الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 781
- بتاريخ: 21 - 06 - 1948
في النقد التاريخي
للأستاذ عباس محمود العقاد
يشيع في هذا العصر نقد التاريخ، لأن أبواب التاريخ على اختلافها قد أصبحت من موضوعات الدراسة الشائعة في المدارس والجامعات، وأصبح التعليق عليها من عمل الأساتذة والطلاب والقراء.
وقد لاحظنا أن نقد التاريخ عندنا يثبتون وينفون، ويصوبون ويخطئون، ويعرضون للروايات والأسانيد بين قبول ورفض، وبين ترجيح وتوهين، ولكن الكثيرين منهم لا يلتفتون إلى الفرق بين صحة الرواية ودلالة الرواية، وهما شيئان مختلفان، لأن الرواية الصحيحة قد تكون خلواً من الدلالة في تاريخ الأمة أو سيرة العظيم، وقد تكون الرواية الكاذبة أدل على الأمة أو على العظيم من كل خبر صحيح.
لهذا لا يصح أن يكون عمل الناقد التاريخي مقصوراً على إثبات الصحيح وإسقاط غير الصحيح؛ لأن الخبر الذي له دلالة نفسية أو دلالة اجتماعية لا يسقط من سجل التاريخ، وإن كان مقطوعاً بكذبه أو مشكوكا فيه؛ فإنما المهم - جد المهم - في التاريخ هو ما يدل عليه.
ولنذكر مثلا لذلك ما قيل عن حروب الإمام علي رضي الله عنه مع كفرة الجن في الكهوف والمغور، وما كان من تأليبه الجن المسلمين على الجن الكافرين في أيام الدعوة الإسلامية.
فقل في صحتها ما تشاء. قل إنها كذب محض وتوليف من نسج الخيال، ولكنك لا يجوز لك من أجل ذلك أن تلقي بها في سلة المهملات كما يقولون، لأنها لا تكون من المهملات وفيها دلالة على شيء كثير، وفيها بيان للفارق بين (شخصية) علي وشخصية غيره من الشجعان في نظر الناس.
لم لم ترو أمثال هذه المعارك عن خالد بن الوليد؟ إن خالدا رضي الله عنه كان من أشجع فرسان العرب والإسلام؛ فليس اعتقاد الشجاعة في إنسان هو الذي يوحي إلى الخيال أن يتمثله في تلك الصورة وينسج حوله أشباه تلك الروايات، ولكنها الشجاعة وشيء أخر غير الشجاعة، وهو الإيمان بقدرة غيبية أو بسر من الإسرار الإلهية يملكه هذا الشجاع ولا يملكه ذلك الشجاع.
وإذا بلغ من رواية (خيالية) أنها تريك كيف كان بطل من الأبطال في نظر الناس، فتلك دلالة نفسية لا تظفر بها في كثير من صادق الأخبار.
هذه التفرقة بين حجة الرواية ودلالتها هي التي نلاحظها في إيراد بعض الروايات التي نشك فيها أو نقطع بنفيها، ولكننا لا نسقطها من الحساب عند الكتابة عن سيرة عظيم من العظماء لأنها لا يصح أن تسقط من الحساب وفيها دلالة عليه أو على نظر الناس إليه.
لاحظناها في سيرة كل عظيم من عظماء العرب الذين كتبنا عنهم، ولو أننا أسقطناها لفاتنا أن نفهم حقيقة العظيم كما كان، وأن نفهم حقيقته كما كان في نظر الناس.
من ذلك في سيرة عمرو بن العاص أننا أوردنا رواية ابن الكلبي حيث قال: (لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه عالجها أن ابعث إلى رجلا من أصحابك أكلمه ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري، وخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله: فقال العلج: حدثني! هل من أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا؛ إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو! قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا! قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت. أعجل بهم، وبعث إلى البواب أن خلّ سبيله).
فهذه القصة تذكر ويقال فيها إنها غير مقطوع بصحتها، ولكنها تذكر لدلالتها النفسية ودلالتها التاريخية. وكذلك فعلنا حين عقبنا عليها فقلنا (إنها لا تؤخذ على علاتها في تفصيلاتها ولا يلزم أن تصح أصولها ولا فروعها، ولكنها تدل - ولو كانت مؤلفة - على أشياء قريبة من الحقيقة، بل لابد أن تكون قريبة منها، لأن صدق الأخبار عامة لا يستقيم ولا ينتظم بغيرها. فمن تلك الأشياء شهرة عمرو بالدخول في أمثال هذه المداخل العويصة التي يجرب فيها حيلته كما يجرب إقدامه. ومنها أن عرب الشام كان فريق منهم على الأقل ينظر إلى الحرب بين الروم والمسلمين نظر العصبية الجنسية على ما بينهم من الفارق في
العقيدة. . . الخ)
وهكذا فعلنا فيما رويناه عن فراسة عمر بن الخطاب وملكاته الغيبية واشتهاره بها بين المسلمين. فإن الرواية في هذا المقام تذكر وتشفع بالتعقيب عليها وبيان حكم العلم والتاريخ فيها، ثم تؤخذ منها دلالتها على كل فرض من الفروض، وإن كان بعض هذه الفروض إنها مخترعة أو أنها نقلت مع المبالغة فيها والزيادة عليها.
فرق إذن بين الصحة والدلالة في الروايات التاريخية.
وفرق آخر - شبيه بهذا الفرق - بين أمرين آخرين لا يعطيان حقهما من التفرقة، وهما النفي وعدم التصديق.
فإذا مر بك خبر مقرر فجزمت بنفيه فأنت المطالب بالدليل.
ولكنك إذا مر بك خبر من الأخبار فلم تصدقه فأنت الذي تطلب الدليل، وليس عليك أن تقيم دليلا لأنك لم تصدق خبراً تعوزه الأدلة، بل كل ما عليك أن تذكر أسباب الشك أو أسباب عدم التصديق.
وهذا الذي فعلناه فيما روي عن وأد الفاروق لبنت من بناته، فإن الرواية ناقصة تبعث الشك ولا تطرد مع سائر الأخبار، فليس علينا أن نصدقها ولا يقال إذا نحن لم نصدقها إننا مطالبون بدليل أو أننا نفينا كلاما بغير برهان.
ولعلنا نقرب الفرق بين الأمرين بتشبيه عصري من مسائلنا المعهودة في الدعاوي اليومية. فكلام المدعي لا يلزمك ما لم يقم دليلا عليه، ولكن حكم المحكمة يلزمك فلا تنقضه أنت إلا بدليل أقوى من أسبابه التي بني عليها.
ومن الفروق التي تعرض لها في هذا الصدد ذلك الفرق البعيد بين الحوادث كما تدل عليه في ذاتها، وبين الحوادث كما تدل عليه في تقدير صاحبها الذي تنسب إليه.
ولنضرب لذلك مثلا من حديث مكتبة الإسكندرية.
فإننا أشرنا إليها واتبعناها بالأدلة التي تبرئ الفاروق من تبعة إحراقها، ثم قلنا إن الفاروق لا يلام على إحراقها لو صح أنه أحرقها وهو غير صحيح؛ لأنه لا يطالب بعلم الفلسفة اليونانية ولا يتبين صلاح تلك الفلسفة من أحوال أهلها. (فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفساف الأمور. فإذا كان عمر
غير مطالب بعلم الفلسفة اليونانية أو غير ملوم على قوات الاطلاع عليها، وإذا كانت أحوال الأمم التي هي أهلها لا تدل على قيمتها بل تسوغ الاعتقاد بخلوها من كل قيمة، فأين هو العيب في تفكيره إن صح أنه فكر على هذا المنوال؟).
وقد جاءنا من الطالب النجيب (السيد رشاد هاشم) بمدرسة الزقازيق الثانوية تعقيب يقول فيه: (إن كونهم على شر حال لا يعطي القوة حقاً: إذ لو فرضنا أن عدواً غاضباً هجم علينا ونحن ضعاف بشر حال والقرآن بيننا أيجوز له أن يحرق القرآن؟)
وقبل كل شيء نحن أن يذكر الطالب النجيب أن الفاروق لم يحرق كتاب الدين فيضرب المثل هنا بما يقابله وهو القرآن، وإنما أحرق فيما زعموا أوراقاً لا يعتقدها أصحاب ملة، وترك الكتب التي يدينون بها وهو يعلم أنها تخالف الإسلام.
ثم نحن أن يذكر أننا لا نعطي القوة حقاً وإنما ندفع عنها لوماً، وإن مثل الفاروق ومكتبة الإسكندرية كمثل رجل باع بيتاً فيه كنز مدفون يساوي أضعاف ثمن البيت. فأنت لا تتهمه بالجهل لأنه لم يطلع على خبر ذلك الكنز، ولا تتهمه بالسفه لأنه باع البيت بأقل من قيمته المدخرة فيه، ولا تقول إنه لا يعرف قيمة الكنوز، لأنه لم يدخلها في ثمن البيت.
كل ما هنالك أنه لا يهتم على أساس معقول، وليس من اللازم أن تقول إنه كان على حق أو على صواب.
وهذا هو الفرق بين دلالة الحادثة في ذاتها، ودلالتها كما تدخل في تقدير صاحبها الذي نسبت إليه.
فالذي يحسب على الفاروق هنا هو ما يدخل في تقديره، ولا لوم عليه أن أحرق مكتبة الإسكندرية بهذا التقدير.
وهذه الفوارق بين الصحة والدلالة، وبين حق النفي وحق الشك، وبين الحادث كما وقع والحادث كما أريد، ألزم ما يكون استحضاراً عند قراءة التاريخ، بل عند مباشرة كل عمل من أعمال الحياة.
عباس محمود العقاد
ضربت عليهم الذّلة والمسكنة
للأستاذ نقولا الحداد
يدعي اليهود أن الذي حملهم على اختلاق دولة يهودية هو أنهم مضطَهدون في كل مكان. لأنهم أقلية مسحوقة في كل مكان. فإذا صار لهم دولة لجأوا إليها فراراً من الظلمِ والاضطهاد
إذا صدق زعمهم هذا فليعتبوا على ربهم لأنه صرَّح في القرآن الشريف أنهم: ضُربتْ عليهمُ الذِّلةُ وَالمسكَنةُ. وليسألوا ربهم يهوَه رب الجنود لماذا ضربهما عليهم دون سائر البشر:
والله ما هم بمضطهَدين. بل هم مضطهِدون (بفتح الهاء في الأولى وكسرها في الثانية).
كيف يكونون مضطهَدين وقد جمعوا ثروات العالم وبها يتحكمون بالضعفاء والمنكويين؟ كيف يكونون مظلومين وهم خمسة ملايين في الولايات المتحدة الأمريكية يسيطرون على 130 مليوناً؟ وكيف يكونون مظلمومين ومضطهَين وهم يحاربون الآن بمائة واثنين وسبعين مليون ريال تصدق عليهم بها الأمريكيون المسيحيون المغفلون بصفة كونها إعانة لمتشرديهم في أوربا؟ وكيف يكونون مضطهَدين وقد منحتهم إنكلترا الغشوم وعد بلفور وأطلقت يدهم على فلسطين فملكوا أثمن ما فيها وأعز؟ وأخيراً جاءت أمريكا ومنحتهم مملكة ودولة في فلسطين ومنها يبسطون أيديهم على جميع أمم الشرق.
ماذا يريد هؤلاء الأذلاء المساكين بعد هذا؟ أيريدون أن يكونوا أسياد العالم والعالم كله مملكتهم وأن تكون أمم الأرض عبيداً لهم حتى يرضوا عن الله؟
العالم لا يضطهدهم ولكنه يكره أعمالهم وتصرفاتهم المناقضة للإنسانية، ألا يتساءلون فيما بينهم لماذا يكرههم جميع الأمم؟ في كل بلد أقليات فلماذا لا تشتكي هذه الأقليات من الاضطهاد؟
لماذا لا يعقدون مؤتمراً شاملا من أساطينهم من جميع جهات العالم ليبحثونا سبب بغض العالم لهم فيزيلوا السبب ويعودا إلى حظيرة الأمم محبوبين مكرمين ككل أمة وشعب؟
لا نظنهم يجهلون سبب كره العالم لهم. إنهم يعلمون السبب وهو أنهم يكرهون العالم كله، لأن كل من ليس يهودياً هو في نظرهم (جوييم) ومعناه في لغتهم نجس دنس رجس. وهم
يتصرفون مع الناس بمقتضى هذه العقلية الخبيثة. فيحللون لأنفسهم مال (الجوييم) ويستحلون سفك دمهم واغتصاب أملاكهم وهضم حقوقهم. ولا يردهم تلمودهم عن هذا. بل بالعكس يبيح لهم كل هذا وأكثر منه. لا يردهم عن هذه الإباحية إلا قوانين البلاد وقضاؤها. فإذا أمكنهم أن يفعلوا فعلتهم ويتحاشوا القضاء فلا خوف عندهم من الله لكي يردهم.
قد ينبري بعضهم وبعض مناصريهم لتسفيه قولي هذا واعتباره افتئاتاً عليهم وتحاملاً. فليقل المتشيعون لهم: ماذا يحسبون تفظيع اليهود في دير يسين وطبريا وميرون وغيرها بالأطفال والنساء والشيوخ؟ هل يفعل هذه الفظائع من يخافون الله؟ هل يفعله المتمدنون؟
وماذا يفسر المدافعون عنهم تعمدهم تسميم الآبار في غزة بميكروب الكوليرا والتيفوئيد لكي يباد الجيش المصري هناك عن آخره.
والله إن الذي لم يفعله هتلر بهم فعلوه هم بالعرب. تورع هتلر عن استعمال الغازات السامة وعن تلويث المياه بالميكروبات المرضية. وأما هم فلا يتورعون. فماذا كان هؤلاء اللئام يقولون لو فعل العرب بهم مثل فعلتهم؟!؟ ولكنهم يعلمون جيداً أن العرب لا يرتكبون هذه الدناءات. ولهذا هم يستغلون هذه النزاهة العربية.
كم مرة تعهدوا بهدنة وكانت الهدنة من مصلحتهم فنقضوها ما سكت العرب عن القتال احتراماً للهدنة حتى أسرعوا إلى الخيانة والغدر.
والغريب أن هؤلاء المنافقين يترجون الصليب الأمر أن يسمع لهم العرب بإخراج 600 امرأة وطفل من القدس القديمة لكيلا يقتتلوا تحت وابل رصاص العرب. يطلبون هذا الطلب لأنهم يعلمون جيداً أن العرب يشفقون على الأطفال والنساء فيريدون أن يستغلوا شفقة العرب. ولكن جلالة الملك عبد الله لم يعد يصدق مكرهم فأبى أن ينيلهم هذا الاستغلال.
وهل تنطوي هذه الهدنة الأخيرة ذات الـ 4 أسابيع من غير أن ينقضها الصهيونيون مراراً؟ والعرب يصبرون عليهم صبر الكرام. لا أعتقد أن هذه تطول فسينقضها اليهود وثم ينقضُّ العرب عليهم انقضاضهم الأخير فيمحقونهم.
العرب لم يقترحوا الهدنة لأنهم لا ينتفعون بها بل يأبونها، ولأنها من مصلحة الصهيونيين. وما رضى العرب بها إلا لكيلا يقال إن العرب لا يريدون سلاماً. فليعلم العالم الآن من يريد
هدم السلام.
إني أتخيل دولة صهيون الخيالية تقول مع شمشمون الجبار: (عليّ وعلى أعدائي يا رب) إذا شبت الحرب العالمية الثالثة بسببهم. هذه هي أخلاق هذه الطائفة التي تدعي أنها مضطهدة. وهي ذليلة مسكينة. ولكنها غادرة خائنة، فكيف تستحق الشفقة اللهم إنها لا تنال الشفقة إلا من المتيَّم بها عاهل الأمريكان الذي يهون عليه أن يضحي بمصلحة بلاده وبسلام العالم على مذبح رضى الصهيونيين. ولا يزال هذا الأحمق يتحبب لليهود ويتسضيف زعيمهم ويزمان على الرغم من أن أمريكان الشرق قد احتجوا على سياسته الخرفان. ولكي يظهر أنه لا يحسب حساباً إلا لاحتجاج أمريكان أمريكا نفسها وسيظهر احتجاجهم في أنهم لن ينتخبوه.
وقد علمت من مصدر ثقة أن جلالة الملك عبد العزيز آل سعود أبلغ الشركة الأمريكية المتعاقدة معه على البترول، أنه سيضرب بالعقد الذي بينهما عرض الحائط، إذا كان ترومان سيسلح الصهيونيين أو يؤيد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
نقولا الحداد
الجنس والحضارة
للأستاذ عبد العزيز جادو
لقد كان قليلا ذلك الذي فهمناه عن اللاشعور وصلته بالأحلام، وعن الجنس وظواهره العقلية العجيبة قبل أن يبدأ سيجموند فرويد علمه العظيم. فلقد أوضحت دراسة التطور العلاقات التي بين كل المخلوقات الحية، وتماثل البناء التشريحي بين كثير من الأجناس. ولا يزال علم السيكولوجية يعوزه بعض استكشافات لتوطد أركانه نهائياً على أساس ثابت من قانون؛ وليتتبع النمو التدريجي للعقل من بسيط إلى مركب.
