الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 780
- بتاريخ: 14 - 06 - 1948
أدباء معاصرون
أرشحهم للخلود
لحضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا
رئيس جامعة أدباء العروبة
يسألني السائلون عمن أرشحهم للخلود من أدبائنا المعاصرين، وأحْبب إلى أن يكون الجواب على صفحات (الرسالة) الغراء.
إذا ما ذكر الناثرون، كان أول من أذكره، وأول من يستأثر بإعجابي، الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات، فهو أقوى كتاب العصر ديباجة وأنقاهم أسلوبا وأعرفهم بالصيغ العربية الصحيحة، ومن أراد البيان العربي في أسمى درجاته فعليه بما يكتبه الزيات.
أما الكاتبان القادران، العقاد وهيكل، فإن عنايتهما بالموضوع الذي يعالجانه - وهما أقدر كتابنا جميعاً من الناحية الموضوعية - أقوى من عنايتهما بسمو الديباجة وإشراقها؛ وبالديباجة يعني أشد العناية، الكاتبان الكبيران، المازني، وتوفيق دياب.
وإذا كان الذين ذكرتهم من الناثرين قد كتب لهم الخلود فعلا، فقد كنت أود أن أرشح للخلود بجانبهم بعض الناثرين من الشباب، لكني أراهم مع الأسف لا يولون هذه الناحية من الأدب الرفيع ما تستحقه من اهتمام، ولا أجد بينهم من يحاول أن يبلغ في هذا الفن الجميل درجة الكمال.
أما الشعراء، فإذا تجاوزنا الذين بلغوا القمة من زمان بعيد، كمطران والعقاد والجارم ومن إليهم، فإن لدينا ممن يلونهم شعراء لا شك أنهم سيبلغون في العالم العربي أعلى مكانة. ولست أدري من يكون أولهم؟ ففي بعض المواقف يمتاز أحدهم، ثم يبرزه سواه في موقف آخر. وقد يتفوق عليهما زميل ثالث في موقف جديد؛ لهذا تصعب المفاضلة بينهم. فهل يكون الأول ناجي، أم طاهر أبو فاشا، أم غنيم، أم العوضي الوكيل، أم الغزالي، أم حممام، أم الصاوي شعلان؟
وكثيراً ما تفوق الحناوي ومخيمر والجرنوسي والجنبلاطي وعبد المنعم إبراهيم وشمس الدين وغيرهم.
وهنا كلمة لابد منها، وهي أن هؤلاء الذين توهت بهم، هم من شعراء جامعة أدباء العروبة، وليس المقصود بشعراء الجامعة أعضاء مجلس إدارتها وحدهم، فإن لها أعضاء أنصاراً، كالشاعرين الكبيرين رامي والأسمر، وهما من أكبر شعراء هذا الجيل.
وإني لحريص على أن أصحح فهما خاطئا سرى إلى بعض الأذهان وأثار حملات لا مبرر لها، فأقول إني لا أحتكر لرجال جامعة أدباء العروبة المجد الأدبي في هذا العصر، وإن كانوا في الحقيقة أقوى مجموعة عرفها التاريخ الأدبي الحديث، وأنا أعد الجامعة مكونة من أعضائها العاملين ومن أنصارها جميعاً. . أما أعضاء مجلس إدارتها فهم فوق مقدرتهم الأدبية الممتازة، أنشط الأدباء وأشدهم دأبا، وأغزرهم إنتاجا، وأكثرهم مثابرة على خدمة الأدب والأدباء، وتنظيم المهرجانات، وإحيائها بخطبهم وقصائدهم التي يحملها المذياع إلى دنيا العروبة فتملأ مسامع الملايين في سائر الأقطار العربية، وتحفر النفوس إلى طلب المجد، وتغرس فيها الشجاعة ومكارم الأخلاق.
وإن شعراء الجامعة لآثار أدبية جديرة بالخلود، أراني فخوراً بأن أعرض ما يحضرني منها في هذه الساعة.
فهذا ناجي يقول في (الغريب).
يا قاسيَ البعد كيف تبتعد؟
…
إني غريب الديار منفرد
إن خانني اليوم فيك قلت غد
…
وأين مني ومن لقاك غد
إن غداً هوة لنا ظرها
…
تكاد فيها الظنون ترتعد
أطل في عمقها أسائلها
…
أفيك أخفي خياله الأبد؟
يا لامس الجرح ما الذي صنعت
…
به شفاه رحيمة ويد؟
ملء فؤادي لظى وأعجبه
…
أني بهذا اللهيب أبترد!
ومن شعره الوطني:
مر الغزاة بمصر وانتهو رمرا
…
فأين بالله تيجان ودولات
كأن صخرة أقدار تحطمهم
…
وما من القدر المحتوم إفلات
مروا ومصر على التاريخ باقية
…
كأنما حولها للنور هالات
فاعجب لمنطق أذيال يقوم له
…
محض من الزور شَّته الضلالات
ومسرح في الليالي لا جديد به
…
لكن يعاد عليه الذئب والشاة
ومن شعر طاهر أبي فاشا في قصيدة وطنية نظمها لدى عودة دولة النقراشي باشا من أمريكا بعد دفاعه المجيد عن قضية مصر في مجلس الأمن:
ألْق عن وجهها الغضوب النقابا
…
لا تخاصم إلى الذئاب الذئابا
أمر الأمر فادَّرعهم شيُوخا
…
عاقروا الصبر وادَّرعهم شبابا
وأدر لحنك الذي أيقظ الثو - رة واخمر في صهده الأعصابا
أمة تنشد السلام فما با - ل حمام السلام أمسى غرابا؟
والذي يطلب الحياة سلاما
…
كالذي يطلب الحياة سرابا
ومن شعر غنيم في قصيدة (ثورة على الضارة).
ذرعتم الجو أشباراً وأميالا
…
وجبتم البحر أعماقا وأطوالا
فهل نقصتم هموم الكون خردلة
…
أو زدتمو في نعيم الكون مثقالا
يا طالما حدثتني النفس قائلة
…
أنحن أسعد أم أجدادنا حالا؟
ومن قصيدة له في الكلب البوليسي (هول)
كلب ينم على الحناه
…
تمشي العدالة في خطاه
إن قال أرهفت النيا - بة سمعها وصغى القضاه
قد بات يرعى الأمن (هو - لُ) وغيره يرعى الشياه
شيخَ الكلاب أخفت ذئ - ب الإنس لا ذئب الفلاه
وأنفت من صيد البزا - ة فصدت صياد البزاه
وسلبت كلب الكهف ما
…
بيديه من عز وجاه
لم تقض في النوم الحيا - ة كما قضى فيها الحياة
إن طوقوك فطالما
…
طوقت أعناق الطغاه
ومن قصيدة لحمام في (القمر)
ويا رقيبا على العشاق مؤتمنا
…
السر عندك مكنون ومدخر
ويا رسولا من الماضي الرهيب إلى
…
من كان يخشع للماضي ويدَّكر
ويا شهيداً على أعمالنا يقظا
…
عدلا، ويا مقلة يرنو بها القدر
يا من يعيش بأعمار مجددة
…
وكل يوم يرى الأعمار تهتصر
يا قيصر اعراشه الدنيا وما وسعت
…
وجنده الأنجم المضاءة الزهر
يا صورة من جمال الله مشرقة
…
والشاعر الحق تسبى لبه الصور
إليك يا بدر عتباً كنت أكتمه
…
فالآن يا بدر لا كتم ولا حذر
أتذكر الحرب إذ تارت جهنمها
…
وطار منها على آفاقنا شرر
وكنت للخصم جاسوسا فكم نزلت
…
على هدى نورك الغارات والغير
قد سخروك لشر ما خلقت له
…
لا تأس يا بدر إني عنك أعتذر!
كم ليلة لحت فيها شاحبا أرقا
…
كأنما شقك التطويف والسهر
أوضقت بالظلم يغشى الأرض قاطبة
…
أأنت مثلي طريد الظلم يا قمر؟!
ومن شعر عبد المنعم إبراهيم في العروبة
الجود والحلم والأقدام والأدب
…
شمائل علمتها للورى العرب
الصيد إن ركبوا والصفو إن طربوا
…
والعفو إن غلبوا والنار إن غضبوا
السحر ما كتبوا والطهر ما شربوا
…
والبحر ما وهبوا، والأمر ما رغبوا
هذه شواهد من أشعارهم، بل أزهار من رياضهم، وإن لهم ولإخوانهم لبدائع وروائع، زادهم الله اتقانا وإحسانا، وجعلهم للأدب والعروبة أسنادا وأركانا.
إبراهيم دسوقي أباظه
صور من الحياة
للدكتور عبد العزيز برهام
(إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)
(اكثم بن صيفي)
لا يجرح غير الحقيقة (مثل فرنسي)
جمعتني الصدفة بصديق قديم كنت آخذ عليه دائماً إخلاف المواعيد. زرته في مقر عمله فوجدت عنده عدداً عديداً من الزوار كلهم يرجوه في أن يشفع له عند فلان أو فلان في أمر كذا أو كيت، ورأيته يمنيهم جميعاً بقضاء حاجاتهم، فيخرجون من لدنه، وقد امتلأت نفوسهم بالآمال، وظنوا أنفسهم قاب قوسين أو أدنى من بلوغ المرام. ولكنهم ما كادوا يبرحون مكتبه حتى تنفس الصعداء، والتفت إليَّ وعلى شفتيه ابتسامة ثم قال: أفً لهؤلاء الناس! أيظنونني عبداً مسخراً لهم؟ ما أكثر ما هم عليه من بله! قلت: وماذا يحملك على أن تمنيهم كل هذه الأماني؟ قال: وماذا يضيرني، وقد بلغ الحمق بالناس أن يصدقوا كل ما يقال لهم؟ أو لا يسرك أن تراهم وقد خشعت أبصارهم أمامك، وانخفضت أصواتهم، وبدت عليهم الذلة والمسكنة، وهم يضرعون إليك بالرجاء؟ قلت: وأي لذة في هذا؟ قال: إن فيها لذة لا يشعر بها إلا من مر بمثل ما أمر به. قلت: أما آن لك أن ترعوي يا (نيرون) ومانه؟ قال: وأنت! أما آن لك أن تقصد في نصحك؟ قلت: بلى. ثم افترقنا.
انقضت ثلاثة أشهر لم أر فيها صديقي، ثم عدت إليه أزوره، ولشد ما كانت دهشتي عندما رأيت بين زواره فريقاً ممن رأيتهم عنده من قبل يطلبون شفاعته، وإذا به يعود فيعدهم ويمنيهم. لم أطق صبرا على رؤية هذه المسرحية الموجعة، فملت عليه بعد أن صرف واحداً منهم بالحسنى، وكنت أرى في مظهره ما يستاهل المساعدة: أتنوي حقاً قضاء حاجة هذا الرجل؟ فقال، وهو يهمس في أذني: وكيف لي بقضاء ما يطلب؟ إنه يطلب أن أعينه في وظيفة ممرض، وأنا لا أعرف من أطباء الصحة أحداً. قلت: فقيم إذن كل هذه الأماني المعسولة؟ قال: دعه، فستنجلي له الحقيقة يوماً ما، وسيريحني من تردده المملي عليَّ. قلت: ولماذا لا تصارحه بها؟ قال: يا لك من غر! أتريد أن أقول له إنني لا أعرف من أطباء
الصحة أحداً؟ قلت: ولم لا؟ قال: هذه حماقة لا أرضاها لنفسي.
لم أكد أسمع منه هذا الحديث حتى يعثت فاستدعيت الزائر الذي انصرف، وكان لا يزال على مرأى منا، وقلت له على مسمع من الجالسين: أيها الأخ! إن فلاناً هذا يأسف لأنه لن يستطيع قضاء أمرك، فهو لا يعرف أحداً من أطباء الصحة.
فوقف الرجل مشدوهاً من سماع هذه الكلمات، وهو لا يكاد يصدق ما يسمع، وكأن لسان حاله يقول: ففيم إذن كانت كل هذه المقابلات؟ وانتفض صديقي انتفاضة تدل على الغضب البالغ فلقد فوجيء بما قلت. ثم التفت إليَّ يقول: هذا لا يليق بي أن تقوله. هذه إهانة لا أقبلها منك. قلت: أو ليس ما قلت حقاً؟ قال: وما كل حق يقال. قلت: ولكن هذا الرجل يجب أن يعرف إلى أين يسير؟ قال: لا شأن لك بي وبأموري. ثم مدَّ إليَّ يده وهو يقول. وداعاً، يا صديقي. فوقفت وانصرفت وأنا أقول: وداعاً لا لقاء بعده.
وأردت أن أتزوَّج، فأوصيت كل من تصلني بهم صلة أن يعنينوني في البحث عن (نصفي الثاني). ثم طرقتْ بابي ذات مساء سيدة هي مني بمنزلة الوالدة، ووجهها يطفق بشراً. وما كادت عينها تقع عليَّ حتى صاحت: أبشر يا صاح! فقد وجدت ضالتك المنشودة. إنها فتاة في ريعان الشباب ومقتبل العمر، من أسرة كريمة، وإن لم تكن غنية. قلت: وهل نقلت إليهم ما تعرفين عني؟ قالت: لقد قلت عنك كيت وكيت، وقلت إنك تملك خمسين فداناً. قلت: في أي بلد؟ قالت: لا أدري. قلت: فكيف إذن قلت ذلك وأنت تعلمين أنني لا أملك قيراطاً واحداً؟ قالت: أو لست جديراً بأن تملك هذا المقدار وأكثر منه؟ قلت: الجدارة شيء والواقع شيء آخر. وما كان لك ان تقولي غير الحقيقة.
القيت بأصهاري (الجدد) وكان استقبال بالغ الحفاوة، وترحيب لا نظير له، ثم اتفقنا على كل شيء، ولكن. . . وما أقسى لكن هذه! دار بخلدي أن هؤلاء الأصهار (الجدد) الذين سأكون واحداً منهم ليس من اللياقة أن أحبس عنهم حقيقة ثروتي، فجمعت أطراف سجاعتي (وصححت) المعلومات التي وصلتهم عني. وما كنت أدري أنني بهذا القول قد بخست في نظرهم من قدر نفسي، فلم أكد أصل منزلي، حتى لحق بي رسولي، والغضب باد على وجهه، وهو يصيح في وجهي: لقد أفسدت كل شيء! قلت: ماذا؟ قال: ما لك وللحديث عن أطيانك؟ لماذا لا تتركهم في ضلالتهم؟ لقد اعتذروا من عدم قبولك صهراً لهم، وفهمت أن
السبب هو أنك قلت لهم إنك لا تملك شيئاً. أو ما كان الأحرى أن تموه عليهم حتى ينتهي كل شيء؟ قلت: لا أستطيع. وإياك أن تفعلي هذا مرة ثانية. قالت: إذن فأعفني من هذه المهمة ووداعاً يا صديقي! قلت: وداعاً
وكنت ذات يوم منهمكاً في عملي، وقد قدرت للفراغ منه ساعة من زمان، وإذا بزميل لي يقتحم عليَّ الباب، والبشر يطفح من وجهه، ويقطع عليَّ سلسلة أفكاري، وهو يدندن بألفاظ لم أفهم لها معنى. ثم قال: أما تهنئني؟ قلت: بلى، ماذا أصبت؟ قال: كنت مع المدير الآن أحمل إليه (توصية) من فلان باشا وقد وعدني بترقيتي في الشهر القادم. قلت: ولكننا لا زلنا على بعد ستة أشهر من الميزانية الجديدة؟ قال: وما شأن الميزانية الجديدة الآن؟ قلت: لأن الترقية إنما تكون على درجات خالية وقد استنفدت المصلحة في ترقياتها الأخيرة جميع ما لديها من درجات. قال: كيف، وقد وعدني بما قلت لك؟ قلت: لقد خدعك. قال: هذا محال؛ وخير لك أن تبشر ولا تنفر. قلت: لقد أعذر من أنذر. قال: لا، إنك تسعي بقولك هذا في تثبيط همتي، ولا تود لي خيراً؛ إن المدير لا يكذب. قلت: شأنك وما تريد. قال: الآن قد كشفت ما تنطوي عليه نفسك من حسد لي، وحقد علي، وكان أولى بك أن تفرح لفرحي. قلت: لو أن هناك ما يستحق الفرح. فانفلت زميلي من الغرفة حانقاً ولم أعد أرى وجهه. ثم مضى شهر أعقبه شهر آخر، ثم تلته شهور أخرى وصاحبي لا يزال ينتظر الترقية الموعودة. ولكن هذا لم يحل دون تجنبه إياي، ونشره بين زملائي أن فلاناً يكره الخير للناس، ثم روايته القصة بصوره تؤيد ادعاءه. وما أقل المحققين للأخبار!
دكتور
عبد العزيز برهام
أساتذة الجيل:
أحمد تيمور باشا
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
(إلى الصديق الكريم، والباحث المحقق، الدكتور محمد سامي
الدهان، وفاء بما وعدته من الإفاضة في الحديث عن أولئك
الأساتذة الأماثل الذين مهدوا الطريق أمام هذا الجيل. . .)
