المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 787 - بتاريخ: 02 - 08 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٨٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 787

- بتاريخ: 02 - 08 - 1948

ص: -1

‌أدب المقالة

للأستاذ عباس محمود العقاد

نشر الكاتب المطبوع الدكتور زكي نجيب محمود جملة من مقالاته في مجموعة سماها باسم إحدى هذه المقالات، وهي (جنة العبيط).

ولو شاء الكاتب المطبوع لسماها (جهنم الحصيف)، ولم يكن في تسميته خطأ ولا خروج عن صدق الدلالة، لأن هذه المقالات في جملتها تدل على هذه (الجهنم) التي يعانيها الحصيف في حياته، فيترجم عذابها وآهاتها في أسلوب يلوح للقارئ كأنه غير أسلوب العذاب والآهات، وهو منه في الصميم. وذاك هو أسلوب السخرية والمزاح.

لا جرم جعل الدكتور زكي شرط المقالة أن يكون الأديب ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل. فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثيرا أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة. و ' ن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية أدسن ما كتب، فلن تجده إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح).

وإذا كانت المقالة كذلك فسم أد المقالة جنة العبيط أو جهنم الحصيف، فأنت على صواب.

ولكننا نريد أن نقول إن (المقالة) أنواع وليست بنوع واحد، وإن اسمها في العربية لا يحصرها في هذا الغرض الذي أحب الأستاذ أن يقصرها عليه، ونريد أن نتفاهم على اسم يطابق المقالة كما يعرفها في مقدمة هذه المجموعة على التخصيص.

يقول الأستاذ: إن المقالة يشترط فيها (أن تكون على غير نسق من المنطق: أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية، منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة). . . ويقتبس رأي جونسن الذي يرى: (أنها نزوة عقليه لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام). . . قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شئ).

ومما لا خلاف عليه أن هذا التعريف يصدق على نوع من المقالة يزداد شيوعا بين الغربيين كلما شاعت الصحافة وشاعت معها أساليب الكتابة العاجلة، ولكنه لا يحصر جميع

ص: 1

المقالات الأدبية، ولا يصدق على جميع الفصول التي تكتب في حيز المقالة المستقلة.

فالكلمات التي تطلق على المقالة في اللغات الأوربية يوشك أن تفيد كلها معنى المحاولة والمعالجة. فكلمة وكلمة وكلمة بل كلمة وهي تترجم أحيانا بمعنى الدراسة لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تفيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإيجاز، وكلها مستمدة من أساليب معامل النحت والتصوير، يريدون بها الرسم الذي يخطط الصورة قبل تلوينها، أو النموذج الذي يصب التمثال على مثاله، وينقلونها إلى الموضوعات الأدبية على سبيل الاعتذار لا على سبيل الاشتراط. كأنهم يتقون نقد الناقد بهذه التسيمة، فلا يحاسبهم على كتابتهم بحساب العمل المتمم الذي استوفى نصيبه من الإتقان، كما فعل الفيلسوف مونتاني أبو المقالة الأدبية، حين سمى فصوله بالمحاولات، لأنه يراها دون ما ينتظر من مثله من التحقيق والاستيفاء، لا لأنه يحقق بها شرطا يتقيد بها الكاتب ولا يجوز له أن يخرج عنها.

وكلمة وهي أبعد قليلا من هذا الغرض، تفيد معنى الفاصلة أو الجزء، ويقابلها عندنا معنى (الفصل) الذي يستقل بموضوعه، ولا يشترط فيه أن يكون فصلا في كتاب مطول تتممه فصول.

لكن هذه المعاني لا تستوعب أغراض المقالات كلها في الكتابة الأوربية أو في الكتابة العربية.

فمقالات باكون وماكولي وأرنولد وسان بيف ليست كلها من هذا القبيل. بل مقالات (وليام هازليت) نفسه على مساهمته في أدب المقالة كما يعرفها الدكتور زكي نجيب، لا تجري كلها على هذا النسق، وفيها ما هو أشبه بالبحوث والرسائل في حيز صغير.

ولا يخفى أن البحث لا يشترط أن يكون كتابا ضخما أو كتابا صغيرا في عدد الصفحات، فإذا جاز أن يتم البحث في حيز مقالة، فليس ما يمنع انتظامه في عداد المقالات.

لهذا نقول: إننا في حاجة إلى اسم غير اسم المقالة للدلالة على نوع المقالات التي يعينها الأستاذ نجيب.

فهل نسميها العجالة؟ أو نسميها النبذة؟ أو نسميها الأحدوثة؟ أو نسميها الأملية؟ أو نسميها المسامرة؟

ص: 2

إن اسماً من هذه الأسماء أدل عليها من اسم المقالة على إطلاقه، وقد عرفنا الأمالي والمسامرات والنبذ والعجالات في الأدب العربي فرأينا فيها مسحة من أسلوب المقالة كما شاع بين الأوربيين في العصر الحديث.

على أنني لا أدري هل أقرظ (جنة العبيط) أو أنقدها حين أقول إنها تشتمل على مقالات لا تنطبق عليها الصفة التي قيد بها كاتبها موضوع المقالة الأدبية. ومنها مقالة (أعذب الشعر أصدقه)، ومقاله (عن أدب المقالة) بعد المقدمة. . . فإنهما بريئتان من فضيلة التشعث والخلود من النسق المنطقي وضابط التنظيم إن صح أنها فضائل مشروطة جميع المقالات.

إلا أن فيلسوفنا عدو الفلسفة قد استطاع أن يحرص على هذه الفضائل وأن يتجنب المنطق والنظام في بعض المقالات الأخرى فلم يخطئه التوفيق، لأنه قد استطاع مع ذلك أن يقول شيئا تلذ قراءته ويستجيش الذهن إلى التفكير.

قال في مقال (النساء قوامات):

(إذا عشت في أمة هازلة حملك الناس محمل الهزل إن كنت جادا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحا).

ثم قال: (ولست أرى لك حيلة سوى أن تقسم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء أنك فيما تحدثهم به إنما قصدت إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح).

وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إنني أعرف هذه الخصلة جد المعرفة، لأنني كثيرا ما كنت من ضحاياها.

ومن ذاك أنني اقترحت مرة على مسمع من شيوخ عقلاء أن تعمد الحكومة إلى تجربة نافعة في كفاح الشيوعية، وهي إخراج الشيوعيين مرتين في كل يوم (طابورا) واحدا يمر كل يوم في حي من أحياء المدينة، ليرى الناس بأعينهم أي (خلق مقبلة) هذه التي تريد أن تقلب العالم على من فيه.

فضحك الشيوخ العقلاء!

وكتبت ذلك من قبل ومن بعد، فضحك القراء الألباء. مع أنني والله جاد؟؟ أقترح، ولا أزال مصرا على هذا الاقتراح.

أيرى صديقنا الدكتور نجيب أن هذه مقدمة مطمئنة في صدد الكلام على مقترحاته؟

ص: 3

ليتمهل قليلا. . . أقل من لحظة واحدة، لأنني سأقول له على الأثر إنني أحسبه مازحا فيما كتب، واحسبه محققا لشرط المقالة في تمهيده، ولن يثنيني عن هذا الحسبان قسم بباسط الأرض ورافع السماء، ولا إنذار يلوح به في خاتمة أو ابتداء.

فالأستاذ نجيب يقترح أن تسلم النساء زمام الأمور في الأمة مائة سنة ليعلم الناس بعدها أنهن قوامات على الرجال.

ولا حاجة هنا إلى سؤال أكثر من السؤال عمن يعلق الجرس!

هل تتقدم النساء فيستولين على القوامة أيديهن؟ إن استطعن ذلك فلا حاجة إلى اقتراح، وسقمن بالأمر متى استطعته مئات السنين وأبد الآبدين، ولا ينزل عنه بعد مهلة الاقتراح!

أم يعجزون عن ذاك ويكن مع هذا قادرات على القوامة؟

لا منطق هنا ولا نظام، ولكنه مزاح على شرط المقال في تمهيد (جنة العبيط). . . وحق باسط الأرض ورافع السماء!

وإنما أسوق هذا التعقيب لأخلص منه إلى نتيجة لا تجافي المنطق ولا النظام، فأقول للأستاذ نجيب: اكتب على شرطك أو على غير شرطك، ما دمت على الحالين تقول ما يطيب وتقول ما يصيب.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌أيها العرب اعلموا أن العالم كله يحاربكم

للأستاذ نقولا الحداد

أشرف لكم أن تشرب الأرض دماءكم من أن تنزف نزفا بطيئا بين براثن الصهيونية.

رأينا أن الدول في لايك سكسس ترجمنا بالحجارة كلما بسطت قضيتنا في مجلس الأمن أو هيئة الأمم. ونحن نتمرمر من أن هذه الدول عميت عيونها عن حقنا في حين أن حقنا ناصع كالشمس راد الضحى في هذه الاجتماعات الدولية. وكلما شددنا أنفسنا قلنا (سننتصر لأن الحق معنا).

لا يا سادتي. لا تعتمدوا على الحق. لأن الحق لا يكونسلاحا ماضيا إلا في عالم الأخيار حيث يتجلى الحق الإلهي فيسجد له الأبرار. وأما عالمنا هذا فهو عالم الشرار حيث يتجلى الظلم والاستئثار. فلا تعتمدوا على سلاح الحق فهو سلاح الخيال ولا وجود إلا لحرفيه (ح. ق). وما هذه الاجتماعات التي تعقد في لايك سكسس إلا مؤتمرات شيطانية يعقدها أبالسة السياسة فيما هم يتقاسمون مغانم الحرب من دماء الأمم الصغيرة. والحمد لله إن الدول المتناهبة الغنائم غير متفقة فيما بينها وإلا سحقت جميعالأمم الصغيرة سحقا في بطونها الكبيرة.

فلا تعتمدوا يا سادتي على سلاح الحق. لا سلاح لكم إلا عزمكم وحزمكم وأنفتكم وحصافتكم ثم سواعدكم. فإن انتصرتم فزتم بكيانكم الشريف. وإن هلكتم سلمتم من مذلة العبودية لشياطين الصهيونية ويا لها من مذلة أليمة وعبودية لجنس ليس من البشر وليس له رحمة ولا رأفة ولا إنسانية.

