المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 782 - بتاريخ: 28 - 06 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٨٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 782

- بتاريخ: 28 - 06 - 1948

ص: -1

‌العلم والفن. . . هل يلتقيان؟

للأستاذ محمود تيمور بك

ما أوسع الهوة بين العلم والفن! العلم حقائق مسلمة، وتجارب محكمة، ونظريات تمخض عنها جهد المعامل ووسائل الاختبار، وأوضاع تقوم على أسس هندسية ورياضية رائدها العقل الواعي وحده خالصا من كل شوب.

أما الفن بمعناه الأدبي فهو التماع الخاطر، وبث النفس، ووهج المشاعر، واستجابة المنازع لما يصادفها في الحياة من أحداث ومشاهد ومؤثرات. والكثير من ذلك كله رائده العقل الباطن يستيقظ فيبعث ومضاته في غفلة من العقل الواعي، وتسلل من رقابته الصارمة. . .

ومما يعين على جلاء هذه الفكرة تصور موقفين للأديب والعالم من التاريخ:

يقف العالم أمام الحادث التاريخي وقفة فاحص ممحص، يستكشف الأسانيد ويتثبت من السنين، ويقتنص القرائن، وينتخل الشواهد والأشهاد، وما يزال معانيا ذلك في يقظة وترصد وتحفظ، حتى يطمئن إلى تحرير ما وقع على حقيقته جهد إمكانه. . .

ويقف الأديب أمام ذلك الحادث التاريخي بعينه، فلا يعينه منه إلا روحه وجوهره؟ يجاهد ليعيش فيه، ويترك لأجنحة مخيلته أن تحلق به في سمائه ليستنزل الوحي ويستمطر الإلهام، فإذا هو يظفر بموضوع إن أنكره التاريخ في صومعهة حقائقه وأعلامه، وفي متحف أحجاره وآثاره، لم ينكره الفن حين يطالع فيه صورة إنسانية يحيا داخل إطارها ذلك الحادث التاريخي بشخوصه وما يعتلج في نفوسهم من مشاعر ورغائب واستجابات

ولذلك كان كثيرا ما تتشابه الأحداث والشخصيات التاريخية أقوى التشابه على اختلاف المؤرخين، وتغاير درجاتهم في التأليف؛ ولكن الأدباء الفنانين إزاء تلك الأحداث والشخصيات يختلفون في تصويرهم لها اختلافا يقل أو يكثر، فلكلمنهم جانب استيحاء وقبلة استلهام، وكل منهم يسبغ بصبغة نفسه علمه الفني، ويستمد من ذاته الوقود، وكل منهم يودع قصته ذخيرة من جوهر الإنسانية والحقائق البشرية، على قدر ما يستطيع أن ينفذ إلى ما يتدسس في العقل الباطن، فيواتيه الوحي والإلهام.

ومثل آخر يساق في هذا المقام؛ فقد يقع القارئ في لبس واستراية حين يقرأ تراجم الأشخاص، فيرى بعضها قد اتخذ مسحة دقيقة من النسق التاريخي، والتحقيق العلمي،

ص: 1

واستنباط النتائج من أسبابها الصحيحة طوعا لقضايا المنطق؛ ويرى بعضها الآخر ليس إلا صوراً تستند أكثر ما تستند إلى الاستلهام الفني فتطالعه بملامح إنسانية ناطقة تحمل طابع عصرها وجوه.

وإنما يتعرض القارئ لذلك اللبس والاستاربة؛ لأنه لم يفرق بين نوعين متباينين أشد التباين؛ أحدهما: نوع الترجمة التاريخية التي تحتشد فيها الحقائق والإسناد، والآخر نوع الصورة الوصفية التي تتضوأ فيها ألوان من شخصية الكاتب، وقوة تخيله واستلهامه في الوصف والتصوير.

فالمترجم التاريخي عدته أمانة النقل، ودقة التمحيص، والمصور الوصفي عدته إطلاق المخيلة وصدق الإلهام.

فلو تمثلنا أن خمسة من المصورين في مرسم فنان يصورون نموذجا واحدا من النماذج، ولكل منهم موضع أمام النموذج خاص؛ فإننا حين نعرض ما صوره هؤلاء الفنانون الخمسة نجد فروقا بينها جميعا؛ لأن كل مصور رسم صورته على وفق الوضع الذي نظر إليه، واستمد إلهامه فيه، فأسبغ على الصورة من ذات نفسه ما سمحت به، والنموذج واحد ولكن الصور تختلف لأنها صورة فنية لا بد أن تظهر على سماتها أثاره من اختلاف المصورين. . .

وإذا كنا نشير إلى سعة الهوة بين العلم والفن، وتباين منعيهما: العقل والواعي، والعقل الباطن، فإننا لا نعني بذلك أن لا تواصل بينهما على نحو من الأنحاء، فلسنا نغفل أن الحدود القائمة بين الأديب والعالم قد تتداخل فيكون منها مزاج لا هو بالأدب المحض، ولا هو بالعلم الصراح.

ولقد يتجرد مؤرخ لكتابة التاريخ، فتراوحه نسمات من فن البيان تجعل صفحات تاريخية موشاة بالأدب، ولقد يخلص أديب لبعض فصوله في تصوير الحياة ونقد المجتمع فتحضره قواعد مقررة، وأوضاع سائدة، تصل فصوله بمناهج البحث العلمي. . .

وربما توافرت إجادة المزج لذلك المؤرخ أو هذا الأديب فيما يعالجانه حتى ليتعذر على القارئ أن يرد كلا منهما إلى العلم وحده أو الفن وحده. . .

على أن الذي لا نزاع فيه: هو أن الدقة العلمية، والحقيقة التاريخية، لا تشتغل بال الفنان

ص: 2

قدر ما تشغله خصائص النفس الإنسانية، وتأثرها بما يساورها من ملابسات الحياة.

فالفن لا طاقة له بالاحتباس داخل أسوار معمل تتحدد فيه الأقيسة وتتعين الأرقام، وإنما يتطلب الفن جوا أسوار معمل تتحدد فيه ويمرح، لا سلطان عليه إلا سلطان الإحساس والشعور.

ذلك لأن الفن الإنساني الخالص ليس مجرد تسجيل مرئيات عابرة، ولا التقاط ظواهر عائضة: وإنما هو انتزاع لأقصى ما في أعماق النفس، واستشفاف لما ينطوي بين الألفاف، وتعرف لأشتات المؤثرات ما يدق منها أو يجل، وما هو قريب أو بعيد.

محمود تيمور

ص: 3

‌وارسو نقطة ارتباط بين موسكو وتل أبيب

للأستاذ نقولا الحداد

قلنا غير مرة إن الصهيونية والشيوعية أقنومان لعنصر واحد فما صدقوا، ونقولها مرة أخرى بالدليل المحسوس.

بين يهود فلسطين القدماء والجدد نحو 45 بالمائة بولونيون، أي نحو 350 ألفا تسربوا إلى البلاد، قليلهم قبل الحرب وكثيرهم في أثنائها وبعدها. وفي وارسوا عاصمة بولونيا المقام الرئيسي للصهيونية. وما الوكالة الصهيونية في فلسطين إلا فرع لتلك. والأصل البولوني أصبح نقطة ارتباط بين موسكو وتل أبيب. لأن الصهيونية لما رأوا أن قضية دولتهم المنتظرة أصبحت في الميزان صاروا كالأخطبوط. يمدون أيديهم إلى كل مكان لكي يتمسكوا ويتشبثوا.

لما رأوا أن بريطانيا لا تستطيع أن تضمن لهم دولة إسرائيل لأنها لا تريد أن تبيع صداقة العرب بخيانات صهيون، رأوا أن يعتصموا بدولة السوفيت لعلها تشد أزرهم، أو أنهم بهذا الاعتصام يتهددون بريطانيا وأمريكا عدوتي روسيا.

ولكن السوفيت عدوة الرأسمالية، واليهود أمراء الرأسمالية، فليس سهلا التوفيق بين إسرائيل والسوفيت. ولذلك

نشأت نقطة الارتباط بين الجانبين في وارسو عاصمة بولونيا، وتولت الوكالة الصهيونية هناك مزج الزيت بالماء. فكانت تعاليمها ليهود فلسطين الجدد أن ينظموا أحوالهم طبقا لاشتراكية كارل ماركس ما استطاعوا إلى هذا سبيلا. ففعلوا ذلك في معظم مستعمراتهم المستجدة. فإذا زرت أية مستعمرة صهيونية في فلسطين رأيت سكانها مشتركين في الإنتاج والإنفاق، حتى إنك تراهم في المستعمرات الصغيرة يأكلون على مائدة واحدة على اختلاف أسرهم، كا فعل الأثنينون القدماء ردحا من الزمن حين كانوا يجربون الجهورية. فعل اليهود هذا في فلسطين، حتى إذا زار مستعمراتهم هذه شيوعيون روسيون أرسلوا تقارير إلى موسكو عن نظامهم هذا إقناعا لحكومة ستالين بأن الشعب الصهيوني ليس رأسماليا.

وكانت الوكالة اليهودية في وارسو تحاول أن تقنع موسكو بهذا الواقع. وكانت عصابة شترن تقوم بالدعاية لهذا الوضع، وكانت فظائع العصابات الصهيونية تتطاول على قوات

ص: 4

الانتداب البريطاني كما هو معلوم، فتفظع في الجنود البريطانيين وغير الجنود لكي يظهر لروسيا أن الصهيونيين هم أعدائها. ولهذا سهل على الوكالة الصهيونية الرئيسية في وارسو أن تقنع روسيا بأن إسرائيل إن تكونت، تكون خير نصرائها ضد إنكلترا وأمريكا، وأن بترول الشرق الأوسط الذي يقتتل عليه الشرق والغرب يتسرب إلى موسكو في أنابيب الصهيونية ولما طرحت المسألة الصهيونية في هيئة الأمم كان الارتباط بني موسكو وتل أبيب عن يد وارسو قد تمكن بدليل أنه اقترح مشروع التقسيم المشئوم في الهيئة حتى وثب جروميكو مندوب روسيا وثبة الفهد على الفريسة وأعلن موافعة روسيا على التقسيم. والعقل الأنجلوسكسوني في بريطانيا وأمريكا بطئ الفهم فما حسب حساب هذه الوثبة. لعل كادوجان ممثل إنكلترا حسبه. وأما ترومان فما بالى ولسان حاله يقول: ظفرت بكرسي الرئاسة فبعدي الطوفان. ولكنه غير ظافر بالكرسي والطوفان مغرقه على كل حال.

شعر الساسة الإنكليز باللعبة الصهيونية السوفيتية. فبينما كانت الوكالة الصهيونية في وارسو تعمل علمها كانت بريطانيا قد أوفدت الجنرال كليتن برسالة غير رسمية يطوف بها على العوالم العربية، وهو يعرف اللغة العربية جيدا، ويحاول أن يقنع أساطين العرب أنه خير لهم أن يلوذوا بإنكلترا فهي خير نصير لهم. ولكنهم أفهموه أنهم لا يثقون بكلمة إنكلترا بعد أن كذبت مرارا وقالوا:(الصيف ضيعت اللبن)

على أن العرب عملوا بالقول السائل: (ما حك جلدك مثل ظفرك) فاتكلوا على الله ووحدوا كلمتهم وقابلوا كل قوة ضدهم صهيونية وغير صهيونية بالحزم والعزم، فإذا لم تتخابث الدول الأجنبية فهم منصرون بإذن الله.

إن الارتباط بين موسكو وتل أبيب لا يزال على شئ من الوهن لأن موسكو لا تثق كل الثقة باليهود ولو أرتموا ف يأحضانها، لأنها رأت وترى كل يوم أدلة على خياناتهم، فما يمنونها به من المنافع البترولية والاستراتيجية غير مضمون. ولذلك تعطف عليهم بحساب: حسبهم أنها أول من اعترف بدولة إسرائيل. وكان بعض رجال الدولة المزيفة يزورون وارسو في الآونة الأخيرة ساعين في طلب مساعدة روسيا، ومنهم موسى سنيخ المتطرف فقد قضى أخيرا في وارسو أسبوعين لهذا الغرض.

وعصابة شترن الإرهابية أشد العصابات الصهيونية اعتدادا بالمعونة الروسية واعتزازا

ص: 5

بالشيوعية. ولذلك تستنكر أن يكون الزعم ويزمان على رأس الجمهورية الإسرائيلية الملفقة، لأنه لا يجحد الراسمالية بل يؤيد. فيخافون أن رئاسته لجمهورية إسرائيل تنفر روسيا.

وفي أوسط أبريل الماضي احتفل يهود بولندا بذكرى تدمير النازي لحي اليهود في وراسو سنة 1943 وترأس الحفلة أدولف برمان وهو أخو جاكوب برمان أحد وزراء بولونيا. وله وظيفة الرقابة غير الرسمية من قبل المكتب السياسي الروسي.

وقد انتهز المحتفلون الفرصة وعقدوا اجتماعا سريا مثل نحو 20 وفدا، منهم وفد فلسطين برئاسة رومان لامبوسكي ممثل المكتب السياسي في بولونيا.

وأبلغ رومان الحضور أن روسيا لا تدخر وسعا في جعل فلسطين دولة يهودية وأن تكون مرتبطة بها ارتباط الابن بالأب. ثم حرض الحاضرين على مقاومة الاستعمار البريطاني والأمريكي كلما سنحت الفرصة للقاومة.

فإلى أي حد تناصر روسيا الصهيونية؟

سيظهر هذا في الليالي الحبالى القادمة.

نقولا الحداد

ص: 6

‌آثار الملوك والسلاطين المصرين بمدينتبي القدس

‌والخليل

للأستاذ أحمد رمزي بك

روى عن أنس مالك أنه قال: (إن الجنة لتحن شوقا إلى بيت

المقدس، وبيت المقدس من جنة الفردوس)

مقدمة

لملوك مصر وسلاطينها اليد الطولي في إنشاء المباني العالية بمدينة القدس، إذ لهم المدارس والمساجد وبيوت العلم والرباطات والحصون التي بنوها وأنفقوا عليها من أموالهم وحبسوا على خدمتها الأوقاف ورصدوا لوجوه الخير والأموال والضياع والعمائر مما لا يصدقه الجيل الحالي.

ذلك لما حباهم المولى تعالى من بسطة في الملك والعظمة، ولما رزقهم من نصر يتبع نصرا، ولما اشتهروا به من أنهم خدام الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، وسدنة الحرمين الشريفين بالقدس والخليل. والمتتبع لهذه الحقبة من الزمن يقف حائرا أمام عظمة تلك العهود وأمام عظمة هؤلاء الملوك، وتأخذه الحيرة لماذا أخفى الناس تلك الأيادي البيضاء؟ وما الحكمة في تناسي ماض لنا هو جزء منا لا أقول يكمل شخصيتنا، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول هو أكبر مظهر لمصر الإسلامية العربية وأثرها في تاريخ العالم.

