المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 785 - بتاريخ: 19 - 07 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٨٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 785

- بتاريخ: 19 - 07 - 1948

ص: -1

‌قضية مكسوبة

للأستاذ عباس محمود العقاد

يحمل صديقنا (الأستاذ الحداد) مطارقه كلها في هذه الأيام.

ويضرب بهذه المطارق كلها على رؤوس الصهيونيين!

فتارة يتناول التلمود ويكشف عما فيه من الوصايا الخفية، وتارة أخرى يتناول المجامع العليا وما تأتمر به من مؤامراتها الجهنمية، ويعرض أحياناً للماسونية التي تتخذ هيكل سليمان شعاراً لها ولا تخلو من صلة بسياسة إسرائيل، ويعرض أحياناً أخرى لدسائس القوم في العصر الحديث وهي نمط منقح من دسائسهم في كل تاريخ قديم.

وحسناً صنع الحداد.

فإنه على الأقل ليضرب بمطارقه حيث تنزل مطارق الله.

وما نزلت مطارق الله على قوم كما نزلت على هؤلاء (شعبه المختار). . . فكأنهم شعبه المختار بمعنى واحد، وهو معنى الاختيار للنقمة والعقاب.

وآخر ما قرأته له في هذه الحملة الحدادية كلامه عن كتابة التوراة العبرية في عهد موسى عليه السلام.

فهو ينفي كتابة الأسفار الخمسة التي تنسب إلى موسى عليه السلام في عهده، ويستدل على ذلك بتاريخ الكتابة بين العبرانيين.

ومن المحقق أن هذه الأسفار الخمسة كتبت بعد عصر موسى عليه السلام بزمن طويل، وليس أكثر من الأدلة التاريخية القاطعة التي لا تدع لذرة من الشك موضعاً في ثبوت هذه الحقيقة؛ ولا حاجة بنا ولا بالأستاذ الحداد إلى سرد هذه الأدلة التاريخية المطولة؛ فإنه نصوص الأسفار الخمسة نفسها تغنينا عن كل دليل.

إذ تروي هذه الأسفار فيما تروي نبأ ملك قديم قام في بني إسرائيل. ومعنى ذلك أن هذه الرواية كتبت بعد قيام الملك فيهم على عهد شارل وداود وسليمان: أي بعد موسى بثمانية أو تسعة قرون.

ومن أعجب العجب أن تنسب هذه الأسفار إلى موسى وفيها وصف موته ودفنه، ومقارنة بينه وبين التابعين له من الأنبياء.

ص: 1

ففي الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية: (فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفنه في الجوا في أرض موآب مقابل بيت قغور ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم).

وفي ذلك الإصحاح أنه لم يقم بعد موسى في إسرائيل نبي مثله، ومعنى ذلك أن الإصحاح كتب بعد قيام أنبياء كثيرين تنعقد المقارنة بينهم وبين موسى عليه السلام.

فمن الثابت قطعاً أن هذه الأسفار العبرية كتبت بعد عصر موسى عليه السلام بعدة قرون.

ولكنني أكتب هذا المقال لأبسط فيه الرجاء إلى صديقنا الحداد أن يرجئ حملته على هذه (المستندات) العبرية، لأنها قد تنفعنا في قضية مكسوبة إن شاء الله. وهذا هو خط سير القضية التي نعتمد فيها على تلك المستندات، حتى ينكرها الصهيونيون فنكسب، أو يعترفوا بها فنكسب، ونحن الكاسبون على الحالتين.

فتحت محكمة العدل الدولية عن مندوب مصر يطالب عصابة إسرائيل بعشرين مليوناً من الجنيهات الذهبية.

قال القاضي لمندوب مصر: علام تستند في دعواك؟

قال المندوب على وثيقة لا يطعن فيها الصهيونيون!

قال القاضي: أين هي؟

قال المندوب هي هذه، ودفع إليه بنسخة من التوراة العبرية.

ويظهر أن الأوربيون والغربيين لا يقرءون التوراة في هذه الأيام؛ لأنهم لو كانوا يقرءونها لعرفوا منها تأريخ هؤلاء القوم، وعرفوا منها أن أنبياءهم كانوا يصفونهم مرة بعد مرة بالتمرد والعصيان وغلظ الزقاب، وأنهم ما يرحوا منذ كانوا على شقاق وشغب واضطراب.

قال القاضي: وماذا في هذه الوثيقة مما يثبت دعواك؟

قال مندوب مصر: في الإصحاح الثالث من سفر الخروج: (يكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين. بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبنائكم فتسلبون المصريين).

قال القاضي: هذه نية. هذا شروع، فهل تمت الجريمة.

قال مندوب مصر: نعم تمت. فقد جاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج أيضاً

ص: 2

(إن بني إسرائيل ارتحلوا. . . نحو ست مئة ماش من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيف كثير أيضاً مع غنم وبقر مواشي وافرة جداً).

وجاء في الإصحاح قبل ذلك (أنهم طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً، وأعطى الرب نعمة في عيون المصريين حتى أغاروهم فسلبوا المصريين).

فسأل القاضي مندوب مصر: ولكن علام بنيتم تقديركم للمبلغ المطلوب؟

قال المندوب: ثابت يا حضرات القضاة من هذه الوثيقة أن عدد رجال فقط من بني إسرائيل كان ستمائة ألف رجل، عدا النساء والأولاد، فلا يقل عددهم جميعاً إذن عن ثلاثة ملايين.

وثابت من هذه الوثيقة أنهم كان معهم لفيف كثير.

وثابت منها أن المواشي التي أخذوها كانت كثيرة جداً.

وثابت منها أنهم أخذوا أمتعة ذهب وفضة وثياباً موشاة مما يلبس في الأعراس.

فإذا قدرنا هذا - مع الفوائد المستحقة في نيف وثلاثين قرناً - فليس هنالك أقل مبالغة في تقديره بعشرين مليوناً من الجنيهات الذهبية.

فتداول القضاة قليلاً فيما بينهم ثم سأل رئيسهم مندوب عصابة إسرائيل:

ما قولك في الدين المطلوب؟

قال المندوب الصهيوني: إني أنكره ولا أعترف به.

قال رئيس القضاة: ولك؟ هل تطعن في الوثيقة؟

قال: كلا. لا أطعن في الوثيقة.

قال القاضي: إذن، هل تطعن في التقدير؟

فالتفت المندوب إلى مستشاريه، وتداولوا الرأي فيما بينهم ملياً، فتبين لهم أن الطعن في التقدير ينتهي إلى الحكم بمبلغ كثير أو قليل على كل حال. ثم عاد مندوبهم إلى الكلام وهو يقول:

إننا يا حضرات القضاة لا نطعن في الوثيقة ولا نطعن في التقدير، ولكننا نطلب الحكم بسقوط الدعوى لمضي المدة.

فنظر القاضي إلى مندوب مصر سائلاً:

ص: 3

ما جوابك على هذا الدفع؟

قال المندوب: جوابي أن المدة التي مضت على هذا الدين المعترف به هي المدة التي مضت على حق القوم المزعوم في ملك فلسطين. فإن سقطت الدعوى هناك.

ولم يسع القاضي إلا أن يسأل الطرفين:

أتوافقون إذن على إسقاط الدعوى جملة في هذه الوثيقة؟

قال مندوب إسرائيل على عادة القوم في كل مطلب وفي كل دعوى: بل تعتبر القضية قائمة في دعوى صهيون، وتسقط القضية في دعوى المصريين!

أنت ترى (خط سير القضية). . . وأنت رجل كيمي ورجل أديب، ولكنك لا تجهل أن الدعوى مكسوبة على الحالتين، وأن ساورتك الظنون كما تساورنا في محاكم الدول وهيئات التحكيم.

فهلا رفعت من مطارقك التي تهوي بها على هؤلاء القوم مطرقة واحدة إلى حين؟

هلا رفعت عتهم مطرقتك التي تهوى بها علي (مستندهم) القديم؟

ارفعها قليلاً. وتكون يومئذ قد صنعت بهم ما صنع الحداد.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌هذا يوم الحساب

التعويضات والغرامات على اليهود

للأستاذ نقولا الحداد

ينص البند 9 الأخير من مقترحات برنادوت على أن (يعترف عنصراً الاتحاد بحقوق سكان فلسطين الذين اضطرتهم ظروف القتال إلى مغادرة بيوتهم وممتلكاتهم في العودة إليها دون قيد وفي استعادة كل أملاكهم).

كثر الله خيرك يا سيد برنادوت جزاء إذنك بعودة العرب المشردين من بلادهم بسبب وحشية اليهود وفظائعهم، ومنحك إياهم حق استعادة أملاكهم! فهل لاح في خاطرك أن العرب ليس لهم في الرجوع إلى بيوتهم وفي استرداد أملاكهم ولكنك تتفضل أنت بمنحهم هذا الحق؟

هل تعني أن تعاد لهم بيوتهم منسوفة متهدمة مدكوكة إلى الحضيض ولم يبق منها إلا أرضها مغطاة بالركام؟ وهل تعني أن تعود لهم بيوتهم فارغة من كل أثاث ورياش وسجاد فاخر إلى آخره، ومن كل مؤونة كما تركوها وكانوا قد ملئوها أغذية حاسبين حساب الارتباك وفقدان الأطعمة من الأسواق؟ وهل تعني أن تعاد لهم دكاكينهم فارغة من السلع الثمينة وغير الثمينة أو متهدمة كمنازلهم، أو أن تعاد إليهم مرافقهم ومصانعهم وجميع أسباب رزقهم وقد دمرت تمام الدمار ولم يبق لهم رسم الدار؟ وهل تعني أن تعاد لهم مدارسهم وقد خربت وجعلت مرابض للبغال والمدافع ومكامن للذخائر وأوعية للأقذار - أقذار الجوييم (أي الأنجاس)؟ وهل تعني أن تعاد لهم معابدهم، وقد تدنست بأدناس الصهيونيين الفحشاء، وأرجاسهم الداعرة، ونجاساتهم (الآرية). وهل تعني أن تعود لهم مزارعهم تالفة الزراعات محصودة الغلات، وبساتينهم مقطعة الأشجار والأغصان ومأكولة البرتقال والأثمار؟

إن الذين غادروا بلادهم هم العرب وحدهم، وقد هربوا من طغيان اليهود العتاة، ففروا إلى إخوانهم العرب مستنجدين. أما اليهود فلم يغادروا مدنهم ومستعمراتهم لأن العرب لم يضطروهم إلى الهرب بأي سبب. والى أين يهربون وحولهم خصومهم من كل صوب، فإلى أي جهة فروا وجدوا أنفسهم في (أحضان العرب الخصوم يعاملونهم معاملة الخصم

ص: 5

الكريم.

سمعاً يا سيد برنادوت. لم تكن كارثة الفلسطينيين المشردين في مغادرة ديارهم وتخريبها ونهبها فقط. بل في ضياع أسباب معايشهم جميعاً وفقد أموالهم وإضاعة كسبهم ومتاجرهم في حين أنهم كانوا عالة على إخوانهم عرب مصر وشرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق على الرغم من أن هؤلاء الإخوان رحبوا بهم وما استثقلوا ضيافتهم بل قدموا لهم كل إعانة كأنهم أهل البيت ولكن النفوس الأبية لا تحتمل طول هذه الضيافة.

لا ندري كم من ملايين الجنيهات (لا الدولارات) خسر العرب في هذا التشريد فضلاً عن الأنفس الزكية والأرواح الثمينة التي أزهقتها فظاعات اليهود. كل هذه لم يحسب لهاالسيد برنادوت حساباً في تعطفه على العرب. ولكن العرب لا يصبرون على هذا الضيم مهما تناهوا في كرم الأخلاق لأن ضيفهم الجنس الصهيوني ساقط الأخلاق، معدوم الضمير، فلا يستحق سماحاً ولا مغفرة.

لذلك كان على الدول العربية جميعاً أن ت حصل حقوق العرب الفلسطينيين المادية (علاوة على الحق الوطني) من هؤلاء اليهود الطغاة الذين بلغ بهم الصلف كل مبلغ. وهذا التحصيل ليس بالصعب بل هو أسهل من السهل. أما أن نعتمد على قضاة برنادوت أو مجلس الأمن في تحصيل هذه الحقوق من يهود فلسطين أنفسهم فهو عبث، لأن اليهود لا يدفعون حقاً من تلقاء أنفسهم.

ولكن لإخوانهم في سائر البلاد العربية أموالاً وأملاكاً وأسهماً وأوراقاً مالية لا تحصى. وقد استنزفوها من ثروة البلاد بلا جهد ولا عناء. وكانوا يساعدون بشيء كثير منها الصهيونيين في تل أبيب - الصهيونيون الذين صنعوا هذه الكارثة الأليمة فلا يتعذر على الدول العربية أن تحصل تلك الغرامات والتعويضات من هؤلاء اليهود الأعوان. وللدول العربية عذر وجبه جداً في أحقية هذا التحصيل. وهو أن حوادث التفتيش عن الأشخاص الخطيرين في البلاد فضحت هذا العنصر الخطير (الجوييم) الذي يهيئ ثورة محلية يراد بها قلب الحكم الحاضر بحيث تكون عاقبته امتداد الصهيونية إلى مصر وجميع البلاد العربية. فكل يوم يظهر من تفتيش البوليس أشخاص يملكون أسلحة وقنابل ومنشورات بالعبرية والعربية تدل على أن في عزم الصهيونيين (الأبيبيين) أن يغزوا مصر حالما

ص: 6

ينتهون من غزو فلسطين. والانفجارات التي حدثت في حارة اليهود أخيراً تدل على أن هناك معمل الشيطان الصهيوني؛ فإن أولئك الذين نسفهم الانفجار كانوا يصنعون قنابل شديدة الانفجار جداً. فلماذا كانوا يصنعونها؟ ولمن؟ وعلى حساب من؟ وقيل إنهم كانوا يرسلونها إلى تل أبيب. وأخيراً جاءهم بلاغ من هناك أن احفظوا هذه المتفجرات عندكم إلى أن تذهب إليكم لأننا ذاهبون.

وكلنا يعلم أن بعضاً من الأشخاص الذين قبض عليهم كخطرين ووجدت عندهم منفجرات هم كبار أغنياء إسرائيل والقابضون على أعنة مالية البلاد. فكل هذه الأمور تبرر للحكومة المصرية وكل حكومة عربية أن تصادر أموال كل صهيوني ثبتت عليه شبهة الخطر، وأن تفرض ضريبة ثقيلة على كل صهيوني غيره استرداداً لما كان يرسله من المال إلى تل أبيب سراً لإعانة الصهيونية.

فإذا جرت الحكومة على هذه الخطة أمكنها أن تجمع التعويض اللازم للعرب الفلسطينيين، والغرامة التي هي جزاء فظاعات الصهيونيين. وليس في الشرائع المدنية أو الإلهية ما يمنع هذا الإجراء، فهو حق وأقل من الحق. فعسى أن تفكر الحكومة في هذا الموضوع، فهو جدير بأن يأخذ من اهتمامها كل مأخذ.

لا بد أن تنتهي الثورة الفلسطينية بالنصر إن شاء الله. فإذا رغبت الحكومات العربية أن تسترد خسائر العرب وتغرم الصهيونيين الغرامة اللازمة لثورتهم فلا تجد وسيل لتحصيل هذه التعويضات والغرامات غير هذه الوسيلة؛ فيحسن بها جميعاً أن تشرع في هذا العمل تواً. . .

نقولا الحداد

ص: 7

‌من أهداف الصهيونية

للأستاذ محمد أسامة عليبة

أنشأ الحركة الصهيونية في لندن سنة 1896 الدكتور هرتزل اليهودي النمساوي، واشتهرت باسم الصهيونية لأن أبرز من سعى إليها هي (جمعية صهيون) في النمسا، وهي جمعية تسمت باسم جبل في صحراء سينا عسكر فيه بنو إسرائيل لإقامة الصلاة بعد نجاتهم من فرعون.

وقد دخل بالتبشير بدينهم كثير من أمم شتى كالسيفرديم الذين انحدروا من سلالة الإسبانيين والبرتغاليين، والإيشكينازيم وهم يهود روسيا والنمسا وألمانيا والمجر، والمنفصلون وهم من آباء رومانيين وأمهات من يهود. . .

ولهم في الحركات السرية أعظم يد، ومن أبرزها (الماسونية).

وقد عقدت الجمعيات الصهيونية في (بال) في سويسرة مؤتمراً سنة 1897 وضعت فيه أسس نظام فتوحاتها في المستقبل على ضوء ما نجحت فيه من خططها، فكتبوا 24 محضراً تضمنت جماع الخطة والهدف الذي يبلغ باليهود إلى السيطرة على العالم معتمدة على المال والمؤامرات والاغتيالات والدعايات وبث القلق والاضطرابات خلقياً وعملياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وهم القائمون بإدارة السياسة اليهودية، العابثون بسياسة العالم تمهيداً لعودة ملكهم.