رأيتم أن مجمع المتآمرين في لايك سكسس قد عرف واعترف أن الهدنة كانت في مصلحة اليهود، وأنه لم يحترمها إلا العرب. وقد ثبت أن اليهود غنموها فرصة لإدخال فريق من المهاجرين إليهم ولاستقبال أسلحة وطائرات ودبابات لم تكن موجودة عندهم، والطائرات الضخمة التي غزت القاهرة بالأمس ما كانت إلا إحدى الطائرات التي دخلت تل أبيب في شهر الهدنة. وظهر لكم جليا أن الهدنة الثابتة تقررت لأجل غير معين - أستبقى إلى أن تتوطد دله إسرائيل المزيفة ولو طالت اشهرا وسنين؟ وقد ظهر لكم أن برنادوت كان أخبث من صل وأروغ من ثعلب؛ فكان يغض نظره عن اليهود فيما هم ينقضون الهدنة ساعة بعد

ص: 5

ساعة، وما وسعه إلا أن يقول إني لم أذهب إلى فلسطين لكي أوطد حقا أو أقيم عدلا، بل لكي أوفق بين فريقين مختلفين. ولكنه أخفق في عمل هذه الأعجوبة، لأنها أعجوبة مزج الظلمة بالنور. وما تورع أن يطلب من مجلس الأمن 2500 جندي لكي ينفذ الهدنة بالقوة. وإن لم يكف هذا العدد طلب أيضاً عدداً مثله. ويظل يطلب إلى أن يصير عنده مائة ألف. أو يأتي أخيرا بقوات أمريكا وإنكلترا. وربما طلب أخيرا قنابل ذرية.

أفليست كل هذه التصرفات والاستعدادات لإقامة دولة صهيونية بالقوة القاهرة؟ فإذا ليستالهدنة هذه هدنة بالمعنى الحقيقي المفهوم ولا سيما أن أحد الفريقين لا يريدها، وما طلبها إلا الفريق الذي رأى نفسه مغلوبا على أمره.

وما جرى في لايك سكسس ليس كل ما تفعله الدول الكبرى اللئيمة ضد العرب. بل هناك مساع إبليسية لمنع بعض الدول الصديقة للعرب من مساعدتهم في الحصول على سلاح.

فأولا: إن الدولتين الكبيرتين اللئيمتين تهددتا تركيا بأن تكفا عن مساعدتها ماليا إذا كان تسهل للعرب الحصول على السلاح. ولكن هل يمكن إنكلترا وأمريكا أن تقطعا المساعدة المالية عن تركيا وهما قد ترجتاها أن تقبل هذه المساعدة لكي تكون ترسا لهما ضد روسيا. فهل جنت هاتان الدولتان حتى تضيعا هذا الترس لأجل سواد عيون اليهوديات أو زرقتها؟ لا نظن أن تركيا تخاف هذا التهديد.

ثانياً: تهددتا اليونان بأن تجعلا بلادها أتون ثورات إلى أن تضمحل فيه إذا كانت تسهل للعرب الحصول على السلاح. ولكنا لا نحن ولا اليونان نصدق أن إنكلترا وأمريكا تتخليان عن اليونان لكي تقع في إحبولة السوفيات.

ثالثا: أغرتا فرنكو سيد إسبانيا أن تزيلا الجفاء الذي بينه وبين هيئة الأمم لكي تقبله الهيئة في حظيرتها. هذا إذا كان لا يساعد العرب في الحصول على السلاح، ولكن هل يعبأ فرنكو بوعدهما، وهل هو لا يعبأ بهيئة الأمم أكثر مما أعبأ بمؤتمر الدول الخمس حين دعته هذه الدول لكي تفاوضه بشان موقفه فهز كتفيه وقال لا أحضر مؤتمركم. فمن يريدني فليأت إلي. لا ثقة لفرنكو بعدالة هذه الهيئة أكثر من ثقته بقوة جمعية الأمم المرحومة.

هذا بعض ما ظهر من لؤم الدولتين الكبيرتين في مقاتلة مصلحة العرب وفي معاونة صهيون. زد على هذه المساعي الشريرة التي تسعاها الدولتان الكبريان ومن مالأهما فإنهما

ص: 6

تهدداننا بالعقوبات الاقتصادية. هل إحداهما الأكثر نفاقا تعلم أننا لا تعبأ بالعقوبات الاقتصادية لأن عندنا عقوبات لهما أقوى منها. وتعلم أيضاً إننا نستغني عن استيراد أي شئ من الخارج. فعندنا أرض تنتج الغلال، وإن احتجنا إلى غذاء نأكل الحجارة. وعندنا قطن وصوف ومعامل لغزلهما ونسجهما. وإن احتجنا إلى كساء ننسج من الخيش ملابس. وعندنا النفط والقطن وهم لا يستغنون عنهما. فواحدة باثنتين.

أيها العرب لا تيئسوا فلكم من الله ما يقيكم شر أولئك الأشرار. اصمدوا ولا تجبنوا ولا تحسبوا حسابا لتهديدهم لا تتكلوا على سلاح الحق فخصومكم لا يقيمون للحق وزنا. ومجلس الأمن ليس محكمة لوضع الحق في نصابه، ولا هو ميزان العدالة.

إني أكاد أنشق غيظا حين أرى أعداءنا يقيمون بيننا يقاسموننا رزقنا، ولهم النصيب الأوفر منه. وهم يكيدون لنا ويغدرون بنا. وكل يوم عندنا ببينات على خبثهم وغدرهم، ليس في فلسطين فقط بل في سائر البلاد العربية. وقد تمادى كيدهم حتى رموا القاهرة بقنابلهم.

كيف نسمح لألد أعدائنا أن يعيشوا بيننا ويغدرون بنا ونحن سكوت لا نتكلم ولا نعمل؟! يجب طردهم ومصادرة أموالهم. فهم قوم لا إنسانية عندهم ولا رحمة ولا شفقة. لقد رأيتم ما كان من توحشهم في دير يس وطبريا وغيرهما. فاعلموا إنكم سترون أضعافه إذا ثبت لهم قدم في وسط البلاد العربية.

أما أنتم أيها الأمريكان المغفلون والإنكليز البلداء وأمثالكم فبعد عشرين سنة ستقولون: حقا أننا عادينا العرب ظلما وعدوانا. وستكرهون اليهود كما كرههم الألمان قبلكم. وسيقوم فيكم هتالرة يفعلون بهم أكثر مما فعله هتلر الألمان فيهم - غفر الله له!

نقولا الحداد

ص: 7

‌الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ

للدكتور جواد علي سكرتير المجمع العلمي العراقي

تحتل نظرية التطور مكانا بارزا بين النظريات التاريخية، وقد تقوى مركز هذه النظرية بعد تطور مفهومالتاريخ، وظهور ما يسمى بفلسفة التاريخ. وقد ابتدع هذه الاصطلاح الفيلسوف الفرنسي الشهير (فولتير) الذي كبت بحثاً طريفا في عام 1765، وتناول فيه عادات ونفسيات الشعوب، والحضارة البشرية بصورة عامة، وفلسفة التاريخ الإنساني العام، وجعل عنوان هذا البحث أو (فلسفة التاريخ) ومنذ هذا شاع هذا الاصطلاح حتى أصبح عنوانا لموضوع دراسة قائمة بحد ذاتها، ومذهبا من مذاهب التاريخ.

وخلاصة نظرية فولتير أن التاريخ البشري عبارة عن كفاحمستمر نحو عالم أرقى وبشرية أسمى، وتطور دائمي نحو عالم أكمل، أي أنه سار مع أصحاب نظرية التطور، وساير المتفائلين على الرغم من روح التشاؤم التي عرف بها هذا الفيلسوف. وقد استخدم الفيلسوف الألماني (هيردر) هذا الاصطلاح الذي أوجده فولتير في كتابه القيم الذي سماه (آراء في فلسفةالتاريخ الإنساني) وشاع منذ هذه الحين بين الألمان، ثم انتقل إلى سائر اللغات الأوربية الأخرى.

وشاعت (فلسفة التاريخ) في أوربا وحاول أصحاب هذه الدراسة وضع قواعد وأسس كالتي نراها في العلوم الطبيعية لتحويل التاريخ إلى علم مثل سائر العلوم؛ حتى طغت على الطريقة المألوفة في كتابة التاريخ العام، وظهر منهم من رأى وجوب إخضاع (التاريخ العام) لقواعد فلسفة التاريخ، وتحويل (التاريخ) إلى فرع من فروع الفلسفة أو طريقة من طرق (علم النفس) بحيث نتمكن من الإطلاع على النفس البشرية وروحية الإنسانية منذ عرفت إلى ما شاء الله. وقد وجدت هذه النظرية أنصارا ًوأتباعاً في النهاية القرن التاسع عشر وكونت لها مدرسة كبرى كان من أساطينها الفيلسوف (ريكرت و (سيمل) و (ترولش) و (ديلتاي) و (هايدكر) وعلى رأس هؤلاء جميعا الفيلسوف الكبير (ويندلبند) صاحب المؤلفات المعروفة في الفلسفة وفي فلسفة التاريخ.

والتاريخ في الواقع أهم العلوم التي تتأثر بالعواطف والميول الفردية والجماعية والسياسية العامة للدولة والشعوب، ويمكن أن نقول إنه مرحلة تمهيدية للسياسة العملية، ولذلك تحرص

ص: 8

الحكومات بجميع أنواعها على الهيمنة عليه وعلى الطرق التي بدون بها هذا العلم، ومن أهم الطرق المعروفة والتي دونت بها كتب التاريخ الطرق الآتية:

1 -

الطريقة الثنائية الثيوقراطية في التاريخ، وهي من أقدم الطرق الشائعة حتى اليوم في تدوين التاريخ. وهي الطريقة الرسمية للكنيسة الكانوليكية، ولآباء الكنيسة منذ عهد القديس أوغسطين (354 - 430م) منظم هذه النظرية وواضعها، وقد سيطرت على عقول المؤرخين المسيحيين طيلة القرون الوسطى. ولا زالت تسيطر على عقول كتاب الكنيسة حتى اليوم.

