يخرج من فيها إلا ظافراً منتصراً مادام ناصع الجبين و (سلاحه أبيض) لا يعرف صدأ الأيام، ولم تلوثه (رغبة أو رهبة)؛ نعم كاد يرفض لولا أنه ما يزال يشعر بقوة ومناعة يستطيع معها دفع ما وضع على عاتقه يوم يجد فيه أعراض (الوظيفة) أو شيئاً من سمومها الفتاكة.

من غرائب المصادفات:

للمصادفات في هذه الحياة أثر عظيم، ولغريبها تاريخ يدون ويقرأ، وجميلها من النوادر التي تذكر وتنشر، فإن في ذكرها متعة ولذة، وإن في نشرها اعترافاً بجمالها وتقديراً لموقعه من النفس الشاعرة المقدرة.

لقد أخرج القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات كتابه القيمة عن القاضي العظيم سعد زغلول سنة 1942، وقد أحب يوم عقد مؤتمر المحامين العرب في دمشق التلطف بإهدائي نسخة منه لو وجد معه من الكتاب نسخة، ثم عاد الأستاذ الصديق إلى مصر وانقضت على

ص: 46

عودته بضعة أشهر عمل فيها على ما يظهر، على إخراج كتابه الظريف (من يوميات محام) وما كادت الصحف تعلن خروج الكتاب إلى الأسواق، حتى سارعت إلى إرسال من يقتني لي نسخة منه، ويعود الرسول يخبرني على لسان بائع الكتب، أن الكتاب لم يصل بعد إلى دمشق. وتشاء الصدف أن يدخل إلى مكتبي ساعتئذ ساعي البريد يحمل إليَّ رزمة مصدرها مصر، ففضضت غلافها، فإذا هي كتاب (سعد زغلول من أقضيته) موشحاً بإهداء يدل على رقة في الشمائل، وكرم في الأخلاق. . .

وضعت الكتاب أمامي وأخذت أفكر في تلك المصادفة الغريبة، وأبت الصدف إلا أن تأتي بالعجائب، فأتلقى في تلك الجلسة مرسوماً جمهورياً يدخلني في عداد (القضاة) وينيط بي عضوية دائرة الجنح والجنايات في مدينة حمص!!. . . ولئن كانت هذه المصادفة من الغرائب فهي بلا شك أجمل ما لاقيته في حياتي منها، لمكانة سعد في نفس، وهو القائد العظيم والزعيم المرشد المحبوب، ولما أكنه للأستاذ الصديق عبده حسن الزيات من آيات التقدير والإعجاب بأدبه الرفيع وأخلاقه السامية.

صلة القانون بالأدب:

سئلت مرة عن رأيي في صلة القانون بالأدب، فأجبت السائل وكان جوابي مقالاً نشرته مجلة (الصباح) السورية، بدأت فيه بتعريف الأدب والقانون، ثم ألمعت إلى تاريخيهما اللذين يتصلان بالإنسانية في مهدها، وبعد أن تكلمت عن صلاتهما في الماضي قلت (ولا شك أن صلة القانون بالأدب أصبحت بحكم المستوى الثقافي العام، أحكم ارتباطا، وأكثر تداخلا، كما أصبح رجل كل منهما يشعر بأنه لا يستطيع الانفراد بأحدهما دون أن يتمه الآخر؛ فرجل الأدب وهو اليوم صاحب رسالة اجتماعية هامة، لم يعد في إمكانه الاستغناء عن الثقافة القانونية ليؤدي رسالته على وجهها الأكمل، وليتبوأ المركز اللائق بمن يحمل مثل رسالته، رسالة الحياة الخالدة. إن الأديب في العصر الحديث أصبح محتاجاً إلى الإلمام بكثير من الثقافات على اختلاف أنواعها، والثقافة القانونية في مقدمة هذه الثقافات، وبقدر سعة هذا الإلمام وعمقه يبرهن الأديب للناس أنه في صميم الحياة التي يحمل رسالتها).