وذاعت هذه المحاضر وكان من شدة وقع ذلك أن استيقظ العالم الغربي النصراني لما تبيته له الصهيونية من سهام مسمومة. وأولى من وصل إلى هذه المحاضر هو اليكس نيقولا نيفتش عميد أشراف شرقي روسيا، فسلمها إلى سرج نيلوس وطلب إليه الاستفادة منها بما يحمي مصالح الوطن وعقائد أبنائه، فنشز كتابه عنها سنة 1919 فارتاع الصهيونيون لذيوعها وشكاً هرزل رئيسهم من اطلاع (الكفار) على أسرار هذه المحاضر، وقد حاولوا إنكارها، وحذر آخرون من أغراضها، وهذا مما يثبت أن اعتماد اليهود على الجمعيات والدعوات السرية كاعتمادهم على المال والرشوة واستخدام الوسائل الإرهابية في سبيل مطمعهم بالسيادة العالمية.

موجز المحضر الأول:

ص: 8

القوة الوحشية الغاشمة هي وحدها التي أخضعت الوحوش الضاربة التي تدعى بشراً، ثم خلفها القانون وهو نفس القوة، إلا أنها مقنعة. فالحق كائن في القوة. والذهب في عصرنا أعظم نفوذاً من الحكومات. والصفات السامية كالصدق والنزاهة هي عيوب ونقائص لا تصلح لنا هدفاً، وإنما القوة هدفنا، ويجب أن نتسلح بها للانقضاض على الأنظمة والشرائع وقلبها رأساً على عقب. وبسبب ضعف جميع السلطات في الوقت الحاضر يدوم سلطاننا لأنه مشيد على أسس متينة لا يمكن أن تنال منها الخدع والدسائس وقوة الشعب عمياء لا شعور لها وتنقاد إلى جميع الجهات ولا تقوم للمدنية قائمة إلا إذا قام فيها الحكم المطلق حكم الفرد. وعمالنا من معلمين وخدم ومربيات في دور الأغنياء ومستخدمونا في كل مكان، ونساؤنا في قاعات الملاهي يسوقون الشعوب إلى مهامي الانحلال الحلقي الذي يمهد لنا الوصول إلى أهدافنا. ويجب أن نتخذ العنف مبدأ والمكر والرياء قاعدة. ويجب أن لا نحجم عن الالتجاء إلى الرشوة والخداع والخيانة في سبيل بلوغ مآربنا. وينبغي الإقدام على اغتصاب ملك غيرنا إذا كان في ذلك ما يحقق سلطاننا. والقسوة التي لا تعرف اللين هي أول عامل في قوى دولتنا، وبها سنخضع جميع الحكومات لحكومتنا العليا.

موجز المحضر الثاني:

من مصلحة اليهود نقل الحروب إلى الميدان الاقتصادي لترى الأمم عظيم تفوقنا في هذا المضمار فيضطر الفريقان المتحاربان أن يكونا في يد عملائنا الدوليين، فنقبض على توجيه الشعوب إلى حيث أردنا. ولكي لا نقع في أخطاء سياسية وإدارية يجب أن لا تفوقنا العناية بآراء الشعوب وأخلاقها وميولها العصرية، مع المقايسة بين نتائج الماضي والحاضر.

وللصحافة قوتها التي لا تنكر، ولكن الدول لم تحسن الاستفادة من هذه القوة فوقعت في أيدينا، وقد استطعنا بواسطتها أن تحرز جانباً مدهشاً من النفوذ وأن نجمع الذهب الوهاج في قبضتنا.

موجز المحضر الثالث:

يجب أن نصل إلى فصل قوة الحكم البصيرة عن قوة الشعب العمياء لتفقد القوتان أثرهما،

ص: 9

وتصبحا عاجزتين كعجز الأعمى الذي يفقد عصاه. ولكي ندفع ذوي المطامع إلى إساءة استعمال السلطة وضعنا جميع القوى المتعارضة وجهاً لوجه وقوينا ميولها الحرة إلى الاستقلال، وشجعنا كل مشروع يؤدي إلى هذا الغرض وحولنا الممالك إلى ميادين للهرج والمرج. ومتى آن الأوان لأن نخلق بفضل وسائلنا السرية وذهبنا النضار ضائقة اقتصادية عامة، نقذف في نفس الوقت بجموع العمال الفقيرة إلى الشوارع في جميع البلدان الأوربية، فتقدم هذه الجماهير بلذة على قتل من هم في نظرها الساذج موضع حسدها وغيرتها وعلى نهب أموالهم، ولكنها لا تمس أتباعنا بسوء لعلمنا بساعة الهجوم ولاتخاذنا الحيطة للمحافظة على بني قومنا وإذا عدتم بالذكرى إلى الثورة الفرنسية وجدتم أن سر إعدادها لم يكن يخفى علينا لأنها كانت كلها من صنع أيدينا. ونحن الآن كقوة دولية في وضع منيع بحيث إذا هوجمنا في دولة دافعت عنا الدول الأخرى.

موجز المحضر الرابع:

يجب علينا أن نهدم الإيمان، وأن ننزع من النفوس المبادئ الإلهية والروحية، وأن نغرس بدلها حب الحسابات والحاجات المادية، وأن نشغل الناس بالأعمال التجارية والصناعية لتتجه الأفكار والمساعي إلى تحقيق المنافع الخاصة، فلا يشعرون بفتن عدوهم العام. ولتفكيك أوصال الجماعات المسيحية وتدميرها يجب أن تتخذ المضاربات قاعدة للصناعة فتخرج جميع الثروات التي تنتجها الصناعة وغيرها من حوزة أربابها إلى فوهة المضاربات فتبتلعها. وما هذه الفوهة إلا خزائننا.

موجز المحضر الخامس:

سيادة الاتحاد المسيحي علينا لا تطول مدتها لأننا بذرنا أصول الشقاق في كل مكان وأوجدنا التنافر بين مصالح المسيحيين المادية والوطنية، وأثرنا النعرات الدينية والعنصرية في بيئاتهم، وعلى كل حال لا تستطيع الدول اليوم عقد أي اتفاق مهما ضؤل شأنه بدون استطلاع رأينا وموافقتنا. يقول أنبياؤنا أن الله اصطفانا لنسود العالم ووهبنا النبوغ لتكلل أعمالنا بالنجاح. ولو كان لغيرنا مثل هذا لاستطاع مقاومتنا، ولكن القادم الجديد لا يساوي الساكن القديم. وسيكون القتال بيننا عنيفاً جداً بلا رحمة ولا شفقة مما لم يشهد العالم مثله.

ص: 10

أما أدعياء العبقرية فسيصلون متأخرين لأن المحرك الذي يدير الجهاز الحكومي غداً في قبضتنا، وما المحرك سوى الذهب، وحكماؤنا الذين وضعوا على الاقتصاد السياسي عرفونا تأثير الذهب العجيب في العالم. وهذا الذهب يجب أن يجمع الصناعة والتجارة في احتكاره، وهذا ما نحن ساعون إلى تحقيقه بواسطة أيد خفية لها اتصال بجميع أنحاء العالم. ومما يجب أن نعني به في حكومتنا العتيدة إضعاف الرأي العام بوسائل النقد والتقريع والمر، مع الاستمرار على هذا إلى أن تضمحل عادة التفكير، لأن التفكير يولد المعرضة. ويجب كذلك أن نشغل القوى العقلية بمناوشات خطابية عقيمة. والطريقة المثلى للاستيلاء على الرأي العام تنحصر في العمل على إقلاقه بأن يغمر بفيض من الآراء المتناقضة تأتيه من كل جانب باستمرار، فينتهي الأمر بضلال المسيحيين وغيرهم. ويجب أن نتخذ ما يجب لبلبلة الآراء واختلاف مسالك تربية النشء ليكون في كل أسرة اتجاهات متناقضة بحيث لا يستطيع الواحد فهم مراد الآخر، وبحيث لا يقوى كائن من كان على إعادة المياه إلى مجاريها، ومن تأثير هذه الطريقة وقوع الشقاق بين الأحزاب، وتفرق القوى المتجمعة ضدنا. أما ما يتعلق بثقافة البيئات المسيحية فعلينا أن نقبض على إرادتها بيد من حديد، ونتصرف في شؤونها بما يضممن وصولنا إلى أهدافنا.

موجز المضر السادس:

سننشئ مؤسسات للاحتكار تكون كخزائن للثروات الضخمة، ويكون لماليات المسيحيين الكبرى وللاعتمادات المالية للدول أوثق علاقة بها ليسهل ابتلاعها في غد أول نكبة سياسية ولما كانت الأرستقراطية المسيحية من حيث هي قوة سياسية قد اضمحلت فقد بقيت أملاكها العقارية، فهي تستطيع ما دامت موارد حرها أن تعرقل أهدافنا، فلا بد إذن من الاستيلاء على هذه الأملاك وحرمانها منها، وأنجح طريقة لذلك هي زيادة الضرائب. وللقضاء على صناعة غيرنا يجب تنشيط المضاربة واستثارة شهوة البذخ والترف، تلك الشهوة التي تلتهم الأموال بأقرب وقت. ثم نزيد أجور العمال، ولكنها زيادة لا ينتفعون منها، لأننا قد اتخذنا الحيطة لذلك برفع أثمان الحاجات الضرورية. ثم ندير معاولنا شطر الإنتاج لهدم أسسه، متوسلين ببعض الوسائل التي تمكننا من تعويد العمال الشغف بالمسكرات وخلق الفوضى. ولكيلا تنكشف حقيقة أغراضنا قبل الأوان يجب نتظاهر بالغيرة على خدمة طبقات العمال،

ص: 11

وبنشر المبادئ الاقتصادية.

موجز المحضر السابع:

إثارة الفتن والشغب والشقاق والبغضاء في جميع البلاد ستكون داعية إلى الاعتراف بمقدرتنا على بث روح الاضطراب أني شئنا ونشر أعلام النظام حيث أردنا. ودسائسنا المعتمدة على سياسة العقود الاقتصادية والمالية تزيد في تعقيد الشرك الذي نكون قد نصبناه في دوائر الدول. وأما في الشؤون التي تدخل في نطاق ما يسمونه (اللغة الرسمية) فنتخذ خطة معارضة تظهرنا بمظهر أهل الصلاح والإصلاح. وإزاء كل معارضة تثار ضدنا نكون على استعداد لدفع البلاد المجاورة إلى إثارة الحرب على من يجرؤ على معاكستنا، وإذا ما خطر لهذه البلاد نفسها أن تتحد مع عدونا عمدنا إلى دحرها بإعلان حرب عامة، وعضدنا في هذه السبيل هو الرأي العام الذي وضعته (السلطة العظمى) سلطة الصحافة في أيدينا. وهدفنا هو إظهار قوتنا للحكومات تارة بوسيلة التعديات الجنائية وطوراً بواسطة المدافع الأمريكية والصينية واليابانية.

موجز المحضر الثامن:

من الواجب أن يحاط نظام حكمنا بجميع قوى الحضارة من كتاب سياسيين وشراع محنكين وإداريين وغيرهم من أهل التخصص في العلوم العليا للوصول إلى أغراضنا. ولما كانت العلوم الاقتصادية لها شأن كبير وجب أن نعني بتعليمها لليهود، ويجب أن يكون حولنا جماعات من الصيارفة وأرباب الصناعات والرأسماليين، ولا سيما أصحاب الملايين لأن الحكم في النتيجة سيكون للأرقام.

موجز المحضر التاسع:

حكومتنا العليا وأن لم يكن لها صفة شرعية اليوم، لكن القضاة أصبح الآن في أيدينا نضع الشرائع ونصدر الأحكام، ولنا سلطة القائد العام، بل نحن نمارس الحكم بيد من حديد. ونحن مصدر الإرهاب المنتشر في كل صقع، وفي خدمتنا رجال ينتمون إلى مختلف العقائد والمبادئ من ملكيين وجمهوريين واشتراكيين وشيوعيين، ومن جميع أنواع الخياليين، يعملون في سبيل مصلحتنا، وجميع الدول تعاني المشقات والأهوال من جراء

ص: 12

هذه الحال، وتسعى جهدهم لاقرار السكينة وتبذل ما وسعها البذل في سبيل السلام. ما لم تعترف بحكومتنا العليا، وانقسام الشعوب إلى أحزاب دفعها بجملتها إلى أحضاننا، لأن النضال الحزبي لا يقوم إلا على المال وهو في قبضتنا. والذي كنا نخشاه هو قيام الألفة بين قوى الطبقة الحاكمة المثقفة وقوى الشعب الغاشمة؛ ولكننا احتطنا لذلك فأقمنا جداراً وحالة ذعر بين الفريقين.

موجز المحضر العاشر:

يجب أن نقاوم النزعة إلى البروز الشخصي بدفع الشعب إلى مكافحة من يطوح به الغرور إلى إشهار نفسه بالفعل والكلام، والشعب لا ينقاد لسوانا مادمنا نكافئه على طاعته ويقظته. ويجب أن تكون خططنا سديدة، ولذلك لا نسمح بعرضها على جماعة يتناقشون فيها كالمجالس التشريعية فتخرج منها وفي طياتها آثار جميع الآراء الخاطئة. ويجب أن نتوصل إلى جمع الحكومات كلها تحت سيطرتنا لإلغاء جميع الدساتير القائمة، ومما يجب التوسل به لبلوغ هذه الأهداف إثارة الشقاق والعداء والبغضاء بين الشعب والحكومة، وخلق المجاعات وبث جراثيم الأمراض وتعميم البؤس في كل مكان.

موجز المحضر الحادي عشر:

يجب أن نطرح من قاموس البشرية: حرية الصحافة وحرية الضمير ومبدأ الانتخاب لنستطيع بسط سلطاننا المعصوم الذي لا يرجع إلى صواب ولا يعترف بخطأ. ويجب أن نقمع كل حركة تثار ضد هدفنا هذا: والله قضى علينا ونحن شعبه المختار بالتشتيت الذي سبب ضعفنا، ولكن هذا الضعف هو الذي ولد هذه القوة التي قادتنا إلى أبواب السيادة العالمية.

موجز المحضر الثاني عشر:

للحرية عند الناس معان شتى، فيجب علينا أن نحصرها ونحدها بقولنا: هي حق التصرف بما يجيزه القانون. وفي وسع القانون أن يبدع أو ينقض كل ما من شأنه أن يغاير روح بربامجنا وأغراضنا: وأما الصحافة فيجب أن نكمح جماحها ونجعل منها مورداً لدولتنا فنسن الضرائب الصحفية، ونفرض ضماناً مالياً على كل صحيفة أو مطبعة، ثم نفرض

ص: 13

غرامات نقدية باهظة على المخالفات فنأمن شر الحملات الصحفية.

موجز المحضر الثالث عشر:

سعينا إلى اقتناص الرأي العام يمهد السبيل لإتمام أغراضنا، ولكي نحول أنظار الذين تهمهم السياسة إلى نواح أخرى، يجب أن نثير البحث في شؤون جديدة كالشؤون الصناعية وندعهم يتحمسون ويغضبون ما طاب لهم ذلك. ونقترح لنشغل الشعب عن شؤونه المهمة فتح أبواب الملاهي والألعاب ونقيم لها دوراً حافلة. كما يجب أن نشوق الأفكار إلى ابتداع أنواع النظريات الخيالية.

موجز المحضر الرابع عشر:

يجب أن لا نعترف بغير ديننا لأننا الشعب المختار، فيتحتم علينا أن نهدم جميع المذاهب الدينية، وأحياء الديانة الموسوية التي تستقر فيها القوى التهذيبية والأخلاقية، وستولى فلاسفتنا نقض العقائد المسيحية وغيرها، وقد نشرنا في البلاد التي يدعونها متقدمة أدباً إباحياً قذراً وسنواظب على دعمه.

موجز المحضر الخامس عشر:

يجب أن نكون سلطتنا قائمة على الإرهاب الذي سيرفعها إلى مرتبة المصطفين من لدن العزة الإلهية على نمط الأوتوقراطية الروسية عدوتنا اللدود في هذا العالم هي والبابوية معاً. اذكروا مثل إيطاليا الدامية التي أغرقها (سيلا) بالدماء، وأذاق الشعب الموت الأحمر، فأكبر الشعب فيه البسالة فمنحه مزايا العصمة والحصانة. والى أن نرتقي سدة الحكم يجب أن نضاعف عدد المحافل الماسونية في العالم، ونتخذها مقراً للاستخبارات ووسيلة لتسيير أعمالنا، ويكون من أعضاء هذه المحافل جميع رجال الشرطة لأن لهم شأناً خطيراً لاستطاعتهم كبح جماح من يعن له التمرد علينا، وفي وسعها أن تستر أعمالنا. وكل من سعى في عرقلة أعمالنا حل اغتياله. ولا يجوز في قضائنا اغتيال الأحكام لكيلا يفهم الشعب خطأ أحكامنا. وإذا وضع ملك إسرائيل التاج الذي تقدمه إليه الممالك الأوربية وغيرها على هامته المقدسة أصبح أباً للعالم أجمع.