والسبب في تسميتها (ثنائية) أنها تصورت وجود مملكتين (مملكة الله) ومقرها السماء، و (مملكة الشيطان) ومقرها العالم السفلي أو الأرضي، ورئيسها (الشيطان) وهي دولة معادية للخالق وفي حرب مستمرة مع أنصار الله. وقد تأسست هذه الدولة بسقوط لوسفر السماء إلى الأرض، وكان (قابيل) قاتل أخيه (هابيل) أول مواطن في هذه المملكة؛ لأنه استجاب داعي (إبليس) فقتل أخاه، وهو بهذا أول قاتل على وجه الأرض. وأما (هابيل) المقتول فإنه من مواطني مملكة اله. إذ غفر الله له الخطيئة التي ارتكبها آدم وشمله بعفوه ورحمته وأودعه مملكته في المساء.

ودولة (إبليس) على سطح الأرض قائمة ولا زالت تحاول بسط نفوذها على ممالك الكرة الأرضية، وكانت أولى الدول التي استجابت نداءه دول آسية والقيصرية اليونانية - الرومانية. وقد تمكن إبليس بفضل أساليبه المغروفة في الإغراء والهيمنة على العقول من السيطرة على عقول حكام هذه الدول إلى أن ظهر (المسيح) الذي جاء لإنقاذ البشرية وإعادة مملكة الله على هذه الأرض ولرفع (الخطيئة) عن أعناق البشر. فأبى أعداء الله إلا إجابة دعوة إبليس، وقد انتقلت دعوة المسيح إلى الكنيسة فهي التي ترعاها وتدافع عنها وتسعى لتأسيس مملكة الله من جديد ونشر مبادئ الله بين المذنبين.

وقد قسمت هذه النظرية البشر أفراداً وجماعات إلى طائفتين: طائفة أبناء الله) وهي التي آمنت بالله وعملت وفق أحكامه وأوامره وسعت لنشر مبادئه بين الأمم الأخرى، وهي تحب الأمن والسلام وترجو العافية في كل مكان وتبتغي حياة الاستقرار ونشر المحبة، وطائفة (أبناء إبليس) أو (أبناء الشيطان) وهي التي استجابت لدعوة الشيطان وتحزبت له وتجندت

ص: 9

في صفوفه، التي وهي قلقة مضطربة لا يستقر لها قرار، تريد الفوضى والتخريب والنزاع فيما بين البشر وسفك الدماء، شأنها في ذلك شأن سيدها الشيطان الذي يحاول بكل ما عنده من حيل ووسائل، العمل على تقويض (مملكة الله) ومساعدة أعمال (الدجال) وتحبيذ فعله ومحاربة (الكنيسة) وتشجيع (الخطيئة) غير أن نجاحه هذا وقتي وستزول مملكته في النهاية وينتصر جنود الله. وعندئذ يكمل التاريخ البشري وتسود المحبة كل الشعوب، وتنقي الخطيئة وتشمل رحمة الله عباده المؤمنين.

فالغاية من هذه التطور التاريخي وفق هذه النظرية مرور البشرية في هذه الأدوار الحرجة التي يكون فيها المؤمن كالقابض على جمرة النار فيمتحن الله فيها عباده، إلى أن تتداعى مملكة إبليس فيحصل (أبناء الله) على شرف (المواطنة في مملكة الأب) ولا يتحقق هذا الهدف إلا إذا دان الإنسان بمبادئالكنيسة، واعتبر كل ما هو موجود على سطح الأرض زائلا لا يدوم، وإن الدوام لله، وإن الأموال واسطة للقربى من مملكة الله، فيجب التصرف فيها وفقا لأوامره ولأحكام التي وضعتها الكنيسة، يشمل ذلك الأفراد والجماعات.

وتسري هذه الأحكام على الدول خاصة، وعلى الحكام أمناء الله على العباد، لأن وظائف الدولة هي وظائف عالية، وبيدها مقدرات ملايين الناس، وقد اختار الناس بمجرد حريتهم أمثال هذه المؤسسات الاجتماعية لخدمة مصالحهم وحقوق الله، فلا يجوز للحاكم أن يحيد عنها ويتعداها فتصبح الدولة دولة من الدول الممثلة لإرادة الشيطان ويكون الحاكم طاغية من الطغاة فيحرم من حق المواطنة في مملكة الله. وتصبح الدولة التي يديرها آلة من آلات الشيطان مسخرة لتنفيذ مبادئه يجب الأخذ بناصر الكنيسة ورجال الدين أولياء الله على الأرض.

ومن هذه النظرية استمد البابوات سلطانهم وحاولوا فرض إرادتهم في القرون الوسطى على الحكام الزمنيين. باعتبار انهم يمثلون السلطات الشرعية التي هي ارفع السلطات وانهم ينفذون أوامر الله بين الناس، وأن ذلك لا يعني العبودية ولا الخضوع لإرادة الكنيسة التي لا تعرف الرق بل تعني التسليم عن اختيار، والإيمان المحض مع الشعور بما يترتب على ذلك من مسئوليات. وقد كانت هذه النظرية مصدر نزاع بين الحكام الذين كانوا يرون في هذه العقيدة سبباً من أسباب التدخل في الأمور الدنيوية التي يجب أن يبتعد عنها رجال

ص: 10

الدين، والتي تتنافى مع مبادئ الدين نفسه.

إن هذا التفسير للتطور التاريخي هو تفسير ديني، وهو تفسير يتقارب في الأفكار العامة مع تفاسير رجال الأديان وإن كان يتعارض مع التفاصيل ومن له مصدر هذه السلطات. ويتقارب (البروتستانت) في التفسير التاريخي مع هؤلاء على الرغم من اختلافهم عن الكاثوليك في سلطة (البابوات) ورجال الدين. وربما كانوا أقرب إلى نظرية (أوغسطين) من إخوانهم الكاثوليك.

وممن دافع عن هذه النظرية المؤرخ (بوسويه)(1627 - 1704م) في كتبه التي ألقاها في التاريخ؛ فعنده أيضا ان نهاية التاريخ هي تحرير الإنسانية من (الخطيئة) إقامة حكومة الله. وقد اعترف في كتبه سلطتين في العالم سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، وسلطة الكنيسة بالطبع هي العليا لأنها تمثل مبادئ الله على هذه الأرض. وعالم آخر إيطالي هو (ويشو)(1668 - 1744م) وهو صاحب أبحاث قيمة في التاريخ؛ وعنده أن تطور كل أمة يخطو خطوات ثلاثا (ثيوقراطية) و (مرحلة القوة والبطولة) و (المرحلة الإنسانية). حيث تسود فيها قوانين الله وشريعة العقل، ويسير الله في كل هذه المرحلة وعند جميع الأمم هذه الأدوار بحكمته وإرادته ويربط فيما بنيها؛ ولذلك يسير التاريخ على الرغم مما نراه من استقلال ظاهري متضامنا يؤثر بعضه في بعض، والكنيسة هي أعلى مؤسسة ثقافية ظهرت في التاريخ البشري، وسيكون النصر لها. وهنالك مؤسسات ثقافية أخرى ظهرت عند البشر هي الثقافة العبرانية واليونانية والرومانية وقد أزالتها الحضارة المسيحية سيدة الحضارات.

وقد صيغت هذه النظرية المسيحية للتاريخ في أسلوب واضح حديث عند بعض المؤرخين مثلدمستر (1754 - 1821م) وهو إداري وفيلسوف فرنسي، وكان بمثل الكاثوليكية المحافظة في نظريته عن الدولة وأثناء ممارسته للسياسة. وكان يرى أن سلطة البابوية فوق سلطات الملوك والحكومات يجب أن تكون كذلك لأنها تمثل إرادة الله التي هي فوق كل إرادة والفيلسوف فو جورس (1776 - 1848م)، وهو الكاتب السياسي الذي أيقظ الروح الكاثوليكية وصبغها بالصبغة (الرومانتيكية) ودعا وهو بلاط الملك (ليدويك) ملك (بافاريا) إلى إرجاع السلطة المقدسة العليا إلى مكانتها السابقة وإلى الاعتراف بها على أنها أهم مرجع يجب الركون أليه حل المشكلات.

ص: 11

وقد اصطبغت هذه النظرية الدينية بصبغة (رومانتيكة) صبغها بها الكتاب الذين تأثروا بالمذهب (الرومانطيقي) أمثال (فريدريك شليكل)(1722 - 1829م) في كتابه (فلسفة التاريخ). وهو من كبار أصحاب المذهب (الرومانطيقي في ألمانيا) وبالمس (1810 - 1848م) والفيلسوف البروتستانتي روشول و (كروب)

وكان من نتائج تقدم العلوم الطبيعية وشيوع الآراء العقلية التي تطرد كل ما لا يقبل التصديق عن العقل ولا تؤمن إلا بالتجربة وشيوع المذاهب المادية ومحاولة العلماء تطبيق القوانين والنتائج التجريبية حتى على العلوم العقلية البحتة. وقد قوت الثورة الفرنسية هذه الحركة وساندتها نظرية داروين المعروفة وما أعقبها من آراء طبقت في التاريخ وفي علم الاجتماع وعلم النفس.

وكانت الطرق التاريخية المعروفة تعتمد إلى درجة كبيرة في سرد الحوادث على ذكر (الأفراد) الموهوبين الذي كانوا يصنعون التاريخ على حد قول أكثر المؤرخين. وقد خالف القائلون بالمذهب المادي في التاريخ هذا الرأي، وأشادوا على العكس بفعل الجماهير وأثرها العظيم في تكوين الأفراد. وقد تولد من هذه النزعة المادية التي دخلت التاريخ ما يعرف بالمذهب المادي في التاريخ.

والفكرة المادية قديمة جداً في الواقع؛ فهنالك أناس نادوا بها في عالم اليونان مثل وكان من المعاصرين للفيلسوف (500 قبل الميلاد) والذين كان من تلاميذه (ديمقريط) ومثل (أبيقور) الذي أرجع أصل كل شئ إلى المادة. وكان هنالك جماعة آخرون.

غير أن المسيحية وقفت هذه الحركة المادية، وعرقلت انتشارها طيلة القرون الوسطى وما تلاها ذلك إلى أن كتبت لها العودة ثانية في القرن الثامن عشر الميلاد، فأخذت توجد لها أنصاراً وأعواناً إلى أن شملت جماعة من أصحاب العلوم العقلية، كالفلسفة والتاريخ، وقد ظهرت في التاريخ على شكلين: شكل يقال له (المادية البيولوجية) وشكل يقال له (المادية الاقتصادية) أو (المادية الاجتماعية وأحيانا (الديالكتيكية المادية).