ثم تكلمت عن رجل القانون فقلت إن حاجته (إلى الأديب كحاجة المادة إلى الروح لتصبح جسما حياً، ومكانه القانوني في المجتمع إنما تتناسب في قيمتها مع حظه عن الأدب

ص: 47

ومميزاته الأدبية سواء كان مشروعاً أو قاضياً أو محاميا. . .)

ولقد فصلت هذا القول بالكلام عن حاجة رجال التشريع والقضاء والمحاماة إلى الأدب ومنه قولي: (والقاضي يجب أن يكون أديباً يحسن الأنابة عن وجوه الحق، قادراً على مناقشة دفوع. المحامين اللحانين بلغة صحيحة لا تترك لهم مجالا للبحث أو التذمر. تقرأ قراراته فتقرأ علماً وأدبا يستهويانك وإن لم تكن ذا صلة بها، وكثير من المثقفين يقرأون أحكام بعض القضاة فيعجبون بالتفكير السليم والفقه القانوني يعرض بأسلوب متين ولغة راقية، بينما يعرض المشتغلون بالقانون عن تتبع أحكام أكثر المحاكم لضعف لغتها وتفكك أسلوبها مما يشوه المادة القانونية إن وجدت فيها) ثم ضربت مثلا فقلت: (فالميزات الأدبية، مثلا، هي التي جعلت نجم القاضي سعد زغلول يتألق في سماء القضاء كما تألق في سماء السياسة والوطنية. وشخصية سعد القاضي كانت موضوعاً طريفاً طرقه أحد رجال القانون الأدباء، عزز به مكانة سعد في النفوس وأضاف إلى شخصيته لوناً جديداً من ألوان الخلود).

وكان كلامي هذا صورة حاطفة وأثراً من آثار قراءتي لكتاب (سعد زغلول من أقضيته) يوم صدوره. أما اليوم فلابد من عودة إلى (سعد) عودة فيها تؤدة (القاضي) وتدقيقه واستيعابه، وفيها دراسة التلميذ الطموح لشخصية يعتقد أن صاحبها مثال يحتذي ومرشد تقتفي آثاره، وقائع تستلهم من روحه الشجاعة بعد أن قرر لهذا التلميذ النزول إلى ساحة الجهاد التي خلف الزعيم فيها آيات من الجهد والبطولة.

كتاب الزيات:

لاشك في أن كتاب الأستاذ الزيات يعتبر أول كتاب من نوعه في العربية، فموضوعه شخصية سعد زغلول من خلال أحكامه في القضاء، وبالرغم من صعوبة العمل الذي أخذه المؤلف على عاتقه، ووعورة الطرق التي سلكها توصلا إلى غايته، فقد انتهى إليها بعد أن ملأنا إعجابا بأدبه وطول أناته ودقة تمحيصه وعمق تبعاته، وتقديراً لما بذله من جهود جبارة وأوقات ثمينة قضاها في تتبع آثار سعد القضائية، ونسخ ما عثر عليه من أحكامه بعد قراءة ملفاتها المطروحة في مستودعاتها ما يقرب من نصف قرن.

وأنا أرى أن أفضل تقريظ لهذا الكتاب أقوم اليوم به، بعد مرور سنتين على صدوره، إهداء

ص: 48

هذه الباقة التي اقتطفتها من حديقة الأستاذ الزيات إلى الألوف من قراء (الرسالة) الذين لم تتح لهم فرصة قراءة هذا الكتاب الفريد الذي يقع في أربعمائة صفحة قسمت إلى تسعة فصول، هذه زبدتها بعناوينها مرتبة بترتيبها في الكتاب.