موجز المحضر السادس عشر:

ص: 14

الجامعات العلمية القائمة الآن هي قوة مجتمعة متضامنة، فيجب تقويضها وتشييد غيرها على أن تحيا بروح جديدة، ويعد لها في الخفاء رؤساء وأساتذة يزودون بمناهج مفصله للتمهيد لأغراضنا، ويجب أن نطوي من المناهج مادة الحقوق المدنية وكل ما له صلة بالشؤون السياسية، ولا تعلم هذه العلوم إلا لبضعة عشر طالباً يختارون من ذوي المواهب، ثم يكونون تحت أمرتنا.

موجز محضر السابع عشر:

نقابات المحامين توجه مجهوداً دائماً إلى صالح الدفاع، فيجب وضعها ضمن إطار ليتسنى جعل أعضائها عمالاً للتنفيذ. وقد وجهنا جهودنا إلى إفساد رسالة الأكليريكية المسيحية التي تؤخر وصولنا إلى بعض أهدافنا فأخذ نفوذها يتداعى في نفوس الأمم، وعما قريب ستموت الديانة المسيحية، ثم تموت الأديان الأخرى نتيجة لمساعينا. ومتى حان الوقت لهدم الصرح البابوي جعلنا ملك اليهود البابا الصحيح للعالم والبطريرك الوحيد للكنيسة العالمية.

وسيكون قدوتنا في الحكم (فنشو) فتقبض كل يد من الأيدي المائة التي نمتلكها على لولب من لوالب الجهاز الاجتماعي فنستطيع الاطلاع على ما نريد بلا مساعدة من الشرطة الرسمية، والجاسوسية والوشاية لا يعدان من الأمور المشينة بل من الواجبات لنبلغ ما نريد بعونهما.

موجز المحضر الثامن عشر:

حينما نحتاج إلى تعزيز قوى الشرطة، نلجأ إلى افتعال الاضطراب والمظاهرات وإعلان سخط الشعب بلسان أشهر الخطباء، وحينئذ نتخذ من هذا ذريعة لإصدار الأوامر بمضاعفة المراقبة. والحكام القائمون الآن سنضطرهم إلى الإقرار بعجزهم عن حماية أنفسهم فيتخذون الحيطة لحماية أنفسهم جهاراً فنقضي بذلك على نفوذ السلطة. وأما حكومتنا فيتولى المحافظة عليها حرس خفي لأننا لا نقبل أن نسلم بوجود أعداء لا تقوي الحكومة على إخضاعهم. ويجب أن يظهر حاكمنا بمظهر من لا يستخدم السلطة لمنافعه الشخصية، فالتجمل بمثل ذلك يرفعه في نظر الشعب.

موجز المحضر التاسع عشر:

ص: 15

من الواجب علينا أن نشوق الشعب إلى رفع الشكاوي والاقتراحات إلى الحكومة لتحسين حاله، فيتسنى لنا بذلك الاطلاع على نقائص الشعب وأهوائه. ولكي يقلع الشعب عن تكريم الباسلين في مضمار الجرائم السياسية نعامل المجرمين السياسيين كمعاملة اللصوص والقاتلين فينظر الشعب إلى هؤلاء وأولئك نظرة الاحتقار والاستنصار.

موجز المحضر العشرين:

خلاصة أعمالنا ستتحول إلى قضية أرقام، فيتمتع الملك في حكومتنا بحق شرعي على الأملاك والأموال الخاصة بالشعب، فله حق المصادرة للمال اللازم لتسوية نظام التداول النقدي في البلاد، ولما كان جميع أموال الدولة ملكاً للجالس على العرش وجب أن لا يكون له ملك خاص لأنه لا يحق لمن يمتلك أموالاً خاصة أن يتمتع بملك الجميع. ولقد أحدثنا أزمات اقتصادية في البيئات المسيحية بقصد سحب النقود من التداول فاضطرت الحكومات إلى الرأسماليين تقترض منهم فصارت أسيرة لديهم، وهؤلاء الرأسماليون بوضعهم أيديهم على الصناعات الكبرى قضوا على الصناعات الصغرى فاضعفوا الشعب والدولة معاً.

والذهب بسبب سحبنا أكثر من التداول أصبح لا يكفي حاجات الناس، فيجب إصدار نقد من الورق أو الخشب حسب حاجة الشعب وزيادة عدده. والقرض الخارجي دليل على ضعف الدولة وعجزها، فالقروض كسيف (داموقليس) مصلت دائماً أبداً فوق رؤوس الحكام الذين يعجزون عن سد حاجات الدولة فيسرعون إلى التماس الصدقة من صيارفنا.

موجز محضر الحادي والعشرين:

دولتنا لا تحتاج إلى الخارج. وما فعلناه مع الدول من قرضها الأموال ثم استردادها مضاعفة لن يستطيع أحد أن يفعله معنا. بل سنلجأ عند الضرورة إلى القرض الداخلي، وفي غد الاكتتاب لهذا القرض نصعد الأسعار صعوداً مصطنعاً ليتوهم الناس كثرة الإقبال على الشراء، ثم نعلن أن صناديق الخزانة العامة قد امتلأت. وسنبطل نظام البورصات المالية ضناً بكرامة سلطتنا في أن نتعرض للنيل منها بسبب تقلبات أسعار السندات الحكومية، ونقيم بدلها مؤسسات كبرى للصداقة يكون عملها تحديد أثمان الأسهم التجارية بمقتضى نظرية الحكومة ويكون باستطاعتها أن تطرح في الأسواق يومياً من الأسهم

ص: 16

التجارية ما قيمته خمسمائة مليون.

موجز المحضر الثاني والعشرين:

في حوزتنا أعظم قوة حديثة في العالم: هي الذهب، ونستطيع في كل ساعة أن نخرج منه المقدار الذي يكفي لذهول العالم، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل في أن حكومتنا مختارة من لدن الله ومعدة منذ الأزل للحكم. وحكمنا سيؤسس على دعائم قوية ثابتة مستقلاً في إدارته لا ينقاد إلى الخطباء الخياليين الذين يكثرون من الكلام التافه وينادون بالمبادئ السامية الوهمية.

موجز المحضر الثالث والعشرين:

الشعب لا يخضع خضوعاً أعمى إلا ليد حديدية مستقلة تدرأ شر الغوائل الاجتماعية، وليس من هم الشعب أن يرى على رأس الحكم ملكاً بروح الملائكة بل هو يرهب الملك ذا السطوة والقوة والصولة. وعلى الملك أن يخمد اللهب بقتل كل مذنب ينتمي إلى الجمعيات السرية الثورية ولو اقتضى ذلك إلى فيضان الدماء. وهذا الشخص المصطفى من لدن الله هو الذي توكل إليه العزة الإلهية أمر سحق القوات التي تستفزها الغريزة البهيمية فتدعي إلى الحرية والحقوق الإنسانية، ثم نقول للشعوب بعد محق هذه القوى: احمدوا الله العلي واحنوا رؤوسكم لمن يتسم بسمة الأصفياء الذين اصطفاهم الرب لينقذكم هو وحده من برائن القوى الوحشية ومن جميع الشرور.

موجز المحضر الرابع والعشرين:

ملوكنا تختارهم لجنة مؤلفة من أعضاء ينتمون إلى النبي داود لا على أساس حق الوراثة، بل على أساس الصفات الممتازة والكفاية ويلقنونهم أسرار السياسة الخفية، ويطلعونهم على خطط الحكومة على أن يكتموا كل ذلك. وعلى ملكنا عماد البشر وسيد العالم أن يترفع عن الملذات الجسدية.

محمد أسامة عليبة

لخصت ما تقدم من كتاب أهداف الصهيونية تعريب فردريك

ص: 17

زريق

ص: 18

‌مصطفى البكري الصديقي

الدمشقي المقدسي الحنفي الرحالة

(1099هـ - 1162هـ1687م - 1748م)

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

هذه شخصية من رجال القرن الثاني عشر الهجري، نشأت في دمشق، وترعرعت في بيت المقدس وانتهى بها المطاف إلى مصر، وقد تركت لنا عدداً من الرحلات في الديار القدسية، وسوريا، والأناضول ومصر والحجاز. ومع أن هذه الرحلات ليست شيقة، ومع أن أسلوبها يمثل أسلوب القرن الثاني عشر الركيك، وبالرغم من انصراف صاحبها إلى الوعظ والإرشاد عن طريق التصوف، شأن حملة العلم من رجال ذلك القرن، إلا إنها تلقي نوراً على كثير من الحوادث، وتصف لنا حالة البلاد التي زارها في ذلك العهد المظلم. ونرجو أن نتمكن من تلخيص بعض هذه الرحلات للقراء الكرام ، وقد سبق أن نشرنا رحلتين قام بها صاحب الترجمة من دمشق إلى القدس وبالعكس في كتاب رحلات إلى ديار الشام، وذلك في سنة 1122هـ. وقد كتب ونظم الشيء الكثير. ويقول السيد حسن بن عبد اللطيف الحسيني المقدسي في كتابه (أعيان القدس في القرن الثاني عشر) أن مؤلفاته زادت على المئة. ويروي لنا المرادي في درره أن كلمته ظهرت في أرض الكنانة، وأن تلامذته ومريديه لما بلغوا مئة ألف أمر بعدم كتابة أسمائهم، وقال هذا شيء لا يدخل تحت عدد!.

وهو ابن كمال الدين بن علي بن كمال الدين عبد القادر محي الدين الدمشقي البكري الأستاذ الكبير والعارف الرباني ترجمة المرادي وأفرد له عشر صفحات ونعته (بأحد أفراد الزمان وصناديد الإجلاء من العلماء الأعلام والأولياء العظام العالم العلامة الأوحد أبر المعارف قطب الدين صاحب العوارف والمعارف والتآليف والتحريرات والآثار التي اشتهرت شرقاً وغرباً، وبعد صيتها في الناس محجماً وعرباً). كما ترجم له السيد حسن بن عبد اللطيف الحسيني في كتابه (أعيان القدس في القرن الثاني عشر).

ولد بدمشق سنة 1099هـ وتوفي والده وكان عمره ستة أشهر، فنشأ يتيماً في حجر ابن عمه، واشتغل بطلب العلم على شيوخ الشام وأجاز له محمد بن محمد البديري الدمياطي ولازم

ص: 19

الشيخ عبد الغني النابلسي وأخذ الطريقة الخلوتية ثم سكن بعد ذلك إيوان المدرسة الباذرائية وأخذ يدرس فيها فكثر طلابه ومريدوه.

وقام في سنة (1122هـ1710م) برحلته الأولى من دمشق إلى القدس وهي تشبه كثيراً رحلة أستاذه الشيخ عبد الغني النابلسي التي قام بها (1101 هـ1689م) وقد وصف فيها لنا الطريق، وما مر عليه من القرى والدساكر، وحالة الأمن ومرافقته الركب والغفرية، وخان عيون التجار الذي بناه سنان باشا، وهو خراب الآن يقع بالقرب منقرية شخبرة، ثم مدينة جنين لا حنين المحصنة، ثم تعرض اللصوص للركب، ثم طواحين وادي نابلس وكانت تسير على المياه وهي خراب الآن، ثم القدس، والحرم القدسي، وباقي المزارات، واجتمع وهو يدور مقام الإمام علي بن عليل العمري على ساحل البحر شمالي مدينة يافا بالشيخ نجم الدين بن خير الدين الرملي وكان نجم الدين مفتي مدينة الرملة حينذاك فدرس عليه الموطأ للإمام مالك. وقد جيء للشيخ بزنبق بري طيب الرائحة فقال إن والدي أي خير الدين قال فيه:

وزنبقة قد أشبهت كأس فضة

برأس قضيب من زمردة عجب

سداسي شكل كل زاوية له

على رأسها الأعلى هلال من الذهب

وعاد بعد ذلك إلى دمشق، ومنها إلى حلب ثم بغداد وانتقل سائحاً في البلاد الشامية، ثم دخل القدس ثانية سنة 1126. وكتاب رحلته الثانية، كما ألف كتابه ورد السحر المعروف (بالفتح القدسي والكشف الإنسي) وعمر بالقدس الخلوة التحتانية وكانت تقام بها الأذكار، ولها تعيين من خبز وأكل على تكية السلطان لمن أقام بها. وتزوج في القدس؛ وأرخ بعض رفاقه زواجه بقوله (زفت الزهراء للقمر).

وقدم من جهة دمشق وإلى مصر لزيارة القدس وهو الوزير رجب باشا، فزار صاحب الترجمة وصار له فيه اعتقاد، واصطحبه معه إلى مصر، فدخل مصر وأقام بها مدة، وأخذ عنه العلم والطريقة خلق كثير من أجلهم النجم محمد بن سالم الحفني. ثم زار السيد البدوي، ومن هناك إلى دمياط وأقام في جامع البحر وأخذ عن علامتها محمد البديري وأجازه إجازة عامة. ثم رجع إلى بلدة بيت المقدس عن طريق البحر وأقام فيها إلى سنة 1135 هـ. ونوجه إلى طرابلس الشام عن طريق البر ومنها إلى حمص وحماه، ونزل في بيت يسن القادري

ص: 20

الكيلاني شيخ السجادة القادرية وأخذ عنه الطريقة القادرية ومنها إلى حلب وكان واليها الوزير رجب باشا المتقدم ذكره. وأخذ عنه جماعة منهم الشيخ أحمد خطيب الخسروية الشهير بالبني. ثم توجه إلى دار السلطنة العلية فيها، وكان يتنقل بين مدارس، ويعكف على التأليف والإرشاد، وكلما سكن في جهة وشاع خبره يقصده الناس فيرتحل إلى غيرها. وفي سنة 1139هـ رجع عن طريق البر إلى حلب ونزل في الخسروية ثم توجه إلى بغداد ونزل في القادرية. وجاءه كتاب من شيخه عبد الغني النابلسي يحثه على العودة إلى الشام لأجل والدته فعزم وتوجه إلى الموصل فحلب فدمشق وحن إلى الأرض المقدسة فرحل متوجهاً إلى القاع العزيز وبلاد صفد سنة 1140 هـ وفي تلك السنة ولد له ولد هو الشيخ محمد كمال الدين.

وأقام في القدس يرشد ويصنف إلى سنة 1145هـ حين عزم على الحج مع رفقائه ومنهم (حسن بن مقلد الجيوشي)(الجيوشي الآن) شيخ ناحية بن صعب (قضاة طولكرم وأصلها طور كرم وهو الأصح) فتوجه إلى المزيريب ومنها إلى المدينة فمكة وعاد مع الركب الشامي إلى القدس.

وفي سنة 1148هـ سار للبلاد الرومية (تركيا الآن) فمر على بلاد صفد ودمشق، ثم دار السلطنة، وتوجه منها بحراً إلى الإسكندرية فوصلها في ثمانية أيام، ومنها إلى مصر. وعزم بعد ذلك على الرجوع للشام فدخل القدس، وكانت له بنت رآها مريضة وقد توفيت بعد ذلك فحزن عليها كثيراً. وفي سنة 1149هـ وجه إلى أرض الكنانة وصحبه جمع كثير، وظهرت كلمته، ولما جاوزا المائة ألف لم يعد يحصيهم. وحج وعاد إلى دمشق، وكان واليها إذ ذاك سليمان باشا العظمى (العظم) فنزل قرب الخانقاه السمساطية وتحول بعد ذلك إلى نابلس فمكث فيها مدة. وفي سنة 1152هـ توجه إلى القدس وبقى بها إلى سنة 1160هـ. ثم سار إلى مصر والساحل الشامي، فوصل مصر ونزل قريب الأزهر. ولما وصل قرية الزوابل تلقاه الأستاذ الحفني مع خلائق كثيرين من علماء مصر، وأقام يرشدهم ويزدحمون على بابه وقل من يتخلف عن تقبيل يديه. وفي سنة 1161 عزم على الحج. وأذ الطريقة النقشبندية عن مراد الأزبكي النجاري النقشبندي، وكان ينفق عن سعة، مثل أرباب لثروة وأهل الدنيا، ولم تكن له جهة يعرف منها كيف يفي بأدنى مصرف من نفقاته. وتوفي سنة 1162هـ بعد

ص: 21

عودته من الحج مبكياً عليه، ورثاء الشعراء وحزنت عليه مصر والشام وألوف من مريديه وأتباعه. ودفن بالقرافة في تربة المجاورين وقبره مشهور يزار ويتبرك به.