(البقية في العدد القادم)

جواد علي

ص: 12

‌كتاب النوادر لأبي عبد الله محمد بن الأعرابي

إملاء أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي

(مخطوط عالمي نفيس)

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

عثرت في خزانة الكتب الخالدية في بيت المقدس على الجزء الأول من كتاب (النوادر لابن الأعرابي) أما الجزء الثاني فمفقود وقد بحثنا طويلاً فلم نعثر على أثر. وقد أسرعتفكتبت إلى البروفيسور برو كلمان العالم الشهير في مدينة هال، ووصفت له الكتاب، فكان سروره عظيماً بهذا الخبر، وقد أجابني قائلا إن الكتاب نادر الوجود على ما تعلم، وحثني على دراسته وإخراجه لأنه من أنفس كتب الأدب وأجلها قدراً. ومعلوم أن ابن الأعرابي عاش في القرنين الثاني والثالث وكان من كبار أئمة اللغة والمشتغلين فيها، وعاصر كبار رجال عصره وأخذ عنهم، وهو ربيب المفضل الضبي صاحب المفضليات.

ومما يزيد في قيمة هذا المخطوط النادر أن النسخة التي بين أيدينا هي من إملاء أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي (ثعلب) وقد نسخت لخزانه صاحب الحبس أبي عبد الله الكناني من نسخة بخط أبي علي الآمدي كتبها للوزير أبي الفضل بن الفرات من خط أبي موسى الحامض، وعورضت بها، وعارض بها الوزير نسخة بخط ابن الكوفي وبخط ابن الحداد عن أبي العباس ثعلب. عن ابن الأعرابي، وقد دونت هذه الزيادات في الحواشي ثم فرشت بعد ذلك على ابن خرزاز فصحت.

وصف المخطوطة:

تقع المخطوطة في 287 صفحة وهي مكتوبة على ورق صقيل جيد يميل إلى الصفرة، وقد كتبت بالخط النسخي الواضح بالحبر الأسود. وقد شكلت حروفها وزيدت عليها زيادات في الحواشي بالحبر الأحمر، فما كان عليه فهو من نسخة ابن الكوفي وما كان عليه جاء فهو من نسخة ابن الحداد.

وطول الصفحة 21 سنتمتراً وعرضها 16 سنتمتراً وقد بدأت السوسة تأكل صفحاتها.

تاريخ النسخة:

ص: 14

نسخت هذه النسخة لخزانة صاحب الحبس أبي عبد الله إبراهيم ابن محمد بن حسين بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الحكم الكناني.

وقد انتقلت النسخة بعد ذلك إلى (أحمد بن محمد بن عبد الكريم) ثم (سلمان بن إبراهيم بن سلمان) وانتهت إلى وقف السيد أحمد الموقت المقدسي المتوفى سنة 1171هـ، وكان للسيد المذكور خزانة كتب نفيسة، وآلت في النهاية إلى خزانة الكتب الخالدية منذ أوائل هذا القرن.

ومما لاشك فيه أنها نسخة معتبرة لأنها نسخت عن نسخة بخط الآمدي كتبها للوزير ابن الفرات وهو قريب عهد بالمؤلف. كما أنها عورضت بنسخ أخرى معتبرة.

من هو ابن الأعرابي؟

يصفه لنا ابن النديم في فهرسته ص 102 وابن النديم من رجال القرن الرابع ألف كتابه العجيب سنة 377هـ وتوفى سنة 385هـ.

فيقول (إن أبا العباس ثعلب وهو تلميذه شاهد في مجلس ابن الأعرابي وكان يحضره زهاء مئة إنسان، فكان يسئل ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب، وقد لزمه بضع عشرة سنة، ولم ير في يده كتاباً!).

ويقول إنه مات (بسر من رأى) وقد أعلى على الناس ما يحمل على جمال. ولم ير احد في الشعر أغزر منه، وقد قرأ على القاسم ابن معن وسمع من المفضل وذكر أنه ربيبه وكانت أمه زوجة المفضل وإنه ولد سنة 150هـ وهي الليلة التي مات بها أبو حنيفة ومات 231هـ، ثم ذكر كتبه على ما سيأتي في آخر المقال.

أما عبد الرحمن بن محمد الأنباري المتوفى سنة 577هـ صاحب نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص207 - 213) فقد قال إنه كان مولى لبنى هاشم، وإنه من أكابر أئمة اللغة، وإنه أخذ عن الكسائي كتاب النوادر وعن أبي معاوية الضرير، وأخذ عن ابن ثعلب أحمد بن يحيى وهو الذي أملى هذا الكتاب. وإذا أخذنا بقول الأنباري، جاز أن تكون هذه النوادر للكسائي أخذها عنه تلميذه ابن الأعرابي ولا بد من مقابلة هذه النوادر بنوادر الكسائي في كتبه الثلاث لتصح هذه النظرية.

ص: 15

وفي رأي ابن الشعراني أن سفيان الثوري كان رأسا في الحديث وأبو حنيفة في القياس والكسائي في القرآن وابن الأعرابي في كلام العرب.

أما ياقوت في معجم أدبائه. فقد ذكره في صدد ترجمة أبي سعيد الضرير (ص118) فقال إنه أقام بنيسابور وأملى المعاني والنوادر ولقي ابن الأعرابي، وفي (ص119) يقول إنه صحب بالعراق أبا عبد الله محمد بن زياد ابن الأعرابي وأخذ عنه.

وأما ابن خلكان المتوفى سنة 681هـ فقد ترجمه في (ص492) وقال إنه من موالي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، وقيل من موالي بني شيبان وقيل غير ذلك والأول أصح.

وابن خلطان يكشف لنا عن جنسيته فيقول إن أباه زيادا كان عبداً سندياً، وإن ابن الأعرابي كان أحول، وكان رواية لأشعار القبائل.

ويقول إنه لم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين منه. ثم يذكر لنا علاقته بالفضل الضبي، وأسماه بعض أساتذته مما مر ذكره، ويقول إن من تلاميذه، أبا العباس ثعلب وابن السكيت. وقد ناقش العلماء واستدرك عليهم وخطأ كثيراً من نقلة اللغة وكان رأساً في الكلام الغريب.

وكان يزعم أن أبا عبيده والأصمعي لا يحسنان شيئاً.

وكان يقول جائز في كلام العرب، أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع هذه وأنشد:

إلى الله أشكو من خليل أدوه

ثلاث خلال كلها لي غائض

وقل في كشف الظنون ص (616) تحت باب النوادر، إن الأقدمين ألفوا كتباً في النوادر العربية والفقهية سوى ما ذكر منهم أبو عبد الله بن زياد المعروف بابن الأعرابي اللغوي وهو أي كتاب النوادر (رواية أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي ويونس النحوي المذكور في الأمثال وعليه رد لأبي سعيد حسن بن محمد السيرافي النحوي).

تصانيفه:

وقد عدد ابن النديم تصانيفه في فهرسته ص 103: ومنها كتاب النوادر، وكتاب الأنواء، وكتاب صفة النخيل، وكتاب صفة الزرع، وكتاب النبات، وكتاب الخيل، وكتاب مدح

ص: 16

القبائل، وتفسير القبائل، وكتاب معاني الشعر، وتفسير الأمثال، وكتاب الألفاظ، وكتاب نسب الخيل، وكتاب نوادر الزبيريين، وكتاب نوادر بني فقمس، وكتاب الذباب، بخط السكري، وكتاب النبت والبقل.

ويضيف ابن النديم أنه روى عن جماعة من فصحاء العرب منهم الصمروتي والكلاني وأبو المجيب الربعي.

نموذج من كتاب النوادر:

نقتصر الآن على إيراد صفحتين من أول الكتاب، وصفحتين من آخره لندل بذلك على أسلوبه. وليس للكتاب فصول ولا أبواب، وإنما هو إملاء لنوادر العرب، وقصصهم، ثم شرح هذه النوادر، وما جاء فيها من الكلام الغريب مع مجموعة زاخرة من المترادفات: قال في الصفحة الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم، حسبي الله معيناً - قال أبو العباس أخبرنا ابن الأعرابي قال بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالس مع أصحابه إذ نشأت سحابة، فقيل (يا رسول الله هذه سحابة) فقال عليه السلام (كيف ترون قواعدها؟) قالوا (ما أحسنها وأشد تمكنها) قال (كيف ترون رحاها؟) قالوا (ما أحسنها وأشد استدارتها) قال (فكيف ترون بواسقها؟) قالوا: (ما أحسنها وأشد استقامتها) قال: (فكيف ترون برقها أوميضاً أم خفيا أم يشق شقاَ؟) قالوا (بل يشق شقاً) قال: فقال صلى الله عليه وسلم (الحيا) قالوا (يا رسول الله ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أفصح منك) فقال (ما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني، بلسان عربي مبين).

قال: قواعدها، أسافلها، ورحاها وسطها ومعظمها، وبواسقها أعاليها، وإذا استطال فيها البرق من طرفها إلى طرفها وهو في أعاليها فهو الذي لا يشك في مطره وجوده، وإذا كان البرق في أسافلها لم يكد يصدق.

قال رجل من العرب وقد كبر وكان في داخل بيته وكان بيته تحت السماء (كيف تراها يا بني؟) قال (أراها وقد نكبت وتبهرت وأرى برقها أسافلها) قال (أخلفت يا بني).

والومض أن يومض إيماضة ضعيفة، ثم يخفى، ثم يومض وليس في هذا بأس من مطر قد يكونولا يكون. وأما المسلسل في أعاليها فلا يكاد يخلف. والاقتداء نظر الطير ثم إغماضها تنظر نظرة ثم تغمض، ثم تنظر نظرة ثم تغمض، قال حميد بن ثور:

ص: 17

خَفىْ كاقتذاء الطير والليل ملبس

بجثمانه والصبح قد كاد يسطع اهـ

وإليك أيها القارئ الكريم نسوق مقالا آخر وهو ما جاء في آخر الكتاب: رمأ على الستين، وأرمأ ورمث وطلث وزاحمها وداهمها وحباها وحبا لها إذا بلغها وقدعها جازها.

وقال قلت للكيلاني (كم أتى عليك) فقال (قد ولت لي الخمسون ذنبها. وقلت لآخر (كم أتى عليك) فقال (أنا في قرح الثلاثين) وقال آخر (وقد أخذت بعنق الستين، وأردأت على الستين وجر دمتها إذا جازها وجردم ما بالحفنة أتى عليه.