1 -

ثورة المصلح وغيرة العادل:

أصدر سعد أحكاماً كثيرة في دعاوي رفعت إليه، وإنها لأحكام خالدة تجلت فيها روح الثائر المصلح والحاكم العادل، أحكام تملأك إعجابا وتقديراً، أحكام كل ما فيها ينبئ (عن قريحة قانونية ذات مرونة ولباقة، ونفس شديدة الاستجابة لأوامر العدل المطلق ونواهيه)، وأن الحكم الواحد منها ليخدم (أغراضا اجتماعية ووطنية كبيرة قبل أن يخدم صاحب حق بإيتائه حقه: يخدم القضاء بما يؤكد ويعلن استقلاله، ويخدم العدالة بما يمهد أمامها من طريق أفسده الشوك، ويخدم التشريع بما يوضح له من نقصه وسخفه، ويخدم الفقه بترحيب آفاقه وتسديد خطاه في سبيل العدل والمعقول)؛ فإن أردت الدليل على هذا الكلام فاسمع ما يقوله سعد في أحد أحكامه (. . . لا يمكن أن يكون المراد بهذه الأعمال الإجراءات الاستبدادية المخالفة للعدل والقانون والمضرة بحقوق الأفراد وليست فيها مصلحة عامة للناس، لأن ذلك لا ينطبق بوجه من الوجوه على مبدأ الحكومات العادلة، ولا يصح أن تتضمنه شرائعها)!

وسعد الذي كان يطبق القانون على الناس لم يكن ينظر إلى القانون كنصوص مجردة واجبة التطبيق، بل كان ينظر إلى القانون كوسيلة غايتها (إثبات جوهر الحق والعدل، ونفي الغش والحيلة والغضب، وأن مساره هذا لينتظم أحكامه) جميعاً؛ وهو إذا حاول مرة أن يقضي على حيلة تسلب شخصاً حقا له، رغب إلى القانون ألا يحاول حماية المحتال لأنه من العار (أن يمنح القانون حقاً ثم يجيز الحيلة لإسقاطه).

قد كان سعد يصدر من وراء قوس القضاء أحكاما جديرة بالخلود لأنها كانت (تستخلص الحق من ركام الإنكار واللجج) وإن هي اصطدمت يوماً بصلابة القانون وجدتها (قد لانت شيئاً تحت معول بناء حازم، في حزمه رفق، وفي رفقه عدل، وفي هدمه خلق وإيحاء وتجديد وتشييد). .

إن حكماً يحوي هذه الفقرات (. . . أن وقوع مثل هذه التصرفات بحجة إظهار الفاعل أو كشف الحقيقة، أشد خطراً على النظام العام من خفاء الجاني أو تخليصه من العقاب، لأنه لا

ص: 49

شيء أسلب للأمن، وأقلق للراحة، وأزعج للنفوس، من أن يعبث بالنظام من عهد إليه حفظ النظام!) ليس بحكم (قاض يفصل في تهمة أفراد، إن هو إلا - حكم - مصلح ثائر يعرف للثورة قواعدها، وللتمرد أبانه، واجتماعي مرشد يثبت للمجتمع بالعدل أركانه، ورجل دولة حريص على (تحديد المسؤوليات وتعيين المسؤولين).

(يتبع)

عدنان الخطيب

ص: 50

‌الكُتبُ

أثر التشيع في الأدب العربي

للأديب محمد سيد كيلاني

مؤلف كتاب (أثر التشيع في الأدب العربي) هو الأديب محمد سيد كيلاني، والمؤلف وكتابه حريان بأن نهش بهما ونبش لهما، فقد ألف الأديب كتابه على نحو مقبول (سنعرضه) وهو طالب بالسنة الأولى بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وأسلوبه فيه واضح سليم يدل على وضوح موضوعه في ذهنه وتمكن قلمه منه، بل إن أسلوبه فيه أسلم وأوضح من أسلوب كثير من أساتذته فيما يخرجون لنا اليوم، ونحن نقرر هذه الحقيقة آسفين، والمؤلف يتناول كثيراً من أطراف موضوعه المختلفة ويعرضها عرضاً رفيقاً واضحاً. ولذلك كله نتلقى كتاب مؤلفنا (الطالب الأديب) بالرضا والغبطة على رغم ما لنا عليه من مؤاخذات كثيرة سنذكر بعضها بعد.