هذا هو الأستاذ الصديقي، الدمشقي، المقدسي، دفين مصر الذي ترك لنا في رحلاته الكثيرة تراثاً دفيناً نرجو أن نكشف لقراء العربية بعض آثاره تنويراً للأذهان عن قرن لا نعلم عنه إلا القليل أو ما هو أقل من القليل. . .

أحمد سامي الخالدي

ص: 22

‌من وحي الصوم:

هيام المتصوفين

للشيخ محمد رجب البيومي

(إلى أخي الأستاذ محمود فهمي البيومي، وصديقي الروحاني الأستاذ عبد اللطيف عيسى)

الحب! معنى ثائر عاصف، شعر به كل إنسان تتأجج في صدره لوعة، وتشتجر في جوانحه عاطفة، وهو على تباين أنواعه وتعدد ألوانه، مؤرق مفزع، يطوي بساط الأنس والدعة، ويغرس أشواك الضجر والتبرم. وسل الوالد أي حنين مشبوب يمزق أحشاءه حين يتشوف إلى نجله النازح راجياً آملاً. وسل الصديق أية لهفة حارة تضطرم في إحساسه حين يتطلع إلى أنباء صديقه الغائب، ويتلمس أسباب الحديث عنه في لذة وشغف. وسل الصب العاشق كم يذرف من الدموع الملتهبة إذا وقفت الحوائل في وجهه، وقامت السدود دون مبتغاه. بل وسل العارف بربه كم قاسى من المصاعب وتكبد من المشاق حتى رفرفت روحه في أجواء الملائكة، فنعمت بلذتها الكبرى، وظفرت بسعادتها الباقية؟

والحب الإلهي أسمى أنواع المحبة وأقدسها، وأن كان يكلف صاحبه من دمه وروحه ما تقشعر له الأبدان، فيقضي سحابة يومه وسواد ليله، شارد العقل، مبلبل الخاطر، يخاطبه الناس فلا يسمع، ويستعطفه ذووه فلا يجيب، فهو - في نظرهم - حاضر كغائب، وحي كميت، وما يزال يذيب نفسه ويعذب أحاسيسه حتى يصير شبحاً هائماً يرى في الوهم ولا يكاد يصدقه العيان. وهكذا الروح إذا قوى اتصالها، وشع ضياؤها، تمرست بالجسد الضيق فأنحلته وأسقمته، وهذا كله قليل غير كثير في جانب ما يبتغي العارف من لذة الوصل، ونعيم المشاهدة، ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر. . .

وليس التصوف حدثاً طارئاً في الشريعة الإسلامية، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم من كبار المتصوفين، وكانوا من النقاء والصفاء في درجة سامية. ثم خلف من بعدهم خلف لزموا نهجهم السوي وساروا في طريقهم العلوي، وإذن فقد كان التصوف بمعناه الفطري من صفات المسلم الأول يقبل عليه في ارتياح، وينجذب إليه في حنين، حتى تبدلت الحال وأنغمس المسلمون شيئاً فشيئاً في ما جلبته الحضارة من الترف والنعيم، وهنا بدأ التصوف يظهر بصورة جديدة، فقد أغضب هذا المصير قوماً عرفوا الله حق معرفته فاعتزلوا الناس،

ص: 23

ولاذوا بقمم الجبال ومطارح الفلوات، نائمين عما يغمر الحضريين من لذة ومتاع، وفي هذه الخلوات الهادئة هبطت عليهم أشعة السماء، فغمرت أرواحهم بالنور، ومدت اجتحتهم بالقوة، فحلقوا كالنسور في آفاق رحيبة، ورزقوا عيوناً بصيرة نافذة، وترى ما لا يراه الناظرون.

والشريعة الإسلامية لا تنكر الاتصال السماوي، بل إنها تذهب إلى تأييد بما تذكره عن كرامة الولي وحرمه العارف، وقد أسهب أئمة الإسلام في الدفاع عن المتصوفين، مستدلين بفيض زاخر من الآيات والأحاديث، وممن برزوا في هذا الميدان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وقد نصصت عليه بذاته لأني أرتاح كثيراً إلى منطقه الواضح، فهو لا يتمسك بالأدلة الظنية، ولا يلتفت إلى الموضوع من الأحاديث والأساطير وجاء ابن خلدون فأيد القوم تأييداً لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، فقد سلم لهم جميع ما يدعونه من كشف واتصال، وخوارق وكرامات. وإليك ما ذكره في مقدمته، قال:(ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب ذلك الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعف أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحس فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية، والعلوم اللدنية، وتقرب ذاته من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الروح ما لا يدرك سواهم، ويتصرفون بهمتهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم، والعظماء منهم لا يعتبون هذا الكشف ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يأمروا بالتكلم فيه).

وما دامت الروح قد اتصلت بالله هذا الاتصال، فلا عجب إذا هامت في حبه، ونسيت العالم الأرضي بما يدرج فيه من إنسان وحيوان، بل إن من القليل عليها أن تهيم هياماً متصلاً في سلوكها الروحي، فقد قطفت الثمرة الحلوة، ومنحت الوسام الرفيع.

والحب الإلهي كالحب الإنسي، منطقته القلب، ونافذته الإحساس، فإذا قويت دواعيه، واشتدت دوافعه، فإنه يسيطر على الجسم سيطرة تامة، فتتحول الأعضاء جميعها إلى ألسنة ناطقة بذكر الحبيب، فهي من شغلها الشاغل في هيام متصل وسكر دائم، وأنت تنظر -

ص: 24

مثلاً - إلى عاشق الفتاة، فتجده شارد اللب، نحيل الجسم، ممتقع اللون، فلا تستكثر أن ترى عاشق الذات العلوية تصفاً بهذه الصفات، بل إن المنطق يقضي أن يكون أكثر نحولاً، وأشد ذهولاً، حيث كان ذا مقصود أعظم، وأمل جامح طموح.

ولا يسعنا وقد تعرضنا لهذه الناحية أن نذكر أن الحب الإلهي يكون في غالب أمره تطوراً لحب إنساني، فكثير من العارفين قد ذاق في مقتبل شبابه مرارة الحب الأرضي، وعانى ما يعانيه العاشق من منع وحرمان، وهو بذلك قد مرن على السهر والنواح، فإذا ما هطل الفيض السماوي على روحه، بعد وقت قريب أو بعيد، كان على استعداد تام للسير في طريقه المملوء بالعرق والدموع، حتى ينتهي منه السلام.

يذكر الكاتبون أن تصوف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي كان خاتمة لرحلة لذيذة قام بها في عالم الصبوات الحسية، فقد شاهد في مكة فتاة فارسية ذات عقل راجح، وذكاء متوقد، ثم هي على جانب فائق من الحسن، فطارحها الأحاديث، وتساقيل كؤوس الجدل العلمي، وما يزال يحن إلى سمرها الشهي، حتى سرقت قلبه، وملكت زمام مشاعره، فساق بها إلى القصائد الرائعة ولم يشأ أن يخفي أمره معها بعد تصوفه، بل كتب عنها فصلاً ممتعاً جاء فيه:(وهي طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، أن أسهبت أتعبت، وأن أوجزت أعجزت، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، أشرقت بها تهامه، وفتح الروض لمحاورتها أكمامه). . .

والذي يقرأ مقطوعات ابن عربي يلمس إخلاصه في حبه، ويحمد له أن تعلق بذات علم وفضل، فوقع الطير على شكله، وانجذب الشبيه إلى شبيهه، والعجيب الغريب أن الشيخ الأكبر قد حاول أن يشرح قصائده في صاحبته شرحاً لا يتفق مع ما صرح به فيما سبق أن نقلناه عنه، فهو يحول أبياته إلى ميدان آخر غير ميدانها الأصيل، مع أن القارئ العادي لا يمكن أن يطمئن إلى شرحه الملفق، فما ظنك بمن يتعقبونه من أذكياء الناقدين، وإذا كان ابن عربي قد أعلن غرامه الإنساني في نثره، فلم يلجأ ثانية إلى اللف والدوران في شعره الجميل؟!

هذا قول يحتاج إلى دليل ملموس، فليسمع القراء أولاً هذه الأبيات:

ص: 25

مرضي من مريضة الأجفان

عللاني بذكرها عللاني

بأني طفلة لعوب تهادي

من بنات الخدور بين الغواني

من بنات الملوك من دار فرس

من أجل البلاد من أصبهان

لو ترانا برامة نتعاطى

أكؤساً للهوى بغير بنان

والهوى بيننا يسوق حديثاً

طيباً مطرباً بغير لسان

لرأيتم ما يذهل العقل فيه

يمن والعراق مجتمعان!!

ثم ليسمعوا ثانية ما قاله الشيخ في شرح البيت الأول - على سبيل المثال - (المرض، الميل، أقول لما مالت عيون الحضرة المطلوبة للعارفين من جانب الحق سبحانه بالرحمة والتلطف إلينا أمالت قلبي بالعشق إليها). فليت شعري ما هذا الالتواء، وعلام التستر بعد الوضوح؟ وإذا كنا نعلم أن صاحبته الأولى فارسية من بنات الملوك في أصبهان، فكيف يمكننا أن نفهم هذا الفهم الغريب؟ وهل يعيب الصوفي أن يسجل صبابته الأولى بشعر يتغنى به الناس؟! لعل الشيخ قد أراد يبرز للناس مقدرته العجيبة في التأويل والتخريج جرياً على ما أشتهر من ادعائه العريض!!

إن الذي يتعبنا كثيراً في غزل المتصوفين هو أننا نحمله حملاً على المعاني الروحية المقدسة، سواء أنطق بذلك أم لم ينطق، وهنا توجد المشكلة العويصة، فكثير من الأبيات تصدم العقول بأحجار ثقيلة، فلا يمكن أن تنطبق على الحقيقة الإلهية التي يعنيها العارفون، وهذا ما دفع بعض الشراح إلى التحامل الزائد على ابن الفارض رضي الله عنه، ولو أننا أوجدنا الفوارق بين النسيب الإنسي والغزل الإلهي لأرحنا عقولنا من التعب الشديد. وهل يعيب المتصوف أن يكون ذا لونين في غرامه ما دامت عاطفته ملتهبة في كلتا الناحيتين. وما دامت هناك فوارق زمنية تفصل بين النوعين، حيث أن المسلم به أن الهائم بربه لا يمكنه أن يلتفت إلى غيره بحال من الأحوال؟ وهل نقول لشاعر تصوف بعد أن قضى شبيبته في الغزل الحسي: مزق نسيبك الأول على حقيقته الإنسانية؟! لم كل هذا أيها الناس!!

على أن العواطف الآدمية في الغزل الإلهي تختلف عنها كثيراً في النسيب الإلهي، فالعاشق يذكر الغيرة والنحول، والسهد كما يذكر ذلك العارف، ولا ريب فالينبوع الدافق للشعر

ص: 26

الغرامي هو الشعور، وهو هو في شتى الأوضاع لا يختلف توهجاً واشتعالاً عن المحبين، ومن هنا كانت لنتيجة واحدة عند الرجلين فالجنون والصرع والتيه قواسم مشتركة بين المدفنين، وإذا كان الأصمعي قد تجول في الصحاري الشاسعة، وتنقل بين الخيام النائية ليسمع آهاته المدلهين ويروي أشعار المتيمين من عشاق البادية، فلم يفته أن يدلف إلى الغارات السحيقة، ويتسلق القمم الشاهقة ويطوف بالبيت المعظم ليرى بعينيه دموع العارفين تتساقط، وزفرات الواصلين تتصاعد، علماً منه أن هؤلاء لا يقلون عن غيرهم، لذة حديث، وغرابة اتجاه، بل أن سائلاً سأله عن الحب فلن يسمعه كلام قيس أو عروة أجميل، بل ذكر له حديث هائم عارف، وقد مهد له بقصة طريفة وصف في آخرها الحب فقال:(جل أن يحد، وخفي أن يرى، كمن كمون النار في الأحشاء، إن قدحته أورى أو تركته توارى). وأمثال هذه النوادر لا تندرج تحت حصر، ولولا أنها وجدت ظلاً من الحقيقة ما كان لها هذا النصيب الوافر من الذيوع.

ولقد كان الهائمون الواصلون يعتزون بغرامهم الإلهي اعتزازاً يفوق كل اعتزاز، بل عدوه مفخرة عالية وميزة سامية لا تتاح إلا لمن حباه الله بالفضل الجزيل، وهذا صحيح لا اعتراض عليه، ولكن تنافس هؤلاء فيما بينهم قد دفعهم إلى مغالاة لا تسلم من الاعتراض، فكل محب واصل - إلا من عصم الله - قد ادعى في أكثر من مناسبة أنه فاق غيره في محبة ربه، ووصل إلى ما لم ينله أحد من الخلائق، فليت شعري ما مبلغ هذا الادعاء من الصحة؟ وهل يمكن للمدعي أن يقيم البينة على صحة ما يقول، وهو يرى الأنبياء والملائكة والسابقين من الإنس والجن، كل أولئك يتزاحمون بالمناكب ويتدافعون تدافعاً شديداً في مضمارهم الخطير، نعم قد يكون إخلاصه الزائد وتفانيه الشديد من عوامل هذا الادعاء، ولكن أليس من الحسن الجميل أن يتواضع في حبه ويتنازل عن كبريائه في مثل موقفه العظيم، فينال تقدير مريديه وسامعيه، بل ربماجرهم تواضعه إلى تقدير منزلته تقديراً يصل بها إلى ما يريد. وأذكر أني حين قرأت قول ابن الفارض:

كل من في حماك يهواك لكن

أنا وحدي بكل من في حماكا

شعرت كأني محنق مغيظ، وما زلت أنقب وأحلل، وأنتقل من تعليل إلى تعليل حتى انتهيت إلى قوله:

ص: 27

ولقد يجل عن اشتياقي ماؤه

شرفاً فوا ظمئي للامع آله

فارتحت كثيراً لتواضعه، وكأني نسيت ما سلف من ادعائه، فأقبلت علي مطالعة ديوانه بلذة وشغف، ولا ريب فقد قام البيت الثاني من البيت الأول مقام الاستغفار من الذنب العظيم!!

وإذا تركنا ابن الفارض وانتقلنا إلى الشيخ الأكبر محي الدين نجده قد جال في ميدان الادعاء جولات خطيرة عاصفة، فقد عز عليه أن يفهم الناس أن النبي المرسل في درجة تفوق منزله الولي الواصل، فانبرى يوازن موازنة جريئة بين النبي والولي، ثم أعلن - في غير تريث - (أن الرسول لا يمتاز إلا بالتشريع، أما الولي فميزته الكبرى هي الاطلاع على أسرار الوجود). وهذا ادعاء أي ادعاء، ولكنه من شطحات القوم. وكم للصوفيين من مزالق محرجة؟! فهل تكون مفقودة لدى معشوقهم الحبيب؟!

إن الرسول قدوة مثل الناس، فكل ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، فنحن ملزمون بالتمسك به، أما الولي فليس من ذلك في كثير أو قليل، بل إن فريقاُ كبيراً من رجال الدين قد نصوا على وجوب التحفظ الشديد مع الأولياء، وخاصة بعد أن اتسعت هوة الخلاف في المسائل الكلامية، وانتشر على يد فريق من التصوفة القول بمبادئ غامضة لا تدركها الإفهام. ومهما يكن من شيء، فقد جعل رجال الشريعة للقوم حالتين: حالة الصحو، وحالة الغيبوبة؛ أما الأولى فهم ينطقون فيها بما يتفق مع الشريعة، لأن العارف مستيقظ منتبه، فهو مؤاخذ على كل ما يصدر منه كما تؤاخذ العامة سواء بسواء. وأما الحالة الثانية وتسمى بحالة السكر عند بعض الكاتبين، فلا يلام فيها الواصل على رأي، أو يؤاخذ بجريرة قول، لأنه غائب عن وعيه، وقد ستر إدراكه بغواش متلاحقة لا يعلم لها كنه. ويدركون أن أبا بكر الشبلي رضي الله عنه قد دخل على الجنيد ومعه زوجته، فأرادت أن تستتر عنه، فقال لها الجنيد: تمهلي تمهلي. . . فهو في حالة سكره لا يدرك شيئاً مما أمامه! وحين مضت مدة غير يسيره أشار لها بالاستتار حيث قد انتقل صاحبه من حال إلى حال. والمعلوم أن الجنيد رحمه الله من القلائل الذين يتمسكون بتعاليم الشريعة، فلا يرون أنفسهم من فصيلة أخرى ترتفع عن الناس، ومع ذلك فقد عرف صاحبه في خحالتيه، ومن عسى أن يكون أنبه منه في الإدراك والتمييز؟!