تيمور، بفتح التاء، ويحققها بعض العلماء بالكسر، كلمة تركية ينطقها الأتراك في لغتهم دمير أو دمور، ومعناها عندهم الحديد، وكانت تستعمل لقب تمجيد في المملكة العثمانية، والولايات التابعة لها، وبها لقب السيد محمد كاشف جد الأسرة التيمورية، وأول من وفد منهم إلى مصر. . .
وأصل السيد محمد هذا من بلاد كردستان بولاية الموصل، ويذهب آل تيمور في إثبات نسبهم إلى أنهم من أصل عربي اعتماداً على ما ذكره ابن الكلبي وابن خلكان، من أن نسب الأكراد ينتهي إلى عمر مزيقياء بن عامر بن ماء السماء، أو ينتهي إلى عدنان كما ذكر بعض العلماء. على أن آل تيمور يذهبون من ناحية أخرى إلى أن جدتهم زوجة السيد محمد كاشف، وهي السيدة عائشة الصديقية، كانت كريمة السيد عبد الرحمن الاستانبولي، وهو كما يقولون شريف النسب، صريح العروبة، كان يتولى الكتابة في الديوان السلطاني للسلطان سليم الثالث، وكان السلطان يحبه ويقربه ويثق به، فلما قتل السلطان فرّ إلى مصر، وعاش في رعاية عزيزها محمد علي باشا مكرماً إلى آخر حياته. . .
ولقد كان السيد كاشف جد الأسرة التيمورية من رجال السيف، وقد جاء إلى مصر في رفقة محمد علي مع الجند الذين أرسلهم السلطان لتثبيت سلطة الخلافة العثمانية على مصر بعد خروج الفرنسيين منها واضطراب الأحوال فيها، وقد كانت بينه وبين محمد علي في أول أمرهما صداقة ومودة. فلما تم الأمر لمحمد علي باشا في الولاية على مصر، فرب إليه صاحبه القديم، وأخذ يعتمد عليه في تنفيذ خططه وتدبيراته، وقد كان ساعده في حادثة الفتك بالمماليك في مأدبة القلعة، كما كان عضده في إخماد ما كان من فتن وما قام من ثورات،
وكما أرسل محمد علي ابنه طوسون على رأس الحملة المصرية لحرب الوهابيين أرسل برفقته السيد محمد، فأبلى في هذه الحرب بلاء حسناً، وكان أن عينه محمد علي كاشفاً على الشرقية، وهو مثل منصب المدير في هذه الأيام، ومن ثمّ لزمه لقب كاشف وعرف به، حتى إذا ما استقرت الأمور في الحجاز عينه والياً للروضة الشريفة، فبقى هناك خمس سنوات، ثم عاد إلى مصر، وتخلى عن الأعمال الرسمية، ولكنه بقى مع محمد علي على حسن الصلة والمودة. وفي أواخر حياته انقطع للعبادة، وعكف على الأخذ بأسباب الصلاح والتقوى حتى توفى عام 1848م وهو في حدود الثمانين من العمر ولم يترك من الخلف إلا ابنه إسماعيل.
لم ينشأ إسماعيل على غرار والده، ولم يكن له مثل غرامه بالجندية وأساليب النضال، ولكنه نشأ من صغره وفي طبعه الميل إلى العلم والأدب، وقد عنى والده بإشباع رغبته، فأحضر له المعلمين في العلوم العربية والدينية، وعهد إلى أحد رجال الترك الأفذاذ بتعليمه اللغة التركية وآدابها، ولقد كان هذا التعليم المنزلي للعلوم الإسلامية والآداب التركية هي المظهر السائد بين الأسر الكبيرة في مصر يوم ذاك، إذ كانت روح الدولة إسلامية خالصة، وكانت الصلة بين مصر وتركيا صلة خلطة ونسب ودين أكثر مما هي صلة حكم، وكان رجال الحكومة كلهم أو جلهم من الأتراك، وكانت الطبقة العالية تتكون من الأسر التركية التي وفدت على مصر فملكت الضياع والثروات والمناصب، ومن ثم كانت اللغة التركية والآداب التركية لها مكانة كبيرة في نفوس الخاصة، وكانت الأسرات الكبيرة تحرص عليها وتراها غاية الكمال في تثقيف أبنائهم وإعدادهم لمناصب الحكومة ودواوينها، كما هو الشأن اليوم في الحرص على تعليم الإنجليزية والفرنسية.
برع إسماعيل في الإنشاء التركي، وأخذ بحفظ وافر من الثقافة التركية، لهذا ولما كان من متانة الصلة بين والده وبين محمد علي باشا، فقد شمله محمد علي بعطفه، واتخذه كاتباً خاصاً له، ثم عينه وكيلا لمديرية الشرقية التي كان والده كاشفاً عليها من قبل، ثم زاد في العطف عليه فعينه مديراً، وظل إسماعيل في هذا المنصب ينتقل من مديرية إلى أخرى. ولكن يظهر أن حياة الإدارة وما تقتضيه من الصرامة لم توافق طبعه الأدبي وإحساسه المرهف، ولهذا سعى بنفسه عند محمد علي في التخلي عن هذا المنصب والعودة إلى
الديوان فحقق له رغبته. . . ولما تولى عباس باشا الأول عينه وكيلا لديوان كتخدا، وكان أكبر ديوان في الحكومة المصرية، وكان وكيله يعتبر أكبر رجال الدولة بعد الوالي، فله الإشراف على جميع شئون الدولة مثل ما لرئيس الوزراء في هذه الأيام، ومنصب كهذا يقتضي لا شك من صاحبه كثيراً من اليقظة والحذر، ولكن إسماعيل كما قلنا كان صاحب طبع أدبي لا يسنده في مثل هذا المركز السياسي، ولهذا لم يلبث أن عزل من هذا المنصب بوشاية كاشح، غير أن عباس باشا تبين حقيقة الأمر فأعاده ناظراً لخاصته. ولما تولى سعيد باشا أرجعه إلى الديوان كما كان من قبل، ولكنه لم يلبث أن استقال لإهانة لحقته من الوالي، وكأن الرجل كان قد عاف الحياة الحكومية وشبع منها، أو كأن ما أحاط به من ظروف اضطرته إلى الخروج من الديوان الخديوي مرتين قد بغضه في تلك الحياة فظل بقية عهد سعيد وشطراً كبيراً من عهد إسماعيل منعزلا عن الناس، عاكفاً على كتبه وتدبير الأمور في أملاكه، وجعل من داره نادياً للسمر والمذاكرة مع أهل العلم والأدب. وفي آخر حياته أنعم عليه إسماعيل باشا برتبة الباشوية، واختاره ناظراً لخاصة ولي عهده توفيق باشا، ولكنه توفى بعد ستة شهور من تولي هذه النظارة سنة 1872م ولم ينجب إلا ابنتين كبراهما السيدة عائشة عصمت تيمور الشاعرة المعروفة، وابنا هو المغفور له أحمد تيمور باشا، كما ترك خزانة كتب تضم كثيراً من النوادر، وخاصة في اللغة التركية وآدابها، ولكنها ضاعت وبعثرت، ولم يبق منها إلا فهرسها. . .
نشأ المغفور له أحمد تيمور يتيما، لم ير والده، ولم يتمتع بحنان الأبوة، فقد ولد عام 1871م، أي قبل وفاة والده بعام واحد، فتعهدته شقيقته الكبرى السيدة عائشة تيمور بالرعاية، وتولته بالتثقيف، والتعليم، وكان الابن صورة ممتدة للأب في هدوء الطبع، والميل إلى العلم، والشغف بالثقافة، فدرس العلوم الأولية على مدرسين خصوصيين بالمنزل، ثم أخذ يدرس اللغة العربية على الشيخ رضوان محمد أحد العلماء المشهورين في ذلك العهد واللغة الفرنسية في مدرسة كليبر ثم على الأستاذ عبيد بك، كما أخذ في دراسة التركية والفارسية. وكان بطبعه ميالا إلى الإفادة والتحصيل، فنبغ في دراسة اللغات الأربع. وإذا كان أحمد تيمور لم يحضر عهد والده ولم يتمتع بتلك الندوة العامرة التي كان يقيمها في بيته لمذاكرة العلماء ومسامرة الأدباء، فإن الله قد هيأ له من ذلك ندوة أحفل في
دار ابن أخته محمود توفيق بك، فكان يتردد عليها للإفادة. ويحدثنا تيمور باشا بطرف من أخبار هذه الندوة في الترجمة التي كتبها لصديقه محمد أفندي أكمل فيقول:(وكان أول التقائي بالمترجم في دار ابن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر على فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متواليين على تفهمه، فلم يفتح عليَّ بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت على فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. . .)
وهناك شيخان جليلان تتلمذ عليهما أحمد تيمور، وكان لهما أبعد الأثر في توجيه وفي ثقافته، وكان رحمه الله يذكرهما دائماً بالإجلال والتبجيل، أولهما العلامة اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي، وثانيهما العلامة المنطقي الشيخ حسن الطويل.
أما الشنقيطي فقد كان تيمور باشا يقصد إليه في داره، ويجلس أمامه لتلقي الدرس، وكان الوقت يطول به وهو متربع على الأرض، فكان حينما يشعر بألم ويريد أن يبدل رجلا بأخرى يقول الشنقيطي له: لا تتألم يا أحمد، فقد كنا نقطع بالراحلة شهوراً وراء البحث والاستقصاء عن مسألة علمية. ويحكي تيمور باشا عن نفسه فيقول: وأشار عليَّ مرة أستاذنا العلامة الشنقيطي أن أطالع آمالي أبي علي القالي مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، واحتجبت عن الناس بضعة أيام، حتى استوفيت ما بهذه الكراريس. . .
وأما الشيخ حسن الطويل فيظهر أنه كان أشد خلطة وأعلق بنفس أحمد تيمور، وهو يعتبره أستاذه الذي قومه وثقفه وأخذ بيده إلى الطريق المستقيم، وقد كتب تيمور باشا ترجمة مطولة لهذا الأستاذ الفاضل أورد فيها سبب اجتماعه به وتحدث عن مدى انتفاعه بعمله وفضله فقال: (أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شيء من آثار التربية بهذه المدارس، إلا أني كنت مولعاً من الصغر بالإسلام ومحاسنه والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء
وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات، ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التصادم والتناقض فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم لعلي أجد عندهم مفرجاً، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين: فإما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وإما أن يكون ما نراه حقاً، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس، حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه حتى بالغ بعضهم ورماه بالزندقة، فقلت: إذا كنت لم أجد طلبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع فلعلي أصيبها عند الزنادقة. ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف وعلوم البلاغة بتوسع، ثم قرأت طرفاً من الحكمة. ولما رآني مجداً في التحصيل قرر لي درساً ثانياً بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها. وكان من عاداته الخروج إلى الريف كل خميس ترويحاً للنفس، فكان يسافر إلى ضيعتنا التي بقويسنا أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال، حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه، فيقرر لي المسائل ونحن سائران. . . فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله عليَّ في ديني، ولو لم يكن له عليَّ سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفة السمحة لكفي
(للحديث بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 5 -
يقول ابن سينا في المقدمة المذكورة:
(وبعد) فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى أو عادة أو ألف، ولا نبالي من مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلموا كتب اليونانيين إلفاً عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم، مع اعتراف منا بفضل أفضل سلفهم (يعني أرسطو) في تنبيهه لما نام عنه ذووه وأستاذوه، وفي تمييزه أقسام العلوم بعضها عن بعض، وفي ترتيبه العلوم خيراً مما رتبوه، وفي إدراكه الحق في كثير من الأشياء، وفي تفطنه لأصول صحيحة سرية في أكثر العلوم وفي إطلاعه الناس على ما بينها فيه السلف وأهل بلاده، وذلك أقصى ما يقدر عليه إنسان يكون أول من مدَّ يديه إلى تمييز مخلوط وتهذيب مفسد ويحق على من بعده أن يلموا شعثه ويرموا ثلماً يجدونه فيما بناه ويفرعوا أصولا أعطاها فما قدر من بعده على أن يفرغ نفسه عن عهدة ما ررثه منه وذهب عمره في تفهم ما أحسن فيه والتعصب لبعض ما فرط من تقصيره، فهو مشغول عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله، ولو وجدها ما استحل أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى ما زيد عليه أو إصلاح له أو تنقيح إياه.
وأما نحن فسهل علينا التفهم لما قالوه أول ما اشتغلنا به ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه. ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يسميه اليونانيون (المنطق) - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره - حرفاً حرفاً فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة فحق ما حق وزاف ما زاف.
ولما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاز إلى (المشائين) من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائين إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم - وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه وأغضينا عما تخبطوا فيه، وجعلنا له وجهاً ومخرجاً ونحن بدخلته شاعرون وعلى ظله واقفون. فإن جاهرنا بمخالفتهم ففي الشيء الذي لم يكن الصبر عليه، وأما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل. فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من الشهرة بحيث لا يشكون فيه ويشكون في النهار الواضح. وبعضه قد كان من الدقة بحيث تعمش عنه عيون هؤلاء الذين في العصر - فقد بلينا برفقة منهم عاري الفهم كأنهم خُشب مسندة يرون التعمق في النظرة بدعة، ومخالفة المشهور ضلالة كأنهم الحنابلة في كتب الحديث لو وجدنا منهم رشيداً أثبتناه بما حققناه - فكنا نفعهم به، وربما تسنى لهم الإيغال في معناه فعوضونا منفعة استبدوا بالتنفير عنها.
ومن جملة ما ضننا بإعلانه عابرين عليه - حق مغفول عنه يشار إليه فلا يتلقى إلا بالتعصب. فلذلك جرينا في كثير مما في نحن خبراء ببجدته مجرى المساعدة دون المحاقة. لو كان ما انكشف لنا أول ما انصببنا إلى هذا الشأن لم نبد فيه مراجعات منا لأنفسنا ومعاودات من نظرنا - لما تبينا فيه رأياً ولا ختلط علينا الرأي وسرى في عقائدنا الشك، وقلنا لعل وعسى. لكنكم أصحابنا تعلمون حالنا في أول أمرنا وآخره وطول المدة التي بين حكمنا الأول والثاني، وإذا وجدنا صورتنا هذه فبالأحرى أن نثق بأكثر ما قضيناه وحكمنا به واستدركناه، ولاسيما في الأشياء التي هي الأغراض الكبرى والغايات القصوى التي اعتبرناها وتعقبناها مئين من المرات. ولما كانت الصورة هذه والقضية على هذه الجملة، أحببنا أن نجمع كتاباً يحتوي على أمهات العلم الحق الذي استنبله من نظر كثيراً وفكر ملياً، ولم يكن من جودة الحدس بعيداً واجتهد في التعصب لكثير فيما يخالفه الحق فوجد لتعصبه وما يقوله وفاقاً عند الجماعة غير نفسه، ولا أحق بالإصغاء إليه من التعصب لطائفة إذا أخذ يصدق عليهم فإنه لا ينجيهم من العيوب إلا الصدق.
وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا - أعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا - وأما العامة من مزاولي هذا الشأن فقد أعطيناهم في (كتاب الشفاء) ما هو كثير لهم وفوق
حاجتهم، وسنعطيهم وفي اللواحق ما يصلح لهم زيادة على ما أخذوه، وعلى كل حال فالاستعانة بالله وحده).
ويظهر لنا من هذه المقدمة الفرق الشاسع بين المترجمين ومتتبعي فلسفة اليونان الذين كانوا يتلقون آراء فلاسفة اليونان في جميع الأحوال بأحسن قبول ويعتبرون عقولهم منتهى ما يصل إليه العقل، وبين الحكماء أصحاب الرأي والنظر من المتأخرين أمثال ابن سينا ممن لم يكونوا يرون في عقول فلاسفة اليونان أقصى ما يبلغه العقل البشري ولم يكونوا يتقبلون آراءهم كحقائق لا تقبل الشك والجدل.
كان يرى الشيخ الرئيس أن فلسفة أرسطو تعتبر كاملة لزمان أرسطو فحسب، وأن للأجيال القادمة أن تبدي فيها رأيها تنقدها وتصحح ما تراه فيها من الخطأ كما كانت نظرة الرازي لأراء جالينوس في الطب.
وهناك أمر آخر أرى من المناسب أن أشير إليه وهو أن ابن سينا لم يقتصر في كتابه (الشفاء) وهو عن فلسفة المشائين - على نقل ما وصله من أقوال أرسطو عن طريق التراجم بل أنه (أي كتاب الشفاء) هو حاصل ما فهمه هو نفسه من فلسفة أرسطو
اتصل أبو عبيد الجوزجاني تلميذ الشيخ وصاحبه وجامع أكثر كتبه بابن سينا في جرجان وصاحبه حتى آخر أيام حياته أي ما يقارب خمسة وعشرين عاماً ولازمه في كل حال وكل مكان لم ينفك عنه في سفر أو حضر، وكان الراوي الثقة الذي نقل إلينا تاريخ حياة الشيخ.