الكتاب مقدمة تبين أقسام البحث، وأربعة أبواب: الباب الأول فيه فصلان: أحدهما تحدث فيه الأديب بالخلافة وتفرق الآراء فيمن تكون له بعد موت النبي وموقف الأحزاب المختلفة من ذلك وموقف كبار الصحابة ولاسيما أبو بكر وعمر، ثم خلافتهما وخلافة عثمان، وموقف الصحابة بعد قتله من علي. والفصل الثاني: حديث سطحي بفرق الشيعة ومعتقداتها. والباب الثاني يبدأ بمقدمة في مقتل الحسين وما لحق بالعلويين عامة زمن الأمويين والعباسيين، ويليها فصلان: أحدهما في النثر الشيعي، ويبدأ: بالخطابة فالرسائل فالأحاديث الموضوعة فالقصص فنحل الشيعة بعض أوليائهم وأعدائهم القول وأكثره تكرار لما في القصص. والفصل الثاني في خطباء الشيعة وفيه ترجمة لعلي ونقد ممتع واف لكتاب (نهج البلاغة) المنسوب إليه، ولا ترجمة لغير علي هنا فيما عدا إشارة خاطفة إلى أنه لم يظهر بعد علي من الخطباء غير الحسن والحسين، وأن الشيعة انصرفوا عن نشر الدعوة بالخطابة إلى نشرها سراً، وأن لفاطمة خطباً نسبت إليها ولعلي بن الحسين رسالة تعرف برسالة الحقوق. والباب الثالث في الشعر وهو فصلان: أولهما في الشعر الذي نحله الشيعة بعض أوليائهم وأعدائهم، كعلي وأبي طالب ومعاوية وعمر ويزيد بن معاوية والوليد بن يزيد؛ وثانيهما في الشعر الذي قاله شعراء الشيعة في التشيع، وأغراض هذا الشعر:

ص: 51

كالمدح، والرثاء، والهجاء، والدفاع عن حق علي وبنيه في الخلافة، وشعر النقائض بين شعراء الشيعة وخصومهم من الشعراء. والباب الرابع في: شعراء الشيعة وفيه ترجمة لعشرة شعراءهم: الكميت، وكثير، وعبد الله بن عمر العبلي، والسيد الحميري، ودعبل، وابن الرومي والمفجع البصري، والشريف الرضي، ومهيار، وابن هانئ الأندلسي.

وقد توخى المؤلف في كتابه النهج العلمي فجنبه ذلك كثيراً من المزالق، ولكن صحة المنهج لا تغني وحدها ولابد معها من وعي ناضج يحسن استخدام المنهج، وهذا ما ليس في وسع الأديب ولذاته. والكتاب يعتمد على مراجع كلها - إلا واحداً - قديمة، ولو اعتمد على المراجع الحديثة إلى جانبها لأنارت له الطريق. وهذا هو السر في أن كثيراً من أقسام الكتاب بتراء، وفي تهجم الأديب على بعض الصحابة كعمر وتصديقه خرافة المؤامرة الثلاثية بينه وبين أبي بكر وأبي عبيده، ولم يشر الأديب إلى مصدرها. وأظن أن مخترعها الأب لامنس المستشرق. وهو قسيس اشتهر بقدحه في الإسلام ورجاله، ولو قرأ الأديب كتاب (عبقرية عمر) للأستاذ العقاد لبان له زيفها. ولقد كانت عبقريات العقاد وابن الرومي كفيلة بتجنيبه كثيراً من هذه المزالق، كما أنه غفل في بعض الفصول عن مراجعها الصحيحة كالفصل الذي كتبه في فرق الشيعة ومعتقداتهم، وكان حرياً به أن يعتمد على كتاب (فرق الشيعة) للنوبختي وهو أقدم وأوفى مرجع في موضوعه ومؤلفه أجدر المؤلفين باحترام آرائهم في هذا الموضوع، ولا يزال كثير من العلماء غير محيطين بفضل هذا الكتاب ومؤلفه، وكان عليه أيضاً أن يعتمد على كتابي فجر الإسلام وضحى الإسلام للدكتور أحمد أمين بك، ومقالات الإسلاميين والإبانة للأشعري، وإلى جانب هذا التقصير في بعض الفصول، فضول في بعضها الآخر، فهو في الباب الرابع يطيل الشواهد التي لا موضع لها، ولا يكتفي في تراجم الشعراء بما يتصل بتشيعهم بل يطيل ترجمتهم، ويكتفي في تراجم أكثرهم ببضعة سطور في تشيعهم. ومن أقسام الكتاب التي يجدر التنويه بها ما كتبه في نقد نهج البلاغة والتشكيك في صحة نسبه إلى علي وهذا الشك - وإن كان قديماً - قد أيده الأديب بحجج له قوية طريفة.