وقال الكلب الغزل الذي يصيد ظبياً فإذا صار إلى الثالث لاعبه ولم يعرض له، فيقال غزل إذ رآه. ويقال فيه تخنيث. وطرقة وحلة. وقال الدفر النتن متحركة، والدفر بسكون الفاء الذل ويقال دفر في عنقه ودفع في عنقه ومنه قول عمر واد فراه! أي وأذلاء!

ويقال هو معروف سوء، وثلة سوء، وبيئة وجبية سوء. وقال نثطل ونآطل دهم الدواهي.

قال وقلت امرأة ورأت رجلا عهدته شابا جلداً: أين شبابك وجلدك؟ فقال من طال أمره وكثر ولده ورق عدده، ذهب جلده. وقوله رق عدده أي سنوه التي يعيدها، ذهب أكثرها وبقى أقلها وكان عنده رقيقا وأنشد:

لم يختر البيت على التغرب

ولا اعتناف رجلة عن مركب

فهو ممر كمسقاط القنب

الاعتناف: الكراهة.

يقول لم يخثر كراهة الرجلة فيركب ويدع الرجلة ولكنه اشتهى الرجلة وأنشد:

إذا اعتنقتني بلدة لم أكن لها

نسباً ولم تسدد على المطالب

وقال الورق ورق الشباب، نضرته وحداثته، والورق قطع الدم، والورق ورق الدنيا وأنشد:

ترى ورق الفتيان فيها كأنهم

دارهُم منها مستجاز وزائف

(نجز الجزء الأول من كتاب نوادر ابن الأعرابي والحمد لله حمد الشاكرين، يتلوه في الجزء الثاني: قال الفند اسمه سهل بن شيبان بن بيعة)

أحمد سامح الخالدي

ص: 18

‌خليل مطران

بمناسبة صدور الكتاب الذهبي لمهرجان تكريم

للأستاذ وديع فلسطين

قليل تالله كل ما قيل في الخليل!

وضئيل وأيم الحق ما بذل في تكريمه.

خليل مطران من الماهدين في الشعر الحديث، ومن معبدي الطريق أمام النهضة الثقافية والفكرية في العالم العربي المعاصر، ومن الدعائم الأولى في بناء الأدب المسرحي في لغة الضاد، ومن ذوي الفضل في استحداث تعبيرات عربية لمصطلحات وعبارات أعجمية كانت مجهولة مغفلة حتى وضع مطران يده عليها وأشاعها وأذاعها.

وخليل مطران أديب له تميزه الخاص، تفاعلت فيه ثقافات شتى، وذابت في ذهنه آداب من المشرق ومن المغرب، وتهافتت على عربيته الأصيلة قطوف غربية متباعدة الأطراف ففتقت ذهنه، ونشرت أمام عقله المتفتح مجال المعرفة فسيحاً، وجعلت منه ركنا ركينا في صرح ثقافة الشرق، وقطبا يخطب المستشرقون ود شعره، ويلقى فيه المعنيون بالأدب ذي الطابع الإنساني الخالد معينا لا ينضب، ومنهلا لا تغيض غواربه.

أنشد الشعر من خمسين عاما أو تزيد، فكان أبداً مجلياً مجلو البيان، وكان دأبا في الطليعة يؤاخى لا (شوقي) ويزامل (حافظ) ويأخذ عنه ومنه شعراء نصف قرن، وستهتدي بنظمه ونثره أجيال لما تأت.

أمعن في الكتابة، وأوغل في تدوين (المحبرات الطوال) فما خلف بابا من أبواب الرأي إلا طرقة، وما ترك موضوعا يشغل الذهن إلا جاهر فيه بمستقده، وما هجر منحى التفكير لعله ارتآها أو ذريعة تذرع بها.

الشعر، نظمه.

والمسرحيات، ترجمها وألفها.

والاقتصاديات، تضلع منها وحياها بالكثير من وقته وجهده؛ والصحافة، مارسها واشتغل بها وحمل أعباءها فما ننكر لها وما تنكرت له.

والمنبر، ارتقاه منشدا وخطيبا، فلم تذهب نحولته و (دقة) حجمه بقدرته على امتلاك أفئدة

ص: 19

المصيخين له.

فخليل مطران موسوعة حية متنقلة، جالسته كثيراً، فكان دائما صاحب زمام الحديث، يديره بمنة ويسرة، ويعرج به على القديم، ثم يقفز إلى الحديث بل إلى المستقبل البعيد. يعالج فنون الأدب والعلم علاج مقتدرا اصل قواعده، وثبت قدميه. ينظر إلى شؤون الحياة نظرة مشارفة مستلية فلا تبهره المظاهر، ولا يحول البهرج دون أن يبدي في الشأن حكما سديداً. فقد حلب الدهر أشطره، واستوعب غاية ما يستطيعه فرد من قراءة واطلاع وبحت. وخبر الناس طبقات طبقات، وشهد مواكب المدينة تتري أمامه، ورأى أصولا ثابتة تتداعى، وقواعد مؤثلة تهوى ونبلى، وجالس وطوف، وأقام فعرف الباقيات الخالدات من الفانيات الذاهبات. واستجمع هذه الذخيرة كلها في رأسه يرتد إليها في النظم، ويعود إليها في المحادثة، ويغرف منها كلما اشتهى قلمه الكتابة. . . وتلك شهوته المفضلة الأثيرة المقدمة على سواها

خليل مطران، وإن كان قد تسم قنة المجد، وارتقى درجات الرفعة السامقة وشهد ملوكا مضفون عليه من صنوف التقديرألوانا ورؤساء جمهوريات يتسابقون في تكريمه والاحتفاء به، وشعوبا تهتف باسمه وتردد شعره في كل صقع ناطق بالضاد، وأقطابا مرموقين يجتمعون من كل حدب ليسدوا له الثناء موفورا على مسمع من الحشود، وعلى ملأ من المعجبين. . . وإن كان مطران قد قرأ كتباً ألفت في إطرائه وتقريظه، ومقالات دبجت في مديحه والإشادة به، وشعرا أنشد في تمجيده وتخليده، غير أن هذه جميعا لم تفلح في بث روح الكبر في خليل مطران، ولم تجد في حمله على الشموخ والاستعلاء.

فقد ظل الخليل لأصدقائه خليلا، وأبقى على خلة الاتضاع والوداعة، حتى لقد افرط في هذا إفراطا تجاوز المدى. وكثيرا ما حدثني عن (تفاهته) وصغر شأنه وعجبه من أن يكون موضوع ذكر من قومه.

وهذا شعره يردد فيه آيات الدعة فيقول:

أخاف من سوء تأويل لرأبكم

في الفضل لو قلت إني لست بالقمن

يقول:

سادتي، جاز فضلكم آمالي

أجدير شأني بأدنى احتفال

ص: 20

أي شئ أنا الذي نال هذا ال

عطف منكم، ما صحتي، ما اعتلالي

ما يرجى من مشهدي أو مغيبي

ومكاني إلا من الطيف خالي

عندي الحائلان دون رفيع ال

قدر من قلة ومن إقلال

بل لقد يذهب به تواضعه إلى افتقاد رقيق الحال من الأدباء. وسلوا أحياء القاهرة تجبكم أن خليل مطران أعرف الناس بدخائلها يزور كل أديب، ويبحث عنه أينما كان مأواه، ليعرف أفي مسرة هو أم في معسرة، أبه حاجة إلى عون يسدى إليه أم إلى هم يرفع عنه، أم إلى قلب كبير يواسي قلبه، أم إلى كلمة تشجيع يحفز بها همته، أم إلى رفقة تؤنس وحشته، أم إلى حديث شهي ينسيه علته. وحسبي في هذه السانحة أن أقول أن خليل مطران أن كان القلة القليلة التي أحاطت بالشاعر إبراهيم الدباغ يوم ألمت به أسقام البدن ويوم حرمته الدنيا بهجة الإبصار، فكان يقصد صومعته في زورات متتالية منتظمة غير متحرج ولا متردد وال معاند، وكان يؤثر مجالسة هذا الأديب على مسامرة الكبراء وذوي اللقب والجاه.

وخليل مطران قوة دفعة للأدباء. يرى هذا يوشك على التعثر فيقيمه، وذاك يسرف في انحرافه فيقومه، لا يبخل بالتشجيع ولا يضن بالثناء، ولا يدخر وسعاً في سبيل بعث الهمة التي تبطت، ورد روح النشاط التي خمدت.

أتيته يوما بكتاب ترجمته وقلت له: إني عليم بأمراضك مدرك أنك من طلعة الشمس إلى طلعتها في صبيحة اليوم التالي تبرح بك الآلام وتخضع لنظام دقيق عينه لك الأطباء؛ فهذه إبرة تحقن في جسمك مرات في اليوم، وهذه أنواع شتى من الأدوية تتعاطاها شرباً واحتلاباً وابتلاعا عدا الحمامات الساخنة وأعباء التدليك والتدهين. ورجوته بعد هذا أن لا يكلف نفسه عناد تلاوة هذا الكتاب، وحسبي فخرا أن أراه موضوعا في مكتبته.

فما كان من مطران إلا أن قضى الليلة ساهراً ليتلو الكتاب كلمة كلمة، غير مشفق على بصره ولا على صحته المتهالكة، ولا مترفق بيديه الكليلتين اللتين لا تقويان على حمل شئ، حتى إذا ما أوشك الصبح على البزوغ، كان صاحب القلب الكبير قد أتى على الكتاب جميعه.

أتدرون لم فعل مطران هذا، ولم عرض نفسه لخطر قد يصيب حياته أو يرد حالته الصحية القهقرى؟؟ لقد فعل الخليل ذلك ليستطيع في اليوم التالي أن يفوه لناشئ بكلمة تشجيع

ص: 21

وإطراء، فيرضى ضميره ويريح نفسه، وإن كان ذلك يؤدى على حساب الصحة والبصر والإجهاد الذهني.

وللاستدراك أقول إن خليل مطران وصف حالته الصحية يومذاك ببيت من قريض مألوف في قرى لبنان، نصه:

وجسمي صار نص ميت ونص حي

ونص الحي باقي للعذاب.