يقول أبو عبيد هذا في شرح أحوال الشيخ: (ثم سألته أنا شرح كتب أرسطو طاليس فذكر أنه لا فراغ له إلى ذلك القوت، وقال ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين ولا اشتغال بالرد عليهم، فعلت ذلك، فرضيت به.
وكان بعد محمد بن زكريا الرازي وقبل زمن الشيخ الرئيس ابن سينا طبيب آخر وهو علي بن العباس المجوسي الأهوازي، وكان تلميذاً لأبي ماهر موسى بن سبار المجوسي وله كتاب جامع في الطب اسمه (كامل الصناعة الطبية) ألفه وقدمه لعضد الدولة الدبلمي الملقب بشاهنشاه أو ملك الملوك. وكان طبيبه الخاص ومن هنا سمي الكتاب بالملكي.
ينتقد علي بن العباس في مقدمة مؤلفه هذا - وهو من الآثار الخالدة في الطب الإسلامي،
جميع الأطباء الكبار الذين سبقوه.
نراه يقول في المقدمة المذكورة:
فأما أبقراط الذي كان أمام هذه الصناعة وأول من دونها في الكتب فقد وضع كتباً كثيرة في كل نوع من أنواع هذا العلم، منها كتاب واحد جامع لكثير مما يحتاج إليه طالب هذه الصناعة ضرورة، وهذا الكتاب هو كتاب الفصول، وقد يسهل جمع هذه الكتب حتى تصير كتاباً واحداً حاوياً لجميع ما قد يحتاج إليه في بلوغ غاية هذه الصناعة، إلا أنه استعمل فيه كسائر كتبه الإيجاز حتى صارت معان كثيرة من كلامه غامضة يحتاج القارئ لها إلى تفسير، وأما جالينوس المقدم المفضل في هذه الصناعة فإنه وضع كتباً كل واحد منها مفرد في نوع من أنواع هذا العلم وطول الكلام فيه وكرره لما احتاج إليه من الاستقصاء في الشرح وإقامة البراهين والرد على من عاند الحق وسلك سبيل المغالطين، ولم أجد له كتاباً واحداً يصف فيه ما يحتاج إليه في درك هذه الصناعة وبلوغ الغرض المقصود إليه منها للسبب الذي ذكرته آنفاً.
وقد وضع أورنياسيوس كتباً وكذلك فولس الأجنطي ورام كل واحد منهما أن يبين في كتابه جميع ما يحتاج إليه، فوجدت أوربناسيوس قد قصر في كتابه الصغير الذي وضعه لابنه (أوناقس) وإلى عوام الناس، فلم يذكر في الكتاب الذي وضعه لابنه (اسطات) في تسع مقالات فإنه لم يذكر فيه شيئاً من الأمور الطبيعية التي هي الاستقصات من الأمزجة والأخلاط والأعضاء والقوى والأفعال والأرواح إلا اليسير، ولم يذكر في هذين الكتابين شيئاً من العمل باليد؛ فأما كتابه الكبير الذي وضعه في سبعين مقالة فلم أجد فيه إلا مقالة واحدة فيها ذكر تشريح الأعضاء. وأما فولس فلم يذكر في كتابه من الأمور الطبيعية إلا اليسير. وأما أمر الأسباب والعلاقات وسائر أنواع المداواة والعلاج باليد فقد بالغ في بيانه؛ إلا أنه لم يذكر ما ذكره في كتابه على طريق من طرق التعليم. وأما المحدثون فلم أجد لأحد منهم كتاباً يصف فيه جميع ما يحتاج إليه في مداواة الأمراض والعلل وأسبابها وعلاماتها وما سوى ذلك فذكره على جهة الإيجاز من غير شرح واضح؛ ومع ذلك فإن ترجمته ترجمة سوء رديئة تعمي على القارئ له كثيراً من المعاني التي قصد إلى شرحها ولاسيما من لم ينظر في ترجمة حنين وأشباهه. وأما يوحنا بن سرابيون فإنه وضع كتاباً يذكر فيه
شيئاً سوى مداواة العلل والأمراض التي تكون بالأدوية والتدبير ولم يذكر العلاج الذي يكون باليد، وترك أشياء كثيرة من العلل ولم يذكرها من ذلك أنه ترك من علل الدماغ ذكر العلل المعروفة بالطرب والعشق والاسترخاء الحادث عن القولنج ولم يذكر في علاج العين مداواة النتوء على ما ينبغي ولم يذكر علاج السرطان في العين وغير ذلك من علل الأجفان.
وأما مسيح فإنه وضع كتاباً نحا فيه النحو الذي نحاه هرون في قلة شرح الأمور الطبيعية والأمور التي ليست بطبيعية مع سوء ترتيبه لما وضعه في كتابه من العلم وقلة معرفته بتصنيف الكتب.
وأما محمد بن زكريا الرازي فإنه وضع كتابه المعروف بالمنصوري وذكر فيه جملا وجوامع من صناعة الطب ولم يغفل عن ذكر شيء مما يحتاج إليه، إلا أنه لم يستقص شرح ما ذكره لكنه استعمل فيه الإيجاز والاختصار وهذا كان غرضه وقصده فيه؛ فأما كتابه المعروف بالحاوي فوجدته قد ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه المتطببون من حفظ الصحة ومداواة الأمراض والعلل التي تكون بالتدبير بالأدوية والأغذية وعلاماتها، ولم يغفل عن ذكر شيء مما يحتاج إليه الطالب لهذه الصناعة من تدبير الأمراض والعلل؛ غير أنه لم يذكر فيه شيئاً من الأمور الطبيعية كعلم الاستقصات والأمزجة والأخلاط وتشريح الأعضاء ولا العلاج باليد ولا ذكر ما ذكره من ذلك على ترتيب ونظام ولا على وجه من وجوه التعاليم ولاجزاه بالمقالات والفصول والأبواب. والذي يقع لي من أمره وأنو همه على ما يوجبه القياس من علمه ومعرفته لصناعة الطب وتصنيف الكتب وفهمه في هذا الكتاب إحدى الحالتين: إما أن يكون وضعه وذكر فيها ما ذكر من جميع علم الطب ليكون تذكرة له خاصة يرجع إليه فيما يحتاج من حفظ الصحة ومداواة الأمراض عند الشيخوخة ووقت الهرم أو النسيان أو خوفاً من آفة تعرض لكتبه فيعتاض منها بهذا الكتاب، وكذلك لكثرة تجريده التأليف من التعظيم، وإما أن ينتفع الناس به ويكون له ذكر حسن من بعده، فعلق جميع ما ذكره فيه تعليقاً ليعود فيه فينظمه ويرتبه ويضيف كل نوع منه إلى ما يشاكله ويثبته في بابه على ما يليق بمعرفته لهذه الصناعة فيكون الكتاب بذلك كاملا تاماً فعاقه عن ذلك عوائق وجاءه الموت قبل إتمامه؛ فإن كان إنما قصد به هذا الباب فقد طول فيه الكلام
وعظمه من غير حاجة اضطرارية دعته إلى ذلك حتى قد عجز أكثر العلماء عن نسخه واقتنائه إلا اليسير من ذوي اليسار من أهل الأدب فقل وجوده، وذلك أنه ذكر في صفه كل واحد من الأمراض وأسبابه وعلاقاته ومداواته ما قاله كل واحد من الأطباء القدماء والمحدثين في ذلك المرض من ابقراط وجالينوس إلى أسحق بن حنين ومن كان بينهما من الأطباء القدماء والمحدثين ولم يترك شيئاً مما ذكر كل واحد منهم من ذلك إلا أورده في هذا الكتاب وعلى هذا القياس فقد صارت جميع كتب الطب محصورة في كتابه هذا.
وأما أنا فإني أذكر في كتابي هذا جميع ما يحتاج إليه في حفظ الصحة ومداواة الأمراض والعلل وطبائعها وأسبابها والأعراض التابعة لها والعلامات الدالة عليها مما يستغنى الطبيب الماهر عن معرفته إلى أن يقول (وأنا مثل لك مثالا للطريق الذي أسلكه في كتابي هذا من صفة الأمراض وأسبابها وعلاماتها ومداوتها وأجعل ذلك في ذات الجنب).
(يتبع)
منادمة الماضي:
زيارة لحصن الأكراد
أدب وحرب
للأستاذ أحمد رمزي بك
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
39 -
ويرجع الفضل إلى إحراز هذا النصر إلى عقيدة القضاء على الفرنج وإنهاء الجروب الصليبية إنهاء تاماً، تلك العقيدة التي تملكت عقول الجنود والقواد وملوك مصر منذ بدأ بيبرس حملاته والتي تتلخص في الاستيلاء على الحصون والقلاع وعدم ترك الفرصة حتى تسترد الولايات اللاتينية استعدادها مرة أخرى، وعليه أفرغ كتاب الفرنج جعبة شتائمهم على هؤلاء الأبطال، وكتب جبون يرثى الحروب الصليبية يقول:(ساد سكون محزن غريب مظلم على طول ذلك الشاطئ الذي ظل زماناً طويلا تترد فيه أصداء النزاع العالمي وتمر عليها كتائب المقاتلة)
40 -
أنشأ الصليبيون معاقل وأبراجاً في الحصون التي احتلوها تشهد لهم بطول الباع والأناة وللعرب والبيزنطيين، بل وللفرس وغيرهم آثار تشهد لهم أيضاً:
وهذا فن يهم أربابه، وقد أخرجت البعثة الفرنسية حجارة نحتها العرب وأخرى نحتها الفرنج من أسوار حصن الأكراد، وفي أسوار قلعة القاهرة من الحجارة ما نحته أسرى الفرنج، فقد كانت الطريقة المتبعة استعمال الأسرى في هذه الأعمال.
41 -
وقد استعمل حصن الأكراد وغيره من الحصون في فترات الهدوء التي دامت بين هجومين عظيمين: استعمل كرأس حربه مدة احتلاله بالصليبيين لإدخال الرعب في قلوب المسلمين، ثم كملجأ يلجأ إليه المقاتلة والفرسان بعد عودتهم من حملة موفقة ليستجموا ويستعيدوا قوتهم ليعودوا مرة أخرى إلى الغزو.
42 -
وقد بقى حصن الأكراد 130 عاماً وهو رأس حربة كما قلنا يهددون بها حمص وما حولها، ويحولون دون المسلمين والاتصال بالجهات التي تحت حكمهم في بعلبك والبلاد الأخرى. المجاورة لها.
43 -
ولما شعر المسلمون بأهمية هذا الموقع العسكري وأذاه في صفوفهم لجأوا إلى نور الدين الشهيد صاحب دمشق الذي جمع جنوده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ونزل تحت حصن الأكراد، فبينما هو في معسكره وفي وسط النهار، دهمته كتائب الفرنج من خلف الجبل القائم عليه الحصن، وأحاطت بالجيش الإسلامي وهو على غير أهبة فأعملت فيه السيف، وقد الإفرنج خيمة العادل نور الدين، فكاد أن يقع أسيراً لولا رباطة جأشه وسرعة خاطره إذ خرج من الباب الخلفي وركب فرساً للنوية، وكانت بقيدها الخلفي فنزل أحد أتباعه من الأكراد فحلها وقتل لساعته، ولولاه لوقع نور الدين في الأسر.
44 -
وفي هذه الحادثة بالذات يقول أبو الفرج عبيد الله ابن سعد الموصلي من قصيدة فائقة:
بنى الأصافر ما نلتم بمكركم
…
والمكر في كل إنسان أخو الفشل
وما رجعتم بأسرى خاب سعيكم
…
غير الأراذل والأتباع والسفل
هل آخذ الخيل قد أردى فوارسها
…
مثال آخذها في الشكل والطول
أم سالب الرمح مركوزاً كسالبه
…
والحرب دائرة من كف معتمل
وفيها يخاطب نور الدين:
لانكبت هتك الأقدار عن غرض
…
ولاتنت يدك الأيام عن أمل
45 -
وبرغم ما في القصيدة من محاولة الاعتذار أمام الهزيمة والفرار، فإن العملية الحربية الصليبية كانت ناجحة إذ تجلى فيها عنصر المفاجأة وظاهرة السرعة بدليل تتبع المنهزمين حتى حمص. والفضل للموقع الممتاز لحصن الأكراد، ذلك الموقع الذي أتعب المسلمين أكثر من قرن من الزمن كما قلنا.
46 -
ولدينا من قبيل هذا المقال الكثير من الهجمات والمتاعب التي سببتها حامية حصن الأكراد الصليبية لمدينتي حمص وحماة وغيرهما من بلاد المسلمين.
ففي عام 599 زحف الفرنج من حصن الأكراد إلى مدينة حماة فركب صاحبها وحاربهم في رمضان. وجاء في السلوك ضمن حوادث سنة 603 أن الملك العادل الأيوبي صاحب مصر خرج من مصر إلى العباسة ومنها إلى دمشق ثم برز إلى حمص، وذلك عقب الحملات المتتالية التي شنتها حامية حصن الأكراد وتعدد الغارات على كل من حمص
وحماة، ونازل الحصن وأسر خمسمائة رجل من أطرافه. ولقد نازله قبله صلاح الدين وغيره من ملوك المسلمين ولكنها كانت جميعاً حملات تعرضيه استكشافية، أو إذا شئت تأديبية ضد المقاتلين من جماعة الصليبيين المستحكمين في هذه القلعة ولم يعقبها حصار كامل الأهبة والاستعداد كما حدث بعد ذلك.
47 -
وقد بقى هذا الحصن قذى في أعين المسلمين يهدد بلادهم حتى تم فتحه في عام 668 هجرية على يد الملك الظاهر بيبرس سلطان مصر وصاحب الفتوحات وهو ما سنفرد له فقرة خاصة تأتي بعد ذلك.
48 -
وقبل أن يتم الفتح على يديه اتبع طريقة أسلافه، وهي الهجماب التعرضية السريعة لجس نبض الحامية واستنفارها للخروج من وراء الخنادق والأبراج؛ ففي هذا العام أي في 3 جمادس سنة 668 ركب الملك في مائتي فارس وأغار على أطراف الحصن ثم صعد إلى الرابية ومعه قدر أربعين من الفرسان فخرج عليه عدة من الفرنج ملبسين بالدروع فحمل عليهم وقاتلهم وتتبعهم حتى دخلوا الحصن. وتقول الراوية إنه صاح بهم ليدعوا رفقاءهم إلى الخروج، وأشار إلى عدد من معه وأنهم جميعاً بأقبية بيض أي غير مدرعين بالزرد والحديد.
وتشير الراوية إلى أنه عاد إلى مخيمه وأطلق الخيول في المروج الخضراء والمزارع التي كانت حول الحصن.
49 -
وكانت هذه آخر الحملات التأديبية إذ سقط الحصن بعدها في أيدي الملك الظاهر الذي بادر إلى ترميمه وإعادة إصلاح أبراجه وخنادقه واتخاذه نقطة ارتكاز لجيوشه في عملياته الحربية ضد الفرنج المحتلين لمقاطعة طرابلس، فأصبح حصن الأكراد رأس حربة موجها إلى الغرب بعد أن كان موجها إلى الشرق أي إلى قلب الأراضي الإسلامية.
50 -
ولهذا الوضع أمثلة في الحروب الحديثة فإن الزائرين لمنطقة جبال الكارسو في شمال إيطاليا لابد عاينوا الحصون الكائنة في جهة سان ميشيل وسابوتينو حيث لا تزال أماكن المدفعية التي استعملها النمسيون وأماكن تلك التي استعملها الإيطاليون بعدهم ظاهرة.
51 -
وتحدثنا الراوية بالتفصيل عن بعض ما قام به الملك الظاهر فقد أمضى أياماً في الصيد، وكان يصنع السهام بيده وبريش النشاب، وكان يحضر العمارة بنفسه ويشحذ همم
العمال ويشجعهم بل كان يشمر وينقل الحجارة على كتفيه، وكان ينزل في الخندق ويحفر بيديه. ولما أتم العمارة وأعاد تركيب المنجنيقات أمر بتجربتها أمامه ليعرف أماكن سقوط حجارتها ومدى إصابتها للأهداف.
52 -
وتنتظم الحياة مرة أخرى بحصن الأكراد إذ تولى القيادة فيه الامير حسام الدين قيماز الذي مر ذكره: وأطلق عليه اسم نائب حصن الأكراد والسواحل والفتوحات على رأس حامية مؤلفة من 500 جندي وعشرة امراء طبلخانة و 15 أمير عشرة
53 -
وبمقارنة هذه الحامية تظهر أنها أقل مما كان يحتل الحصن من جنود الصليبيين إذ كانت تتراوح بين 2000 و 3 آلاف وهؤلاء يدخل بينهم الخدم والزراع وطوائف من أهل البلاد.