وكنت أوثر أن نعتبر المتصوفين في حالة واحدة مدى الحياة، وهي حالة الغيبوبة والسكر،

ص: 28

فلا نجعل لهم من الصحو وقتاً نؤاخذهم فيه على الأقوال والأفعال، وإلا فقد أدت هذه المؤاخذة إلى الإطاحة برءوس مفكرة. وكتب التصوف مليئة بأخبار من استشهدوا في هذا الميدان. وكم يقع القارئ في حيرة شديدة حين يرى الصوفي العارف ينطق بما يعتبر بعيداً عن الحق، فيساق إلى مصرعه السريع ثم يأتي - بعد - من رجال الدين وأعلام الشريعة من يبرر قوله ويوجه مذهبه توجيهاً لا يخرج عن المنطق السديد - كما فعل الغزالي مع الحلاج مثلاً - فبأي جريرة إذن سفك هذا الدم، وكيف غاب هذا التأويل عمن أثاروا الغبار، وأيقظوا السيوف من الأغماد؟ الحق أنها حيرة شديدة أتلمس الخروج منها فلا أستطيع!!

إن التصوف محنة قبل أن يكون نعمة؛ فالعارف يكابد من الأهوال ما يقض المضجع ويسيل المدامع، وثم هو بعد ذلك يتهم في دينه، ويساق إلى حتفه الشياه!!

ولكن أي هول يكابد؟ لا يقدر ذلك غير من سار في الطريق بضع خطوات، فعرف كيف تحارب النفس، ويضطهد الجسد، وتندلع في القلب ألسنة اللهيب!!

إن الشاب في عنفوان قوته يصوم اليوم الواحد في ألم وامتعاض وما يكاد يسمع الآذان عند الغروب حتى يهجم كالليث على المائدة الحافلة بما لذ وطاب، فما يذر من شيء أتى عليه، وهؤلاء المساكين يصومون الأيام الطويلة ولا يفطرون بغير الماء وكسر يابسة من الخبز لا تقوى على تحطيمها الأنياب!!

إن الشاب الفني لا يتسلق الجبال إلا في وضح النهار، قوة مجندة مع رفقائه، وعدة مذخرة من الأسلحة الفاتكة، يتقي بها الهوام والسباع، وهؤلاء المساكين يسعون في حنوس الليل إلى التلال والهضاب فيتفكرون في ملكوت السموات والأرض فإذا حطمهم اللغوب، هجعوا قليلاً في الكهوف والمنارات!!

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي

ص: 29

‌في آفاق حافظ إبراهيم

بمناسبة ذكرى وفاته

للأستاذ حسين مهدي الغنام

الشاعر الحق هو من ينظم في كل ما يوحي إليه ترجمة عواطفه، سواء كان ذلك عاقلاً أم جماداً.

ولقد يقتصر شاعر من الشعراء على غرض واحد من أغراض الشعر، ينظم فيه طبلة حياته، فيبلغ الذروة في هذا النمط الواحد وقد لا يستطيع أن ينظم في غرض آخر، ولكنك لن تستطيع إلا أن تعده شاعراً من أكابر الشعراء، وإن قصر في غير الناحية الواحدة.

وقد يحكم لشاعر بقصيدة واحدة!

وكثيرون من الشعراء ينظمون في مختلف الأغراض، ويعددون أنماط شعرهم ونظمهم، وقد يكونون رابع الشعراء الذين يقصدهم ابن رشيق في كتابه العمدة!

وقليلون من أجادوا في تلك النواحي والأغراض المختلفة. . .

ومن هذا النمط من الشعراء كان شاعرنا حافظ إبراهيم.

فلقد تعددت آفاقه في نظم الشعر، وأسهم في كل فن من فنونه، صادق القول، قوي التعبير، جميل الأداء، مرهف الإحساس، ومتدفق البيان.

ولم يكن حافظ شاعرا فحسب، ولكنه كان كاتبا أيضا، وإن لم يكن نثره في مرتبة شعره.

وهذه بعض آفاق حافظ التي حلق فيها شاعراً مرهفاً، وناثراً بليغاً.

1 -

شاعر مصري:

كانت البيئة العربية التي نشأ فيها حافظ مليئة بما يؤز جوانب المخلصين من أبناء البلد ويقض مضاجعهم، فقد كان الانحطاط سائداً في كل ناحية من نواحيها.

فالجهل يخيم على الشعب كله تقريباً.

والاحتلال البغيض يقيد الشعب ورائديه، ويكم أفواه هؤلاء، ويلقي بهم في غيابات السجون.

وهنا ظهر حافظ.

ظهر حافظ فكان لسان الشعب الناطق، يصف شعور الجمهور ويذكيه، وأن يشعر أن لسانه

ص: 30

مقيد، وقلمه مراقب، وسيف الجلاد يلمع أمام ناظريه، ولكن هل يصمت، كما قال:

إذا نطقت فقاع السجن متكأي

وأن سكت فإن النفس لم تطب

كان شعور حافظ في هذه الفترة ممثلاً في هذا البيت خير تمثيل. ولم يكن هذا شعور حافظ وحده، ولكنه كان شعور المصريين بل الشرقيين جميعاً!

من الواضح أن حافظاً تأثر بالبارودي تأثراً شديداً في حياته ومنهجه. . .

ويعتبرالبارودي أمام المدرسة الحديثة في الشعر المصري التي خرجت على أساليب المتزمتين في الجيل السابق له، فعاد البارودي ومن خلفوه بالشعر العربي إلى بعض عصوره الزاهية إبان النهضة العربية.

وقد قامت الثورة العرابية أيام البارودي، بل كان البارودي بطلاً من أبطالها المعدودين، ولكنه لم يساهم فيها بقلمه وشعره، بل ساهم فيها بسيفه ورأيه الفني. وهو الحد الفاصل بين مدارس الشعر القديمة، وفاتح أبواب المدارس الحديثة، بل إمامها ورائدها. . .

ولقد جاء حافظ من بعد البارودي فكان الحلقة المتوسطة بين المدرسة التي وضع أساسها البارودي، وبين المدارس التالية التي أنشأها شعراء الجيل الجديد.

إلا أن حافظ لم يسره سيرة البارودي في ثورته، فلقد أسهم حافظ في ثورات المصريين التالية بشعره، ولم يكن رائداً فيها بسيفه. . .

ومن هنا كان حافظ بحق أول شاعر مصري حديث ينطق بلسان شعبه، وبلسان الأمم الشرقية الشقيقة.

فهو يستحث الشعب على مقاومة الغاصب، ومحاربته، ويستنهض الهمم، ويستنفر النفوس، ولم يقتصر على السياسة فحسب، وأن كان له في السياسة والوطنيات ديوان ضخم قائم برأسه، ولهذا لا أريد أن أنقل منه شيئاً هنا، فقصائده عديدة ومشهورة.

ولكن حافظاً طرق أبواب الإصلاح كلها، وحث المصريين على إصلاح عيوبهم الداخلية، وحياتهم الاجتماعية المتأخرة، ونعى عليهم عاداتهم السخيفة، وتقاليدهم المزرية، وشتى نواحي حياتهم، المظلمة الراكدة، وتكاسلهم وتوانيهم وقعودهم عن العمل والهجرة في طلب الرزق، فهو ينقد الألقاب، والتكاسل، وغيرها، إذ يقول:

وهل في مصر مفخرة

سوى الألقاب والرتب

ص: 31

وذي إرث يكاثرنا

بمال غير مكتسب

وفي الرومي موعظة

لشعب جد في اللعب

أمة قد فت في ساعدها

بغضها الأهل وحب الغربا

تعشق الألقاب في غير العلا

وتفدي بالنفوس الرتبا

وهو والأحداث تستهدفها

تعشق اللهو وتهوى الطربا

لا تبالي لعب القوم بها

أم بها صرف الليالي لعباً

ثم هو يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي الشامل في كل شيء، فأقرأ قصائده في جمعيات رعاية الأطفال، وقصيدته في مدرسة بور سعيد للبنات:

لا تهملوا في الصالحات فإنكم

لا تجهلون عواقب الإهمال

من لي بتربية النساء فإنها

في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعباً طيب الأعراق

ربوا البنات على الفضيلة أنها

في الموقفين لهن خير وثاق

وعليكم أن تستبين بناتكم

نور الهدى وعلى الحياء الباقي

لو وفى بالزكاة من جمع الدنيا

وأهوى على اقتناء الحطام

ما شكا الجوع معدم أو تصدى

لركوب الشرور والآثام

راكباً رأسه طريداً شريداً

لا يبالي بشرعة أو زمام

سائلاً عن وصيه الله فيه

آخذاً قوته بحد الحسام

فهؤلاء هم الذين ينشئون لصوصاً!

ثم يقول في الجامعة المصرية القديمة:

حياكم الله حيوا العلم والأدبا

أن تنشروا العلم ينشر فيكم العربا

ولا حياة لكم إلا بجامعة

تكون أماً لطلاب العلا وأبا

وهو ينعى انحلالنا الاقتصادي كانحلالنا السياسي، فيقول في الشركات وفي اليهود:

وما الشركات السود في كل بلدة

سوى شرك يلقي به من تصيداً

لقد سعدت بغفلتنا إذا احتواها

بنو التاميز، واحسر اللثام

وفرج أزمة الأموال عنا

بما أوتيت من رأي سديد

ص: 32

وسل عنها اليهود ولا تسلنا

فقد ضاقت بها حيل اليهود

ارحمونا بني اليهود كفاكم

ما جمعتم بحذقكم من نقود

فمصر هي في نظره وفي خلده:

لا مصر تنصفني ولا

أنا عن مودتها أريم

وإذا تحول بائس

عن ربعها فأنا المقيم

ولا تظن أبياته القادمة إلا أنها ستظل خالدة يرددها المصريون ما داموا في نكباتهم السياسية والاقتصادية يتخبطون، لأنها تصور أحوالنا الحاضرة خير تصوير، وتنطق بلسان كل مصري مخلص:

متى أرى النيل لا تحلو موارده

لغير مرتهب لله مرتقب

فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت

جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب

كأنني عند ذكرى ما ألم بها

قرم تردد بين الموت والهرب

أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا

ونحن نمشي على أرض من الذهب

والقوم في مصر كالأسفنج قد ظفرت

بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب

2 -

شاعر شوقي:

ولم تقف آفاق حافظ عند مصر فحسب، ولكنها شملت الشرق كله، قاصيه ودانيه

فكان يتوجع للأمم الشرقية السليبة، كما قال شوقي: كلنا في الهمم شرق!.

ومن هذا قصائده في الترك، والمغرب، وسوريا. . .

وكان يفخر بالأمة الشرقية الناهضة، كفخره باليابان الفتية المتجددة، وقصائده فيه معروفة. فليته حي ليقول فيها اليوم قولاً. . .

ثم إنه يجب أن يرى الوئام سائداً بن الشرقيين جميعاً، ولا يتخذ الغاصبون من تنابذ الشرقيين بالأديان سبيلاً إلى التفرقة بينهم. قال في عيد الدستور العثماني:

تحالف في ظل الهلال إمامه

وحاخامه - بعد الخلاف - وراهبه

خذوا بيد الإصلاح والأمر مقبل

فإني أرى الإصلاح قد طر شاربه

وقال في غزو الطليان لطرابلس:

بارك المطران في أعمالهم

فسلوه بارك القوم على ما

ص: 33

أبهذا جاء إنجيلهمو

آمراً، يلقي على الأرض سلاماً

كشفوا عن نية الغرب لنا

وجلو عن أفق الشرق الظلاما

وقال في تحية العام الهجري 1327هـ:

سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى

وما بدلوا في المشرقين وغيروا

وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور)

فقد ملأ الدنيا (نيازي) و (أنور)

في هذه القصيدة وحدها سجل ما مر على الشرق كله في عام، فقد جمع ما قامت به دولة من نهضات، وما لمح فيها من بوارق نهضات وتقدم، وفيها إهابه بالشرق أن يسير دائماً إلى الأمام، وفيها أمان بعيدة عالية، إذ يقول:

مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى

وفي مصر أيقاظ على مصر تسهر

وقد كان (مرفين) الدهاء مخدراً

فأصبح في أعصابنا يتخدر

ثم يناشدهم فيقول:

رجال الغد المأمول إنا بحاجة

إلى قادة تبني وشعب يعمر

ويمضر في هذه المناجاة والإهابة حتى يبلغ قوله:

فما ضاع حق لم ينم عنه أهله

ولا ناله في العالمين مقصر

لقد ظفر الأتراك عدلاً بسؤلهم

ونحن على الآثار لا شك نظفر

وكذلك قصيدته في العام الذي يليه. . .

وإنك بمقارنتك بين هاتين القصيدتين تدرك آمال حافظ التي ظل يتغنى بها في مصر والشرق جميعاً طيلة حياته.

ففي الأولى تسجيل للأمل الذي بدا بنهضة الأمم الشرقية، وفي القصيدة الثانية ثورة، لأن كل ما أمل حافظ في تحقيقه لم يتحقق!

يقول في الثانية:

أشرق علينا بالسعود ولا تكن

كأخيك مشؤوم المنازل اخرقا

قد كان جراح النفوس فداوها

مما بها وكن الطبيب موفقاً

هللت حين لمحت نور جبينه

ورجوت فيه الخير حين تألقا

وهززته بقصيدة لو أنها

تليت على الصخر الأصم لأغدقا

ص: 34

فنأي بجانبه وخص بنحسه

مصراً وأسرف في النحوس وأغرقا

لو كنت أعلم ما يخبئه لنا

لسألت ربي ضارعاً أن يمحقا

ولكنه يعود فلا ييأس، ويخاطب شباب البلاد:

أهلاً بنابتة البلاد ومرحبا

جددتمو العهد الذي قد أخلقاً

لا تيئسوا أن تستردوا مجدكم

فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى

ولقد كان حافظ يريد أن يرى الشرق ناهضاً حياً، ذا قوة ترهب الغرب. . .

ولكن. .!

إلا إنه يتفاخر بأية أمة شرقية قوية، ناهضة، تطاول الغرب وتهزمه.

قال في حرب طرابلس ما قال، كما تقدم، ولكن قف عند هذا البيت من تلك القصيدة:

أيها الحائر في البحر اقترب

من حمى (البسفور) أن كنت هماما

إن هذا البيت من شعر حافظ يصور لي حافظاً كالأسد السجين في قفص!

فبمن يتفاخر حافظ؟

إنه لا يجد أمامه غير تركيا، فيتحدى بسفورها أسطول الطليان، ويطلب أن يقترب من حماه أن كان شجاعاً، فسيضربه الترك، وأن عجز عن ضربه المغاربة. . .

وشيء خير من لا شيء. . .

ولكنه حافظ السجين الطليق، الذي يأمل ويتمنى ويريد، ولكن الأقدار لم تسعده فتسعفه بما أراد!

ويظل حافظ بين عاملي الأمل والياٍ والتفاخر والاستنهاض فإذ تسمعه يقول:

يا ليتني لم أعاجل

بالموت قبل الأوان

حتى أرى الشرق يسمو

رغم اعتداء الزمان

ويسترد جلالاً

له ورفعة شأن

وليعلم الغرب أنا

كأمة اليابان

لا نرتضي العيش يجري

في ذله أو هوان

تراه يقول أيضاً:

فاطمئني أمم الشرق ولا

تقنطي اليوم فإن الجد قاما

ص: 35

إن في أضلاعنا أفئدة

تعشق المجد وتأبى أن تضاما

- شاعر ساخر:

3 -

شاعر ساخر:

ومن النواحي البارزة في شعر حافظ سخريتة اللاذعة، فقد كان يصب غضبه وثوته في أبيات من الشعر ساخرة شديدة المرارة، وأن جاءت في معرض النصح والجد والوطنية!