ومما يجدر بالذكر أن الدكتور بريور الذي عمل معه فرويد أول الأمر في (العلاجات الناطقة) لاحظ بعض أعراض شادة في حالة امرأة شابة عزاها إلى الهستيريا. وعجز عن إزالة هذه الأعراض باستخدام التنويم المغنطيسي، الذي كان يزاول فيما مضى بتوسع أكثر من الآن، وكان شائعاً إذ ذاك في صناعة الطب، وأخذت حالتها تزداد سوءاً. ولاحظ الدكتور بريور أن مريضته في حالات (ذهولها) تغمغم مع نفسها. فجعلها تكرر الكلمات التي تفوهت بها، وبهذه الطريقة علل الباعث على الفكر التي تسلطت على عقلها حتى توالدت. وكان الأثر لمنشأ هذه الأوهام والتخيلات التي تسلطت على الفتاة هو في الواقع وجود (الدوافع المخبوءة) الشركة في مظاهر اللاشعور التي تفوق الحصر في علاقاتها بالحياة اليومية وبالحالات العقلية المرضية.
وعاد فرويد، الذي كان يدرس في ذات الوقت على العالم الشهير شاركوت - إلى فينا ليلتقي بالدكتور بريور، الذي كان يستعمل حينذاك (طريقة المسهل وظهر لفرويد أن بريور لم يفهم تماماً علاقة هذه الطريقة بالسيكولوجية العلاجية، فأقنعه بإتمام أبحاثها في الإجراءات التي ابتكرها حديثاً، ومع ذلك فقد أضاع بريور بعض حماسته بخصوصها.
ولم تتزعزع ثقة فرويد في كشفه ولم تغتر همته. فواصلا استقصاءاتها مدة من الزمن تراءى لها في نهايتها إقامة الدليل على قيمة كشفها، وانتهيا إلى النتيجة بأن العاطفة المحبوسة في مريض إذا ما عوقت في طريقها إلى الإفلات الصريح، فإنها تتحول إلى أعراض شاذة، إما فيزيقية وإما عقلية. وبملاحظة مرضاهما في عيادتهما، وجدا أن الأعراض كثيراً ما يكون لها صلة ببعض حادثات في حياتهم. وقادهما هذا إلى الاعتقاد بأن
الاختبارات المرضية كانت تتعلق بأخرى قبلها، وتلك التي كانت قبلها ليست في حاجة إلى الباثولوجية في طبيعتها؛ وأن التجارب التي سبقتها زودت المصادفة الباثولوجية الأخيرة بخلق عقلي. وبعد أن تعاون فرويد وبريور معاً مدة من الزمن في هذه الملاحظات والتجارب انفصلا أحدهما عن الآخر فقد دب الخلاف إذ لعب الجنس دوره في تكوين العصاب وهكذا مضى فرويد قدماً بمفرده ثم نشر تطبيقاً عملياً من نتاج مجهوده. بسماحة لمريضه أن يتكلم بكل ما يدور بخلده، وبعد ملاحظة بالغة منتهاها في الدقة، اقتنع بأن أي شيء يحدث للمريض له صلة مباشرة أو غير مباشرة (بجرح) ما في لا شعوره.
وفي عام 1895 ألقى فرويد أولى محاضراته عن اكتشافاته، التي قدر لها أن تكون بشيراً بميلاد التحليل النفساني. ولقد تبعه باديء الرأي ثلاثة نفر من الوسط الطبي هم أدلر وستيكل وسادجر ولكن في سنة 1900 بدأ يانج وثلة صغيرة من أتباعه الفيزقيين، يستعملن الطريقة الفرويدية بعيادة طلب الأمراض العقلية في زيوريخ. وبعد ثمانية أعوام، وبناء على دعوة يانج قام أول مؤتمر لمدرسة الفيزيقيين هذه في سالزبورج.
عند ذلك أخذ الطلبةٍ الجادون ذوو الضمير الحي يدخلون الميدان أفواجاً. وظهرت المؤلفات الفكرية والانتقادية تحمل طابعي مقدرة المدرسة وحمية الرائد. ومن ميدان علم النفس العلاجي انتشر علم التحليل النفساني، وامتد إلى ميادين علم الأساطير والحواديت - وبدأت تظهر الشروح التي تعوزها التفسيرات السيكولوجية، وبدأت تطغى على أساطير الجنس البشري وخرافاته. واتضح أن رغبات السلالة البشرية التي كانت تتوق إلى الرضى خلال العصور جاء وصفها في الخرافات والأساطير، وأنه إذا فهم الشخص المفتاح السري الذي يمده به التحليل النفساني لأمكنه أن يفسر معنى كل تلك القصص القديمة. فقد قال علماء التحليل النفساني أن عواطف البشر لونها فنان أعمى على لوحة من الفكر.
ومن المعروف قطعاً لدى علماء الأنثربولوجيا أن الرمز لعب دوراً هاماً في الإنتاج البدائي لعقل الإنسان. بل إن طريقتنا اليوم في التعبير عن الفكر قائمة على أساس صورة من الرمزية؛ فالمهندس الذي يتصور تجويف مدخنة، والموسيقى الذي يوفق السيمفونيات السماوية، والفنان الأديب، كل أولئك يستعملون الرموز كثيراً. وقد أشار أندريه تريدون في أحد مؤلفاته إلى أن: (لغة جميع الشعوب رمزية، ودائماً ما يفرض الإنسان في كلامه
مقارنات بين مظاهر ثابتة في الطبيعة واجزاء من جسم الإنسان. فنحن نتكلم عن فم النهر أو الكهف؛ وعن مهاد الأرض أو جوفها أو بطنها؛ وعن قمة الجبل أو سفحه. ونقول إن في البطاطس عيوناً؛ وأن اللون دافئ، وحقائق جافة، وأننا نشم رائحة التعب وغير ذلك.
كيف دخلت هذه التعبيرات في كلامنا، وكيف سبر علماء التحليل النفساني صلتها بأسس تفكيرنا؟. . لن نحتاج إلى كبير عناء لنعرف أن هناك معنى عميقاً وراء كل هذا اللف في كلامنا. إن علاقة ما، ليست معروفة إلى الآن، كانت متوثقة بين عناصر ثابتة موجودة في اللغة وهي الفكرة البدائية عند بني الإنسان.
والإنسان يملك في داخل نفسه اتجاهين: يوصف أحدهما بالمتقارب أو المائل نحو المركز والآخر بعيد أو منحرف عن المركز الأول يميل إلى نقله إلى الأمام؛ والآخر يظهر رغبة صريحة للرجوع إلى حالة بدائية. ونرى هذا الاتجاه، مثلا، في البناء التشريحي للانسان حيث تثابر أحياناً بعض أعضاء جرثومية ثابتة على النمو، يشيع التعب العظيم في الإنسان. ولقد سرد ميشنكوف في مؤلفه القيم (طبيعة الإنسان) أمثلة كثيرة عن النشاز الموجود في تشريح الإنسان، وهل يمكننا أن نشير إلى (النشاز) في بنائه العقلي أيضاً؟ أن نيتشه الذي سبق علماء التحليل النفساني، تنبأ بكثير من كشوفهم، فذكر في أحد مؤلفاته: (في نومنا، وفي أحلامنا، نمر بجميع فكر البشرية القديمة. وأعني بهذا أن الإنسان يدرك في أحلامه ما أدركه أثناء حالات اليقظة منذ آلاف السنين. فالحلم يرجع بنا إلى حالات قديمة من التهذيب الإنساني، ويقدم لنا الوسيلة لنفهمها بطريقة أجدى وأحسن. أبدى هذه الملاحظة أخيراً علماء النفس المشتغلين بالفروض الحديثة التي أظهرتها نظريات فرويد وحسنتها، كما أنها الملاحظة قررت ما لهذا الفيلسوف الشهير من بُعد نظر ونفاذ بصيرة.
لا يخفى أن لك شخص دافعاً جنسياً يطالب بإرضاء رغباته. وإذا لم يقدم له هذا الإرضاء بوسيلة سوية فإن الميل إلى الرغبة يكون في حل من التسرب من أضعف نقطة في خط التقييد. وإذا لم يتم هذا أيضاً، فهناك تسليم من العقل لما يسميه علماء التحليل النفساني بالتعالي أو التسامي. هذا لأن الرغبة تتسرب من خلال قنوات لا يستعملها العقل لمنفعته حين تكون الرغبة قادرة على الإرضاء بطريقة اعتيادية. ومن قوانين الطبيعة أن القوة تميل إلى قهر العوامل المكبوتة في بيئتها بغضِّ النظر عما تكون عليه هذه العوامل. وليس
من قوة في الطبيعة أعظم ولا أكثر أهمية - حسب الترتيب البيولوجي للأشياء - من الدوافع الجنسي.
يقول العالم النفساني المعروف كوريات (إن الفكر اللاشعورية موجودة وفعَّالة في الفرد العادي كما هي في المريض بالأعصاب. والفكر اللاشعورية أو الآراء غالباً ما تظل هكذا، لأن قوة يطلق عليها المقاومة تمنعها من أن تصير شعورية. وعمل الكبت كثيراً ما يلتقي بالفشل وعدم التوفيق، لأن الدافع المكبوت الرغبات والعقد النفسية تواصل البقاء في اللاشعور ومن ثم تبعث إلى الشعور بديلا متنكراً في هيئة أعراض عصبية). حينما ينقضي النهار وما فيه من مؤثرات، يدخل الفرد في دولة النوم، فتتسلل الرغبات اللاشعورية لتمثل دورها في هيئة حلم. ولكن هنا، كما في حالة اليقظة، يكون الرقيب مُتنبهاً يقظاً، وبالتالي تسدل على المشهد ستار الرمزية لتخفي طبيعة الرغبات الواقعية التي تعلن عن نفسها.
وفي هذا الصدد كتب أحد تلامذة فرويد التقدير الآتي: (إن الرقيب هو الذي يجبر الأحلام على اتخاذ لغة الرمزية الغامضة لكي يكفل إمكان ترتيب رواية المادة الجنسية في الأحلام. فإذا أقنع الشخص نفسه بفائدة الرمزية العظيمة في ترتيب رواية المادة الجنسية في الأحلام، لابد أن يصطدم بالسؤال عما إذا كان كثير من هذه الرموز تبدو كأنها حروف اختزال بمعنى ثابت لكل الحالات. ويجب أن نلاحظ بهذه المناسبة أن هذه الرمزية لا تتعلق بالأحلام فحسب، ولكنها تتعلق أيضاً بفكر لا شعورية لأناس، وإنها لكائنة في (الحوادث) والأساطير وفي الأمثال السائرة وفي الحكم المأثورة وفي النكات كوجودها في الأحلام. ومن بين هذه الرموز المستعملة أشياء كثيرة تعني بانتظام الشيء ذاته؛ وفوق هذا، وفي الغالب، فإن الفهم العام والنشاط الجم إنما يعتمد على عقلية هذه المخلوقات)
ولكل جيل دستوره الخاص بمعاملته وعاداته، وفكره، وآدابه، وقِيَمه، الخ. . وهذه كلها تلقي قيودها على الفرد وعلى رغباته. وإذن فكل جيل بنوع ما، يمكن أن يقال إن له مرتبته اللاشعورية. والجماعة لا تنفك تغير البيئة على الدوام لأن الفرد يضطرها أن تختار وترتب لنفسها المقاييس التي لا يمكن عملها دائماً له ليعيش لها. والفرد إذ يحاط بسور من القمع الذي تسببه الجماعة، لا يسمح له بالتحدث في هذا البحث الحيوي بالطريقة الصريحة
التي يعالج بها أي موضوع آخر ذي أهمية لوجوده. ولا يخرج الأمر كله عن كونه تحريماً ومن هنا ينشأ الإحساس بأنه لابد من وجود شيء قبيح يختص به. وهكذا ترقي المرتبة في اللاشعور - مرتبة الكتب. وقد تبدو كلها واضحة في الظاهر. والفرد يدور حول واجبه اليومي ولا يُظهر أي أعراض لطبيعته الجنسية. ولكن، في أعماق عقله توجد شخصية تختلف تمام الاختلاف عن التي تظهر سطحياً
ولقد أوضحت تقصيات علماء الأمراض العقلية كل هذا بمهارة فائقة. ولوحظ مرة تلو أن السيدات الفضليات اللاتي يعانين هيئة معينة من الانحراف العقلي يتفوهن بسباب عنيف وفحش شديد. والنساء الخليعات، من جهة أخرى، اللائى يعانين نفس هيئة المرض بالذات لا يمكنهن إظهار هذا العرض بالصيغة التي تظهرها أخواتهن الأحسن منهن. والصورة الواضحة للكبت ونتيجته تؤثر على بعض الأنواع.
ودراسة مذهب الروحيين يمدنا بالدليل الأول عن المادة. فالإنسان القديم يعتقد أن له نفساً أو روحاً تحرك حياته على هذه البسيطة. وتنتقل هذه الروح بعد الممات إلى دائرة أو بيئة أخرى لتبقى موجودة ككيل مستقل. وما كان الجسم إلا مجرد مسكن للنفس، وكان ينظر إليها كمخلوق ممتاز. ولم يكن هناك بالتأكيد أي فهم لتأثير الجسم على العقل كما هو معروف في هذا الزمن.
ويأتي الإنسان بالتدريج ليكبِرّ نفسه كي تحيط بأشياء لا حياة لها. ويعتقد بأن لكل شيء روحاً. فالريح الصاخبة التي تثور في الغابات فتحطم كل ما يصادفها في طريقها لها روح والنسيم العليل الذي يسلم جسمه لنوم مريح فيه روح ولن الإنسان في الوقت ذاته يعتقد أن هناك وراء الحياة جميعها تكمن قوة غامضة - التكوين الجنس - فمد رغباته الجنسية واحساساته إلى أشيائه المؤلهة. والانفعالات البشرية في الطبيعة، كيفما تكن، كانت محجوبة فوق الآلهة. وبعد مدة من الزمن أصبح الجنس الصيغة الأصلية لعبادة الإنسان وعقيدته. وكان هذا في حال من الشعور الاجتماعي في كثير أو قليل من الصفاء. وأصبح الجنس قبيحاً بظهور الحياة المعقدة، أو كما اصطلح على تسميتها الحضارة. والإنسان المجرد بالنسبة إلى الطبيعة يبدو أقل الأجناس بالنسبة لانحطاط الفكر ولكنه أسماها في الوظيفة.
والإنسان اللاشعوري يظل مخلوقاً طبيعياً. فهو يعبر عن رغباته سواء سُمح له بذلك أم لم
يسمح. والطريقة التي يعبر بها عن ذلك تتوقف على مقدار التحديدات التي تفرضها عليه البيئة. وهو يرى جاذبية سرية لدافعه الجنسي في أشكال وفي أبنية أشياء كثيرة في بيئته كما تعود أن يرى حين كان همجياً. وإنه ليختبر صنفاً من الإرضاء الجنسي بتفرسه فيه وترك أفكاره تجول كما تريد. وبعض عوامل البيئة كالقصص الفكاهة والصور الفنية التي من طراز معين، خلقت بصراحة لهذا الميل الذي يميل إليه الإنسان، وإنها تقدم المنفذ لبعض النماذج المكبوتة.
فالإعلان مثلا له جاذبية على المشاهد أساسها الروابط الجنسية. وإعلانات الحائط الكبيرة والرسوم التي تعلن عن المنتجات التجارية، بمظهرها ذي الرونق الزاهي لنساء نصف عاريات، يرسم بجلاء ووضوح أن الإنسان سينظر إلى شيء يفتنه جنسياً، أسرع وأطول مما ينظر إلى أي شيء آخر ليست فيه هذه المزايا. والإنسان يرغب، بوعي أو بغير وهي، في إطالة لذته الجنسية. والدافع الجنسي بفطرته سيتمسك بأي شيء يساعده في هذا الاتجاه. فهو راقد في طبيعة الإنسان ذاتها للسعي وراء اللذة والعمل على اجتناب الألم.
وإطالة الحب بوساطة العنصر الروحي أشار إليها الفيلسوف كنت بقوله: (وعلى قدر سرعة الذهن في النشاط، فهو لا يتواني عن بذلك تأثيره أيضاً في الميحط الجنسي. وسرعان ما اكتشف الإنسان أن منبه الجنس الذي اعتمد في الحيوانات على مجرد دافع دوري غالباً ما يكون وقتياً، كان في حالته الخاصة مقتدراً على الإطالة، وفي الغالب على الزيادة والكثرة بواسطة قوة التخيل).
ونجد أن الرغبة تتحقق في شكل رمزي لا في الأحلام فقط، سواء أحلام النوم أو أحلام اليقظة، ولكن في الشعر والموسيقى والفن والأدب، الخ. . .