وإذا كان الأديب مسئولا عن كل ما أشرنا إليه من مآخذ كالاضطراب والتقصير في جانب والفضول في جانب، وكالأخطاء التاريخية واللغوية التي نكتفي بالإشارة إليها عن التمثيل

ص: 52

لها - فجدير بنا إنصافاً له أن نحمل بعض هذه المسئولية على الضرورة التي تكره صاحبها على عمل قبل استكمال معداته له، وإلا ناله من وراء العصيان شر متطير، وأن نحمل بعض المسئولية على المرشدين الذين نصبوا للإرشاد إن بالحق وإن بالباطل - فإذا ما استرشدوا لا يرشدون.

محمد خليفة التونسي

ص: 53

‌من هنا وهناك

في المملكة الأردنية الهاشمية:

لمناسبة قيام القيادة العليا للدول العربية المحاربة في عمان، أنشر هذه

الكلمة، أوجز فيها القول عن وصف حاضرتها وبعض مدنها،

وتجارتها، وشؤونها العلمية وغير ذلك:

في الصيف الماضي هبطنا (عمان) حاضرة المملكة فرأيناها مدينة جميلة تتسع شوارعها المعبدة تارة وتضيق تارة، وهي في واد تكتنفه جبال تقوم عليها أكثر بيوت المدينة، ودورها حديثة البناء من الحجر الأبيض المنحوت، وفيها دور لا تقل حدائقها عن بعض حدائق دور مصر الجميلة. وفيها بضعة مساجد جليلة.

وكان لعمان في هذه الحرب شأن عظيم في التجارة، وقد كانت البلد الوحيد في الشرق الذي يسمح لتجاره بالاستيراد من أوربة، لذلك قصدها التجار في سورية وفلسطين وغيرهما فصدروا منها كثيراً مما كانت غاصة به من البضائع.

وأهل المملكة الأردنية عرب أقحاح، يشتغلون بالزراعة والتجارة وتربية الأغنام. وتنتج أرضها فواكه من كل الثمرات، وذلك لجودة تربتها في أوديتها ومرتفعاتها، ولطيب مائها.

وقد خطت هذه المملكة الصغير في عددها، الكبيرة في مساحتها، خطوات التنظيم والعمران والتعليم والحضارة بمدة يسيرة، وذلك بفضل عناية مليكها العالم، واعتماده على أهل العلم من السوريين والفلسطينيين وأهل البلاد، وقد قاربت أن تضاهي الأقطار الأخرى في الإقبال على العلم وفي نسبة المتخرجين الذين يردون مناهل الجامعات. وجل أساتذة مدرستها الثانوية من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. وفيها مدرسة للعلوم الدينية، ومدرسة للصناعة تعلم النشء بعض الحرف. يضاف إلى ذلك مدارس عسكرية قائمة في المعسكرات. وفيها صحف ثلاث، ونواد عدة، من أكبرها نادي جلالة الملك حسين الذي يختلف إليه كثير من الأدباء لالقاء المحاضرات الممتعة. وفيها من علماء شنقيط والمغرب وسورية وفلسطين وغيرها. وسكان الحاضرة نحو خمسين ألفاً يعيشون عيشة مدنية مترفة. وفيها آثار مدرج فرعوني عتيق، وفي جبلها آثار قلقة قديمة.