قال في قصيدة (آلامنا وآمالنا) المرفوعة إلى البرنس حسين كامل باشا:

فلا تثقوا بوعد القوم يوماً فإن سحاب ساستهم جهام

وخافوهم إذا لانوا فإني

أرى السواس ليسلهم ذمامفكم ضحك العميد على لحانا=وغر

سراتنا منه ابتسام

وقال إلى روزفلت في زيارته لمصر:

يا نصير الضعيف مالك تطري=خطة القوم بعد ذاك النكير

لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم

في حماكم من دونهم ألف سور

أنت تطريهمو وتثني عليهم

نائياً آمناً وراء البحور

وعجيب يفوز هذا بانطلاق

وهذا في ذله المأسور

يا نصير الضعيف حبب إليهم

هجر مصر تفز بأجر كبير

أن يهجروا وعلى المصري

ذكر المتيم المهجور

والأبيات الآتية من قصيدته في استقبال السير جورست:

قتيل الشمس أورثنا حياة

وأيقظ هاجع القوم الرقود

\ فليت كرومرا قد دام قفينا

يطوق بالسلاسل كل جيد

ويتحف مصر بعد آن

بمجلود ومقتول شهيد

لتنزع هذه الأكفان عنا

ونبعث في العوالم من جديد

بحمد الله ملككم كبير

وأنتم أهل مرحمة وجود

خذوه فأمتعوا شعباً سوانا

بهذا الفضل والعلم المفيد

إذا استوزت فاستوزر علينا

فتى كالفضل أو كابن العميد

لحي بيضاء يوم الرأي هانت

على حمر الملابس والخدود

ص: 36

وفرج أزمة الأموال عنا

بما أوتيت من رأي سديد

وسل عنها اليهود ولا تسلنا

فقد ضاقت بها حيل اليهود

كما قال ساخراً من سكوت المصريين على الضيم:

فيا ليت لي وجدان قومي! فأرتضي=حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه

وقوله:

وإذا سئلت عن الكنانة قل لهم

هي أمة تلهو وشعب يلعب

واقرأ كذلك قصيدته في وداع اللورد كرومر، فإن فيها من السخرية ما ينم عن روح حافظ في هذا الضرب.

ومن سخريته القاتلة قوله في حرب طرابلس:

قد ملأنا البر من أشلائهم

فدعوهم يملئوا الدنيا كلاما

خبروا (فكتور) عنا إنه

أدهش العالم حرباً ونظاما

أدهش العالم لما أن رأوا

جيشه يسبق في الجري النعاما

لم يقف بالبر إلا ريثما

يسلم الأرواح أو يلقي الزماما

حلتم الطليان قد قلدتنا

منه نذكرها عاماً فعاما

أنت أهديت إلينا عدة

ولباسا وشرابا وطعاما

وسلاحا كان في أيديكمو

ذا كلال فغدا يفرى العظاما

ففي هذه الأبيات يصف حافظ الطليان على حقيقتهم، كما عرفناهم، حتى في الحروب الأخيرة!

(البقية في العدد القادم)

حسين مهدي الغنام

ص: 37

‌مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث

للأستاذ سليمان دنيا

(تتمة)

انتهينا في مقالنا إلى أن ابن سينا يمكن اعتباره قائلاً بأن البعث روحي فقط؛ وأبنا أن المطاف حول نصوصه في هذا المقام - أخذا من الشفاء، والنجاه، والإشارات - ينتهي، رغم تضاربها إلى إنكار البعث الجسماني.

لكن في تأريخ الفكر الإسلامي، ما كان ليقنع ابن سينا في موضوع خطير كموضوع البعث، بادعاء قصاراه الإمكان والتجويز، أو الترجيح وغلبة الظن. ليس معه من الشواهد والأدلة - حتى في نظر صاحب الادعاء - ما يسمو به إلى مصاف النظريات العلمية.

وقد كان ابن سينا عند ظن العلم به، فلم يقنع هو من نفسه، كما لم يقنع منه العلم، بهذه الوقفة الحائرة، فراح يشرع قلمه ليديح عصارة فكره في هذا المقام.

وقد دلنا البحث والتنقيب على أن له في هذا الموضوع كتابين:

أحدهما يعرف ب (رسالة في المبدأ والمعاد).

وثانيهما يعرف ب (رسالة أضحوية في أمر المعاد)

وإذا كان ابن سينا قد أفرد كتابين لموضوع كهذا جرت عادة غيره بأن يتكلم عنه كلاماً، يعد وافياً في بابه، ضمن كتاب لا في كتاب مستقل ولا في كتابين، كان الأمل قوياً في أن يتكشف ابن سينا على حقيقته في هذه المسألة، وأن ينجلي الموقف عنده فيها انجلاء، لا يبقى معه مجال لهذه البلبلة الفكرية التي أوحت بها كتبه الأخرى، بما تحمل من أفكار متضاربة، وأراء متنافرة متعارضة.

رجعت إلى أول الكتابين فإذا هو يقول في مقدمته: (. . . وبعد فإني أريد أن أدل في هذه المقالة على حقيقة ما عند المشائين، بين المحصلين من حال المبدأ والمعاد، وتقربا به إلى الشيخ الجليل أبي أحمد بن إبراهيم الفارسي. . . الخ).

ولما كانت قد عرفت رأي ابن سينا في المشائين، وأنهم عنده من عامة المتفلسفة، لا من خاصتهم، وأنه كان ينجو نحوهم ويؤلف على غرارهم حين يكتب للعامة؛ أما الخاصة فإنه يدخر لهم أراء أخرى مخالفة لأراء المشائين كثيراً من المخالفة، يودعها كتباً يختصهم بها

ص: 38

- انظر المقال السابق، نص منطق المشرقيين -، فقد نزعت الثقة من هذا الكتاب كمصدر يؤرخ منه لأبن سينا، وأن صح اعتباره مصدراً يؤرخ منه للمشائين كما يفهمهم ابن سينا إذ ليس يكفي أن يوضع اسم المؤلف على لا لكتاب، ولا أن يكون صحيح النسبة إليه، ليتخذ مصدراً يؤرخ منه له، بل يجب أن يتحرى وراء التثبت من صحة النسبة، عن أمر آخر ليس دون صحة النسبة أهميه؛ ذلك هو قيمة المؤلف في نظر صاحبه، أعني لمن ألفه؟! هل ألفه ليصور به فكرته وعقيدته؟!. . . أم ألفه لأناس آخرين تنزل فيه إلى مستواهم؟! وفي ضوء هذا يمكن اعتبار الكتاب مصدراً يستمد منه التاريخ لمؤلفه، أو عدم اعتباره كذلك.

ولا شك أن إغفال هذه النظرة يوقع في خلط واضطراب شديدين، وقد تبينت ذلك واضحاً في دراستي للغزالي؛ إذ تضارب الكاتبون عنه تضارباً شديداً، وتأدوا في بحوثهم إلى أحكام متعارضة، واعتصم كل منهم في تأييد وجهة نظره، بكتاب من كتبه صحت نسبته إليه؛ مما حير العقول وبلبل الأفكار، ومن أجل هذا اعتبر شخص الغزالي مشكلة من مشاكل العلم التي تتطلب الحل والإيضاح، قال (ديبور):(إن أمثال الغزالي معضلة في نظر العلم، فأشخاصهم حقائق روحية تحتاج إلى توضيح).

وكان ذلك من غير شك نتيجة لإهمالهم هذا المبدأ الذي هو الطريق الوحيد، لإضافة الفكرة إلى المؤلف مع الوثوق من أنها تصور رأيه وتعبر عن عقيدته؛ فلما أخذت في دراستي له بهذا المبدأ، أبرزته في كتابي عنه (الحقيقة في نظر الغزالي) شخصية واضحة مفهومة، لا تضارب فيها ولا تعارض.

ومن حسن حظ العلم أن المؤلفين الذين لهم جوانب متعددة ومظاهر متباينة قد عنوا بالدلالة على الكتب التي تصور آراءهم التي يرتضونها لأنفسهم، تمييزاً لها من غيرها التي تصور أفكاراً أخرى لا يدينون بها.

فمثلاً نجد الغزالي يقول في كتابه (الأربعين في أصول الدين) ط الكردي ص25:

(ومعرفة أدلة العقيدة قد أوردناها في الرسالة القدسية في قدر عشرين ورقة، وهي أحد فصول كتاب قواعد العقائد من كتاب الإحياء.

وأما أدلتها مع زيادة تحقيق وزيادة تأنق في إيراد الأسئلة والإشكالات، فقد أودعناها كتاب

ص: 39

(الاقتصاد في الاعتقاد) في مقدار مائة ورقة، فهو كتاب مفرد رأسه يحوي لباب علم المتكلمين، ولكنه أبلغ في التحقيق، وأقرب إلى قرع أبواب المعرفة، من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين.

وكل ذلك يرجع إلى الاعتقاد، لا إلى المعرفة، فإن المتكلم لا يفارق العامي معتقداً، بل هو أيضاً معتقد، عرف مع اعتقاده أدلة الاعتقاد، ليؤكد الاعتقاد ويستمده، ويحرسه من تشويش المبتدعة، ولا تنحل عقدة الاعتقاد إلى انشراح المعرفة.

فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح المعرفة، صادفت منها مقداراً يسيراً مبثوثاً في كتاب الصبر والشكر، وكتاب المحبة، وباب التوحيد، ومن أول كتاب التوكل؛ وكل ذلك من كتاب الإحياء.

وتصادف منها مقداراً صالحاً يعرفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) لا سيما في الأسماء المشتقة من الأفعال.

وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة، من غير محجمة ولا مراقبة، فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها. وإياك أن تغتر وتحدث نفسك بأهليته فتستهدف للمشافهة بصريح الرد، إلا أن تجمع ثلاث خصال:

الأولى: الاستقلال في العلوم الظاهرة، ونيل رتبة الإمامة فيها.

والثانية: إقلاع القلب عن الدنيا بالكلية. . .

والثالثة: أن يكون قد أتيح لك السعادة في أصل الفطرة الخ.

وهذا هو ابن سينا يقرر في مقدمة كتابه (رسالة في المبدأ والمعاد) أنه ألفه على مذهب المشائين، فيجب - قبل الحكم بأن ما جاء في الكتاب يصور رأي ابن سينا أو لا يصوره - أن يعرف رأيه في المشائين، وهل هو يوافقهم؟ أو يخالفهم؟! وهذا هو نصه في مقدمة منطق الشرقيين صريح في أنه لا يدين بكل ما يدين به المشاءون، ومن المحتمل أن يكون أمر البعث من المسائل التي اختلف فيها معهم، فلا بد إذن من البحث عن مصدر آخر.

وفضلاً عن ذلك فقد جاء في عبارات الكتاب ما يدل على أن للمسألة عنده غورا، وأن لها سراً لم يفض به في هذا الكتاب كقوله (وهذا كلام مغلق، تحته معان كثيرة، في شرحه على الحقيقة تكون النجاة).

ص: 40

أصبح الأمل بعد هذا معقوداً بالكتاب الثاني - رسالة أضحوية في أمر المعاد -، فلندرسه لنرى قيمته في نظر ابن سينا، بعد ما أجمع الباحثون على صحة نسبته إليه.

والقرائن المحيطة بالكتاب تدل على أن ابن سينا صور فيه رأيه، وأبان معتقده:

أما أولا: فلأن ابن سينا وهو يتحدث في الإشارات عن البعث، أحال استكمال القول فيه على كتاب آخر فيه سعة من القول؛ والإشارات كما هو معلوم للباحثين يصور آراء ابن سينا التي يدين بها ويعتقدها، فإذا أحال فيه على كتاب كانت قيمة الكتاب المحول عليه، خصوصاً بالنسبة للبحث المشترك بين الكتابين، من قيمة الكتاب المحول فيه، وقد علمنا أنه نفض يده من الشفاء والنجاة ورسالة في المبدأ والمعاد، فلم يبق من الكتب التي تصلح أن تكون مرجعاً استوفى البحث واستكمله حتى يصلح للإحالة عليه إلا كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وهاك نصه في الإشارات ط ليدن ص197 (ثم أبسط هذا، واستغن - وفي نسخة: واستعن - بما تجده في موضع آخر لنا).

وأما ثانياً: فلأن الغزالي قد استمد رأي ابن سينا في البعث من هذا الكتاب، والغزالي دارس متعمق، وقريب عهد بابن سينا وبكتبه، فهو أعرف بما يصور رأيه وبما لا يصوره واتهام الغزالي بأن خصومته لابن سينا من التعويل على رأيه فيه؛ يدفعه أن المدافعين عن ابن سينا ضد الغزالي أمثال ابن رشد - بأنه استقى معلماته عنها من مصادر لا تعبر عن وجهة نظر ابن سينا التي يدين بها.

وأما ثالثاً: فلأن الكتاب نفسه، ليس فيه شيء مطلقاً، يدل على أن لبن سينا لم يعبر فيه عن رأيه، ولم يصدر فيه عن معتقده؛ والأصل في الكتاب - متى صحت نسبته لصاحبه - أنه يصور رأيه، إلا إذا وجد من القرائن والدلائل ما يصرف عن ذلك.

وفضلاً عن هذا فالكتاب يتلخص في مرحلتين:

إحداهما: التعريف بكل الآراء التي قيلت في المسألة.

والثانية: نقد كل هذه الآراء، إلا رأياً واحداً استبقاه واستصفاه، وساق على صحته كثيراً من الأدلة. ويحس قارئ الكتاب أن ابن سينا أفرغ في هاتين المرحلتين كل قواه، فلم يدخر جهداً في هدم ما هدم، ولم يدخر وسعاً في تأييد ما أيد.

وعملية النفي والإثبات على هذا النحو من التتبع والتقصي ناطقة بأنها المنهج الصحيح

ص: 41

للإبانة عن مذهب المؤلف ورأيه الشخصي.

وفي كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) هذا، نجد ما حكى الغزالي عن ابن سينا من أدلة إنكار البعث الجسماني، وعند ذاك نجد ما نسد به تلك الثغرة التي كانت شاغرة في تأريخ الفكر الإسلامي. وكنا قد أبنا في مقالنا السابق أن لهذه الثغرة جانبين:

أحدهما: يتصل بابن سينا، أعني هل قال ما نسبه إليه الغزالي في كتابه التهافت من أدلة إنكار البعث الجسماني، أم لا؟!، ضرورة أنه أن كان قائلاً بها، يكون قائلاً بإنكار البعث الجسماني على سبيل القطع، دون أن يفسح المجال لشك أو تردد. وقد ثبت أنه قائل بها.

وثانيها: يتصل بالغزالي، أعني هل هو ثقة حين يتحدث عن فرق خاصمهم ورد عليهم، ممن طال لعهد بهم بحيث لا يتيسر لنا الرجوع إلى مصادرهم الأصلية؟! أم هو في موضوع الشك والاتهام؟!، وقد ثبت أنه ثقة خصوصاً في تلك المسألة التي أجرينا امتحانه فيها.

وبعد فلعلنا أيها القارئ الكريم قد شوقناك إلى كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وما وراء كمن سمع، وقريباً أن شاء الله يكون في يدك، فلقد تفضل مشكوراً الأستاذ البحاثة مدير المعهد الفرنسي باستحضار صور لجميع مخطوطاته الموجودة في مكتبات العالم، ليستعان بها على إخراج نص صحيح، وقد راجعنا هذه الأصول كلها، وعلقنا عليها، وقدمنا الكتاب للطبع، وهو الآن بالمعهد ينتظر دوره.

سليمان دنيا

مدرس الفلسفة وعلم العقيدة بكلية أصول الدين

ص: 42

‌الأدب والفن في أسبوع

حول الأنشودة الناعمة:

تلقيت من الأستاذ عباس السيد أبو النجا المحامي بدكرنس، كتاباً يدافع فيه عن عبد الوهاب وتلحينه لأنشودة فلسطين، وهو بعد التحية:

(قرأت ما كتبتموه عن اللحن الرائع الذي وضعه موسيقار الشرق عبد الوهاب للأنشودة القوية التي نظمها الأستاذ الشاعر علي محمود طه عن فلسطين. ولست أتفق معكم في رأيكم، فإن القراءة الهادئة للقصيدة وتفهم مراميها ومعانيها فهم أناة وروية، ثم تنغيمها بعد ذلك التفهم من أي إنسان أوتي حظاً من رقة الحس، ودقة الأذن، ورهافة الوجدان لا يمكن أن يأتي إلا على هذا الغرار، وفي هذا القالب الشجي من الإيقاع والتلحين.

فالقصيدة تخاطب كل عربي في أرض العروبة، تحثه على الانتفاض على ظلم اليهود، ونبذ سياسة الصبر، وتجريد الحسام دفاعاً عن الأرض المقدسة، تخاطب القصيدة في كل ذلك خطاباً تريد أن تصل به إلى عقله وقلبه حتى ينفض عن التمسك بالأناة، ومجاراة أمم في سياسة السلام.

فليست القصيدة إذاً خطاباً إلى جيش يخوض المعامع فهي تستزيد حماسته، وتلهب حميته، إنما هي خطاب إلى المسالمين يستنفرهم إلى اطراح السلام، ونداء إلى الوادعين يستنهض هممهم - بعد أن يبين لهم - ويستثير - عن إقناع - عزماتهم إلى دفع الخطر المحدق بهم، دون تلبث أو انتظار.

وبعد: ألستم معي في أن هذا اللحن ليس مائعاً، وإنما هو لحن رائع اقتضاه مبني القصيدة كما استلزمه معناها؟

ثم ألستم معي في أن عبد الوهاب لا ينبغي له أن يأخذ (إجازة) في هذا الظرف العصيب. . . بل إن على الشعراء والناظمين أن يقدموا له من نتاج القرائح ما يقتضي اللحن العاصف والنغم الثائر، والإيقاع المثير، وعندئذ ينطلق صوت عبد الوهاب عاصفاً، ثائراً، مثيراً).