والحياة في طريقها السريع لتكون أكثر تعقيداً، وسرعة الحياة الحديثة تجبر الإنسان على تنظيم نشاطه اليومي بالنسبة للزمن الذي تسمح به بيئته. فمركبات الترام المزدحمة، والمطاعم، والملاهي، والحوانيت والشوارع، تشهد على ازدياد السرعة التي جلبتها الحضارة الحديثة ملايين الأنفس تسير قطعانا ضمن الحدود الضيقة بالمدينة. وهذه الحاجة التي تتطلبها السرعة المجنونة ترقى في عقولنا هيولية غامضة وبلاد اليونان لم تنجب مفكريها العظام إلا لأنها منحت سكانها وقتاً للراحة، هذا الوقت الذي يعد من المستلزمات
التي لا تقدر قيمتها لكل نفس فنانة.
وفي أثناء كل هذه السرعة وكل هذا التزاحم، كيفما يكن، تعمل الجنسية صامتة على التأثير في الإنسان والضغط عليه وإقناعه، وحثه طوال حياته. ولكن الإنسان لا يعير كل هذا أي التفات. فهو جد مشغول بالعوامل الموضوعية في بيئته، هذه العوامل التي هي، بعد كل هذا، أكثر وضوحاً وأكثر أهمية في نظره، وفي بعض الأحيان تكشف الجنسية عن نفسها مع نسمات الصيف الرقيقة، وفي أحيان أخرى، مع عواصف الشتاء الهوجاء. ولكننا في كل الحالات نتعامل مع المادة نفسها - اللبيدو. وأعمال اللبيدو لا تخضع للتأثير مع مرور الزمن. هذا التأثير الذمي أصبحنا نعرفه الآن وندريه بواسطة استقصاءاتنا السيكولوجية.
عبد العزيز جادو
الذين جنوا علينا
الذين جنوا علينا. . . فبذروا في طبعنا الحرمان، وغرسوا في قلبنا الألم، وأقاموا حياتنا على دعائم من الشك اليائس، والحيرة المضنية، والفكر الحزين، والحب الغشوم. . . بيت ومدرسة وتقاليد! في أرجاء البيت، تحكم الوالد. . . فمنع النافع، وأجاز الضار؛ وفي حلقة الدرس، أفلس الأستاذ. . . فدرس الغث وترك المفيد، وعنى بالقشور وأهمل اللباب، وفي جحيم البيئة، تسلطت التقاليد. . . ففرضت الحياء، وأكسبت الجبن، والتواكل، وراضتنا على خلق العبيد!
ومن ثم، فلم يكن أمل في ابتكار، ولم يعد رجاء في انتظار، وأرواحنا ظمأى إلى المعرفة حنانة إلى الثقافة، عطشى إلى الجمال، يمتعها البيان العالي، ويشجيها الأسلوب الرصين، ويطر بها اللحن البديع، فتندفع في غير تحفظ، وتسرع في غير اعتدال، لتلحق نركب الفن والأدب، والحب والخير، علها تصيب من ثمار الأذهان مفيداً، ومن قرائح العباقرة جديداً، يؤهلها لأن تدرك وجودها في الحياة. . . وما عاش فاقد المعرفة، وما خلق صدئ المشاعر، وما تمتع بليد الإحساس، وليس جدير بالبقاء، حي لا تختلط ذرات الحب الأسمى، بدمائه وقلبه، وأهازيجه وأفكاره حتى ذلك الحيوان الأعجم!
تلك هي محنة الشباب الأبي، في عصرنا الحر، حرمان رهيب عنيف، يتلاشى مع الزمن، أو يتحطم مع العصيان، تنطلق الغرائز على سجيتها متطرفة، ويستجيب الفرد لشهواته طائعاً، ويجد اللذة في أن يركب رأسه، فلا يسمع من أبويه نصيحة، ولا يطيع لأستاذه رأيا، ثم يدفع الثمن أجراً غالياً، من ثقافته وجهده، ومن صحته وسمعته، وعلى حساب مستقبله وكرامته، ويذهب ضحية بريئة، لأخطاء جسيمة، وتوارثناها فيما خلف لنا الماضي البعيد، من جهالة وخرافة، ومن محن وارزاء! أيها الآباء المشفقون على أبنائكم، والأساتذة المحبون لتلاميذهم. . . لن يقيم هذا العوج، قانون يسنه البرلمان، ولا سلطة يمنحها الناظر، ولا شدة يطبقها الوالد، ولن يصلح الخلل في معاهدنا، والضعف في السنتنا، والغثاثة في ثقافتنا، إلا تربية قويمة، وتنشئة مستقلة، وتعاون بين البيت والمعهد، وثقة بين الوالد والمربي وحرية للأبن أن يعبر عما يريد، وأن يعالج ما يحب!
فإن أبيتم لنا ألا حصار المدرسة، وخناق البيت، وقبر المواهب، ووأد الرغبات، فلا تعذرونا. . . إذا خرجنا إلى الشارع نهتف، أو بقينا في الدرس نصفق، أو أسلمنا فكرنا
وعقلنا، لتيارات لا تتفق ورسالتنا السامية، وما يعلقه الوطن على جهودنا وبحوثنا من خير عظيم. . .
الطاهر أحمد مكي
أسطورة
للأستاذ علي عبد الحي الحسني
من الأساطير التي سمعناها في الصغر وبقيت في غضون الذاكرة، وبعض ئناياها أن رجلا اعتدى عليه عفريت من الجن بمثل ما كان يعتدي به الجن على البشر فبرز الرجل بكل ما أوتي من حول وطول وبكل ما قدر عليه من سلاح وشكة ليقتله.
هجم الرجل على العفريت بكل سلاح ماض ولم يدع في القوس مزعا لكنه لم ينكأ عدوه ولم يصب منه مقتلا.
ومازال الرجل يعيد الكرة بعد الكرة ويجرب سلاحاً بعد سلاح والعفريت ساخر منه غير محتفل به كأنه من نفسه على أمان، ومن سهام الرجل وهجماته في حصن حصين.
حار الرجل في أمره وأعياه أمر العفريت وكاد يقطع من قتله الرجاء إذ أخبره أحد العقلاء أن روح هذا العفريت في حوصلة ببغاء وهذه الببغاء في قفص من حديد، وهذا القفص معلق في غصن شجرة، وهذه الشجرة في غباة كثيفة يسكنها سباع ضارية وحيات فاتكة، وعقارب سامة، ودونها خرط القتاد، وحولها شم الجبال.
ومازال الرجل يطلع جبلا بعد جبل، ويقطع وادياً بعد واد ويقتل وحشياً بعد وحش، حتى خلص إلى هذا القفص وخنق هذه الببغاء، ولم يكد يقتلها حتى حدثت رجة عظيمة دارت بها الأرض والفضاء، وأظلمت بها آفاق السماء، وصاح العفريت صيحته الأخيرة وكان جثة هامدة. . وهكذا قتل الرجل عدوه بعد ما لقى منه عرق القربة.
لعلك سمعت هذه الأسطورة من عجوز في البيت تحكيها لأحفادها أو أسباطها فمررت بها مستهزئاً وقلت:
حديث خرافة يا أم عمرو!
نعم إنها لحديث خرافة وأسطورة من أساطير الأولين، ولكنها تفيدنا بأن كل حي له مقتل ووريد ولا يؤثر فيه عدو حتى يصيبه في مقتله ويقطع منه الوريد، وأن دون ذلك المقتل وحول هذا الوريد حواجز وحصوناً.
وقد تسلط على الأمة الإسلامية عفريت من الحياة الجاهلية واعتدى عليها بصنوف من الخبال وضروب من الأذى والوبال ظهرت في كثير من أخلاقها وأفعالها كاستخفاف بأحكام
الشرع وتجرؤ على المعاصي؛ ووقوع في محارم الله، واستعباد لعباد الله وإمعان في الشهوات، وإسراف في سبيل المتع واللذات، وتهافت على الخسائس والرذائل، وفرار من مكارم الأخلاق والفضائل (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا).
والناس طبقات: (عامة) و (أوساط) و (عظماء).
فأما العامة فمساكين تدور حولهم رحى الحياة بسرعة لا يرفعون فيها إلى الدين والسعادة الأخروية والاستعداد للموت رأساً، وإنما همهم أن يؤدوا ضرائبهم، ويجمعوا لأيام فراغهم، ويكسوا عيلالهم فهم يكدحون في الحياة كدح الحمير والثيران لا يتبعون إلا للراحة الموهومة، ولا يستريحون إلا للتعب الواقع، فهم من البيت إلى الدكان، ومن الفراش إلى المصنع أو السوق أو الإدارة، ومن نصب إلى نصب، ومن هم إلى هم، لا تنتهي همومهم ولا تنقضي متاعبهم، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.
وأما الأوساط فهم أسوأ منهم حالاً وأكدر منهم بالاً، عذبهم الله بالحرص والجشع، ينظرون دائماً إلى من فوقهم، ولا ينظرون أبداً إلى من دونهم، فهم في هم متواصل وأحزان متسلسلة وشقاء مستمر وتدمر جبار وشكوى قائمة وأنين باق، يجرون في رهان لا ينتهي، ويسابقون جياداً لا تكل ولا تسبق، لا يزال قصب السبق بعيداً كلما انتهوا إلى غاية أخرى فجروا وراءها وهي تبتعد عنهم كما يبتعد الأفق من الطفل الذي يحاول دركه وشعاع الشمس الذي يريد قبضه، وهكذا يتفلت منهم (المثل الأعلى) في الغنى والثروة والرخاء والجاه، فيموت الواحد منهم كئيباً منكسراً لم يستعد ليوم الجد ولم يأخذ لنفسه عدتها، ويأتيه الموت فيقول (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين)
وأما العظماء من الملوك وأبناء الملوك والأمراء فإنهم يريدون أن يلتهموا الدنيا طولا وعرضاً، وينّهبوا المسرات جرياً وركضاً لا يشفى غليلهم ولا يروى غليلهم وهم من دقائق الراحة إلى دقائق، ومن بدائع إلى بدائع، ومن ابتكار إلى ابتكار، ومن لذيذ في الطعام والشراب إلى ألذ، ومن حديث من مستحدثات المراكب والقصور والأزياء إلى أحدث، لا تكفيهم في ذلك موارد قطر بأسره، ومنابع ثروة أمة بطولها، حتى يلجئوا إلى استقراض وتجارات وضرائب جديدة وإتاوات ولا يبالون في سبيل ذلك أن يرهنوا بأيدي عدوهم رداء
الزهراء أو كساء أبي ذر أو شملة أو يس أو مصحف عثمان أو صمصامة عمرو بن معدي كرب أو رمح الزبير أو بردة كعب بن زهير ويهيئوا صبوحاً أو غبوقا.
وقد هجم على عفريت الجاهلية جيش من المصلحين فصاحوا به من كل جانب ورموه عن قوس واحدة ولكن لم ينكأوا عدوهم ولم يصيبوا منه مقتلا.
ألقى الوعاظ والأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دروساً في الأخلاق وأحاديث في الترغيب والترهيب، وطمعوا الناس في الجنة وحذروهم من النار وبشروهم بالوعد وخوفوهم من الوعيد فسمع الناس كل ذلك في هدوء، ولم يحرك منهم ساكناً ولم يغير منهم خلقاً.
ألف المؤلفون كتباً جاءوا فيها بكل رقيق، أوردوا فيها حكايات زهد العمرين، وتقشف علي بن أبي طالب، ومواعظ الحسن البصري، وكلمات ذي النون المصري، ورقائق الفضيل بن عياض، وزهديات أبي العتاهية، وفصاحة الواعظ ابن الجوزي وتحليل الإمام الغزالي.
قوارع تبرى العظم من كلم مض
فقام الأغنياء والأمراء والملوك فاقتنوا هذه الكتب وزينوا بها مكاتبهم وتحدثوا عنها إلى ندمائهم وزائريهم في لباقة ورشاقة ولكن لم تنفذ سهامها من العيون إلى القلوب ولم تجاوز أحاديثها تراقيهم.
قام الخطباء البارعون فألقوا خطباً أسمعت الصم واستنزلت العصم فسمعها هؤلاء وأثنواعلى براعتهم وفصاحتهم ومضوا لسبيلهم لم يبكوا على زلة ولم يقلعوا عن سيئة ولم يحدثوا لله عهداً.
لقد كان والله أقل من هذا يهز القلوب في الجوانح ويستفرغ الدموع من الشئون ويرجف القصور ويقلب عروش الملوك، ويجعل من أبناء السلاطين والأمراء مثل ابن أدهم وشقيق البلخي، يسمع أحدهم - وهو خارج في قنص أو رائح في لهو - قارئاً يقرأ:(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) الآية فيقول والله لقد آن، والله لقد آن، ويرمي آلات اللهو ويخرج من أبهة الملوك وحشمة السلاطين إلى تبذل الفقراء وتقشف الزهاد.
فهل فقدت الألفاظ على تعاقب الأيام معانيها، أم اعتلت الأذواق أم استعجمت اللغات أم ماذا؟
إن شيئاً من ذلك لم يقع، ولكن نفسية الإنسان تغيرت تغيراً عظيماً. كان أمر الدين في الزمان الماضي - برغم جميع أدوائه وعيوبه الخلقية والاجتماعية - جداً غير هزل. وكان أمر الدين يعني كل واحد ويهمه كما تهم الحقائق والأمور الواقعة، وكان دونه في بعض الأحيان حجب من الترف والطبع والرسم وسوء المعرفة وقلة العلم فإذا ارتفعت هذه الحجب وتطرقت دعوة الدين إلى القلوب لم يحل دون التوبة وإصلاح الحال شيء.
أما الآن فقد أصبح الدين موضوعاً تاريخياً أو حديثاً علمياً بحتاً، وأصبح الحديث عنه في المجتمع العصري كالحديث عن كوكب المريخ وعجائبه وعن القطب الشمالي وأخباره لا يعود على المتحدث والمستمعين بضرر أو نفع ولا يطالبهم بعمل أو ترك ولا يمسهم في صميم مسائلهم ولا يعني الإنسان ولا يهمه في حياته إلا بقدار ما يتطرف بمعرفته ودراسته في بعض المجالس أو ما يحادث به أهله عند الحاجة أو ما يجلب به نفعاً ويدفعبه ضراً في مجتمع لا يزال يدين بالدين أو يحترمه فليس له إلا قيمته المادية المؤقته.
وأصبحت الحياة وتكاليفها جد الجد ولب اللباب وأصبحت مسائلها هم الشيخ ودروس الصبي وشغل الشاب، وأصبح الجهاد في سبيلها والنجاح في ميدانها، مقياس الفتنة والذكاء ومعيار الظرفة واللباقة ورمز المروءة والشهامة.
وهنا يقف الداعي الديني حائراً في أمره كيف يواجه هذه العقلية الهامدة والنفسية الباردة في سبيل الدين، أنه واجه العقول الثائرة على الدين فأخضعها ببراهنه، وشكوكا وريباً تمكنت من النفوس فسلها بحكمته وملأ القلب وطمأنينة ولكنه ههنا يجد نفسه في موقف غريب لم يعهده، فلا إنكار ولا جحود ولا إباء ولا استكبار، ولا عناد ولا اعتراض، ولا دليل ولا فلسفة ولكن حياد تام في مسألة الدين واستغناء عن كل ما يتصل بالآخرة، وإخلاء الأرض، ورضىً بالحياة الدنيا واطمئنان بها.
هنا يقف الداعي حائراً في أمره كيف يواجه هذه النفسية ومن أي باب يدخلها، إنه يجد حولها غشاء من حب الدنيا والمال فلا سبيل إليها ولا نفوذ فيها إلا بطريق الدنيا والمال، وأن سبيل الدين غير سبيل المال، وأن طريق الغيب غير طيق الحس والشهود، فماذا يصنع ومن أين يبدأ؟
إنه ألقى على القوم مواعظه ووجه إليهم خطابه وحكمته وأجلب عليهم بخيل العلم
والبراهين، فذهب كل ذلك فيهم صدى وأجابه لسان الحال قائلا (قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون).
قرأنا في حكايات (ألف ليلة وليلة) أن السندباد البحري وجد بيضة عنقاء فظنها لكبرها وضخامتها وملاستها قصراً من رخام فدار حولها لعله يجد باباً يدخل منه في داخل القصر ودار مراراً عديدة، ولكنه لم يجد باباً وعرف بعد ذلك أنها بيضة عنقاء لا قصر من القصور.
كذلك يدور الداعي حول هذه النفسية المستديرة التي استهوتها الدنيا، وغشى عليها حب المال أو الحياة فلا يجد فيها منفذاً منه إلى النفسية وينزل في أعماقها فيقطع منها الرجاء وينقلب منها خاسئاً وهو حسير.
روح هذا العفريت الجاهلي إذن هو الإخلاد إلى الأرض والرضى بالحياة الدنيا وعبادة المال والمادة. . .
هذا مقتل هذا العفريت وهذا أبهره ووريده.
وإنما ضاعت فصاحة الفصحاء، وخطابة الخطباء، وبلاغة المؤلفين، وأصحاب اليراع وإخلاص المخلصين وحكمة الحكماء لأنهم لم يضربوا على الوتر الحساس ولم يصيبوا العدو في مقتله.