هذه صفحة عن خليل مطران رأيت أن أنشرها اليوم في مناسبة ظهور الكتاب الذهبي لحفلات تكريمه. وليت المجال يسعف، فأدع القلم يتحدث عن مطران الذي عرفته فعرفت فيه إباء في النفس، وكرما في الخلق، وسعة في الصدر، وسداداً في الرأي، وبصيرة نافذة في الأمور، وعفة في اللسان والقلب، وجرأة في القول والفعل، وسخاء في العطاء والإحسان، ووفاء لا يبرهه، وإخلاصا يستمده من قلبه العامر بالإيمان، ومجالدة تدعوه إلى احتمال كل عناء. بل لقد رتب خليل مطران على نفسه واجبات تعهد بالنهوض بها، فما أخل بوعده، ولا منعته علة عن تأدية هذه الواجبات جميعا عن رضاء وراحة ضمير.

ولئن كانت هذه المحامد بأسرها قد اجتمعت وتبلورت في خليل مطران، وأسبغت عليه الشخصية الفريدة التي يزدان بها هذا الأديب الجليل الكبير، فليس يسع المرء إلا أن يضرع إلى الله أن يلطف به وبصحته، ويبرى بدنه من الأدواء التي تكالبت عليه، ويمنحه من فيض رحمته ما يخفف عنه أوجاع المرض، ويكلأ برعايته في أيام تمر عليه كالسنين والدهور.

فليس عند العروبة سوى (خليل مطران) واحد، ونحن نراه لازمة بل ضرورة لأنه بناء لم يعرف الهدم، ولأنه مجدد مصلح كله وفاء ومكرمات.

وديع فلسطين

ص: 22

‌الشعر في السودان

للأستاذ علي العماري

كنت أود أن يكون عنوان هذا البحث (النهضة الأدبية في السودان) فأتناول فيه من حديث الشعر والنثر ما يرسم صورة صحيحة أو قريبة من الصحيحة للحياة الأدبية هنا، ولكن يبدو أنه سيمضي وقت ليس بالقصير دون أن يجد الباحث المادة الضرورية لمثل هذا البحث؛ فإن نثرا مستقلا يكون أدبا لم يتح بعد لباحث.

ومن عجب أن يجد الإنسان مادة غير نزرة ولا قليلة للشعر، ولا يجد شيئا يمكن أن يعتمد عليه في النثر، وربما كان لذلك أسباب كثيرة هي في الغالب أسباب سلبية، وقد يكون من الخير التغاضي عنها، حتى إذا كان من الخير أن نقول في هذا الشأن قلنا، ولهذا أرى من الحسن أن أقصر بحثي على الشعر وحده.

وطبعي أن يكون في السودان شعر، وأن يكون فيه شعر وفير، فإن أسباب الشعر ودوافعه قوية مستفيضة غالبة، ولو استجاب الشعراء لها، ولو لم تشغلهم شئون أخر عن التأثر بها، والتنبه إليها، لجاءنا شعر وخير كثير.

وإنه لتروعك الرغبة القوية في دراسة الآداب، واستظهار المنظوم والمنثور عند كثيرين من أبناء السودان فإنك تجد عددا غير قليل يحفظ الآلاف من أبيات الشعر، ففضيلة زميلنا الشيخ محمد العبيد الأستاذ بالمعهد العلمي بأم درمان يحفظ شعر شوقي كله، لا يند عنه بيت منه؛ وفضيلة الشيخ أحمد العاقب - وهو شاعر - ال يكاد يمر بمسألة، أو يأخذ في حديث حتى يستشهد بأكثر من بيت من الشعر القديم، أو من الشعر الحديث. ولقد لاحظت أن دواوين: شوقي وحافظ والبارودي والعقاد هي الدواوين المفضلةعند الأدباء السودانيين. أما القراءة فهم مغرمون بها، وأكثر ما يقرأون للأساتذة المصرين من كبار الكتاب أمثال طه حسين والعقاد والزيات وهيكل، وآثر المجلات الأدبية عندهم وأحبها إليهم مجلة الرسالة.

ولا مندوحة لمن يريد الدقة والإنصاف في الحديث عن الشعر السودان، أن يقسمه إلى قسمين، شعر المدرسة القديمة، وشعر المدرسة الحديثة، وكلتاهما تعيش في هذا القرن. وتستطيع أن تقول إن المدرسة القديمة سيطرت على الشعر منذ ابتداء هذا القرن أو قبله بقليل، وبقيت سيطرتها إلى عهد قريب، وبعض أساتذتها لا يزالون يرفدون الأدب

ص: 23

بأشعارهم، وإن أخذت أشعة المدرسة الحديثة تبدو في الأفق.

وطابع المدرستين جد مختلف، فبينما نجد سمة التقليد، والتمسك بالتقاليد، والسير على النهج القديم، غالبة على المدرسة القديمة، نجد شيئا كثيراً من التحرر والطموح والاستقلال في المدرسة الحديثة. وقد تأخر - ولا شك - ظهور هذه المدرسة ولم يستقر لأصحابها منهاجهم بعد، ولكني أعتقد أن الخطة الجديدة في نشر التعليم، وإرسال البعوث إلى مصر وإلى غيرها ستؤتي أطيب الثمار في هذه النواحي، نعم لا يزال الشعراء المحدثون في أول الطريق، ولكن بواكيرهم تبشر بأنهم يسيرون بخطى حثيثة نحو الكمال والنضوج.

وسأقصر حديثي في هذا المقال على مقومات المدرسة القديمة ومنهاجها، وطابعها، وشعرائها.

التقليد - في الواقع - هو السمة الأصلية في أساتذة هذه المدرسة. التقليد لشعر القديم وطرائقه، تقليد في الأغراض، وتقليد في المعاني، وتقليد الأساليب، كما أن من السمات الغالبة على هؤلاء الأساتذة سمة الوقار والرزانة والتحفظ. ولا غرو فأكثرهم من (المشايخ) بل إن منهم من وصل إلى أعلى المناصب التي يصل إليها الشيوخ في السودان. نعم من شعراء هذه المدرسة من تخرج في كلية غردؤن، ومن تعلم تعليما مدنيا، ولكن هؤلاء - أيضا - لا يقفون بعيدا عن طائفة المشايخ، لأن روح الدينية أبرز مظاهر الحياة في السودان، وهي قوية مسيطرة، والشعر - ونحن نتحدث عنه من الناحية الفنية - في حاجة شديدة إلى الانطلاق والتحرر والاندفاع.

الشعراء ينظمون كثيراً في المدائح النبوية، وفي المدح، والهجاء، والرثاء، وقل منهم من يخرج على هذه الأغراض. أما معانيهم فهي هي التي نشأت مع الشعر العربي؛ فالشجاع أسد هصور، والجميل بدر منير، والممدوح أندى من الغمام كفا، وأجود من البحر يدا، والفقيد تعزى فيه المروءة والندى، والعاشق لا يزال يقف على الأطلال، ويستوقف الصحب، ويبكي الديار، وأما الأساليب فقلما تميل إلى شئ من الخروج عن منهج الشعر القديم، فلا تجد شاعراً نظم في غير البحور المعروفة بل إنك لتجد أكثر ما ينظم من الشعر على أوزان البحور المشهورة من الطويلوالكمال والبسيط، هذه الأبحر التي تمثل الوقار والشيخوخة والهدوء، ولا أثر في هذه الأشعار لظل الحياة الجديدة الناعمة المتألقة، فهي

ص: 24

أكثر تأثرا بما يقرأ أصحابها من الشعر القديم، وهم يجلونه فلذلك يحتذونه.

وأبرز ما يصور لنا النهج هو ابتداء القصائد بالغزل، الغزل المصنوع طبعاً، فالمدائح، والتهاني، والتوديعات، وأشعار المناسبات، لا بد من بدئها بالغزل، ولا بد - مع ذلك - من إظهار المهارة في حسن التخلص، وجودة الانتقال. على أن بعض الشعراء يترك هذه السنة ليحبى سنة أخرى، فيبدأ قصيدته بذكر الخمر وسقاتها وندمائها، أو يذكر النوق وحثها على المسير كأن يقول الشيخ محمد عمر البنا، وهو يمتدح عثمان دقنه وأعوانه

ما ضرني أن لو حثثت العيس في

أثر الحمول، وإن علا التأنيب

وزجرت للبكرات دامية الخطا

قد مسها نحو الحبيب لغوب

أوجعتها سيراً فصارت ضمراً

كهلاك شك، ينجلي ويغيب

ثم تسأله هذه العيس إلى أين المسير؟ ومن تريد - وأنت تذرف الدمع -؟ فيجيبها بأنه يمم الزهادة والتقى، فعساه يلقى نفحة من سر من زهد الدنيا وطلقها:

(عثمان دقنة) من رقي أوج العلا

بفخارة، والطاهر المجذوب

ومن الابتداء بذكر الخمر قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يهنئ أحد أصدقائه بزواج:

هات اسقني حلب العصير

حمراء كالخد النضير

وادع الخلاعة والصبا

واهتف بحي على السرور

وأقم (لأحمد) من بيوت الشعر أمثال القصور

وهذا ابتداء واضح الدلالة على الصنعة والتقليد، فالشيخ عبد الله هذا العالم الوقور الذي نشأ في بيت العلم والتقى، ال يطلب الخمر، ولا يدعو الخلاعة، ولا يستطيع أن يشبه الخمر بالخد إلا وهو مأخوذ بما في فكره من شعر القدامى، ثم ما هذه المفارقة العجيبة؟ دعوة للخلاعة، وحي على السرور، ولكن الشيخ - وهو من شعراء السودان المعدودين - لا يجد أنسب لذكر الخمر - التي لم يذقها طبعا - من تهنئة بزواج، على أ، هـ يبتدئ مدحه نبوية يذكر الخمر فيقول:

أديري علىَّ الكأس يا ربة الشعر

وجودي بمعسول الرضاب من الثغر

لعلي بهذي الكأس يا عز انتشى

فاسموا بإدراكي إلى العالم الشعري

وأنا - في الحقيقة - حائر في هذه الكأس، أي شئ فيها؟ أهو خمر؟ أم شعر؟ أم رضاب

ص: 25

عزة؟

وكقوله في مطلع قصيدة ألقاها في حفلة الميلاد النبوي:

أدرها بعد نومات العشى

كميت اللون كالخد الوضي

مشعشعة بماء المزن رقت

كما رقت شمائل أريحي

حواليها نواعم آنسات

نواعس، ذات لحظ بابلي

وعلى ذكر الابتداء بالخمر أقول إن وصف الخمر ليس غرضا أساسيا في الشعر السوداني، وإن كنا نجد بعض الشعراء يتسلى بها، كما يقول الشاعر صالح عبد القادر.

