الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 783
- بتاريخ: 05 - 07 - 1948
نقلة مستحبة في تاريخ البلاد الأمريكية
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا كان الأستاذ محمود الخفيف يطيب له أن يعود إلى حديث لنكولن فنحن لا نكره العودة إليه، أو يكره العودة من أحاديث أمريكا الحاضرة إلى أحاديث أمريكا في أي عهد من العهود، فضلاً عن العهد الذي كان رئيسها فيه اعظم رئيس تولى أمورها، أو كان على الأقل واحداً من ثلاثة على الأكثر بين اعظم هؤلاء الرؤساء.
أنها نقلة مستحبة لأنها بغير شك نقلة من اصغر رئيس تولى أمور الولايات المتحدة أو يمكن أن يتولاها فيما نظن، إلى رجل من اكبر رؤسائها ومن اكبر ولاة الأمر في أمم العالم الحديث.
أخذنا على كتاب الأستاذ الخفيف عن أبرا هام لنكولن بعض ملاحظات، وقلنا أن الملاحظة على كتاب يؤلف عن لنكولن أمر لا مناص منه كائناً ما كان الكاتب، وكائناً ما كان منهج الكتاب. لأن آفاق الحياة الفردية أفاق الحياة الاجتماعية التي تفصل بسيرة هذا الأرجل العجيب أوسع من أن تستوعب في كتاب واحد، ولا سيما كتاب يوضع بالعربية ويحتاج المؤلف فيه إلى اطلاع القراء في لغتنا على مراجع ومناسبات تعد من تحصيل الحاصل في عرف ألا كثرين منم القراء الأميركيين والأوربيين.
وكانت خلاصة ملاحظاتنا أن الكتاب خلا من تعريف كاف بأسلاف لنكون من جانب أبيه وأمه، وليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.
وقد اعتقد الأستاذ الخفيف أن البيان الكافي عن أسلاف لنكولن غير ميسور لان الرجل كان كما هو معلوم عصامياً خامل الباء والأجداد. ولكن الواقع أن اللغز يعرض لنا من أمر آياته المعروفين ونستطيع حله من تاريخهم المعروف. وقد قال الأستاذ الخفيف أن ثمة شيئاً كان يجذب الصبي إبرا هام إلى أمه: (وذلك هو معرفتها القراءة والكتابة ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك ـ إذ كان يرى الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته انه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ذلك فهو
يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته).
وربما كان تاريخ لنكولن كله رهنا بسر هذا الاختلاف بين نزعة المعرفة في أمه، ونزعة المرح في أبيه، ولا شك أننا نعرف الشيء الكثير عن هذا السر متى عرفنا أن هذه النزعة في أمه موروثة متأصلة، لأنها من سلالة غير شرعية لفتاة نسيت في سبيل المعرفة نفسها ومستقبلها. وقد أشار هر ندون - وهو حجة في تاريخ لنكولن - إلى هذه القصة وظهر بعد ذلك كتاب (لنكولن المجهول) لديل كارنيجي فزادها تفصيلاً وجاء قيها بما يغنى في هذا المقام
أما مصرع لنكولن فالكلام فيه عن القاتل أهم من الكلام عن الحادث - لان حادث القتل قد يقع في كل قطر من أقطار الأرض، وقد تكون الخصومة السياسية سبباً في اغتيال الساسة في كل ثورة من ثورات الأمم، ولكن الدوافع التي نزعت بقاتل لنكولن إلى فعلته لا تعهد في غير الحياة الأمريكية وفي غير بدورات المغامرة التي اشهر بها طلاب الظهور في القارة لا جديدة ولا يزالون يشتهرون بها لحد ألان.
فقد كان للرئيس العظيم أعداء كثيرون يودون قتله لتحقيق مطالب أهل الجنوب، ولكن المثل الفاشل الذي قتله - وهو جون ويلكزبوث - لم يكن صاحب رأي ولا صاحب غيرة وطنية، ولا كلن من همه فض الاتحاد الجمهوري أو توسيع حقوق الولايات؛ ولكنه كان فتى وسيماً وممثل عظيم، وكان أبوه جونيوس بروتس اقدر المثلين لأدوار شكسبير، وكان إلى جانب ذلك مثلاً في الصلح والاستقامة والرحمة بجميع خلائق الله، وكان من اجل ذلك يحرر أكل اللحوم ويتجنب إزهاق الحياة ولو كانت حياة أفعى أو حشرة مؤذية. فإذا بولده يقتل اعظم رجل في بلاده لان وسامته جفت عليه وصرفته عن إتقان التمثيل على المسرح إلى إتقان التمثل في موقف الغرام، فتخلف عن زملائه فخطأته الشهرة في ميدانه واحب أن يعوض ما فاته منها بمسرحية تاريخية تطفي على كل مسرحية فنية ينبه بها شأن نابغة من نوابغ لا تمثيل. ولم يكن من قصده في بادئ الأمر أن يزهق حياة الرئيس، وأما خطر له انه يستطيع أن يختطفه ويحمله إلى الجنوب ويسلمه إلى الولايات لا جنوبية لتملى شروطها على ولايات الشمال كما تريد.
وما هو إلا أن فرغ من تدبير هذه المسرحية حتى فوجئ بتسليم قادة الجنوب وضاع كل
رجائه في مؤامرة الاختطاف فخطر له يومئذ أن يقتل الرئيس في دار من دور التمثيل ثم يلوذ بالهرب لعلمه بمخارج هذه الدور ومداخلها وخبرته بمواضع النور الظلام فيها.
ولولا انه ممثل فاشل لما خطر له هذه المؤامرة، ولولا اعتماده على معرفته بمسارح التمثيل ملا اختار المسرح لتنفيذها. فهل كثير على تفصيل هذا الحادث صفحتان من كتاب عن حياة الرئيس القتيل؟ وهل يكون مصرع هذا الرئيس مفهوماً وموقعه من طبيعة الحياة الأميركية واضحاً بغير هاتين الصفحتين؟
ويأبى الأستاذ الخفيف أن يصدق انه أهمل بعض المصادفات التي كان لها الأثر الأكبر في ارتقاء لنكولن إلى رئاسة الجمهورية فيكفي أن نذكر له في هذ1 الصدد أن مصادفة واحدة من هذه المصادفات كانت سبباً لتحول الحزب الجمهوري من وليوم سيوارد إلى لنكولن في المؤتمر الكبير الذي عقده الحزب بمدينة شيكاغو سنة 1860 لاختيار مرشحه لرئاسة الجمهورية.
فقد حدث الاجتماع في يوم ميلاد سيوارد، وكان الإجماع بين المندوبين أن ينعقد على اختياره. ولكن مصادفة واحدة غيرت مجرى التاريخ في ذلك اليوم. . . لماذا. . .؟. . . بسبب بسيط، غاية في البساطة. . . وهو أن عامل المطبعة لم ينجز أعداد الأوراق التي كانت لازمة للاقتراع، فاتفقوا على تأجيل البدء بالاقتراع، وتم التأجيل فعلاً، وحدث الانقلاب المفاجئ في هذه الأثناء. فأن الصحفي النابه هو رأس جر بلى - عدو سيوارد اللدود - تمكن في تلك الفترة من تحويل معظم المندوبين عن رأيهم، فرجحت كفة لنكو لن على غير قصد من جر بلى ومن شيعته، لأنهم لم يكونوا مع لنكو لن على وفاق.
ولولا أننا لا نستطيع أن نعيد تاريخ لنكو لن وتاريخ ترشيحاته في مقال واحد لفصلنا الكثير منت أمثال هذه المصادفات.
ولم يكن نصيب المصادفات التي كان لها اكبر الأثر في الترجيح بين الأحزاب نفسها وبين جيوش الشمال وجيوش الجنوب أو في نصيباً من هذه المصادفات التي صعدت بلنكولن إلى رئاسة الجمهورية فأن كثيراً من الأحداث التي ارتفعت بحزب على حزب ونصرت جيشاً على جيش، ترجع إلى مصادفات لم تذكر في الكتاب.
ومن الطريف أننا نأخذ على الأستاذ الخفيف أن ميزانه المشترك بين أبطال كتبه ناقص،
فيقول في مناقشة هذا النقد: (أني لست اذكر أني عنيت بالميزان المشترك. فقد كنت اصف كل شخص على حدة، ولم اصدر حكماً على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره).
وهذه هي العقدة وليس هذا هو حل العقدة كما رأى الأستاذ الخفيف. وإلا فهل يرى أن تأريخاً يقوم على الكفاح بين الشخصيات والقادة ثم لا يصدر فيه حكم على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره يمكن أن يقال انه وافى الميزان من جميع الوجوه؟
وإنني انتهز فرصة الكلام على الميزان المشترك فأصحح هنا خطأ مطبعياً عرض لجملة من مقالي حيث جاء فيه من أمثلته في تاريخ احمد عرابي انه لم يحرر الميزان كل التحرير عند الحكم على عرابي ومن يمده مثلاً) وصوابها (على عرابي ومحمد عبدة) لان المقصود هنا هو الأستاذ الأمام رحمه الله.
وبعد فلست أظن أن الأستاذ الخفيف يرى أن كتاباً يوضع في تاريخ لنكولن وتاريخ الولايات المتحدة في عصره يصدق القائل فيه ذا قال انه يخلوا من ملاحظات.
فإذا كان كلام كهذا لا يقال في مثل هذا الكتاب فهل هناك من ملاحظات على تاريخ لنكولن الذي كتبه الأستاذ الخفيف أهون من هذه الملاحظات!
عباس محمود العقاد
حجة خيط العنكبوت وقد فات وقتها
للأستاذ نقولا الحداد
يدعي اليهود أن أهيه (وعناه: أكون الذي أكون) وما لبث آل
سمى أيضاً يهوه (أي يكون) وهو اسم علم لإله الإسرائيليين
كما هو مذكور في سفر الخروج الإصحاح الثالث والعدد 14
- يدعون أن يهوه وعددهم وهم خارجون من مصر انه يملكهم
من بحر سوف (أي البحر الأحمر) إلى بحر فلسطين (أي
البحر الأبيض)، ومن الجزيرة (برية سينا) إلى النهر
(الأردن). أنظر خروج ص23 عد31، كذا قال يهوه الذي
لقبوه بعد إذ برب الجنود، خروج ص3 عد14، وقد وعد
موسى قائلاً أن ملاكي يسير أمامك (وملك شعبك طبعاً)
ويجيء بك إلى الأمويين والحثيين والكنعانين والحوييين
والببوسيين فأبيدهم. خروج ص23 عد23.
بعد أن خرج موسى بشعبه من مصر إلى برية سينا صعد إلى جبل سينا لكي ينقل وصايا الرب. وتأخر طويلاً إلى أن نفذ صبر شع بإسرائيل، فاضطروا هارون أخا موسى أن يصنع لهم عجلاً من الذهب الذي كان في أعناق نسائهم مما استلفنه من المصريات قبل أن يخرجوا من مصر لأنهم يريدون إلهاً من ذهب لا من حجر ولا من خشب، فهم عبدة المال المعبر عنه بالذهب، فغضب يهوه لأنهم تركوه وعبدوا العجل الذهبي. وقد اقتبسوا هذه العبادة من مصر، وتهددهم بان يبيدهم. فعاد موسى يسترضيه ويذكره بوعده لأجداده: إبراهيم وإسحاق ويعقوب بقوله لهم: انه يجعل نسلهم كنجوم السماء بالكثرة، وانه يعطيهم
تلك الأرض فيملكونها إلى الأبد. خروج ص32 عد13، 14 فا اااااااستعطفه موسى إلى أن ندم على الشر الذي يقال انه يفعله بشعبه. خروج ص32 عد13 14 - هذا ما ورد في الثورات التي كتبها اليهود.
فاليهود يقدمون هذه النصوص حججاً مسجلة لهم في التوراة بملكية فلسطين كما نعرفها اليوم، ويزيدون على هذا الميراث الأملاك التي بين النيل والفرات.
والأنكى أن هناك فريقاً مغفلاً من النصارى يستشهدون بالتوراة في إثبات هذا الميراث لليهود. فلنر ما قيمة هذه الحجة.
إلا يقولون لنا من أعطاهم هذه الحجة، ومن سجلها لهم في التوراة؟ ومن كتب التوراة؟
خرج موسى بالإسرائيليين من مصر في سنة 1250 تقريباً قبل المسيح أي منذ 32 قرناً. وفي ذلك الوقت لم يكن فن الكتابة بالحروف الذي اخترعه الفينيقيون. كان الكهنة والحكام في مصر ينقشون على الحجارة بالرسوم الهيرغليفية أسماء الملوك وسني حكمهم ونحو ذلك. وكان البابليون ينقشون على الأجر النيئ مثل ذلك بالحروف المسماري ثم يحرقونه. فلم يكن لا في الخط الهيرغليفي الذي هو رسوم أشياء تدل على أشياء، ولا في الحرف المسماري الذي ليس أرقى من الخط الهيرغليفي، ما يحتمل أن تكتب به أسفار التوراة الضخمة. والذين بحثوا في هذا الموضوع وصلوا إلى نتيجة لا تقبل الشك وهي: أن الأسفار الخمسة التي أسندت إلى موسى ولا كتب في زمن موسى لان حروف الكتابة لم تكن قد اخترعت بعد.
والمجمع عليه ألان في هذا الموضوع: أن اليهود الذي عادوا من سبي بابل سنة 527 قبل المسيح أي منذ 1773 سنة من خروج موسى بشعبه من ارض مصر، يعني بعد نحو 18 قرناً هم الذين شرعوا يكتبون تلك الأسفار الخمسة مقتبسين فيها أساطير البابليين وشرائعهم وخرافاتهم وعاداتهم. وقد طبقوها على ملتهم من أسطورة الخليفة إلى أسطورة الطوفان إلى غيرهما. وشريعتهم في سفر تثنية الاشتراع تكاد تكون حرفاً بحرف من شريعة حمورابي العربي الذي غزا أشور وبابل، وحكم هو وخلفاؤه فيهما نحو مائة سنة.
فهذه الحجة التي يتمسك بها اليهود لم يكتبها موسى ولا كتبها أحد لعهد موسى، بل هم اليهود الذي عادوا من السبي كتبوها بسنين بعد موسى بثمانية عشر قرناً. وليس عندهم سند
واحد يثبت أن ما نسبوه إلى موسى هو قول موسى، ولا سند واحد يؤيد أن ما نسبوه إلى يهوه قاله يهوه. فهم كتبوا ما شاءوا مما تسلسل إليهم من أقوال الأجداد ومما تصوروه مناسباً لهم من تقاليد ما بين النهرين وما تخيلوه يؤيد عقائدهم الدينية والاجتماعية ووعدوا أنفسهم ما شاءوا أن يكون ميراثاً لهم وملكاً وفي إمكاني أنا أن اكتب حجة لي بفندق شبرد أو ميناهوس وغيرهما حتى انه يمكنني أن اكتب حجة بملكية سراي عابدين وبعد قرن أو قرون يقوم حفدائي يطالبون بهذه الأملاك بموجب هذه الحجج. فمن يقبلها؟
وهب أني أخذت حجة من صاحب فندق ميناهاوس، فمن يقبلها بعد ثلاثة آلاف سنة؟
فالتوراة كما وصلت ألينا على يد اليهود ليست حجة بان يهوه قالها وموسى كتبها إذ ليس عندنا إسناد بهذا.
ولما رأي اليهود أن حجة التوراة أصبحت واهية بعد تشتتهم وخيبة آمالهم في ارض الميعاد ودولة إسرائيل ولا سيما بعد أن سارت بين أيدي النصارى والمسلمين تنكبوا عنها كأساس لديهم واخترعوا التلمود فصار أساساً لديهم، ونقحوه مراراً حسب مقتضيات الزمن. وأخيراً لما رأوا أن التلمود ليس أقوى حجة من التوراة جمعوا أسا طينهم في مؤتمرات متعاقبة ووضعوا (مواثيق شيوخ صهيون)(البرتوكولات) التي كتبت بعضها في (الرسالة) وعقبت عليها.
والغريب انه ليس في تاريخ مصر ولا في غير مصر أن شعباً غريباً يدعى شعب إسرائيل خرج من مصر بقيادة زعيم اسمه موسى اقنع فرعون بمنجزاته أن يسمح لهم الخروج.