حقاً أن القصيدة تخاطب كل عربي في أرض العروبة، تحثه على نبذ سياسة الصبر وتجريد الحسام إلى آخر ما قال الأستاذ وأضيف إلى ذلك أن القصيدة نفسها قوية في غير جلية ولا ضوضاء، وهي من قبيل ما أدعو إليه من التأليف الذي يؤدي الحماس في هدوء،

ص: 43

خالياً من الطنطنة والمبالغات. ولكن هل أدى التلحين والغناء ما في القصيدة من القوة والحماس؟ أو هل هما يسيران معه في هذا السبيل؟ هذه هي المسألة أو القضية التي يريد الأستاذ المحامي أن يكسبها. . وبلح في ذلك بسؤاله إياي أن أكون معه في أن اللحن رائع اقتضاه مبنى القصيدة كما استلزمه معناها. . ويؤسفني ألا أكون معه في ذلك.

وحقاً إن القصيدة خطاب إلى المسالمين لاطراح السلام، ونداء إلى الوادعين لاستنهاض هممهم، واللحن والغناء كذلك خطاب للمسالمين والوادعين. . ولكن ليظلوا ناعمين وادعين. . لحن جميل، وموسيقى حلوة، وغناء رقيق عذب، تتسلل إلى الأذن في طرب يسلم إلى السكون ويبعث إلى وادي الأحلام.

إنه حين يغني:

أخي قم إليها نشق الغمار

دماً قانياً ولظى مرعدا

يحيل الدم إلى (شربات)

ويجعل اللظى برداً وسلاماً!

وهو حينما يغني:

فلسطين يفدي حماك الشباب

وجل الفدائي والمفتدي

يذرو هباء ما فيه من المفاداة وحماية الحمى، ويضيع الشباب مع من ضيع في الأوهام عمره. . .

إن عبد الوهاب فنان عظيم ما في ذلك من شك، ولكن مجال فنه إنما هو العواطف الرقيقة الناعمة، وهو يبدع فيه لأنه يصدر عن طبع أصيل، فيستطيع أن ينقل إحساسه في أنغامه إلى القلوب فيطربها ويأسرها، ويشركها معه في الشدو والترديد أما العواطف الحماسية، فليست في طبعه الفني، وهو إلى الآن لم يأت في هذا الباب بشيء على وفرة إنتاجه في عالم الغناء والموسيقى.

وأنا لا أدعوه إلى مخالفة طبعه بالتلحين الحماسي، لأنه يكون إذن متكلفاً، والتكلف يفسد الفنون. ولو أنه تلقى من نتاج القرائح ما يقتضي اللحن القاصف والنغم الثائر، كما يرى الأستاذ أبو النجا أن يفعل الشعراء والناظمون، لما انطلق عاصفاً ثائراً مثيراً إلا إذا جاوز الفن إلى تهريج.

وإني لأرى أن أم كلثوم أقدر من عبد الوهاب على التعبير الحماسي، ويبدو هذا في غنائها

ص: 44

قصيدة (سلوا قلبي) فقد استطاعت أن تجعل الجمهور يغلي ويفور في بعض مواضع هذه القصيدة.

وأذكر أن عبد الوهاب كان يدافع عن نفسه، حين وجه إليه اللوم لعدم المشاركة في الأغاني الحماسية، بأن الشعب يردد أغانيه ذات الطابع العاطفي الرقيق، ولا يسمع من أحد صدى لحنه هو أو غيره من أناشيد. وهذا يؤيد ما قلته، لأنه يصدر في النوع الأول عن طبعه فينتج إنتاجاً حياً، أما الأناشيد المتكلفة فهي تموت على أثر إلقائها. ومن الخطأ المبين ما كان يقال من أن الشعب المصري ميال بطبعه إلى اللهو فهو لا يقبل على إنشاد جدي فهذا هو الشعب كما تراه اليوم يسبق الفنون في حماسه وقوته، وهي تحاول أن تلحق به. .

ويماثل عبد الوهاب في الغناء والموسيقى، أحمد رامي في النظم والتأليف فهو يسجل خفقات القلوب ويتتبع الأطيار على الأشجار ولكنه ظلم نفسه ب (نشيد الشباب) الذي وضعه أخيراً وغنته أم كلثوم، والذي يبدأ هكذا:

نادى المنادي يا شباب

لبوا الندا=ردوا العدا عن الوطن

ثم يعظ هكذا:

تضامنوا

الشرق يدعوكم=إلى طرد العدا

تعاونوا

الله يهديكم=إلى نور الهدى

ثم يختم بإرسال الحكمة هكذا:

من غاش منا فاز بالعيش الرغيد.

ومن يمت مجاهداً مات شهيد.

كلام عادي فاتر، وتهبط الحرارة عن درجة الفتور عندما يأمر بالتعاون ليهدي الله إلى (نور الهدى).

وأم كلثوم هي التي تنطلق قوية مثيرة لو قدم لها المنظوم القوي النابض بالحياة، وهي التي تستطيع أن تدرك تل أبيب ب (وصله) واحدة. . . ولكنها لا تغني إلا ما تلفقه من شعر شوقي، وما يوضع لها خائراً واهناً، وهي تكثر من ترديد أغانيها القديمة، مثل أغنية (فضلت أصالح في روحي) التي غنتها في حفلة بور سعيد التي أقيمت للترفيه عن جنود الجيش، والتي لم تغني فيها شيئاً جديداً مناسباً للحال الحاضرة. ولست أدري إلى متى تظل

ص: 45

تلك المصالحة.؟

التمهيد لمؤتمر اليونسكو:

كان المقرر أن تجتمع اللجنة الثقافية بالجامعة العربية، في الإسكندرية يوم 21 أغسطس القادم لوضع خطة مشتركة بين الدول العربية وتوحيد وجهة نظرها في الشئون الثقافية التي ستكون موضع نظر مؤتمر الهيئة الثقافية العالمية (اليونسكو) الذي سينعقد بلبنان في أكتوبر القادم.

وقد حدث أخيراً أن أبدت الحكومية اللبنانية رغبتها في أن تنعقد اللجنة الثقافية بلبنان لتكون على مقربة من مركز المؤتمر. وقد أجابت اللجنة إلى هذه الرغبة فقررت أن يكون اجتماعها هناك.

ومن الموضوعات التي ستنظر فيها اللجنة في هذا الاجتماع، موضوع نشر الأفلام السينمائية التي ترمي إلى تقوية الروح القومية العربية وشعور التضامن والاتحاد بين العرب، ومن ذلك المساعدة على إعداد أفلام في البلاد العربية بقصد تعريف بعضها ببعض، والمساهمة في وضع أفلام ثقافية شعبية ومدرسة في البلاد العربية، وفي ترجمة نطق الأفلام الثقافية الغربية إلى اللغة العربية.

السينما والدعاية:

تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بزيارة ميدان القتال بفلسطين في هذا الأسبوع، وقد سر جلالته بما رأى هناك وما وقف عليه من المعلومات والحقائق التي تتعلق بنظام الجيش وخطته في القتال. وقال جلالته في صدد التعبير عن سرر إنه يود لو كان المصريون جميعاً موجودين ليشاهدوا ما شاهد جلالته.

قلت في نفسي: ليست هذه الأمنية الملكية الكريمة ببعيدة التحقيق. ففي الإمكان أن تنقل السينما هذه المشاهد الرائعة إلى جميع الناس.

وإن مما يؤسف له أنه قد مضى على حرب فلسطين قرابة شهرين تحدثت فيها الصحف وأذاعت الإذاعات عن انتصارات العرب وقصت قصص البطولة العربية فيها، ووصفت أفلام المراسلين المعارك وصفاً رائعاً، ولكن لم يعرض بأحد دور السينما منظر واحد لشيء

ص: 46

من ذلك على حين تترامى إلينا من هوليود أنباء تنمي بنشاط الصهيونيين في الدعاية بوساطة الأفلام لقضيتهم الخاسرة. وقد أمرت وزارة الشئون الاجتماعية بمنع عرض الأفلام التي يظهر فيها الممثلان من هوليود يقومان بالدعاية الصهيونية.

فهل يكفي أن نمنع أفلام الدعاية اليهودية من العرض في مصر؟ وماذا فعلنا نحن في هذا السبيل؟ ماذا فعلنا لنقل مشاهد المجد العربي على الشاشة البيضاء؟ وأين السينمائيون المصريون؟ أما شبعوا من عرض المباذل والخيانات الزوجية. وإذا كانت وسائلهم قاصرة فأين وزارة الشئون الاجتماعية التي تحرص على الإشراف على الشئون الفنية؟

إن هذا الموضوع لجدير بنظر اللجنة الثقافية بجامعة الدول الغربية، لأنه يحقق الأهداف التي ترمي إليها من نشر الأفلام السينمائية بالبلاد العربية، بل يجب أن يبدأ به ويوجه إليه كل الاهتمام، فينفق في إنجازه كل المال المعد لنشر الأفلام السينمائية المتقدمة.

مصر تطل على العالم

تناول الأستاذ محمد رفعت في حديثه (مصر تطل على العالم) بالمذياع يوم الأحد الماضي موقف مجلس الأمن من قضية فلسطين، فقال إن هذا المجلس الذي يرغي ويزبد الآن لأن الأمم العربيةلم تقبل مد الهدنة، هو الذي يغضي عن تصرفات الأمم الكبيرة المخالفة لميثاق هيئة الأمم المتحدة، في حين أن الدول العربية لم تخرج عن هذا الميثاق لأنها تدافع عن كيانها وتعمل لاستتباب الأمن في جزء منها طبقاً للمادة الثانية والخمسين من الميثاق.

وقال الأستاذ إن الأمم الكبيرة شكلت هيئة الأمم المتحدة لتنهي آثار الحرب وتحل المشكلات العالمية، ولكنها إلى الآن لم تستطع أن تعقد الصلح مع ألمانيا والنمسا واليابان بل لم تستطع أن تحل المستعمرات الإيطالية، ومع أن هذا لا يحتاج إلى مفاوضات مع الأعداء بل يفرض عليهم فرضاً، وذلك للخلافات بين الأمم الكبيرة الناشئ عن مطامعها الاستعمارية. وفي الوقت الذي تعجز فيه الهيئة ومجلس أمنها عن كل ذلك، تريد أن تجعل من هذا المجلس أداة تخويف وإنذار للدول الصغيرة والمتوسطة، فنرى لأعضاء فيه من أولياء الصهيونية يهددون العرب بالقوة ويلوحون بالعقوبات، ولكن هذا المجلس المهيض الجناحين لن يستطيع الطيران وإذا هو حاول فسيسقط سقطة لا قيام له منها، لأن العرب أصروا على تخليص فلسطين من الصهيونية مهما كلفهم ذلك.

ص: 47

مواكب رمضان:

أذاعت الإذاعة المصرية في أول يوم من شهر رمضان برنامج (مواكب رمضان) من تأليف الأستاذ طاهر أبو فاشا وإخراج الأستاذ محمد محمود شعبان، ومعظم هذا البرنامج أغنيات رمضانية تمثل ألواناً من أغاني الشعب في رمضان، يتخلل هذه الأغنيات حوار قليل يقصد منه الانتقال من جو أغنية إلى أخرى، ولكنه جاء مع ذلك مسبوكا محبوكا.

ولدى الإذاعة برامج خاصة كثيرة، نفضت عنها الغبار، وشرعت تقدمها في فترات مختلفة إلى جانب هذا البرنامج الجديد، فبدا الفرق واضحاً بينه وبينها، فأغنيات (مواكب رمضان) تمتاز بالجمال الفني وتقوم على المعاني الرفيعة، لأن المؤلف لم يعمد إلى الأذكار و (وحوي) وغير ذلك لينقله كما هو بل هو يضفي من نفسه على الصور الشعبية ما يرضي الذوق الخاص إلى الإمتاع العام، فبدل أن تسمع في أحد تلك البرامج (حنن علينا يا كريم حنن علينا) تسمع في مواكب رمضان (هل الهلال وبان) وقد برع الملحن في هذه الأغنية وأداها (الكورس) أحسن أداء.

من طرف المجالس:

كان من شجون الحديث في هذه الجلسة، كتابات بعض كبار الكتاب في هذه الأيام، من حيث إسفافهم وعدم عنايتهم بالتجويد كسابق عهدهم، فحكى الأستاذ كامل كيلاني الطرفة الرمزية الآتية:

كان أحد العمد بالقاهرة، فذهب إلى دكان للحلاقة، ولم يعبأ الحلاق به لمظهره القروي، فحلق له دون عناية. ونهض العمدة وأعطى الحلاق جنيهاً وخرج لسبيله.

وبعد أيام عاد العمدة إلى الدكان، فاستقبله الحلاق أحسن استقبال، واجتهد أن يعوض تقصيره في المرة السابقة، فبذل له غاية العناية. ونهض العمدة وأعطى الحلاق مليماً. فدهش الحلاق وبسط يده بالمليم متسائلاً، فقال له العمدة، هذا المليم للحلاقة الماضية، وذلك الجنيه لهذه الحلاقة.

العباس

ص: 48

‌الكتب

نموذج جديد م قصص قومي

إدريس

(قصة مغربية بالفرنسية - للأستاذ علي الحمامي)

للأستاذ محمود تيمور بك

ثلاثة عناصر، متى توافرت لعمل فني مكنت له، وأبلغته ذروة الإجادة، فأسلست له أهواء النفوس. . .

تلك العناصر التي أعنيها، هي:

قوة الإحساس، وصدق التعبير، وموهبة الأداء. . .

وقد اتسقت ثلاثتها في هذه القصة التي ألفها الأستاذ (علي الحمامي) في اللغة الفرنسية، وسماها:(إدريس)، وصور بها الحياة المغربية وما يضطرم فيها من آلام وآمال. . .

في تلك القصة تنبسط صحف من التاريخ، وننصقل مرآة للحاضر، وتتجلى أحوال سياسية واجتماعية قائمة، وتترسل روح من الوطنية تثير الأفئدة وتهز المشاعر. فالكتاب بفضل ما حواه من ذلك كله - يعد نموذجاً من القصص القومي، جديراً بالتقدير والإعجاب. . .

ومما هو مسلم به عند البصراء من نقادالأدب أن الفن لا يجود ولا يؤتي جناه إلا أن تركت له حرية التحليق والانطلاق، لا نزعة تملي عليه، ولا مبدأ يتحكم فيه. ومن ثم كانت القصص الفني، لأن كتابها مقيدة أقلامهم بما حدد لهم من أغراض، وما عين لهم من أهداف.

ولكن الأديب (الحمامي) في قصته القومية، ينجو من تبعة هذا النقد، على تلك الملاحظة، وذلك لأنه لم يخضع قلمه لمنحي مسوق إليه، ولم يرد فنه على غرض دخيل عليه. وإنما أحس في قوة، وعبر في صدق، وأدى قادراً على الأداء.

لقد عايش المؤلف أمته، وشهد ما تعانيه من كوارث، وما يعوق خطاها من أغلال، وشعر بما يعتلج بين حناياها من منازع الحرية والعزة، وكان لذلك أثر في نفسه لم يلبث أن دفعه إلى التعبير، فجرى قلمه طلقاً يصور حياة قومه، ويكشف عن آلامها وخوالج نفسها في

ص: 49

إيحاء فني قويم.

وأنت تساير (إدريس) بطل هذه القصة، وهو يروي لك أحداث حياته، وما تعاقب عليه من أحوال، فإذا بك - وأنت مسترحل معه - نطالع الحياة المغربية في عصرها العتيد، فترى كيف صنعت سياسة الاستعمار بذلك الوطن المغلوب على أمره، وتعلم كيف يسام الخسف والعسف في جحيم تلك السياسة الغشوم، وكيف تتوق نفسه إلى عيش الحرية والكرامة، فهو يكافح ويجاهد ما وسعه الكفاح والجهاد.

فقارئ هذه القصة لا يملك سكينته إزاء ما يمر به من صور تفصح له عن نفسية شعب أبي يتعزى في الحديد والنار، وتشعره بما يكمن في سريره ذلك الشعب من فتوة وحمية، وما يغلي في عروقه من دماء أسلافه الذي كانوا في طليعة بناة الحضارة وسادة الأمم.

والقصة في جملتها مزاج طريف من التاريخ والسياسة والوطنية والاجتماع، أو طاقة مزهرة تجمع تلك الأفانين المختلفة؛ وبراعة الكاتب تتجلى في تأليف هذا المزاج، وتنسيق تلك الطاقة. فهيهات أن يلمح القارئ في اطواء القصة حديثاً لا يستدعيه الموقف، أو موقفاً ينبو عن سياق، أو إغراقاً في وصف وتصوير تتجافى به القصة عن سبيل التأثير والإقناع.