بلغت المادية أوجهاً في عهد الاستيلاء الأوربي وأصبحت فلسفة وفناً وحياة ودنيا، وليس مظهر من مظاهر حياتها، ولا مركز من مراكز نشاطها اليوم إلا والفضل فيه يرجع إلى أوربا وسيطرتها السياسية والاقتصادية مباشرة أو بواسطة والى غزوها التجاري والعالمي.
نافس تجار الغرب بدافع من حب الغنى والثروة واحتكار الأموال - في الصناعة والانتاج وغزوا ببضائعهم الشرق وامتصوا بها دماءه، ولم يقض ذلك لبانتهم لأن نطاق الضرورة ضيق والجشع ما له نطاق فنافسوا في انتاج دقائق المدنية وفضول الصنائع وكماليات الحياة وصبوها على الشرق صباً واستغلوا سذاجة الشرق وحبه للدعة والفخر، فما لبثت هذه الدقائق والكماليات إن دخلت في أصول المعاش ولوازم الحياة في الشرق، وأصبح الذي لا يتحلى بها لا يعد من الإحياء، ولا يعامل في المجتمع معاملة سواء، وأخذت بتلابيب الشرقي وأذهلته عن الدين والآخرة، وعن كل شيء غيرها في الدنيا، وهاجت
عليه هموماً لا إرجاء لها وبعثت فيه شرها للمال لا نهاية له، وأجنحت عليه الحاية حجيما لا يسمع فيها إلا (هل من مزيد).
وما يكاد الشرقي يصل إلى هذه المنتجات وشروط الحياة على جسر من المتاعب والمصائب وعلى طريق من شوك وقتاد، ولا يكاد يتحلى بها إلا وتصبح هذه المستحدثات آثاراً عتيقة وأطماراً بالية، ويهجم عليه الغرب بطراز حديث من المنتجات والمصنوعات فينكص على عقيبه ويتزود لاقتنائها بالمال اللازم - بوجه مشروع أو غير مشروع - ولا يكاد يطلع بها على مجتمعه إلا ويرحل المنسوخ ويحل الناسخ - وهكذا لا يزال من حياته في جهاد مضن شاق، ومع المصانع الغربية والتصدير الغربي في رهان دائم يسبقه فيلحقه ويلحقه فيسبقه، ولا يزال من عيشه في مضض وغصص يتجرعه، ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
أفسدت المدينة الغربية والتجارة الغربية طبائع أهل الشرق وأذواقهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ألا منهم الفتاة وأطفأت فيهم جمرة الحياة، وأحدثت فيهم التخنث الأوربي. وأصبحت الفروسية العربية والنخوة التركية والفتوة الفارسية والبطولة الهندية والغيرة الأفغانية حديثاً من أحاديث التاريخ وأصبحت الحياة في حواضر الشرق بل وفي بواديه نسخة قاصرة ممسوخة من الحياة الغربية المصطنعة لها ضرائها وليست لها سرائها ولها الغرم دون الغنم.
أصبح الناس في كل بلاد من تيار الحضارة الغربية يسيل بهم سيلها الجارف ولا يملكون من أمرهم شيئاً وأصبح الوالد لا يملك ولده والعاهل لا يملك أهل بيته بل وأصبح الإنسان لا يملك نفسه أمام الهوى وانتقاد المجتمع اللاذع ووخز الضمير وغاص الناس في بحر المدينة إلى آذانهم فترى الصعاليك من العجم يغدون في حلة ويرجعون في أخرى، وترى الحفاة العراة العالة من العرب رعاة الثناء، يتطاولون في البنيان ويتفاخرون باقتناء السيارات الأمريكية من أحدث الطراز وأفخر الأنواع، حتى يخاف أن تنقرض الخيل العتاق من أرض الجزيرة التي ملأت التاريخ والأدب لجديتها وأخبارها.
شحنت البضائع الغربية أسواق الشرق الإسلامي وأنبتت شرائين التجارة الغربية وعروقها - وهي طلائع السيادة الغربية وسيطرتها السياسية وسهامها التي لا تطيش - في جوف
أقداس البلاد الإسلامية واحشائها وجاست خلال الديار وأصبح أهلا عالة على البضائع الأجنبية حتى عادوا لا يتصورون الحياة والمعيشة بغيرها ولا يقضون حقوق الأعياد والأفراح إلا بها، وامتصت هذه البضائع أموالهم بل دماءهم كالإسفنج تشربتها في بلادهم، وصبتها في بلادها - وهكذا أصبح ما يكسبه المسلم بعرق جبينه وكد يمينه وبرز ميتة في أخلاقه، وعلى حساب دينه ينتقل إلى البلاد الأجنبية.
التجأت الحكومات الإسلامية لتحقيق مشاريعها العمرانية كما تقول أو لقضاء مأرب رجالها كما يقول الناس إلا الاستدانة من الدول الأجنبية فخفت لذلك ورحبت به ورضخت لها بعض المال على شروط تجارية وامتيازات سياسية، وأقبلت على البلاد الإسلامية تحلب ضرعها وتستخرج الذهب الوهاج وماء حياة الصناعة والتجارة (البترول) من بطونها وتهتبل فرصة العمل في أرضها فتنشط إرسالياتها وتنشر في أهلها المسلمين (رسالة الدين والحضارة) وتلحق عدواها الممعنين في الجهالة والفقر والبداوة، ويتهافت الفقراء الذين أجهدتهم الضرائب وتكاليف الحياة على أجورها وخدمتها تهافت الفراش على الضوء والجياع على المائدة وهكذا أُتصبح بلاد الإسلام بين أخطار من التنُّصر والإلحاد والاحتلال الأجنبي).
ثم هنالك (الطابور الخامس) وهو ذلك الأدب المسلوك المسموم الذي ولدته الثورة الفرنسية وارتضعته الفوضى الخلقية، والإباحة في أوربا وغذته الشيوعية، ذلك الأدب الخليع المستهتر الذي ينبت في القلوب النفاق، ويسقى غرس الشهوات ويقوّض دعائم العمران ويفسد نظام الأسرة ويسخر من كل فضيلة، ويستهين بكل أدب ونظام ويزين للقارئ مذهب اللذة والانتفاع وانتهاز الفرص ويلخص التاريخ ويوجز الفلسفة والعلم في حب الميل الجنسي، ويصور العالم كله كأنه ليس إلا ظهور هاتين العاطفتين وليس وراء ذلك حقيقة علمية أو مبدأ سام، أو غرض شريف.
وقد انتشر هذا الطابور في أنحاء العالم عن طريق الأدب، والروايات والمجلات والراديو، والسينما وتأثر به الحاضر والبادي وتحدثت به العواتق في خدورها، وصار ينخر صرح الحضارة الدينية والأدب الإسلامي حتى تسرب العطب اليوم إلى لبابه.
وهكذا أصبح العالم كله شعوباً وحكومات وأفراداً تحت سلطان المادية والجاه والشهوات، قد
شغلت منه كل موضوع ومنفذ وملكت عليه جميع مشاعره، واستهلكت في سبيلها جميع مواهبه وقواه وتفكيره وذكائه، وخلقت في الإنسان نفسية لا تؤمن إلا بالمحسوس ولا تفكر إلى في اللذة والهناءة والسعادة الدنيوية ولا تهتم إلا بهذه الحياة ومطالبها الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي إنما فرضها على الإنسان الحياة المزورة والمجتمع الفاسد والتجارة الجشعة.
كيف يحل في هذه المادية الدين الذي أساسه الإيمان بالغيب وإيثار الآخرة على العاجلة الذي يقول (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون) والذي يقول (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) والذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) ويقول (حفت الجنة بالمكاره)
إذن فالمادية في هذا العصر هي علة العلل وعدو الدين الألد ومزاحمه الأكبر، وأن أوربا هي زعيمها الذي تولى كبرها ووكرها الذي تطير منه وتأوي إليه وفيه تبيض وتفرخ.
فأين ذلك البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني على مسرح التاريخ والواقع؟؟
لكهنو (الهند)
علي عبد الحي الحسني
خطرات في الأدب المعاصر:
1 -
حالة أدبنا
أدبنا عكر لا لون له ولا طابع ولا شرعة ولا منهاج ولا هدف. أدبنا أكسح تنقصه الحيوية وتعوزه الروح ويغتفر إلى التوجيه الصحيح.
ونحن نريد أدباً يدفع إلى المجد؛ يغذي الفكر ويهذب المشاعر ويروض النشء على تذوق كل جميل وفي هذه الصدور اليائسة ينفح هزة الحياة لتشرع وتفكر ثم تعمل لتحي سعيداً.
أدبنا عكر لأن فيه من كل مذهب بدعة، ولكل طائفة شرعة، ولكل أديب أو متأدب دعوة، وكل ثائر ناقم يمجد نهجه ويعيب غيره. فمن مشرق يتمسك بالقديم البالي؛ يركب نهج القديم باسم الاصالة، ويفتعل في الأدب باسم القومية، وعلى المعنى يجني باسم التعمق، وعلى اللفظ باسم الجزالة بل وعلى الأدب باسم الأدب. هذا القديم ضال في غوايته، تائه في ضلالته، ناس أو متناس أن الأدب فن رفيع من فنون الحياة يتجدد بتجددها ويتأثر بكل ما فيها من مؤثرات اجتماعية كانت أو فلسفية أو علمية، وأن أدب أية أمة مهما تعالي وتسامي متأثر بالآداب الأخرى مؤثر فيها.
وأسانيد المدرسة القديمة وتلاميذها من أدبائنا كثيرون، ومعظم أدب هؤلاء دوار في مجالات القديم، وأكثر موضوعاته لا تعدو اجتراراً لمآثر الماضي، ومناهل هذا الأدب فلي المعاجم ونبش وريقات الماضي.
ولهذا الطراز من الأدب أسلوبه الخاص، فلغته عربية سليمة، وألفاظ جزلة ومعان عميقة وتراكيب مرصوفة لها منسقة النفوس. وهي لغة القرآن فلها قدسيتها ورفعتها وإذن فهي أسمى من أن تؤنس بغريب، وأوسع من أن تقصر عن أداء معنى، وأرفع من أن تنالها يد التحوير والتغير. . . أما خيالاته فصافية هادئة إلا أن أجواءها ساجية حزينة قل أن تجد فيها تصويراً حركياً أو وضعاً نابضاً بالحياة.
ومن مغرب قدر له أن يطلع على شيء من أدب الغرب فبهره التجديد وانغمس فيه ثم عاد يحمل رزماً من الطرائق والمناهج وجهر يدعو لتطبيقها كاملة غير منقوصة. وليته دري أن لكل بيئة خصائصها وفي كل مجتمع ميزات ينفرد بها ولكل قوم أمزجتهم وأهواءهم، فما يصلح في بيئة قد لا يصلح كله في الأخرى، وما يستساغ عند قوم يمجه آخرون.
هذا بالإضافة إلى أن أسس الخبرات الشائعة في أي مجتمع من المجتمعات تختلف باختلاف طعومه الفنية ومراتب حضارته وأن أي عزم لبناء صرح جديد لابد وأن يسند بهذه الأسس.
وابتلى الأدب العربي بحملة المشاعل المستعارة، فهذا داعية جديد أمه فرنسا رشف لبنها واستطعم آدابها فملكته رقتها وأَسرته طرائق تصويرها وبهرته مناهج البحث الفرنسية فعاد يدعو لتطبيقها وافية كاملة. وهذا آخر لقف العلم في إنكلترا أو اتصل بعلومها وآدابها فانغمس في رومانتيكية الإنكليز وماع معها وهام في دنا أريافا ثم عاد يدعو إلى البساطة والتحلل من القيود قيود الشعر وتعقيدات النثر. . . وثالث ألماني الثقافة واقعي النزعة جاء يحمل على هذا الأدب الضعيف اللين المائع لأن القوة - في نظره - هي المظهر السامي للكائن الحي والأدب مظهر من مظاهر الحياة يصورها ويمثلها ويعالجها فلابد وأن يكون قوياً.
وأدب هؤلاء المجددين متلون وفق أهواء كل منهم، مصطبغ بنهج من درس عليه، متأثر بطرائق من أخذ عنه وتكاد أساليبه تمتاز بأنها أسلس قياداً للقارئ فلغته عذبة ألفها في حياته العامة، ليس فيها الغريب الشاذ ولا العميق المعقد. ولئن كان جرس الكلمة ورنين العبارة ومنسقة السبك هي أنصار الأسلوب القديم في إثارة مشاعر القاري فلا شك أن وضوح الفكرة وبساطة التركيب وطرافة الموضوع هي أهم ما يعتمد عليها الأسلوب الجديد في استهوائه نفوس قرائه.
وموضوعات هذا الأدب بنت الواقع تصوره وتعالجه فهي منه وإليه، ومعظمها إما من صميم حياتنا أو منقول مترجم. وفي الأولى ملح كوميدية عذبة وفي الثانية روائع رومانتيكية مزيدة.
وبين هاتين الفئتين المجددين ودعاه القديم تأرجح الأدب العربي، وبين الاثنتين تاه السبيل وطال عليه الأمد.
وفي الأجواء الجديدة تعالت صيحات حق صارخة من (الشاعرين بأنفسهم) الذين يؤمنون أن على الإنسان أن يستغل جميع خبراته ومواهبه في سبيل شيء واحد هو أن يعيش واعياً نافعاً متعاوناً؛ وهدف هؤلاء (أن يكون درس الأدب وتاريخه على منهج تصححه الخبرة
الإنسانية بالحياة والنفس والجماعة ويمثل التقدم الإنساني والرقي العقلي)، وعلى رأس هؤلاء أستاذنا الجليل أمين الخولي وتحرص هذه الفئة على (ألا يكون درس الأدب وتأريخه تناولاً سطحياً وترديداً تقليدياً لما لا يساير تقدم الإنسانية ورقي الحياة العقليه).
هذه الفئات الثلاث أهل الأدب الحي والثوار المجددون ودعاة القديم قد التفت جميعها في حلبة واحدة هي هذا الشرق العربي واستمر التصادم وطال التنافس فطالت على أدبنا نقاد الانتقال. واشتد التزاحم فكثر النتاج لكنه ظل كدراً، وتأرجح أدباؤنا بين مذاهب هذه الفئات يميلون إلى التجديد باسم المرونة والواقعية ومع القديم باسم الأصالة والقومية فجاءوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وتذبذب نتاجهم فجاء ضخما كبيراً لكنه ظل كدرا لا لون له ولا طابع ولا شرعة ولا منهاج. بل ولا هدف.
ونحن إذ نقدر للقديم أصالته نؤمن أن الاستعانة به في السبك الجديد ضرورة وأن الاعتداء به مفخرة، ولكننا ندعو ألا يلهينا هذا القديم عن خلق أدب حي يصور مسراتنا وآلامنا ومشاكلنا فتستطيبه أنفسنا وتأنس به، كما أننا نأمل أن تنظم هذه الاندفاعات التجديدية تنظيما أساسه التبصر ورائده الإصلاح لأنا نريد أن يكون لنا أدب حي دفاع يخلق من ناشئتنا جيلا يتذوق الجمال ويقدر الفن ويملأ صدورهم بسمات.
وفي هذه النفوس الذابلة ينفتح هذه الحياة لتنطلق راضية مطمئنة تستقبل عالم الغد. . .
(القاهرة)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 6 -
من كل ما ذكرنا نستطيع أن نفهم مبلغ التطور الفكري والنضج العلمي الذي كان قد بلغه العلماء والأطباء المسلمون في القرنين الثالث والرابع من الهجرة ويعدان في الحقيقة عصر كمال الرقي العلمي لدى المسلمين، ومن أهم العصور في تاريخ تكامل الثقافة والعلوم عند البشر.
في هذا العهد ظهر كثير من الأطباء الكبار من أصحاب التأليف المهمة في المسلمين، كانت آثارهم ومؤلفاتهم تدرس في المدارس، وكتب العلماء مئات من الشروح والحواشي عليها، وترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية، ودرست في مدارس أوربا الطبية وكانت مدار علم الطب عندهم، وكان كثير منهم من إيران، وقد بلغت شهرة خمسة منهم حداً عظيما وخلدت أسماؤهم في تاريخ الطب وهم:
1 -
علي بن ربن الطبري صاحب كتاب (فردوس الحكمة) وكتب أخرى في الطب، وقد تلقى عنه الطب محمد بن زكريا الرازي كما روي معظم المؤرخين.
2 -
محمد بن زكريا الرازي وهو أكبر الأطباء المسلمين ومن أعظم الأطباء والكيماويين في العالم، وله تآليف متعددة في الطب والكيمياء.
3 -
علي بن العباس المجوسي الأهوازي وكان طبيب عضد الدولةالديلمي، ومن تأليفاته كتاب (كامل الصناعة الطبية)
4 -
الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا الفيلسوف والطبيب المشهور مؤلف القانون في الطب والشفاء والنجاة والإرشادات ورسائل أخرى في الفلسفة.
5 -
السيد إسمعيل الجرجاني مؤلف كتاب (ذخيرة خوارز مشاهي) في الطب باللغة الفارسية.