ليس لهذا الحادث ذكر في تاريخ من تواريخ الأمم ولا إشارات أليه إلا ما ورد في التوراة التي كتبت بعد 18 قرناً لخروجهم كما زعموا.
مع ذلك لم تنطبق حوادث اليهود على تلك الوعود المنصوصة في التوراة.
فأولا لم يفتح اليهود بعد دخولهم ارض الميعاد ألا بعض بقاع منها بعد حروب عنيفة. فلماذا لم يطرد يهوه من أمامهم الكنعانيين والجرزيين الخ كما وعدهم.
ثانياً: لم يقيموا في ارض كنعان اكثر من قرنين ثم سبوا مراراً إلى بابل وغيرها. فما أقاموا فيها مدة تملكم البلاد بحق اليد.
ثالثاً: أن نسلهم لم يكثر كنجوم السماء. والمعروف ألان أن نجوم المجرة تبلغ نحو ثلثمائة
ألف مليون نجم وهم لا يبلغون بعد 36 قرناً اكثر من 16 مليوناً.
رابعاً: أن اليهود منذ خرجوا من مصر ودخلوا ارض كنعان (أن كانوا دخلوا أو خرجوا) ما كفوا عن عبادة البعل (الذهب) واغضبوا يهوه مراراً. هارون صنع لهم عجلاً من ذهب وهم يصنعون كل يوم ألف عجل. سلهم هل حفظوا شيئاً من وصايا الله؟ هل يوجد الربا الفاحش عند غيرهم؟ هل هم أنسا نيون كما يريد الله؟
خامساً: تشتتوا على وجه الأرض. فلماذا تشتتوا إذا كانت ارض كنعان لهم بموجب صك منم الله؟ لماذا لم يبقوا فيها فلا ينازعهم أحد عليها؟ اصبحوا حيثما نزلوا كانوا رغم أنوفهم من مواطني ذلك المهجر مكروهين لأنهم كارهين لكل من ليس يهودياً وأبوا أن ينتموا وإلا أن يكونوا من رعايا دولة صهيون القائمة في الهواء.
فهل بعد مرور هذه القرون كتبت لهم ملكية في فلسطين؟ وهل تقوم لهم حجة بملكية بملكيتها.
اليهود يفهمون هذا كما نفخمه نحن، وإنما يريدون أن يتمحكوا بهذه السخافات ما دام بين نصارى أمريكا المفلفلين من يقولون أن الكتاب المقدس يعطيهم هذا الحق، ومن قدس هذا الكتاب. ومن كذب عن لسان الله غيرهم؟ وقد حقق الله وعده لهم فأدخلهم ارض كنعان فلماذا هجروها؟
واليهود أنفسهم لم تبلغ بهم السخافة أن يقدموا هذه الحجة (الحجة التاريخية المقدسة) لقضاة هيئة الأمم لان هؤلاء يتورعون أن يكونوا أضحوكة الأمم وان لم يتورع بعض سخفاء نصارى أمريكا عن الاعتراف بهذه السخافات.
ولكن هل يجسر هؤلاء اليهود الأفاكون أن يقدموا هذه (الحجة الكتابية) للكونت برنادوت؟ وهل يعبرها أذنا إلا بالتحقير لقائليها؟
أن أهل فلسطين الحاليين هم سكانها الأصوليون. كثيراً منذ عهد موسى إلى عهد المسيح يهوداً ووثنيين. ولما جاء المسيح تنصر بعضهم. ولما جاء الإسلام اسلم معظمهم فما خرجوا من أرضهم. وأما القادمون من الغرب فما كانوا إلا وثنيين، فلما احتكوا باليهود المشتتين ورأوا أن اليهود يعبدون إلهاً غير منظور رأوا أن عبادة الأصنام سخافة فتهود بعضهم، ومنهم أسلاف الغزاة البولونيين وأمثالهم.
أن هؤلاء اليهود لا يعرفون غير إله المال فلا ننتظر منهم صدق ولا حفظ عهد، فقد مضى على الهدنة نصف عمرها وهم يصلبونها كل يوم عشرين صليباً.
ولا ندري ماذا يعني برنادوت بقوله لهيئة الأمم انه مرتاح إلى تنفيذ الهدنة كل الارتياح، إلا إذا كان مسروراً من استغلال اليهود لها.
ولا ندري لماذا يطلب سفناً وطائرات إلا إذا كان ينوي أن يمكن اليهود من الاستغلال، وإدخال بعض اليهود إلى البلاد وحفظهم في المعتقل إلى أن يتدربوا ثم يطلق سراحهم لكي ينظموا إلى الهاجاناه.
وما معنى أن يستعد لاستسلام حيفا من الجيش البريطاني؟ هل وطد العزم على الإقامة في فلسطين لكي يحرس دولة إسرائيل؟
إن هذه الألاعيب إذا جازت على الدول العربية فلا تجوز على الشعوب العربية، الشعوب العربية تغلى ألان وتفور، لا على اليهود، بل على الجامعة العربية الصابرة حتى ألان على رذالة اليهود فقد ردت انتصار العرب عدة فراسخ إلى الوراء.
(القاهرة)
نقولا الحداد
العلاج بالطرق النفسية
للدكتور فضل أبو بكر
بدأت الظواهر النفسية منذ خلق الإنسان فهي جزء منه صادرة عنه، وكانوا يطلقون عليها في ما مضى العلوم الروحانية وهي عبارة عن بعض الظاهرات النفسانية والروحانية مثل الوساطة وهي المصدر من وسيط وهو شخص موهوب يملك المقدرة بان يكون حلقة الاتصال بين الموتى والأحياء، إذ يناجى الحي روح ذوي رقابته وأصدقائه ممن توفاهم الله عن طريق ذلك الوسيط. ومنها ازدواج الشخصية التلقائي ومثال ذلك أن ترى رأى العين شخصاً بعيداً عنك بمناسبة حادث خطير وقع لذلك الشخص، وتسمع صوته تماماً، وهي رؤية وسمع يختلفان كل الاختلاف عما يراه ويسمعه بعض المجانين والمصابين بعصاب أو ذ ' هان أو باختصار فأن تلك الظاهرة ليست (بالهلوسية) البصرية أو السمعية وإنما هي ظاهرة ازدواج الشخصية التلقائي.
وقد اهتم بدراسة هذه الظاهرة بعض الإنجليز مثل (جيرني) و (ميرز) وهما عضوان في جمعية الأبحاث النفسية (البسيوكولوجية) الإنجليزية، ومن الفرنسيين (فلاماريون) و (لانسلن)
كل هذا كان معروفاً لدى القدماء ولا سيما الشرقيين مثل الهنود والصينيين وقدماء المصريين كما كانوا يطلقون على تلك العلوم التي تختص بدراسة مثل هذه الظاهرات الروحانية والنفسية العلوم المحجوبة حيناً، والعلوم البدنية العلوية في بعض الأحيان ما يشبه المعجزات ويستشف حجب الغيب الكثيفة.
وظهر في مستهل فجر النهضة العلمية بعض الفلاسفة ممن انقطعوا لدراسة الظواهر النفسية والروحية مثل (بلين) و (بازيل) والفيلسوف ابن سينا و (باراسلز وزعم هذا الأخير بان من الممكن أن يؤثر عقل في عقل آخر بواسطة ما سماه وقتئذ (بالسائل المغناطيسي).
وفي عام 1770 جاء (مزمر) بنظرية المغناطيسية ولقيت استعداداً في النفوس ضمن هلا نجاحاً باهراً. وفحوى (المغناطيسية) أو (المزمرية) كما كانوا يسمونها، أن كل حسم من الأجسام جماداً كان أو حيواناً تنبعث منه موجات مغناطيسية تكون في الحيوان اشد مما هي
في الجماد، وفي الإنسان اشد مما هي في الحيوان. وكلما كان الإنسان قوياً سليماً كانت قوة الإشعاع عنده اكبر، وما الأمراض إلا اضطرابات يعتري توازن تلك المغناطيسية في الإنسان، كما أن لبعض الناس المقدرة - بواسطة اللمس - على أن يعيدوا توازن مغناطيسية المريض ومن ثم يحدث الشفاء.
وقد سادت نظرية المغناطيسية العام اكثر من نصف قرن، وكانت تستعمل في التنويم وفي علاج بعض الأمراض. وظهر من بعد (مزمر)(لافونتين) الذي نسج على منوال مزمر إلى أن جاء في سنة 1841 الطبيب الإنجليزي (بريد) وحضر ذات يوم جلسة خاصة بعمليات المغناطيسية التي يقوم بها (لافونتين) فقام (بريد) بدوره بعدة عمليات ووصل إلى نتائج مشابهة مع انه لم يستخدم الطرق التي استعملها لافونتين، أنكر في الوقت نفسه وجود السائل المغناطيسي والمغناطيسية الحيوانية التي كان يعتقد فيها من سبقوه كمزمر ولافونتين، والتي سادت العام مدة طويلة. وسمى بريد تلك الظاهرة بالنوم وطريقة الحصول عليها (بالتنويم) واعتنق مذهب بريد كل المشتغلين بعلم النفس والو حانيات في ذلك الحين، كما أقرته الجامعات رسمياً أدخلته دراسته في كليات طبها ولاسيما في باريس.
ثم جاء العلم الفرنسي الأستاذ الفاضل (شاركو) ومساعده الأستاذ (بيبرتر) في كلية الطب بباريس ومستشفى (السالبتريير) الخاص بالأمراض العصبية، كما أن شاركو ومدرسته استعملوا ظاهرة التنويم في الكثير من مرضاهم واستعانوا بها في العلاج وخاصة لمن كان مصاباً بالهستريا والصرع وفي بعض الأمراض العصبية والذهنية الأخرى.
وقد برزت في الميدان مدرسة (نانسي) بفرنسا تزاحم مدرسة باريس وكان على رأسها الأستاذ (ليوبول) الذي خطأ بهذا النوع من الدراسات النفسية خطوات واضحة ودعمه بأسس ثابتة متينة كما طبعه بطابع علمي واثبت أن التنويم ما هو إلا وليد الإيحاء المباشر وهو ما سماه (بالتنويم النفسي) ليميزه بذلك عن تنويم شاركو (الحسي) أي الذي يؤتي به عن طريق الحواس مثل البصر والسمع واللمس.
والإيحاء كما يعرفه (برنهايم) وهو عبارة عن ظاهرة نفسية يوحي للإنسان بفكرة أو رأي يقبله عقله فيستولي على نفسه ومشاعره. ولكي نعطي القارئ فكرة أوضح نقول أن النشاط النفسي (البسيوكولوجي) يشمل عاملين مختلفين متضادين هما عامل (الشعور أو الوعي،
(اللاشعور) - فالأول هو عامل التفكير والتمييز والكم على الناس والأشياء، وهو طوعي إرادي يتغلب على الثاني في حالة الصحو، وأما الثاني أي اللاشعور فهو آلي غير أداري، وهو أداة للحب والهوى ومكمن للعواطف والمخاوف والخيال والذاكرة.
أما اثر الأحياء في النشاط البسيولكوجي أي في الشعور واللاشعور فهو أضعاف الأول وشل نشاطه مع أيقاظ الثاني أثارته لأكبر درجة ممكنة. وهذا ما يحدث تماماً في النوم العادي الطبيعي إذ يضعف الشعور رويداً رويدا حتى إذا ما وصل النائم إلى سبات عميق زال اثر الشعور بتاتاً، أما اللاشعور فيكون في هذه الحالة في حالة نشاط عظيم ويقظة تامة.
وإثارة الإحياء ومداه والانتفاع من ذلك من العلاج، كل ذلك يتوقف على عوامل كثيرة من جانب الموحى والموحى اليه، فيجب على الأول أن يكون ملماً بأوليات علم النفس، كما يجب أن يكون بارز الشخصية قوي الإرادة صبوراً، كما يتوقف على مبلغ حساسية الموحى إليه واعتقاده بل ثقته بمقدرة الموحى. ويتفاوت الناس بدرجة الحساسية. وكان (شاركو) يعتقد بان مرضى الهستيريا والعصاب والذهان هم الذين يسهل تنويمهم. والواقع انهم اشد حساسية من غيرهم. وان كان الأصحاء - إذا توفرت في الموحي والموحى إليه الشروط المذكورة - قلما يخرجون عن محيط سلطانه ويقيمون تحت براثنه.
أما تطبيق هذه الظاهرات على العلاج فقد اهتدى الإنسان إليه بالسليقة منذ عصور عريقة في القدم، ومازالت تلك الطرق بدائية لدى الشعوب البدائية مثل التمائم والتعاويذ لجلب النفع ودفع الأذى وقضاء الحاجة، والسحر والحسد لجلب الأذى وإلحاق الضرر، والعرافة للكشف عن ما يخبئه الغيب وعن ما يتمخض عنه المستقبل، كل ذلك عوامل وطرق نفسية من غير صقل ولا تهذيب وان كان من المغالاة أن ننكر على تلك الطرف بعض النتائج الباهرة التي يحصل عليها بعض من يمارسونها.
هذا، وقد ثبت عملياً واصبح في حكم البديهيات معرفة الصلات الوثيقة التي تربط الانفعالات النفسية بالظواهر الفسيولوجية وتأثيرها تأثير اً مادياً وعضوياَ؛ ومع ذلك فليسمح القارئ بان نضرب له بعض الأمثلة: إذا فوجئ إنسان بخير محزن وصدمة عنيفة، فقد يشعر في جفاف في حلقومه إذ يغيض معين سائله اللعابي ويقف إفرازه؛ أو في حالة الفزع
والخوف يصاب بإسهال ويشعر بحالة ملحة للتبول؛ أو أن يسيل فيض من الدمع على خده في حالة الحزن، كل هذه الأمثال المعروفة المألوفة وكثير غيرها يؤيد سلطان العوامل النفسانية إلى الجسم وفسيلوجيته.
وألان اذكر للقارئ بعض الأمثلة التي تستعمل فيها الظواهر النفسية كعوامل للعلاج.
1 -
استخدامها في التحذير الجراحي:
هناك بعض الحالات الجراحية لا يمكن فيها استعمال مخدر كيمائي؛ إذ أن بعض المرضى لا يتحملون تخديراً كلياً ولا موضعياً لان أجسامهم من حيث القلب والرئة مريضة هزيلة، وقد كنت شاهد عيان سنة 1935، في إحدى مستشفيات مونبلييله حين أتريد اتجرا عملية في الحال لفتاة صغيرة في الثانية عشر من عمرها أصيبت بالتهاب حاد في مصيرها الاعور، وكانت ضعيفة القلب هزيلة الرئتين لحد لا يسمح بتنويمها بالمخدر، ولا بد من إجراء العملية في الحال لإنقاذ حياتها المهددة، فلم ير الأستاذ إنيين وكان أستاذاً لجراحة الأطفال، بداً من الالتجاء إلى التنويم النفساني عن طريق الإيحاء والخطوات التي وضل بها إلى ما أراد هي: حدج الفتاة بنظرات قوية ثاقبة لمدة لا تتجاوز بعض الثواني، ثم صاح بها في صوت جهوري متزن مطمئن ثلاث مرات بنها سوف لا تشعر بأقل ألم، ومن ثم وضع على وجهها القناع الخاص بالتخدير العادي لإيهامها فقط، ولم يصب عليه نقطة واحدة من المخدر وأمرها أن تعد من واحد إلى عشرة. وما أن وصلت إلى الرقم السادس حتى اختفى صوتها، ووقعت في نوع هادئ وعميق، أجريت العملية في ظروف مؤتية أنقذت حياتها. وقد قرأت عن بعض حالات مشابهة في طب جراحة الأسنان.
2 -
استخدام الإيحاء في تخدير الآلام الجسدية:
نجحت طرق الإيحاء عن طريق التنويم أو بدونه في تخدير الآلام المبرحة بل في أزالتها نهائياً في بعض الأحيان. ويذكر الأستاذ (جاجو) وهو من المشتغلين بعلم النفس انه دعي ذات ليلة في ساعة متأخرة لرجل كان يسكن الطابق الأعلى من البيت الذي كان يقطنه، وكان الرجل يتلوى من ألم مبرح في ضرسه لم يقو على احتماله إلى حد أن سمح لنفسه بإزعاج الأستاذ في مثل تلك الساعة مع علمه بأنه ليس طبيب اسنان، ولكنه كان يؤمن
بمقدرته النفسانية، فهب الأستاذ إلى نجدة الرجل أمكنه إزالة آلامه وإعادة الطمأنينة إلى نفسه عن طريق الإيحاء.