ص: 54

وأما مدينة (السلط) التي تبعد عن عمان نحو نصف ساعة بالسيارة، فأبنيتها أبنية المدن لا أبنية القرى، وبيوتها قائمة على ثلاثة تلال. وكان فيها حركة تجارية طيبة، لكنها انتقلت إلى عمان. وفيها مدرسة ثانوية كبيرة قائمة على ربوة شاهقة تطل على واد أغن ممرع. وفيها مسجدان، وآثار قلقة عتيقة، ويشرب أهلها من عينين فيها. ويسعون لمد الكهرباء إليها. ومواردها من كرومها التي تمشي فيها نحو ثلاث ساعات، وهي محيطة بالمدينة من كل ناحية. والعنب والزيت هما المحصولان اللذان تنتجهما هذه البلدة الجميلة، فتصدر منهما إلى كل مكان، وفي جبالها كثير من الينابيع التي تروي وديانها المكتظة بالأشجار والأثمار المختلفة. ويبلغ سكانها نحو 18 ألفاً جلهم متحضرون يشتغلون بالتجارة والزراعة. وكان السلط في زمن الدولة العثمانيو مركزاً للتجارة ومركزاً للحكومة. وفيها جبل يرتفع نحو ألف متر عن سطح البحر، فيه مقام للنبي يوشع، تظهر من عنده أنوار بيت المقدس.

وفي طريق الذاهب من عمان إلى القدس أغوار قريبة من البحر الميت تزرع فيها الخضر في الشتاء، ولاسيما في (الشونة) الزاخرة بحدائق الموز التي تبعث بثمراتها إلى فلسطين بلا انقطاع. وفيها تبربة صالحة لإنبات ما يخرج في أراضي البلاد الحارة. ويخترق هذه الأغوار نهر الأرن العظيم. وفي (الشونة) يقضي جلالة الملك فصل الشتاء، ويؤمها كثيرون من جهات مختلفة لدفئها. وهي منخفضة نحو 300 متر عن سطح البحر. ولو أتيح إصلاح الري في هذه الأغوار لأفاضت على الناس من خيرتها وبركاتها ما يكفي الملايين.

وأما (اربد) فقائمة وسط سهول فسيحة، وهي في طريق المسافر من عمان إلى دمشق. وهواؤها ألطف وأبرد من هواء عمان في الصيف، إلا أن مرتفعات عمان تضاهيها في ذلك. وهي من المدن الكبيرة في شرقي الأردن. وكانت تابعة في زمن العثمانيين للواء عجلون الذي يشمل الرقة وجرس والطيبة والمزار. وحول اربد قرى فيها آثار كثيرة كقريبة (رأس قيس) وغيرها

أما (جرش) فقرية فيها جامع كبير بناه الشاميين المقيمون فيها، وجامع قديم أقامه الجركس سكان القرية الأولون، وأعظم ما فيها هي آثارها الرومانية المدهشة في الجبل. ويشرب الناس هناك من عين فيها عذبة. . .

ص: 55

من شئون الحرب في الإسلام:

أوصى أبو بكر قواده بوصايا خليق أن يوصى بها كل قائد، منها:

1 -

أحسن صحبة جند.

2 -

ابدأهم بالخير وعدهم به.

3 -

إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام ينسى بعضه بعضاً.

4 -

أصلح نفسك يصلح لك الناس.

5 -

أكرم رسل عدوك، وأقلل مكثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبَلك من محادثتهم وكن المتولي لكلامهم.