6 -
علي بن ربن الطبري:
وقد كان علي بن ربَنْ الطبري متقدماً عليهم في الزمان، ويعتبر مؤلفه (فردوس الحكمة) أول تأليف طبي مستقل لأطباء المسلمين، لذلك نكتفي في حديثنا هذا بذكر مجمل من تاريخ حياته مقتبساً مما ذكره معظم المؤرخين عنه وما ذكره هو نفسه في مقدمة مؤلفه كتاب فردوس الحكمة.
هو أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري وكان من أسرة برعت في العلوم، وتولت أهم الأعمال لولاة طبرستان، وكان أبوه من أبناء كتاب مدينة مروو ذوي الأحساب والآداب، وكانت له براعة في الطب والفلسفة، يقدم الطب على صناعة آبائه، وقد قام بتثقيف ابنه وتعليمه العربية والسريانية علاوة على الطب والهندسة والفلسفة والعبرانية وقليلا من اليونانية أيضاً، والدليل على أنه كان له إلمام بهذه الألسنة أنه قد شحن فردوس الحكمة ببسط القول في الهندسة والفلسفة وشرح فيه بعض اللغات اليونانية، ونشر ترجمة باللغة السريانية.
وبعد أن فرغ من التعليم في طبرستان، توجه إلى العراق وأقام بها وأخذ يتطبب فيها، وبعد أن عين مازيارين قارن لولاية طبرستان من قبل العباسيين، ترك علي بن ربَنْ الطب وأسرع إلى هناك، وتولى الكتابة في ديوان مازيار، واستمر في عمله حتى قتل مازيار، ثم توجه إلى الري وعاد فيها إلى التطبب ثانياً، وهناك أخذ الرازي يقرأ عليه الطب، ثم رحل إلى سر من رأى وأقام بها وفيها وفقه الله للانتهاء من تأليفه فردوس الحكمة وكان ذلك في العام الثاني من خلافة المتوكل على الله.
يقول ابن أسفندبار في المجلد الأول من مؤلفه تاريخ طبرسان ما ترجمته أن الخليفة المعتصم عين علياً بن ربن الطبري بعد مازيار بديوان الإنشاء فوجدوا معاني ما يكتب أقل منها في مازيار، فسألوه عن العلة فقال إن مازيار كان يكتب تلك المعاني بلغته، أما أنا فإني أدونها بالعربية وفي هذا ما يدل على قوة عقل مازيار.
ولما تولى المتوكل الخلافة دعاه إلى الإسلام فلباه واعتنقه، فلقبه بمولى أمير المؤمنين، ولشرف فضله جعله من ندمائه، وفي رواية لابن النديم أنه أسلم على يد المعتصم.
وقد اختلف المؤرخون في دين علي بن ربن، فقال بعض مشاهيرهم ومنهم محمد بن جرير الطبري أنه نصراني، وقال آخرون منهم كالقفطي إنه من اليهود.
يقول القفطي: (وكان له تقدم في علم اليهود والروبن والربين والراب أسماء لمقدمي شريعة اليهود)، ويظهر من هذا الكلام أن سبب وقوع القفطي وغيره ممن يعدونه يهودياً ناشئ من كلمة (ربن) إذ أن هذه الكلمة تطلق عادة على العلماء المتبحرين في علوم الدين عند اليهود - وقد كان لأبيه كما روى عن علي بن ربن نفسه وعن غيره من المؤرخين - إحاطة تامة بالكتب المقدسة وعلوم التوراة - أما بعد نشر كتاب (الدين والدولة) بواسطة الأستاذ منغانا المستشرق، وفيه يصف علي بن ربن نفسه أيام نصرانيته لا يبقى أي شك في أنه كان من النصارى وأن الذين يعدونه يهودياً مخطئون، وسبب وقوعهم في هذا الخطأ هو لقب والده (ربن).
أما تآليفه فهي حسب رواية ابن النديم وابن أبي أصيبعة والقفطي كالآتي:
1 -
تحفة الملوك
2 -
فردوس الحكمة
3 -
كناش الحضرة
4 -
منافع الأدوية والأطعمة والعقاقير
5 -
كتاب في الأمثال والأدب على مذاهب الفرس والروم والعرب، وقد أضاف إليها ابن أبي أصيبعة كتباً أخرى منها:
1 -
كتاب عرفان الحياة أو إرفاق الحياة
2 -
كتاب حفظ الصحة
3 -
كتاب في ترتيب الأغذية
4 -
كتاب في الرقي
5 -
كتاب في الحجامة
ويجدر بنا أن نزيد عليها كتابين آخرين هما:
1 -
(الدين والدولة) الذي نشرته مطبعة المقتطف والذي يشير على بن ربن نفسه في مقدمة مؤلفه (فردوس الحكمة) إلى أنه قام بنقله إلى السريانية بعد إنجاز تأليفه.
2 -
كتاب الرد على أصناف النصارى الذي أشار إليه المؤلف في مطاوي كتاب الدين والدولة.
وقد ذكر ابن أسفنديار في مؤلفه تاريخ طبرستان مؤلفاً آخر له باسم (بحر الفوائد) ولم يسلم من عوادي الزمان من كل هذه المؤلفات التي ذكرناها غير ثلاثة كتب هي:
1 -
كتاب فردوس الحكمة في الطب
2 -
كتاب حفظ الصحة، وتوجد نسخة منه في مكتبة بودلين باكسفورد.
3 -
كتاب الدين والدولة، وقد طبع بمطبعة المقتطف، ونذكر هنا نبذة عن كتاب فردوس الحكمة، قام بمراجعة هذا الكتاب وطبعه ونشره الدكتور محمد زبيو الصديق أستاذ جامعة لكنو في مطبعة أفتاب ببرلين بتشجيع المرحوم الأستاذ ادوارد برون المستشرق الإنجليزي المعروف وإرشاده - وكان طبيباً محباً لإحياء الكتب الطبية - وبمساعدة أوقاف جمعية جيب التذكارية) وذلك بمراجعة النسخ الخطية الثلاث الموجودة في أوربا والنسختين الموجودتين في الهند وكان ذلك عام 1928 بعد وفاة الأستاذ براون.
وقد كان كتاب (فردوس الحكمة) معروفاً منذ بدء تاريخ تأليفه حتى إن أشهر المؤرخين محمد بن جرير الطبري كان يطالعه وهو مريض قد لزم الفراش، واستشهد به الرازي والمسعودي وياقوت وأبو ريحان وغيره من المحققين في مواضع شتى من كتبهم.
والكتاب مقسم إلى سبعة أنواع من العلوم، والأنواع مقسمة إلى ثلاثين مقالة، والمقالات إلى ثلاثمائة وستين باباً.
ونجتزيء في حديثنا هذا الآن بالإشارة إلى أن النوع الأول من الكتاب مشتمل على مقالة واحدة يذكر فيها أنه أخذ المعارف التي ضمنها كتابه من بقراط وجالينوس وآخرين من علماء الطب ومن كتب أرسطو وسائر الفلاسفة ومن آثار معاصريه كيوحنا ابن ماسويه وحنين بن إسحق، وأضاف إلى ذلك كله خلاصة كتب أخرى طالعها وألحق بها زيادة في الإفادة مقالة خاصة في كتب الطب.
وفي أبواب هذا المقالة يتحدث عن كليات المسائل الفلسفية والعلوم الطبيعية من قبيل الهيولي والصورة والكم والكيف وتأثير الفلك والأجرام السماوية والهواء والشهب والحيوان البري والبحري والهوائي وغير ذلك. وفي النوع الثاني ويحتوي على خمس مقالات يشرح المسائل الطبية كالحمل والجنين وعلل العقم والعقر وخلقة الأعضاء والحواس والقوى المدبرة في البدن والقوى النفسانية والرويا والكابوس.
وفي النوع الثالث يبحث عن الأغذية وأنواعها والكمية اللازمة من أنواعها المختلفة وقوة كل نوع منها.
وفي النوع الرابع وهو أكبر أنواع الكتاب وأكثرها تفصيلا يتحدث أولا عن الأمراض بصفة عامة كالبحث عن الأمراض الخاصة بكل دور من أدوار الحياة والأمراض الخاصة بكل فصل من فصول - السنة وعلة هيجان الأخلاط والطبائع ثم يشرح بعد ذلك الأمراض الخاصة بكل عضور من أعضاء الجسم من قمة الرأس إلى أخمص القدم ويتحدث عن العلاج والفصد والحجامة وخصوصيات كل دواء وذكر علاجه.
وفي النوع الخامس يبين خواص الأشياء وروائحها وألوانها وفي النوع السادس منه يتحدث بالتفصيل عن المواد الغذائية والأدوية المختلفة كالحبوب والغلال والبقول والخضر والفواكه والزيوت واللحوم والمربيات والمخللات والأدوية المفردة والعقاقير والمسهلات ويذكر فيه أيضاً منافع أعضاء كثير من أنواع الحيوان وعن السموم وعلاماتها وترياقها والمراهم والأضمدة وغيرها.
وفي النوع السابع يتكلم عن الماء والهواء والأقليم والفصول والعلاقة الموجودة بينها وبين الصحة والمرض وفائدة علم الطب.
ويتبين من مطالعة كتب على بين ربن أنه لم يسهب في الكلام عن الجراحة العملية والتشريح بينما نراه في النوع الرابع من الكتاب وهو أهم قسم فيه ويولف خمسي الكتاب على وجه التقريب، يتحدث عن الأمراض بتفصيل كلي غير أنه لا يذكر حتى في هذا النوع شيئاً مهما عن تجاريه الشخصية أو مطالعاته عن المرضى في المستشفيات على عكس تلميذه العظيم الذي يمكن اعتباره أكبر الأطباء المسلمين أعني محمد بن زكريا الرازي فإن كل كتبه ومؤلفاته مشحونة بمطالعاته الخاصة في المستشفيات وبتجاربه المختلفة وبحوثه الدقيقة الشخصية.
ويستفاد من هذه الكتب الثلاثة الباقية من آثار هذا الرجل العظيم أنه فضلا عن مهارته في العلوم العربية والأدب وحسن الإنشاء ومعرفة اللغات المتداولة في زمانه كان عالماً بالطب والفلسفة والنجوم أيضاً كما أنه كان لديه اطلاع واسع على الديانات اليهودية والنصرانية والإسلامية.
وينسب بعض الكتاب الذين دونوا سيرة علي بن الطبري إليه أقوالا تعتبر من الحكم والأمثال السائرة (السلامة غاية كل سول - طول التجارب زيادة في العقل - التكلف يورث الخسارة - شر القول ما نقض بعضه بعضاً - الطبيب الجاهل مستحث الموت.
(يتبع)
8 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
من التاريخ الحديث
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
منذ أن عرف الإسلام طريقه إلى بلاد النوبة، أشرق في قلوب أهلها، إشراق الشمس تبدد حلكة الظلام وأضاء أفئدتهم، وأفهمفم معنى الوطنية الصادقة، وأنها ليست كلمة تلوكها الألسنة، ثم لا يكون لها بعد هذا أثر يذكر، أو خبر يذاع وينشر، أو عمل تدفع إليه النفس التواقة إلى المجد، والمستطلعة إلى العزة، والسيادة والعظمة،
ويفهم هذا المعنى السامي، بدأ الامتزاج الحقيقي في جميع نواحي الحياة، والمشاركة في أسمى أهدافها، وأنبل غاياتها، وعلموا أن المصريين إخوانهم في الدين، وشركاءهم في العقيدة. والاتجاهات والميول، لا يكادون يختلفون في ناحية من النواحي، أو شأن من الشئون. . . وأن التزاوج والإصهار، ومبادلة المنافع، والمشاركات الوجدانية بين الأفراد، كل أولئك لاشى الفروق، وكان دليلا عمليا على فهم النوبيين لحقائق الدين، وإدراك دقائقه، وأسراره التي تخفي على كثيرين من أبناء وطننا العزيز. . .!!
ومنذ هذا الوقت حمدت في نفوسهم عاطفة التناحر والتواثب، وزالت الرغبة في السيطرة والاعتداء، وتلاشت روح الكراهية والعداء، فأخلدوا إلى الهدوء والسلام، وجنحوا إلى الطمأنينة والاستقرار، وأيقنوا أن الامتزاج بينهم وبين المصريين أمر واقع لا شك فيه، عن إخلاص ونقاء، وحب وصفاء، وليس حديث خرافة أو خيال.
ومن هذا الحين تجلت عواطف النوبيين نحو مصر، سامية نبيلة، كلها الحب الذي لا يعرف البغض، والإخلاص الذي لا يعرف الرياء والمكر، أو النفاق والخداع،
وما أروع النوبي حين يخلص، وهو دائما المخلص الأمين، الذي يحترم العلائق، ويقدس الروابط والوشائج، ويرعى العهد والزمام.!
ومن هذا الحين كذلك استفادت مصر من جهود أبناء النوبة الذين ساهموا جدياً في بناء النهضة المصرية الحديثة، مدفوعين بوازع من ضمائرهم الحية، ودافع من إيمانهم العميق.
وقد اعتمد محمد علي باشا على النوبيين في تكوين الجيش الأول، كما يقول سمو الأمير المرحوم عمر طوسون في كتابه: صفحة من تاريخ مصر. إذا كانت الفرقة السادسة المسماة
بالإفريقية، تتركب من جنود نوبيين، وجنود سناريين، كانوا عماد النصر، والظفر في شتى الميادين، ومختلف النواحي.
وكم شهدت بلاد النوبة بفخر عظمة الجيش المصري الحديث، أيام الخديو إسماعيل باشا سنة تسع وسبعين وثمانمائة وألف ميلادية. . . ذلك الجيش الذي درب أحسن تدريب، ونظم خير نظام، ولم يفت في عضده صحارى بلاد النوبة الرحبة وفيافها الجدباء، فكان العتاد الحربي ينقل على ظهور الجمال، ومتون السفن الشراعية والتجارية، حتى يصل إلى مديرية خط الاستواء، التي فتحها المصريون بدمائهم، وبذلوا في سبيلها أرواحهم رخيصة هينة، ويريد الإنجليز الآن انتزاعها ظلما وغدراً باسم العدالة والديمقراطية. وكم باسم الحق تراق الدماء، وتزهق الأرواح باطلا وزوراً.
وقد لعبت بلدة كرسكوا، وهي في منتصف الطريق بين الشلال وحلفا تقريباً، دوراً هاماً أيام إسماعيل باشا، إذ كانت تصل إليها المعدات والعتاد الحربي، ثم ينقل هذا كله على ظهور الإبل إلى بربر والخرطوم.
وقد شهدت توشكي - وهي بلدة قرب حلفا - أهم حوادث الثورة المهدية سنة تسع وثمانين وثمانمائة وألف ميلادية، حين حاول عبد الرحمن ولد النجومي غزو مصر، طامعاً فيها، راغباً في الاستيلاء والسيطرة عليها، فخرج من دنقلا في مايو سنة تسع وثمانين وثمانمائة وألف ميلادية، في جيش لا نظام له، على الرغم من كثرة عدده، وكانت الحكومة المصرية عالمة بحركاته، إذ كان سردار الجيش المصري حينذاك رجلا اشتهر بالحكمة والروية، والحنكة وبعد النظر. ووقعت مناوشات بين الجيشين قرب حلفا، وما كاد يصل جيش السودان توشكي حتى التحم المقاتلون، واشتد القتال، وحمى الوطيس. وتمكن الجيش المصري من القضاء على عبد الرحمن ولد النجومي، ومعظم جيشه.
وسر بذلك الخديو توفيق باشا، فأرسل إلى السردار تهنئة بهذا النصر، وأقيم مقام عظيم في توشكي ضم جميع من مات من الجيش المصري، ونقش فوقه باللغة العربية حفراً:
(شيد هذا الأثر تذكاراً لواقعة توشكي التي حصلت في 6 من ذي الحجة سنة1306هـ، وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي. فشتتوا بعد قتل أميرهم. . وفي هذا القبر دفنت جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا وهم في
الميدان)
وكأنما كانت هذه الواقعة فألا حسنا على البلاد، فامتدت سلطة الحكومة المصرية إلى سرس (جنوباً)، وزلز هذا الخبر التعايشي وجنوده، فأخذت تتداعى أركان الدولة المهدية، ويتقوض بناؤها حجراً بعد حجر
وقد سار الخديوي توفيق بنفسه بعد الواقعة في بعض معيته إلى توشكي، وهناك في هذه البلدة النوبية الواقعة على شاطئ الغربي للنيل، والتي لا تبعد عن عنيبة أكثر من عشرة أميال تقريباً، وقف الخديوي توفيق أمام قبر شهدائها. وفي نفسه عواطف متباينة، ومشاعر مختلفة. وأحاسيس متضاربة، يتأمل ما أظهره عساكره من شجاعة وإقدام، وما أبداه جنده من جرءة واستبسال وسرعان ما فاضت دموعه ترحما على هؤلاء الأبطال القتلى الذين بلغ عددهم في هذه الواقعة ستة وعشرين قتيلاً فقط. .!!