عود إلى الماضي:

كان ذلك في نهاية عام 1935، هو أول عهدي بفلسطين، حين دعيت إلى العشاء بمنزل المندوب السامي البريطاني، الجنزال السير آرثر ووكوب، فجاء مكاني بجوار المستر ريتشموند مدير مصلحة الآثار، وتناول برفق عدة مسائل تمت بصلة إلى التاريخ والآثار، وعرض لهبة روكفلر التي رفضتها مصر، فقبلتها فلسطين، ورأى في هدوءا واستماعا ورغبة في الاستزادة من علمه، فدعاني لزيارته في متحفه، وكنت مأخوذا بالتعرف إلى الآثار المسيحية، وقد وضع النائب البطريركي للروم الأرثوذكس برنامجاً لي، فرأيت أن

ص: 7

أحدثه في ذلك وأن أستعرض معه بعض ما لديه من التحف مما يمت إلى العصور المصرية القديمة. وهنا طفق يحدثني بطلاقة عن دهشته من الثروة الإسلامية التي أنشأها ملوك مصر في أنحاء فلسطين، وما خلفوه فيها. وكنت أنصت لحديثه وهو يقول: إن مصير هذه الآثار إلى الزوال إذا لم تتداركها عناية حكومية إسلامية قوية مثل مصر. وإني لدهش من موقفكم، تقيمون الدنيا لاكتشاف حجر قديم فرعوني، وتنسون ماضيكم القريب. لكم المدارس والمساجد والقباب مما يشهد لملوككم وأمرائكم بحسن الذوق وعظمة النفس وعلو الهمة في تذوق الفن، وتتركون كل هذا وكأن الأمر لا يعنيكم؟

وكنت أجهل الكثير مما يقول ولا أعرف من أثارنا سوى مدرسة قايتباى، فأخذت في إشباع نفسي المتطلعة إلى الاستزادة من المعرفة، وقلت إذا نظر الناس إلى الماضي نظرة تقديس وإلهام، فلم لا أنظر إليه نظرة الباحث المتعلم؟

إن الثمن الذي سأدفعه قد يكون غالبا، إذ أحدث الناس من قومي بما لم تسمعه آذانهم: وقد يتخذ الذين لا يؤمنون بشئ أقوالي هزوا لهم، لأني أحدثهم بما لم يألفوا، ولأني اضع للناس قيما جديدة لبعض الأشياء التي لم يؤمنوا بها ولن يصدقوا بعظمتها وكان أهم ما لدى أن أومن أولا بعظمة ماضينا الإسلامي وأن أعيش فيه، وقد كان ولا يزال مهما غلا الثمن ومهما كانت التضحية فإنه من أسعد الأوقات أن أشيد بهذا الماضي، وأن انتهز الفرص للكتابة فيه. وليس أسعد من أن يسمع العالم انتصار جنود العروبة على عصابات الصهيونية وإخراجهم من داخل مدينة القدس القديمة، فإن هذا النصر جعلني أحن إلى القدس، وهي مدينة من أحب مدن العالم إلى قلبي، ولذلك يلذ لي أن أكتب شئيا عنها في هذا الأيام التاريخية، وأعيد قيم الأشياء كما كانت؛ فأرجو ألا يحمل كلامي على غير ظاهره، أو أن يؤخذ بأنه يرمى إلى أهداف سياسية. لقد عاشت مصر والشام سويا أكثر من ثمانية قرون، وعلى صعيد هذه الأرض كتب أسلافنا بدمائهم قصص الملاحم الكبرى وذاقوا طعم النصر، كما أنشئوا أعظم ما يمكن تصوره من المباني، تقربا إلى الله ولخدمة هذا الدين الحنيف، وكان عامل الخير وحب الناس طابعهم، وكانت تستوقهم عاطفة خالصة نحو هذا، لذلك نجحوا حيث أخفق الغير: فإذا كتبت أشير إلى هذا الماضي العظيم فإنما أدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

ص: 8

سلسلة من أعمال الخير والإنشاء:

كان ولا يزال للمسجد الأقصى ولمسجد الخليل إبراهيم المقام الأسمى في نفوس المسلمين. ولذلك اعتنى بهما ملوك مصر من عهد الملك الناصر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب الذي أتم الله فتح القدس على يديه؛ فإنه اتخذ سنة عمل الخير والعمارة، واتبع سننه من جاء بعده من ملوك بني أيوب.

وفي عهد الدولة التركية من الأمراء البحرية بعد أن اتسعت الفتوحات وتوالت الانتصارات تردد أسم الملك الظاهر بيرس كأعظم القواد العالميين وشبه باسكندر الزمان، وكان أكبر البناة والمنشئين أفرد له الأستاذ كريسويل العالم المشهور كتابا عن آثار بمصر. أما في فلسطين فقد ذكر صاحب الأنس الجليل - قاضي القضاة أبو اليمن مجير الدين الحنبلي رحمه الله أنه اعتنى بعمارة المسجد الأقصى وجدد فصوص الصخرة الشريفة التي على الرخام، وعمر الخان الكائن بظاهر القدس الشريف من جهة الغرب إلى الشمال المعروف بخان الظاهر، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين، ووقف عليه نصف قرية لفتا وغيرها من القرى.

ولقد كانت أكثر قرى دمشق وأراضي البقاع داخلة في أوقاف الظاهر الذي لم يترك بابا لفعل الخير إلا طرقه وحبس الضياع على ائمة المسجد الأقصى، وعلى تفرقة الخبر وإصلاح حال النازلين والآتين للزيارة من مختلف الجهات.

وفي أيام الملك المنصور قلاوون تمت عمارة سقف المسجد الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب، وتم إنشاء الرباط المنصوري المشهور بباب الناظر، وهو رباط كان في منتهى الحسن والبناء المحكم، هذا غير الإصلاحات التي اتمها المنصور بالحرم الخليلي وغير الرباط والبيمارستان اللذين أنشأهما هناك.

أما ابنه الملك الأشرف المدفون على مقربة من مقام السيدة نفيسة فقد كان من أعظم الملوك حتى إنه على بديه أتم الله فتح البلاد الساحلية وإنهاء الحروب الصليبية، وفي عهده تم عمل فصوص الصخرة الشريفة التي بدأت منذ أيام الملك الظاهر، وجدد عمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة.

وفي أيام الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد

ص: 9

عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى.

ثم جاء العهد الناصري، أي حكم الناصر محمد بن قلاوون الأخير الذي استمر حتى وفاته، وكان وزيره بالشام الأمير الكبير تنكز وهو الذي قيل في محاسنه:

إلا هل لليلات تقضت على الحمى

تعود بوعد للسرور منجز

ليال إذا رام المبالغ وصفها

لشبهها حسناً بأيام تتنكز

وهو الذي له المنشئات العظيمة بمصر ودمشق والقدس وبيروت، وله الأيادي البيضاء حتى مدينة ملاطية في الشمال حيث أراضي الجمهورية التركية. ففي عهد ولايته عمر السور القبلي بالقدس ورخم صدر المسجد الأقصى ومسجد سيدنا الخليل ابراهيم، وتم فتح شباكين بالمسجد الأقصى، وجدد تذهيب القبتين قبة الصخرة وقبة المسجد الأقصى. ويقول صاحب الأنس الجليل: ومن عجب أن تذهيب قبة الصخرة كان قبل العشرين والسبعمائة، وقد مضى عليه إلى عصرنا هذا أكثر من مائة وثمانين سنة وهو غاية الحسن والنورانية، ومن رآه قضى أن الصانع قد فرغ منه الآن.

ويطول بنا البحث إذا ذكرنا عمائر تنكز كلها في القدس فهي كثيرة متنوعة فيها بناء الأبواب والقنوات وأهمها إيصال المياه من بركة السلطان بظاهر القدس إلى المدينة وهو عمل هندسي عظيم، هذا غير أعمال الترميم في الأسوار والقلاع والحصون والأبراج.

وقد نقشت كل هذه الأعمال على الرخام والحجارة وعليها تاريخ عمارتها. لقد كان عصراً فذا لا يعادله في المعمار عصر من العصور.

ولما ولى السلطان برقوق العرش أراد أن يسير على غرار من تقدمه من ملوك بيت قلاوون فأخذ في عمارة بركة السلطان وأنشأ دكة المؤذنين تحت قبة الصخرة تجاه المحراب للمبلغين، ووقف الضياع التي كان يملكها بناحية نابلس على سماط سيدنا الخليل وشرط ألا يصرف ريعها إلا على السماط الكريم: وأخذ بسنة الملك الظاهر بيبرس فكتب نص الوقفية على باب مسجد الخليل إبراهيم كما كتب الظاهر ومن جاء بعده نصوص الأوقاف على أبواب المساجد فلم يغن ذلك شيئا بل نزعت الأملاك المرصودة لعمل الخير وتداولتها الأيدي، ولم تحمها القوانين الوضعية كأملاك مرصدة للمنفعة العامة فلا يصح تملكها أو وضع اليد عليها ولله في خلقه شئون.

ص: 10

مؤلفات العصور الماضية:

ذكر صاحب مسالك الأبصار، أن الصاحب تاج الدين أبو الفضائل أحمد بن أمين الملك، ألف كتابا سماه (سلسلة المسجد في صفة الصخرة والمسجد).

ولا أدري هل أبقى الدهر على هذا المؤلف أم ذهب مع الزمن. والذي يظهر مما أورده صاحب مسالك الأبصار نقلا عنه أن المؤلف لم يترك شاردة من غير أن يأتي بها. وإني لدهش من موقفنا إزاء ماضينا؛ فهذا يكتب عن المسجد الأقصى في حوالي سنة 743هـ، وهذا يقصر عنه الكثيرون، وتعيش نحن في القرن العشرين وقد ملأ أنصاف الرجال الدنيا بدعايتهم عن أنفسهم، ولا نجد بين أيدينا كتابا يعرفنا بالمسجد الأقصى. فلنسر معه قليلا: نجد في كلامه عن قبة الملك المعظم (وبقصد بها جزءا من المدرسة المعظمية) أنه يقرر أن دروس النحو كانت تقام بها، وأن عدد طلبتها كان خمسة وعشرين نفراً من الحنفية؛ وهي من عمل ملوك بني أيوب العظام. وفي كلامه وصف دقيق للرباط المنصوري والأبواب والشبابيك التي بالحرم. ثم انظر إليه حيث يقول:

(لقد مضى على في مجاورة هذا الحرم الشريف الفصول والأربعة، فرأيت له في كل فصل محاسن في غيره لم تجمع، وهو أنه من مبدأ فصل الربيع تبدو فيه من الأزاهر المختلفة الألوان ما يستوقف بحسنه الذكي الأروع، وكل أحد ممن له معرفة بالأعشاب يأتى إليه ويأخذ من تلك الأزاهر ما علم منفعته ومضرته).

ومن حديثه يتبين أن هذا الحرم الشريف والقبة والصخرة، لم تعدم اهتمام أهل الخير من مختلف الناس، فهذا الأمير علم الدين سنجر الجاولي ينشئ مدرسة باسمه، وهذا عالم من العلماء أو تاجر عظيم يتبرع من ماله، وينشئ بئراً أو سبيلا أو باباً، أو يهدي مصحفا أو قنديلا.

ومن قبيل ذلك ما أورده صاحب الأنس الجليل: من أن سلاطين بني عثمان وغيرهم من ملوك المسلمين، شاركوا سلاطين مصر قبل الفتح العثماني في الاهتمام بالمسجد الأقصى: فقد حصل السلطان مراد بن محمد بن بايزيد على ترخيص ملوك مصر بإقامة قراء يقرأون والقرآن في مصحف مهدي منه إلى الصخرة.

وكان بنو قرمان من ملوك التركمان بأرض الروم فحصل فهم السلطان إبراهيم على إذن

ص: 11

بالقراءة في الصخرة.

هدايا الملوك:

ولو تتبعنا هذه الهدايا لاتسع بنا البحث ولذا نكتفي بما جاء من حسنات الملك الأشرف ابتاك ملك مصر الذي بعث بالمصحف الكبير الذي وضعه بالمسجد الأقصى تجاه الشباك المطل على عين سلوان، وأوقف له قارئا ورتب ما مقداره ألف ومائتا أردب ترسل سنويا قيمتها أربعة آلاف دينار وثمانية دنانير.

ثم توالت الخيرات والهدايا في أيام السلطان أبي سعيد خشقدم المؤيدي إلى أيام الملك الأشرف قايتباي وفي عهده كان ناظر الحرمين الشريفين الأمير ناصر الدين محمد بن النشاشيبي جد الأستاذ الكبير إسعاف النشاشيبي رحمه الله.

وجاء السلطان إلى القدس مرتين وأقام بها وأنشأ وعمر مما يجعل لرحلتيه إلى الديار الشامية أهمية وروعة تشجعاني على أفراد كلمة خاصة بهما.

أحمد رمزي

ص: 12

‌الفتوة في التاريخ الإسلامي وكتب اللغة

للأستاذ ضياء الدخيلي

في العدد (778) من مجلة الرسالة الغراء يقول الأستاذ محمود رزق سليم: (وقال ابن الوردي في لاميته المشهورة.

واهجر الخمر إن كنت (فتى)

كيف يسعى في جنون من عقل

وشاهدنا في عبارة (إن كنت فتى) وهي ترادف الاستعمال الشائع الآن وهو (إن كنت جدع) أي إن كنت شهما. وبدهي إن معنى فتى لا يفيد لغة معنى شهم) وقد دفعتني كلمة الكاتب الفاضل إلى تحقيق معنى فتى وفتوة. إذ قد أصبح لكلمة الفتوة في العراق أهمية خاصة، وقد تردد صداها في تاريخنا السياسي والحربي القريب بعد أن جعلها مسيرو وزارة المعارف اسما لنظام تربوي يستهدف بعث جيل قوي في جسمه ومبادئه يدربونه على الحياة العسكرية ويعلمونه الرماية واستعمال الأسلحة الخفيفة. وعاد أسم الفتوة مرادفا للفروسية والشهامة والنبل والعزة القومية؛ غير أني أجد من الغريب إدعاء بعض الأدباء وعلماء اللغة أن استعمال كلمة (الفتى) بمعنى الرجل الشهم النبيل المتحلي بفضائل الرجولة - هو استعمال مولد؛ وهذا هو طرفة بن العبد يقول في معلقته

إذا القوم قالوا من (فتى) خلت أنني

عنيت فلم أكل ولم أتبلد

قال الزوزاني في (شرح المعلقات) يقول: إذا القوم قالوا من فتى يكفى مهما أو يدفع شرا خلت أنني المراد بقولهم فلم أكسل في كفاية المهم ودفع الشر ولم أتبلد (أي أتردد متحيراً) فيهما. وعنيت من قولهم عني يعني عنيا بمعنى أراد وقال طرفة.

على موطن يخشى (الفتى) عنده الردى

متى تعترك فيه الفرائص ترعد

قال الرزوزني يقول حسبت في موضع من الحرب يخضي الكريم هناك الهلاك، ومتى تعترك الفرائص فيه أرعدت من فرط الفزع وهو المقام. وقال أيضا فيها.

ولولا ثلاث هن من عيشة (الفتى)

وجدك لم أحفل متى قام عودي

فمنهن سبق العاذلات بشربة

كميت متى ماتعل بالماء تزيد

وكرى إذا نادى المضاف مجنباً

كسيد الغضا نبهته المتورد

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب

ببهكنة تحت الخباء المعمد

ص: 13

قال الشارح يقول فلولا حبي ثلاث خصال هن من لذة الفتى الكريم لم أبال متى قام عودى من عندي آيسين من حياتي؛ فالأولى مباكرتي شرب الخمر قبل انتباه العواذل، والثانية عطفي إذا ناداني الملجأ إلى والخائف عدوه مستغيثا إياي - فرساً في يده انحناء يسرع في عدوه إسراع ذئب يسكن فيما بين الغضا إذا نبهته وهو يريد الماء؛ فجعل الخصلة الثانية المستغيث وإعانته اللاجئ إليه؛ أما الثالثة أنه يقصر يوم الغيم بالتمتع بامرأة ناعمة حسنة الخلق تحت بيت مرفوع بالعمد - وهذه مثله العليا التي نحتها قصور تفكيره. والغرض أنه ضمن الفتوة إغاثة الملهوف وتلك هي الشهامة، وقد اعتبرها من الخصال الداخلة في مكونات الفتوة. ولنشرح غريب الأبيات فنقول (الجد الحظ والبخت. خمرة كميت اللون ضاربة إلى السوا د والحمرة قال المتنبي.

إذا أردت كميت اللون صافية

وجدتها وحبيب النفس مفقود

وكره فرسه عطفه لها، والمضاف الخائف والمذعور، المجنب الفرس في يده انحناء. السيد الذئب. الغضا الشجر. المتورد يرد الماء. الدجن إلباس الغيم آفاق السماء. البهكنة المرأة الحسنة الخلق السمينة الناعمة، المعمد المرفوع بالعمد).

وقال المتنبي.

فلما أنحنا ركزنا الرماح

بين مكارمنا والعملي

وبتنا يقبل أسيافنا

ونمسحها من دماء العدى

لتعلم مصر ومن بالعراق

ومن بالعواصم أنى (الفتى)

وإنى وفيت وإنى أبيت

وإنى عتوت على من عتا

وما كل من قال قولا وفي

ولا كل من سيم خسفا أبى

قال الشارح لديوانه (أنحنا نزلنا. العواصم اسم بلاد. والفتى الحر الكريم. أبيت أمتنعت، وعتوت تجبرت. سام كلف، والخسف الذل، وأبى امتنع) - وبعد فها إنك ترى المتنبي قد استعمل كلمة الفتى فيا يدل على كمال الرجولة والإنسانية الرفيعة ويتضمن الشهامة والإباء وعزة النفس وإليك أيضا قول الشاعر:

إن (الفتى) من يقول ها أنا ذا

ليس (الفتى) من يقول كان أبي

ولم يغفل علماء اللغة هذا المعنى وإن لم يوفوه بيانا وإيضاحا. قال الجوهري في (الصحاح)

ص: 14

والفتى السخي الكريم، يقال هو فتى بين الفتوة. وقد تفتى وتفاتى، وقد تناقل المؤلفون كلمة الجوهري من دون تمحيص أو تحقيق وهذا من عيوب كتب اللغة، فكأنها لتشابه ما فيها - كتاب واحد فلم يكلفوا أنفسهم جهد مراجعة الشواهد للتصرف في التعبير والتباين؛ فقال الفيروزابادي في (القاموس) الفتى الشاب والسخي الكريم؛ والفتوة الكرم. وقد تفتى وتفاتى، وفتوتهم غلبتهم فيها. وقال البستاني في (البستان): الفتى الشاب الحدث والسخي، والفتوة السخاء والكرم والمروءة. وقال في (أقرب الموارد) الفتى الشاب الحدث والسخي الكريم، والفتوة السخاء والكرم والمروءة. وقال في (المنجد) الفتى الشاب الحدث السخي الكريم. (فتايفتو فتواً) الرجل: غلبه في الفتوة أي السخاء والكرم. ها أنت ترى اللغويين هؤلاء قد تعلقوا بأذيال الكرم والسخاء هذه الفضيلة ذات القيمة الغالية في حياة الصحراء العربية المجدية؛ ولكنك تفهم من سياق أبيات المتنبي وطرفة بن العبد معاني بعيدة عما يحوم حوله علماء اللغة، فإنك تحس أنهما يريدان بالفتوة الشهامة والفروسية والرجولة وما يقارب ذلك من مظاهر القوة والصبر على المكاره والشدة وصلابة العود والنجدة؛ وإذن فإننا نكاد نتهم أصحاب المعاجم اللغوية في شرحهم لمعاني الكلمات. وقال في (محيط المحيط) الفتى الشاب الحدث والسخي الكريم، والفتوة السخاء والكرم والمروءة وعند أهل الحقيقة هي أن تؤثر الخلق على نفسك بالدنيا والآخرة. وعند السالكين كف الأذى وبذل الندى وترك الشكوى. وإني أرى أن هذا هو المفهوم لغة من النصوص المتقدمة الذكر. وقال الزمخشري في (أساس البلاغة) هذا فتى بين الفتوة وهي الحرية والكرم. قال عبد الرحمن بن حسان.