6 -

أصدق الحديث تصدق المشورة.

7 -

اسهر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار.

8 -

أكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم، وأحسن أدب الغافل وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم في الليل واجعل النوبة الأولى أطول من الآخرة.

9 -

لا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها.

10 -

لا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم، ولا تكشف للناس عن أسرارهم.

11 -

جالس أهل الصدق والوفاء.

12 -

أصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس.

13 -

ستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له.

لما التقى الجمعان في وقعة اليرموك قال رجل لخالد القائد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم! إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال.

وقال عكرمة: قاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن ثم أفر اليوم! ثم نادى (من يبايع على الموت؟) فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من فرسان المسلمين ثم حملوا أمام فسطاط خالد حتى ضعضعوا الروم، وهجم خالد بين خيلهم ورجلهم، فانهزم فرسان العدو وتركوا الرجال. ولما رأى المسلمون خيل الروم تريد الفرار

ص: 56

أفرجوا لها فتفرقت. وقتل الرجالة واقتحموا في خندقهم وهوى فيه ألوف مؤلفة بين قتيل وجريح ودارت الدائرة على الروم. . . وكان المسلمون نحو خمسين ألفاً؛ والروم أكثر من مائتي ألف. . .

محمد أسامة عليية

ص: 57

‌القَصصُ

أقصوصة روسية:

تحفة يتيمة!

للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف

بقلم الأديب كمال الدين الحجازي

وصل (ساشا سمير نوف) إلى عيادة الطبيب (كوشلكلوف) يحمل تحت إبطيه شيئاً ملفوفاً.

كان ساشا وحيد أمه فسأله الطبيب: كيف حالك يا ولدي؟ فأجاب شكراً أيها الطبيب، إن أمي ليعجز لسانها عن شكرك على حسن صنيعك بشفاء ولدها! فقال الطبيب: إنني لم أعمل سوى ما يفرضه الواجب على كل طبيب. فقال الولد: إن أمي فقيرة أيها الطبيب الفاضل ولا تملك سوى هذه التحفة الثمينة التي أحملها بين يدَّي والتي أرجوا أن تتقبلها. فقال الطبيب: لا داعي لذلك ولا ضرورة له. ولكن ساشا أصرَّ على تقديم الهدية إليه وألح عليه بقبولها، وقال إن رفض الهدية يعد إهانة له وتصغيراً من شأنه ومن شأن أبيه الذي أورته ذلك الأثر الفني والذي هو بمثابة تذكار منه، فقد اعتاد أبوه أن يشتري الآثار البرنزية ويبيعها من عشاق الآثار القديمة. ثم وضع الأثر على المنضدة.

كان الأثر شمعداناً من البرنز، جلس على قاعدته تمثالان كالمرأتين عاريتين على هيئة حواء، يستحي المرء من وصفهما، كان هذان التمثالان يبتسمان ويميل أحدهما على الآخر بدلال كأنه يقبله ويتأهبان للرقص! ولما أنعم الطبيب النظر في الهدية حك رأسه وقال: لا ريب أها تحفة فنية ولكنها. . . لست أدري ما أقوله، فالشيطان يوسوس في صدور الناس! وهل من اللائق أن أضع هذا التمثال الملوث على المنضدة؟ فقال ساشا غاضباً: ولم لا يا دكتور؟ إنك تحمل على الفن حملة شديدة. إن هذا عمل فني خالد. إن الروحانية تتمثل فيه بأجمل صورها. ولا ريب أن الناظر إليه سينسى كل ما يحيط به من الأمور المادية ويتطلع إلى المثل العليا! دقق النظر فيه تجد الجمال والروحانية تدعوانك إليهما! فقال الطبيب: إنه أثر خالد يا ولدي، ولكنك تعلم أنني متزوج، وأعتقد أن من غير اللائق أن أضعه في هذه الغرفة التي يغشاها كثير من النساء والأولاد دائماً. فقال ساشا: أنك تنظر