ما أكثر ما كتب الغربيون عن الأمم الشرقية والإسلامية بلغات العرب، ولكن ما كتبوه لا يصور نفسية هذه الأمم وعقليتها حق تصويرها، ولا يستوفي حقائقها كما هي عليه، وذلك لأن أولئك الكتاب إما أن تحدوهم نية سيئة ونزعة مغرضة، وإما أن يقعد بهم عجز عن التحقيق وصدق التصوير.

وإذن فقد أحسن صاحب الصورة (إدريس) صنعاً، إذ كتب قصته بلغة عربية، سدا لذلك النقص، وإطلاعاً لقراء الغرب على حقائق أمة إسلامية فتية تنشد سلامة وكرامة.

وما أجمله توفيقاً أن تكون تلك اللغة العربية التي كتبت بها لا قصة هي اللغة الفرنسية. . فالقصة ليس إلا صفحة من اضطهاد المستعمر الفرنسي. فمن الخير أن يقرأها الفرنسيون بلغتهم، دانية المنال، حق يتبين لهم: كيف يؤدون في بلاد المغرب رسالة الحرية والسلام!

محمود تيمور

ص: 50

‌القصص

اليوميات

قصة للكاتب الألماني أرثر شنتزلر

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

كنت عائداً إلى منزلي ليلة أمس عندما جلست فترة من الوقت على مقعد بحديقة المدينة، فلاحظت فجأة سيداً جالساً على الطرف الآخر من المقعد لم أشعر بوجوده من قبل. وأثار ظهره الفجائي دهشتي وشكوكي لأنه لم يكن في حاجة إلى الجلوس على نفس مقعدي، لخلو المقاعد من رواد الحديقة في ذلك الوقت المتأخر من الليل.

وهممت بالرحيل عندما خاطبني ذلك الغريب. كان يرتدي معطفاً رمادياً طويلاً وزوجاً من القفازات أصفر اللون. وناداني باسمي بعد أن رفع قبعته يحييني. وعندئذ أدركت في دهشة من هو. إنه الدكتور جوتفريد فيفالد، ذلك الشاب المهدب ذو المقام الممتاز. وكان قد نقل منذ أربع سنوات من الخدمة المدنية في (فينا) إلى ضاحية بالنمسا. لذلك لم أر موجباً للتعبير عن دهشتي من رؤيتي إياه في ذلك الظرف من الزمان والمكان، على الرغم من أني لم أكن قد شاهدته منذ عيد الميلاد الأخير.

ورددت تحيته بابتسامة فاترة، ثم هممت أسأله عن سبب جلوسه هنا عندما قال لي فجأة وهو يبدي بيده حركة اعتذارية.

- أرجو المعذرة يا سيدي العزيز، ولكن وقتي محدود. ما أتيت إلى هنا إلا لكي أسرد عليك قصة غريبة. ذلك إذا لم يكن لديك مانع من الاستماع إلي.

فسارعت إلى التصريح باستعدادي لسماع ما سيقوله وأنا في دهشة ما تفوه به. ولم أتمالك من سؤاله لماذا لم يقابلني بالمقهى، وكيف استطاع أن يجدني هنا، ولماذا وقع اختياره علي بالذات لأستمع إلى قصته؟

فأجاب في صوت أجش غير عادي - أما عن السؤالين الأولين فسأجيب عليهما أثناء سردي القصة، وأما اختياري لك يا سيدي العزيز (ولم يلقبني بأي لقب خلاف ذلك) فهو لأني أعرف فيك الكاتب الأديب الذي أستطيع الاعتماد عليه في نشر قصتي العجيبة بالطريقة التي تلائمه.

ص: 51

وبدون أن ينتظر تعليقي على ما فاء به، انشأ يقص قصته دون تمهيد، قال:

تدعى بطلة قصتي رديجوندا. وكانت زوجة البارون ت. الكابتن في فرقة س. إحدى فرق (الدراغون)، وكان مقرها بلدتنا الصغيرة. (ولم يذكر في الواقع من الأسماء سوى الأحرف الأولى ومع ذلك عرفت البلدة واسم الضابط الفارس ورقم فرقته).

واستمر الدكتور فيفالد يقول (كانت رديجوندا ذات جمال باهر، وقعت في حبها من النظرة الأولى - كما يقول الناس - ولسوء الحظ لم تسنح لي الفرصة التي تتيح لي التعرف بها، فضباط الفرقة وعائلاتهم قليلو التعارف بالمدنيين، ولذلك كنت أقنع بالنظر إليها عن بعد، أراها وحيدة أو بجانب زوجها أو بصحبة الضابط الآخرين وزوجاتهم وهم يسيرون في شارع البلدة.

وكنت أحياناً أحظى برؤيتها تطل من إحدى نوافذ دارها، أو ألمحها داخل عربة تتأرجح بها قاصدة إلى المسرح الصغير في المساء وهناك أشاهدها جالسة في مقصورة من مقعدي بأعلى المسرح، فيخيل إلي إنها تعطف علي فترميني بنظرة عابرة لا أجرؤ أن استنتج منها ما يشف عن الغزل أو التعارف. وبدأت أيأس من استطاعتي وضع قلبي تحت قدميها عندما قابلتها فجأة وعلى غير انتظار في صباح يوم من أيام الربيع الجميلة بالحديقة الصغيرة الممتدة من باب البلدة الشرقي إلى الريف. مرت أمامي وعلى شفتيها شبه ابتسامة دون أن تلحظ وجودي. وسرعان ما اختفت بين الأشجار دون أن يمر على خاطري أن أحييها أو أتحدث إليها. ولا أدري لماذا لم أشعر بالأسف بعد ما توارت عن أنظاري في أني لم أقم بمثل هذه المحاولة، ولكن كل ما أدريه أنه حدث لي شيء غريب. لقد شعرت بنفسي فجأة أندفع وراء الخيال وأتصور ما الذي يحدث إذا ما كانت قد تمالكت شجاعتي واعترضت طرقها أخاطبها. وجعل خيالي يصور لي كيف لم تخف سرورها بجرأتي هذه، وكيف طفقت تحدثني وتشكو وحدتها وحاجتها إلى من تبثه لواعج نفسها وقلبها، وكيف شعرت بالبهجة عندما وجدت في ذلك الرفيق الذي تنشده. وكانت نظرتها إلي عندما ودعتها نظرة تحوي كل معاني الود والتفاهم حتى لخلت - على الرغم من يقيني بأن كل هذا كان مجرد خيال - بأني عندما أراها مرة ثانية بمقصورتها بالمسرح في المساء سأشعر بأن في صدري كنزاً مدخراً من العواطف لا يشاركني فيه أحد سواها.

ص: 52

لعلك لا تعجب يا سيدي العزيز إذا ما قلت لك بأني وجدت نفسي منساقاً وراء ذلك الخيال الذي لا أدري كيف بعث، ولعل منشأة قوة خفية في نفسي لا أدري كنهها. فسرعان ما أعقبت أولى مقابلات غيرها، وازداد شغفي برد بجوندا، حتى أقبل اليوم الذي وجدتها بين ذراعي وتقدم بي خيالي، وابتدأت تزورني في شقتي الصغيرة بأقصى البلدة، وعندئذ تذوقت كل أنواع البهجة التي لم أتذوقها في حياتي الواقعية والتي لا أعرف طعمها إلا في خيالي الرائع.

وأقبل علينا الخريف عندما علمت أن فرقة (الدراغون) الذي ينتمي إليها زوجها قد أمرت بالرحيل إلى جاليشيا. فشعرت باليأس القاتل يملأ نفسي - بل يملأ نفسينا - ولم نترك شيئاً مما يقوله العشاق في مثل هذه المناسبة إلا تحدثنا عنه. تكلمنا عن الهرب معاً، والموت معاً، وعذاب الخضوع لحكم القدر. وأقبلت الليلة الأخيرة ولما نصل إلى قرار بعد. وانتظمت رديجوندا في غرفتي المزدانة بالزهور وكنت قد حزمت أمتعتي وحشوت مسدسي وكتبت رسائل الوداع استعداداً لما قد يحدث. كل هذا يا سيدي العزيز كان حقيقة نتجت عن خيال غريب. إن وقوعي التام تحت سحر ذلك الخيال جعلني أعتقد تمام الاعتقاد توقع ظهور محبوبتي أمامي في آخر أمسية قبل أن ترحل الفرقة. كنت أشعر بقوة خفية لم أحسب لها حساباً تدفعني إلى البقاء بالدار. وكنت أتوجه مئات المرات إلى الباب الخارجي فأنصت علني أسمع وقع خطواتها، ثم أنظر خلال النافذة آملاً أن أراها مقبلة نحوي. ثم شعرت بالقلق واليأس ينتابان نفسي حتى أوشكت على الاندفاع خارجاً، لأبحث عن رديجوندا وأختطفها من زوجها مطالباً بحقي في الاستحواذ عليها، حق حبنا المتبادل.

وأخيراً تهالكت على مقعدي وأنا أرتجف رجفة من أصابته بالحمى. وفجأة - قرب منتصف الليل دق الجرس الخارجي، فشعرت حينئذ بأن قلبي يكاد يكف عن الخفقان. إن دق الجرس - كما تعلم - لم يكن وليد الخيال. واستمعت إلى صوته وأنا مذهول، وشعرت برنينه يطرق أذني، فأيقظ في الإحساس الكامل بالحقيقة. كنت أدرك أنه حتى هذا المساء لم تكن مغامرتي سوى سلسلة من الأحلام العجيبة؛ ولكني شعرت عندما سمعت ذلك الرنين بأمل جريء يستيقظ في ذات نفسي، ذلك الأمل في أن رديجوندا وقد أثر في أعماق قلبها تلك القوى الخفية التي أحيت خيالي، واستجابت إلى دعوتي بقوة رغبتي فيها، سوف أراها

ص: 53

واقفة أمامي بلحمها ودمها على عتبة داري، وأنه في اللحظة القادمة سأتناولها حقاً بين ذراعي.

وذهبت إلى الباب وفتحته، ولكن. . . لم تكن رديجوندا هي الواقفة أمامي، بل كان. . . زوجها! كل ذلك كان حقيقة كحقيقة وجودك بجانبي على هذا المقعد.

وقف الضابط لحظة يتأمل وجهي، ووقفت أمامه مذهولاً، ثم دعوته إلى الدخول والجلوس. ولكنه ظل واقفاً وقال في ازدراء أنت تتوقع قدوم رديجوندا. من سوء الحظ أنها لا تستطيع الحضور. لقد ماتت! فرددت قائلاً: ماتت!

وخيل إلي حينئذ أن العالم قد توقف عن الحركة.

وطفق ضابط (الدراغون) يقول في هدوء - لقد وجدتها منذ ساعة بمكتبها وأمامها هذا الكتاب، وها أنذا قد أحضرته ليسهل علينا وضع الأمور في نصابها. لقد قتلها الرعب على ما أعتقد عندما دخلتن عليها في حجرتها بغتة. هذا هو آخر ما سطرته. اقرأه من فضلك.

وناولني كتاباً مغلفاً بجلد بنفسجي اللون، فقرأت الكلمات الآتية (. . . والآن سأترك منزلي إلى الأبد. إن حبيبي في انتظاري).

وأطرقت إطراقه من يدرك ما الذي تعنيه هذه الكلمات.

واستمر الضابط يقول - لا شك أنك أدركت أن ما تحمله في يدك هو يوميات زوجتي. من الأصوب أن تلقي عليها بنظرة، حتى تدرك أنه لا يجديك الإنكار.

وقلبت الصفحات وطفقت اقرأ وأقرأ حوالي الساعة، وأنا مرتكن على مكتبي وهو جالس على المقعد دون حراك. قرأت قصة حبنا كاملة؛ تلك القصة الغريبة بكافة تفاصيلها منذ التقائي بها في ذلك الصباح من يوم الربيع، وتحدثي إليها في الحديقة. ثم قرأت عن أولى قبلاتنا، وسيرنا معاً، وذهابنا إلى الريف، وساعات نشوتنا في غرفتي المزدانة بالزهور، وخططنا التي وضعناها للهرب أو الموت، وسعادتنا وبأسنا. كان كل ذلك مسطراً في هذه الصفحات؛ هذا الذي لم يكن فيه مسحة من الواقع ولكنه كل ما اتفق لي وقوعه في الخيال، وشعرت بعجزي عن تفسير أمر هذه اليوميات. ولكن تبلج في نفسي ضوء نمن الحقيقة هو أن رديجوندا قد أحبتني كما أحببتها، وأنها قد حصلت على تلك القوة الغامضة فمنحتها موهبة الخيال وبذلك شاركتني كل حوادث مغامراتي تلك.

ص: 54

ثم ظهر لي شيء آخر. . إن هذه اليوميات لم تكن سوى وسيلة للانتقام مني بسبب ترددي الذي منع أحلامي - أحلامنا - من جعلها حقيقة واقعة، وحتى موتها الفجائي كان من صنع إرادتها. بل كان في نيتها أن تضع هذه اليوميات في يد زوجها بهذه الطريقة، ولم يكن لدي من الوقت ما أستطيع فيه أن أستعرض كل هذه المعضلات وأحاول تفسيرها، ولكن وجود زوجها هنا كان إحدى التفسيرات، بل التفسير الطبيعي لكل ما حدث، ولذلك عملت بما تتطلبه الظروف، ووضعت نفسي تحت تصرف الضابط في كلمات تناسب الموقف).

فصحت قائلاً - دون أن تحاول.

فقاطعني الدكتور فيفالد في خشونة قائلاً - حتى لو كان هناك أدنى نوع من النجاح لمثل هذه المحاولة فإنها لتظهر لي شيئاً مشيناً. أني أشعر نفسي بأني مسؤول عن كل هذه النتائج التي أوجدتها مغامرتي الخيالية هذه - تلك المغامرة التي كنت جباناً لأني لم أحققها.

(وقال الكابتن - إني أحب أن أضع الأمور في نصابها قبل أن يعلم الناس عن موت رديجوندا إننا الآن في الساعة الأولى صباحاً. ففي الساعة الثالثة سيتقابل شهودنا. وفي الخامسة سنسوي أمورنا.

وأومأت بالإيجاب في برود، ثم غادرني: ورتبت أوراقي، ثم تركت الدار أبحث عن صديقين فوجدتهما في فراشيهما، وأطلعتهما على الشيء الضروري حتى يدركا المهمة الملقاة على عاتقيهما ثم جعلت أذرع الطريق أمام نوافذ دارها، دار رديجوندا المسجاة الآن على فراش الموت، وتملكني حينئذ شعور اليقين بأني أسير نحو نهاية مصيري المحتوم.

وفي الساعة الخامسة صباحاً واجهت الكابتن وواجهني والمسدس في يد كل منا في الحديقة الصغيرة بالقرب من المكان الذي خاطبت فيه رديجوندا للمرة الأولى.

فقلت - وهل قتلته؟

قال - لا. . إن رصاصتي مست صدغه، ولكنه أصابني في قلبي، وسقطت ميتاً في التو واللحظة كما يقولون.

فالتفت إلي جاري العجيب وكلي دهشة واستغراب، فإذا به قد اختفى من ركن المقعد فذهلت. . . وأخيراً سألت نفسي ألا يجوز أنه لم يكن موجوداً على الإطلاق، وأن كل ما حدث لم يكن إلا وليد خيالي؟ ولكني تذكرت أني سمعت بعضهم كان يتحدث بالمقهى في

ص: 55

الليلة السابقة عن مبارزة سقط فيها الدكتور فيفالد ميتاً وعن اختفاء السيدة رديجوندا في نفس اليوم، والاعتقاد إنها هربت مع ملازم شاب من الفرقة دون أن تترك وراءها أثراً.

وتوالت علي الأفكار والأسئلة. أكان ما حدث وما سمعته حقيقة واقعة؟ ولكني تراجعت أمام التفكير الذي يخالف المنطق. فقد أجشم نفسي مشقة تأييد نظريات لا قبل لي على تصورها، كالتصوف وعلم الروح.

إنه لا يمكنني إثبات حقيقة مثل هذه القصة، إذ تنقصني الأدلة المادية على صحتها. ووجدت لو أني اعترفت بها لواجهت مشكلات لا تعد ولا تحصى، ولاعتقد الناس أني إما ساحر أو دجال. ومن ثم قررت في النهاية أن أقص تلك الزيارة الليلية كما حدثت دون تعليق عليها، وأنا واثق من اعتراض الكثيرين على صحتها، فإن شعور الثقة عند الناس عن الكتاب وما يكتبونه أقل بكثير من شعورهم نحو غيرهم.

(الإسكندرية)

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 56