وفي الدر، وإبرايم، وتوشكي، وأبي سمبل عائلات من المماليك، بيض الوجوه، ضخام الجسوم، يختلفون اختلافاً واضحاً عن بقية الاهلين من النوبيين الأصليين، فلهم من المماليك نعرتهم، وحدتهم، واعتزازهم العجيب بأنفسهم، إلى حد يدفعك إلى العجب، ويوقعك أحياناً في الحيرة والارتباك، ويذكرك تواً بقصة التركي الذي فقد الحكم والسلطان، والصولة والصولجان، فلم يعدمه في مجموعة من القلل ملأها ماء، وجلس بها على قارعة الطريق، يأمر وينهي، ويتحكم دائماً في كل من ساقه حظه العاثر إلى الشرب منها!!. .
وهؤلاء يطلقون على أنفسهم لفظ (كشاف) والواحد منهم كاشف، وهم بقايا المماليك الذين فروا من مصر، عقب المذبحة المشهورة، مذبحة القلعة التي بيتها لهم محمد علي باشا سنة إحدى عشرة وثمانمائة وألف ميلادية - إلى مختلف بلدان الصعيد. ولما أرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم باشا لجمع الضرائب في الصعيد، طارد فلول المماليك، وهاجمهم في أوكارهم التي لجئوا إليها، فأوسعوا الخطا إلى الجنوب، واستقر ببعضهم المقام في بلاد النوبة، وطابت له فيها الإقامة، فألقى بها عصاه، وقرت فيها عينه، إذ وجد الجو خالياً، والأهلين في طبيعتهم الهدوء والطاعة.
وقد كان هؤلاء يحملون كثيراً من الجوهر والذهب، مما خف حمله وغلا ثمنه، وارتفعت قيمته، فأمكنهم أن يسيطروا على النواحي التي نزلوا بها في هذه البلاد بما معهم من أموال،
والمال مفتاح كل مغلق، وميسر كل صعب، ومسهل كل عسير. أضف إلى ذلك النعرة التركية التي تطمح دائماً إلى السيادة والعضموت، والقوة والجبروت، والسيطرة والرهبوت، الأمر الذي مكن لهم في هذه الجهات سلطاناً وقوة، وثبت أقدامهم، ورفع شأنهم. . .
وبتوالي الزمن، وانقطاع المماليك عن مبعث السلطان، وموطن العظمة، واضطرارهم إلى الاحتكاك بالأهلين في شتى نواحي الحياة، وبخاصة سبيل الرزق والعيش، وبطول العشرة وما طبع عليه النوبيون من أمانة ووفاء، تزوج هؤلاء من النوبيات، وتزوج منهم النوبيون، وأصهر كل إلى الآخر، فتلاشت بعض خصائصهم، وأصبحوا مصريين مخلصين. . .
ومهما يكن من شيء، فقد ازداد حب النوبيين لولاة الأمور في مصر، وبخاصة أيام المغفور له الملك فؤاد الأول، الذي ملأ بهم قصره. وتضاعف هذا الحب للمليك المحبوب فاروق الأول حفظه الله، فغصت بهم دواوين الحكومة، فكانوا مثال العفة والنزاهة، والأمانة والإخلاص. . . .
عبد الحفيظ أبو السعود
المتنبي وكافور
للآنسة نعمت فؤاد
المتنبي شعور ملتهب دفاق، ونفس طلعة لا تهنأ بالجمام. وكان هو في شعره يصدر هذا الشعور ويترجم عن هذه النفس: آلامها وآمالها. شجاه أن يثب ابن خالويه عليه في حضرة سيف الدولة وليه وصفيه والذي أرسل فيه غرر مدائحه وكرائم أشعاره. يثب عليه ابن خالويه في حضرته ويضرب وجهه بمفتاح كان بيده فيشجه، ويرى سيف الدولة ما حدث فلا يدافع عن أبي الطيب! إنها لكبيرة. . .
لينهد إلى مصر إن بها كافوراً، وقد سار إليها قبله أبو نؤاس في إمارة الخصيب فأعطاه حتى رضى.
وفد المتنبي على مصر وحده وتخلف عنها هواه حيث بقى في حلب لا يريم. إن أمير بني حمدان لم يمسسه بسوء ولكنه كبر عليه أن يمس بالسوء وهو حاضر فيسكت فيكون سكوته إقرار.
وكان الأستاذ أبو المسك كافور يحب العلماء والشعراء ويقربهم إليه كما جرت بذكره السير. ولعل نفسه الطموح كانت تهفو إلى شاعر يقصر عليه هواه، ويغني علاه، ويخلد مجده. ومن كالمتنبي صدق شاعرية وبعد صيت؟ أتراه نفس على سيف الدولة شاعره؟ أم أراد أن يقال عنه (عظيم القدر مقصود)؟ كما حكى المتنبي.
إذن لم يكن بدعا من كافور أن يكرم وفادة المتنبي. فما إن نزل أخلى له داراً وخلع عليه وحمل إليه آلافاً من الدراهم. . . يتألف قلبه ويعطفه عليه فهتف المتنبي به كالطير يلذ له التغريد وقد توقر له الماء والحب والشجر.
نحن نعرف المتنبي في مدائحه لسيف الدولة شاعراً مغلقاً جهير الذكر ولكن قد يكون الصوت واحداً وتختلف درجاته. إن المتنبي هنا شاعر آخر. إنه يمدح وكأن به من مدحه غضاضة أتحسب أنه منشرح النفس وهو يستهل أولى مدائحه في كافور بهذا المطلع:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
…
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
إنه عند علماء البديع بمطاعه هذا غير موفق. . . وكذلك عندي. . .
اصحب المتنبي في هذه القصيدة تعرف مهمته وتتبين مقصده إنه لم يقصد كافوراً مادحاً
بقدر مسترفداً بل لعلك ترى أنه يهدف إلى مرمى أكبر من العطاء. أنصت إليه:
وغير كثير أن يزورك راجل
…
فيرجع ملكا للعراقيين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا
…
لسائلك الفرد الذي جاء عافياً
ألم أقل لك أنه شاعر طموح؟
وهذه النغمة لا تقف عند هذه القصيدة بل تطرد في كل قصائده التي نسميها (الكافوريات) وإليك الشاهد:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم
…
إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته
…
ولا يمن على آثار موهوب
وهبت على مقدار كفي زماننا
…
ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
…
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
فارم بي ما أردت مني فإني
…
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
…
ن لساني يرى من الشعراء
أصح عندك ما أقول؟
إن المتنبي هنا في مصر يمدح لينال. . . ينال مالا وينال جاها. إنه يرى نفسه من الملوك وإن رأته الدنيا شاعراً.
ونلاحظ في كافوريات المتنبي أنه حينما يمدح كافوراً فإنما هو مدح كالذم.
بنى كافور دارا بازاء الجامح الأعلى على البركة وطلب من أبي الطيب أن يذكرها فقال يهنئه بها:
مستقل لك الديار ولو كا
…
ن نجوما آجر هذا البناء
إنما يفخر الحريم أبو المس
…
ك بما يبتني من العلياء
أتظن أنه يستقل له الديار حقيقة؟ إني أحسبه يتهاتف عليه في سره حين طلب منه أن يذكر داراً وقد عوده سيف الدولة أن يسجل أفضالا وإلا فما معنى قوله في البيت الثاني:
إنما يفخر الحريم أبو المس
…
ك بما يبتني من العلياء
ألست ترى معي أنه يعرض له أن الفخر إنما يكون بما يكسب حمدا أو يخلد مجداً؟
الفخر بالعلياء لا بالبناء. هذا هو رده على طلب كافور.
وقال يذكر قيام شبيب العقيلي على الأستاذ كافور وقتله بدمشق سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:
عدوك مذموم بكل لسان
…
ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما
…
كلام العدى ضرب من الهذيان
ألست تلمس النكته في الشطر الثاني من البيت الأول ما دمت تعرف أن كافوراً كان عبداً بشع الخلقة؟
أما البيت الثاني فإنه يفضح شعوره إزاء كافور. إنه ينعى على الأقدار حكمتها في أن تملك هذا وتتركه هو مثلا! فلا يجد مخرجاً من حيرته سوى أن يردد القولة الشعبية (له في كده حكم) أو بأسلوبه هو:
(ولله سر في علاك)
ونلحظ عند المتنبي لونا ثالثاً وهو أنه لا يفتأ يذكر كافوراً بسواد لونه وهو يمدحه!
ومن قول سام لو رآك لنسله
…
فدى ابن أخي نسلي ونفسي ومالية
يريد أن كافوراً من نسل حام، يريد أنه عبد
وفي قصيدته التي يستقل له فيها الديار يقول:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم
…
س بشمس منيرة سوداء
إن الشمس لو كانت سوداء لما سميت شمسا ولكنه يريد أن يذكر لون كافور والسلام ليطمئن من كبريائه وإن تظاهر بمدحه ألي في ذكر اللون حط من نسبه؟
بل إن المتنبي صرح بذلك في قصيدته التي مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
…
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
في هذه القصيدة صرح بأن كافوراً لا نسب له ولكن عزاءه أن المكرمات تناهى إليه! يسمى ويذبح!
ويغنيك عما ينسب الناس أنه
…
إليك تناهى المكرمات وتنسب
ولون آخر لا يخفى في كافوريته ذلك هو حنينه المتشوف إلى سيف الدولة وإذا علمت أن سيف الدولة وكافوراً كانا متنافسين أحسست وقع مدح المتنبي بما حمله من ذكر حنينه على نفس كافور:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم
…
إلى غيوث يديه والشآبيب
قد تقول أنه يقصد بالغيث ريق الغمام ولكن صدقني أنه يريد سيف الدولة. إن لفظ (هجرت) لا تقال إلا عن شيء يكون بينك وبينه صلة عزيزة. . . أليس لفظ (الهجر) يقابل لفظ (الوصال) في منطق العاطفة؟
وقاد إليه كافور فرسا فقال يمدحه!
فراق من فارقت غير مذمم
…
وأم ومن يممت خير ميمم
إن المتنبي فارق محمود ألا يتطاول الذم إليه. ألم أقص عليك أنه لم يهجره عن قلى؟ جزى الله ابن خالويه.
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى
…
هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
وأحلم عن خلي وأعلم أنه
…
متى أجزه حلماً على الجهل يندم
ها هي تي قصة في بيته. هو يعترف أن سيف الدولة لم يتعمده بإساءة فكيف يذمه وهو لو أراد لغل هواه كل سلاح في يده. ليجرب الحلم إذن عله يندم على ما فرط منه. هو يحلم عنه ويحلم بندحه. إن البيت الثاني هو بعينه ما نسميه في علم النفس (أحلام اليقظة).
أرأيت أن المتنبي لم يخلص في مدحه لكافور بل رنق حنعوه بشوائب ذكرتها لك. أو تعده مادحاً ذلك الذي يذكر العيب في ثنايا المدح وكان أولى به أن يخفيه في هذا المقام؟
ولكن العين لا تغض عن العيب إلا وهي راضية والمتنبي لم يكن راضياً عن كافور قط كما قال بنفسه بعد أن تحلل منه وأصبح في وسعه أن يهجوه. لقد نظر إلى شقوق في رجليه فقال هاجياً:
أريك الرضى لو أخفت النفس خافياً
…
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضياً
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة
…
وما أنا إلا ضاحك من رجائياً
وإذا أتينا إلى ذكر هجره لكافور فاعلم أنه أوسع كافوراً تعييراً بالسواد وضعه الأصل مما ليس عليه مزيد فلنقف اليوم عند هذا الحد على أن تكون لنا رجعة أخرى إلى أبي الطيب إن شاء الله.
نعمت فؤاد
كلية الأداب. جامعة فؤاد الأول
فلسطين
يا أخت عمورية
للأستاذ محمود غنيم
قلنا وأصغى السامعون طويلا
…
خلوا المنابر للسيوف قليلا
سقنا الأدلة كالصباح لهم فما
…
أغنت عن الحق الصراح فتيلا
من يستدل على الحقوق فلن يرى
…
مثل الحسام على الحقوق دليلا
إن صمت الآذان لم تسمع سوى
…
قصف المدافع منطقاً معقولا
لغة الخصوم من الرجوم حروفها
…
فليقرءوا منها الغداة فصولا
لما أبوا أن يفهموا إلا بها
…
رحنا نرتلها لهم ترتيلا
أدت رسالتها المنابر وانبرى
…
حد السلاح بدوره ليقولا
ولقد بحثت عن السلام فلم أجد
…
كاراقة الدم بالسلام كفيلا
يا آل إسرائيل أين الملك هل
…
مضت الرياح بملك إسرائيلا؟
أتحققت آمالكم في دولة
…
تمتد عرضاً في البلاد وطولا؟
خدعتكم الأحلام في سنة الكرى
…
ما أكذب الأحلام والتأويلا
يا بانياً بالماء حائط ملكه
…
فوق العباب أرى البناء مهيلا
هي بنية قامت بغير دعائم
…
هي دولة قد أنشئت لتزولا
لما استهلت راح يطلب أهلها
…
مهداً فكان النعش منه بديلا
طلبوا القوابل إذ دنا ميلادها
…
فاستقبلتها كف عزرائيلا
قل للألي نفخوا بها من روحهم
…
هيهات قد ولد الجنين قتيلا
لو أن عيسى جاء يحييه لما
…
وجد الجنين إلى الحياة سبيلا
ليس الشرى للشاردين بمسكن
…
رحب ولا للمتعبين نزيلا
ولقد يصير لناب ليث طعمة
…
من بات في غاب الليوث نزيلا
(حيفا) فديتك ما لجفنك ساهداً
…
وللحنك الشاجي استحال عويلا؟
ما بال أهلك شردوا وشراك قد
…
أمسى بغير ليوثه مأهولا؟
أعزز على أبناء يعرب أن يروا
…
علماً يرف على حماك دخيلا
الجو يرقب خفقه مستنكراً
…
والطير ينظر نحوه مذهولا
لا جاده الغيث الهتون ولا هفا
…
ليلا برقعته النسيم عليلا
يا أخت عمورية لبيك قد
…
دقت حماتك للحروب طويلا
ناديت معتصما فكان غياثه
…
جيشاً شروباً للدماء أكولا
ما كان بالألفاظ جرس جوابه
…
بل كان قعقعة وكان صليلا
وأزيز أسراب تصب شواظها
…
فوق الحصون فتستحيل طلولا
لن يغفر العرب الأباة لغادر
…
هتك الحرائر والدم المطلولا
غضب الأباة لعرضهم فتخضبي
…
يا أرض واجري يا دماء سيولا
إنا لقوم ليس يمحى عارهم
…
حتى يرى بدمائهم مغسولا
فليشهد التاريخ (لليرموك) أو
…
(ذي قار) في العصر الحديث مثيلا
وليعلم الثقلان أنا لم نزل
…
نحمي كما حمت الأسود الفيلا
الصارم العضب الذي فتح الورى
…
مازال في يد أهله مسلولا
فلتطلب الأوطان ما شاءته من
…
دمنا تجده مرخصاً مبذولا
إنا جعلنا أرضنا للمعتدي
…
قبراً وظلا للنزيل ظليلا
النيل لا يرضى هوان أخ ولو
…
أجرى الدماء بكل قطر نيلا
لما رأيت النيل عبأ جيشه
…
أتبعته التكبير والتهليلا
وذكرت إبراهيم في حملاته
…
إذ كان يحدو الجيش والأسطولا
فلطالما دك القلاع بعزمه
…
ولطالما رد الجيوش فلولا
جيش الصلاحيين سار كأنني
…
أبصرت بين صفوفه جبريلا
وكأنني (بابن الوليد) و (طارق)
…
و (أبي عبيدة) يركبون خيولا
قلبت طرفي في الجنود فلم أجد
…
إلا فروعاً يتبعون أصولا
يتسابقون إلى اللقاء كأنما
…
هو نزهة بين الرياض أصيلا
ويسارعون إلى الحمام كأنهم
…
يجدون مر مذاقه معسولا
الطعنة النجلاء تحكي عندهم
…
طرفاً غضيضاً جفنه مكحولا
ويكاد يحسبها الجريح بجسمه
…
ثغراً فيوميء نحوها تقبيلا
فاروق جيشك جال في ساح الوغى
…
لا واهناً عزماً ولا مخذولا
داوي جراح الشرق حد سلاحه
…
وحمى الذمار وحقق المأمولا
لازلت حصناً للعروبة شامخاً
…
يرتد طرف الدهر عنه كليلا
قل للعروبة: لن تراعى إنما
…
يحمي حماك حفيد إسماعيلا
محمود غنيم
الأدب والفنّ في اسبُوع
قصيدة الجارم في فلسطين:
الحق أن قوى مصر قد بدت في معركة فلسطين بشكل جمع الدهشة إلى الروعة، فما كنا نحن نظن أنا هكذا! وليست هذه القوى في الناحية العسكرية فحسب، بل هي في كل شيء، حتى الشعر الذي كان قد اتخذ له أخيراً وسادة من ريش النعام، هب من رقدته، يشيد بالبطولة، وينطق بما يجيش في القلوب. ولقد حشد الأستاذ علي الجارم بك كل قواه الشعرية في القصيدة التي ألقاها بالمذياع مساء يوم الخميس الماضي، وما أظنه قال أحسن منها أو مثلها، فجاءت آية من الآيات المصرية في معركة فلسطين
قال في مطلعها:
تألق النصر فاهتزت عوالينا
…
واستقبلت موكب البشرى قوافينا
ثم قال:
أليس من أحجيات الدهر قبرة
…
رعناء، تزحم في الوكر الشواهينا
وتائه ما له دار ولا وطن
…
يسطو على دارنا قسراً ويقصينا
فيا جبال اقذفي الأحجار من حمم
…
ويا سماء امطري مهلا وغسلينا
ويا كواكب آن الرجم فانطلقي
…
ما أنت إن أنت لم ترمي الشياطينا!