إن الفتى لفتى المكارم والعلى

ليس الفتى بغملجالصبيان

وقال آخر:

يا عز هل لك في شيخ (فتى) أبداً

وقد يكون شباب غير فتيان

(الغملج هو الذي لا يثبت على حالة، يكون مرة سخيا ومرة بخيلا ومرة شجاعاً وأخرى جبانا ومرة شاطرا وأخرى قارتا أي جامدا ساكتا: كذا في القاموس).

ولكن ابن منظور الأفريقي ينقل في (لسان العرب) عن القتيبي إنه ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال يدلك على ذلك قول الشاعر.

إن (الفتى) حمال كل ملمة

ليس الفتى بمنعم الشبان

ص: 15

وقال ابن هرمة:

قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه

خلق وجيب قميصه مرقوع

ونقل عن ابن بري أن الفتى هو الكريم.

غير أن شارح (القاموس) يقول في كتابه (تارج العروس) والفتوة الكرم والسخاء، هذا لغة؛ وفي عرف أهل التحقيق أن يؤثر الخلق على نفسه بالدنيا والآخرة. وصاحب الفتوة يقال له الفتى ومنه لا فتى إلا علي وقول الشاعر.

فإن (فتى الفتيان) من راح واغتدى

لضر عدو أو لنفع صديق

وعبر عنها في الشريعة بمكارم الأخلاق. قال ولم يجئ لفظ الفتوة في الكتاب والسنة وإنما جاء في كلام السلف. وأقدم من تكلم فيها جعفر الصادق ثم الفضيل ثم الإمام أحمد وسهل والجنيد، ولهم في التعبير عنها ألفاظ مختلفة والمآل واجد. ويقال هو فتى بين الفتوة وقد تفتى وتفاتى نقله الجوهري، وفتوتهم أفتوهم غلبتهم فيها أي (الفتوة). وبعد فها أنت تجد صاحب تاج العروس يعزو الفتوة إلى الأمام جعفر الصادق وقد كان في صدر الدولة العباسية وإليه أيضا ينسب علم الكيمياء. وقد وجدت في (مجمع البحرين) للطويحي (والفتى أيضا السخي الكريم وفي الحديث تذاكرنا عند الصادق أمر الفتوة فقال أتظنون أن الفتوة بالفسق والفجور؟ إنما الفتوة والمروءة طعام موضوع، ونائل مبذول، إلى أن قال وأما تلك فشطارة الخ) والشطارة الخبث، والشاطر هو الذي أعيا أهله خبثا. وقد مدح الغزالي الفتوة في إحياء العلوم وذكر بعض المؤرخين أنه كان في أسيا الصغرى جميعات أخوية تتبع نظام الفتوت وتكرم الغرباء وتساعد الفقراء ولها زوايا وألبسة وتقاليد خاصة، وإنها من تقاليد المسلمين القديمة النافعة التي أضعناها؛ فلو أننا احتفظنا بها مع تحسينها لكانت لنا خيرا من الكشافة.

وذكرت الفتوة في (دائرة معارف الإسلام) وقالوا إن للفتوة مبادئ أخلاقية سامية منها تضحية النزعات الفردية في سبيل الصالح العام.

وذكرأحد مؤرخي الحضارة الإسلامية أن الفتوة كانت في العصر العباسي نظاما له صبغة دينية. ومن صفات الفتيان الشجاعة والكرم ومساعدة الغير وللفتوة نظام خاص وألبسة خاصة ولباس الفتوة الخاص سراويل عليها صورة كأس؛ فإذا أراد أحد الانخراط في هذا

ص: 16

السلك تقام له حفلة يشهدها إخوانه الفتيان ويلبس سراويل الفتوة ويشرب كأس الفتوة. وكانوا يرمون البندق وهو كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص أو غيرها؛ وكانوا يرمون البندق عن الأقواس كما يرمون النبال. وكان رماة البندق في العصر العباسي طائفة كبيرة يخرجون إلى ضواحي المدن ويتسابقون في رميه على الطير، ويعدون ذلك من الفتوة. وفي خلافة الناصر لدين الله العباسي المتوفي سنة 627هـ أقبل الناس على رمي البندق وتربية الحمام لأن الخليفة نفسه كان كبير فتيان زمانه، ورغب في هذين الفنين. وقد بلغ من رغبته في ذلك أن جعل رمي البندق فنا لا يتعاطاه إلا الذين يشربون كأس الفتوة ويلبسون سراويلها على أن يكون بينهم روابط وثيقة على نحو ما عند بعض الجمعيات السرية. ثم تفننوا في رمي البندق بالمزاريق أو الأنابيب بضغط الهواء من مؤخر الأنبوب بما يشبه أنابيب البنادق، فلما اخترعوا البارود صاروا يرمون البندق به من تلك الأنابيب وسموا هذه الآلة بندقية نسبة إليه).

ضياء الدخيلي

ص: 17

‌خواطرمسجوعة:

تمثال شاعر

(إلى الملهمين الذين اضطربت حياتهم. وتعثرت خطواتهم. إلى المغمورين الذين مسهم الضيم وهم أباة، وسيسوا الهوان وهم كرام).

كأني بالشاعر وقد عاش تسعين عاما، بين عيون تعامى. . . فلم ينقذه من حياة الأموات، سوى سهم الممات!

عاش سطراً في دفتر العناء، وسرا في ضمير الفناء. ومات فلم يخسر شيئا من الدنيا، لأنه لم يكن قبل الموت حياً!!

عاشفأنكروه، ولم يذكروه. ومات فتباركي الجاحد، وتحازن الحاسد. . .!

عاش يبحث عن الضالة المنشودة، والرحمة المفقودة، حتى دوى يأسا، وقضى بؤساً. .!

عاش هدفا لإجحاف مر، واعتساف مستمر. . . ومات فهشوا لوفاته، وبالغوا في تكريم رفاته!

فقد الرحمة حيا ثم مات، فطلبوا له عيثا من الرحمات! فهل كانت الرحمة للميت لزاماً، وعلى الحي حراماً؟! أم هو الفضل يذكر إن صاحبه ذهب، والحقد يزول بزوال السبب. فمن لم يستطع التحديق في الشمس كان للتعامي مؤثرا، فإذا غربت انقلب مبصرا، فأكبر الدفين في الرميس، وعرف له اليوم مالم يعرفه بالأمس. ورب متجاهل كان تجاهله جهلا، ومتعام كان للعمى أهلا.

وكأني بالشاعر وقد شيعوه إلى القبور، ملتمسين لذويه الصبر! وبعد تراب عليه انهال، أقيم له تمثال.

وإذا العيون قفلت، والقلوب غفلت، فإن التمثال لا يلفت ذوي عمى، ولا يوقظ من ينظرون إليه نظر الأطفال إلى الدمى!

وإذا قضى الشاعر نحبه، وفارق آله وصحبه، فإن التمثال لا ينفع من ذهب، وإن كان من ذهب!

فلعمري إن لم يظفر الحي بأمنيته، قبل منيته، فإن الذكر والنسيان، في الموت يستويان!

ليتهم صانوا صاحب التمثال حيا، فمن مات مذكوراً هو من عاش منسياً!!

ص: 18

حامد بدر

ص: 19

‌من تاريخ الطب الإسلامي

لصاحب السعادة الدكتور قاسم غنى

سفير إيران بمصر

- 7 -

6 -

البيمار ستانات في البلاد الإسلامية:

لقد أشرنا في حديثنا السابق إلى مطالعات الأطباء المسلمين بجانب سرير المريض، ولتوضيح الناحية العملية من الطب الإسلامي وأعمال الأطباء في البيمار ستانات وطريقة تمريض المرضى وعلاجهم وحالة دور الشفاء عندهم لا بدمن أن تلقى كلمة عن هذا الموضوع:

يأمر الدين الإسلامي مثل سائر الأديان السماوية بالرفق والشفقة ويدعو إلى البر بالفقراء والإحسان إليهم ومواساة المرضى والعجزة؛ وقد كان تمريض المجروحين ومواساتهم والعناية بأمرهم من أهم الأمور التي كان يعيرها النبي صلى الله عليه وسلم اهتماما خاصا في غزواته. فقد جاء في سيرة ابن هشام أن سعد بن معاذ أصيب في غزوة الخندق في شوال من العام الخامس الهجري بسهم في الأكحل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوضع في خيمة رفيدة الأسلامية، وكانت تداري الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضبعة من المسلمين قائلا: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعود من قريب. ويمكن اعتبار خيمة رفيدة هذه أول مستشفى حربي متنقل عند المسلمين.

وبعد ذلك ازداد عدد هذه المستشفيات المتنقلة التي كانت تسعى بالبيمار ستانات المحمولة مقابل البيمار ستانات الثابتة.

وهذه البيمار ستانات المحمولة زيادة على استعمالها في الحروب كانت تنقل من مكان إلى آخر، وكانت مجهزة بكل ما يلزم المرضى عادة من أدوات وأدوية وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة وكل ما يعين على ترفيه المرضى والعجزة والمزمنين والمسجونين وكانت تنقل من بلد إلى أخر من البلدان الخالية من بيمارستانات ثابتة.

يقول ابن أبي أصيبعة نقلا عن ثابت بن سنان:

ص: 20

إن الوزير علي بن عيسى بن الجراح في أيام تقلده الدواوين من قبل المقتدر بالله وتدبير المملكة في أيام وزارة حامد بن أبي العباس وقع إلى والده سنان بن ثابت في سنة كثرت فيها الأمراض جداً وكان سنان يتقلد البيمارستانات ببغداد وغيرها توقيعا جاء فيه: (فكرت مد الله في عمرك في أمر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أما كنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقون عن التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزورات (والمزورات هي حساء من الخضر دون الحم أو دسم أو البهريز ويعالجوا من فيها من المرضى ويريحوا عللهم فيما يصنعونه لهم إن شاء الله تعالى) ففعل سنان ذلك.

ثم وقع إليه توقيعا آخر:

(فكرت في من بالسواد من أهله وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم مد الله في عمرك بإيفاد متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون السواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره).

فنفذ سنان هذا الأمر وانتهى أصحابه إلى (سورا) من بلاد العراق وكان معظم أهلها من اليهود فكتب سنان إلى الوزير يخبره أن بعض أصحابه كتب إليه من السواد يستأذنه في المقام هناك لعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم وإنه لا يعلم بم يجيبهم لأنه لا يعرف رأيه في أهل الذمة. وقد عرض عليه في كتابه هذا أن الطريقة المتبعة في بيمارستان الحضرة هي علاج الملي والذمي؛ فوقع له الوزير توقيعا أخبره فيه أن يقدم معالجة المسلمين على أهل الذمة، فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم - أي أهل الذمة - وقال (فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به ووص بالتنقل في القرى والمواضع التي فيهاالأدباء الكثيرة والأمراض الفاشية).

وكانت عادة السلاطين في دولة المماليك أنهم عند ما كانوا يخرجون إلى القصور التي كانوا قد بنوها خارج المدن للإقامة أياما فيها، أن يصحبهم في السفر غالبا حاشية من الأمراء والأعيان ومعهم كل ما تدعو إليه الحاجة حتى يكاد يكون معه بيمارستان كامل لكثرة من

ص: 21

معه من الأطباء والكحالين والجراحين والفصادين والأشربة والعقاقير وغيرها.

وكان الأمراء المسلمون أيضا يستعملون في حروبهم البيمارستانالمحمول وكان يحمل الآلات وأدوات والأدوية والعقاقير اللازمة عدد من الجمال خصصت لذلك أما البيمارستانات الثابتة فهي ما كان بناؤها ثابتا في مكان خاص؛ وكان هذا النوع موجودا في معظم البلاد المهمة ولا سيما في العواصم الكبرى وكان في بعضها اكثر من بيمارستان واحد ولا تزال أثار بعضها باقية إلى الآن كالبيمارستان المنصوري أو (قلاوون) واليمارستان المؤيدي بالقاهري والبيمارستان النوري بدمشق وغيرها.

وكانت هذه البيمارستانات بوجه عام منقسمة إلى قسمين منفصلين قسم للذكور وآخر للإناث، وكل قسم مجهز بما يحتاجه من آلات وعدد وخدم من الرجال والنساء وفي كل قسم منهما قاعات مختلفة فقاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة وثالثة للكحالة ورابعة للتجبير، إلى غير ذلك من القاعات.

وكانت هذه الأقسام الخاصة مقسمة بدورها إلى شعب وأقسام فرعية مثل الفرع الخاص بالمحمومين والقرع الخاص بالممرووين أي المجانين، والفرع الخاص بالمصابين بالأمراض العادية والأسهال وغير ذلك. كانت البيمارستانات تقام في إمكان حسنة الموقع طيبة المناح.

يروى بعض المؤرخين في ترجمة محمد بن زكريا الرازي أنه عند ما طلب إليه أن يختار محلا مناسبا لبناء بيمارستان في بغداد أمر أن يعلقوا قطعا من اللحم الغريض في أماكن مختلفة من المدينة ثم اختار المحل الذي تعفن اللحم فيه متأخرا عنه في سائر الأماكن لبناء المستشفى المطلوب.

وكان من شروط انتخاب المحل المناسب لبناء البيمارستان أن يكون فيه ماء جار.

وكان لكل بيمارستان شرايخاناه أي صيدليه (والكلمة محرفة عن شرابخانة الفارسية ومعناه خزانة الشراب) ولكل شرابخاناه (مهتار) أي رئيس (وهذه الكلمة أيضا محرفة عن مهتر الفارسية بمعنى الرئيس أو الكبير) وتحت يده غلمان عندن برسم الخدمة يطلق على كل واحد منهم (شراب دار).

ومما يسترعي النظر كثرة الأسامي والمصطلحات الطبية الفارسية التي كانت شائعة في

ص: 22

اللغة العربية ويدل ذلك على نفوذ الأطباء الإيرانيين وأثر مدرسة جند يسابور منذ عهد الساسانيين، حتى أن العرب استعملوا نفس هذه المصطلحات واللغات الفارسية عيناً أو بتحريف بسيط في كتاباتهم ومحاوراتهم؛ فكلمة (بيمارستان) أو مخففتها (مارستان) شائعة ومتداولة في اللغة العربية أكثر من كلمتي المستشفى أو دار الشقاء.

وكانت كلمة (بيمارستان) تطلق في بادئ الأمر على المستشفيات التي تعالج فيها الأمراض بصورة عامة؛ أما بعد ذلك لما أصابتها الكوارث وحل بها البوار وهجرها المرضى أقفرت إلا من المجانين حيث لا مكان لهم سواها فصارت كلمة (مارستان) وهي تحريف بيمارستان لا تنصرف إلا إلى مستشفى المجاذيب.

وكان لكل بيمارستان ناظر يشرف على إدارته، وكان النظر عليه يعد من الوظائف الديوانية العظيمة، وكان تحت إدراته عدد من أرباب الوظائف في البيمارستان وهم:

1 -

رئيس الأطباء وهو الذي يحكم على طائفة الأطباء وبأذن لهم في التطبيب ونحو ذلك.

2 -

رئيس الكحالين وحكمه في الكلام على طائفة الكحالة حكم رئيس الأطباء في طائفة الأطباء: - رئيس الجرائحية.

وكان لكل طبيب حسب درجته ومقامه مرتب خاص له زيادة على المرتب جامكية وصلات وعلوفة لدابته من الخلفاء والملوك والأمراء.

يقول القفطي وابن أبي أصيبعة أن معدل المرتبات الشهرية للأطباء كان كالآتي:

1 -

أطباء الخاص (أس المنقطعون للخليفة أو السلطان) وكان عددهم اثنين لكل منهما في الشهر خمسون ديناراً (وكل دينار حوالي خمسة عشر فرنكا فرنسيا ذهبا أي ستين قرشا مصريا تقريبا).