54 -
وبعد حسام الدين قيماز تعين سيف الدين بلبنان الطباخي ثم الأمير علم الدين سنجر الداواداري. ويوسع المهتمون بالتاريخ المصري استكمال هذا الكشف حتى يكون مكملا للكشف الذي ضم أسماء من تولوا القيادة بالحصن أيام الاحتلال الصليبي.
55 -
انتهى الحصن في عهد المنصور قلاوون إلى أن أصبح مركز تجمع الجيوش التي حشدت هناك للزحف على مقاطعة طرابلس، وكان الطباخي يقود الحامية من البرج الذي كان يحتله عميد الاستبار، ويبعث بطلائعه لاكتشاف الأماكن التي نزلها الجنود قبل حصار طرابلس.
56 -
وفي عهد الملك الأشرف خليل بن قلاوون اشتركت الحامية في أعمال الحصار الرائعة حول مدينة عكا وقد قامت ومعها المجانيق التي ركبها الملك الظاهر ومن بينها منجنيق هائل أطلق عليه اسم المنصوري.
57 -
أتينا بصورة من الحياة والقتال في الحصن في العهدين الصليبي والإسلامي لكي تسهل المقارنة وتركنا فتح الحصن على أيدي المسلمين جانباً حتى لا يكون فاصلا يضيع المقارنة بين العملين.
58 -
فقد أشرنا إلى عملية قام بها الملك الظاهر تشبه الهجمات التي اعتادها ملوك المسلمين وأمراؤهم ولم يكن يرمي من ورائها إلى هدف معين. وسنرى في حملته على حصن الأكراد كيف يلجأ إلى أساليب المفاجأة والسرعة وتضليل الخصم.
59 -
ففي السنة التي أتم فيها الملك الظاهر إنشاء الجسر والقناطر القائمة بقرب شبرا، قرر فتح حصن الأكراد الذي استعصى على غيره من الملوك والأمراء.
60 -
وإليك برنامج السفر: غادر القاهرة في 18 جمادي الآخرة، وصل دمشق الخميس 18 رجب، وفي المدة السابقة لوصوله أي بين 18 جمادي و 18 رجب أشغل العدو إذ ابتدأت الحملات الخاطفة ضد قلاع الصليبيين في:
جبلة. وسقطت حصون اللاذقية. صافيتا. المرقب. المجدل. القليعات. طرطوس:
61 -
في يوم 19 رجب الموافق 3 مارس سنة 1267 تجمعت قوات الملك الظاهر أمام حصن الأكراد.
ونلاحظ في هذه الأعمال اختفاء الهدف الرئيسي حتى اللحظة الأخيرة.
62 -
جاء إليه ابنه الملك السعيد والأمير بيليك الخازندار وبمجرد وصولهما بدأت أعمال الحصار: إذ أخذت الجنود في نصب المجانيق وعمل الستائر لحماية الرماة.
63 -
اقتحمت الأسوار الثلاثة على التوالي عنوة ما عدا البرج الأخير الذي استحكم فيه فرسان الاسبتار حتى آخر مراحل الحصار.
64 -
في 7 شعبان سقطت الباشورة الثانية التي تؤدي إلى الحصن الداخلي، ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه الجبلية والمزارعين ثم أطلقوهم.
65 -
وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من شعبان طلبت الحامية الأمان فأمنهم الظاهر وتسلم البرج الأخير فدخله وكتبت البشائر وترتب أرباب الوظائف بالحصن من جهة المملكة المصرية أي النواب والقضاة وبقى بيد مصر حتى دخول السلطان سليم ديار الشام، فزال ملك مصر عنها كما زال عن غيرها من البلاد.
66 -
هذا هو حصن الأكراد الذي توجهنا لزيارته ومررنا بأقسامه، ووقفنا أمام أبراجه، وفيها أبراج بناها المنصور قلاوون، ولا تزال الأسماء والآيات القرآنية كما كانت.
67 -
ودخلنا أماكن الخيول، وقد كشفت عنها البعثة الفرنسية فرأينا ما أدهشنا: أثر حوافر الخيل ومواضع ربطها والحديد الذي كانت تشكل به. لقد كان الردم يغطي كل هذا، ولما أخرجته يد الإنسان من تحت التراب إذا به كما كان يوم تركه أصحابه منذ مئات السنين.
68 -
وكان للحصن آبار ومجار للمياه حينما كشف عنها وجدت أواني من النحاس من
عصر الملك الناصر محمد ورؤوس النبال والرماح.
وعدت من الحصن وقد غمرتني نفحة من تلك النفحات التي تؤذن بخروج الإنسان من طور ودخوله إلى طور جديد من أطوار الحياة: فقد تغيرت نظرتي إلى بعض الأشياء، وأخذت طريقاً لإشباع نفسي بتقليب صفحات الماضي الذي بدأت أحس بأننا قطعة منه.
69 -
وإذا بي أؤمن بأن تاريخ مصر والشام وحدة لا تتجزأ، وأن أية محاولة للفصل بينهما تؤدي بنا إلى نتائج معكوسة أي تقرير مبادئ سلبية يقصد أصحابها توزيع القوى والعزائم وتجريح الأمم وإنقاص الدور الذي ألقته علينا الأقدار وحمله لنا التاريخ كقوة مقاتلة منشئة منتصرة.
70 -
وها نحن نعيش في عصر طابعه السرعة والإقدام، والبناء والخلق والتجديد ومع هذا لا نزال نسير على خطوات وئيدة والزمن يعدو أمامنا: ذلك لأن عوامل التفكك والانحلال والسلبية لا تزال تعمل في صفوفنا وتعوقنا عن الأهداف الكبرى.
71 -
هل كان الذين انتصروا في هذه الحروب وقادوا الحملات وتغلبوا على الحوادث لهم نظرة خاصة ومنطق خاص حتى تغلبوا على قوات تفوقهم: وأحرزوا النصر، وأننا لا نستطيع أن تكون لنا مثل نظرتهم ومنطقهم ومثلهم العليا؟
إن الذين خاضوا هذه المعارك أظهروا نهاية ما يمكن من الإقدام حينما وجدوا القيادة الصالحة، فهل يجدها معاصرونا الآن؟ إن استمرار الكفاح والجهاد لمدة تقرب من قرنين لهو أظهر دليل على أن صفات الاستمرار والمداومة ثابتة في الصفوف بين الأمم الإسلامية، ولا نحتاج إلا لمن يظهرها ويحسن قيادتها وتوجيهها.
72 -
نحن لا نعيد الحروب الصليبية بمآسيها ومتاعبها وإن كانت تتكرر على مقربة منا في فلسطين ولكننا نقول: إننا في حاجة وقت السلم إلى صفات لا تقل عن الصفات التي تحتاجها الأمة وقت الحرب بل قد تزيد.
73 -
إننا في عصر يتطلب انتزاع النصر في السلم كما انتزعه أسلافنا في الحرب؛ وتحضير هذا يتطلب جمع القوى المشتتة وتنظيمها وتعبئتها، وهذا التنظيم نوع من الكفاح الدائم المستمر
74 -
إنه يتطلب نوعاً من الهدوء والثبات والتركيز، والأقدام وهي من قبيل الصفات التي
تمكن بها أسلافنا من انتزاع النصر في المعارك التي ذكرتها أو أشرت إليها في الكلام عن حصن الأكراد ولا أشك في أن هذه الصفات كامنة فينا وأؤمن أنها ستخرج من القريب كلي نحقق في السلم ما يرى الكثيرون أنه بعيد التحقيق وليس في طاقة شعوب الشرق أن تقوم به، ولكن وثبتها نحو تحقيق مثلها العليا ستجعل هذا الرأي حقيقة ماثلة للعالم أجمع.
أحمد رمزي
طرائف من العصر المملوكي:
أدب الحرب
للأستاذ محمود رزق سليم
ما أكثر امتلاء العصر المملوكي بالحروب الخارجية، وما كان أسرع ملوكه وأمراءه إلى تلبية ندائها كلما دعت، والاستجابة لها كلما أهابت. ومن يتضح تاريخ هذه الحقبة الفريدة من تاريخ مصر يجد أن جيشها كان يكافح عدوين لدودين طاغيين معتديين، هما التتار والفرنجة. ولم يكن في كفاحه متجنياً ولا معتدياً، وإنما كان يذود عن ممتلكات مصر وأرض المسلمين ومقدساتهم. فلم تكن حروبه حروب أطماع وأهواء، ولكن حروب دفاع ورد اعتداء. فهي حروب مشروعة لها سند من الدين والعقل والقانون.
أما التتار فكانوا في بداءة أمرهم وفي جملته، وثنيين جهلاء، وسفاكين للدماء. وما دفعهم من أقاصي بلادهم في آسيا، إلا حسب الفتح والاستعمار. وما أشبههم في العصر الحديث - لا بألمانيا وحدها - ولكن بكل دولة من تلك الدول الكبرى الفاغرة فاها للشرق وخيرات الشرق تبغي استلابها والتهامها، استلاب اللصوص والتهام القطاع. وكان يظن أنهم القوة لا تهزم، فكفكف المماليك غربهم، وفلوا سيوفهم، وردوهم داحرين على أعقابهم في جملة مواقع حاسمة قاصمة. وزالت بذلك خرافة قوتهم.
أما الفرنجة فقد حركتهم إذ ذاك أطماع استعمارية كذلك، وشنوا الحروب على سواحل البحر الأبيض الشرقية تحت ستار من المسيحية - والمسيحية الطاهرة منهم براء - وكانت هذه السواحل من شمال البلا الحلبية إلى الشامية إلى الفلسطينية في جملة ممتلكات مصر، يعيش فيها جميعاً شعب واحد متحد المشارب مجتمع الأهواء متجانس المقومات، له دينه ولغته وجنسه وتقاليده وله مشاعره المتشابهة ومصالحه المشتركة. فذاد عنها سلاطين مصر الأباة، عارفين للدين حرمته، وللوطن كرامته، ودافعوا عنها دفاع المستميت، لا ونى ولا وجل.
وإلى جانب ذلك كله كانت لهم حروب أخرى بعضها لتأديب أمير شق عصا الطاعة، أورد عدوان جار من جيرانهم، أو نحو ذلك. وأبدى كثير منهم سلاطين وأمراء وجنوداً ضروباً من الشجاعة خارقة.
وكانت هذه الحروب - في كثير من ظروفها - منشطة لشياطين الشعراء والأدباء، فتابعوا سيرها وتحولاتها، مستمنحين منها الوحي، مستشعرين الإلهام. فمدحوا الملوك والأمراء الذين أبدوا من ضروب الشجاعة والمهارة ما استحق التخليد، وكان لأعمالهم أثر مجيد في الانتصار. وحمسوا وفاخروا بما نال جيش مصر من الظفر، ووصفوا الوقائع وما حل بها من حوادث وما صاحبها من آلات القتال، كالرماح والسيوف والخيل واللامات، وسجلوا بذلك كله كثيراً من حوادث أجيالهم، وشاركوا العصر إلى حد ما في آلامه وأحلامه.
ولم يقصر الكتاب الناثرون عن إخوانهم الشعراء في هذا المضمار. فقد كان بمصر حينذاك ديوان من دواوين الدولة خاص بالكتابة وهو (ديوان الإنشاء) تصدر عنه الرسائل الرسمية الهامة. ويلي أمر الكتابة فيه حذاق المنشئين وبارعوهم. وكان في جملة الرسائل التي يعنون بكتابتها (البشارات) وهي أنواع، ومنها: البشارة بانتصارات الجيش على أعدائه، فيوصف فيها تحرك الجيش واستعداده للاشتباك في القتال وما يأتيه السلطان أو أعوانه من ضروب المغامرة والشجاعة، وما يصبونه على عدوهم من أهوال، وما يصيبونه بعد هذا من نصر وظفر، إلى غير ذلك. وكانت هذه الرسائل تكتب بعبارة أدبية طريفة مطولة يجري أسلوبها على الطريقة الفاضلية أو النباتية، يبدع فيها الكتاب ما شاء لهم الإبداع والفن الكتابي الذي يسلكون سبله. وتنشر هذه الرسائل على الناس أو تتلى في المجامع. فهي إلى حد ما شبيهة بما يكتبه مراسلو الصحف في أيامها، ممن يصحب الجيوش في تحركاتها. وذلك لما يسري فيها من روح أدبية ونزعة عاطفية. ومن هنا تفارق البلاغات الرسمية الحربية التي يذيعها أولو الشأن اليوم عن حركات الجيش في لطف وإيجاز. ولو استطعنا جمع هذه البشارات كلها لكان لنا منها سجل أدبي رائع عن حروب المماليك وانتصاراتهم.
وقد روى أن الظاهر بيبرس سلطان مصر غزا في الشام، واستطاع بجيشه المصري أن يقوع بالتتار ويذل الفرنجة ويفتح المدن المنية ويدك الحصون المستعصية. وقد شارك جنوده وعماله بيده في أداء أعمالهم، وأظهر خوارق من المغامرات. ولما فتح قيسارية - وكانت من قلاع الفرنجة ومدنهم الحصينة - كشف بلادها وقمَّم خراجها، وورع ذلك كله على أمراه الذين شاركوه في جهاده. وكتب بذلك (مكتوب جامع بالتمليك) وهو ضروب
آخر من الرسائل الرسمية. وقد جاء في مطالعة بعد الحمد والصلاة ما يلي في وصف الانتصار:
(إن خير النعمة نعمة وردت بعد الياس، وأقبلت على فترة من تخاذل املوك وتهاون الناس. فأكرم بها نعمة وصلت للأمة المحمدية أسباباً، وفتحت للفتوحات الإسلامية أبواباً. وهزمت من التتار والفرنج العدوين، وربطت من الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين. وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم في عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار. وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب إلى حلقات الإسار. ففرقة منهم تقتلع للفرنج قلاعاً وتهدم حصوناً، وفرقة تبنى ما هدم التتار بالمشرق وتعليه تحصيناً. وفرقة تتسلم بالحجاز قلاعاً شاهقة، وتتسم هضاباً سامقة، فهي بحمد الله البانية الهادمة، والقاسمة الراحمة. كل ذلك بمن أقامه الله وجرده سيفاً ففري، وحملت رياح النصرة ركابه تسخيراً فسار إلى مواطن الظفر وسرى. وكونته السعادة ملكا إذا رأته في دستها قالت تعظيما له ما هذا بشرا. . .) إلى آخر هذا المكتوب.
وقد نظم أديب عصره وشاعره محيي الدين بن عبد الظاهر، هذه الأبيات يصف فيها جنود مصر ومغامرات بيبرس في حرب التتار، فقال:
تجمع جيش الشرك من كل فرقة
…
وظنوا بأنا لا نطيق لهم غلبا
وجاءوا إلى شط الفرات وما دروا
…
بأن جياد الخيل تقطعه وثبا
وجاءت جنود الله في العدد التي
…
تميس لها الأبطال يوم الوغى عجبا
فعمنا بسد من حديد سباحةً
…
إليهم فما اسطاع العدو له نقبا
واعتقادنا أن هذه الأبيات بقايا قصيدة طويلة بارعة للقاضي محيي الدين، وهي تحدثنا في طلاقة ووضوح بما كان ثم من شجاعة بيبرس وجنوده. فإنه خاض نهر الفرات بنفسه للقاء التتار على شاطئه الآخر، فاندفع جنوده في إثره خائضين، فدحروا العدو وشتتوا شمله. وفي البيت الثالث يصف الشاعر الجنود بأنها جنود الله، وفي ذلك دلالة على عقيدتهم في أنهم إنما يخرجون للجهاد في سبيل الله وحماية دينه. وقد أبدع الشاعر في البيت الرابع إذ يقول (فعمنا بسد من حديد) كناية عما يلبسون من درع وعما يحملون من سلاح، وعمالهم من كثرة، وعما فيهم من جرأة. وهذه أهم أدوات النصر، وقد انتصروا فعلا، فإن العدو لم
يستطع لهذا السد العظيم نقباً، وفي العبارة الأخيرة شيء من الاقتباس وفيه إشعار بتشبيه سدهم هذا بسد ذي القرنين.