3 -
العلاج النفساني لعضو فقد ووظيفة
مثل هذه الحالات كثيرة. وسأذكر مثلاً شاهدته هنا بنفسي في هذه الأيام وهو ما أثارني في كتابة هذا البحث، وقد وقع في إحدى مستشفيات بوردو مع الأستاذ العالمي الكبير (جورج بورتمان) وهو يعد اكبر حجة في العالم اجمع لأمراض النف والأذن والحنجرة - أتت صباح يوم سيدة تصحب ابنتها وكانت تشعر ببحة في الصوت على اثر صدمة نفسية غرامية أفضت إلى قبض الصوت وفقدانه تماماً وقد فحصها الأستاذ بدقة تامة شانه مع كل المرضى كما فحصناها من بعده فلم نر غير حنجرة سليمة، ليس بها علامة لمرض أو التهاب؛ وأوتار الحنجرة كذلك بحالة طبيعة، فأدركنا أن هذا النوع ليس عضوياً وإنما هو وظيفي أو هستيري كما يسمونه، فاستعمل معها طريقة الأحياء، وكانت دهشتنا شديدة إذ رأينا الفتاة وقد تم شفاؤها وعاد صوتها في اليوم الثالث إلى حالته الأولى.
وأظن القارئ قد سمع شيئاً عن مدينة لورد بفرنسا وهي مدينة صغيرة يقال أن العذراء مريم ابنة عمران قد ظهرت فيها. وقد يكون ذلك عن ظاهرة ازدواج الشخصية كما أسلفنا في مستهل المقال. وقد حدثت الرؤيا لفتاة سميت فيما بعد بالقدسية (برنادوت) وكانت في حالة تامة من اليقظة متمتعة بقواها العقلية. فأصبحت مدينة (لود) على اثر هذا الحادث أرضاً مقدسة وموطناً للحج يؤمه الزوار و (الحجاج) من المسيحيين من كل حدب وصوب بقصد التبرك وقضاء الحوائج وشفاء الأمراض، وان بعض الحالات المرضية قد تم علاجها في تلك المدينة - ولا مريض هنالك يحضر تحضيراً خاصاً قبل ذلك بأيام وتعرض عليه الصور الفوتوغرافية للمرضى الذين شفوا من مرضهم ولا سيما من كان منهم مصاباً بداء المريض الذي ينشد الشفاء. كما تلقى عليه دروس خاصة وكل ما من شانه أن يضاعف اعتقاده ويقوي أيمانه، ومن ثم يسمح له بالاستحمام في حوض يحوي (الماء المبارك). وقد دلت الإحصائيات على أن بعض المرضى قد تحسنت حالتهم، كما تم شفاء البعض - أني من غير أن أتعرض للناحية الدينية من الموضوع أقول بان العامل النفساني من أيجاء وغيره يلعب دوراً هاماً في مثل هذه الأحوال.
4 -
العلاج البسيوكولوجي في التربية:
وهو ما يسمونه بالثقافة النفسية. استعملت هذه الطرق في تربية الناشئين بل والكبار في علاج الكثير من الأمراض النفسية مثل ضعف الإرادة والتردد وفرط الحياء الجبن والتهور وضعف الذاكرة، وغير ذلك من الأمراض النقائص؛ وقد أتت بنتائج مشجعة كما استخدمت في عالم الفن والتمثيل، وخلقت من بعض فنانين تبدلت شخصياتهم تماماً عما كانوا عليه من قبل مما أدى إلى نجاحهم وشهرتهم في مهنتهم.
وخلاصة ما تقدم أن العلاج النفسي حقيقة لا ريب فيها، وليس نوعاً من الدجل والشعوذة كما كان يظن البعض؛ وهو يزداد أهمية يوم بعد يوم، ويتطور بتطور علم النفس والوصول إلى غوامضه، كما انه من المعقول أن نعقد عليه آمالاً كبيرة في المستقبل القريب.
(باريس)
فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا
مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث
للأستاذ سليمان دنيا
عرض الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) لفكرة البعث عند الفارابي وابن سينا وروى عنهما انهما يقولان باستحالة البعث الجسماني، لأنه لا يمكن في نظرهما إلا على واحدة من صور ثلاث:
الأولى: (أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن، والحياة - التي هي عرض - قائمة به). ثم ابطل هذه الصورة أساهم قائلاً: (وهذا ظاهر البطلان، لأنه مهما أنعدمت الحياة والبدن، فاستئناف خلقهما أيجاد لمثل ما كان، لا لعين ما كان).
الثانية: (أن يقال: النفس موجودة، وتبقى بعد البدن، ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها). ثم ابطل هذه الصورة على أساهم قائلاً: (لا يخلو: أما أن تجمع الأجزاء التي مات عليها فقط، فينبغي أن يعاد ألا قطع ومجدوع الأنف والأذن وناقص الأعضاء كما كان، وهذا مستقبح، ولا سيما في أهل الجنة. وان جمع جميع أجزائه ألي كانت موجودة في جميع عمره فهو محال من وجهين:
أحدهما: أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان وقد جرت العادة به في بعض البلاد، ويكثر وقوعه في أوقات القحط، فيتعذر حشرهما جميعاً لان مادة واحدة كانت بدناً للمأكول وصارت بالغذاء بدناً للأكل ولا يكمن رد نفسين إلى بدن واحد بل لا يحتاج في تقرير هذه الاستحالة إلى أكل الناس الناس، فانك إذا تأملت ظاهر التربة المعمورة أعلنت بعد طول الزمان أن ترابها جثث الموتى قد تربت وزرع فيها وغرس، وصارت حباً وفاكهة وتناولها الدواب فصارت لحماً، وتناولناها فصارت أبداناً لنا، فما من مادة يشار إليها إلا وقد كانت بدناً لا ناس كثير، فاستحالة وصارت تراباً، ثم نباتاً، ثم لحماً، ثم حيواناً.
والثاني: أنه يجب أن يعاد جزء واحد، كبداً وقلباً ويداً ورجلاً، فأنه ثبت بالصناعة الطبية أن الأجزاء العضوية يتغذى بعضها بفضلة غذاء البعض، فيتغذى الكبد بأجزاء القلب، وكذلك سائر الأعضاء.
الثالثة: (إن يقال: المعاد هو رد النفس إلى بدن أنساني، من أي مادة كانت، وأي تراب اتفق). ثم ابطل هذه الصورة على لسانهم قائلاً: (وهو محال من وجهين:
أحدهما: أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعر فلك القمر، لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية - أي بناء على نظرية قدم العالم عندهم - فلا نفي بها.
والثاني: أن التراب لا يقبل تدبير النفس، ما بقي تراباً، بل لا بد تمزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة. ومهما استعد البدن والمزاج لقبول النفس، استحق من المبادئ الواهبة للنفوس حدوث نفس، فيتوارد على البدن الواحد نفسان - أحدهما هي نفسه الأصلية، والأخرى هي التي استحقها حين صار من جديد بدناً ذا مزاج؛ فأن من شان العقل الفعال عندهم أن يفيض على المادة، حين تصبح ذات مزاج، نفساً مناسبة لذلك المزاج: نباتية، أو حيوانية، أو إنسانية - وبهذا بطل مذهب التناسخ. وهذا المذهب هو عين التناسخ، فأنه رجع إلى اشتغال النفس، بعد خلاصها من البدن بتدبير بدن آخر غير البدن الأول، فالمسلك الذي يدل على بطلان التناسخ، يدل على بطلان هذا المذهب).
هذا ما يريده الغزالي عن الفارابي وابن سينا، ولكنا إذا رجعنا (الشفاء) لابن سينا وجدناه يقول فيه: الفن الثالث عشر، إلهيات ص634 ط الهند: (يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع - ولا طريق إلى إثباته إلا من طريق الشريعة، وتصديق خبر النبي، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة ألحقه التي آتانا بها نبياً نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله، حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن.
ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتان بالقياس اللتان للأنفس، وان كانت الأوهام منا تقصر عن تصورها ألان لما نوضح من العلل
والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة اعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفون إلى تلك.
فلنعرف حال هذه السعادة، والشقاوة المضادة لها؛ فأن البدنية مفروع منها في الشرع. . .).
وورد كذلك في النجاة ص477 ط الكردي هذا النص بلفظه وحروفه.
ومن كل هذه النصوص يظهر لنا تناقض واضح بين ما يقوله ابن سينا عن نفسه في
(الشفاء) و (النجاة) وما يقوله الغزالي عنه في كتابه (التهافت)، فهو يقول عن نفسه: أن البعث الجسماني ممكن وواقع؛ والغزالي يقول عنه: أن البعث الجسماني مستحيل.
وهنا يطرأ على بال الباحث المتفحص سؤال لا بد منه، هو:
هل الغزالي متقول على الفلاسفة غير أمين في نقله عنهم؟! أم أن لهذه المالية عند ابن سينا سراً خفياً يتطلب الصبر والأناة حتى يوقف على غوره ودخيلته؟ أعني: هل المسالة عنده ظاهر وباطن، ظاهر يكشفه للعامة، وباطن يحتفظ به لنفسه، ولمن يؤهلهم استعدادهم لفهمه، وعن هذا الظاهر تحدث الشفاء والنجاة، وعن هذا الباطن نقل الغزالي؟!
كلا الأمرين جد خطير، لا ينبغي أن يصار أليه عن طريق الظنون والتخمينات، افن الضنون والتخمينات لا توصل إلى العلم الصحيح وإنما ينبغي أن يصار أليه عن طريق التثبت واليقين.
قد يحتال لإزالة هذا التعارض فيقال: أن ابن سينا نفسه نزع الوثوق من كتاب (الشفاء)، ولم ير فيه معبراً عن أفكاره ومعتقداته، لب يراه معبراً عن أفكار المشائين نزعاتهم. ومتى صح ذلك لم يجدر بنا اعتبار ما ورد فيه مصوراً لأفكار ابن سينا وذلك حيث يقول في مقدمة (منطق المشرقيين):
(. . وبعد، فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه، لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى، أو عاد أو إلف، ولا نبالي من مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفاً عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة بالمشائين، الضانيين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم!
ولما كان المشتغلون بعلم شديدي الأعتزاء إلى المشائين من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائيين، إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، أغضينا عما تخبطوا فيه، وجعلنا له وجهاً ومخرجاً ونحن بدخلته شاعرون، فأن جاهرنا بمخالفتهم، ففي الشيء الذي لم يمكن الصبر عليه، أما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل.
فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من شهرة بحيث لا يشكون فيه ويشكون في النهار الواضح؛ وبعضه قد كان من الدقة بحيث نغمش عنه عقول
هؤلاء الذين في العصر.
وما جمعنا هذا الكتاب - يعني فلسفة الإشراقيين - لنظهره إلا لأنفسنا، اعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولة هذا الشان، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير لهم وفوق حاجتهم)
وكتاب النجاة صورة مصغرة لكتاب الشفاء وتلخيص له اثبت ذلك البحث والتمحيص، قالوا وثق به من نوع الوثوق بكتاب الشفاء وفي درجته.
وأكثر من ذلك أن ابن سينا في نفس الشفاء ص647، والانجاة ص501، صرح بان نصوص الشرع في مسالة المعاد يجب أن تتلقى بحيطة وحذر، إذ أنها تنزلت عند مستوى عقول العامة، فصورت لهم أمر المعاد بالصورة التي يستطيعون فهمها، لا بالصورة التي هو عليها في نفس الامر، استمع أليه يقول: (وكذلك يجب أن يقرر عندهم - أي يجب أن يقرر النبي عند العامة - أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن أليه نفوسهم ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه ويتصورنه
وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمر مجملاً، وهو إن ذلك شيء لا عين رأته ولا آذن سمعته، وان هناك من اللذة ما هو ملك عظيم، ومن الألم ما هو عذاب عظيم).
والنص بنفس هذه الحروف وارد في الكتابين.
أضف إلى ذلك أن ابن سينا صرح في الإشارات بما يفيد أن المعاد بالروح وحده دون الجسم، قال في ص195 ط ليدن:(والعارفون والمتنزهون إذا وضع عنهم دون مقارنة البدن وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتعشوا بالكمال الاعلى، وحصلت لهم اللذة العليا).
وفي ص196: (وأما أليه فانهم إذا تنزهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم، ولعلهم لا يستغنون فيها عن جسم يكون موضعاً لتخيلات لهم، ولا يمنع أن يكون ذلك جسماً سمائياً أو ما يشبه، ولعل ذلك يقضى بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المسعد الذي للعارفين).
وفي ص191: (فلا ينبغي لنا أن نستمع إلى من يقول: أنا لو حصلنا على حالة لا نأكل فيها ولا نشرب ولا ننكح، فأية سعادة تكون لنا؟! والذي يقول هذا، فيجب أن يبصر ويقال له: يا مسكين! لعل الحالة التي للملائكة وما فوقها الذي وأبهج وانعم من حالة الانعام، بل
كيف يمكن أن تكون لإحداهما نسبة إلى الأخرى نسبة يعتد بها؟)
بل انه صرح في (الشفاء) و (النجاة) مثل ما جاء في الإشارات. قال في النجاة ص485: (فإذا فارقت - يعني فارقت النفس البدن - ولم يحصل معها ما تحصل به بعد الانفصال إلى التمام، وقعت في هذا النوع الشقاء الأبدي، لان أوائل الملكة العلمية إنما كانت تكتسب بالبدن لا غير، وقد فات).
وقال في ص488: (وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية، وليس عندها هيئة غير ذلك، ولا معنى بضاده وينافيه، فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتعذب عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق أليه، لان آلة ذلك قد بطلت، وخلق التعلق بالبدن قد بقى).
ونفس هذا النص قد ورد في الشفاء.
من كل هذا يخلص لنا:
أولاً: إمكان اعتبار ابن سينا قائلاً بالبعث فقط، وفي هذه الدائرة يصدق نقل الغزالي عنه.
ثانياً: أن ابن سينا غير متناقض في حديثه عن البعث، ولكن له فيه ظاهر وباطن، ومن لن يفطن لهذين الجانبين فيه ظنه متناقضاً، وليس الأمر من التناقض في شيء.
ولكن ليس هذا كل ما يهم الباحث المتفحص في هذا المقام، فليست إزالة التناقض في نصوص ابن سينا المختلفة وإزالة التناقض بين حديث الغزالي عن ابن سينا وحديث ابن يسنا عن نفسه - وإن أدخلت على تاريخ الفلسفة تكميلاً كان يتطلبه - هي كل شيء في هذا المقام.
ذلك أن الغزالي لم يدع في كتابه (التهافت) أن ابن سينا منكر للبعث الجسماني وكفى، إذ لو كان الأمر كذلك لكان في إزالة التناقض على الوجه السابق - وهو نتيجة بحثنا الخاص - غناء وأي غناء، ولكن الغزالي أتضاف إلى ابن سينا مع هذه الدعوة أدلة شققها تشقيقاً وفرعها تفريعاً، فكان لا بد لتاريخ الفلسفة أن يعرف أمرين على جانب كبير من الأهمية:
أحدهما يتصل بابن سينا نفسه ليعرف التاريخ هل هذه الأدلة المعزوة إلى ابن سينا في كتاب (تهافت الفلاسفة) صحيحة النسبة أليه؟ فإنه أن صحت نسبتها أليه، جاز للتاريخ أن يقول على وجه القطع - استعداداً من هذه الأدلة وحدها - أن ابن سينا قائل استحالة البعث
الجسماني.
وثانيهما يتصل بالغزالي، إذ قد عرض لكثير من الفق المختلفة وناقشها وساق أدلة ودعاوى غزاها إليها، وقد لا يتيسر ألان الرجوع إلى المصادر الأصلية لهذه الفرق. فهل الغزالي ثقة فيما ينقل ويروي؟ أم تتسرب إلى نقله الريب وتحوم حوله الشكوك؟ وهذا جانب هام يعنى تاريخ الفلسفة أن يقف على وجه الحق فيه.
هذه ثغرة لم أجد - فيما قرأت - من حاول صدها في تاريخ ابن سينا وتاريخ الغزالي على السواء.
ابن سينا: هل قال ما نسب أليه الغزالي من أدلة إنكار البعث الجسماني؟!
والغزالي: من أبن استقى هذه المعلومات؟!