ص: 58

إلى التمثال نظرة الشك والريبة وتتطلع إليه بأعين السوقة وعامة الناس، ويجب أن تسمو عن ذلك يا دكتور. إنه الأثر الوحيد الذي أورثنه أبي وقد آليت لأهدينه إليك، فقد شفيتني من المرض. فقال الطبيب، وقد أراد التخلص من هذه الورطة، لا بأس يا ولدي، ضعه على المنضدة. وضع ساشا الشمعدان كما أشار وقال للطبيب: آسف إذ لم أجد رفيقه ولكني سأجد في البحث عنه، ولم يدر الطبيب ما يقصده ساشا من رفيقه أو شريكه، ثم ودعه وخرج.

أراد الطبيب التخلص من هذا التمثال ونظر إليه ملياً، فخطر بباله أن يهديه إلى صديقه المحامي الذي كان مديناً له ببعض النقود وقال في نفسه: إنها فكرة حسنة، سأقدم إليه هذ التحفة وهو رجل أعزب كالطير الطليق. سار الطبيب إلى مكتب صديقه المحامي، وبعد أن شكره على حسن دفاعه عنه وخدماته السابقة له، رجا منه أن يتقبل منه هدية متواضعة وهي تمثال البرونز النفيس. وما إن وقع نظر المحامي عليه حتى أعجب بجماله ولكنه بعد أن أدمن النظر فيه قال: أعتذر يا صديقي من قبوله، فإن أمي تزورني دائماً، كما أن مكتبي يؤمه كثير من الناس كل يوم! فقال الطبيب: لا تقل ذلك يا صديقي، إن مع نكران الجميل أن ترفض مثل هذا الأثر الفني. فقال المحامي متهكما:(حبذا لو كانت السيقان مصقولة أو مغطاة ببعض ورق التين على الأقل) ولكن الطبيب لم يأبه له واغتنم فرصة انشغاله ببعض شأنه ووضعه على مكتبه وانصرف.

تأمل المحامي في هذا الأثر وهم يقذفه من نافذته ولكن يده لم تطاوعه فقد كان الأثر جميلا، وقال في نفسه: ليس لي إلا أن أقدمه هدية إلى الممثل الفكاهي (شوشكين) فإن الممثلين يحبون مثل هذه الأشياء الفنية البديعة.

ولما قدم الأثر إلى شوشكين أعبج به أيما إعجاب، كما أعجب به كثير من الناس الذين رأوه، وقد غصت غرفته بالمتفرجين والممثلين الذين كانوا يأتون إليه في أي وقت يشاءون. ولما رأى شوشكين هذا العدد الغفير من الناس لم يجد بداً من التخلص من هذا الأثر الذي جلب إليه كثيراً من التعب والشقاء، وتمنى لو كان التمثال صغيراً ليتمكن من وضعه في درج مكتبه، ففكر في بيعه لإحدى النساء المولعات بمثل تلك التحف الفنية، ولم يلبث أن باعه لها.

ص: 59

وبعد يومين بينما كان الطبيب كوشلكوف جالساً في عيادته، فتح الباب فجأة ودخله ساشا وهو يحمل شيئاً ملفوفاً بين يديه، والابتسامة تداعب شفتيه وقال للطبيب: إنك لا تستطيع أن تتصور مقدار سروري وابتهاجي، فقد استطعت بعد جهد جهيد أن أحصل على رفيق التمثال وشريكه، وأن والدتي تشاركني الفرح أيضاً، ثم وضع ساشا الشمعدان على الطاولة فرحاً مسروراً وخرج.

نظر الطبيب إلى التمثال وقال في نفسه: (ترى هل شعر ساشا بأن تمثال حواء الذي أهداني إياه قبلا كان ينقصه تمثال آخر لن تستطيع حواء أن تعيش بدونه، فأحضر لها تمثال آدم!!.

(القدس)

جمال الدين الحجازي

الندوة الأدبية

ص: 60