اسكب الراح، وناول من طلب

وأدر كأسك، فالدنيا طرب

وأسقنيها بنت كرم عتقت

تطرد الهم، وتشفى من تعب

يا رفاقي لا تلوموني على

حبها، فالعيش في بنت العنب

ما علينا أن شربناها وقد

كتب الله علينا ما كتب

أما الابتداء بالغزل، فهو - كما قلت آنفاً - اللازمة التي لا تنفك لكثير من القصائد، ومن ذلك قول الشيخ عمر الأزهري يمدح صاحب مجلة الجوائب حيث يقول في أولها:

سلوا عن فؤادي مسبلات الذوائب

فقد ضاع من بين القلوب الذوائب

فلا سلمت نفس من الحب قد خلت

ولا كان جفن دمعه غير ساكب

سبا مهجتي لدن المعاطف أهيف

له لفتات دونها كل ضارب

ولا عيب فيه غير أن جفونه

بنتها على كسر جميع المذاهب

هذا شعر جيد، لولا ما ذكر فيه من هذا الاصطلاح النحوي، وإن كان ذلك يعد ملحة ملفتة، وهكذا يمضي في غزله حتى يقول متخلصاً.

وحبي له يخف في الكون أمره

كحب العلا مصباح أفق الجوائب

ولا نعدم في هذه الناحية من يستن سنة أخرى أيضاً، فيبتدئ شعره بانكار الغزل، كقول الشاعر عبد الرحمن شوقي يمدح سيادة الحسيب النسيب السيد علي الميرغني.

وقفت ولم أنسب ولم أتغزل

ولم أشك حالي في الهوى وتذللي

ولم أبك دارك قد عفت وتغيرت

وصحبا كراماً بت عنهم بمغزل

ومثلي إذا جن الظلام رأيته

يقوم قيام الناسك المتبتل

ص: 26

يقولون حب الغيد تيم قلبه

وما حب ربات الخبا عنك مشغلي

وما في فؤادي موضع لمحبة

لغيرك حتى قال ذلك عذلي

على أني سأوفي هذا المعنى حقه عند الحديث عن الغزل، وإن كنت أبادر فأقول: إن جريان الغزل على ألسنة كثير من هؤلاء الشعراء، وخاصة أولئك العلماء الأعلام، من أمثال شيخ علماء السودان سابقاً الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، والشيخ عمر الأزهري، والشيخ البنا وغيرهم، أقول إن هذا مما لا يدع شكا في سلطان التقليد على الشعراء.

ولست أريد من هذا أن أحط من قيمة الشعر السوداني، ولكني أقصد أن السمة الغالبة عليه في هذه الحقبة سمة الاحتذاء والمتابعة، والتقليد فيه خير كثير، وفيه كذلك شر كثير. وإن في هذا الشعر لوثبات طيبة، وملامح مشرقة، سنكشف عنا في أثناء هذا الحديث، كما أن سير الشعراء في ركاب القدامى جعلهم يبعدون بأشعارهم عن تصوير الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يجعل لوصف الطبيعة السودانية الحلابة مكانها البارزة في أشعارهم.

(للحديث بقايا)

علي العماري

مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان

ص: 27

(حياة) بلابسي

للأستاذ نجاتي صدقي

عثر رجال الهلال الأحمر، بعد مجزرة دير ياسين على جثة فتاة في قميص النوم، ملقاة بالقرب من طريق فرعية مؤدية إلى القرية، فتعرف عليها بعضهم فإذا هي المعلمة حياة بلابسي.

عرفتها في أواخر سنة 1947 وقت أن قدمت للإذاعة موضوعاً أدبيا أرفقته بكتاب تقول فيه: (أرجو أن أتمكن من إذاعة حديثي هذا في أقرب فرصة ممكنة).

وبعد أيام من ورود هذا الحديث قابلت أحد قضاة القدس فذكرني (بحياة) وأوصاني بها خيراً. . . ثم قابلت أحد مفتشي معارف فلسطين فنبهني إلى حديث (حياة) وضرورة الاعتناء به. . . ثم قابلت أحد أدباء القدس فقال لي: ألا تهتم بحياة وأحاديثها فهي فتاة تحتاج إلى مساعدة وتشجيع. . . ثم قابلت مديرة مدرسة في يافا فسألتني إذا كنت قد تلقيت حديثاً من (حياة) واستفسرت عن مدى استعدادي لمساعدتها.

فساءلت نفسي: من تكون حياة بلابسي هذه؟. . وما الداعي إلى كل هذا الاهتمام بها؟. . وأخذت أترقب الفرصة لمقابلتها والتعرف إليها عن كثب.

وفي عصر أحد أيام يناير من هذه السنة، وكان الثلج يتساقط بكثرة في القدس، والرياح الباردة العاتية تعصف بشدة، دخلت على حياة وقد تدثرت بمعطف بسيط، ولفت رأسها بمنديل من الصوف وقد رصع بقطع صغيرة من الثلج، فظهرت وكأنها إكليل من زهر الليمون، رمز العفة والطهارة، يطوق رأسها الجميل. وفي هذه المقابلة عرفت منها مأساتها:

لقد فقدت أباها منذ أمد غير بعيد، ووالدتها كسيحة طريحة الفراش، وأختها صغيرة غير قادرة على العمل، فوقع على عاتقها عبء الاعتناءبوالدتها وأختها، والقيام بجميع شؤون البيت، والعمل في الوقت ذاته على كسب المعاش إذ لا مورد لأسرتها تعتاش منه، كما أن والدها لم يترك أي مبلغ من المال، أو أي نوع من العقار.

وهكذا رأت نفسها مضطرة إلى ترك المدرسة قبل أن تحصل على شهادة (المتريك)، وأن تسعى إلى العمل كمعلمة إضافية في مدرسة ابتدائية، فقيل لها في دائرة المعارف: ليس بوسعنا أن نجد لك مكانا شاغرا في القدس لكننا نحتاج إلى معلمة إضافية لقرية دير ياسين،

ص: 28

فقبلت حياة العمل لقاء راتب شهري قدره ثمانية جنيهات.

وقرية دير ياسين تقع إلى الغرب من القدس وعلى بعد عشرة كيلومترات منها، وطرق المواصلات إليها غير متوفرة فكانت حياة تضطر للذهاب إليها والعودة منها سيراً على قدميها، فتترك القدس في الساعة السادسة صباحا مجتازة في طريقها بعض أحياء القدس اليهودية وهي ميا شعاريم، وبيت إسرائيل، ومحنا يهوديا، وروميما. . . ثم تمر بواد وعر إلى أن تصل مستعمرة بيت هاكيرم، ومن ثم تتجه رأساً إلى دير ياسين.

هذا هو طريق الآلام الذي كانت تعبره حياة مرتين في اليوم صيفاً وشتاءً.

وهي مع أنها صبية جريئة كانت تشعر أحياناً برهبة عند مرورها في الوادي، فتخشى أمرا لا تعرف كنهه. . . فتنتظر بعض الوقت إلى أن تمر بها القرويات الذاهبات إلى القرية أو العائدات منها فترافقهن. . . إلا أن هذه الخشية أخذت تتلاشى قليلاً قليلاً، وصارت حياة تعبر الوادي بمفردها محيية الحراثين والرعاة، فيجيبونها محيين مرحبين، مستفسرين منها عن أولادهم ومقدار تقدمهم ونجاحهم في دروسهم، سائلين الله أن يكلأها بعين عنايته ورعايته.

ولم تحصر حياة عملها في القرية على التعليم وإنما كانت تعمل في فترات من النهار ممرضة أيضا، فتمد من هو بحاجة إلى الإسعاف الأولي بمختلف الأدوية، وتعود المرضى في أكواخهم، وإذا رأت أن فيهم من تتطلب حالته دخوله المستشفى اتصلت على الفور بدائرة الصحة القدس تلفونياً، أو ذهبت بنفسها إلى تلك الدائرة عند عودتها إلى بيتها.

وما إن أتمت حياة السنة الأولى من عملها في دير ياسين حتى غدت معبودة سكانها يترادف اسمها مع التربية والطهارة والوطنية الصحيحة.

وفي يوم عادت الفتاة إلى القدس فوجدت إنها فارقت الحياة، فتحملت الصدمة بقلب قوي، ولم تنهزم أمام صروف الدهر القاسية، وثابرت على عملها في دير ياسين بنا طبعت عليه من عزيمة وثبات، فحمل ذلك دائرة المعارف على أن تزيد راتبها الشهري جنيهين آخرين.

وأعلنت هيئة الأمم المتحدة تحقيق ما حلم به هرتزل سنة 1895 في كتاب (الدولة اليهودية)، فهب العرب يدافعون عن أراضيهم ومواطن معيشهم، وانتصب ملاك الموت والمحصد في يده يجني الرؤوس آحادا، ثم عشرات، ثم مئات. . . وكان على حياة أن

ص: 29

تختار أحد أمرين: إما أن تقبع في بيتها تنتظر حظها من الزواج، وإما أن تسكن دير ياسين لتتابع كفاحها في سبيل العلم والصحة.

ولم تتردد والفتاة كثيراً فحملت بعض أمتعتها ورحلت إلى القرية، وسكنت في غرفة من غرف مدرستها.

وفي هذه الغرفة عانت المعلمة أنواعا شتى من الحرمات وشظف العيش. . . أما الضوء فكان مصباح الزيت. . وأما التدفئة فكان الحرام تلفه على نفسها وهي تراجع الدفاتر، وتعد الدروس.

وانتشرت الحوادث بسرعة إلى أن شملت دير ياسين أيضا. . . ولما كانت هذه القرية محاطة بأربع مستعمرات يهودية. خشيت خيانة جيرانها فألفت من فتياتها وفتيانها حامية وكانت حياة من أركانها.

قالت لي ذات يوم: حدث بينما كنت أتدرب على إطلاق النار من البندقية أن أخطأت الهدف وراحت الرصاصة تزغرد في مستعمرة مجاورة!. .

ومضت أيام وأسابيع تأزمت في أثنائها العلائق بين دير ياسين والمستعمرات التي حولها، ولم يدر القرويون أن القيادة اليهودية قد اختارت قريتهم كبدء مرحلة جديدة في خططها (العسكرية).