2 -

أطباء الدرجة الثانية وهم ثلاثة أو أربعة، وكان بعضهم يقيم بالقصر ولكل منهم عشرة دنانير؛ وكان بعضهم طبيبا بالبيمارستان أيضا فكان له رزقان أي ثلاثون ديناراً في كل شهر مثل رضى الدين الرحبي طبيب صلاح الدين الأيوبي، فقد أطلق له صلاح الدين ثلاثين دينارا في الشهر ويكون ملازما للقلعة والبيمارستان؛ وكان للبعض الآخر مثل جبرائيل الكحال ألف درهم كل شهر (والدرهم نصف فرنك فرنسي ذهب أو قرشان مصريان).

ص: 23

يقول المقريزي إن أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى هو الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي سنة 88 هجرية وجعل فيها الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق.

وكان في البيمارستان طريقان للعلاج. علاج خارجي أي أن المريض يتناول الدواء من اليمارستان ثم ينصرف ليتعاطاه في منزله، وعلاج داخلي يقيم المريض في أثنائه في البيمارستان في القسم والقاعة الخاصة بمرضه حتى يشفى.

ففي الطريقة الأولى كان الطبيب يجلس في محل خاص ويعاين المرضى ويعطيهم العلاج اللازم؛ وبما أن هذه المعاينة وهذا العلاج كنا يتمان في البيمارستان غالبا فقد كان يجتمع التلاميذ بحضرة أستاذهم يعاينون معه المريض ويعرفون كيفية استدلاله على المرض من أعراضه وعلائمه، وجملة ما يصفه له، والعلاج الذي يعالجه به، ومقدار الأدوية والعقاقير التي يوصى بها وطريقة استعمالها. يروى ابن النديم وكانمعاصرا لمحمد بن زكريا الرازي نقلا عن شيخ من أهل الرى (أن الرازي وكان شيخ كبيراً كان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذه ودونهم تلاميذهم ودونهم تلاميذ أخر وكان يجيئ الرجل فيصف ما يجد لأول من تلقاه فأن كان عندهم علم وإلا تعداهم غيرهم، فإن - أصابوا وإلا تكلم الرزاي في ذلك.

إن هذه الطريقة تشبه إلى حد كبير الطريقة المتبعة الآن أو التي يجب أن تتبع في حالة مداولة الأطباء عن فحص المريض فإن الأطباء بعد أن يعاينوا المريض يجتمعون للمداولة في غرفة خاصة ويبدأ الحاضرون بإبداء آرائهم في حالة المريض متدرجين من أصغرهم سناً إلى أكبرهم؛ وذلك لأن الأطباء الكبار والمشهورين إن أبدوا رأيهم في ذلك ربما خجل الطيب الأصغر منهم بحكم سنه وإجلاله للطبيب الأكبر منه سنا ومقاما من أبداء رأي يخالف ذلك، وقد يكون أحيانا أحسن من رأي غيره وأقرب إلى الصواب.

والخلاصة أن دراسة الأطباء لحالة المريض بجانب سريره ومطالعاتهم في البيمارستانات وأخذهم دروسا عملية كانت تعد في تلك العهود - وكانت العلوم فيها على الأغلب الأعم نظرية ذات أهمية خاصة بالنظر لأهمية الطب والتبعة التي تقع على عاتق المشتغل به وللمهارة التي تستلزمها هذه المهنة.

وإن شطرا هاما من كتاب الحاوي للرازي مخصص لهذه الدروس الطبية (الأكلينيكية).

ص: 24

ومنه فصل بعنوان (أمثلة من قصص المرضى)، يذكر فيه الحالات النادرة التي تردد فيها في تشخيص المرضى، وفي كل حالة يذكر اسم المريض وأعراض المرض وطريقة العلاج ونتيجتها.

ويذكر الأستاذ بروان في كتابه الطب الإسلامي

كما يأتي:

(كان يأتي عبد الله بن سوادة حميات مخلطة تنوب مرة في ستة أيام، مرة غب، ومرة ربع، ومرة كل يوم ويتقدمها نافض يسير، وكان يبول مرات كثيرة، وحكمت أنه لا يخلو أن أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعا، وإما أن يكون به خراج في كلا، فلم يلبث إلا مديدة أعلمته أنه لا يعاود هذه الحميات، وكان كذلك، وإنما صدني في أول الأمر عن أن أبت القول بأن به خراجاً في كلاه أنه يحم قبل ذلك حمى غب وحميات أخر فكان للظن بأن تلك الحمى المخلطة من احتراقات تريد أن تصبر ربعا موضعا أقوى. ولم يشك إلى أن قطنه شبه ثقل معلق منه إذا قام وأغفلت أنا أيضا أن أسأله عنه، وقد كان كثيرة البول يقوى ظنى بالخراج في الكلى، إلا أني كنت لا أعلم أن أباه أيضا ضعيف المثانة يعتريه هذا الدء، وهو أيضا قد كان يعتريه في صحته فينبغي ألا يفعل بعد ذلك غاية التقصى إن شاء الله، ولما بال المدة أكببت عليه بما بدر البول، حتى صفا البول من المدة ثم سقيته بعد ذلك الطين المختوم والكندر ودم الأخوين وتخلص من علته وبرأ برءا تاما سريعا في نحو من شهرين. وكان الخراج صغيرا ودلني على ذلك أنه لم يشك إلى ابتداء ثقلا في قطنه، ولكن بعد أن بال مدة قلت له هل كنت تجد ذلك؟ قال نعم، فلو كان كثيرا لقد كان يشكو ذلك، وأن المدة تنبث سريعا تدل على صغر الخراج. فأما غيري من الأطباء فأما غيري من الأطباء فإنهم كانوا بعد أن بال مدة أيضا لا يعلمون حالته البتة).

(البقية في العدد القادم)

ص: 25

‌أساتذة الجيل:

2 -

أحمد تيمور باشا

ندوته في درب سعادة

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

(إلى الصديق الكريم، والباحث المحقق، الدكتور محمد سامي الدهان، وفاء بما وعدته من الإفاضة في الحديث عن أولئك الأستاذة الأماثل الذين مهدوا الطريق أمام هذا الجيل. . .)

كانت منازال الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركناه، منازل لأهل الفضل من العلماء والأدباء والشعراء، ومجامع للفحول في كل علم وفن، يلتقون فيها كل ليلة أو كل أسبوع، فيتباحثون ويتجادلون، ويسمرون، ويضحكون، ويذهبون في فنون القول مذاهب، فما شئت من حقيقة علمية خافية، أو أدبية رائعة، أو فكاهة حلوة تروى وتحفظ.

وكان الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركناه، والعراقة، فكانوا يفسحون لهم في جانبهم وفي منازلهم، ويبذلون لهم من جاههم ومالهم ما وسعتهم القدرة على ذلك، فكانت هذه المجالس هي مجالي التفكير العلمي والأدبي والتدبير السياسي والاجتماعي وليس من شك في أن هذه المجالس قد أثرت في حياتنا الفكرية أكثر مما أثرت (الصالونات الأدبية) في الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، ولكنها من الأسف لم نجد المؤرخ الذي يدون أخبارها، وبذكر آثارها. .

كانت في دار الأميرة نازلي هانم فاضل ندوة، وفي دار آل البكري ندوة، وفي دار سليمان أباظة باشا ندوة، وفي دار الإمام محمد عبده بعين شمس ندوة، وفي دار آل عبد الرزاق ندوة، وفي دار آل القاياتي ندوة، ولا تزال منها بقية باقية. . . وكان من أحفل هذه الندوات وأعمرها ندوة أحمد تيمور في درب سعادة حيث كانت دار آل تيمور الفسيحة الجنبات المتفتحة الأبواب. . .

ولقد رأيت فيما قدمنا لك أن والد أحمد تيمور باشا قد عكف في آخر حياته على جمع الكتب ومجالسة أهل العلم والأدب في داره، فلما شب الابن جرى على سنة ابيه في هذا، وكانت له به قدوة، ففتح داره لشيوخ العصر وأعلام اللغة والأدب وكل من يمت إلى هذه بسبب،

ص: 26

فكان يجتمع في هذه الدار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والشيخ محمد بن محمود الشنقيطي والشيخ حسن الطويل والشيخ أحمد أبو خطوة والشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد الببلاوي والشيخ محمد شاكر والشيخ حسن منصور والشيخ أحمد مفتاح ويحيى أفندي الأفغاني وحمد أفندي أكمل والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، والشيخ عبد الرحمن الكواكبي والسيد عبد المحسن الكاظمي ورفيق بك العظم، والسيد محمد رشيد رضا، ثم كان بعد هؤلاء رعيل آخر من أعلام الأدب واللغة ورجال القلم والصحافة والمستشرفين الذين كانو يتوافدون على مصر للدراسة والتحقيق العلمي والبحث عن المخطوطات النادرة، فكانت ندوة أشبه بجامعة علمية تمت لها كل فروع المعرفة ووسائل الدراسة العلمية والأدبية وامتازت بالتخلص من قيود النظم والقوانين. . .

في هذه الندوة تخرج أحمد تيمور، ودرس وحصل وأفاد، واستطاع أن يقرأ جميع ما جمع من أمهات الكتب ونوادر المخطوطات وأن يعلق عليها التعليقات المفيدة، فبعد أن كان يجلس في هذه الندوة مجلس التلميذ المستفيد أصبح يجلس مجلس الأستاذ المفيد، وأصبح أهل العلم يتوافدون عليه للأخذ عنه والإفادة منه ويرجعون إليه فيما يريدون من تحقيق أدبي أو تعليق لغوي.

لم يدون أحد ما كان يجري في هذه الندوة من المطارحات والمناقشات، ولو جمع هذا التحصل منه علم كثير وأدب كبير، ولكنا نجد تيمور باشا يشير إلى ذلك إشارات عابرة مقتضية فيما كتبه في تراجم أعيان القرن الثالث عشر الهجري، فيقول في ترجمة الشيخ أحمد مفتاح:(ولما انتقل إلى مدارس الأقليم صار يحضر إلى القاهرة في فترات فينزل عندنا، ويجتمع به إخوانه وأصدقاؤه في ليال كنا نحييها بالمطارحات الأدبية وإنشاد الأشعار).

ويقول في ترجمة أستاذه الشيخ حسن الطويل: (ومن غريب المصادفات أنه زارني قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعا به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب: نحن الآن في الامتحانا وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكانا أقضي فيه بعض أيام بعيدا عنهم؟ فقلت: يا سيدي. إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معا إلى

ص: 27

ضيعتنا التي بقويسنا فنخلو فيها بكتاب نقرؤه، فقال: نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسنا ليشترك معنا في القراءة. ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره، ويسر له العزلة ولكن في دار قراره).

ويظهر أن ندوة تيمور لم تكن لها ليلة معينة في الأسبوع، بل كانت مفتحة الأبواب دائما، وكان إخوانه يجتمعون به كل ليلة وكل وقت يروق لهم، فهو يحكى عن نفسه أن أستاذه الشنقيطي أشار عليه بقراءة أمالي أبى على القالي قراءة إمعان وتدبر، فاعتزل الناس ثلاثة أيام لهذا الغرض، فلم ترق هذه العزلة صيقه محمد أفندي أكمل فعاد إليه بعد الأيام الثلاثة ومعه زجل ينحى فيه على الشنقيطي وعلى أبي علي القالي اللذين تسببا في انقطاعه عن الإخوان وفيه يقول:

يا سيد احمد يا تيمور

يا للي منعنا منأنسك

هو ودادك من بنور

حتى كسرته من نفسك

أهديك سلام يشحن وابور

يقطع محطات على حسك

هو الكتاب ده م الجنة

ولا كلام المجريطي

أبو علي كان لك محنة

الله يجازي الشنقيطي

بكره يجينا الشيخ مفتاح

يحلى السهر في القماري

نفضل ندردش للأصباح

والشيخ بروحه مؤش داري

عبيط خفيف عالم فلاح

بجوز شوارب هوارى

أوقات كده يبقى زنه

وأوقات نشوفه رهريطى

أبو علي كان لك محنة

الله يجازي الشنقيطي

وهو زجل طويل، وكله على هذا النحو من الطرافة والدعابة، وقد أورده جميعه تيمور في كتابه أعيان القرن الثالث عشر.

ويحكى تيمور باشا في ترجمة محمد أفندي اكمل أيضا فيقول:

(وأطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ أحمد الفحماوي وذكر بها كنى وألقابا وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر على سبيل المزاح والدعاية، فلقب كل واحد بلقب شاعر متقدم أو رجل مشهوريوافق اسمه هيئة الملقب به أو شيئا يغلب على أخلاقه وأحواله، فلما

ص: 28

اطلع المترجم عيها جن بها جنونا وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها فامتنعت خشية اللوم فانفرد هو بتاليفها وأنى فها بغرائب، فمن ذلك تلقيته للعالم الفاضل على رفاعة بابن المقفع لنحافته ودخول شديقه، وتلقيه للعالم الفاضل يحيى افندي الأفغاني بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبيها له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم مشهور من الحنفية، ولقب نفسه بابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس، ولما لقب صاحبنا وصاحب الشيخأحمد مفتاح لسلامة طويته بالأبله البغدادي غضب منه، وكاد يتفاقم الشر بينهما، وغضب منه صاحب آخر وكان قصيراً ممتلئا يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط لأنه لقبه بابن بطوطة). .

وهكذا كانت ندوة تيمور باشا مجالا للمداعبات الأدبية والفكاهات الطريفة بين الأصدقاء والإخوان كما كانت مجال علم وأدب، ودراسة وتحقيق.

(له بقية)

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 29

‌النزاع بين الروحانية والماديين

للدكتور فضل أبو بكر

أثارت ظاهرات الطبيعة فضول الإنسان الأول وراعته عواديها فأطلق لخياله العنان ومن بعد ثم شرع يشحذ من قريحته البدائية وتفكيره الساذج يحاول تعليلا لتلك الظاهرات والوصول إلى حل بعض طلاسم الوجود.

ينشد حلا يروى عاش نفسه الظمأى ووجدانه الحائر، ويرضى في الوقت نفسه ولحد ما كبرياءه كحيوان بلغ درجة من التطور العقلي والجسمي ما جعله يلقب بسيد الخلوقات، وهو لقب ناله بجدارة واستحقاق.

غير أن سيد المخلوقات قد عاش في ظلمات من الجهل، وأسدلت بينه وبين نور المعرفة حجب كثيفة حالكة، ولم يبد أمام ناظره بصيص من نور أو وامض من برق إلا متأخرا جداً بالنسبة لبدأ خلقة كانسان - ولا أقول ككائن حي - كما يحدد ذلك على وجه التقريب علم (الأنثروبولوجيا) وكما تدعم ذلك متحجرات (الجيولوجيا) وحفائر (الأزكيولوجيا)

كان لعهد ليس بالبعيد يعتقد في سطحية الأرض ويظنها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له بساطا لا حراك فيه؛ وكان جهله بالسماء وشمسها وكوكبها أشد من جهله بالأرض التي يعيش فوق أديمها وذلك إلى أوائل القرن السابع عشر، حتى جاء (حاليلي)(ونيوتن) و (لابلاس) فيما بين منتصف القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فأثبتوا كروية الأرض ودورانها حول الشمس وقانون الجاذبية، ونهضوا بعلم الفلك ووضعوا له أسسا وقواعد علمية متينة، كما أسس العالم الفرنسي (لافوازييه) قواعد الكيمياء بعد ما فند آراء القدماء فيما يتعلق بالاحتراق (والتأكسد) خاصة. كما ظهر غيرهم من العلماء، وكان عصرهم هو عصر النهضة العلمية خطا فيه العلم خطوات المارد في جميع فروعه. لقى الكثير منهم تعتتا واضطهادا بل وتعذيبا من رجال الدين ورؤساء الكنائس، وذلك لجمود أهله في ذلك الحين وس وسطحية تفكيرهم وضيق أقفهم؛ كذلك كان العلم والمعرفة في ذلك الحين موقوفين على أهل الدين فاشتد الخلاف ودب الحقد في نفس العلماء كما خرج بعضهمعلى الكنيسة والدين، وأكبر مثل لأولئك الخوارج المرتدين كان العالم الرياضي الفلكي (لابلاس) الذي تشرف بالمثول بين يدي جلالة الإمبراطور نابليون الأول لأبحاثه القمية في علم الفلك

ص: 30

ومؤلفه (الميكانيكا السماوية فهنأه الأمبراطور على اجتهاده وقال له مندهشا مستفسراً (أراك لم تذكر شيئا عن الخالق ولم تمجده في جليل صنعه!!) فأجابه لابلاس على الفور (ما كنت يا مولاي في حاجة إلى مثل هذا الغرض) ،

من هنا يتبين لنا الفرق الشاسع بين المسيحية في ذلك الوقت وبين الإسلام فيما يتعلق بتسامحه وسعة صدره إزاء العلماء والفلاسفة الذين لم يلاقوا من رجال الدين تعنتا ولا اضطهادا إلا القليل بل كانوا على العكس محل احترام وإعجاب الكثيرين كما رعاهم الملوك والأمراء ورغما عما أدعاه كذباً وتمويها للحق بعض المؤرخين الغربيين بأن العرب عندما دخلوا الاسكندرية في القرن السابع حرقوا كنوز العلم والفلسفة والفنون من مخلفات الأغريق التي كانت تعج بها مكتبتها الفريدة وتكتظ بها في ذلك الحين؛ غير أن بعض المنصفين من مؤرخهم نفوا تلك التهمة وبرءوا العرب من جناية لم يرتكبوها، وأثبتوا بأن الرومان وحدهم لما دخلوا الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد هم الذين بددوا تلك الكنوز وعبثوا بنفائسها.