ومما يزيد الأمر خطورة أن المسالة أم تقف عند ابن سينا والغزالي، بل جاوزتهما إلى من اخذ عن الغزالي من علماء الكلام والى من دافع عن ابن سينا، كابن رشد. فكان على علماء الكلام أن يعرفوا - قبل أن يرددوا - من أي المصادر استقى الغزالي هذه الأدلة التي يعزوها إلى ابن سينا، فهل عرفوا؟!. وكان على ابن رشد أن يعرف - قبل أن يناضل ويدافع - هل ما نسب إلى ابن سينا صحيح النسبة اليه، فهل عرف؟!.
ثغرة أدركتها أول الأمر ضيقة، ثم ما زالت تتسع أمامي حتى وصلت إلى ما رأيت. ولشعوري القوي بحاجة تاريخ الفكر الإسلامي إلى سدها، حاولت أن أسدها على أي وضع كان، فقلت معلقاً على هذه الأدلة التي يعزوها الغزالي إلى ابن سينا، وان اخرج كتاب (تهافت الفلاسفة) (هذا المثال - اعني قوله: أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان. . . الخ - وغيره، نجده موجوداً في كتب الكلام لم يرجعوا إلى كتب الفلاسفة نفسها - نظراً لأني لم أجد فيما لدى من كتب الفلاسفة وقتذاك شيئاً من هذا الكلام - وإنما عولوا على هذا التصوير الذي اضطلع به الغزالي. على أني أطارد اجزم بان الغزالي في تصوير وجهة نظر الفلاسفة ما كان يقف عند الحد المنصوص عليه في كتبهم، وإنما كان يفترض افتراضات ويذكر احتمالات ويناقشها ليخلص له: إنما كل ما يمكن أن يقال على لسانهم فهو مدفوع مردود).
وظل الأمر واقفاً عند هذا الحد: ثغرة تتطلب سداً محكماً من الفولاذ، وضعت فيها لفافة من
الخيش إلى أن تكفل هذا المخطوط بهذا السد الفولاذي.
وإلى اللقاء في مقال تالٍ - أن شاء الله - نحلله فيه ولتعرف محتوياته.
سليمان دنيا
مدرس الفلسفة وعلم العقيدة بكلية أصول الدين
نداء الفداء
أو أنشودة الجهاد في حومة فلسطين
نص الغنائية الحماسية التي هتف بها الشاعر علي محمود طه
وألف منها الموسيقار محمد عبد الوهاب لحنه الجديد (أنشودة
فلسطين)
أخي! جاوز الظالمون المدى
…
فحق الجهاد وحق الفدا
أتتركهم يغصبون العروب
…
ة مجد الأبوة والسؤددا
وليسوا بغير صليل السيوف
…
يجيبون صوتاً لنا أو صدى
فجرد حسامك من غمده
…
فليس له بعد ' أن يغمدا
أخي! أيها العربي الأبي
…
أرى اليوم موعدنا لا الغدا
آخي! اقبل الشرق في أمة
…
ترد الظلال وتحي الهدى
أخي! أن في القدس أختا لنا
…
اعَد لها الذابحون العدا
صبرنا على غدرهم قادرين
…
وكنا لهم قدراً مرصدا
طلعنا عليه طلوع المنون
…
فطاروا هباء وصاروا سدا
آخي! قم إلى قبلة المشرقين
…
لنحمي الكنيسة والمسجدا
(يسوع) الشهيد على أرضها
…
يعانق في جيشه (أحمدا)
آخي! قم إليها نشق الغمار
…
دماً قانياً ولظى مرعدا
آخي! ظمئت للقتال السيوف
…
فأورد شَباها الدم المصعدا
آخي! أن جرى في ثراها دمي
…
وأطبقت فوق حصاها اليدا
ونادى الحمام وجه الحسام
…
وشب الضرام بها موقدا
ففتش على مهجة حرة
…
أبت أن يمر عليها العدا
وخذ راية الحق من قبضة
…
جلاها الوغى ونماها الندى
وقِبل شهيداً على أرضها
…
دعا باسمها الله واستشهادا
فلسطين يفدى حماكِ الشباب
…
وجل الفدائي والمفتدى
فلسطين تحميكِ منا الصدور
…
فأما الحياة وأما الردى!
علي محمود طه
السيدة غريغوري
للأستاذ نجاتي صدقي
قال لي أحد معارفي ذات يوم: اذكر أنني قرأت لك منذ سنة تقريباً قصة بعنوان (الأب غريغوري) وقد ختمتها بان (كلاره) كانت تذهب كل يوم أحد إلى مقبرة صهيون بالقدس لتبكى القسيس الراحل.
قلت - نعم. . . وهل من عيب في هذه الخاتمة؟
قال - كلا. .
قلت - إذن ما هي رغبتك؟
قال - أتشوق إلى معرفة مصير هذه السيدة. وهل هي باقية على قيد الحياة؟. وهل تزوجت أم لا تزال على العهد الذي قطعته لزوجها الشيخ وهو على أبواب الأبدية؟.
قلت - أتريد أن أضع ملحقاً للقصة؟.
قال - كلا، ولكني أحس برغبة ملحة في معرفة ما تم لهذه السيدة التي وصفتها بأنها السحر الحلال، والأنوثة المغرية قلت - لا تزال السيدة غريغوري مقيمة على عهدها إلا تتزوج أحداً بعد الأب غريغوري، فتمثاله ما فتئ معلقاً في صدر غرفتها، وصورة السيد المسيح لم تتزحزح عن مكانها منذ خمس سنوات، وقنديل الزيت يواصل إضاءة أيقونة العذراء ليلاً ونهاراً. أما خطاب السيدة غريغوري فكثيرون، واعرف منهم أربعة، وإليك قصصهم:
الخاطب المثال:
جاءها في بادئ الأمر مثال وقال لها: أتسمحين أيتها السيدة أن اصنع تمثالاً نصفياً لزوجك الراحل؟
فأظهرت كلاره ارتياحها لهذا العرض الكريم، وأذنت له بصنع التمثال، فصنعه، وكان ابرز شيء فيه لحية الأب غريغوري، ونصبته في صدر غرفتها. ثم قال لها المثال: أتسمحين أن اصنع تمثالاً جانبياً (بر وفيل) لوجهك الجميل؟. فأبدت ارتياحها وموافقتها، أخذت تزوره كل يوم في أستوديو عمله إلى أن تم له صنعه، وقد ظهرت فيه السيدة غريغوري بوجهها النحيف الكئيب، وقد تدلى شعرها المشعث على صدغيها، وكان تمثالاً أخاذاً مما حدا بأحد السياح الأميركيين أن يبتاعه بثمن باهظ.
وقال لها المثال يوماً: أتسمحين لي أن اصنع تمثالاً لجسمك بأكمله ليكون مثالاً حياً لصنع الخالق جل جلاله؟.
قالت - هذا لم يكون. . فالمرحوم الأب غريغوري هو الشخص الوحيد الذي كنت اظهر أمامه كما خلقت، وكثيراً ما كان يتحسس جسمي كالضرير ويقول:(سبحانك ربي على قدرتك في تكوين الجمال!). أما الآن فما قيمة هذا التمثال الذي تود صنعه لي؟. . كلا، ودع عنك هذه الفكرة.
قال التمثال وقد ركع على ركبتيه: وهل لفنان مثلي أن يحتفظ بتمثالك الحي لنفسه؟!. انك ضرورية لي لاستوحي منك الفن الرفيع. هاك يدي يا كلاره فلا ترفضيها، أتوسل إليك.
فأنهضته كلاره قائلة: لن أتتزوج بعد الأب غريغوري أحداً. أما أنت فكفاك فجراً انك صنعت تمثالاً نصفياً للأب غريغوري حاز إعجابي. وصنعت لي تمثالاً جانبياً (بر وفيل) حاز إعجاب أحد الأمريكيين. وهذا وذاك احسن دعاية لك كفنان كبير. فاذهب الآن ترافقك السلامة، وخير لك أن لا تعود إلا بعد هذا اليوم.
الخاطب كاتب العرائض:
أما الخاطب الثاني الذي تردد على السيدة غريغوري فكان أحد كتاب العرائض وهو من معارف المرحوم زوجها، فكان يزورها بين حين أخر معزياً فيحمل لها بعض الهدايا ويجلس صامتاً ل يجرؤ على الإفصاح عما يخالج نفسه نحوها، خشية أن تصده وتجرح شعوره، إلا أن عينيه كانتا تتحدثان عن أمر ما.
وفي فجر أحد الأيام اقترب كاتب العرائض خلسة من مسكن السيدة غريغوري واسقط رسالة في صندوق رسائلها وفر. ولما التقطتها قرأت فيها ما يلي:
(كلاره!)
لدي ما أقوله لكِ ولكني لم اجرؤ، حينما كنت أتتردد إلى بيتك، على مفاتحتك بما كنت أفكر فيه من خطط ومشاريع.
والذي كنت أريد أن أبوح به إليك دون موارية هو أنني أهيم بك يا فتاة أحلامي. إنني أعجبت بك في حياة المرحوم الأب غريفوري، ثم أحببتك بعد وفاته. كم يؤلمني دائماً أن أراك مطرقة حزينة. فما الداعي إلى حزنك هذا؟ وهل تتوقعين أن يعود القس إلى قيد
الحياة؟ انسيه كما نسي هو زوجته وابنته من قلبك!. فكري في مستقبلك وشبابك ونضارتك.
كلاره!.
أنت وحيد وان وحيد. فلماذا ما نعمل معاً على إزالة آلام وحدتنا هذه؟. أن اكسب من عملي شهرياً خمسة عشر جنيهاً، وأنت تكسبين من عملك شهرياً عشرة جنيهات. فلماذا لا تصير معاً خمسة وعشرون جنيهاً؟!.
أجيبي أيتها العزيزة. أجيبي هذا القلب الكسير. وآمل أن أتلقى ردك بالبريد حتى أتحمل الصدمة، السارة أو المؤلمة، برباطة جاش).
من المخلص لك أبداً
(. . .)
وبعد أن قرأت السيدة غريغوري هذه الرسالة ذهبت بنفسها إلى حيث يعمل مرسلها وقالت له: تلقيت رسالتك، أما جوابي فهاكه. وعركت الرسالة بيدها، ثم قذفت بها في الهواء، وانصرفت تاركة كاتب الرسائل في حيرة وذهول شديدين.
الخاطب القيصري:
وكان الخاطب الثالث ضابطاً روسياً من ضباط القيصر نيقولا الثاني، يدعى إيفان بوغاتيرسكي، وهو رجل في حدود عمر الأب غريغوري تقريباً، وشاربان طويلان، ولحية متدلية من الحدين دون الذقن.
فبينما كانت السيدة غريغوري في عصر يوم تجلس إلى جانب النافذة تقلب ما تركه المرحوم زوجها من آثار أدبية، إذ بباب دارها يقرع قرعاً خفيفاً. ولما فتحته وجدت نفسها أمام ضابط روسي قديم، يحمل بيد علبة حلوى وباقة زهور، ويحمل باليد الأخرى بقعته ومنديله. وبادر السيدة غريغوري قائلاً: وقد اشتركت معه في معركة تاننبرغ سنة 1918، وتذوقنا البؤس معاً في أزقة مونمارتر بباريس سنة 1925. ورحلنا إلى فلسطين في باخرة واحدة، فصار هو قساً، وبقيت أنا آمني النفس بالعودة إلى روسيا.
فاضطربت السيدة غريغوري قليلاً، وأذنت لهذه الشخصية الغامضة بالدخول.
وبعد أن قدم الزائر الزهور وعلبة الحلوى لصاحبة البيت، اطرق قليلاً، ثم انحدرت دمعة على خده فمسحها بمنديله وقال وهو يتنهد: رحمك الله ياغريغوري! لقد كنت اعز صديق
لي، ثم قضى علينا أن نفترق ولا مرد لقضاء الله وقدره. ولكن ثق يا أخي باني لم أنساك وستبقى ذكرياتك الطيبة عالقة في خاطري ما حييت.
وساد الغرفة صمت، ثم قطعة الزائر بمخاطبته السيدة غريغوري قائلاً: بلغني يا سيدتي أن عندك غرفة تودين تأجيرها، فهل تجدين مانعاً يحول دون تأجيري اياها؟. أنت بحاجة إلى رجل ليدافع عنك ويعينك على تخطي مصاعب الحياة. . . أنت بحاجة إلى مال، وما من ريب في أن معاشك لا يسد بعض نفقاتك. أرجو أن تأذني لي باستئجار غرفة في مسكنك وسأدفع أي مبلغ تطلبينه، يضاف إلى ذلك انك ستجدين إلى جانبك من يحدثك باللغة الروسية التي كان يعلمك إياها المرحوم غريغوري.
وساد الغرفة الصمت مرة ثانية، ثم نهضت السيدة غريغوري وأحضرت باقة الزهور وعلبة الحلوى أعادتهما إلى السيد إيفان قائلة: اذهب وضع هذه الباقة على قبر صديقك إذا كنت توده حقاً، ووزع هذه الحلوى بين الفقراء ليترحموا على روحه.
وشيعته إلى باب الدار الخارجي. . .
الخاطب الفاسق:
أم الخاطب الرابع فكان يهودياً بولونياً صاحب خطة جهنمية. فقد طرق بيت السيدة غريغوري عصر يوم وبرفقته امرأة وفتاة في الثانية عشرة من عمرها. فاستقبلتهم ربت البيت مرحبة بهم، وبعد لحظات تبودلت فيها النظرات والابتسامات استهل الرجل كلامه بان ترحم على روح المرحوم زوجها، وذكر محامده ومآثره، ووصفه بأنه كان مثالاً للنزاهة والإخلاص بين الناس، غير أن الموت الذي اختطف روحه لا يتردد في اختطاف روح أي إنسان إذا ما حانت ساعته.
ولما قدمت السيدة جريجوري الشاي لضيوفها قال لها الرجل وهو يحرك الملعقة في قدحه: تجول في خاطري فكرة أود عرضها عليك، وربما تجدين فيها بعض الغرابة والجرأة، ولكنها مبنية على شعور عاطفي، لا تتنافى مع ناموس الاجتماع. انظري إلى هذه السيدة فهي زوجتي، وانظري إلى هذه الفتاة فهي ابنتي. إلا أنني غير راضي عن حياتي الزوجية هذه، وقد عقدت النية على أن أطلق زوجتي طلاقاً لا رجعة فيه، وزوجتي توافقني على هجري اياها، اليس كذلك يا راحيل؟.
فطأطأت راحيل رأسها وأومأت بالإيجاب.
ثم أن ابنتي سونيا تفضل طلاق أمها على أن يظل سوء التفاهم سائداً في منزلنا. أليس كذلك يا سونيا؟.
فطأطأت الفتاة رأسها وأزمات بالإيجاب أيضاً.
وهكذا ترين أيتها السيدة إنني آتٍ لأطلق زوجتي أمامك، ولأخطبك أمامها وابني شاهدة. وقد انتهجت هذه الخطة لاختصر الطريق، ولأزيل كل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيل زواجنا.
وتناول الرجل جرعة كبيرة من الشاي، ولعق ما علق على شاربيه من قطرات وتابع حديثه قائلاً: لقد أدركت مقدماً انك ستقولين لي انك متزوج. وان لك ابنة لا ترضى عن هجرك لامها، فقررت أن أحضرهما أمامك لأضع النقاط على الحروف كما يقول المثل. فما أنا إلا طالب حلال، وبيتك الجديد في انتظارك، والقول الفصل لكِ.
كانت السيدة جريجوري تستمع إلى كلام هذا الزائر وهي تقرض شفتيها بأسنانها وقد انفعلت انفعالاً شديداً، لكنها تمالكت نفسها وقالت للرجل بهدوء ورزانة أنها غير مستعدة لسماع مثل هذا الهذيان، ونصحت الرجل أن يبحث عريس لابنته وأشارت إليهم بالانصراف.
وقد اتضح للسيدة جريجوري فيما بعد أن هذا الخاطب هو صاحب بيت الدعارة السرية، وان زوجته وابنته تعينانه على نصب حباله وشباكه. وإن (البيت الجديد) الذي كان في انتظارها ليس إلا بيت الفسق والموبقات.
قلت لمحدثي - هؤلاء هم الخطاب الأربعة الذين توددوا إلى السيدة جريجوري، وكانت تصدهم الواحد تلو الآخر. ولعلك ترى فيهم نماذج بشرية مختلفة.