ويا بحار اجعلي الماء الأجاج دماً
…
إذا علت راية يوماً لصهيونا
العهد عندهم خلف ومجحدة
…
فما رأيناهم إلا مرائينا
ما ذلك السم في الآبار؟ ويلكم!
…
ومن نحارب؟ جنداً أم ثعابينا؟
وقال:
بني العروبة هذا اليوم يومكم
…
سيروا إلى الموت إن الموت يحيينا
وخلفوا للعلا والمجد خالدة
…
تبقى حديث الليالي في ذرارينا
لقد صدئنا ودون الغمد منفسح
…
فجردوا حدّ ماضينا لآتينا
وقربوهم قرابينا محررة
…
للسيف إن يرض هاتيك القرابينا
ماذا إذا فقدنا إرث أمتنا؟
…
وما الذي بعده يبقى بأيدينا؟
وقال:
يا جيش مصر ولا آلوك تهنئة
…
حققت ظن الليالي والمنى فينا
وصلت آخر عليانا بأولها
…
فما أواخرنا إلا أوالينا
أعدتها وثبة بدرية صرعت
…
دهاة جيش يهوذا والدهاقينا
شجاعة مزقت أحلام ساستهم
…
وعلمت مترفيهم كيف يصحونا
أنشودة ناعمة:
كان الأستاذ علي محمود طه قد أنشأ تصيدة بعنوان (أخي أيها العربي) دعا فيها إلى القتال من أجل إنقاذ فلسطين العربية، وقد وقع اختيار الموسيقار محمد عبد الوهاب على هذه القصيدة فلحنها وغناها وسجلتها محطة الإذاعة. وفي مساء يوم الجمعة الماضي أذيع هذا المسجل، وقدم بأنه (أنشودة فلسطين) وعلى أنه من البرامج الحماسية التي تقدم في هذه الأونة، ولم يخلف عبد الوهاب ظننا به. . فهو فنان مبرز في أغاني الحب الناعمة، وقد جاءت (أنشودة فلسطين) على نسق (بلاش تبوسني في عنيه دي البوسة في العين تفرق)
وغنى عن البيان أن ما يقال لضرب من الحسان غير ما يقال للأخ العربي في الميدان.
من حق عبد الوهاب أن يأخذ (أجازة) في هذه الظروف العصيبة!
الفن المعاصر:
تحدثت فيما مضى عن معرض الفن المعاصر الذي عرض به جماعة من الشبان المصريين أعمالهم في التصوير، وقلت إنهم يتجهون في إنتاجهم الفني اتجاها جديداً يقولون عنه إنه يساير التطور الفكري وينتفع بالثقافات الحديثة ويفهم منهم ومن أعمالهم أنهم ثائرون على الأوضاع والقيم الفنية المعروفة ويسمونها (الفن الفوتغرافي) أي الذي يتجه فيه إلى مجرد تسجيل المناظر
وقد قوبل هذا المعرض بحملات من بعض النقاد، مبنية في جملتها على أنه لا يهدف إلى غاية جمالية من غايات الفنون الجميلة وأنه تكلف مبعثه الشذوذ والرغبة في الشهرة، والحق أن المرء لا يستطيع أن يفهم من تلك المعروضات أو من أحد أصحابها ما يرمي إليه هذا المذهب في وضوح. وإذا طلبت إلى صاحب رسم أن يبين لك مقصده منه فإن كلامه هو والرسم سيان. . ليس هناك إلا أن هذا شيء غير ما كان يرسم (الفوتغرافيون)
ولكن ما هو هذا الشيء؟
وقد أبدى رجلان من كبار رجال الفن، رأيهما في هذا المذهب بجريدة المصري، وهما الأستاذ محمد حسن بك مراقب عام الفنون الجميلة بوزارة المعارف، والأستاذ أحمد أحمد يوسف بك مدير مدرسة الفنون التطبيقية العليا.
قال الأول: (والرأي عند أكثر الذين يمارسون أنواع الفنون الجميلة بصفة جدية، أن أغلب مذاهب الفن المعاصر من وضع جماعات ذات طوابع فردية، نشاهد الكثير منها بين آونة وأخرى في أعقاب النكبات التي تلم بالأمم.
وقال الثاني بعد أن بين أن أي عمل فني لم يكن في نتيجته جميلا يسر العين ويرضي النفس، ويؤدي غاية خيرة طيبة، إنما هو عمل سقيم ليس من الفن الجميل في شيء، قال:(ويتضح من هذا أن المسألة ليست إنتاج صور أو تحف يقلد منتجوها عملا سابقاً، أو هي تنتمي إلى مذهب من المذاهب، أو تأتي نتيجة لهو وعب لا خير فيها، أو استهتار مقصود وشذوذ نفساني تدفع به عوامل نابية خارجة عن الأوضاع، ثم حشد هذا الإنتاج في معارض عامة أو خاصة يطنطن لها بالدعاية ويثار حولها بالكتابة والجدال استجداء للإعجاب بها، إنما الغرض الأساسي هو أن يخرج الفنان في صمت ووقار عملا جميلا نافعاً مفيداً له معانيه السامية وأهدافه النبيلة).
ترجمة الآثار الأدبية:
ذكرت في عدد مضى من الرسالة أن الهيئة الثقافية التابعة لهيئة الأمم المتحدة دعت الدكتور طه حسين بك لحضور اجتماع لجنة ترجمة الآثار الأدبية، وأن الدكتور لبى هذه الدعوة وسافر إلى باريس.
وقد عاد الدكتور طه أخيراً بعد أن انتهت اجتماعات اللجنة، وقد حضرها مندوبون من الخبراء العالمين في الشرق والغرب. ونظرت اقتراحاً قدمه الدكتور شار مالك ممثل لبنان في شأن نقل الآثار العلمية والأدبية من لغة إلى لغات أخرى. وانتهت اللجنة إلى الموافقة على نقل الآثار العلمية القديمة والحديثة وأن يكتفي بنقل الآثار الأدبية حتى سنة 1900 نظراً إلى التأثيرات السياسية والاجتماعية فيما بعد ذلك.
ومما أفضى به الدكتور طه أن مصر منذ عهد محمد علي قد اقتفت آثار العباسيين في نقل
العلوم والفنون والآداب، وأن بين الآداب العربية الحديثة كنوزاً ثمينة جديرة بالنقل.
مؤتمر المستشرقين:
ينعقد بباريس في خلال شهر يولية القادم، المؤتمر الحادي والعشرون للاستشراق، ويمثل مجمع فؤاد الأول للغة العربية فيه الدكتور طه حسين بك والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، ويمثل الأول أيضاً المجمع العلمي المصري، وستوفد وزارة المعارف وجامعة فؤاد الأول وجامعة فاروق الأول ممثلين لها في هذا المؤتمر
الشيخ أبو العيون وفلم (حياة أو موت):
اتصل الأستاذ الشيخ محمود أو العيون بإدارة المطبوعات في وزارة الداخلية في شأن فلم تعرضه سينما ريفولي بالقاهرة هو فلم (حياة أو موت) لأن فيه مساساً ببعض المعاني الدينية، وقال فضيلته في كتابه إلى مدير المطبوعات، إن القصة تدور حوادثها على أن للحب قانوناً فوق القانون السماوي، وفصل ذلك بقوله:(والرواية في جملتها تمثل خليطاً من الأوضاع المادية الرخيصة للمعاني الروحية في الملأ الأعلى، وترى فيها عزرائيل عليه السلام في صورة رجل فرنسي مخنث - كتعبير الرواية نفسها - ينزل بأمر من السماء إلى الأرض لقبض روح شاب، فيرفض ذلك الشاب تلك المهمة لأنه يهوى فتاة ولا يستطيع مفارقتها ويعود عزائيل فاشلا. ثم يعود مرة أخرى للمهمة عينها، فتنعقد المحكمة السماوية وينتصر في النهاية قانون الحب على قانون السماء) واقترح في ختام الخطاب أن تندب مراقبة المطبوعات في مثل هذه الروايات رجلا من رجال الدين يشاهدها لضمان البعد عن الوقوع في أخطاء تثير الشعور الديني في البلاد.
وقد صدر الأمر بمنع عرض هذا الفلم.
مسابقة الثقافة:
ذكرت في العدد الأسبق من (الرسالة) موضوعات المسابقة الثقافية التي قررت وزارة المعارف تنظيمها، والجوائز التي تمنح للفائزين فيها. وأذكر الآن فيما يلي شروط هذه المسابقة:
1 -
التمثيليات القصيرة للمسرح المدرسي، يشترط فيها أن يكون موضوعها مصرياً أو
شرقياً ملائماً للعرض أو التمثيل في محيط الشباب بالمدارس الثانوية، وأن يكون في فصل واحد يستغرق أداؤه حوالي 40 دقيقة، أو من فلسطين يستغرق أداؤهما حوالي 80 دقيقة.
2 -
التمثيليات القصيرة للإذاعة المدرسية، يشترط فيها أن يكون موضوعها مصرياً أو شرقياً وملائماً للإذاعة على تلاميذ المدارس الثانوية، وأن تستغرق إذاعتها بين 25 و 30 دقيقة.
3 -
المسرحيات العامة، يشترط فيها أن يكون موضوعها قومياً أو إنسانياً، يعالج مسألة ذات قيمة حيوية أو فكرة سامية في أي نوع من أنواع المسرحيات، وأن ينحصر في ثلاثة أو أربعة فصول، يستغرق أداؤها حوالي ثلاث ساعات.
4 -
القصة الطويلة، يشترط فيها أن يكون موضوعها قومياً أو شرقياً مما يرتبط بحياتنا في الماضي أو الحاضر أو ما نتصوره مستقبلا، أو ما يعبر عن مثلنا العليا تعبيراً أدبياً سامياً ويصور حياتنا وخلجات نفوسنا، أو يصور النفس الإنسانية عامة.
5 -
القصص القصيرة، يشترط فيها، من حيث الوضوع ما يشترط في القصة الطويلة، على أن تكون في حوالي 12 صفحة من القطع الكبير بالآلة الكاتبة، وللأديب أن يتقدم بأكثر من قصة.
6 -
البحوث الأدبية والفنية، يشترط فيها أن تتناول موضوعاتها الأدب العربي، أو سير العظماء الوطنيين أو العالميين، أو دراسات عامة في مختلف الفنون (الموسيقى أو التمثيل أو التصوير أو الحفر أو النحت) كما يشترط أن تكون الموضوعات قومية، أو يكون لها مساس بحياتنا، أو أن يكون الموضوع إنسانياً عاماً يشارك في الاستفادة منه غيرنا من الأمم والشعوب.
7 -
بحوث التاريخ والآثار، يشترط فيها أن يستلهم الموضوع من تاريخنا القومي، القديم أو الحديث، وأن يهدف إلى إثارة الاهتمام بأمجادنا أو بتراثنا القومي وأثره في الحضارة الإنسانية.
8 -
الرحلات، يشترط فيها أن يعرض الموضوع وصفاً حياً أدبياً لرحلة أو أكثر قام بها المؤلف في أنحاء وادي النيل أو الأقطار الأخرى، وبذلك يكون تصوير الرحلة ناتجاً عن خبرة شخصية لإقليم أو لعدة أقاليم جال فيها.
9 -
الموضوعات العلمية المبسطة، يشترط فيها أنه تكون سهلة يفهمها القارئ العادي، وأن تتناول ما تؤديه هذه العلوم من خدمات للحياة الإنسانية العامة في المدن والريف.
ويجب في كل الموضوعات أن تكون مكتوبة بالعربية الفصحى وكل موضوع مقدم للمسابقة يجب ألا يكون قد سبق نشره أو تقديمه في مباراة سابقة. وآخر موعد لقبول الموضوعات هو نهاية نوفمبر سنة 1948.
العباس
رسَالة النقد
على هامش كتاب:
سعد زغلول من أقضيته
(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكري
وإعجابي)
للأستاذ عدنان الخطيب
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
9 المعيار الخلقي:
(كان معيار سعد الخلقي صارما) فقد كان يصدر أحكاماً تدل على هذا المعيار الصارم، وتدل على رغبته في سيادة مكارم الأخلاق على علاقات الناس ببعضهم، ولم يكن القانون عنده إلا في المنزلة الثانية بعد الأخلاق، وهو القائل، (إن كل شريعة تؤسس على فساد الأحلام فهي شريعة باطلة).
أسمع قوله في حكم من أحكامه (. . . إن هذا يعد من قبيل خيانة الأمانة، الممقوتة ذمة، المعاقب عليها قانونا) ولاشك أن (الإحساس الخلقي والالتفات الاجتماعي هما اللذان يوجهان سعداً إلى ناحية (الذمة) وقد كان غنياً عن الاجتماع بها اكتفاء بكون العمل (معاقباً عليه قانونا) وسعد في أحكامه جميعها (لا يصور لنا الناحية الخلقية - فحسب - ولكه يجمع بينها وبين المنفعة الاجتماعية) لا بل هو يريد (أن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون).
إن سعداً كان الرجل الفذ، الذي لا يعرف إلا الحق، والذي لا يخاف فيه لومة لائم، هو الرجل الذي يقدم الحق ويتبعه بقوله (هذا اعتقادي، وقد عاهدت الله أن أقول ما في ضميري، وهذه لذتي في حياتي).
سعد الأديب:
لقد كان سعد أديباً من الطراز الأول، أديباً يحمل بين جوانحه نفسية الأديب، ثم أضاف إليها
ثقافة وميزات أدبية عظيمة، تلمح الإشارة إليها، وتعداد بعضها في كتاب الأستاذ الزيات، منثورة هنا وهناك، خلال دراسته لأحكام صدرت عن الفضاء الأهلي في مصر، يوم كان سعد قاضياً من قضاته؛ إن قرأتها فسوف (تقطع في غير تردد أو تحفظ بأنها أحكام سعد لحمة وسدى، ودماً ولحماً، وفكراً وأداء، المنطق الجبار الآسر، والحجة الوثابة تقفز - كجند يلتف - لتقطع الطريق على المناظر؛ واللفظ المشرف في تركيب مصقول، والأداء المحكم لا يشتكي قصر منه ولا طول. . وهذه التعبيرات المقبوسة من علم المنطق. . وهذا الجمال البياني الذي يستقيم على الطبع، فلا تشعر فيه بالآم النحت والسجع، وعناء (الفاعل) المتصبب تحت نير الصخور، يحمل نفسه فوق ما يطيق، ليزهو بحمله ويسعد أذنيه المفرورتين بكلمة من النظارة قد تكون غباء، وقد تكون رياء، أو قد تساق تهكما، أو قد تساق رثاء).
أما من يحب سماع صوت سعد فليقرأ أحكامه ليسمع (صوت الكاتب صاحب الأسلوب القوي الآسر) وأنا زعيم أنه، وإن جهل صاحبها، سيحكم، إن كان يعرف سعداً، إنها من بناته (فإن شمائله ظاهرة فيها ظهوراً قوياً: منطق قوي يعتمد على قياس المشابهة وقياس الأولوية. . . وصياغة عربية تضامنت أجزاؤها)، لينظر في هذه الأحكام من يجب أن يعرف سعداً ليرى (أسلوبه المتأنق، وبلاغته المخزونة) بل ليرى (ذوقه السليم) ليرى (وضوح الديباجة ونصاعة الأراء)(الأداء العربي. . . والأسلوب المحكم الدقيق) ليقرأ تلك الحيثيات التي خط الأستاذ الزيات تحتها فإنها (تكشف عن قوة العارضة في الجدال) حيناً، وتكشف عن (روح سعد المتهكمة وسخريته الحلوة حين تطمئن نفسه) أحياناً أخرى؛ إنها حيثيات (حكم مسهب، قوي التسبيب، محكم التقسيم).
ليقرأ معي، من يحب أن يعرف سعداً الأديب، هذه الفقرة (إنهن وارثات ضعيفات، وإنها ابنية حقير أشتات، والدائنون تجار أخشاب، يخيل الثراء في أوصافهم) ولاشك أنك أيها القارئ لها ألممت منها، ومنها وحدها، بموضوع الدعوى، وأهم الدفوع فيها، وتجلت لك فيها روح الحاكم وقناعته، بل ما سيحكم به عقبها إنها فقرة كتبها أديب عظيم، لقد صور لنا في كلماتها القليلة العدد قضية لا يستهان بعدد صفحاتها وأهميتها، ألا تعتقد معي، أيها القارئ الكريم، إن كاتبها (مخرج بارع دقيق)؟! عد إى قراءتها، واقرأ ما قبلها وما بعدها
من فقرات (فسترى فكراً واحداً ينتظمها كلها، ونظراً واحداً يشيع بينها طمأنينة الانسجمام. إنها نغمة تضطر في غير نشاز، نغمة بغيضة إلى أولئك الذين يأكلون في بطونهم ناراً وسعيراً، جيبة إلى أولئك الصبية الضعاف وإلى الشادين بالعدل والراعين للحقوق)
إن الأديب عند سعد غير غريب عن معدنه، إنه ماء عذب يسيل من منبع صاف فياض، إن سعداً إن كتب أو خطب يكتب ويخطب (وكأنه يتمثل (النهج) الذي طالما نهل من بلاغته) وليس بعد بلاغة (النهج) من بلاغة!!