وقد نظم الشاعر بدر الدين يوسف بن المهمندار في نفس الواقعة أبياتاً بديعة دقيقة الوصف رائعة التصوير تنضح بالمجد وتوحي بالفخار وتسجل عظمة أولئك الأسلاف الصيد، والغضافر الصناديد: ومن هذه الأبيات قوله:
لو عاينت عيناك يوم نزالنا
…
والخيل تطفح في العجاج الأكدر
وقد اطلخم الأمر واحتدم الوغى
…
ووهى الجبان وساء ظن المجترى
لرأيت سدا من حديد ما يرى
…
فوق الفرات وفوقه نار تُرى
ومنها:
ورأيت سيل الخيل قد بلغ الزبى
…
ومن الفوارس أبحرا في أبحر
لما سبغنا أسهما طاشت لنا
…
منهم إلينا بالخيول الضمر
لم يفتحوا للرمي منهم أعيناً
…
حتى كحلن بكل لدن أسمر
فتسابقوا هربا ولكن ردَّهم
…
دون الهزيمة ريح كل غضنفر
وانظر حسن التعليل، أو توكيد المدح بما يشبه الذم، في قوله:
ما كان أجرى خيلنا في إثرهم
…
لو أنها برءوسهم لم تعثر
ومنها:
وجرت دماؤهم على وجه الثرى
…
حتى جرت منها مجاري الأنهر
والظاهر السلطان في آثارهم
…
يذري الرءوس بكل عضب أبتر
ذهب الغبار مع النجيع بصقله
…
فكأنه في غمده لم يشهر
ومن سلاطين مصر الأشراف خليل بن قلاوون، وقد حارب كذلك في بلاد الشام وفتح مدينة (عكا) الحصينة بعد أن رماها بالمنجنيق وهدم سورها وقلعتها. وكانت بيد الفرنجة. فمدحه القاضي شهاب الدين محمود الحلبي بقصيدة بائية في نحو خمسة وستين بيتاً. قال في مطلعها:
الحمد لله ذلت دولة الصلب
…
وعز بالترك دين المصطفى العربي
هذا الذي كانت الآمال لو طلبت
…
رؤياه في النوم لا ستحيت من الطلب
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها
…
في البحر للشرك عند البر من أرب
عقيلة ذهبت أيدي الخطوب بها
…
دهراً وشدت عليها كف مغتصب
لم يبق من بعدها للكفر مذ خربت
…
في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب
كانت تخيلنا آمالنا فنرى
…
أن التفكر فيها غاية العجب
أما الحروب فكم قد أنشأت فتنا
…
شاب الوليد بها هو لا ولم تشب
سوران بر وبحر حول ساحتها
…
دارا وأدناهما أنأى من العطب
مصفح بصفاح حولها أكم
…
من الرماح وأبراج من اليلب
مثل الغمائم تهدي من صواعقها
…
بالنبل أضعاف ما تهدي من السحب
كأنما كل برج حوله فلك
…
من المجانيق ترمي الأرض بالشهب
ففاجأتها جنود الله يقدمها
…
غضبان لله لا للملك والنشب
كم رامها ورماها قبله ملك
…
جم الجيوش فلم يظفر ولم يجب
لم ترض همته إلا الذي قعدت
…
للعجز عنه ملوك العجم والعرب
ثم أخذ الشاعر في مدح السلطان ثم وصف جيشه ووصف الحرب منوها بالأغراض المتوخاة منها، إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية.
وفي عام 691هـ فتح السلطان الأشرف خليل قلعة الروم، فهنأه شاعرة هذا وهو القاضي محمود الحلبي بقصيدة رائية على نمط القصيدة السالفة في الروعة ودقة الوصف وجمال التصوير ووضوح المعنى. وقد بدأها بوصف راية السلطان وهي صفراء اللون، فكان له من اصفرارها ممد جميل لوصفه قال:
لك الراية الصفراء يقدمها النصر
…
فمن كيقباذإن رآهاو كيخسرو
إذا خفقت في الأرض تهدي بنورها
…
هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر
وإن نشرت مثل الأصائل في وغى
…
جلا النقع من لألاء طلعتها البدر
وإن يممت زرق العدى سار تحتها
…
كتائب خضر تحتها البيض والسمر
كأن مثار النقع ليل وخفقها
…
بروق وأنت البدر والفلك والبحر
لها كل يوم أين سار لواؤها
…
هدية تقليد يقدمها الدهر
وفتح بدا في إثر فتح كأنما
…
سماء بدت تترى كواكبها الزهر
فكم وطئت طوعا وكرها معاقل
…
مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر
وكان الأديب ابن جحة الحموي من خلصان سلطان مصر الملك المؤيد شيخ المحمودي اتصل به قبل سلطنته أيام أن كان أميراً في بلاد الشام، وقدم إلى مصر بعد سلطنته أيام أن كان أميراً في بلاد الشام، وقدم إلى مصر بعد سلطنته وأقام في خدمته ردحا. وكان المؤيد قبل سلطنته قد وقعت فتن بينه وبين سلطان مصر حينذاك الناصر فرج بن برقوق. فانهزم فرج أمامه في ضيعة من ضياع الشام اسمها (اللجون) فكان ذلك مثاراً لشاعرية ابن حجة إذ مدح المؤيد وذكر المعركة ووصف ما دار فيها موفقا في كثير من أبياته. فقال يخاطب المؤيد:
يا حامي الحرمين والأقصى ومن
…
لولاه لم يسمر بمكة سامر
والله إن الله نحوك ناظر
…
هذا وما في العالمين مناظر
فرج على (اللجون) نظم عسكرا
…
وأطاعه في النظم بحر وافر
فأبنت منه زحافه في وقفة
…
يا من بأحوال الوقائع شاعر
وجميع هاتيك البغاة بأسرهم
…
دارت عليهم من سطاك دوائر
وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة
…
فكأن هاتيك السروج مقابر
ومنها:
وإذا مددت يراع رمحك ماله
…
إلا قلوب الدارعين محابر
ونعال خيلك كالعيون وما لها
…
إلا جماجم من قتلت محاجر
ويعتبر القتال بين السلطان فرج وأميره شيخ حربا أهلية إذ أن كليهما من رجال الطبقة الحاكمة المصرية حينذاك وما كان أكثر الحروب الأهلية ووقائعها في هذا العصر!
ويطول بنا المقال لو استرسلنا في الحديث. غير أننا نختتمه بأن نذكر أن الزجالين كانوا في عداد الأدباء عناية بذكر الوقائع ووصف الحروب، وأن الشعراء طرقوا في باب الوصف، السيوف والرماح ونحوها من آلات القتال، ومنهم من أخرج غزله مخرجاً حماسيا، فاستعار لأدواته وملابساته ما للحرب من أدوات وملابسات. - ومن لطيف ما يروى أن الأمير (الطنبغا الجوباني) الذي كان نائبا عن سلطان مصر في كفالة الشام، زمنا دعا فضلاء الأدباء لكي ينظموا أبياتا تكتب على أسنة الرماح، وعددها أربعة. فتبارى في
ذلك كثيرون. ومنهم فتح الدين ابن الشهيد فقال على لسان الرمح:
إذا الغبار علا في الجو عثيره
…
فأظلم الجو ما للشمس أنوار
هذا سناني نجم يستضاء به
…
كأنني علم في رأسه نار
والسيف إن نام ملء الجفن في علق
…
فإنني بارز للحرب خطار
إن الرماح لأغصان وليس لها
…
سوى النجوم على العيدان أزهار
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
زعيمان
للأستاذ محمود الخفيف
هما أحمد عرابي وإبراهام لنكولن، يجمع بينهما في مجال الزعامة أن كليهما كانت الحرية متصلة بطبعه، وأن كليهما اضطلع بقضية كبرى في قومه خلد بها اسمه، ويجمع بينهما في هذا المقال وفي مقال في العدد السالف من الرسالة (الرسالة) بنفس العنوان ما تفضل به من حديث عنهما، أو بالأحرى عن كتابيَّ فيهما، الناقد الكبير الأستاذ العقاد.
ولقد أثار ما كتب الأستاذ الجليل أعظم اهتمامي، فإني لأنزله من نفسي منزلة الأستاذ، تلك المنزله التي ينزله إياها بالحق جمهور القارئين في العالم العربي، وأحرص على الإفادة من كل ما يكتب في الأدب، فكيف إذا كان ما يكتب متصلا بكتابين أخرجتهما؟
على أن اهتمامي بما قال عن الزعيمين كان أعظم مما ذكره متفضلا عن الكتابين، وللأستاذ الكبير عظيم شكري على ما تفضل به عليَّ من ثناء أرجو أن أظل له عاملا.
وإن الحديث عن هذين الرجلين لفرصة يجب ألا تفوت، فقد أردت بكتابي عن أولهما الدفاع عنه لاعتقادي أنه ظلم، وأن ظلمه مما يشين هذا الجيل الذي أصاب حظاً غير قليل من الثقافة؛ وأردت بكتابي عن ثانيهما أن أجعل منه، وهو الشخصية العالمية المحبوبة، قدوة لشبابنا، ومثلا لسادتنا وكبرائنا. . . وإن الشباب والكهول في كل أمة متمدنة ليقرأون عشرات الكتب في سيرته ويجدون فيه للعصامية المثل الأعلى!
أما عن عرابي، فحسبي مما بلغت بدفاعي عنه أن أقول في غير زهو أو فخر: أنه ما من قارئ لكتابي حدثني عنه إلا آمن لي، ورأى في عرابي ما كان من قبل ينكره أو يأخذه في كثير من الشك والتردد، وهو أنه زعيم قومي مخلص لعقيدته فذ في وطنيته؛ وحسب عرابي أن يشهد له بالإخلاص والوطنية من زعماء الكتاب في جيلنا هذا أستاذنا الجليل صاحب (الرسالة)، الذي شرفني فجعل عملي في الدفاع عن عرابي عمل إميل زولا في الدفاع عن دريفوس، ثم أستاذنا الكبير العقاد الذي نفى عن عرابي في كلمته الأخيرة ما اتهمه به المفترون طلماً والجاهلون، والذي تفضل فقال عن كتابي:(إنه يعد في بابه قليل النظير).
ومما أطيب به نفساً أن أجد رأي الناس عن عرابي قد أخذ يتغير، فالصحف والمجلات
تتحدث عنه اليوم على أنه زعيمنا الأول، ويشيع فيما تكتب عنه كثير من التحمس له، والمثقفون في ندواتهم يذكرونه بالخير ويأسفون على ما لحقه فيما سلف من ظلم؛ فإذا كان مرد هذا أو بعضه إلى ذلك الدفاع الذي دافعت به عنه، فأي اغتباط ذلك الذي تشعر به نفسي، ومعاذ الله أن أقصد بهذا إلى شيء من الفخر، وإنما هو شعور الراحة في نفس من يوقن أنه أنصف رجلا قضى نحبه مظلوماً وقد أحسن إلى بلاده، وأنه أول من تصدى إلى هذا الإنصاف. وليغفر لي القارئ ما قد يجده في كلامي هذا مما يشبه الزهو.
وأما عن لنكولن، فقد أخذ الكتاب الكبير على كتابي مآخذ قرأتها في كثير من الترحيب والاطمئنان، فالعقاد من يصدر في النقد عن أستاذية توجب هذا الاطمئنان، وتوجب معه الاهتمام والحرص على الانتفاع من جانب كل مؤلف وإن علا كعبه في التأليف؛ مقام المبتدئ؛ غير أني أحسن في بعض ما ذكر الناقد الفاضل ما لا ترتاح إليه نفسي، وأؤكد للأستاذ الكبير أن أذكر ذلك عن إخلاص وصدق رغبة في الفهم والتعلم، وهي على أية حال فرصة طيبة لأسمعه رأيي لعله يتفضل بإرشادي إلى موضع الخطأ فيما أقول، وفرصة طيبة للحديث عن لنكولن لعل في الحديث عنه ما فيه للقارئ بعض الفائدة. . .
أخذ الأستاذ على كتابي (أنه ليس فيه تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه)؛ وهذا الذي يأخذه على الأستاذ حق لا مرية فيه، ولكن كيف السبيل إلى معرفة هؤلاء الأسلاف؟ هذا هو موضع التسأول بيني وبين الأستاذ الجليل.
لقد عرف لنكولن أول ما عرف نجاراً ابن نجار أمي، وولد في كوخ وسط الأحراش والأدغال البرية بعيداً عن الدنيا الحضارة، ولم يحدثه أبوه عن أسلافه إلا قليلا، ومرد ذلك إلى بيئته وجهله، وكان حديث أمه أقل لما أحاط بسيرتها من ملابسات ذكرتها بموضعها في الكتاب، نقلا عن لنكولن، إذ أفضى بها ذات مرة إلى صديقه هرندن ولم يعد إليها أبداً، حتى لقد كانت إذاعتها على لسان صديقه مثار جدل وضجة في الولايات المتحدة كلها.
ولم يتحدث لنكولن نفسه عن أسلافه إلا قليلا، لأنه لم يكن يعرف عنهم إلا القليل؛ ولقد كان يقتضب الحديث عنهم اقتضاباً كأنه يكرهه، بينما يفيض إذا تحدث عن نشأته في بيئته الأولى.
لهذا حار كتاب حياته في معرفة أسلافه، وتحت يدي أكثر من عشر تراجم له ومن بينها
كتاب إميل لدوج الذي عرف باستيعابه كل شيء، وأهم منه كتاب صديقه وزميله في المحاماة هرندن الذي كان أعلم الناس به، وهو الذي اعتمد عليه لدوج وغيره، وهؤلاء جميعاً لم يذكروا عن أسلافه إلا قليل وما لهم في ذلك حيلة. . .
افتتح هرندن الفصل الأول من كتابه بقوله: (لم يكن لدى مستر لنكولن عادة ما يقوله إذا تحدث عن نفسه وعن آبائه وتاريخ أسرته قبل مجيئهم إلى إنديانا أكثر من تلك الحقيقة، وهي أنه ولد في الثاني عشر من فبراير سنة 1809 في ناحية هاردن بكفطكي؛ وكان إذا تحدث عن هذا الموضوع، وقليلا ما تحدث، يفعل ذلك في كثير من التردد والتحفظ)؛ وأورد هرندن بعد ذلك بقليل قول لنكولن لأحد أصدقائه فيما بعد، وكان يسعى لكتابة تاريخ حياته:(لماذا تعني نفسك يا صاحبي سكربس؟ إنه لمن أكبر الحمق أن تحاول أن تجد شيئاً ذا بال في شخصي وفي حياتي الأولى. إنك لتستطيع أن تحصرها في جملة، وتجد هذه الجملة في مرثية جراي وهي (سيرة الفقراء القصيرة البسيطة)
وأنا أرجو من أستاذنا العقاد، وهو أطول مني باعاً وأكثر اطلاعاً، أن يرشدني إلى ما أقف منه على أسلاف لنكولن؛ وإني لشديد الحرص على إرشاده، ذلك أن الأستاذ الجليل قد عقب على ذلك الذي أخذه عليَّ مما يتصل بأولئك الأسلاف بقوله:(ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات)؛ ولقد تشعر هذه العبارة من لم يقرأ كتابي بأني لم أهتم بنشأته وارتقائه إلى رياسة الجمهورية، والواقع أن نشأته وارتقاءه إلى رياسة الجمهورية استغرق من هذا الكتاب الذي يقع في خمسين وثلاثمائة صفحة كبيرة نحو ثلثيه، فقد تحدثت حديثاً طويلا عن حياته وهو صبي في الغابة، ثم وصفت أخلاقه شاباً يعمل في حانوت، وقد خرج من الغابة، ويعمل في البريد، وفي تخطيط الأرض، ثم انتقلت الى اشتغاله بالمحاماة، والى تدخله في السياسة، واختياره عضواً في الكونجرس، وما زلت أتتبع في تفصيل ارتقاءه في المحاماة والسياسة، واهتمامه بمسألة الرق، وردوده على خصومه، وما كان من الأحوال السياسية المحيطة به ليفهم سيرته حق الفهم من لا يلم بتاريخ الولايات المتحدة، حتى بلغت ترشيحه للرياسة، فبينت في إسهاب كيف رشح، ومن نافسه، وما قيمة منافسيه، ثم شرحت المعركة الانتخابية في استيعاب لا أذكر له نظيراً في
كتاب واحد مما قرأت، وأخيراً بلغت بسيرته ارتقاءه للرياسة، وأعتقد أني وضحت ذلك جميعاً مع جهلي بتاريخ أسلافه، ذلك الجهل الذي لم تكن لي ولا لغيري فيه حيلة. . .
وثمة مسألة أخرى أخاصم ناقدي الكبير فيها خصاماً شديداً، وهي أنه ذكر عن كتابي أنه (ليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رياسة الجمهورية)؛ وليسمح لي الأستاذ الكبير أن أقول له - وهو العليم الذي لا يُعلَّم - أن المصادفات إذا كان لها شأن في حياة بعض العظماء، فإن لنكولن أحد من تخلو حياتهم من المصادفات خلواً تاماً. ولعله أوضح مثل في هذا الصدد، وإلا فأي عصامية أقوى من عصاميته؟ وما عمل المصادفات في حياة نجار ابن نجار شق طريقه في الحياة كما كان يشق طريقه بين أحراش الغابة، فقيراً لا جاه له ولا نسب يعتمد عليه، ومازال يتكئ على نفسه حتى أصبح رئيس الولايات المتحدة؟ كلا، ليس للمصادفات دخل في حياة لنكولن، بل لقد كان تعترض له أشد الصعاب، وقد كان يخفق مرات فيما يسعى إليه، ولقد نافسه في حزبه خصوم شداد، وكاد يتغلب عليه سيوارد أقوى خصومه، فيظفر بأغلبية المؤتمرين من الحزب الجمهوري الذين أرادوا ترشيح رجل من الحزب للرياسة؛ ولقد كان هو ينتظر الفشل ويتحدث به إلى هرندن؛ وإذا كانت المسألة مسألة اختيار يقوم على الموازنة والخصومة، فأي دخل في ذلك للمصادفة التي تقوم على الحظ؟ ذلك - كما أسلفت - ما أخاصم فيه ناقدي الفاضل، وكنت أحب أن يضرب مثلا لأثر المصادفة في حياة لنكولن. والحق اني حرت في قوله (وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح). ولكم يسرني ويسر قراء الأستاذ الكبير أن يصرب لنا بعض الأمثلة لما يذكر.