ذكرنا فيما تقدم بأن عهد النهضة العلمية كان حقا العصر الذهبي خطت فيه العلوم والمعارف الإنسانية خطوات واسعة كما تحرر فيه العقل البشري - لحد كبير - من ربقة القيود التي كبلته حينا من الدهر.

تقدم علم الكيمياء والطبيعة والرياضيات والفلك منذ ذلك الحين، وما زالت في تقدم مطرد - تقدما غير وجه الأرض وما عليها وكانت نتيجة ذلك حضارتنا الراهنة التي هي وليدة تطبيق تلك العلوم.

وقد نهض الإنسان بعلمي الطبيعة والكيمياء إلى درجة مكنته من تحطيم الذرة واستخذام القوة الهائلة الناتجة عن ذلك.

قوة - كما يقول علماؤها - إذا سخرت في الصناعة أغنته عن الفحم والبترول وغير ذلك من المواد الخام اللازمة لتوليد القوة وأعطته من الإنتاج أضعافا مضاعفة لما تأتى به تلك المواد، كما أنها إذا استخدمت أداة للحرب والشر عصفت بالعالم ومن عليه وما عليه وجعلته قاعا صفصفا وعليفا مأكولا.

غير أن علم الحياة لم يخط كما خطت تلك العلوم وذلك لتعقيده ووعورة مسلكه شأن كل ما

ص: 31

يتعلق بالحياة، فهو لغز الوجود وسر الخالق! فالإنسان المكتشف المخترع لآلات وأجهزة بلغت من الدقة والإتقان شأوا بعيدا، هذا الإنسان عينه نراه في الوقت نفسه عاجزا تمام العجز عن خلق أدنى المخلوقات الحية!! خلق كائن مركب من خلية واحدة مثل (الأميبيا) أو (البكتريا) مع أنه يعرف (تحليلا) وبدقة تامة المواد والعناصر التي تتركب منها ولكنه يعجز (تمثيلا) عن أن يهبها الحياة!!

فلغز الحياة الإنسان بنفسه ككائن حي حير الفلاسفة من عهد سقراط إلى يومنا هذا، وهو ما حدا بسقراط أن يكثر من القول (أعرف نفسك) وهو بيت القصيد من فلسفته والمحور الذي تدور حوله رحاها. وهو هو الذي أعيا الخياموجعله يهرب من ميدان الجدل، ويحتمى بالطاس والكاس يغرق فيهما همومه وحيرته، ويستوحيها لمعرفة السر الرهيب! وهو ما أقلق راحة المعري حيرة وشكا إزاءهما في كروفر؛ فانظر إليه حين يقول:

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد

ومنها أيضا:

حار أمر الإله واختلف النا

س فداع إلى ضلال وهاد

يقول هذا وربما يطمئن إلى ما يقول حينا فيعاوده الشك وتنتابه الحيرة أحيانا فيناقض نفسه بنفسه كما يذكر ذلك في شعره وتأملاته، ومن هنا كانت بليته وعذاب نفسه.

وقد روى عنه أنه كان (نباتياً) يعف عن اللحوم ويرى في أكلها قسوة من الإنسان على الحيوان؛ وربما كان سبب ذلك عقدة نفسية ومركب نقص مصدره إكبار الحياة في شخص الأحياء!! الحياة التي هزمه لغزها وأعياه سرها: فالإنسان يكبر - من حيث لا يشعر ولا يريد - ما يدق عنه وما يجهله والمجهول ما هو إلا خصم عنيد تغلب عليك وهزمك تكبره وإن كنت في الوقت نفسه تشعر نحوه بشيء من العداء!!

وقف العالم وأسرار الطبيعة في حيرة من أمرهما بسبب الجدل الدائم المحتدم بين المادتين المسمين أنفسهم بالواقعيين، وبين الروحانيين، وذلك من عهد سقراط إلى يومنا هذا.

وقد كان أكبر حجة للروحانية المثاليين عند الإغريق هو (أفلاطون) بلا شك. وكان يمجد الروح والعقل بقد ما كان يحتفل المادة ويحط من قيمتها. كان يؤمن بخلود الروح ويعتقد بأن الجسد ما هو إلا سجن وقيود وأصفاد تكبلها. والروح - كما يعتقدها - أزلية لا بداية

ص: 32

لها ولا نهاية، وقد عاشت قبل أن تحل بالجسم كما ستبقى وتخلد بعد فنائه، وأن جوهر الأشياء وحقيقتها لا يعرف عن طريق الحس والمشاهدة، وإنما الوصول إلى الحقيقة يأتي عن طريق هبة علوية روحانية يمكن تنميتها وترويضها عن طريق الجدل المنطقي والتأمل العميق، وهو ما يميز الفيلسوف - الذي هو لا غيره - القادر المقتدر على حكم الدولة حسب قوانين مثالية توحي بها العدالة ويمليها المنطق السليم.

يشارك أفلاطون في آرائه تلميذه وخليفته من بعده (أرسطو) الذي نجح في تدعيم آراء أستاذه بحجج قوية عن طريق المشاهدة والتجارب، ومن هنا كان أقل مثالية من أفلاطون وأقرب منه إلى الواقعيةوالمادية، كما امتاز أرسطو بآرائه في مسألة التطور التي أولاها الكبير من عنايته. أما عن كبار الماديين عند الإغريق فنذكر أهمهم وكبيرهم (ديمرقريط) الذي كان يعتقد بأن المادة تتكون من ذرات متناهية في الصغر في حركة دائمة سرمدية، وأن تلك الذرات غير قابلة للتجزئة أو التحطيم، وكان يعتقد في مادية الروح وتركيبها من ذرات مشابهة لذرات المادة، كما أن حقيقة الأشياء لا تعرف إلا عن طريق الحس والمشاهدة.

ولما كان يعتقد في مادية الروح فقد نفى عنها الخلود وهاجم آراء أفلاطون مهاجمة قوية يتعلق بأزلية الروح.

ظلت الحرب سجالا بين الفريقين إلى أن ظهرت الديانة العبرية بأحبارها، ومن بعد ذلك المسيحية بقسيسها، وشن رجال الدين من الطائفين حربا ضد الماديين، يستنكرون فلسفتهم ويحرمون تعاليمهم، فأفل نجم الماديين إلى منتصف القرن السابع عشر حيث بدأت النهضة العلمية فعادت إليه إلى الميدان من جديد وأهم الفلاسفة الماديين في ذلك العهد هو بلا شك (اسبينوزا) الذي كان من أصل يهودي برتغالي، ولجأت عائلته إلى هولندا حيث ولد وعاش فيها.

تأثر (اسبيتوزا) لحد كبير بفلسفة (ديكادرت) وألف كتابا شرح فيه آراءه في الفلسفة (والمتافزيقيا) وقد ثار عليه رهبان اليهود وطردوه من حظيرة دينهم على أثر مؤلفه (الدين والسياسة).

وفلسفة (اسبيتوزا) المادية فيها كثير من الغموض، بل والتناقض في بعض الأحيان وهاك

ص: 33

ملخصها:

المادة - في اعتقاده - شئ قائم بنفسه له خصائص ومميزات بواسطتها نصل إلى معرفة المادة. أما المادة ككائن - حي أو غير حي - فهذا ما نجهله وهو سر المادة نفسها، ويقصد بذلك المادة الكبرى أي الإله.

الإله - هو المادة والكائن اللانهائي، ولكنه ليس يخالق الكون، وما نسميه بالمخلوقات ما هي في الواقع إلا أنواع مختلفة ومحدودة لمادة لا حد لها ولا نهاية هي مادة الله.

أما الروح فهي في نظره جزء من الجسم وفي وحدة معه، وهي الجزء العاقل الحساس، ورغما عن هذه الوحدة فالروح لا تؤثر على الجسم تأثيرا مباشرا كما أن الجسم لا يكون له مثل هذا التأثير المباشر على الروح، وإنما هناك تحدث تغييرات وانفعالات في الجسم يقابلها ما يشابه ذلك في الروح في نظام وتناسق تام.

ومن أكبر الروحانيين المثاليين في منتصف القرن التاسع عشر، نذكر الفيلسوف (أوجست كمت) مؤسس الفلسفة الإيجابية وهي خليط من الدين والفلسفة والسياسة والاجتماع.

يرى (كمت) أن الثقافة الفكرية يجب أن تكوم مؤسسة على دعائم قوية من الدين والمتافزيقيا والفلسفة الإيجابية، كما أنه يرى من الأجدى لعلماء الطبيعة أن يكتفوا فقط بوضع قوانين لعلومهم ويصفوا ما يشاهدونه من ظاهراتها وما بين ذلك من تشابه وتنافر بدلا من التعمق في معرفة الأسباب والقوة الخفية المؤدية لذلك والتي تدق عن إدراكهم في معظم الأحيان؛ لأن مثل هذا العمق فضلا عن عقمه - يوقع في الحيرة والشك - وهما يفضيان إلى المادية والسلبية.

والخلاصة كما يقول كمت هي أن العقل البشري مهما سما واتسعت مداركه لا يمكنه أن يصل إلى معرفة الكثير من الأسرار والقوى الخفية في هذا الكون؛ ولا يقصد بذلك أن هذا العجز يجب أن يشل من تفكيره ويوقعه في اليأس والاستسلام بل على الإنسان أن يكثر من التأمل ويجد في التفكير وإلا يكون أخفاقة - كما هو الحال مع بعض الفلاسفة والعلماء - سببا لتبرمه بالخالق ونكرانه له. ولنتأمل في قول الخالق نفسه: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وكما يقول الفيلسوف الإنجليزي (هربرت اسبنسر): (من درس الطبيعة دراسة مستعجلة سطحية أغوته وقادته إلى الشيطان، ومن درسها بتعمق وروية سمت به وأوصلته

ص: 34

إلى الخالق).

(باريس)

فضل أبو بكر

بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا

ص: 35

‌9 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

بين عنيبة والدر

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

يطلق اسم عنيبة الآن على غير مسماة لأنه يطلق على المكان الجديد الذي أنشأته الحكومة المصرية بعد التعلية الثانية لسد أسوان، والذي يضم المدرسة الابتدائية وثانويتها، والمركز بما فيه مكاتب الصحة والتموين، والمحمة الشرعية والوطنية، والبريد، والتلغراف والتليفون والمستشفى، واستراحة الري. الخ هذه المرافق العامة التي لا بد من وجودها في كل مركز كبير، يكاد يكون صورة مصغرة من مدينة كبيرة. . .

والواقع أن المكان الذي يشمل كل أولئك ليس هو عنيبة، بل (مستعمرة عنيبة) ولعل البعيدين عن المحيط الذي نعيش فيه، يهزون أكتافهم، ويزمون شفاههم، في دهشة وعجب، غير شاعرين بكبير فرق بين التسميتين، ولكنهم لو كانوا بيننا حيث نحيا ونعيش لأدركوا سر هذه التفرقة وقيمتها في نظر النوبيين، إذ أن عنيبة، عبارة عن بلدة تمتد على شاطئ النيل حوالي ثمانية أميال تقريبا، مكونة من نحوع تكاد تكون متصلة متلاصقة، وبيوت كل نجع عبارة عن أكواخ صغيرة، مبنية من اللبن أو الحجارة أحيانا، ولكنها تحمل آثار الفقر والفاقة. وبين المستعمرة الحكومية التي تضم الموظفين - دواوينهم ومنازلهم - وين أقربي نجع من نجوع عنيبة الأصلية مثلان على الأقل!!

فإذا تحدثنا عن عنيبة فلا نعني البلدة الأصلية الزيفية. . التي لا يكاد يقطن بها موظف واحد، وإنما نعني مستعمرة عنيبة التي قامت مقام الدر، المركز السابق، والتي تضم موظفي المركز بأسره، اللهم إلا رجال البريد، والتعليم الأولى والإلزامي فهؤلاء متفرقون في مختلف بلادالنوبة على شاطئ النيل، وكذا موظفو المدرستين الجديدتين الابتدائية في الدكة، وقورته. . .

وإن شئت فقل إن هذه المستعمرة الجميلة التي تفيض حركة ونشاطا، والتي تعتبر عروس بلاد النوبة على الإطلاق، كانت تدعى فيا قبل:(مقابر عنيبة)!!

إي والله، لقد كانت موضع القبور، ومكان القظة لمن أرادها، فأصبحت الآن مدينة صغيرة، آهلة بالسكان، تضم عشرات الموظفين المثقفين في أرقى الجامعات المصرية والأجنبية،

ص: 36

وبها الماء والنور!!

ولم يقع اختيار الحكومة على هذه البقعة اعتباطاً، ولكنها اضطرت إلى إنشاء المركز الجديد اضطراراً، ولذلك قصة طريفة، نجملها فيما يأتي!!

كانت بلدة (الدر) قبل سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف مقر المركز، وأهم موضع في بلاد النوبة على الإطلاق، وكيف لا، وبها دور الحكمة، ودواوينها: مدرسة ابتدائية لها قيمتها في ذلك الوقت. . ثم أغرقت بلدة الدر ضمن ما أغرق من البلدان النوبية بسبب التعلية الثانية، وغمرت مياه الخزان بناء المركز وبقية دور الحكمة جمعاء. . وأرادت الحكومة أن تنشئ بنايات جديدة لمرافقها المختلفة في البلدة نفسها ولكن في مكان مرتفع عن منسوب المياه مهما طغت وكثرت. بيد أنها فوجئت من الأهليين بالمعارضة القوية الصارمة، والرفض الشديد، مما أثار الدهشة والحيرة، والتساؤل والارتباك، ولكن الحكومة إزاء هذا التصميم، لم تجد بداً من الالتجاء إلى بلدة أخرى غير الدر، غير أنها باءت بالفشل، ووجدت الرفض نفسه، والمعارضة التي لم يفلح معها إقناع بحال من الأحوال، وهكذا وقف عمد أربعين بلدة من بلدان النوبة هذا الموقف بعينه، ولم يقبل واحد منهم، ووراءه أهل بلدته بما لهم من سطوة ونفوذ أن يكون مقر المركز من نصيب بلدته، وكأنما هو الخطب الداهم، والشر المستطير!!

وغفل كثيرون عن سبب هذا، وفهمه العارفون، أدركوا سره وحمدوا هذا الموقف للنوبيين، لأنه يرهن على اعتزازهم بشرفهم، وحرصهم على حماية أعراضهم، من أولئك الذين لا يفهمون واجبهم نحو ربهم، ونحو أنفسهم، فيستجيبوا دائما لداعي الغريزة، ويلبون نداء الشهوة، ويعيشون في الأرض فساداً، ولا يبالون بأعراض الناس. إن هؤلاء أساءوا إساءة بالغة إلى أنفسهم أولا، وإلى مناطقهم وبلداتهم ثانيا، وكانوا شر قدوة، وأسوأ أسوة!!. .

يا لله! لقد شافهت الكثير من أهل هذه البلاد، وخاطبتهم في هذا الموضوع، فأبرقت منهم العيون، وعادت بهم الذكرى تعيد الصور مكرورة، وتبعث الأشجان محفورة في الأفئدة والصدور، وكأنهم يعتقدون أن الله أنقذ بمياه الخزان بلدة الدر، وطهرها من الرجس، حينما خلصها من شر الموظفين، وإن بعض الأهلين يعتقد أن بلدة الدر خسرت بذلك سوقا رائجة، وتجارة نافعة، وحركة دائبة!!. . .

ص: 37

ومهما يكن من شئ فإن هذه الفكرة سائدة الآن بين الموظفين والأهلين على السواء، وقليل ذلك الذي يرى أن اختيار هذه البقعة الصحراوية، والتي لا تشتهر بـ (قبر عنيبة) كما تدل على ذلك الخرائط الكبيرة القديمة، والتي لا يزال المركز يحتفظ بإحداها يزين بها حجرة المأمور - قليل ذلك الذي يرى أن سبب هذا الاختبار مرجعه إلى المقاول الذي رست عليه المزايدة العلنية، وأنه اختار هذه البقعة الصخرية بالذات ليوفر على نفسه مؤونة نقل الحجارة من مكان بعيد يكلفه كثير المشاق، وطائل الوقت والمال!!.