قال - أود سماع كلمة منك تفسر سلوك هذه المرأة من نفسها، وسلوك هؤلاء الخطاب الشاذين منها.
قلت - السيدة جريجوري هذه مشكلة سيكولوجية، فهي صبية مثقفة، وفاتنة، وفيها الشيء الكثير من الجاذبية الجنسية، عاشرت قسماً اكبر من أبيها ومات.
فهل وقعت هي فريسة للأب جريجوري عندما كانت في حالة من أللاشعور الجنسي؟.
هل ثابت هي إلى رشدها بعد أن مات القس ورأت أنها ارتكبت حماقة بمعاشرتها إياه، لكنها تكابر وتحاول أن تظهر بمظهر المرأة المخلصة للزوجية المثالية؟
هل تشعر هي بأنها فشلت في هذا الزواج الذي آثار حولها الكثير من اللغط وتخشى السقوط مرة ثانية في زواج مماثل له؟
هل تتوقع هي زوجاً يكون له من القوة، والذكاء، والجمال، ما يعوض عليها معاشرتها لذلك الرجل الضعيف، الخامل، البشع.
وأخيراً ما الذي يحدو بها إلى الاحتفاظ حتى يومنا هذا، بتمثال القس النصفي، وبصورة المسيح معلقة على الحائط، والى جانبها أيقونة يعلوها قنديل زيت مضيء. . .
هذه أسئلة محيرة حقاً. . .
أما خطابها فقد تكونت عندهم فكرة محدودة عنها، مصدرها القس الراحل، وهي أنها تميل إلى معاشرة الكهول والشاذين من الرجال. . .
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
(تتمة)
قد استنبط الأستاذ براون من بيان هذه الحالة أن ابتلاء المريض بالحميات المخلطة مع وجود قشعريرة تتقدم الحمى كان سبباً في أن ظن الرازي في بادئ الأمر مرضه الحمى (الملاريا) ولا سيما انه كان في بلاد كانت تكثر فيها هذه الحمى. والحال أن هذه الأعراض لم تكن أعراض حمى الملاريا بل كانت نتيجة لمرض عفن، وان الرازي غير رأيه عندما شاهد المدة في بول المريض وتحقق لديه أن المرض خراج في الكلى.
والغرض من استشهادنا بهذه الحادثة هو أن نبرهن على أن الأطباء كانوا يدرسون حالة المريض واعرض المرض درساً وافياً دقيقاً وبهذه الطريقة كان طلاب الطب يتلقون من أساتذتهم درساً عملياً تجريبياً عن الطب وعلاج الأمراض المختلفة وفي نفس الوقت كان الطبي يداوي المرضى ويزداد تجربة ومهارة في عمله وكان الجميع يخدمون صناعة الطب ويساهمون في ترقيتها بالدرس والبحث والتجارب المنظمة في القسم الداخلي من البيمارستانات عندما كان يصعب تشخيص مرض مريض في قاعة من القاعات وتدعوا الحالة إلى استدعاء طبيب أو اكثر من القاعات الأخرى غير القاعة التي فيها المريض للاستشارة كان يدعي عدد منهم فيتداولون في الأمر.
وكان الأطباء يشتغلون في البيمارستان بالنبوة، فجبرائيل ابن بختشوع كانت توبته في الأسبوع يومين وليلتين.
وكانت دروس الطب تعطى على الأغلب في البيمارستان فيجلس الطبيب ليفحص المرضى ومعاينتهم فيصف العلاج اللازم للمريض ويكتب له ويشرح كيفية استدلاله على المرض للحاضرين، وكان بين يديه المشارفون والعوامل لخدمة المرضى وكان كل ما بكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير ونوع الطعام يوضع بجانب فراشة للرجوع أليه في تنفيذه وأجرائه.
وكان الطبيب يدور على المرضى بالبيمارستانات ويتفقد أحوالهم ويصف لكل منهم علاجه وبعد فراغه من ذلك فيجلس في مجلس خاص في البيمارستانات ويحضر كتب الاشتغال وكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون أليه ويقعدون بين يديه ثم يجرى مباحث طبية ويقرئ التلاميذ ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب مدة ثم يركب إلى داره.
وكانت هذه الطريقة للتدريس هي للتلاميذ المبتدئين؛ أما المشتغلين في الطب والمطلعون على كتبه ومن لهم بعض الاختبارات في البيمارستانات فكانوا يحضرون مجلس درس الأستاذ ساعات كل يوم فيجري البحث عن المواضيع الطبية المشكلة أو النادرة ويتداولون فيها علمياً وفنياً بكل حرية.
وقد كان النظر في بول المريض، وكانوا يسمعونه (القارورة)، والاستنتاج من نظره ويسمونه (التفسرة)، من الأمور الشائعة ولم يكن الأطباء يغفلون عنه.
وكانت للأطباء العرب في هذا الباب مهارة كبيرة تدل على قوة استدلالهم وحسن استنتاجهم.
يقول ابن أبي أصيبعة: (أراد الرشيد أن يمتحن بختيشوع الطبيب أمام جماعة من الأطباء فقال الرشيد لبعض الخدم: (أحضره ماء دابة حتى نجربه) فمضى الخادم فاحضر قارورة الماء، فلما رآه قال:(يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان) قال له أبو قريش وقد كان حاضراً: كذبت هذا ماء حظية الخليفة) فقال له بختيشوع (لك أقول أيها الشيخ الكريم، لم يبل هذا إنسان البتة، وان كان الأمر على ما قلت فلعلها صارت يهيمة) فقال له الخليفة (من أين علمت انه ليس ببول إنسان؟ قال بختيشوع (لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا ريحه) ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له (ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء) فقال: (شعيراً جيداً) فضحك الرشيد ضحكاً شديداً أمر فخلع عليه خلعة حسنة جليلة ووهب له مالاً وافراً وقال (بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلهم وله يسمعون ويطيعون).
والخلاصة أن البيمارستانات لم تكن أعمالها قاصرة على معالجة المرضى فحسب، بل أنها كانت تقوم مقام مدارس الطب يتخرج منها الأطباء والكحالون والجراحون والمجبرون.
وكان لكل بيمارستان خزانة كتب أو مكتبة تحوي كثيراً من الكتب كانت في متناول كل
طالب علم؛ وكان طالب الطب في أول عهد الدولة الإسلامية بعد أن يتلقى أصول الطب على بعض مشاهير الأطباء ويقوم باختبارات شخصية وتجارب عملية كافية ويجد في نفسه القدرة على مزاولة الطب يباشرها بعد أن يجيزه بعض الأطباء النابهين في زمانه أو رئيس أطباء البيمارستان الذي كان يشتغل فيه.
ولم تكن هناك في تول الأمر قيود خاصة أو امتحانات منظمة لإعطاء إجازة التطبب؛ وان أول من نظم هذه الصناعة أتخضعها لنظام خاص في تأدية امتحان للحصول على إجازة التطبب هو المقتدر الخليفة العباسي، وكان ذلك في سنة 219هـ. والسبب الذي يدعى الخليفة إلى هذا العمل حَسَبَ رواية ابن أبي أصيبعة هوانه اتصل به غلطاً جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل، فأمر الخليفة المحتسب بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت بن قرة رئيس الأطباء وطبيب الخليفة الخاص، وكتب له قطعة بخطه بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة. وبلغ عدد من ترددوا إلى سنان وامتحنهم أطلق لكل واحد منهم ما يصلح التصرف فيه من الصناعة ثمانمائة رجل نيفاً وستين رجل في جانبي بغداد سوى من استغنى عنه عن محنته باشتهاره بالتقدم في صناعته وسوى من كان في خدمة السلطان.
وكان سنان بن ثابت يمتحنهم فيسال كلاً منهم بعض الأسئلة الطبية ويعرف معارفه ودرجة تمكنه في الصناعة، فيحدد له حدوداً يجيزه أن يتصرف ضمنها لا يتجاوزها.
وكانت الامتحانات الطبية في ذلك العهد بسيطة جداً فيها كثير من التسامح والتساهل. يروى انه دخل يوماً في مجلس سنان بن قرة كهل موقر مهيب الطلعة عليه سيماء أهل العلم ولباسهم فاخذ مكانه في جانب من المجلس، وكان مظهره يدل على انه من أجلة العلماء. وبعد أن انتهى سنان من درسه ومعالجة المرض خاطب تلاميذه قائلاً:(علنا الآن الاستفادة من فضائل نولانا الشيخ، ولنستمع لجوامع كلمة لتبقى لدينا تذكاراً لتشريقه هذا المجلس). ثم سال الشيخ عن اسم أستاذه فأخرج الشيخ من جيبه بدرة من المال وضعها أمام سنان وقال لست يا سيدي من العلماء؛ لكني رب أسرة أريد أن أعيلها عن طريق التطبب. فاشترط عليه سنان أن يكون محتاطاً في عمله فلا يفصد أحداً ولا يعطي من المسهلات إلا الأنواع الساذجة البسيطة منها. فقال الشيخ كانت هذه ولا تزال طريقتي في التطبب فأني لم
أعطي أحداً غير السكنجبين والجلاب، فأعطاه سنان إجازة التطبب في هذه الدائرة المحدودة التي ذكرناها.
وجاءه غداة ذلك اليوم ضمن جماعة حضرت المجلس لأخذ إجازات التطبب - شاب سأله سنان عن اسم أستاذه كما هي العادة فذكر اسم أبيه، وكان الشيخ الذي ذكرنا قصته، فأساله سنان عما إذا كان يسير على نهج واله. ولما رد عليه بالإيجاب أجازه أيضاً للتطبب في نفس تلك الحدود.
كان هذا في بادئ الأمر لكن الحال لم تستمر على هذا المنوال وصار النظام بعد ذلك أن الطالب بعد أن يتم دروسه يتقدم إلى رئيس الأطباء برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في الاشتغال به له أو لأحد مشاهير الأطباء قد أجاد دراستها فيختبره فيها الطبيب ويسأله أسئلة عدة عن هذا الموضوع، فأن استطاع اجتياز الامتحان إعطاء إجازة تطلق له التصرف في حدودها.
ويذكر المرحوم الدكتور احمد عيسى بك مؤلف كتاب (تاريخ البيمارستانات في الإسلام) في كتابه القيم المذكور الذي نشرته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق سنة 1357 هجرية. انه عثر في خزانة كتب المرحوم العَلامة احمد زكي باشا على صورتين لإجازتين طبيتين من القرن الحادي عشر من الهجرة منحت أحدهما لصاد والأخرى لجراح. وها نحن أولاء نذكر هنا ملخصهما: -
(وهذه صورة ما كتبه الشيخ الأجل عمدة الأطباء، ومنهاج الأباء، الشيخ شهاب الدين ابن الحنفي رئيس الأطباء بالديار المصرية إجازة للشباب المحصل محمد عزام أحد تلامذة الشيخ الأجل والكهف الأحول الشيخ زين الدين عبد المعطى رئيس الجراحين على حفظه لرسالة الفصد كما سنبينه: -
الحمد لله ومنه اسند العناية.
الحمد لله الذي وفق من عباده من اختاره لخدمة الفقراء والصالحين وهدى من شاء للطريق القويم والنهج المستقيم على ممر الأوقات الأزمان إلى يوم الدين. وبعد فقد حضر عندي الشاب المحصل شمس الدين محمد بن عزام. بن. . . بن. . . علة المؤذن الجرداني (أو الجرداء إني نسبة إلى جر داءان وهي محلة بمدينة أصبهان بإيران) المتشرف بخدمة
الجراح، والمتقيد بخدمة الشيخ الصالح بقية السلف الصالحين العارفين وشيخ طائفة الجراحين بالبيمارستان المنصوري وهو الشيخ عبد المعطى المشهور بابن رسلان نفعنا الله ببركاته، ورحم أسلافه العارفين الصالحين، وعرض على جميع الرسالة اللطيفة المشتملة على معرفة الفصد وأوقاته وكيفته وشروطه وما يترتب عليه من المنافع المنسوبة. والرسالة المذكورة للشيخ العلامة التمام شمس الدين محمد بن ساعد الأنصاري شكر الله سعيه ورحمه واسكنه بحابيح جناته بمنه وكرمه، عرضاً جيداً دجل على حسن حفظه للرسالة المذكورة، وقد أجزته أن يرويها عني بحق روايتها وغيرها من الكتب الطبية (وباقي الإجازة مفقود).
والإجازة الأخرى أيضاً من القرن الحادي عشر الهجري وهي صادرة من رئيس الجراحين من دار الشفا المنصوري (قلاوون)
وخلاصتها بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على آله وصحبه انه وقف على الرسالة الموسومة (ببرء الآلام في صناعة الفصد والحجام) نظم لوضعي زمانه وألمعي عصره واوانه، الشمس شمس الدين قيم شهرة، الجراح صنعة ومهرة، التي اصلها للشيخ الفاضل حاوي الفضائل الشيخ شمس الدين الشربيني الجراح الموسومة (بناية المقاصد فيما يجب على المفصود والفاصد) وقد قرأها عليه قراءة إتقان وإمعان فلم ير بداً من أن يبسطها ليتيسر حفظ تلك الفوائد. وقد أجاد نظامها في تحقيقها، وبذل الجهد في تحريرها وتدقيقها. إلى أن يقول استحق راقم وشيها وناسج يردها أن يتوج بتاج الإجازة فاستخرت الله تعالى أجزت له أن يتعاطى من صناعة الجراح، ما أتقن معرفته ليحصل النجاح والفلاح، وهو أن يعالج التي تبرأ بالبط، ويقلعه من السنان ما ظهر له من غير شرط، وان يفصد من الأوردة ويبتر الشرائيين، وان يقلع من الأسنان الفاسد المسوسين (كذا) إلى أن يقول ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياه لصالح الأعمال في كل حال ومآل).
وإمضاء هذه الإجازة كما يأتي: -
(رقعة بقلمه أحقر عباد الفتاح، الفقير بالحق على بن محمد بن محمد ابن علي الجراح، خادم الفقراء الضعفاء بدار الشفا بمصر المحروسة ومصلياً ومسلماً ومحمداً ومحوقلا
ومستغفراً بتاريخ صفر الخير من شهور سنة إحدى عشرة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها افضل الصلاة والسلام، والحمد لله وحده).
وقد كان الصيادلة أيضاً خاضعين للرقابة في أعمالهم يؤدون امتحاناً خاصاً قبل اشتغالهم بهذه الصناعة حتى يوثق من علمهم بالأدوية والعقاقير، ويؤمن مغبة غلطهم في إعطاء الأدوية والعقاقير. . .
يذكر ابن أصبيعة في الجز الأول من مؤلفه طبقات الأطباء ضمن شرح حال زكريا الطيفوري الطبيب - وكان من مشاهير الأطباء في زمن الخليفة المعتصم - قصة خلاصتها (انه بينما كان ألا فشين في معسكره وهو في محاربة بابك سنة221 هجرية وكان معه زكريا الطيفوري الطبيب أمره بإحضار جميع من في عسكره من التجار وحوانيتهم وصانعة كل رجل منهم، فرفع ذلك أليه؛ فلما بلغت القراءة بالقارئ إلى موضع الصيادلة قال ألا فشين لزكريا الطيفوري (يا زكريا ضبط هؤلاء الصيادلة عندي أولى مما تقدم فيه، فامتحنهم حتى نعرف منهم الناصح من غيره) فقال زكريا (أن يوسف لقوة الكيميائي) قال يوماً للمأمون (إنما آفة الكيمياء الصيادلة؛ فأن الصيدلاني لا يطلب الإنسان منه شيئاً من الأشياء كان عنده أم لم يكن إلا اخبره بأنه عنده، ودفع إليه شيئاً من الأشياء التي عنده، وقال هذا الذي طلبت. فأن رأى أمير المؤمنين أن يضع اسماً لا يعرف ويوجه جماعة إلى الصيادلة في طلبه لتبتاعه فليفعل) فقال المأمون (قد وضعت الاسم وهو شقطيثا (وهي ضيعة تقرب من مدينة السلام) ووجه المأمون جماعة من الرسل يسألهم عن شقطيثا فكلهم ذكر انه عنده واخذ الثمن من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته، فصاروا إلى المأمون بأشياء مختلفة، فمنهم من أنى ببعض البذور، ومنهم من أنى بقطعة من حجر، ومنهم أنى بوبر. فاستحسن المأمون نصح يوسف لقوة واهتم بأمر الصيادلة ومراقبتهم.