وذكر الأستاذ الفاضل عن الكتاب قوله: (وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه (؛ والحق أنها جريمة غير محددة الدوافع أشبه بجريمة أبي لؤلؤة في ضيق نطاقها المعلوم. وأما بطل الجريمة فلم يذكر شيئاً، ولم يصل القصاص فيها إلا إلى ثلاثة أشخاص من شركائه؛ وخير ما يقال عن ذلك القاتل ما ذكره الأستاذ العقاد نفسه حين يقول: (وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية، ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا
المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق). . . وأظن أنه لا محل بعد هذا لأن يؤخذ على الكتاب أن (ليس فيه تعليق على مقتله ولا عن المتآمرين عليه) فضلا عما أوجبه الأستاذ من اهتمام خاص بحقائق مصرعه فيما أوجب من أمور ذكر أن العبرة من تاريخه لا تتم إلا بها.
بقيت مسألة واحدة، وهي أن الأستاذ الجليل يرى أني - كما يبدو لأول وهلة من كتابي - موفق في تحقيق معلوماتي ووزن أبطالي، إلا أني حين أحتاج إلى الميزان المشترك بين أبطال متعددين أضطرب في الميزان بعض الاضطراب، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكني لا أستطيع الجزم بصحته كما لا أستطيع الجزم بنفيه؛ وذلك لأني لست أذكر أني عنيت بالميزان المشترك، فقد كنت أصف كل شخص وحده، ولم أصدر حكما على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره، ولهذا لم تتضح في ذهني عبارة الأستاذ الناقد:(ومن أمثلة ذلك في تاريخ لنكولن أن كلامه عن بطله صحيح، وأن كلامه عن دوجلاس مزاحمه صحيح، ولكنه إذا عرض الرجلين على الميزان المشترك لم يبلغ من الدقة ما يبلغه من وزن كل منهما على انفراد).
وبعد، فإني أعود فأقدم للأستاذ الجليل عظيم شكري على فضله، وأعبر له عن بالغ سروري واهتمامي بنقده، وشديد حرصي على الإفادة من إرشاده ونصحه، فذلك دأبي معه في كل ما أقرأ له منذ نشأتي. . .
الخفيف
مزامير:
أين راحت؟
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
- 1 -
(إلى واهبة الضحي السمراء في أغلالها الجديدة. . .)
لم أكد أسبح في وادي شذاها
وأذل المطر من عاتي ذراها
وأصيد السحر، لو كانت رباها
هاجعات بين ألفاف الأبد
كل ظل حول جنبيها رصد. .
لم أكد. . والكأس في كفي صاد
وعلى أغصانها الخمر تنادي
حانة فيها. . . وأخرى في فؤادي
أقبلي. . . والكأس كادت تتقد
وممدت الكف. . لكن لم أكد
لم أكد. . والنهر نشوان الضفاف
وخطا الزورق أرست بالمطاف
والهوى ما بين عب وارتشاف
حائر السكرة عات مستبد
وهي بركان توارى في جسد
لم أكد. . حتى تلفت إليها
فإذا النار صلاة في يديها
وإذا وعد هفا من حاجبيها
فأرقت الكأس إيماناً بغد
وارتقبت الوعد. . . لكن لم تعد!!
محمود حسن اسماعيل
الأدب والفنّ في أسبُوع
لماذا خاضت مصر معركة فلسطين؟
كان هذا عنوان الحديث الذي ألقاه بالإذاعة معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات، ولم يكن هذا الحديث كالذي عهدناه من الوزراء والسياسيين الذين تحكمهم الرسمية والدبلوماسية، ولم يكن حديث رجل فارق الشباب، إنما كان حديث (شاب) مصري عربي، استشعر مصريته وعروبته، وواتاه البيان العربي، فراح يتدفق في حماس وقوة، ولم يقف في الحق عند حد، بل كان صريحاً جريئاً لاذعاً. حمل على الولايات المتحدة حملة شعواء، إذ قال: إننا دخلنا الحرب مضطرين بسبب المعاملة الجائرة التي عاملتنا بها هيئة الأمم والولايات المتحدة على الخصوص، وهي التي كانت في أثناء الحرب تنادي بالمبادئ السامية، فأصبحت تزود عن المطامع الصهيونية. وليس هناك ظل من الشك في أنها ضغطت على الدول لتحصل على أغلبية تقول بالتقسيم، وقد اعترف ممثلو تلك الدول بذلك وأعلنوه. وندد معاليه بموقف الرئيس ترومان قائلا: إن موقفه يدعو للعجب والدهشة، فهو في سبيل عدد ضئيل من الصهيونيين لا يبلغ نصف مليون من المشردين والأفاقين والمرتزقين من حثالة الشعوب لفظتهم بلادهم فانهالوا على فلسطين من كل فج لا على أساس من الجنسية أو اللغة أو أي مقوم من مقومات الشعوب، بل على أساس الدين وحده - في سبيل هذه الحثالة يمزق الرئيس ترومان ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ويعبث بالمبادئ التي أعلنها العالم بأسره ممثلا في تلك الهيئة من احترام الحريات وحقوق الشعوب والمساواة بين الأمم؛ ومن أجل هذه الحثالة الشريرة المحتالة يقف الرئيس ترومان إلى جانب ويزمان زعيم الصهيونية، فينزله في البيت الأبيض، ويحمله على الظهور بجانبه في صورة فوتغرافية وهو يقبل منه التوراة هدية، وفي صورة أخرى وهو إلى جانبه يحتضن شارة العصابة الصهيونية متلعفاً بها فخوراً رغم أنف العدالة الدولية. من أجل هذه الحثالة يعرض بلاده لعداوة ثلثمائة مليون من المسلمين في أنحاء الأرض - الرئيس ترومان المحب الواله والصب المدنف والمغرم المدله المشغوف بالصهيونية!
ثم قال معاليه: دخلت مصر الحرب مكرهة، لأنها لم تجد عدلا لدى هيئة الأمم، فاعتقدت أن العدل لن يكون إلا إذا دعمه السلاح. دخلت مصر الحرب دفاعاً عن فلسطين وعن نفسها،
فإن قيام دولة صهيونية تتاخمها فيه القضاء عليها من كل وجهة، وقد اكتشفنا بعد التوغل في فلسطين أننا كنا نعيش على فوهة بركان، لأن استعداد الصهيونيين بمصر، وضبط العدد الهائل من الجهازات اللاسلكية والمدافع والبنادق والخرط الدقيقة وقوائم الاكتتابات، مما يدعو للأسف والدهشة ويضعف حجتي في إقناع الكثيرين بوجوب التفرقة بين اليهود والصهيونيين. دخلت مصر الحرب - كما قال صديقنا فوزي بك في مجلس الأمن - لأن النار اشتعلت في دار جارنا، فوجب علينا أن نطفئها. وكان من حقه أن يقول بأن النار اشتعلت في بيتنا، لأننا والجار نسكن بيتاً واحداً. دخلناها تضامناً مع البلاد العربية الشقيقة المحبوبة، التي عاهدناها على أن نكون يداً واحدة، إذا هددنا خطر وقفنا ندافع عن حياتنا ونذب عن كياننا، والعالم بأسره يتطلع إلينا، فلا يحسبنا بعد الآن كمية مهملة ولقي لا يساوي قلامة!!
العالم يطل على مصر
يتحدث الأستاذ محمد رفعت بك في الإذاعة عن شئون عالمية تتصل بمصر، وكان يسمى سلسلة أحاديثه (مصر تطل على العالم) فلما شغلت مصر بال العالم منذ دخت جيوشها فلسطين للقضاء على الصهيونية، أطلق على تلك الأحاديث (العالم يطل على مصر) وفي هذا الأسبوع تحدث عن المسألة الفلسطينية فتناول عدة نقط هامة، منها أن الغرب لما هاله انتصار الشرق، أراد أن يقاومه بالدبلوماسية، فلجأ إلى مسألة الهدنة، وهو ليس مخلصاً في ذلك وإنما يريد أن يحمي الصهيونية من بطش العرب، في الوقت الذي يغض فيه عن أعمال الهولنديين بأندونسيا، وهو ينتصر للعصابات الإرهابية في فلسطين في الوقت الذي يساعد فيه على العصابات الشيوعية في اليونان. وقال الأستاذ: إن ما كان مجلس الأمن قرره من وقف القتال بأندونسيا لم يحسم الموقف هناك بل صارت الحال أسوأ مما كانت لاستمرار حرب العصابات، مما يدل على أن القتال لا ينتهي بوقف الحرب بين الجيوش النظامية مادامت أسبابها قائمة.
ومن النقط التي تناولها رفعت بك، أن العرب حينما يستجيبون لطلب الهدنة إنما يستجيبون لنداء الإنسانية والشرف الدولي؛ ولا يفيدهم وقف القتال ما دامت شروط الهدنة تنص على احتفاظهم بمراكزهم، لأنهم قابضون على معظم المراكز الهامة في فلسطين وخاصة أنهم
الآن يطوقون تل أبيب وكر الصهيونيين ومقر حكومتهم المزعومة. وقال إن اليهود إن أخلوا بشرط من شروط الهدنة فللعرب أن يستأنفوا القتال كما تنص على ذلك القوانين الدولية.
أعمال المجمع اللغوي:
أرسل مجموع فؤاد الأول للغة العربية إلى إدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، بياناً شاملا بمثابة تعريف بالمجمع بناء على طلب الإدارة لتضمينه السجل الثقافي لسنة 1948 الذي تعمل الآن في إعداده.
ومما تضمنه ذلك البيان موجز عن أعمال المجمع منذ إنشائه إلى الآن، ونوجز هذا الموجز فيما يلي:
1 -
اتخذ المجمع طائفة من القرارات العملية واللغوية في قياسية الصيغ والتعريب والاشتقاق والتضمين ونحو ذلك، لتوسيع آفاق العربية والعون على أداء الأغراض العلمية والفنية التي جاءت بها الحضارة الحديثة.
2 -
وجه المجمع أكبر همه إلى المصطلحات العلمية والفنية ولاسيما ما يدخل في التعليم الثانوي، فاستخرج طوائف منها في علوم الأحياء والرياضة والطبيعة والموسيقى والطباعة والتصوير والكهرباء واللاسلكي وتاريخ القرون الوسطى والمغنطيسية وغير ذلك، وتبلغ هذه المصطلحات نحوا من عشرة آلاف مصطلح، وقد دخل كثير منها في كتب التعليم وفي قوانين بعض الأمم العربية والثقافية العامة.
3 -
وضع المجمع نظما ثابتة لتعريب الأعلام الأجنبية للممالك والبلدان، حتى يزول الاضطراب في كتابتها أو النطق بها، واستحدث رقوما وعلامات تلحق بالحروف العربية ليمكن النطق بالعلم الأجنبي على وجه الدقة، وأصدر قائمة بأعلام بلاد السودان والحبشة والصومال وشمال إفريقية وغرب آسيا على وجهها الصحيح
4 -
عنى المجمع بمشكلة الكتابة العربية قصداً إلى وضع نظام يكفل أن تؤدي الحروف إلى نطق الكلمة نطقاً سديداً، وقد أرصد جائزة مقدارها ألف جنيه لمن يقدم له أحسن اقتراح في تيسير الكتابة العربية، وقد تلقى المجمع في هذه المسابقة أكثر من مائتي مقترح، وما تزال قيد النظر.
5 -
عنى المجمع بمشكلة القواعد ومناهجها في التعليم رغبة في التيسير على الناشئين، وقد درس مشروعاً لهذا التيسير على أساس المشروع الذي وضعته لجنة ألفتها وزارة المعارف من قبل لهذا الغرض، وبعثت به إلى وزارة المعارف لوضع كتاب على أساسه، وفي هذا العام قرر المجمع أن تضع لجنة فنية هذا الكتاب.
6 -
قرر المجمع تأليف معجم لغوي لأوساط المثقفين يجري في ترتيبه وتنسيقه على أحدث الأساليب العصرية، على أن يتضمن إلى الألفاظ العربية أشهر الكلمات المستحدثة، وتوضح أعلام الحيوان والنبات بالصور والرسم، وقد أنجز معظم هذا المعجم.
7 -
قرر المجمع الشروع في وضع المعجم اللغوي الكبير الحاوي لألفاظ اللغة العربية واستعمالاتها مع التوسع في اختلاف المعاني وأصول الكلمات.
8 -
قرر المجمع أن يؤلف معجما لألفاظ القرآن يراد به أن يعين المثقفين على أن يتزودوا من ألفاظ القرآن الكريم وتعابيره.
9 -
يقوم المجمع بالإجابة عما توجهه إليه شتى المصالح الحكومية وطوائف العلماء والمؤلفين، لترجمة ما يحتاجون إليه من المصطلحات وما يرغبون في تصحيحه من الألفاظ.
10 -
قرر المجمع طبع معجم الدكتور فيشر أحد أعضائه، وهو معجم لغوي تاريخي يعتمد على النصوص الأدبية القديمة، وقد توقف العمل في هذا المعجم لانقطاع الدكتور فيشر عن مصر بسبب الحرب.
11 -
قرر المجمع جمع ألفاظ الحضارة الحديثة والحياة العامة قصداً إلى العمل على التقريب بين الفصحى وبين لغة الحياة الاجتماعية.
12 -
عنى المجمع بتشجيع الإنتاج الأدبي الحديث، وذلك يعقد مسابقات أرصد لها ثمانمائة جنيه سنويا في ميزانية المجمع.
13 -
نشر المجمع أربعة أجزاء من مجلته، وقريباً يصدر العدد الخامس من المجلة مشتملا على القسم الرسمي في الدورات التي لم تتضمنها الأعداد السابقة
تعدد المجامع في البلاد العربية:
ومما تضمنه البيان السابق أغراض المجمع، وأهمها أن يحافظ على سلامة اللغة العربية،
وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر.
وقد أتيت في عدد مضى من الرسالة على أغراض المجمع العلمي العراقي الذي أنشئ في أوائل هذا العام، وأهم أغراض هذا المجمع المحافظة على سلامة اللغة العربية والعمل على جعلها وافية بمطالب العلوم والفنون وشئون الحياة الحاضرة. وفي سورية، من زمن المجمع العلمي العربي، وهو يتفق مع مجمعي مصر والعراق في الغاية التي يعمل لها، فالثلاثة مجامع لغوية عربية أهم ما تعني به سلامة اللغة ومسايرتها للحياة العصرية، وهذا يقتضي بطبيعة الحال وضع ألفاظ ومصطلحات، وقد يضع أحدها لفظاً لشيء غير الذي يضعه الآخر لنفس الشيء، بل لابد أن يحدث هذا. ونتيجة ذلك اختلاف البلاد العربية ذات اللغة الواحدة في بعض كلمات هذه اللغة ومصطلحاتها، بل إن هذا الاختلاف واقع فعلا فلم لا تتجمع هذه المجامع في مجمع واحد تكون له صفة (العالمية العربية) ويكون من عمله توحيد ما تختلف فيه البلاد العربية من أسماء لمسميات حديثة، وتوحيد المنهج في العمل لتحقيق الأغراض اللغوية والأدبية والثقافية التي تتصل بمهمة هذه المجامع ويكون المجمع المنشود فوق كل ذلك صرحاً من صروح الوحدة العربية التي أصبحت حقيقة واقعة. وبدل أن يكون كل مجمع من المجامع الحالية مرتبطاً بحكومته المحلية، يصبح المجمع الموحد مرتبطاً بجامعة الدول العربية.
هدف لغوي:
في إحدى ليالي هذا الأسبوع سمعت متحدثاً بالمذياع أثار انتباهي بطريقة إلقائهن والعناية بإعراب الكلمات، وإخراج الحروف من مخارجها، ومراعاة قواعد الوقف والوصل، وتعطيش الجيم، وما إلى ذلك. ولم يكن الحديث في اللغة ولا في الأدب، فالإذاعة لا تذيع في اللغة، والأدب فيها قليل. . على أن أحاديث الأدب لا تظفر بمثل هذه العناية التي يبذلها محدثنا، وإنما كان الحديث في السياسة، ولهذا كان انتباهي وعجبي. وقد زاد هذا العجب عندما انتهى المتحدث وقال المذيع: سمعتم الدكتور فلان بك. لأن الرجل ليس من أهل ذلك. . ولم يعهده أحد من قبل على مثل هذه الحال من إخراج القاف من أقصى الحلق، وقضم همزة الوصل، وملء الشدقين باللفظ، وتنعيم حرف اللين الأخير. .