إعجاب ونقد:
كنت أفكر وأنا أقرأ كتاب (سعد) في التعليق على بعض ما أعجبني فيه، وعلى ما استلفت نظري من (تعليقات) الأستاذ الزيات الطريفة، ولكن إعجابي بالكتاب وبجهد مؤلفه الجبار، جعلني أترك ما أزمعت عليه، أتقدم من قراء (الرسالة) بهذه الخلاصة، فإن وجدوا فيها متعة فهي قبس من بيان صدقي الأستاذ الزيات وشل من فيض أدبه الرفيع، وإن أنكروا منها شيئاً، فهي لآلئ حاولت جمعها من كتاب سعد، وعليَّ وحدي تبعة سوء صياغتها الصياغة التي تعجب المتفرجين والناقدين.
وإني لا أود أن أنهي هذه الكلمة قبل إبداء بعض الملاحظات التي مرت بخاطري وأنا أقرأ الكتاب؛ فالكتاب ينقصه (فهرس) لا للأعلام، ولا للأحكام التي فيه لمعرفة دوائرها وتواريخ صدورها، بل (فهرس) يدلنا، على الأقل، على صفحات الفصول التسعة المقسم إليها الكتاب؛ وفي الكتاب نقص آخر وإنه لنقص في نظري عظيم، فقد خلا من موجز لسيرة سعد، إذ لو وجدت فيه لكانت عوناً كبيراً يرسم صورة سعد في مخيلة كل قارئ، بل لكانت رشداً يعين القارئ على تتبع حياة سعد في القضاء، وتواريخ تنقله بين دوائره العديدة، وعلى معرفة زمن دراسته للقانون، وتاريخ أجازته ومدة تعاطيه المحاماة، وتاريخ تركه للقضاء وسببه، وهذه أمور لها قيمتها، في تاريخ سعد بتتبع أحكامه القضائية، ورسم مناهج لدراستها دراسة لا تختلط اختلاط بعضها في بعض فصول الكتاب!
وليست هذه الملاحظات بمؤثرة على إعجابي وتقديري، ولا يعيب الحكم - كما يقول سعد - إلا يتضمن الإشارة إلى ما كان يحسن به أن يشير إليه، والثوب المتقن البديع لا يعيب لابسه، إن نقصته جيوب، ولو اتفق على أن الجيوب تزيد في كماله وجماله على من فيه.
(حمص)
عدنان الخطيب
البَريدُ الأدَبي
تحقيقات على هامش حملة فلسطين:
1 -
جاء في البلاغ الرسمي العراقي الصادر من بغداد والذي
نشرته الأهرام في صباح اليوم 7 6 1948 ما يأتي:
(أغارت قواتنا على قرية كاكون في شمال غربي طولكرم وكبدت العدو المرابط بها خسائر فادحة).
وصحة الاسم بالعربية قاقون لا كاكون، هكذا ورد في المعاجم المعروفة وفي كتب التاريخ العربية ثم في المؤلفات العسكرية وفي الخرائط التي وضعها الجيش العثماني بالأحرف العربية - راجع خرائط جيش الصاعقة بلد ديم طبعة وزارة الحربية مقياس 250. 000
2 -
وجاء هذا الاسم في معجم البلدان لياقوت: قاقون حصن بفلسطين من علم قيسارية من ساحل الشام ينسب إليها أبو القاسم عبد السلام بن أحمد حرب القاقوني إمام المسجد الجامع بقيسارية.
3 -
وكان بقاقون قلعة حصينة فأصبحت معقلا من معاقل الإسلام في الحرب الصليبية إذ ورد اسمها مراراً في المعارك وفي عقود الهدنة التي كان يعقدها ملوك مصر مع أمراء الصليبيين: راجع كتاب هدنة الملك المنصور قلاوون مع الإفرنج في ملحق كتاب السلوك وفي كاترمير وفي ابن الفرات.
ومر بهذه القلعة صلاح الدين في طريق عودته من حصار عكا إلى عسقلان بعد نزوله بحيفا.
4 -
ويقول المؤرخون إن تقدم الإفرنج كان على الساحل وهم يسيرون بالفارس والراجل وعن يمينهم البحر وعن يسارهم الرمل.
وكانت المعارك تنشب ليل نهار وصلاح الدين يسير بنفسه بين الصفوف ونشاب العدو يتجاوزه. ولدينا أوصاف رائعة بمواقف القتل ونقل الجرحى والأسرى في هذه المرحلة.
5 -
وفي عصر الملك الظاهر نازل قاقون جماعة من أمراء مصر منهم الامير الكبير أقوش الشمسي البلط المشهور صاحب المواقف الخالدة في عين جالوت.
6 -
وفي يوم الخميس 21 رجب سنة 680 وقعت بأبراج القلعة بمدينة القاهرة الرسائل الأولى التي نقلها الحمام الزاجل عن انتصار الملك المنصور قلاوون على التتار في معركة حمص الفاصلة حينما انتصر الجيش المصري أكثر من مائة ألف من جنودهم أرسلت البطائق الجاملة للبشرى من قاقون وكانت مراكز من مراكز الحمام ويحدثنا التاريخ أن أهل القاهرة والشام أمضوا الليالي في تلاوة القرآن والبخاري بالمساجد ابتهالا للنصر؛ فلما وصلت البشائر يحملها الحمام إلى القلعة انطلقوا يوجهون الشكر للعلي الأعلى على ما آتاهم من نصر.
7 -
وفي رحلة السلطات قايتباي إلى الديار الشامية ذكر قاقون في عودته إلى مصر فقد نزلها في يوم الثلاثاء 18 شعبان سنة 882 حيث سلك الطريق من صفد إلى كفر كونا - الناصرة - اللجون - قاقون - الرملة - أسدود.
8 -
وفي رحلة الأمير يشبك أنه نزلها وأقام بها.
من هذا كله يتضح أن صحة الاسم قاقون لا كاكاون وأن ذكرياتها قديمة في التاريخ الإسلامي العربي خصوصاً لأهل مصر.
أحمد رمزي
خليفة المتنبي:
مدح المتنبي كافورا الأخشيدي بقصائد جياد ومن غرر شعره.
قواصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
…
وخلت بياضا خلفها ومآقبا
ثم هجاه بأهاج مريرة جاء فيها.
من علم الأسود المخصى مكرمة
…
أقومه البيض أم آباؤه السدد
أم أذنه في يد النخاس دامية
…
أم قدره وهو بالفلسين مردود
لا تشتري العبد إلى والعصا معه
…
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ومضى الزمن على سنته. إخلاص ونفاق، وتصريح وجمجمة حتى رأينا من شعرائنا من سار على نهج المتنبي وحذا حذوه. فمدح وهجاء الممدوح هو المهجر.
هجا بعض الشعراء رئيسا فقال:
شبخ مناه صغير مثل منبته
…
أقصى المنى عنده لو صار مأذونا
لا رأي يعرضه إلا متابعة
…
فرأيه دائماً من رأي (كرسونا)
ثم سار هذا الشيخ رئيساً له يملك نفعه وضره، فما أسرع ما تحول الشاعر وجاء يقول لهذا الشيخ.
عرفت أبى النفس لا تعرف الهوى
…
ومن آفة الأخلاق أن يعرف النكر
أهنيك يا مولاي والناس كلهم
…
يهنئني حتى سما بك لي قدر
ومثلك لا يزهي بغر قصائدي
…
ولكن به تزهي قصائدي الغر
ومنها:
فقل لسكارى التيه موسى أتاكم
…
أقلوا من الأدهام قد بطل السحر
وقل لبني المعمور أوسا وخزرجا
…
تدارككم مأمونه الطاهر البر
وهكذا يصبح الرجل بين عشية وضحاها إنساناً آخر. فبالأمس كان أمعة لا رأي له وقد يتصرف فيه أحد مرءوسيه، وهو وضيع النشأة والمنى، واليوم صار أبي النفس يشبه بموسى مرة وبمحمد مرة أخرى.
حدثوا أن الخوارج لما جاءهم موت المصعب. سألوا عسكر المهلب وكانوا لا يعلمون. عن عبد الملك بن مروان فقالوا ضال مضل. ثم سألوهم في اليوم الثاني. بعد أن علموا باستقرار الأمر لعبد الملك فقالوا: أما هدى. فقالوا لهم: يا عبيد الدنيا بالأمس ضال مضل واليوم أمام هدى!
وبعد. أليس هذا الشاعر خليفة المتنبي في هذا فحسب. ولكن المتنبي لم يكن عالماً من علماء الأزهر. ولم يكن يدرس التفسير والحديث والأخلاق في كلية عالية.
محمد سرحان
أستاذ في البلاغة والأدب
ومدرس بكلية اللغة العربية
الكُتبُ
صور من التاريخ الإسلامي
العصر العربي
تأليف الأستاذ عبد الحميد العبادي بك
تقدم الجمعية التاريخية هذا الكتاب لعبد الحميد العبادي بك عميد كلية الآداب. والكتاب يقع في أكثر من مائتي صفحة ويحوي دراسات قيمة مبتكرة في العصر الأموي: أنشأها صاحبها صوراً، وارتفع بها عما في أسلوب الدراسة العلمية من إملال أحياناً، وأخرجها في ثوب أدبي ممتاز فذ. والعبادي بك جيد الطريقة، جامع في أسلوبه التاريخي بين بلاغة الروايات القديمة، وبين الأسلوب العلمي الدقيق في العصر الحديث.
ولاشك أن الجمعية التاريخية وفقت التوفيق كله في تقديم هذا الكتاب إلى العالم العربي؛ لأنه كتاب المؤرخ المصري الأول في العصر الحديث، ولأنه على الأخص يصور أمجد العصور في تاريخ المسلمين. ولعل الجمعية حين اختارته أحست بحاجة العالم العربي في نهضته الحديثة إلى احتذاء ساسته الأقدمين في سعة آفاقهم، وشمول نظراتهم، وجلال فعالهم، وحرصهم على الإصلاح، وسعيهم إلى الصدارة بين الأمم.
والواقع أن القارئ يحس توثب المؤرخ العميد في حماسته للعصر الأموي، ويحس حرصه على أن ينتفع الجيل الحديث بالتراث العربي القديم. فانظر مثلا مقاله عن بحر الروم، تر كيف كان البحر جزءاً من نفسه، ومجالا لمجد العرب، ومعقد آمال الجيل الحديث. ثم اقرأ:(أيها المصريون. . . لقد استرهنكم المستعمر الأرض، ووضع في أعناقكم أغلالا وفي أقدامكم قيوداً ولا خلاص لكم في ذلك الرق المضروب عليكم إلا بركوب متن البحار؛ هنالك تنشقون فوق ثبج الماء ريح الحرية الصحيحة، وتبرأون من علل أورثكموها لزوم البر أحقاباً طوالا؛ هنالك تنبعث مصر الحرة حقاً، مصر الحديثة حقاً، مصر العظيمة حقاص). ثم شيء آخر تحس أن المؤلف يدعو إليه دعوة صادقة: تلك هي الدعوة إلى استلهام الطبيعة لأنها أصفى من يهدي إلى صالح التقاليد. وكأن المؤرخ إنما ردد بعض أفكار روسو حين قال: (الصحراء تبعث في نفوس أهلها وعشاقها الرجولة الكاملة،
والإيمان الصادق، والعبقرية التامة). فالكتاب حي الأسلوب صادر عن نفس يهزها الأمل في المستقبل، فتنقل إلى القارئ ما تحس في صدق وصراحة وتردد أحياناً، كما ترى في هذه العبارة: ترى هل أما الله الأمم الإسلامية، أو ألقى عليها نوماً ثقيلا حقبة من الدهر، ثم تأذن بحياتها عندما غيرت ما بأنفسها من صفات الشر، وأنشأت تتحلى بصفات الخير؟ أكبر ما نأمل أن يكون الأمر كذلك). . .
فإذا أمتعت النفس بهذه الخلجات التاريخية الممتزجة بالوطنية في توثب وحماسة فارجع إلى دراساته التاريخية البحتة التي تزيد على العشرين. وانظر كيف يصور العصر العربي الأول قبيل الدعوة وبعيدها، فيبرز لك تقاليده في الشورى، وحرصه على المساواة والبساطة في الدعوة للحق ودين الإسلام، ثم يعود المؤرخ فيحمل إليك صوت الخلفاء مرتفعاً بالدعوة إلى الإصلاح بعد أن امتد الزمن، وعدا على كل شيء، وابتدأ قرن جديد
أما الشورى فقد صورها في دراستين: إحداهما عن دار الندوة، والأخرى عنوانها (كيف كان النبي يسوس أصحابه) أما المساواة فقد مثل لها بشخصية عمر بن الخطاب، وهي ناحية أهملها الكتاب على كثرة ما كتبوا عن ابن الخطاب، وهي ناحية أهملها الكتاب على كثرة ما كتبوا عن ابن الخطاب. وقد تمثل المؤرخ الإسلامي الجليل بأسلوبه العلمي الفني المساواة في شخصية أبي ذر الغفاري، وهو الصحابي الذي أرسل من منفاه بالصحراء صوتاً من الحق لا يزال يدوي في آذان الأجيال جيلا بعد جيل، ولا يزال المصلحون يرددون أصداءه في بقاع الأرض المتحضرة أما الدعوة أيام النبي فقد صوَّر مؤرخنا المصري مهدها في ورع صادق وخشوع جليل، فصور لنا كيف بدأت الدعوة إيماناً راسخاً في دار بسيطة، هي دار الأرقم المخزومي ثم يدور الزمان وتجري المقادير بما شاء الله ويتم للإسلام السلطان على ملك واسع ويقبل على الإسلام أقوام من كل صنف فتحتاج الأمور إلى دعوة جديدة للاصلاح، وتتطلع الأبصار إلى مصلح يعيد البساطة الأولى ويرد صالح التقاليد. فكان عمر بن عبد العزيز ذلك المصلح الذي أعاد بساطة دار الأرقم، وأقام خلافته على أصلح التقاليد القديمة. وكان مبدؤه في ذلك أن سبيل الإصلاح واحدة في أساسها رغم اختلاف الأجيال والعصور والبيئات، ولله در العرب حين قالوا (إن الأمور إنما تصلح بما صلحت به أوائلها)
وقال المؤرخ العميد عن عمر بن عبد العزيز نظرية جديدة وكتاب وحده، لأنه أثبت له شخصية المصلح. وقد يعرف الناس جميعاً وخاصة المسلمين أن عمر كان خامس الراشدين، وأن المؤرخين القدماء جمعوا مناقبه. فأي جدة فيما يقول الأستاذ العبادي؟ الجدة في تدعيم ما جاء في كتب المناقب بالأدلة التاريخية المبينة على التحقيق العلمي السليم. وشتان بين أقوال أصحاب المناقب وجماع الروايات وبين تحقيقات المؤرخين المحدثين المؤسسة على المنهج العلمي الحديث. فإذا أردنا تصوير هذا الفارق طالعتنا شخصية الرشيد كما تبدو في القصص التاريخي وشخصيته التاريخية الحقة؛ وشخصية الحاكم الخليفة الفاطمي بين القصص والتاريخ، وشخصيات أخرى كثيرة تنازعها الخيال الشعبي وخيال القصاص وتصوير المؤرخين.
ولم يقتصر المؤرخ العميد على تصوير الخلفاء، وإنما تجاوزهم إلى الولاة والقواد. فكتب مثلا عن زياد صاحب الخطبة البتراء التي تغني عن النسب، وأخ معاوية بالمؤاخاة، وعامل الإمام علي من قبل وصاحب ابنه الحسين من بعده. فهو شخصية تحتاج إلى بحث محكم لما تثير في النفس من معان متضادة، فيتلطف الأستاذ ثم يتلطف، ويهدأ ثم يهدأ، فإذا هو يخرج صورة لزياد تاريخية، فيها ما فيها من شر، وفيها ما فيها من خير. وكذلك كتب الأستاذ مثلا عن محمد بن القاسم الثقفي فاتح الهند، فجعله رمزاً للمجاهدين.
وهكذا لا تكاد تقرأ مقالة إلا وجدتها تخطيطاً تاريخياً متيناً، وبحثاً عميقاً، ونظراً مبتكراً، يثير في نفسك خلجات شتى ويترك لك مجال تفكير وتعليق. وذلك أن الصور التي يسوقها العبادي تفيض خصباً وحياة قوية نابضة.
والمؤلف قبل كل شيء أستاذ أجيال من المؤرخين مد الله في عمره
محمد عبد الهادي شعيره
أستاذ مساعد كلية الآداب - إسكندرية