وبعد ذكر هذه الحكاية أشار زكريا الطيفوري على ألا فشين أن يمتحن الصيادلة، فاعجب ألا فشين برأي زكريا ودعا بدفتر الأشرو سنة فاخرج منها نحواً من عشرين اسماً ووجه إلى الصيادلة من يطلب منهم أدوية مسماة بتلك الأسماء، فبعضهم أنكرها وبعضهم ادعى معرفتها واخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته. فأمر الاثنين بإحضار جميع الصيادلة، فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفته تلك الأسماء منشورات أذان لهم فيها بالمقام
في عسكره ونفي الباقين عن العسكر ولم يأذن لواحد منهم في المقام. ونادى المنادى بنفيهم وبإباحة دم من وجد منهم في معسكره.
وكان من جملة وظائف المحتسب - وكانت يده مطلقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مراقبة الأطباء والكحالين والجراحين والمجبرين.
جاء في كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط ويحلفهم أن لا يعطوا أحداً دواء مراً، ولا يركبوا له سما، ولا يذكروا للنساء دواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، ولا يفشوا الاسرار، ولا يهتكوا الأستار، إلى غير ذلك من الأمر التي يجب على الأطباء مراعاتها في عملهم.
كما كان المحتسب أن يمتحن الأطباء بما ذكره حنين في كتابه المعروف (بمحنة الطبيب) وأما الكحالون فقد كانوا يمتحنون بكتاب العشر المقالات في العين لحنين أيضاً، وكان على المجبرين أن يؤدوا امتحاناً في المقالة السادسة من كناش بوليس الأجانيطي في الجبر الذي قام بنقله إلي العربية حنين بن اسحق.
وأما الجراحون كفان عليهم أن يكونوا ملمين بكتاب جالينوس الخاص بالجراحات والمراهم وان يعرفوا التشريح وما يتصل به.
وكان للمحتسب أيضاً مراقبة الصيادلة بمساعدة الأطباء والمتخصصين في معرفة الأدوية والعقاقير وإرشاداتهم.
إن وصف شتى البيمارستانات التي كانت منتشرة في مختلف البلاد الإسلامية وتبيان تاريخ بنائها بناتها وطريقة إدارة أو قافها وذكر أسماء أطبائها والطلبة الذين كانوا يتلقون العلم فيها يحتاج لبحث خاص، وقد وفي الموضوع حقه المرحوم الدكتور احمد بك عيسى في مؤلفه القيم (تاريخ البيمارستانات في السلام) وفيه يذكر رحمه الله أسماء ثمانين من هذه البيمارستانات التي كانت تدار في مصر وإيران والجزيرة وسريا وجزيرة العرب وبلاد الروم أي آسيا الصغرى واستنبول وبلاد المغرب والأندلس بتفصيل وافٍ فليرجع إليه من أراد التفصيل فهو خير مرجع في هذا الباب.
قاسم غني
الأدب والفن في أسبوع
الملك الأديب
كانت زيارة جلالة الملك فاروق في الأسبوع الماضي - مظهراً رائعاً من مظاهر الاخوة العربية، وقد تحدثت الصحف عن الملك عبد الله حديثاً ندياً تضمن كثيراً من شمائله وسجاياه. ومما يجعل أن يذكر هنا عن جلالته، رعايته للنهضة الأدبية في شرق الأردن، ومشاركته الفعلية فيها، فهو أدب ممتاز يطرب للأدب الرفيع، ويروي الشعر ويقوله، ويكتب بأسلوب بليغ، ولا يكاد مجلسه يخلو من الأدباء والشعراء، يطارحهم الشعر ويناقلهم حديث الأدب، وقد ولى كثيراً من الأدباء أهم المناصب في الحكومة.
وجلالته يعطف على الشعراء الشاب الذين عبروا بالشعر في بلاد شرق الأردن الشقيقة إلى مجال المذاهب الحديثة وأوجدوا هناك نهضة أدبية مرموقة.
والجيل الأردني الجديد يتابع النهضة الحركة الأدبية في مصر ويقبل إلى قراءة الصحف المصرية، ولا سيما المجالات الأدبية.
التعبير الحماسي والأناشيد:
يقول (البسام) في كتاب منه: (قرأت ما كتبته عن أنشودة فلسطين التي غناها عبد الوهاب والتي سميتها أنشودة ناعمة أتريد أن يقوى حنجرته ويعلى صوته كما يصنع البكار؟!)
لا، أيها البسام. أن التعبير الحماسي القوي إنما يكون في التاليف، أو التلحين، أو الإلقاء. ما يتكلم الرجل الذي يملك أعصابه ويضبط نفسه، بنبرات هادئة قوية معبرة عن باسه وسطوته، وهو غير اللين المائع، وغير الصاخب الصارخ. وأنا لم اسمع إلى الآن من الإذاعة المصرية نشيداً حماسياً، تتبعي وكثرة ما تذيع من الأناشيد، وعلى رغم الحوافز الحاضرة، وإنما قسم منها الناعم والمائع، أو الصراخ الذي يقلق النائمين ويزعج الآمنين، واكثر ما تقدم من النوع الأخير، ومثله هذه البرامج المأخوذة من التاريخ الإسلامي والتي يراد فيها أن يؤدى الحماس بالجلبة والأصوات المنكرة. ولن تؤدى هذه الأصوات ولا تلك الأناشيد الصارخة إلا إلى تصديع الرؤوس وإقلاق الراحة.
وقد قرأت في بعض الصحف شكايات مؤلفين وملحنين معروفين في الإذاعة المصرية لأنها لا تقبل إنتاجهم، ومنهم: بيرم التونسي وزكريا احمد، إذ ألف الأول نشيداً، ولحنه الثاني
وأخذته إذاعة القدس بعد أن أعرضت عنه الإذاعة المصرية. ونحن نستمع في الإذاعات العربية الأخرى أناشيد قوية لا نسمع منها من الإذاعة المصرية، وكثير من هذه الأناشيد من إنتاج مصريين.
الآفة هي - كما قلت في الأسبوع الماضي - في النطاق المضروب حول الإذاعة من المتصلين بموظفيها، فأنت تسمع أن النشيد أو البرنامج من تأليف فلان أو إخراج فلان، ولا يتغير هذا الفلان ولا يجدد شيئاً يحسن به علاقته بالمستمعين!
أهي سودنه أم جلنزة:
من أبناء السودان أن الحاكم العام أعلن الدستور السوداني الذي أراده الإنجليز، وتنص المادة (45) من هذا الدستور على أن (تكون الإجراءات في الجمعية ا (التشريعية) اللغة العربية ولكن بدون إخلال بما تدعو أليه حالة استعمال اللغة الإنجليزية متى كان ذلك)
وما دام الإنجليز هناك، فستكون اللغة العربية مخلة دائماً (بما تدعو أليه حالة استعمال اللغة الإنجليزية، وليس هذا جديداً، فالإنجليزية هي لغة التعلم في المدارس السودانية فيما عدى تعليم اللغة العربية، وهي لغة الحكومة السودانية في دواوينها ومكاتباتها وكل أعمالها، وذلك لان اللغة العربية تخل بحالة استعمال. الخ.
وهم يقولون انهم يقصدون السودنة من هذه الإجراءات. والسودان بلاد عربية لغتها العربية فهل من السودنة أن تهمل لغة السودان القومية. أو هي (جلنزة)؟.
ولك أن تقيس على ذلك سائر مشروعات السودنة.
من طرف المجالس:
كان موضوع الحديث هو مقال (أدباء معاصرون أرشحهم للخلود) لمعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وكان اكثر من بالمجلس من الأدباء الذين لم يذكرهم معاليه مه من رشحهم للخلود، وكان بعضهم ممن ذكروا ولم يرضهم الترتيب. وبدأ الحديث بالاحتجاج والتساؤل عن بعض الأسماء التي وردت في المقال، وذكر أسماء لم ترد فيه وكانت حرية بتقدير الباشا، ولكن سرعان ما انقلب الحديث إلى مجرى فكاهي سرت فيه روح الدعابة والمرح، عندما قال أحدهم:
لا عليكم. أن هذا (الكدر) لا بد أن يليه (تنسيق)
واستمرت المناقشة على هذا النحو أو على هذه (القافية) فمن قال انه من (المنسيين) وقال انه أحق من فلان (بالأقدمية) وقال ناشئ انه وان كان لا يطمع في التنسيق، ينتظر دوره في (تنميق التنسيق) وقال من يرضه أن يذكر مؤخراً: انه وان كان قد شمله حسن تقدير الباشا إلا انه يريد تصحيح الوضع حتى لا يتكرر في (الحركة) التالية تقديم من هو احدث عليه.
واستقر الرأي اخسراً على مطالبة معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بإصدار تنسيق الأدباء فانهم يعرضون القضية على (مجلس الدولة) مع تكليف (العباس) بان يبلغ معاليه هذا القرار على جناح الرسالة.
صرخة في واد:
أصدرت لجنة البيان العربي ديوان الأستاذ غنيم (صرخة في واد) وهو الديوان الذي فاز بجائزة الشعر الأول في مسابقة مجمع فؤاد الأول للغة العربية سنة 1947
وقد أهدى صاحب الديوان نسخة منه إلى السدة الملكية الكريمة، فتلقى من معالي رئيس ديوان جلالة الملك خطاباً يبلغه فيه شكر جلالته وتقديره السامي.
وشعر محمود غنيم يمتاز بعذوبة التعبير ووضوح الفكرة. وهو شاعر يحس إحساس الجماعة، فهو اكثر شعرائنا تناولاً المسائل القومية وتصويراً لأحوال المجتمع؛ وهو يتجه إلى هذا المذهب حتى فيما يصور فيه حياته الخاصة وما يحيط به، إذ يربط ذلك بالمائل الاجتماعية العامة؛ ويمزج كل ذلك بروح شعرية محببة إلى النفوس.
لذلك لم يكون ديوان غنيم، كما سماه، صرخة في واد.
الأدب والبلاغة في المدارس الثانية:
في سنة 1945 ألف وزارة المعارف لجة لبحث وسائل ترقية اللغة العربية في المدارس الثانوية والابتدائية، والنظر في البرامج والكتب المؤلفة وتيسير قواعد النحو، وشكلت اللجنة برئاسة الأستاذ احمد أمين بك وعضوية الأساتذة الجارم بك وإبراهيم مصطفى وبعد الحميد حسن ومحمد خلف الله ومحمد علي مصطفى، وعقدة اللجنة بعد تشكيلها بعض
الجلسات ثم وقفت أعمالها إلى أن تعيد تأليفها في فبراير سنة 1947 مع ضم الأستاذين منصور سليمان وزكي المهندس بك، والدكتورين عبد الوهاب عزام بك وعبد العزيز القوصي - إلى عضويتها. ووالت اللجنة عملها، ووضعت تقريراً ضمنته خلاصة أبحاثها ومقترحاتها في أغسطس الماضي. وعقد بعد ذلك المؤتمر الثقافي العربي الأول في لبنان، وكان هذا التقرير أساس مناقشات المؤتمر في مجموعها متفقة مع آراء اللجنة.
ورأت الوزارة أن تعرف آراء المشتغلين بتعليم اللغة العربية ومدرسيها الأوائل بالمدارس الثانوية ونخبة من مدرسيها، ليبدوا ملاحظاتهم عليها. وعقد رجال اللغة العربية بالوزارة مؤتمراً عاماً لهذا الغرض في فبراير الماضي، وانتهى المؤتمر إلى تأيد مقترحات اللجنة مع بعض التوصيات والرغبات التي رآها كفيلة بتنفيذ تلك المقترحات على الوجه الأكمل.
وأخيراً قدم الأستاذ إسماعيل القباني بك المستشار الفني لوزارة المعارف إلى معالي الوزير مذكرة لخص فيها محتويات التقرير ولا ملاحظات التي أبديت عليه في مؤتمر رجال اللغة العربية، كما ضمنها رأيه في تنفيذ تلك المقترحات، وقد وصف الأستاذ القباني بك ذلك التقرير بأنه ينم على جرأة في الأخذ بوسائل الإصلاح وميل إلى التجديد ولكن من غير طرفة.
وقد كانت اللجنة جريئة حقاً فنفذت إلى صميم مشكلات تعليم اللغة في المدارس، وقد خصت الأدب والبلاغة بأكبر قسط من التغيير فأدخلت على مناهجهما تعديلاً شاملاً يتناول أسسها، قالت اللجنة في تقريرها أنها (لاحظت أن دراسة الأدب تبدأ في المناهج الحالية بدراسة التاريخ دون أن يكون للتلميذ محصول كافٍ من الأدب ترتكز عليه وأنها قد شغلت مكاناً فسيحاً من مناهج الدراسة ونالت قسطاً كبيراً من جهود المعلمين والتلاميذ حتى طفت على دراسة الأدب فأصبحت الفائدة منه قليلة. الطريقة الطبيعية في الدراسة الأدبية أن تبدأ بدراسة الأدب نفسه وتجعل له الحظ الأوفر من الجهد والاهتمام) وعلى هذا الأساس وضعت اللجنة منهج الأدب في سنوات التعليم الثانوي بحيث يكون النص محوراً للدراسة، ويعتبر التاريخ على هامش الأدب.
واستعرضت اللجنة تطور النقد العربي وصلة النقد بالبلاغة، ووصلت إلى أن تدريس البلاغة بشكلها المألوف لا يحقق الهدف المقصود من هذا اللون من الدراسة وهو تربية
الذوق الفني عبد التلاميذ أعانتهم إلى حسن فهم الجمال الأدبي وتذوقه وإنارة الطريق أمامهم في نواحي الخلق والإبداع الأدبي. لهذا رأت اللجنة أن تعود بالنقد إلى وظيفته الأولى وان تجعله جزءاً عملياً أصيلاً من دراسة النص، ورسمت له منهاجاً مدرجاً مرتبطاً من ناحية بمنهج النصوص ومناسباً من جهة أخرى للتطور الذهني عند التلاميذ، وجعلت اللجنة في السنتين الرابعة والخامسة مكاناً لبعض النواحي النظرية الأصيلة في النقد كدراسة الكلمة والجملة واثر كل منهما في أداة المعنى، وكدراسة طرق التصوير المختلفة وبيان ما فيها من جمال دون كثير تعرض للتفصيلات، وكدراسة الفنون الأدبية النثرية والشعرية وشروط جودتها وعرض نماذج منها.
وواضح من ذلك أن اللجنة إزالة هذه (البلاغة) التي تسخر فيها بالمنهج الحالي عقول التلاميذ، ووضعت مكانها (النقد الأدبي) بشكل مبسط مفيد، مما دعي بعض المتمسكين بتلك (الرياضات الذهنية) العقيمة إلى معارضة ما جاء فيه المنهج متعلقاً بذلك، وقد وافق مؤتمر رجال اللغة العربية على ما جاء قيه المنهج مع التوصية بان تكون دراسة البديع عملية في خلال دراسة النصوص الأدبية.
معرض الفنون الجميلة:
أقام اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، معرضه الأول بمتحف الفن الحديث بشارع قصر النيل. وقد افتتحه في هذا الأسبوع سعادة إلهامي حسين باشا.
ويضم هذا العرض مجموعة مختلفة من أعمال خريجي مدرسة الفنون الجميلة العليا في التصوير والنحت، ويتجه أصحابها في إنتاجهم اتجاهات مختلفة بحسب الشخصية الفنية لكل منهم، ولكنهم جميعاً يسيرون على مقتضى الأصول والثقافة الفنية التي تلقوها بمعهدهم. وهم يمثلون الجبة المحافظة بالنسبة لجماعة الفن المعاصر الذين يقتفون مذهب (السريالزم). وقد زرت معرض الفن المعاصر ثم زرت هذا المعرض، فوجدت الاختلاف بينهما بيدو على الأقل في وضوح الفكرة وظهور الجمال الفني في المعرض الثاني معرض الفنون الجميلة. ومما يذكر في أنصاف هؤلاء انهم يعيدون عن (الفوتوغرافية) ونقل الطبيعة كما هي، بل هم يتجهون في اكثر أعمالهم إلى رسم الخطوط المؤدية إلى الفكرة بصرف النظر عن الواقعية البحتة. وقد وقفت أمام كثير من تماثيلهم ولوحاتهم مأخوذاً بقوة
الأداء فيها، كالبنت المسكينة المشردة التي نحتها جمال السجيني، وليالي الكرنك لعبد السلام الشريف، والعامل الكدح الذي صوره محمد عبد الرحمن، ووادي الملوك لصلاح الدين طاهر، وعجوز لصبري عبد الغني، وزنوبا لعباس شهدي، وصورة الدكتور محمد ولى بك لعبد العزيز درويش. أما تمثال الأستاذ إسماعيل الأزهري فهو محتاج إلى أن يقال لمن يعرف الأستاذ الأزهري أن التمثال صنع له. .