ومن قبل ذلك سمعت الرجل بأحد النوادي يقلي محاضرة يخيل إلى أنه اختار عنوانها كلمة معينة، ليذكر جهادة في أنه أول من اهتدى إلى استعمالها في مدلولها الحديث، ولكن أسلوبه في هذه المحاضرة كان على عهد الأول، ولم يكن قد بلغ هذا الطور الذي بدا في إذاعته الأخيرة.
قل لي هكذا! كدت أصبح بهذه الكلمة عندما سمعت اسم صاحبنا يتردد في أثناء الحديث عن شغل الكرسي الذي خلا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية بوفاة أنطوان الجميل باشا.
ومن أعمال المجمع ذات الأثر الحميد أنه قرر تأجيل شغل هذا الكرسي متجهة نيته إلى شغله في العام القادم. وأثر هذا القرار المفيد ظاهر في صالح اللغة العربية كما رأيت على لسان المتحدث الفاضل، ومن يدري فقد ينهج آخرون مثل هذا النهج القويم، ولا شك أن استمرارهم عليه عاماً يكسبهم قدرة على الفصاحة ويعيد إلى الدقة اللغوية اعتبارها لدى بعض (التقدميين)
من طرف المجالس:
كان بيد أحد الجالسين مطبوع صغير كتب عليه (ملحمة) وهو نشيد طويل قدمه صاحبه إلى جامعة الدول العربية ليكون (نشيد العروبة) وقدم له بتقاريظ من بعض الكبراء والزعماء
ودار الحديث حول انتقاد هذا الصنيع وهو إقحام الكبراء في الكم على الشئون الأدبية والفنية.
ثم أقبل أحد الأصحاب وأخذ مجلسه، فقال لمن بيده (الملحمة):
- ما هذا؟
- نابلسي فاروق. . .
العباس
مِن هنا ومن هناك
من خدع المستعمرين:
(مقدمة إلى المجاهدين من شمال أفريقية)
بتاريخ 5 مايو سنة 1865 أرسل نابليون الثالث ملك فرنسة إلى مسلمي الجزائر بعهد ننشره تبياناً لمقدمات الاستعمار، وخدع المستعمرين المختلفة:
السلطنة الفرنسية - إعلان من حضرة الإمبراطور سلطان الفرنسيين إلى جميع المسلمين في المملكة الجزائرية: إن الدولة الفرنسية لما وضعت قدمها في وطن الجزائر منذ 35 سنة لم يكن مرادها تمزيق شمل سكان الوطن المذكور، بل المراد خلاصه من الظلم المترادف عليه منذ أحقاب. وقد جاءتكم بحكم أعدل وأبلغ رشداً مما كانت عليه القوانين التركية التي خلفناها. ومع ذلك فإنكم في السنين الأولى من الاستيلاء وقع لكم قلق واضطراب لرؤيتكم أمة أجنبية تتصرف فيكم، فلذلك قاتلتم من خلصكم من الظلم. ومعاذ الله أن نظن أن ما صدر منكم يومئذ كان ذنباً يوجب الملام، بل نجل ما جبلتم عليه من الخصال الحربية التي حملتكم على رفع السلاح في وجوهنا، وأنتم منتظرون قبل الإذعان لنا إجراء حكم الله.
ولكن قد نفذ حكمه بما أراد فليس إلا الرضا بما قدرته الحكمة الإلهية التي تبلغ المرء إلى الخير في الغالب وتضطره أحياناً إلى عدم نيل مراده وخيبة قصده وعكس اجتهاده.
ومثل ما وقع بكم حل بأسلافنا منذ عشرين قرناً فقد هجمت عليهم أمة أجنبية، فلم يخضعوا لها وقابلوها مكافحين ثم هزموا. ومن يومئذ تحولت حالهم إلى أحسن منها، وهو مبدأ تاريخ رقيهم، وإن (الفولر) أسلافنا لما انهزموا تخلقوا بخلق الرومانيين المنتصرين عليهم. وبالاتصال الدائم، مع اختلاف فضائلهم وعاداتهم تولدت منهم على مرور الأزمنة هذه الأمة الفرنسية التي وقت الله لها وقتا لتنشر في الدنيا ما ألهمها الله من محاسنها.
ومن يدري! لعل العرب في يوم آت يجدون مساعدة وعونا على الاستقلال في بلادهم، كما كانوا قبل في القرون الماضية مسيطرين على بعض سواحل البحر الأبيض المتوسط ولكن لا يكون ذلك إلا بعد صلاح أحوالهم واختلاطهم بالأمة الفرنسية.
فارضوا أيها العرب بما حكم الله به، وقد قال تعالى (تؤتي الملك من تشاء) وحيث أقدرني الله على هذا الملك بقدرته، أريد أن أصرف أموركم بما يؤمن مصالحكم وخيركم، وقد
قررت لكم ملكية الأرض التي كنتم تستغلونها تقريراً قاطعاً مستمراً، وأجللت مقام كبرائكم مع احترام دينكم، ورغبتي أن أزيد في رفاهيتكم وأن أشرككم في حكم الوطن، أكثر مما أنتم عليه الآن، كما أرغب في مساهمتكم في أنواع خيرات التمدن. لكن ذلك مقرون بشرط طاعتكم واحترامكم لمن ينوب عني في الحكم وأخبروا إخوانكم المغرورين بأن استمرار سعيهم بعدم الطاعة سيعود بالخسران عليهم، فالمليونان من العرب لا يقدرون على معاندة أربعين مليونا من الفرنسيين. وحيث تحققتم بأني سلطان عليكم فاعلموا أني محام لكم، وأن كل من عاش طائعاً في ظل حكمنا فله حق المساواة، واذكروا أنكم منتسبون إلينا إذ كنتم منذ عشرة أعوام أحرزتم نصراً مع جنودنا، ووقف أولادكم إلى جنب أبنائنا في المعارك التي وقعت في القرم وإيطالية والصين والمكسيك، ولا تنحل الرابطة التي تقع في ساحات الحرب. وقد رأيتم قوتنا وما نفعله بعدونا عند عدوانه، وما نبذله من مودتنا حين تودده. فاعتمدوا معشر العرب على الدولة الفرنسية لأن شؤونكم وشؤونها متحدة، ومن يهدي الله فهو المهتد، كما في القرآن.
انتهى من (جريدة المؤيد) بتاريخ 13 أكتوبر 1991.
من شئون الحرب في الإسلام:
وفي حصار العرب لدمشق ولد للبطريق الذي على دمشق ولد فدعا قومه فأكلوا وشربوا وتركوا مواقفهم الحربية، ولم يعلم سوى خالد فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا تخفى عليه من أمور الروم خافية، وكان قد اتخذ حبالا كهيئة السلم، فلما أمسى ذلك اليوم نهض مع بعض رجاله وقال للجند: إذا سمعتهم تكبيراً على السور فاصعدوا إلينا واقصدوا الباب. فلما وصل مع رجاله إلى السور ألقوا الحبال فصعد عليها الرجال، وكان المكان الذي صعدوا إليه أحصن موضع بدمشق وأكثره ماء، ثم استوى على دمشق.
وفي وقعة أجنادين بعث قائد الروم من يأتيه بأخبار المسلمين، فلما دعا قال (بالليل رهبان، وفي النهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم) فقال القائد إن كنت صدقني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.
وفي فتح القادسية ظل رستم قائد الفرس مدة يعرض على قومه مصالحة المسلمين فلم يقبلوا، فنصب سريره ورتب جنده، وجعل أمامه الفيلة، كما أن يزدجرد وضع جنداً بين
المدائن والقادسية لتأتيه بالأخبار. أما سعد بن أبي وقاص فقد كان به دماميل لا يستطيع الجلوس بسببها، فاختص قصراً له ثم عبأ الجند وحثهم على القتال. ثم التحم الجيشان، وارتجز الشعراء، فاشتد عواء الفيلة وأجفالها، ثم انكسر الفرس وأسر هرمز من ملوكهم، ووقعت الصناديق عن الفيلة، وكانت سبعين فيلا وهلك من عليها، ثم أعادوها في ثالث يوم فدمروا أيضاً. ثم هبت ريح قلبت سرير رستم فقام يستظل بظل بغل فضربه هلال بن علقمة فقتله، وطيف برأسه، فتفرق الفرس وأخذ العرب رايتهم الكبرى، وكان عدد قتلى العرب في هذه الوقعة نحو ثمانية آلاف، وعدد قتلى الفرس زهاء ثلاثين ألفا. وبسبها سقطت بلاد العراق في يد العرب حياهم الله.
الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
في ص 571 من عدد (الرسالة) 676 (لقد كان الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، وفي صدر خلافة عمر، ولكن الناس خالفوا ذلك فأوقعوه ثلاثا فأمضاه عمر عليهم عقوبة لهم، وأخذ الأئمة الأربعة بحكم عمر في ذلك). . .
وفي سنن البيهقي وعند الطبراني وغيرهم بأسانيدهم: كانت عائشة بنت الفضل عند الحسن بن علي، فلما بويع بالخلافة هنأته، فقال الحسن: أتظهرين الشماتة بأمير المؤمنين، وأنت طالق ثلاثا - ومتعها بعشرة آلاف - ثم قال لولا أني سمعت جدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو سمعت أبي يحدث عن جدي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا عند الإقراء أو طلقها ثلاثا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لراجعتها وإسناده صحيح.
ومن الدليل على وقوع الثلاث بلفظ واحد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام حديث الملاعنة المخرج في صحيح البخاري، حيث قال عويمر العجلاني في مجلس الملاعنة: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرد في رواية ما أنه عليه الصلاة والسلام أنكر عليه ذلك، فدل على وقوع الثلاث مجموعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدع الناس يفهمون وقوع الثالث بلفظ واحد لو لم يكن هذا الفهم صحيحاً. قال ابن حزم: لولا وقوع الثلاث مجموعة
لأنكر ذلك عليه. وفهم البخاريث أيضاً من هذا الحديث ما فهمته الأمة جمعاء من الوقوع حيث ساق هذا الحديث في صحيحه في (باب من أجاز طلاق الثلاث).
وفي المجموع الفقهي عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام أن رجلا من قريش طلق امرأته مائة تطليقة فأخبر بذلك النبي عليه السلام فقال بانت منه بثلاث وسبع وتسعون معصبة في عنقه. وبمعناه أحاديث في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج 4 ص 338)، ومن حديث ابن عمر قال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، كانت تبين. . .
وأما حديث ابن عباس (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. . .) الذي أخرجه مسلم في صحيحه. فقد رده النقاد لعلل كثيرة، منها:
1 -
مخالفته لمذهب راويه ابن عباس فقد ثبت عنه أنه يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا. روى ذلك عنه عطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس والنعمان بن أبي عياش وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم، بل طاوس نفسه راوى الحديث السابق عنه.
2 -
انفراد طاوس بروايته، وإنه لم يتابع عليه، وقال القاضي إسماعيل في أحكام القرآن وقال غيره أيضا: طاوس يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث. . .
3 -
وجود انقطاع في الحديث، وفي صحيح مسلم بعض أحاديث منقطعة.
4 -
إن أب الصهباء أحد رواته إن كان مولى ابن عباس فهو ضعيف على ما ذكره النسائي، وإن كان غيره فهو مجهول.
5 -
إن في بعض طرقه (هات من هناتك) وجل قدر ابن عباس عن أن يواجهه أحد من الصحابة في طبقته فضلاً عن مولاه بمثل هذا الخطاب، وعلى تقدير إجابته يكون الجواب من هناته المردودة باعترافه، وقد اشتهر حكم رخص ابن عباس عند السلف والخلف.
6 -
استحالة خروج عمر رضي الله عنه على الشرع بالرأي، وسكوت الصحابة على ذلك.
7 -
حديث ركانة الذي بمعنى هذا الخبر، هو حديث منكر على ما يقول الجصاص وابن
عبد البر وابن الهمام والحافظ انب حجر، وأعله البخاري بالاضطراب. . .
8 -
حديث ابن عباس لفظه محتمل، وعند الاحتمال يسقط الاستدلال.
هذه كلمة موجزة استخلصتها من (الإشفاق على أحكام الطلاق) و (ذيول تذكرة الحفاظ) و (أحكام القرآن للجصاص) و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي).
لاظ أو غلى:
كانت الإذاعة المصرية أذاعت كلمة مقتضبة عن هذا الرجل، فأزيد عليها بأن معنى اسمه (ابن لاظ) وهي قبيلة قوقازية على ساحل البحر الأسود، وهي فرع من الجركس. وكان سلاحدار خسرو باشا وإلى مصر قبل محمد علي باشا، ثم تولى في عهد محمد علي باشا الكتخدائية (وزارة الداخلية) بعد إقالة طوبوز أو غلى.
محمد أسامة عليية
البَريدُ الأدَبي
حديث البرد أو البرداء:
قرأت من أسابيع حديث الدكتور زكي مبارك الأسبوعي في صفحة جريدة (البلاغ) الأدبية، فوجدته يفتتح الحديث بالبرد وخوفه منه، وشدة هلعه من آثاره في جسمه، ثم ختم الحديث - حديث البرد - بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البرد: اتقوا البرد، فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء.
ويغلب على الظن - بل أكاد أكون جازماً - أن تلك القولة إنما هي سجعة سجع بها بعض المتفاصحين فإن أبا الدرداء - واسمه عويمر بن مالك الأنصاري الخزرجي - لم يمت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبر الرسول عن وفاته بسبب الرد أو غير البرد من أسباب الموت المتعددة، بل عاش إلى ما بعد ذلك بأمد طويل، فقد عاش إلى سنة 2 من الهجرة حيث توفى في الشام وقد ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي الدرداء هذا عويمر حكيم أمتي. وفي حديث آخر عن رسول الله صلى عليه وسلم: نعم الغازي عويمر. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه تاجراً من كبار تجار المدينة قبل الإسلام، وصار بعد أن أسلم من نساك الفرسان، وشجعان النساك. عليه رضوان الله.
(حلوان)
برهان الدين الداغستاني
1 -
طريق الهجرة النبوية:
كنت استدركت على الأستاذ الحمصاني بعض مواضع مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، معتمداً على (عيون الأثر في فنون المغازي والسير) لابن سيد الناس - طبعة مصر - و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي) - طبعة مصر - مما لم يذكره الأستاذ محمود الحمصاني في (خريطة الهجرة النبوية) وقد زارني عالم أديب نجدي فاطلع على هذه الخريطة وعلق عليها بما يأتي - وأهل مكة أدرى بشعابها -:
1 -
منازل ثقيف هي في الطائف وما حوله، وليست لهم منازل في شمال خيبر.
2 -
الرجيع من منازل هذيل بقرب مكة، لا في شمال المدينة.
3 -
بعاث بالثاء المثلثة، لا بالتاء المثناة.
4 -
بواط بدون أل التعريفية، على ما في (عيون الأثر) ومعجمات اللغة.
5 -
العشيرة هي من قرى ينبع النخل وبقربها، لا على الساحل.
6 -
العيص هي قرية تابعة لينبع، وليست على الساحل.
7 -
بئر معاوية صوابها (بئر معونة) في أرض بني عامر.
8 -
بنو زبيد مساكنهم رابغ وما يجاورها، ولم يكونوا هنا في عهد الهجرة بل كانوا باليمين.
9 -
غران بالنون، لا بالراء.
10 -
وادي حنين يقع بين نخلة ومكة، لا في شرق نخلة.
11 -
عكاظ هو في الجنوب الشرقي من الطائف، لا في الشمال الغربي منها.
12 -
كرا الواقع بين الطائف وعرفات هو بالراء لا بالدال، وهو جيل عظيم، وأما (كدا) فهي ثنية بمكة، وتسمى الآن (ريع الحجون).
13 -
الوتير هو بالتاء المثناة، لا بالثاء المثلثة.
14 -
نخلة ليست موضعاً واحداً، بل هما واديان عظيمان بقرب مكة، أحدهما وادي نخلة اليمانية، والآخر وادي نخلة الشامية ويجتمعان فيكونا وادياً يسمى مر الظهران، يصب في البحر الأحمر، في جنوب جدة.
2 -
من أوهام الأقلام:
1 -
لكم تداولت أقلام الكتاب (حبذت عمل فلان) يريدون بذلك استحسنت عمله. مع إن أئمة اللغة أمسكوا عن الإقرار بصحته، إلا صاحب القاموس فقد قال:(لا تحبذي أي لا تقل لي أنت حبيبي) وقد أثبته تباهياً علي الجوهري في أن القاموس أغزر مادة في الصحاح، وقال صاحب التاج؛ في زيادة مثله على الصحاح نظر. فلو تسامح أعلام اللغة في استعماله ما تسامحوا في جواز دلالته على المعنى الذي استحدثه له بعض كتاب هذا الزمن.