وعلى الرغم من أن عنيبة قد سعدت بمقر المركز الجديد، ونالها بذلك كثير من الرخاء والرواج، لتعدد دور الحكومة فيها، واختلاف دواوينها، فإن (الدر) لا تزال تجاذبها أطراف ذلك الرداء، وتأبى في إصرار أن تستقل عنيبة بهذا الفضل، وتنفرد دونها بذلك المجد الذي كان لها وحدها إلى عهد قريب.

أجل فإن اسم (الدر) لا يزال يحتل أبرز الأماكن في هذه الدور، مما يدعو إلى الدهشة والعجب في نفوس الذين لا يعرفون شيئا عن ذلك التاريخ القديم. . . وأعجب من هذا أن بعض المصالح الحكومية لا تزال تتمسك باسم المركز القديم فتطلق على مركز عنيبة، مركز الدر، وكأنها لا تعترف بكل ما مر بهذا الإسم من حوادث، وناله من كوارث الأيام، ولا تقيم وزنا لهذا الإسمالجديد، أو كأن للاسم القديم لذة ومتعة لا ترضى بغيرهما بديلا. . أو كأن رهبة وروعة، فهي لا تريد أن تذهب بما اكتسبه على مر الأيام، وكر الأعوام، من جلال ووقار، أو بمعنى أدق من تخويف وإرهاب، ونفى وتشريد!!.

وإننا لنحسن الظن بالحومة بهذا التعليل كائنا ما كان، وهو على أسوأ وجوهه خير ألف مرة ومرة من الوجه الآخر الذي يتبادر إلى الذهن من الإبقاء على تسمية المحكمة الشرعية، والمحكمة الوطنية باسمهما القديم، وترد بذلك الإسم المخاطبات والمكاتبات في كثير من الأحابين. . . ولا تزال حركة الإصلاح في مختلف الوزارات تذكر مركز الدر في قرارتها، وتهمل مركز عنيبة!!.

ولا شك أن بلدة الدر أعرق مجداً، وأوفر حظا من عنيبة، ولا يزال فيها السوق التجاري الأصيل، وإن زال مجدها الحكومي بزوال دور الحكومة، ورحيلها عنها، فلا يزال مجدها الحقيقي قائما بشخصيات أهلها، ونفوذ الكثيرين منهم، وبخاصة طلبوا العلم فيها، والذين

ص: 38

زاولوا فيها كذلك شتى الأعمال الحكومية، واضطلعوا بمختلف المناصب!!. .

واسم الدر أعلق بأذهان الموظفين من اسم عنيبة الذي لا يعرفه غير المتصلين به من مهندسين ومدرسين وقضاة وأطباء وغير أولئك من طوائف الموظفين، فإذا ذكرت اسم عنيبة أمام أحد لم يفهم منه شيئاً، وخالني ألغز عليه، فإذا رآني جادا غير هازل، وصارما غير مازح، استفسر واستفهم، ولم يذهب فكره إلى أكثر من مديرية الجيزة أو الفيوم، أو بني سويف. فإذا قلت له أبعد من هذا صمت، وشك فيما أقول، فإذا ذكرت له الموقع بالضبط، وأنها بعد الشلال، انقبضت نفسه، وحال لونه؛ فإذا قلت له إنها هي الدر ذات التاريخ القديم الذي لا يجهله أي موظف، زم شفتيه ومطهما، وعقدما بين حاجبيه، وهز رأسه فزعا وهو لا مما سمع، وكأنما لسعته عقرب شائلة، أو لدغة أرقم لعين، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وحوقل مرات، واسترجع في لهجة فزع، وكأنما ذكرت أمامه اسم واد من أودية العذاب، أو طبقة من طبقات الجحيم!!.

مهلا يا سادة. . فما هكذا تكون الوطنية، ولا هكذا يكمن الخوف والرعب في القلوب لمجرد المتع واللذة والبقاء في المدن العامرة، والعواصم الآهلة. .

ولحسن الحظ أن الموظف تعتريه حالة نفسية، ويسرع في قضاء ما أريده، وما أتيت من أجله، قضاء عاجلا ناجزاً، غير مقيد بقيد، ولا مشروط، على خلاف العادة، إذ كان يصرفني كل موظف من أمامه في لباقة أو غير لباقة. . وكأنه حينما يسرع في قضاء مصالحي يشفق بي، ويعطف علي، أو كأنه يريد أن يبعدني عنه، ليبعد عنه الشر!!

ومهما يكن، فإن اسم عنيبة أفادني إلى حد كبير في قضاء كثير من حوائجي حينما كنت أذهب بنفسي لقضائها، وكان خيراً وبركة على الرغم من كل ما يقال، وعلى الرغم من ألسنة بعض الإخوان والزملاء لحداد التي لا تني عن القدح في عيبة، والنيل منها في كل مناسبة، وفي كل مكان!

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 39

‌رقص السماح

للأستاذ حسني كنعان

هو نوع خاص من أنواع الرقص العربي القديم المجهول في أقطار البلدان العربية، اختصت به مدينة حلب وحدها دون سواها من عقيل المنبجي المدفون في ذروة جبل في قضاء منبج يسمى باسمه جبل الشيخ عقيل، ومنبج هذه مدينة تبعد عن حلب 60 كيلا يرجع تاريخ وفاته إلى 400 سنة على الجملة، وكان رحمه الله شيخ طريقة الأحمدية الموهوبين المرموقين ذوي الكرامات والخوارق، اخترع هذه الطريقة من الأذكار التي يلجأ إليها أصحاب الطرق الصوفية في خلواتهم عندما يتحلقون حلقات حلقات في الزوايا يذكرون الله في طرائق شتى، وفي أنغام متنوعة وموقعة على الضروب والأوزان، يرمز إليها بالأرجل، أو بالأيدي، أو بتقديم الصدر أو بتأخيره، وما هي إلا أن تبدأ حلقات الأذكار بإنشاد الموشحات حتى ترى أصحابها يتنقلون على حسب التواقيع ولأوزان، ويروحون ويجيئون في القاعات ويضربون الضرب بالأيدي والأرجل. وبتقديم الصدر وتأخيره في انسجام وترتيب خفة أو تباطؤ في التنقل يبهج الناظر، فما يكاد ينتهي الجمع من إنشاد موشح حتى يبدأ غيره من نغمة أخرى، فترى نفسك أمام هذي الموشحات الأندلسية التاريخية الموروثة كأنك في قاعة من قاعات ابن سراج في الأندلس أو ابن سريح، فتذهل عن الدنيا لشدة ما يداخل فؤادك من أنواع الطرب والشجن والتلهي، فتخالك في عالم غير عالمنا وفي دنيا غير دنيانا. وفي حلب الشهباء مشيخة في هذا الفن اختصاصيون ذاع صيتهم لدينا وغدوا مضرب الأمثال في البراعة، عرفنا من المتوفين منهم الشيخ صالح الجدية، وكان يحفظ عشرة آلاف موشح مع ضروبها وتواقيعها واوزانها، وعبده بن عبده، وأحمد أبو خليل القباني الدمشقي المعروف، وغيرهم من الذين لم تحضرني الآن سماؤهم. . .

وعرفنا من الموجودين على قيد الحياة منهم الشيخ عمر البطش، والشيخ على الدرويش، ومحمد طيقور. وإني أسجل هنا للتاريخ والحقيقة أن حلب قد انتهى إليها هذا الفن في بلادنا، ولأبنائها ميل خاص فيه طغى على جميع الميول، يصلون الليل بالنهار، والنهار بالليل دؤوبا عليه. وبين هذي الرقصات نوع خاص يسمى في عرفهم (إسق العطاش)،

ص: 40

وهي سلسلة موشحات من نغمة الحجاز يستغرق معهم إنشادها من المساء حتى مطلع الفجر. ولأمر ما جاء في الأمثال القديمة لدينا إن الدور أو الأغنية تنبع من مصر وتنتشر في دمشق وتخلد في حلب. فأهلها من أكبر المحافظين على القديم، ومن أكبر المتلذذين والمتكسبين من هذه الصناعة إتقانا، وحسبك أن تعلم أن الشيخ علي الدرويش كان من كبار الأساتذة الذين احتاجت إليهم مصر في تعليم هذا الفن في معاهدها الفنية الكبيرة، واحتاجت إليه تونس وغيرها من الأقطار العربية، وأن تعلم أن كبار العازفين على الكمان، كالأستاذ توفيق الصباح، وكريم عزة، ويوسف عزة، وجميل عويس، وسامي الشوا، وفاضل الشوا، جميعهم من الحلبيين. . .

رأت الحكومة السورية في عهدها الوطني الميمون الطلعة أن تنهض بهذا الفن كما نهضت بغيره من بقية الفنون، وأن تحيي مواته قبل أن تفنى البقية الباقية من أربابه وأساطينه، فأسست في دمشق تحت إشراف النائب السيد فخري البارودي الذي يحدب على هذا الفن وأربابه لميله الخاص إليه مدرسة أطلقت عليها المعهد الموسيقي الفني للإذاعة السورية الموقتة، تسلم فرع الموشحات ورقص السماح فيه الشيخ عمر البطش، ويعاونه في ذلك سعيد فرحات وصالح المحبك الذي كان من أعضاء المؤتمر الموسيقي هو والصباغ المنعقد في القاهرة تحت إشراف ساكن الجنان الملك فؤاد. واستقدمت له من تركيا الأستاذ رفيق فرسان لفرع النوتة والسماعيات والبشارف يرافقه زوجته وشوقي بك ذلك الموسيقى الذي كتب عنه صديقنا الطنطاوي منذ أمد قصة الموسيقى العاشق في الرسالة الغراء.

ويعاون هؤلاء في أعمالهم أساتذة بعضهم من مصر وبعضهم من دمشق وحلب. ثم تألقت في المعهد فرقة خاصة جمعت الأساتذة وبعض النوابغ من التلاميذ يعرضون بضاعتهم ومنتوجاتهم على الملأ في الحفلات والعامة، ويعرضونها في محطة الإذاعة الدمشقية، فيسمع الناس فيها السحر الحلال. ويشهدون روعة الفن القديم، ولقد شهدت هذه الحفلات أكثر من مرة، وكنت كلما شهدتها أزداد بها إعجابا وفتنة ورغبة في سماعها، وقد ينتهي العمر وإعجابي لا ينتهي برقص السماح. وكم كنت أتمنى عندما أشاهد الفنية بعد الفنية أن لو يتاح لإحدى الشركات السينمائية المصرية أو غيرها أن تأخذ شريطا عنه فتعرضه على الناس ليشهدوا روعته وإتقانه، وهو فن خالد قد أذهب الأقدمون في إيجاده نور البصائر،

ص: 41

عسى بمشاهدته يلقى من التشجيع في الأقطار الشقيقة ما يحفز الهمم على تعميمه وإحيائه بدلا من هذه الرقصات الخليعة الماجنة المخنثة التي سرت إلينا عن طريق الغرب سريان السلأو السرطان وفيها المخاصرة والمعانقة والمعايب. . . .

تصور معي سيدي القارئ كوكبة من التلاميذ الأحداث توحدت ملابسهم وهيآتهم، وانسجمت أصواتهم، واتسقت نغماتهم وحركاتهم، ينشدون كالعنادل الموشحات المقعة في الرقصات والآلات الوترية، وقد تخرجوا على أيدي الصناع الفنيين وحذقوا ومهروا في فهم، تعرض صورهم أمامك على الشاشة، وتصور ما تحدثه هذي المشاهد وهذه الأصوات في نفسك من أثر ورغبة في إحياء موات هذا الفن. ألا ترى معي وجوب تعميمه والدعاية له؟ وإني لأضمن لهذا الفن الرائع الانتشار عن هذه الطرق، فهو يرى كأنه جديد لدى أبناء هذا الجيل، وكل جديد لا بد له من دهشة وروعة وفتنة. وإني لا أزال أذكر ما أحدثته أول حفلة من حفلات هذا المعهد من أثر بالغ في نفوس الشاهدين في صالة سينما دمشق، أخص بالذكر منهم المتشبعين للموسيقى الحديثة الدخلية التي أفسدت عينا قديمنا، وذهبت بأذواقنا، تلك الموسيقى التي محتها الأرض والسماء وهي بعيدة عنا، لا تمت إليها ولا تمت إلينا بصلة أو نسب!

إنها لمأثرة تذكر لمعالي وزير المعارف الشاب الدكتور منير العجلاني بك أن يتم هذا الأمر في عهده وفي ظل صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية المعظم الزعيم شكري القوتلي بك الذي له في كل عمل مأثرة، وف يكل نهضة مغخرة، فالنهضة السورية في كافة نواحيها مدينة إليه وإلى رئيس وزارته السيد جميل مردمبك سدد الله خطوات الجميع لما فيه الخير والفلاح لخدمة هذا الوطن المفدى الذي أخذ بهذه الوثبة يشق طريقه في الحياة.

(دمشق)

حسني كنعان

ص: 42

‌الألغاز عند العرب.

. . .

للأديب عبد الله نيازي

قال صاحبي، أنا حجياك في هذا اليوم، قلت: في أي شئ؟ قال: في لغز لا أظنك تسطيع حله. قلت: هات عسى أن أدرك كنهه، قال: دخل أحد الأفراد إلى محل تجاري كبير آملا أن يجل له فيه مكانا يكسب منه رزق يومه، ولما دخل إلى مدير المحل أفضى بما جاء من أجله وأبدى رغبة ملحة في توظيفه، فأشار المدير إلى سكرتيره إشارة خاصة ذهب بعدها السكرتير وأتى بقدح مملوء بالماء موضوع في وسط صينية وقدمه إلى الزائر، وفكر الزائر هنيهة ثم رفع قشة ووضعها على سطح الماء الذي في القدح. فعجب المدير لفظنته وذكائه وأوجد له مكانا. . قال صاحبي ما سر هذا اللغز، وإلى أي شئ رمز قدح الماء الذي قدم إليه؟ ثم ما معنى تلك القشة التي وضعها الزائر وكانت سببا في توظيفه؟. ثم سكت صاحبي وارتسمت على وجه سمات الارتياح والنصر معا، ففكرت برهة ثم قلت، إنما القدح المملوء بالماء يعني عدم وجود مكان لكثرة الموظفين الموجودين ولا يوجد أي مكان لطالب جديد. أما القشة التي وضعها الزائر فإنه أفهم المدير بلطف إلى أن القشة لم تزد على الماء شيئا وكذلك لم تنقصه، وأنه إذا أضيف إلى عدد الموظفين الموجودين لا يؤثر فيهم شيئا. فدهش صاحبي وقال: لا بد أنك سمعته من قبل فنفيت زعمه وأبى أن يصدق.

والمطلع على أدبيات العرب يجد الكثير من أمثال هذا اللغز. وتعرف الألغاز والأحاجي وكانت العرب تزيد في إبهامها وغموضها لتفحم سائلها في فهمها وتفاخر بالتفوق عليه، وكانت هذه الألغاز سيلة للتندر وتزجية للوقت معا، والذي يشبه اللغز الذي رواه صاحبي بل ويفوقهمن حيث الوضع والمعنى ما حكاه المدائني من أن رجلا مر بحي الأحوص، فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطبا من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أتى راحلته فاستوى عليها ذهب. فنظر الأحوص والقوم في أمره فلم يدركوا سرما فعل، فقال أرسلوا في قيس بن زهير وكان فارسا شاعرا داهيا يضرب به المثل فجاء. فقال له الاحوص: ألم بخبرني أنه لا يرد عليك أمر ألا عرفت مأتاه؟ قال: فما الخبر؟ فاعلمون، فقال: وضح الصبح لذي عينين، ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود

ص: 43

والمواثيق أن لا ينذركم، فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فأنه يزعم قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنظلة فأنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم، وأما الشوك فأنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلوا أو حامضاً. فاستعد الأحوص وورد الجيش كما ذكر قيس.

وتفننت العرب في وضع الألغاز تفننا مدهشا وذهبت بها مذهبا بعيدا وأخذتها الشعر وِأحكمت وضعها وتركيبها. ونسوق مثالا على ذلك مقدام الخزاعي.

وعجوز أنت تبيع دجاجاً

لم يفرخن قد رأيت عضالا

ثم عاد الدجاج من عجب الدهر

فراريج صبية أطفالا

وقال: يعني دجاجية الغزل، وهو ما يخرج عن الغزل، ويعني بالفراريج الأقبية. . . ومن الأحاجي هذه ما كان يأتي بأول كلمة من معنى يضمره الحاجي وعلى المجيب أن يأتي به. ومنها ما رووه عن هند بنت الخس وهي قديمة في الجاهلية قالوا وكانت ساحبجة مبتذلة تحاجي الرجال إلى أن مر بها رجل فسألته المحاجاة، فقال كاد. . . فقالت: كاد العروس يكون الأمير، فقال: كاد. . . فقالت: كاد المنتعل يكون راكباً، فقال: كاد. . . قالت: كاد البخيل يكون كلبا وانصرف. فقالت له، أحاجيك؟ فقال قولي، قالت عجبت. . . قال: عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها. فقالت عجبت. . . قال، عجبت للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها. . . ثم أفحمها بكلمة بذيئة فخجلت وتركت المحاجاة.