ومما لاحظته أيضاً قي هذا المعرض وجود بضع صور تشبه صور جماعة الفن المعاصر في التحرر والغموض.
العباس
من هنا ومن هناك
الهدنة ووقف القتال:
الهدنة حلف سياسي وعسكري يعقده مندوبون سياسيون، ولا يبرم إلا بموافقة الحكومات علي، ما لم يكن المندوبون مفوضين في ذلك. والغرض من الهدنة التمهيد لعقد الصلح.
والهدنة نوعان: عامة وخاصة فالعامة توقف القتال في كل الجهات، والخاصة توقفه في بعض الجهات.
وهي سواء أكانت عامة أم خاصة لا مندوحة عن تحديد وقت لها تنتهي بانتهائه. وقد تبرم الهدنة الخاصة لساعات موقوتة. ويجب العناية التامة في تحديد الأيام والساعات تحديداً لا يحتمل التأويل، ذلك لان الحرب تستأنف بال إنذار عند مضي الزمن الموقوت.
وعلى الحكومات أن تخبر قوادها بالهدنة فوراً خشاة أن يقع خطاً منهم لا يمكن استدراكه.
وإذا وقعت معركة بعد عقد الهدنة وقبل أن يصل خبرها إلى القواد ردت الأسرى وأعيدت الغنائم، على ما في المادة 36 من معاهدة لاهاي.
وتوجب الهدنة عادة وقف الهجوم ومنع إطلاق النار وإرسال الجنود، إذا لم يكن في صك الهدنة ما يخلف ذلك. ولا يمكن حصر الأعمال الممنوعة في غضون الهدنة لان النظريات والعمليات متضاربة في هذا الشان. فبعض رجال القانون يوجبون الامتناع عن كل عمل فيه منفعة للعدو، وعلى ذلك فلا يجيزون ترميم الحصون المحاصرة أو زيادة المدافعين عنها ولا نقل الجيوش من مكان إلى احسن منه. وبعضهم لا يرون تحريم هذه الاعمال، بل يسمحون بنقل الجيوش وحشدها وإنشاء الخنادق ونحوها والتهيؤ لهجوم مقبل وغير ذلك من الاستعدادات، على أن يكون ذلك وراء خطوط الحرب.
ونظريتهم هذه هي المتبعة في الحروب.
فعلى الدول التي تريد تحريم عمل من العمال الحربية في غضون الهدنة أن تنص عليه في صك الهدنة.
ويجب أن يعاني بأمر تنظيم العلاقة بين الجيوش والآهلين أثناء الهدنة. ولا عادة أن تعين بقعة منعزلة (حيادية) بين الجيشين منعاً للهجوم، وان تكون المسافة بين المخافر الأمامية بعيدة، وان يمنع المرور فيها.
وأما الميرة والذخيرة فلا يسوغ إرسالها إلى الحصون المحاصرة عند رجال القانون الذين يوجبون المحافظة على الحالة الحاضرة، ولكن حرمان الجيوش المحاصرة من الميرة جعل الهدنة بلاء عليهم، وقد قيل أن الهدنة واحدة تكفي لتسليم اعظم القلاع. فالأنصاف ولا عدل يوجبان أن يرسل المحاصر إلى الجيش المحاصر ما يحتاج أليه من القوت أثناء الهدنة، لتكون حاله عند انتهاء الهدنة كما كانت عند إبرامها، فألمانيا سمحت بإرسال الميرة إلى حصون بوهميا سنة 1866 ولكنهم لم يبيحوا إرسالها إلى باريس سنة 1870.
وإذا نقض أحد الفريقين الهدنة حق للفريق الآخر أن ينقضها، على رأي بعض رجال القانون. ويرى غيرهم، أن على الفريق الآخر أن يدفع العدوان ثم يخبر عدوه بفسخ الهدنة ويستأنف الهجوم عليه إذا لم يكن هناك داعٍ للإسراع. ونقض الهدنة خيانة، على ما في الشرع الدولي كما في المادة 40 من معاهدة لاهاي؛ أما إذا أخل بضعة جنود بأحكامها فأنها لا تفسخ بل يعاقب المخالفون، على ما في المادة 41 من العاهدة المذكورة.
وهنالك ما يسمى (وقف القتال) وهو حلف يعقد لمدة قصيرة بين قوات الجيوش والفيالق بواسطة رسل الحرب، وينحصر في مواضع محدودة، وذلك لدفن القتلى ورفع الجرحى من ساحات القتال، ونحو ذلك.
صهيون كبرذون:
ينطق (صهيون) بعض كبار الأدباء في المذياع وغيره بفتح الصاد وضم الياء. وفي القاموس المحيط: صهيون.
في استجار الخراج:
من وصايا أهل الحكمة للملوك: المال قوة السلطان وعمارة المملكة، ولقاحة الأمن ونتاجه العدل وهو حصن السلطان ومادة الملك. والمال أقوى العدد على العدو، ومن حقه أن يؤخذ من حقه ويوضع في حقه. ولا يؤخذ من الرعية إلا ما فضل عن معاشها مصالحها، ثم ينفق ذلك في الوجوه التي يعود عليها نفعها. أيها الملك! مر جباة الأموال بالرفق ومجانبة الخرق، ومن جاوز في الحلب الدم، ومثل السلطان إذا حمل أهل الخراج حتى ضاعفوا على عمارة الأرضيين مثل من يقطع لحمه ويأكله، فهو وان قوى من ناحية فقد ضعف من
ناحية ومن ادخل على نفسه من الوجع والضعف اعظم مما دفع عن نفسه من ألم الجوع.
وما زال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم في الأندلس وأمر العدو في ضعف وانتقاض لما كانت الأرض مقطعة في أيدي الأجناد فكانوا يستغلونها يرفقون بالفلاحين ويربونهم كما يربي التجار تجارته، وكانت الأرض عامرة والأموال وافرة والأجناد متوافرين والكراع والسلاح فوق ما يحتاج أليه، إلى أن كان الأمر في آخر أيام ابن أبي عامر، فرد عطايا الجند مشاهرة بقبض الأموال على النطع، وقدم على الأرض جباة يجبونها فأكلوا الرعايا وأجتاحوا أموالهم واستضعفوهم، فتهارت الرعايا وضعفوا عن العمارة فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطات، وضعفت الأجناد وقوي العدو على بلاد المسلمين حتى اخذ الكثير منها. ولم يزل أمر المسلمين في نقص وأمر العدو في ظهور إلا أن دخلها المتلثمون فردوا ألا قطاعات كما كانت فبي الزمان القديم.
من شؤون الحرب في الإسلام:
درأت حرب في الأندلس بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا فوجدوا في المعترك قطعة من بيضة الحديد قدر ثلثها بما حوته من الراس، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيروا بانهزامهم يقولون: لقينا أقواماً هذا ضربهم، وكان أبطال الروم يرحلن إليها ليروها.
قال تعالى (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وهذا مشتمل على كل ما في مقدور البشر من العدة والأدلة والحيلة، وأول ذلك أن يقدم بين يدي اللقاء عملاً صالحاً من صدق ورد مظلمة وصلة رحم ودعاء مخلص وأمر بالمعروف وتغير منكر وأمثال ذلك وكان عمر راضون الله عليه يأمر بذلك ويقول: إنما تقولون بأعمالكم. وروي أن بريداً ورد عليه بفتح للمسلمين فقال له عمر: أي وقت لقيتم العدو؟ قال غدوة، قال ومتى انهزم؟ قال عند الزوال. فقال عمر أنا لله وأنا إليه راجعون! وقام الشرك بالأيمان من غدوة إلى الزوال!! لقد أحدثتم بعدى حدثاً أو أحدثت بعدكم حدثاً.
والشأن في استجادة القواد وانتخاب الأمراء وأصحاب الولاية فلا ينبغي أن يقدم على الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة والشجاعة ولا جرأة، ثبت الجنان صارم القلب جريئة، رابط الجأش صادق البأس ممن قد توسط الحروب، ومارس الرجال ومارسوه ونازل
الأقران وقارع الأبطال عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، وما الذي يجب شحنه بالحماة والأبطال من ذلك، بصيراً بصنوف العدو ومواقع الغرة منه ومواقف الشدة، فأنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كان جميعهم كأنهم مثله.
وليخف قائد الجيش العلامة التي هو مشهور بها، فأن عدوه أن يستعلم حيلته وألوان خيله ورايته، ولا يلزم خيمته ليلاً ونهاراً، ولبدل زيه ويغير خيمته ويعمي مكانه كي لا يلتمس عدوه. وإذا سكنت الحرب فلا يمشي في النفر اليسير من قومه خارج عسكره، فأن عيون عدوه قد انكبت عليه، وعلى هذا الوجه كسر المسلمون جيوش أفريقيا عند فتحها.
وقالوا: حسم الحرب الشجاعة، وقلبها التدبير، وعينها الحذر، وجناحها الطاعة، ولسانها المكيدة، وقائدها الرفق، وسائقها النصر.
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتنشلوا وتذهب ريحكم، واثبروا أن الله مع الصابرين) وهذه جماع آداب الجرب.
وقد أوضح الله لنا في كتابه العزيز علة النصر وعلة الهزيمة والفرار، فقال تعالى (أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) يعني أن تنصروا رسوله ودينه. وأما الهزيمة فعلتها المعاصي، قال تعالى (أن الذين تولوا منكم يوم التقي الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) أي بشؤون ذنوبهم.
واستوصوا قوم أكثم بن صيفي في حرب أرادوها فقال: اقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح فشل، ولا جماعة لمن اختلف. وتثبتوا فأن احزن الفريقين الركين.
أسامة
البريد الأدبي
خليفة مسيلمة:
نشرت (الرسالة بعددها رقم 781) كلمة منسوبة لي بعنوان (خليفة المتنبي) نضح فيها من ضعة نفسه ولؤم طبعه وحشاها بالإقذاع والفحش ومحاولة الدس والوقيعة والتطاول على ذي مقامٍ كريم تخفق القلوب بمحبته وإجلاله، ويعرفوا له الأزهر وأبنائه ماضياً مجيداً وحاضراً كريماً وديناً متيناً وخلقاً قويماً وميلاً عن الهوى وحباً للخير واعتصاماً بالله وبالحق، وحسبه انه قد اعتز بالله وحده، فاعزه وأيده أرضاه، فرضى عنه ورعاه وسدد خطاه، واصلح به ما فسد، أقام به ما اعوج وجمع به ما تفرق
وعزيز علينا أن تسمح (الرسالة) - وهي مجلة الأدب الرفيع - بنشر هذا الأسلوب الرخيص؛ ويغلب على ظني أن الأستاذ الزيات - وهو من هو - لم يتطلع على اصل هذه الكلمة، ولو اطلع عليها لما أجاز نشرها.
محمد سرحان
المدرس بكلية اللغة العربية
و (الرسالة) تسال الأستاذ: ماذا كان يصنع له كان في مكان المحرر؟ كلمة في نقد خلق من الأخلاق جاءتنا باسم عالم من علماء الدين، عمد فيها إلى التلويح لا إلى التصريح، وقصد منها إلى التهذيب لا إلى التجريح، فكيف يخطر ببالنا أن الكلام فيها على خلاف مقتضى الظاهر، وان في ورثة محمد من يفتري الكذب ويفتعل الشعر وينتحل الأسماء ويقصد السوء؟ وإذا كنا لا نطلب من أي كاتب أن يصدق على إمضائه شيخ الحارة ومأمور القسم، فكيف نرتكب مع حراس الدين ونماذج الخلق هذا الثم؟
رأي شاذ:
سمعنا من الإذاعة المصرية في يوم ماضي حديثاً في (شرع الله) لمدرس بحاث، نقل فيه رأياً شاذاً للنجم الطوفي يقدم فيه المصلحة على النص والإجماع، فرأيت من الواجب أن انشر كلمة مما قاله المترجمون لهذا الشيخ المتهم:
قال أبن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) ج6ص39: نجم اليد
سليمان الطوفي الحنبلي. شيعياً منحرفاً في الاعتقاد عن السنة. ووجد له في الرفض قصائد، ويلوح به في كثير من تصانيفه. واشتهر عنه الرفض والوقوع في أبي بكر وابنته عائشة رضوان الله عليهما، وفي غيرهما من جلة الصحابة رضوان الله عليهم، وظهر له في هذا المعنى أشعار بخطة نقلها عنه بعض من كان يصحبه ويظهر موافقة له فرفع ذلك إلى قاضي الحنابلة سعد الدين الحارثي وقامت عليه بذلك البينة فتقدم إلى بعض نوابه بضربه وتعزيزه وإشهاره، وطيف به ونودي عليه بذلك، وصرف عن جميع ما كان بيده من المدارس، وحبس أياماً ثم أطلق.
وقال ابن رجب الحنبلي كذلك في طبقات الحنابلة: لم يكن له يد في هذا الحديث، وفي كلامه فيه تخبط كثير. ولقد كذب هذا الرجل وفجر فيما رأى فيه عمر - من منعه الناس من تدوين الحديث -. ولما جاور في آخر عمره بالمدنية صحب السكاكيني شيخ الرافضة ونظم ما يتضمن السبب لأبي بكر. ذكر ذلك عن المطري حافظ المدينة ومؤرخها. وفي الدرر الكامنة للحافظ بن مجر قريب من ذلك. وإنما نقلت ما قاله فيه الحنابلة لان أصحابه اعرف به
محمد أسامة عليبة
إلى الأستاذ العباس:
حياك الله يا عباس وجعل أيامك كلها باسمة. فقد بلغت ما في النفس وشفيتها مما كان يعتلج فيها، وأبدت عما كانت تكنه من ألم لم أستطع أن تبدى به كلما مر بالسمع ما يطرب به ويردده الموسيقار محمد عبد الوهاب من شعر المرحوم شوقي بك في الثورة السورية حين صب الفرنسيون حمم مدافعهم على مدينة (دمشق) الخالدة، فأنظر إلي ما في قول الشاعر:
إذا عصف الحديد احمر أفق
…
على جنباته واسود أفق
من وصف حق ولفظ جزل وتصوير بدع يبعث في النفس الرهبة والروعة حين تستشعر حقيقة الواقع، وما يفعله عصف هذا الحديد الذي يحمر منه أفق ويسود آخر، ثم انظر ماذا تحس وأنت تستمع إلى الموسيقار حين يتخلع ويتفكك بهامة الألفاظ ذاتها، فيجعل من عصف الحديد ما يشبه عصف الحب أو الريحان؟
فحياك الله يا عباس على ما دعوت إليه عبد الوهاب، وحياه الله وبياه أن هو استجاب.
(دمشق)
أحمد أبو الطيب
لاظ أو غلى أيضاً:
قال الأستاذ محمد إسامة عليبة في كلمة وجيزة أراد بها زيادة التعريف بلاظ أو إلى - الرسالة عدد 780 - . واللاظ قوم من القوقازيين يسكنون على ساحل البحر الأسود، وهم قبيلة من الجركس.
والواقع أن اللاظ أو اللاز - كما ينطقها الأتراك - جيل من الناس يقيم على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الاسود، في حين أن الجركس يقيمون على الساحل الشرقي الشمالي لذلك البحر، ويفصل بين هؤلاء وبين أولئك مساكن الأرمن والكرج، وليس الاظ من الجركس في قليل أو كثير، بل هما شعبان مختلفان.
يقول العلماء: إن اللاظ من الشعوب القوقازية، نزحت من القوقاز إلى هذه البقعة من الأناضول من قديم، ولهم لغتهم الخاصة بهم إلى جانب اللغة التركية، ولهم صفات ومميزات تكون قوميتهم.
والثابت علمياً أن اللاظ يمتون بصلة القرابة إلى أمة الكرج القوقازية، لا الجر اكس كما يقول الأستاذ محمد أسامة عليبة.