2 -
واحلوا (المواطن) في موضع (الوطني) مع أنه لا يدل على شيء مما يعنون، فهو
اسم فاعل من واطنت فلانا على هذا الأمر إذا أضمرت في نفسك أن تفعله معه.
3 -
ويستعملون (الحياد) في عدم الدخول في الحرب، مع أنه من اللفظ المهمل عند العرب، بهذا المعنى فالاعتزال أدل من غيره على التنحي عن الحرب، قال الحارث بن عباد:
قد تجنبت وائلا كي يفيقوا
…
وأبت تغلب على اعتزالي
4 -
ويقولون (لبثوا هناك برهة من الزمن) يعنون به وقتاً قصيراً. مع أن البرهة هي الوقت الطويل. وللوقت القصير ألفاظ كثيرة عند العرب، منها (هنيهة).
5 -
ويقولون (إخصائي) والصواب (متخصص) وهو المنقطع إلى ممارسة فن واحد يحذقه. لأن الإخصاء هو سل الخصيتين. وقول القاموس: (أخصى تعلم علماً واحداً) خطأ.
6 -
ويقولون (المخابرة - المخابرات) والصواب (المراسلة) لأن المخابرة هي المزارعة على نصيب معين.
انتهى بإيجاز من (المناظرة اللغوية الأدبية بين الأسانيد: عبد اله البستاني والمغربي والكرملي) المطبوعة بمصر.
محمد أسامة عليية
حول كلمة (غورى):
في نقدي لديوان (طفولة نهد) للشاعر السوري نزار قباني
يقول الأديب الفاضل عثمان موسى معقباً على بعض ما قلت في نقدي ليديوان (طفولة نهد) إنني عبت على كلمة (غورى) في شعر نزار قباني، وهي كلمة صحيحة من غار يغور، وإن الذي دعاني إلى هذه التخطئة هو أن العامة استعملت هذا الفعل بمعنى قريب جداً من هذا المعنى. . . والشيء الذي أود أن أقوله له هو أن الراوية التي نظرت منها إلى الكلمة بعيدة كل البعد عما ذهب إليه فأنا - مع علمي بأن الكلمة صحيحة - لم أتعرض لها بالتخطئة وإنما تعرضت لها من ناحية تأثيرها في الصياغة الشعرية؛ لأن كلمة (غورى) حين ترد في بيت من الأبيات تجعل القالب الشعري أقرب إلى النثر منه إلى الشعر. . ولا يعيب المعاني مثل صبها في قوالب نثرية.
هذا هو كل ما قصدت إليه، وعلى الأديب الفاضل أن يرجع إلى ما كتبت، وأن يراجع بعد ذلك نفسه!. .
أنور المعداوي
رسَالة النقد
على هامش كتاب:
2 -
سعد زغلول من أقضيته
(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكرية
وإعجابي)
للأستاذ عدنان الخطيب
2 -
الغيرة القومية:
في مصر قضاءان، كان الأجنبي منها دائرة تحصيل وتشجيع للأجانب على امتصاص أموال البلاد، والتمادي في الاستعلاء على أصحابها الشرعيين، يوم كان (. . يقاد الفلاح الأمي، ويقاد المصري الذي يتصبب عرقاً فلا يملك وقار نفسه حين يستطيع أن يقرأ أنباء الوفيات في صحيفة عربية، وتقاد الأرامل الغرير، يقاد هؤلاء، ويقاد من هو أجهل منهم وأضعف إلى أقلام كتاب المحاكم المختلطة فيمضون أو يبصمون أوراقاً لا يميزون أسفلها من أعلاها، ولا يجرءون أن يرفعوا عيونهم إلى الموثق العظيم الذي يحررها، ثم ينصرفون ويقال (عقود رسمية) لا يكلف تنفيذها هذا الدائن المرابي أو المخاتل، إلا أن يدفعها إلى أقلام المحضرين أو ينزع بها ملكية العقار، فهي كالحاكم أو أقوى، هي الحكم الذي ظهر بغير دفاع، وبغير مستندات، وبغير معارضة، وبغير استئناف، وبغير التماس.
وكان أيضاء الأهلي مفخرة يفاخر بها الشرق العربي إذ كان فيه رجال كسعد وإخوانه، تقرأ أحكامهم فتجد فيها (فقهاً جباراً سليما، وعقلا قانونياً بالطبع، لا تختلط عليه شعرة بشعرة) وإذا انتهيت منها انتهيت (إلى نتيجة لا ترضى القانون وحده، ولكنها ترضى العاطفة الوطنية أيضاً).
اسمع سعداً يرد على مصري أحب أن يحتمي بالقضاء الأجنبي صارخاً في وجهه (لا سلطة لقوانين المحاكم المختلطة إلا على الحقوق المختلطة)، وهناك أحكام كثيرة إن قرأتها وجدت فيها صورة صادقة عن (جهاد سعد الأول في مكافحة الامتيازات وتمصير القضاء) ذلك
الجهاد الذي أثمر معاهدة مونترو يوم ظفر (تلامذة سعد وأصدقاؤه بتقليم أظافر نظرية الصالح المختلط) والذي نرجو أن ينتهي قريباً بقطع كل يد أجنبية تنقص من استقلالنا، وفي وجودها اعتداء على حريتنا أو عدم ثقة بعدالتنا، ونحن يوم كنا فاتحين غالبين، لم يكن في الدنيا عدل غير عدلنا.
3 -
التصون عن العبث:
(في قواعد الإجراءات مدنية وجنائية، وفي دفوع الخصوم، تحكمات كثيرة قد يؤدي تطبيقها تطبيقاً أعمى إلى نتائج غير عادلة ومضحكة أحياناً) ولكنك إذا رأيت قضاء سعد عندما يصطدم بتلك التحكمات رأيته (قضاء جمع بين السلامة والحكمة) وإذا قرأت الأسباب التي يستهل بها أكثر أحكامه قرأت أسباباً (محمة قوية التدليل. . . تنبئ عن التحرر من الشكليات وصون الحق من أن يضحي في سبيلها إذا أمكن تضحيتها هي بغير خرق للقانون) فاسمع سعداً يقول في حكم له (إن هذا يعتبر خطأ في التطبيق. وكان يوجب الغاء الحكم المطعون فيه لو أنه أضر بالمتهم) أو قوله (إن الخطأ في تطبيق القانون لا يكون وجهاً للنقض إلا إذا نشأ منه ضرر) لا بل انظر سعداً حين يقرر (أن عدم تبيان تاريخ الحكم المستأنف في عريضه الاستئناف لا يستلزم بطلانها إلا إذا ترتب عليه عدم تمييزه عما عداه) لتعرف سعداً أي القضاة كان في سعة أفقه وتحرر فكره، واستجابته للحق المجرد.
4 -
وضع الأمور في نصابها وصبر القضاء:
(دقة التمييز بين المتشابهات هي ميزة الفقيه الأولى، والصبر من ألزم وأجمل ما يتحلى به القاضي الكامل) وقد كرس الأستاذ الزيات هذا الفصل (لبيان مدى تمكن هاتين الصفتين من عقل سعد ومن نفسه) وهو لم يحاول فيه أن يكيل الثناء لسعد كيلا (بالحق وبالباطل، إنما كان يحاول تحليله) ودراسة آثاره دراسة عميقة تصور للقارئ عظمة سعد في تفكيره، وعظمته في أخلاقه وأنك إذا قرأت حكما من الأحكام التي نقلها لعجبت أن ترى الدائرة التي أصدرته (لا تهمل في أسبابها أن تؤاخذ، وتتعب ولا ترى عبثاً أن تسمع إلى المبطل لتقول له بعد ذلك - أو لتقول للناس فهو أدرى بنفسه - بأسباب طويلة مفصلة، كيف وفيم
كان مبطلا) ولوجدت خير شاهد على كل هذا في مثل قول سعد (نعم إن ذلك ربما يفضي إلى. . . ولكن عكسه يؤدي إلى. . .) ثم (وحيث أنه وإن كان الحكم الصادر في مواجهة أحد الشركاء في حق غير قابل للانقسام لا يسري على بقيتهم فإن قطع المدة الخ) ثم (وليس هذا لأن. . . بل لأن. . .)
إن جميع تلك الأحكام التي صدرت عن دائرة فيها سعد يكفيك النظر إليها لتقر الأستاذ الزيات على أن محررها كان سعداً لاعتبارات عديدة وفي طليعتها (ظاهرة اللوم يوجه إلى دفاع الحكومة وصوت المرشد والمعلم الذي لا يأسف حين تسنح له فرصة تشبع فيه شهوتين: شهوة الإرشاد للإصلاح، وشهوة الإرشاد للاستعلاء على الضعاف والمهملين)
اقرأ تلك الأحكام، اقرأها لتعرف معجباً كيف كان (يضع (المعلم) ويضع (الفقيه) كل شيء في نصابه) وكيف كان (الفاضي) يصبر صبر القاضي العادل الرزين.
5 -
حدية الدفاع وحقوقه:
كان في سعد (حرص القاضي العادل على مظهر العدل، وحب الخطيب المترافع لسماع المرافعات) وكان لا يعترض صاحب حق أو صاحب دعوى في الدفاع عن موقفه. . . ولا يضيق فرص الدفاع أمام شاك أو مشكو) والأستاذ الزيات لا يعني بلفظة (الدفاع) هذه (الترافع عن المتهم فقط، إنما يعني الدفاع عامة في الميدان المدني والجنائي، ويعني به هذا المعنى الفني المتخصص الذي يرادف (المحاماة) و (المحامين) فسعد الذي يقول إن (حفظ النظام الذي من أهم أركانه ألا يحكم انتهائنا على أحد إلا بعد تمكينه من الدفاع عن نفسه) يوجب (أن يكون الدفاع عن المتهم حراً خالياً عن جميع المؤثرات التي تقيد المحامي)
ولكن سعداً إن احترام الدفاع ولم يضيق عليه لم يكن ليتساهل معه إذا تجاوز حقوقه أو أخل (في نظام التخاصم، أو لم يحفظ للقضاء هيبته) وهو لم يتأخر مرة عن أن يصدر حكما يعرض فيه بمن أخل بالنظام، إن قرأته رأيت فيه (عصا المؤدب ترتفع. . . وهو كاشر عن نابه، ممتد بمقعده العالى، يفعمه السخط على هؤلاء الذين اجترءوا على مقامه، اجتراء إن لم يبلغ حد الخلاف لأمره، فقد بلغ حد التصرف بغير إذنه!) بل إنه لا يتأخر أحياناً عن الرد على المحامين وهو (يبيع لهم بضاعتهم، ويأخذهم بمنطقهم، ويقيدهم بحبال من صنعهم)؛ بل هو لم يتأخر مرة أو مرات عن إحالة بعض المحامين إلى مجلس التأديب
لأنهم أهملوا واجباتهم، أو لأنهم استعملوا الخديعة مع خصومهم؛ وليس هذا بمستغرب من قاض لم يتأخر عن القول (أن الخطة التي جرت الحكومة عليها في هذه الدعوى لا توجب ارتياح القضاء لأعمال مندوبها فيها)
(لا توجب ارتياح القضاء! وليس هذا بالقليل حين يصدر من القضاء!
وليس هذا بالقليل حين يصدر على الحكومة! إنه اتهام! فإدانة! فعقاب!!)
6 -
الفقه الشرعي:
درس سعد في الأزهر، فتفقه في الدين، ثم درس الحقوق وتقلد منصب القضاء، وأخذ يحكم بين الناس بموجب القوانين المدنية الحديثة، ولكنه (لم يهمل الإفادة من دراسته الفقهية الأزهرية؛ بيد أنه لم يتعمد التعالم بها وإقحامها في غير مقحم، وإنما كان يضعها موضعها حين يكون العرض لها والأخذ منها أمراً لازماً أو شبه لازم) لقد أصدر مرة حكماً يقول فيه (إن المعول عليه في الشريعة الغراء. . . هو الموافق للعدل، إذ لا يجوز لمدين أن يتبرع بمال تعلقت به حقوق الغير)
لقد كتب سعد هذا الحكم وهو بلا شك (مغتبط بما وجد عند الشريعة الإسلامية من رأى معول عليه، اغتباط القاضي العادل حين يجد النص (الموافق للعدل) وإذا علم القارئ أن صاحبي سعد في حكمه هذا كانا أجنبيين لا يجد أية صعوبة في (تمييز الولد العظيم لهذا الأثر العظيم)
7 -
القاضي المحافظ:
تكلم الأستاذ الزيات في كتابه كثيراً عن (ثورة المصلح وغيرة العادل، وتحرره من الأوضاع وتمرده على شكليات القانون والبحث عن الحق أنى ثقفه، وتوفير العدل من كل طريق) ولكنه أسرع في فصله السابع إلى الكلام عن سعد المحافظ حتى لا (ترسم للرجل في الأذهان المتسرعة المشغوفة بالأحكام المطلقة صورة ذات أود لا تصدق التعبير عنه أو لا تستوفيه) ونقل لنا أحكاماً من قراءتها نجد سعداً ليس بالمحافظ الجامد ولا بالمجدد المائع، بل هو القاضي المفكر الذي (يستقصي الحقيقة) وينطق بالحكم الذي يرضى وجدانه، وليس في أحكامه (ما يند عن مزاج محافظ، وليس فيها أيضاً ما يتعارض مع مزاج مجدد).
وليس أجمل من هذه الفقرة يختم بها الأستاذ الزيات فصله إذ يقول (ويتصل بمعنى المحافظة الروح العائلي الذي يطالعنا في أكثر من حكم واحد: كره سعد في نظار الوقف أن تحيفوا حقوق المستحقين، وأبى على بعض الورثة أن يتملكوا حصص الآخرين بما يزعمون من وضع يد مستطيل، ثم كره من صغار الأخوة أن يستأسدوا كبارهم الريع عما مضى، ذلك بأنهم حيوا في أكنافهم، فليكن الريع في النفقة، ولتكن الأسرة وحدة، ولتظل المحبة أخوة متآخين على سرور متابلين.
فإذا دخلت الجريمة بين الأخ وأخيه، أو بين الوالد وبينه، فالويل للجرم الأثيم: لن يظفر من رفق سعد واسماحه بغير (القصاص) الجسيم.
8 -
القاضي الجنائي:
خير كلمة وصف بها الأستاذ الزيات سعداً القاضي الجنائي (هي كلمة (الموزون) وصفه بها بعد أن نقل كثيراً من أقضيته الجنائية، وأثبت كيف كان كل واحداً منها (قضاء رفيقاً عادلا موزوناً كما أثبت أن سعداً لم يكن (بالقاضي الذي يجهل أو يحصل وظيفته الاجتماعية، ولا شك أن القاضي الجنائي الذي يقدر دوره الاجتماعي حق قدره لا يستطيع أن يحمل لوزن العقوبة ميزاناً من نحاس أو حديد، فميزان هذا شأنه لن يغني مهما يكن مدى انضباطه) إنما العدالة (تريد ميزاناً حساساً مستجيباً بلون العقوبة باللون المناسب للمتهم، ويفردها كما يقول أصحاب علم العقاب).
كان سعد إذا اقتنع لا يتأخر عن الإدانة أبداً، ولكنه كان (لا يكتفي بأن يقتنع، وإنما يرى حقاً عليه للعدل والضمير الاجتماعي وللمتهم نفسه) أن يقنع كل الناس (بما اقتنع به)، ومع كل هذا فقد سمح كاتب جلساته لنفسه بأن يقول عنه أنه كان (يبتعد عن الإعدام، وأنه كان يتهم بأنه مازال في قضائه متأثراً بحرفة المحاماة والدفاع عن المتهمين) والحقيقة الناصعة أن أحكام سعد كلها ليس فيها (تضييع لحق الجماعة، ولا إهدار لمصحلة الفرد والدفاع)؛ أسمعه، وقد تألم من عقوبة حصلت بنتيجة خطأ، كيف ثار وصرخ (إن العدالة الإنسانية التي وضع القانون لاحترامها تأبى إيلام نفس بعقوبة) تنتج عن خطأ. لا بل أسمع هذا المبدأ على لسان سعد المشرع (لا يجوز أصلا أن يلقي الشخص عقابه ويعذب ويتألم، بينما تكون العدالة لا تزال مشتغلة بشأنه، باحثة فيما إذا كان مستحقاً لذلك العقاب أم لا)
وصفوة القول أن قاضينا الجنائي (لم يكن بالمتحرج في تأويل النص المعاقب، ولا بالمترخص فيه، ولم يكن الجانح إلى الإدانة، أو الشغف بالتبرئة، ولم يصطنع قسوة الحكم كمبدأ، ولا اختط الأسهل طريقة) بل كان القاضي الذي (عرف أين يلين وأين يقسو) أنه كان (القاضي الموزون).
(البقية في العدد القادم)
عدنان الخطيب