ومن أطراف ما ذكر في هذا الشأن دخول أبي القاسم القطان على الوزير الزيني يهنئه بالوزارة فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص، فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ! إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته.

وبعض الألغاز كانت تجئ عفوا من طريق المصادفة وما كانت تقصدها العرب وهي نوعان: منها ما يقع الإلغاز فيه من حيث المعاني وكانت لا تفهم من أول وهلة، ومنها ما يقع فيه الإلغاز من حيث اللفظ والتركيب،. . . هذا وللعرب ألغاز وأحاج كثيرة لا يتسع المقام لبسطها هنا فاكتفينا بهذا المقدار ليكون على علم من أن للعرب ألغاز وأحاجي تفوق ما يتناقله الناس الآن

بغداد

ص: 44

عبد الله نيازي

ص: 45

‌ليالي الحصاد

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

يا ليالي الحصاد ما أنت إلا

بهجة العمر يا ليالي الحصاد

فيك دنيا من الجمال تجلت

لقلوب إلى الجمال صواد

الضياء الذي يرقرقه البد

ر فيجري على الربى والوهاد

والحقوق التي تهز فؤادي

رقة في نباتها المياد

وتراءى سنابل القمح فيها

كعذارى يمسن في الأبراد

كل عذراء في بهى صباها

تتهادى مع السنا المتهادى

والنسيم الذي يمر على القمـ

ح رقيقاً كخطرة في فؤادي

أو كهمس الصباح في أذن الكو

ن لينجاب عنه طيف الرقاد

أو كشدو الطيور في رونق الفجـ

ر، وفي بهجة الربيع الشادي

أو كصوت الأوتار إذ لمستها

في حنان أنامل العواد

والحديث الشهي، والسمر الممـ

تع بين الأتراب والأنداد

والعذارى التي فقدت صوابي

في هواها، وضاع مني رشادي

ألعذاري التي تحوم عليها

أخيلاتي في صحوتي ورقادي

ألعذاري التي تضم إليها

حزم القمح في هوى واتئاد

وتغنى بأغنيات شباب

عاش رهن الأغلال والأصفاد

كل أنشودة تصور قلبها

مستهاما بحاضر أو باد

كل أنشودة تذيع نداء

وهتافا برغبة ومراد

لفظها هزة الصدور، ومعنا

ها خفوق القلوب والأكباد

وصداها يرن في كل قلب

وهو في الأفق رائح أو غاد

يا عذارى الحقول أسعدن قلبي

برقيق الغناء والإنشاد

علني أستعيد ذكرى غرام

مر في العمر كالشعاع الهادي

كان أنسى، وكان روح شبابي،

ليته عاد بعد طول البعاد

يا عذارى الحقول يا منية الأر

واح بهذه الأعواد

ص: 46

إنها منيع الحياة لشعب

ما تربى إلا على الأمجاد

قد غذاها بروحه نيل مصر

وسقتها روائح وغواد

وروعتها الشمس المنيرة حتى

هيأتها لمنجل الحصاد

حسبها أنها تمد عروقا

في ثرى مصر كعبة القصاد

كل نبت وكل شئ عزيز

حين ينميه موطن الأجداد

يا عذارى الحقول أين غذاء

الروح بعد الغذاء للأجساد؟

إن تقدمنه تقدمن مجدا

وسناء وعزة للبلاد

إنما الكون ساحة لسباق

قوة الروح فيه خير الجياد

يا ليالي الحصد دمت، ول طا

فت بمغناك طائفات العوادي

ما أحب السهاد فيك، وإن كا

ن عجيبا في الليل حب السهاد!

يا ليالي الحصاد قد طلع الفج - ر بشيراً باليمن والإسعاد

فاستفاق الوجود، وانتبه الكو - ن، وغنى له الزمان والإسعاد

فاستفاق الوجود، وانتبه الكو - ن، وغنى له الزمان الحادي

يا ليالي الحصاد عودي إلينا

كل عام على مدى الآباد

إنما أنت بهجة ونعيم

لمحبيك يا ليالي الحصاد

1 -

إلى الروضة

للأستاذ العوضي الوكيل

(قيلت يوم دخل ممدوح الوكيل روضة أطفال شبرا)

بنى غداً تمضى إلى الروضة التي

تعدك للتيقيف تصفو مناهله

وتعلم منها أنني لك ناظم

قصيداً كأفق الروض فنت بلابله

أسطره في الطرس حتى إذا استوت

بك السن تدري ما الذي انا قائله

نشرت به البنوة رائعاً

فمن لي يشعر مثل شعري أساجله

2 -

نجاح

(نجح ممدوح الوكيل في الروضة فهنأناه بهذه القصيدة)

ص: 47

هنيئاً لك الفوز الذي نلت. إنني

ذخرتك للأيام يا أنفس الذخر

ثلاثون عاماً عشتها وثلاثة

وماذا تبقى لي من العمر؟ لا أدري

ولكنني أدري بأنك وُصلة

يطول بها عمري وإن غبت في القبر

أرى في أمانىَّ الكريمة صورة

لمجدك سماقاً على هامة الدهر

وألمح سباقاً إلى الخير ناهضاً

ولا يبتغي إلا رضائي من الأجر

وألمح مصراً وهي امامك تنحني

عليك للثم الثغر والخد والنحر

ويا ليت شعري ما تمنيت ضلة

فغشت سمادير الهموم على أمري

بُنىَّ امض للعلياء وابلغ بروجها

ولو كان مسراها على ملتظى الجمر

وإن فخر الأبناء يوماً بوالد

فبي تستطيع الفخر في ساحة الفخر

وحسبك من مجدي وفائي وعفتي

وماروت الأيام من ذلك الشعر

ص: 48

‌الأدب والفن في اسبوع

الصهيونيون ليسوا من بني إسرائيل:

كان حديثا طريفا حديث الدكتور محمد عوض محمد بك بالمذياع مساء يوم الجمعة الماضي، فقد قال في هذا الحديث إن هذه الشراذم الصهيونية التي تأتي بفلسطين أشنع الأعمال وأدلها على الانحطاط النفسي والخلقي، ليست من بني إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فهؤلاء الذين يقتلون الحوامل ويسممون مياه الشرب ويلوحون بالأعلام البيضاء ريثما يتمكنون من الغدر، لا يمكن أن يكونوا من ذلك العنصر الطيب الذي كان يسكن فلسطين قديما، وإنما هم من أمم مختلفة وأكثرهم من العنصر الجرماني اعتنقوا اليهودية في العصور التي نشط فيها التبشير اليهودي. ومما يدل على ذلك اختلاف سحنهم وألوانهم وتكويم أبدانهم، فلا يعقل أن يكون كل هؤلاء المتباينين أبناء سلالة واحدة، واستشهد الدكتور بأقوال بعض علماء اليهود التي تنص على دخول كثير من الأجناس في الديانة اليهودية في عصور مختلفة. وقد كان نصف سكان الإسكندرية في بعض العصور القديمة يهوداً، كما انتشر الدين اليهودي في بلاد اليمن في عصر سحيق، فهل صار أولئك القدماء من المصريين واليمنيين بذلك من بني إسرائيل؟!

وقال الدكتور عوض إن هذا الخلط بين الدين والعنصرية بادعاء اليهود أنهم من بني إسرائيل، خلط عجيب، أنه يحصر الدين في سلالة البيت النبوي، ولا يقول بذلك عاقل، فليس معنى الدين الإسلامي مثلا الهاشمية أو القرشية. ومما لا شك فيه أن قبيلة بني إسرائيل قد تفرق دمها، كأي قبيلة أخرى، فالقبائل لا تبقى. والخلاصة أن هذه العصابات الصهيونية التي تدعى باطلا أنها من بني إسرائيل. إنما هي أشتات من الأجناس والأمم، وهي أشتات منحطة الفضائل الإنسانية تنم عليهم أفعالهم التي تباعد بينهم وبين السلالة الإسرائيلية. فليست دولتهم التي أعلنوها بفلسطين هي فحسب المزعومة، بل هم أنفسهم مزعومونوهم دخلاء في النسب كما أنهم دخلاء في فلسطين.

عملية الأدب من الوجهة النفسية:

ألقى الدكتور إبراهيم ناجي محاضرة برابطة الأدباء يوم الأحد الماضي موضوعها (رسالة الأدب)، وقد أفاض في بيان معنى الأدب وطبيعته ورسالته، حتى استغرق في ذلك نحو

ص: 49

ساعتين استأثر في خلالهما بانتباه الحاضرين من الأدباء والمتأدبين على رغم الإطالة والحر. . .

ومما تناوله الدكتور ناجي في هذه المحاضرة شرح العملية الأدبية من الوجهة النفسية، إذ قال:

(نحن نعيش في ثلاثة عوالم: العالم الخارجي، والعالم الشعوري، والعالم اللاشعوري؛ أو عالم الحقيقة، وعالم الشعور، وعالم الخيال. وهذه العوالم في دنيانا العملية تكاد تكون منفصلة تماما، أو على الأقل بينها اتصال غير كامل. أما العالم الخارجي، ففيه المواد التي تستمد منها التجربة، ولكن وجود التجربة وحدها لا يكفي بغير أن يزول ما بينها العقل الواعي من فواصل، فيؤدى ذلك إلى اندماجها بالشعور حتى يحدث ما يسمى لحظة انفعال. على أن هذه اللحظة تستوعب التجربة صورة موحدة وأنموذجا كاملا، فلا يلتقطها الشعور متفرقة مبعثرة؛ فإذا انزاحت الفواصل بين الشعور واللاشعور، فإن اللحظة الانفعالية تصير انفعالية ممتدة الزمن، وزيادة على ذلك يستوعب الانفعال التجربة كخليط معقد متعدد الجوانب، وهذا ما يجعله مثيراً ومشتملا، ويجعل الأدب متوثبا لاستيعاب الانفعال والسيطرة عليه، ومنتهزاً فرصته لكي يتاح له أن يستعيد هذه الصورة الحسية الغنية بالألوان، ولن يتاح له ذلك إلا في وقت يحس فيه انه على وشك وقت اختلاط الشعور باللاشعور. . . الشعور يغزو اللاشعور، واللاشعور يطفو بأحلامه وضبابه في الشعور، هذه لحظة تحرر كاملة تفسر لنا السرور الذي نشعر به إذ ذاك. أما الشعور فهو تحليلي في نزعته، وأما اللاشعور فهو تركيب. فالشعور يتسلم التجربة ويحيلها قطعا، ثم يسلمها إلى اللاشعور الذي يعيد تركيبها، ولكنه يعيدها ومعها فروق وتدريجات وألوان وأصباغ وأضواء وظلال، كالآفاق التي تبدون في الحلم تماما. وذلك لأن اللاشعور طبقات وإمكانيات، وهو يعطي بالتدريج، ويغري باقتحامات جديدة. وقد يسأل السائل: ألم يكن من الجائز انتهاز فرصة التجسد الشعوري لخلق عمل فني؟ فنجيب بأن التجسد الأول إنما هو تضخم متعب قد يؤدي إلى الانتحار أو الجنون، أما التجسد الأخير فهو تجسد مخفف تدريجي يطفو في وسط الألوان والأضواء، وفيه شعور بالتحرر المنظم، وفيه كذلك شعور بالتحرر من قيود العرف، ولذلك يصلح التعبير دائما في هدوء الليل وفي الوحدة البعيدة عن العالم. ويتضح

ص: 50

من ذلك أن في طبيعة العمل الأ دبي قسم كبير متعلق بالصنعة ما دام العقل الواعي مشتركا اشتراكا كبيراً في تنظيم العمل، ولكن الجزء اللاشعوري له أهميته العظيمة. ومن ثم يتضح أنه لا يوجد عمل عبقري لا تدخل فيه الصنعة. والذين يقولون بالسليقة إنما يجهلون المعاني السيكولوجية للأعمال الفنية. ويبدو من هذا التحرر السيكولوجي أن المسألة محاولة إزالة فواصل، فمن الباطن إلى الوعي إلى الخارج. . . ومعنى ذلك أنها عملية إفضاء إلى الغير، أو بعبارة أخرى الخروج عما هو شخصي إلى ما هو إنساني. وهذا هو غرض الأديب ورسالته. ويتضح كذلك الفرق بين طبيعة العصبي والعبقري، فالأول يهتم بتحقيق رغبة مكبوتة، أما العبقري فهمه التعبيرعنها، وشتان ما بين الاثنين!

الكاريكاتور في شعر ابن الرومي:

كان الأستاذ كامل كيلاني ألقى محاضرة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية موضوعها (الكاريكاتور في شعر ابن الرومي)، وقد عن له أن يستوفي هذا البحث ليخرجه في كتاب، وهو يعمل الآن في إنجازه.

ويتكون هذا البحث من جولات في متحف الكاريكاتور الذي يضعه شعر ابن الرومي، والذي يتألف من أقسام مختلفة؛ فهذا معرض الأنوف، ومن تحفه صورة لأنف (كنيزة) المغنية، هي قوله.

(فيه لفرخين عش)

وذاك معرض الدواب الآدمية، ومن محتوياته وجه (الحريثي) في صورة ثور:

للحريثي أبي بكر غيب

وله قرتان أيضاً وذنب

وتحين منك التفاتة إلى ركن في أحد الأبهاء، فإذا صورة كاريكاتورية فذة يرسمها الفنان ابن الرومي لنفسه في براعة عجيبة:

من كان يبكي الشباب من جزع

فلست أبكي عليه من جزع

فإن وجهي بقبح صورته

ما زال بي كالمشيب والصلع

أشب ما كنت قط أهرم ما

كنت فسبحان خالق البدع

إذا أخذت المرآة سلفني

وجهي وما مت هول مطلعي

شغفت بالخرد الحسان وما

يصلح وجهي إلى لذى ورع

ص: 51

كي يعبد الله في الفلاة ولا

يشهد فيه مشاهد الجمع

آفة البرامج

استبشرت مجلة (الإذاعة المصرية) بما تلقته الإذعة من المقطوعات في مباراة الأغاني التي نظمتها، فقالت: يبدو أننا مقبلون على فجر عهد جديد من الغناء الرفيع، لأن بين هذه المقطوعات من يقول المحكمون إنها من الطراز الأول في عالم الشعر الثنائي، وتتوقع أن ترفع مستوى البرامج.

وأعربت المجلة عن اغتباطها بظاهرة تدعو حقا إلى الاغتباط، وهي أن كثيرا من الأغاني التي وقع عليها الاختيار من إنتاج بعض العمال والصناع الذين يرسلون المعنى على سجيتهم وينظمون الشعر الغنائي بالسليفة في موضوعات قومية ظاهرة الصدق صادقة الإحساس.

والحمد لله الذي وفق الإذاعة إلى هذه الثغرة التي تخرج بها عن النطاق المضروب حولها من المؤلفين المتصلين بموظفي الإذاعة، فهؤلاء (المؤلفون) هم آفة البرامج، ولا شك أن انقشاع لياليهم عن الإذاعة بما فيها من التأوهات ونداء الحبائب، وما يشيع فيها من السخف والتفاهة - هو المبشر باننا مقبلون حقا على فجر جديد.

أدركة الحرفة:

تحدث بعض الصحف عن الوضع الشاذ الغريب لموقف الخبير الاقتصادي المصري بالسودان، من حيث اضطراره - إزاء تصرف الحكومة السودانية فيما يختص باعمال وظيفته - إلى الفراغ التام لعدم وجدان ما يعمله في مصر أو في السودان.

والطريف في الموضوع أن إحدى المجلات قالت إن الخبير لما لم يجد ما يشغله قرر أن يشتغل بالأدب!.

وأذكر أن موظفا مصريا آخر في السودان هو مراقب التعليم المصري هناك، أبت الحكومة السودانية أن تسمح بدخوله السودان، ولا يزال إلى الآن وفي وظيفته رسميا مع هذا المنع، فماذا يصنع هذا أيضا؟ لقد كان قبل ذلك عميدا للرسم بوزارة المعارف، فهل يشتغل هو أيضا بالرسم؟

ص: 52

مصائب السياسة في الفنون فوائد. . .

مؤتمر اليونسكو:

توالى لجنة (اليونسكو) بوزارة المعارف، النظر في موضوع اشتراك مصر في مؤتمر (اليونسكو) الذي سيعقد ببيروت في أكتوبر القادم. وقد أرسلت إلى وزارت معارف الدولة العربية الشقيقة بالأسس التي ستبنى عليها تقريرها للمؤتمر لتضع في ضوئه تقاريرها توخيا لتوحيد وجهة النظر العربية في شئون الثقافة العالمية.

ومن المسائل التي يتضمنها تقرير وزارة المعارف المصرية، مسألة القدر المشترك من التعليم الكل مواطن، هي من المسائل التي أوصى بالاهتمام بها مؤتمر الهيئة الذي عقد بالمكسيك في العام الماضي، على ألا يقتصر الأمر فيها على تعليم الكتابة والقراء، بل يجب العمل على تزويد المواطن بقدر من الثقافة العلمية والاقتصادية، ومما قالته الوزارات أنها أخذت في سبيل تحقيق الثقافة الاقتصادية بإنشاء مدارس الصناعات الريفية، ومدارس المعلمين الريفية، التي يقصد منها تعليم الناشئ الصناعات الملائمة لبيئاتهم.