على أن بعض الشاذين من الكتاب يعتقدون أن كل قوقازي جركس، وان كلمة الجركس تساوي كلمة القوقازي، كما أن هناك من تدفعه العصبية إلى مثل هذه الدعوى الواضحة البطلان.
وأنا أعيذ الأستاذ محمد أسامة عبيلة أن يكون من هؤلاء أو أولئك، فاللاظ شعب قوقازي، ولكنه ليس من الجركس، بل هو يمت بصلة القرابة إلى أمة الكرج القوقازية.
ولست أظن أن بأحد من القراء حاجة إلى بيان أن الكرج غير الجركس وان كنا شعبين قوقازين.
(حلوان)
برهان الدين الداغستاني
أهو تجديد في الشعر؟
في جريدة (الزمان) المسائية العدد 185 اطلعت على قصيدة بعنوان (المصريون) للأستاذ الشاعر محمد الأسمر محرر ركن الأدب بها، استوقفني منها بيتان وقفت حيالهما موقف السائل المستريب. قال في سياق القصيدة:
(جيوش تراها كالظلام إذا دجا)
…
وما هي إلا في الحقيقة نور
ثم قال بعد أبيات:
(جيوش تراها كالظلام إذا دجا)
…
رأيت عليها الموت وهو منير
أقول - أنا السائل المستريب - ما الحكمة الغالية من تكرر شطر برمته، ويتردد لحن بنغمته، في قصيدة لا تزيد أبياتها على العاشرة؟!
أهو قوة البيت في معناه، أم هو جماله في مبناه، أم هو شيء جديد يراد منه التجديد في بناء القصيد؟!
(الزيتون)
عدنان
القصص
جناية وصية!
عن الإنجليزية
- 1 -
في بقعة من بقع الريف الجميل، جلس المفتش البوليسي (باول) في مجلس من الأصدقاء، بين أشجار الحديقة الباسقة وأزهارها الباسمة ذات الشذا المسكي. وقد عبث بها النسيم الرطب. فبعثت الطبيعة الجذابة في الجالسين حب الحديث؛ فاقترح أحد الجالسين على المفتش أن يمتعهم بسرد أغرب قضية حققها في حياته. فتظاهر المفتش بالكلال، إلا أن زوجته همست بصوت رقيق النبرات لتبعث في زوجها الشجاعة والأقدام على سرد القصة فقالت له:
- لماذا لا تقص عليهم قضية (سيرفين)؟؟. أنها في الواقع قضية غريبة في بابها.
فنزل المفتش على حكم زوجته. فاعتدل في مجلسه أشعل غليونه. . وأرسل أفكاره في جو القصة وشعر أخيراً يقول:
- تبدأ هذه القصة على وجه التحديد في غرفة شبه معتمة، بها عجوز شمطاء مسجاة فوق سريرها. جاوزت التسعين من عمرها. وقد تغلل المرض الفتاك في جسمها الهزيل، فكانت تتنازع أنفسها بمجهود كبير. ولم يكن بجانبها غير رجلين كانا يتطلعان إلى العجوز في لهفة وترقب. كانت العجوز تحتضر في تلك الليلة، إلا إنها كانت تصارع الموت فغي يأس وعناد. ولم يكن حبها للحياة هو الدافع إلى مقاومة الموت بهذا الإصرار. وإنما دافعها إلى ذلك حبها للمال ومعزتها له. فقد كانت اشد ما تخشاه أن تفارق ذلك الصم الذي أثرت عبادته على عبادة الله. فقد كان في العام المنصرم تتمتع بصحة موفورة. فما بال الموت يدهمها في النهاية ويغمرها على ملازمة الفراش، وانتظار الموت. وفقدان المال. وتركه في أياد تبعث به وتفنيه في أيام وقد جمعته في سنين!! على أن الطبيب كان يتوقع موتها بين لحظة وأخرى - ولكن حبها للحياة - أو حبها للمال - بعبارة أخرى، ظل يدفع عنها الموت إلى أن حانت الساعة وقبل ملك الموت يتحدى الحياة. . .
وأما الرجلان فما كانا يرقبان إلا موتها ليضعا يديهما على ثروتها الضخمة. فقد طال عليها انتظار موتها حتى امتد إلى الثلاثين عاماً. . ذاقا خلالها ألواناً من العذاب، وضروباً من الإهانات التي كانت تمطرهما بها عمتهما القاسية الشحيحة. حتى تبدد أملهما وظنا أن موتهم سوف يسبق موتها!.
وبينما هما يدمنان النظر إليها وهي تتابع أنفاسها المتلاحقة. إذ بجسمها يختلج، وصدرها ينقبض. فابتسم أحد الرجلين وهمس في آذن أخيه:
- أكبر ظني أنها في النزاع الأخير يا (موريس) فيرد عليه موريس شقيقه الأصغر:
- نعم، يا (شارلس) - لم يبق غير دقائق معدودة. فعلى ما يبدو لي أن ما نسمعه من أنين هو حشرجة الموت!. وفي هذه اللحظات، فاضت روح العجوز، فتنفس الشقيقين الصعداء. وغمر الفرح صدريهما، حتى كادا يبديان سرورها بالتهاني لولا أن اعتراهما الخجل. حينما أعلن الطبيب موتها بشيء من الألم.
- 2 -
وما كادت جثة العجوز تواري التراب في صباح اليوم التالي، حتى أسرع الأخوان إلى مكتب محامي عمتهما للاطلاع على وصيتها. وقد أدهشهما أن استقبلهما ابن المحامي مبدياً اعتذاره عن والده إذ قال:
- إن أبي مريض منذ شهور. أظنكما أبناء أخي السيدة (سيفرين) لقد كنت أتوقع قدومكما وسآتيكما بالوصية بعد لحظات.
ابتسم ألا رجلان، وجلسا ينتظران عودة ابن المحامي. وكانت الدقيقة كأنها ساعة. حتى ابن المحامي يحمل غلافاً مختوماً، فقال وهو يفض أختامه.
- هل تريدان أن أقرا لكم الوصية أو أعطيكما إياها لقرأتها ودراستها؟؟. فأشارا بقراءتها:
فقال إذاً فسأصرف النظر عن القسم الخاص بمكافآت الخدم.
وأقرأ الشطر الخاص بكما فأمن (موريس)(وتشارلس) على رأيه. فاستطرد ابن المحامي يقول:
- أقول لكما أن شروط الوصية فيما يختص بكما من الغرابة بمكان؛ ولهذا أرى أن تقراها بأنفسكما. ودفع لهما الوصية. فأخذها (تشارلس) واخذ يقرا ما يلي:
(وأما ابنا أخوى اللذان انتظرا موتي بصبر وجلد، فأن حديثي أليهما قصير. يقولون أن الصبر فضيلة. ولا بد له من حسن الجزاء، ومع أن أبني أخي سيحصلان على جزائهما الحق في جهنم، فيجب أن يحصلا على جزائهما في الأرض قبل السماء.
لقد فكرت في أن ادعهما يتقاسمان ثروتي. ولكن لم ألبث أن خطرت ببالي فكرة افضل كثيراً من ذلك. لقد انتظرا طويلاً. وصبرا كثيراً، أفلا يكون (من بواعث رضاي في مثواي أن أرى أيها اعظم صبراً واكثر جلداً؟.
لهذا فكرت بان أوصي جميع ثروتي وعقاري لابن أخي الذي يستطيع أن يعمر في الحياة اكثر من احيه. فإذا مات أحدهما تؤول جميع ثروتي لمن بقى منهما على قيد الحياة. وفي أثناء حياة الاثنين احرم عليهما الحصول على قرش واحد من ثروتي!!.)
شهق الأخوان طويلاً. واحمر لونهما. وراح كل منهما يتطلع إلى الآخر في ذهول عظيم.
كانت الوصية بشروطها تحوي إيحاء وتحريضاً على أن يحاول كل من الأخوين قتل الآخر حتى يفوز بالثروة. لقد أرادت عمتهما الشيطانة أن تحطمهما بضربة واحدة. فافترق الأخوان. وعاش كل منهما على بعد من أخيه!.
- 3 -
وتحولت حيلتهما منذ ذلك اليوم إلى جحيم دائم، وقلق مستمر. تسرب الشك إلى كل منهما إلى الآخر. وكان الشيطان اللعين يوسوس لكل منهما أن يفتك بالآخر ليظفر بالثروة. وهزل جسماهما من فرط السهر واصبحا كشبحين لهما هيكل محطم لا حياة فيه ولا حراك!.
واتفق أن عثر (تشارلس) على موسوعة (بريطانيا) الطبية. فكان يسهر لياليه ساهدا لا يغمض له جفن. وهو فمسك بيده ذلك الكتاب يقتله قراءة ودراسة. وقعت عينه في الموسوعة على فصل عن (الأعشاب السامة) واسكنه نموها في إنجلترا. فخطرت (لتشارلس) فكرة شيطانية. فراح من ساعته يجد في الحصول على بعض الأعشاب السامة، فطحنها، ودس المسحوق الناتج في طعام أخيه (موريس) بخطة جهنمية - حتى تمت بالنجاح.
فحدد يوماً لارتكاب الجريمة. وبعد الانتهاء من خطته، سافر إلى بلدة مجاورة. فتناول (موريس) طعامه الممزوج بالسم. ولما عاد (تشارلس) من لندن في صباح اليوم التالي.
وجد أخاه في اشد حالات المرض. فاستشعر شيئاً من الندم. إلا أن بريق المال أطفأ تلك النار المتأججة. ولطالما بذل طبيب الأسرة مجهوداً جباراً لشفاء (موريس) إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح. فذهب ضحية لشروط الوصية!.
على أن (تشارلس) لم يجد صعوبة كبيرة في إقناع الطبيب بان الوفاة كانت طبيعية. ولزم بعد ذلك الصمت بضع أيام. قلم يطالب بالإرث مباشرة خشية أن يثير ذلك الريب، ويحرك الظنون. وفي ذلك الظرف الذي كان (تشارلس) مقسم الفكر بين وخز الضمير وجاذبية المال اخذ الناس يتكلمون ويتهامسون. وسرى بينهم الشك والارتياب في أمر (تشارلس) وانتشرت الإشاعات في كل الأمكنة بان وفاة (موريس) لم تكن طبيعية. وانه مات مقتولاً بسبب شروط الوصية. ولم يمض وقت طويل حتى تلقى البوليس رسائل من مجهولين فيها، اتهام صريح (لتشارلس)، وأصدر قاضي المقاطعة أمراً باستخراج الجثة وتشريحها. وسرعان ما اكتشف أثار السم في أمعاء الميت.
وما كدت أواجه تشارلس بالاتهام حتى خارت قواه، واعترف بما جنت يداه. وقدمته للمحاكمة. فكان مصيره الإعدام. ولم يزداد قلي حرقة ونفسي ألماً حينما أتذكر ساعة قيادته إلى الإعدام. فقد استحال في تلك اللحظة إلى شبح مخيف.
- 4 -
كف المفتش (باول) عن سرد القصة. فنظر أحد الجالسين إليه بحزن وقال:
- إنها قصة غريبة ومحزنة في وقت واحد!!.
- فنظر إليه المفتش باسماً متألماً. . وقال:
- في الواقع أن الباعث الأكبر على غرابة القصة لم يذكر بعد. فاستطرد يقول:
ومضت شهور. ونسى الناس كل شيء عن هذه القضية. إلى أن جاء يوم تلقيت فيه رسالة من رجل كان يعاني سكرات الموت في إحدى المستشفيات. قال الكاتب ف رسالته:
(أريد مقابلتك حتماً، فإن لدي معلومات خطيرة عن قضية (سيفرين). فاسبق بالمجيء اجلي. فقد يقول الأطباء. أن ساعتي محدودة.
وكان الخط من السقم بحيث لا يقرأ مما أكد لي أن حالة كاتبه جد خطيرة. فنظرت عجلان إلى التوقيع فإذا بي اقرأ (ستيفن دريك) وهو اسم لم يطرق سمعي قبل إلية. فركبت
سيارتي. ومضيت إلى المستشفى، ولما استعلمت من كاتب المستشفى عن (دريك) إلا لي انه نقل إلى المستشفى في صباح ذلك اليوم مصاباً بجروح قاتلة على اثر تصادم شديد بين سيارة كان يركبها، وسيارة نقل كبيرة، وان حالته تدعوا إلى اليأس!
ودخلت عليه في الحجرة. فإذا أرى بي شاباً ممدوداً فوق الفراش. يئن أنات الألم. ويتلوى كالأفعى من آلام الجروح. فلما رآني سكن ورسم على شفتيه ابتسامة الهزيل الياس، فابترني بقوله:
آه! إذاً فقد جئت أخيراً أيها المفتش بأول. يبدو أن الدهش يمتلكك لأنني اعرف اسمك، وأشار ألي بالجلوس. لقد كان شاباً جميل الوجه، مشرق الجبين، إلا انه كان بادي الإعياء من فرط ما ناله من آلام وما نزف من دمه. فاستطرد يقول لي:
(أنا (دريك) محامي قضية (سيفرين). أن بيني وبين الموت دقائق. ولكني اشعر برغبة ملحة في إشراك شخص آخر في سري قبل أن انطلق للاجتماع بعميلي في السماء؛ وقد هداني تفكيري إلى اختيارك لأبثك سري، وأوضح لك أمري، ولا سيما وأنت الرجل الذي قدم (تشالرس) إلى يد العدالة.
وأطال الشاب النظر إلى وجهي. ثم ابتسم بسخرية واستطرد:
- (يخيل إلى انك بدأت تفطن إلى ما أنت بسبيل قوله. نعم، أنا هو الرجل الذي كان يجب أن يوضع في حبل المشنقة بدلاً من (تشارلس) المسكين، ولكني لا اعني بذلك إنني الذي دسست السم لأخيه. كلا؛ أن (تشارلس) هو الذي فعل هذا، ولكني أنا الذي دفعته إلى ذلك، فقد كانت الوصية التي قرأتها على الرجلين مزيفة. كان المحامي المحتضر يتكلم بلهجة الساخر المتحدي، لا بلهجة النادم الباكي. ولا عجب فقد كان يعلم انه أصبح في مأمن من يد العدالة.
وواصل حديثه بقوله:
(أجل. لقد كانت الوصية مزيفة، فقد كتبتها بعد طوال تفكير. كتبتها على أمل أن تجني، وفعلاً جنت على نفسين لا ذنب لهما. لقد جعلت في محتوياتها شرطاً يكفي لحض (موريس) و (تشارلس) على أن يجني أحدهما على الآخر فيقتله. وهذا هو متمناي أن يقتل أحدهما الآخر. أما لماذا كنت أسعى لذلك، فالأمر جلي بسيط. ذلك أنني كنت قد بعثرت
إرثهما في المضاربات المالية، وما يماثلها من ضروب المراهنة. ولم يكن ثم خطر يتهدد ني عندما كانت العجوز (سيفرين) على قيد الحياة. إلا أن الموقف تغير بعد موتها واصبح خطير الجانب، مرهوب الظهر!. فقد كان من المحقق مطالبة الأخوين بإرثهما. وعندئذ تتجلى الحقيقة، وتسوء العقبى.
ثم توقف (المحامي) قليلاً. وتنفس طويلاً. ثم أردف:
- إنك بالطبع تعرف بقية القصة. فعندما ماتت (سيفرين) اضطررت ' إلى تزيف الوصي الجانبية العاتية، وأنا آمل أن تدفع شروطها أحد الوارثين إلى قتل الآخر، فقد مضى أسبوعان بعد وفاة العجوز ولم يقدم أحد الرجلين على جريمة القتل؛ فلجأت إلى حيلة أخرى لأحثهما على ارتكاب الجريمة. فوضعت (الموسوعة البريطانية) في متناول يد (تشارلس) وأنا آمل أن يلجأ إلى استخدام أحد السموم المذكورة فيها للتخلص من (موريس).
وقد نجحت خطتي بالتخلص من (موريس) فرحت أبت الدعايات وأنشر الإشاعات، في طول المدينة وعرضها، مؤداها أن (موريس) مات مسموماً. وقمت أيضاً بإرسال الكثير من الرسائل المجهولة إلى البوليس ألقي فها تهمة موت (موريس) على أخيه (تشارلس).
(وانتهى الأمر كما تعلم بإعدام (تشارلس) المسكين!. ولكن. حل بي انتقام السماء.)
ثم كف بعد ذلك عن الكلام. فأدهشني انفجاره في الضحك. وبعد لحظات همد جسمه.
سيد أحمد قناوي