ومما يذكر أن هذا المؤتمر الذي سيعقد ببيروت هو المؤتمر الثالث للهيئة، وكان المؤتمر الأول بباريس سنة 1945، والمؤتمر الثاني كان في المكسيك سنة 1947.

الألفاظ والأساليب في المجمع اللغوي:

ذكرت من قبل أن لجنة الألفاظ والأساليب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، أعدت قرارات في ستة عشر لفظا وأسلوبا، رأت صحة استعمالها بدل ما يجري على الأقلام وألسنة المثقفين مما ليس بصحيح.

والخطة الموضوعة أن يعرض ما تقرره هذه اللجنة على مجلس المجمع للنظر فيه ومناقشته ثم يذاع عقب إقراره على الجمهور في الصحف.

والستة عشر لفظا وأسلوبا الآنفة الذكر هي باكورة عمل اللجنة في هذا الصدد، وقد عرضت على مجلس المجمع فناقش بعضها، ثم انفض على أن يستمر في مناقشتها بالجلسات التالية، ولكن الذي حدث أن الجلسات التالية، ولكن الذي حدث أن الجلسات التالية لم تنعقد، لأن عدد الأعضاء الذين كانوا يحضرون لم يبلغوا في كل مرة النصاب

ص: 53

المعين لانعقاد المجلس، فينعقد الحاضرون لجنة. . واستمرت الاجتماعات (لجنة) نحو أربعة أسابيع، ثم أعلن انفضاض الدورة. وعلى ذلك اضطررت (الدفعة الأولى) من الألفاظ والأساليب إلى انتظار الدورة القادمة في أكتوبر القادم.

جناس:

لما كان المغفور له الملك فؤاد بباريس في أثناء زيارته لأوربا - زار جامع باريس، فاستقبله الشيخ قدور بن غبريط شيخ الجامع بخطبة قال في مطلعها:

الله أحمد، وأصلي على نبيه أحمد، وأحبي ملك مصر أحمد.

العباس

ص: 54

‌البريد الأدبي

حول (رائد التراث العربي) للأستاذ صلاح الدين المنجد:

ظهر كتاب (رائد التراث العربي) منذ حين، وهو كتاب بعضه ترجمة وبعضه تأليف، وعنوانه مخالف لعنوان الأصل المترجم عنه. ولعل الأستاذ المنجد اختار هذا العنوان الطريف اللطيف الجرس ليستر شيئا. بل لقد أراد أن يشهد قراء العربية على أنه أليس الكتاب ثوبا جديدا فاحتاج إلى عنوان جديد. وموضوع كتاب (رائد. . .) غير موضوع الكتاب الأصلي: لا يحوى من الأصل إلا النصف الأخير؛ ولم يكن له أن يقيم هذا النصف مشطورا مظلوما، يصرخ حسرة على نصفه الأول.

وقد نشرت مجلة (الرسالة) نقداً للكتاب، فيه بعض مآخذ على المؤلف وبعض مآخذ على المترجم، إن كان الأستاذ المنجد يعد مترجما (أنظر الرسالة عدد 31 مايو الماضي) والرسالة تفسح لنقد الكتب مكانا تشكر عليه، وتوليه من الاهتمام ما يؤثل لها الفضل على العلماء والباحثين.

ولكن لهذا الكتاب قصة طريفة نحب إشراك القراء فيها، ليتفكهوا بسير بعض العلماء، فلعل في هذه القصة عبرة لمن شاء أن يبلغ الشهرة بأيسر جهد. وقد بلينا في زماننا بجماعة يقعون على كتب أساتذتهم فيأخذون بعضها ويضيفون بعضا مهلهلا حبا في الصيت، ومفاخرة بعدد الكتب، وإدعاء للعلم الرخيص. وأتم هؤلاء كبير لأنهم يسدون الطريق على العاملين المخلصين في العلم. أخرج الأستاذ المستشرق العام جان سوفاجيه عام1942 كتابا بالفرنسية عنوانه (مقدمة في تاريخ الشرق الإسلامي (المراجع الأساسية)) ثم أعاد نشره عام 1946 بعد أن أدخل عليه إضافات وتصحيحات استغرقت ست صفحات.

والكتاب نفسه كتاب قيم عظيم الفائدة لطلاب التاريخ جميعا متبدئين وعلماء، وإنه ليذكر الحقائق البسيطة التي يدركها العالم بالمران ثم لا يجد لها ضابطا حتى ليعجز عن تلقينها جملة واحدة إلى تلاميذه؛ فالكتاب كله تواضع لأنه يذكر الحقائق المعلومة التي نمر عليها كراما فلا نعيرها ما تستحق من الالتفات مع عظم أهميتها. ولقد جعل المؤلف من هذه الحقائق مادة خصبة فأرانا كيف يكون جلال البسائط.

قسم المؤلف كتابه قسمين تناول في الأول طبيعة المصادر في التاريخ الإسلامي بالنسبة

ص: 55

لمثلها في فروع التاريخ الأخرى، وعرض للمصادر المختلفة التي يجب الرجوع إليها من الروايات الشفوية والقصص التاريخية والحديث وكتب التاريخ والرحالة والجغرافيين ورجال الفعة، ومن النقوش والنميات والآثار، فبين لنا إلى أي حد نستطيع الاعتماد على كل مصدر من هذه المصادر، وحظ كل منها من الوثوق. فهذا القسم كما ترى خاص ببيان مناهج البحث التاريخي وبنقد المصادر.

وقد أجمع النقاد في أوربا على أن هذا القسم من أهم أقسام الكتاب وأعظمها فائدة وابتكارا؛ فإذا قرأت راعك ومنهج الأستاذ المستشرق العليم بطموحه إلى بناء التاريخ الإسلامي على أساس علمي متين دقيق. لأنه يرسم منهاجا علميا سلميا، ويصور لك ما يجب أن يتجلى به العالم من وسائل البحث والدرس والتمحيص والعرض. ولن تجد مؤلفا قبله تناول جمع المصادر الإسلامية فنقدها هذا النقد العلمي السليم. فجاء كتابه دعوة إلى منهج علمي دقيق جديد يخالف الطرق الارتجالية القدية، ويؤذن بابتداء الدراسة العلمية في التاريخ الإسلامي واتباع أمثل طرائق البحث والنقد والمقابلة. وإنما دعا الأستاذ إلى منهج طبقة بنفسه تطبيقا أدى إلى ابعد النتائج العلمية أثراً في التاريخ الإسلامي وأحراها بإظهار هذا التاريه في صورته العلمية الحقيقية. فمن من المتعالين في عصرنا قرأها؟

أما القسم الثاني من الكتاب فيتناول المراجع الأساسية العربية والإفرنجية ويعرضها عرضا شيقا حسب العصور التاريخية؛ فيبين كيفية الاستفادة منها، ووجوه النقص فيها، واتجاه الباحثين في درسها، ويبين ما درس وما لم يدرس، وقيمة ما ظهر من الدراسات. ولم يترك من المراجع الأساسية شيئا، أما المراجع الفرعية فلها مظانها المعروفة الكثيرة. وإنما أراد المؤلف بذكر الأصول تصوير علمنا بتاريخ وما بلغناه فيه فأظهر في ذلك براعة تدل على سعة العلم، وحب للتاريخ الإسلامي، وازدراء للبحث السطحي.

ثم جاء الأستاذ المنجد، فحذف القسم الأول الهام كله لم يكد يبق منه شيئا، وترجم القسم الثاني ثم أضاف أليه ما شاء من عنده، وجعل هذا كتابا!

فالأستاذ المنجد مسئول عن كتابه وحسده، والأستاذ سوقاجيه برىء منه كل البراءة. وقد تبرأ منه بنفسه علنا، ونشر رأيه في المجلة الأسيوية هذا العام. وكان يجب على ناقد (الرسالة) أن يطلع على المجلة الأسيوية ليعلم أن أستاذنا سوقاجيه لم يأذن للأستاذ المنجد

ص: 56

بترجمة. وذنب المترجم أعظم لأنه مسخ الكتاب، فلم يكن بارا بنفسه ولا بأستاذه.

وكنت عرضت على الأستاذ المنجد أن نشترك في إخراج الكتاب كاملا، لأني ترجمته فعلا، وراجع المؤلف ترجمتي ولكني لم أنشرها بعد. غير أن الأستاذ المنجد أبى واستكبر واعتبر ما ترجم ومسخ جزءا من حلقة علمية طويلة نرجو أن تمتد لها أيامه، وإن كانت طلائعه لا تنذر بخير كثير.

فإن يجد النقاد مآخذ على (رائد التراث الإسلامي) فكتاب سوفاجيه منها برئ.

محمد عبد الهادي شعيرة

أستاذ مساعد بكلية الآداب بالإسكندرية

مباراة في القصة:

نظمت مجلة (الأديب) البيروتية مباراة في القصة أعلنت عنها في عددها الصادر في مستهل الشهر الحالي (يونيو - حزيران) ويمنح الفائز فها 150 ليرة لبنانية تبرع بها الأستاذ أحمد عويدان.

وتتضمن شروط المسابقة ما يلي:

1 -

الاشتراك مباح للجميع.

2 -

يجب ألا تزيد القصة عن أربع صفحات من (الأديب) ولا تنقص عن اثنتين على أن لا تكون نشرت أو أذيعت قبل الآن.

3 -

تكتب القصة على الآلة الكاتبة أو تكتب بخط واضح من ثلاث نسخ.

4 -

تنتهي مدة قبول الاشتراك في أول سبتمبر (أيلول) 1948 وتذاع النتيجة في عدد شهر أكتوبر (تشرين الأول) من مجلة الأديب.

5 -

تحكم بين المتبارين لجنة تختارها (الأديب) وتعلن أسماء أعضائها مع إعلان النتيجة.

6 -

للأديب أن تختار من القصص ما تشاء للنشر على صفحاتها بعد إعلان نتيجة المباراة.

7 -

ترسل القصص إلى (الأديب) ص. ب رقم 878 بيروت - لبنان ويكتب على الغلاف الخارجي (مباراة القصة) وتذيل القصة بإمضاء مستعار ويوضع الإسم المستعار والإسم

ص: 57

الحقيقي في غلاف صغير يرفق بها.

والمجلة ترحب باشتراك الأدباء وكتاب القصة المصريين في هذه المسابقة ويمكن الاطلاع على شروطها الكاملة في عدد شهر يونيو.

وديع فلسطين

وكيل الأديب في مصر

في قصيدة:

في عدد الرسالة الغراء (779) قصيدة مانعة للأستاذ الشاعر حسن الظريفي بعنوان في أخريات الشباب) مطلعها

أصبحت لا غضاً ولا ذاوياً

أحيي شبابا لم يعد زاهيا

ولقد استوقفني منها قوله:

سقياً لشرخ من سباب مضى

ما كنت في يوم (له ساليا)

إذ لا يقال (سلا - أو سلي - له) وإنما يقال (سلا عنه).

قال المتنبي:

فقلت إذا رأيت أبا شجاع

(سلوت عن) العباد وذا المكان

وحروف الجر والتعدية وإن كان ينوب بعضها عن بعض، إلا أن المقام هنا ليس مقام نيابة على كل حال، والسلام.

(الزيتون)

عدنان

تصحيح:

وقع في قصيدة الأستاذ محمود غنيم (يا أخت عمورية) المنشورة في العدد الماضي، هناك مطبعية يدركها القارئ بفطنته، ولكن قافيتي المبينين الآتيين حرفت تحريفا بعيداً عن الأصل، وصححتهما:

ليس الشرى للشاردين بمسكن

رحب ولا للمتعبين مقيلا

ص: 58

يا اخت عمورية ليك قد دقت للحروب طبولا

ص: 59

‌الكتب

1 -

أذان وعين

تأليف الأستاذ سلمان الصفواني

مجموعة من المقالات (الخفاف) القصار تقارب الخمسين كل منها في صفحتين وقلما تزيد أو تنقص عنهما بضعة سطور. بدأ الأديب العراقي الأستاذ سلمان الصفواني صاحب جريدة (اليقظة) العراقية بنشر مقالاته هذه متوالية في صحف العراق بعد خروجه من المعتقل في بغداد سنة 1944 وكانت الرقابة يومئذ تحد من الحريات بسبب الحرب العالمية الثانية، قال الأستاذ في مقدمته:(وكانت معالجة القضايا العامة بصورة جدية وصريحة من أصعب الأمور على كاتب مثلي في ذلك الحين، فالحرب ما زالت قائمة، والأفكار الحرة خاضعة للرقابة السياسية، وهذه الرقابة لا تتورع عن كيل التهم لمن لا يجارونها في اتجاهاتها من الوطنيين الأحرار، وكان مجال (التأويل) وسعا في هذا الشأن إلى حد صارت معه الكتابة بمنطق سليم ورأى سديد من الأمور العسيرة) فالمؤلف يكتب هذه المقالات بقلم) الصحافي) الذي عاقته الرقابة عن الصراحة والجرأة، ولا يكتب بقلم (الكاتب الأديب) الذي يحفل بموضوعه ويصوغه بكل قوته وبكل وسعه في التفكير والتعبير. وقد كتبت المقالات (عفو الساعة) لا لتنشر في كتاب بل لتنشر في (صحيفة) يقرؤها (جمهرة) قراء الصحف للمتعة والتسلية والفائدة، وربما كان ذلك بعض السر في (خفتها) ويسرها، وشفيع الأستاذ عند قرائه ما أوجزنا الإشارة لمقالاته حين نشرها عنوانها (أذن وعين) لأنه كما قال أراد أن يروى فيها ما تسمعه (الأذن) يوصف فيها ما تراه (العين) وبهذا العنوان نشر مجموعته هذه وهي (المجموعة الأولى) من تلك المقالات.

ولست هناك فكرة (جامعة مشتركة) بين مقالات هذه (المجموعة) وتكاد كل مقالة تستقل بموضوع، والمؤلف يعالج موضوعه في حيز ضيق علاجا هينا قلما ينفذ إلى الصميم، وقصاراه لمسة رفيقه هنا ووخزة سائرة هناك بال تأن ولا استقصاء في الدرس سواء في ذلك الموضوعات التي روى فيها ما سمعته أذنه والموضوعات التي رأتها (عينه) بل مثلها أيضا الموضوعات الفكرية التي لم يتقيد فيها المؤلف بعنوانه (أذن وعين)

وليس من همي هنا أن أعرض على القراء الموضوعات التي تناولها الأستاذ في مجموعته

ص: 60

لا بالتفصيل ولا بالإجمال، وحسبي الإشارة إلى بعضها. فمنها اتحاد الأمة العربية، والتنظيم السياسي، وآثارة، وسياسة التوجيه في الأمة، ومعنى العروبة ومن تشملهم، والقومية العالمية وأسسها، والدعوة إلى معرفة حق الأديب، والقومية والمالية، وبعض نواحي المشكلة الفلسطينية، وتدوين الأدب الشعبي في العراق وحرية الأقلام. ونرجو أن تكون المجموعة الثانية) أنضج وأعمق لتكون جديرة بجمعها في كتاب.

2 -

كأس ومصباح

تأليف الأستاذ محمد أديب نجوى

هذه مجموعة من عشر أقاصيص نشرت في صحف حلب، سماها كاتبها باسم الأقصوصة الأولى منها (كأس ومصباح كما جرت عادة القصصيين أخيراً اقتداء بقصصي فرنسا دون إضافة (وقصص أخرى) ويتراوح طول الأقصوصة منها بين اثنتي عشر صفحة وأربع صفحات؛ والمجموعة مصدرة بقصيدة جيدة للأستاذ عمر أبو قوس مدير مطبوعات حلب يقدم بها المجموعة إلى القراء، ويليها إهداء كتبه صاحب المجموعة على قبر أبيه يهدي إليه مجموعته لأنه هو الذي تقبل أولى قصصه بالرضا والإكبار ثم مات وتركه يناضل الأيام.

وربما كانت محنة النفس الغضة بهذه الفاجعة وما تلاها هي منشأ ما تنبض به أقاصيص المجموعة جميعا من قلق وكآبة وسخرية عابسة، وبنية الأقصوصة في هذه المجموعة سليمة يعززها الصدق في الإحسان، والاستقامة في التفكير، والقصد في الخيال، وأسلوب التعبير عربي صحيح تغلب عليه الأناقة مع إفراط في الاستعمارة لا يوهن من تماسكه ولا يحجب ما يريد صاحبه التعبير عنه من معان وصور، ومع ميل الغموض ناشئ عنالاكتفاء باللمسات السريعة الخاطفة المتفرقة عن الاسترسال لملء كل فراغ في الصورة، ومن شأن هذا الأسلوب أن يثير الشعر والخيال فينطلقان لملء هذه الفراغات على أي نحو يناسب ما حولها

محمد خليفة التونسي

ص: 61