وعند الساعة الثالثة من صباح يوم قاتم أطبق ألفان من اليهود المسلحين بالبنادق السريعة الطلقات والخناجر، على سكان القرية النيام، ونشبت بينهم وبين الحامية معركة لم تدم طويلا، فتغلب المعتدون على المناضلين القرويين، وبدأت المجزرة!. .

أما حياة فما إن سمعت أزيز الرصاص وانفجار القنابل حتى هبت من فراشها وهي في قميص النوم، وهامت على وجهها في الحقول وبين التلال. . . وبعد لحظات وجدت نفسها في مكان أمين خارج القرية، وبوسعها الالتجاء إلى قرية عربية أخرى. . . إلا أنها سمعت في هذه الآونة أنينا بالقرب منها، فاتجهت إلى مصدره وإذا أمام جريحين من حامية دير ياسين، فتقدمت منهما ومزقت جزء من قميصها ضمدت به جراحهما، ثم قر رأيها على أن تضعهما في مغارة في تلك الناحية إلى أن تتمكن من إخبار رجال الهلال الأحمر عنهما، فحملت أحدهما على كتفيها وصارت به نحو المغارة. . وبعد مسير عشرة أمتار مزق الجو

ص: 30

صوت طلقات سريعة فسقط الجريح قتيلا، وسقطت حياة فوقه مضرجة بدمائها.

أما الجريح الثاني، فقد قدر له أن يعيش، ويروى خاتمة حياة فتاة تذوقت الجهاد في سبيل العلم، والأسى في سبيل العائلة، والبطولة في سبيل الوطن!. .

نجاتي صدقي

ص: 31

‌الأرواح والأشباح

للأستاذ حسين مهدي الغنام

عرف البحث في الروح والاتصال بها في العالم الآخر من قديم الأزل، وقد شغل أعرق الشعوب مدينة في كل ما مر من العصور والأجيال، واستوى في ذلك الوثنيون وأصحاب الأديان. فحضارة الوثنين وتراثهم وآثارهم الباقية صرفت أكبر اهتمامها في البحث عن الروح وما بعد الموت.

كما ذكر الأديان جميعا أن وجود الأرواح بعد الموت حقيقة لا مراء فيها.

وقد ذكرت التوراة قصة روح صالح إسرائيلي متجسدة رأتها امرأة تهبط من السماء ثم تصعد إليها.

أما القدامى فقد كانت أساليبهم في التعبير عن وجود الروح أو الاتصال بها، أساليب بدائية ساذجة، مما حدا بكثير من المفكرين أن ينسبوه إلى الشعوذة وينكروه.

ولقد اهتم العلم الحديث بالروح وتحضيره والاتصال به بعد الموت، حتى اتخذ صفة (العلم الحديث)، وأصبح له أنصار من كبار العلماء والمفكرين.

وبديهي أن يكون الشرقيون أكثر الشعوب اهتماما بالروح فالشرق مهد الأديان ومهبط الأنبياء ومسرى الملائكة.

وفي مصر جماعات تهتم الآن بهذا (العلم) الحديث، وفي هذه الجماعات علماء من كبار رجال الدين مثل الفيلسوف الكبير المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري.

ومن هؤلاء العلماء رجل متحمس لهذا العلم كل التحمس، مؤمن به إيمانا عظيما، هو الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير.

وقد كذبه كثيرون من المتشككين، وانبروا يتحدونه، وهو يصمد لهم ويقبل تحديهم.

وفي الواقع أن هذا العلم يثير الحيرة.

ولو كان الأمر يقتصر على الشرقيين لقلنا إنها شعوب روحية خيالية يجد هذا العلم بينهما مجالا طبيعيا، ولكن العجب والحيرة يأتيان من ناحية الغربيين، وهم قوم ماديون يتشككون في كل شئ، ولا يؤمنون إلا بالمادة وحدها. .

كان اهتمام الغربيين في الماضي بالبحث في الروح يكاد يكون محصوراً في طبقة معينة،

ص: 32

وكان بحثهم فيها يتخذ صورة الاختراع والخيال، أو ينظرون إليها نظرتنا إلى تسمية (العفاريت)!

وكان معظم هذه الفئة أدباء يجنحون إلى الخيالة في كتاباتهم وكان أغلبهم يتخذ صبغة القصة، ومن هذا النوع عاصفة شكسبير، وبعض قصص تشارلز ديكنز، وإدجار آلن بو، وأسكار وايلد، حتى جاء السير آرثر كونان دويل فجعل من هذا اللون من الكتابة فنا، أضفى عليه رداء جديداً. .

ثم ازداد اهتمام الغربيين به في السنوات الأخيرة، فاتخذ منه العلماء علما، حتى تقرر تدريسه في بعض الجامعات، واتخذ منه الكتاب والباحثون فناً. . .

إلا أن العجب حقا أن يكون من هؤلاء الأخيرين صحافيون معروفون يعالجون مواضيعه بأدلة وبراهين لا تترك مجالا للشك في صدق وقوعه. . .

ومن هؤلاء الصحافيين الكاتب الإنجليزي الكبير هانن سوافر، ولزلي وود، وا. ل. لويد، وموريس باربانل، وتريفور آلن، وغيرهم كثيرون.

كما أن للورد هاليف كس كتاباً عن الأشباح نشره حديثا ولم نطلع عليه، ولكنا قرأنا عنه وطالعنا قصة منه منشورة في إحدى المجلات الإنجليزية. .

لو كان هؤلاء الصحافيون أدباء لقلنا إن ما يكتبونه خيال إدباء، ولكنهم صحافيون لا يؤمنون إلا بالملموس الذي يرونه بأنفسهم، ولا يجرون وراء خيال الأدباء.

ومن هذه المقالات التي كتبها حديثها بعض هؤلاء الصحافيين عن وجود الأرواح وتحضيرها، جعلنا مادة هذا الحديث، لأنها تأتى من أوائل الماديين في أوربا. . .

إن المطالع على الآداب الغربية يطالع عشرات من القصص التي تدور حول وجود الأرواح والأشباح في كثير من الأماكن المهجورة والأثرية.

وقد ذكر لزلي وود أن بعض الأشباح سكنت في (الاستوديوات ودور السينما)، بل أن بعضها ظهر في شريط سينمائي. . .

وذكر شاهد عيان في استكهولم، عاصمة السويد، قصصا عن أبرشية تظهر فيها شبح سيدة عجوز في ملابس خضراء تسير بين الأبواب المغلقة، وثلاث سيدات في ملابس من الطراز القديم يجلسن على كنبة يحكن بعض الثياب، وإذا جلست على مقعد معين من

ص: 33

الصخر هناك دفعت إلى الوراء. وقد شهد بكل هذه الأقاصيص خمسة من القسس.

أما تريفو آلن، المؤلف والصحافي المشهور، فقد بدأ كلامه بقوله إن الأشباح التي يحبها هي الأشباح التي يستطيع التحدث إليها، وقد وقع له ذلك الاتصال بها فعلا.

ثم تحدث عما سمعه من القصص التي رواها له علماء ومنهدسون وأثريون لا يكذبون أو يخترعون، فقال: ولنأخذ تل العمارنة، مدينة الفرعون ايخناتون المصري، فقد قابلت منذ بضع سنوات أثريا شابا، هو رالف اليفرز، وكان ينقب عن الآثار القديمة هناك في بعثة جمعية التنقيب المصرية. ولم يكن هذا المهندس المادي يعتقد فيما يسمع عن لعنة توت عنخ أمون. ولكنه ذكر لي أشياء غريبة كان يسمعها في الليل بين تلك الآثار، ولم يستطع لها تعليلا، ومنها موسيقى على آلات من العهد الفرعوني، توقعها أشباح غريبة في زي عصر ايخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

ولا يمكن أن نشك في أقوال رجل مثل السير آرثر إيفاتر، فقد قابلته عندما كان ينقب في قصر مينون، في كنوسوس بجزيرة كريت، فقد ذكر لي أنه سمع ذات ليلة أصواتا غريبة، فترك فراشه ونزل إلى انقاض القصر فرأى كثيرين من رواد البلاط ينزلون السلالم وهم يحملون المشاعل ويتكلمون بلسان مينون الذي عفي عليه الزمان، وقد راقبهم نصف ساعة.

ولما كان جورج جينسج ينقب عن آثار كالابريا القديمة، مرض بالحمى ورأى جنوداً من عهد الإمبراطورية الرومانية يمرون أمامه، وقد وصفهم وصفا دقيقا جداً.

ولنتحدث عن دير العذراء القديم في هيرلي علىنهر التمس الذي أنشأه عام 1086 جيوفري دي ماندفل الذي اشترك في معركة هيسنجس. فقد فرجني الكولونيل ريفرزمور على هذا المكان، ثم ذكر لي عرضا في أثناء حديثه أن شبح زوجة جيوفري الثانية - ليسلينا - وشبح وليم روفرس وهو مدرع بعتاده الحربي ويمتطي جوادً، سكنا أبهاءه. . . وقد وجدت جماجم رهبان في هذا المكان أثناء التنقيب، بقامات ضخمة، وأقدم صغيرة.

وكان لي صديق طبيب قضى أياما هناك، فقال إنه رأى في أحلامه راهبا في مسوح أسود يحادثه، في حجرة من حجرات جناح النوم، وقد أشار الراهب إلى المدفأة الحديثة وقال: أزلها من هنا! ثم رأى الطبيب مدفأة قديمة مستديرة جميلة الشكل تحت دعامة كبيرة من البلوط، خلف المدفأة الحديثة. . . ولما أخبر الكولونيل ريفرزمور بهذه الحكاية أزال المدفأة

ص: 34

الحديثة فوجد القديمة مكانها، كما وصفها الطبيب تماماً!

وكانت هناك ضيفة أخرى، وهي سيدة تهتم بالكتابة الآليه، فتلقت ذات يوم رسالة عن (بئر فارغة) وفيها أشارت أعانتها على رسم خريطة لهذه البئر، وأخبرت أنها تحتوى على مجوهرات وكنوز ثمينة ألقاها فيها أخ ميت. ثم تلقت رسالة أخرى تقول: ابحثي عن خط الصدأ. .

وأخبر الكولونيل كذلك بهذه الحكاية الطريفة، فتشكك فيها بادئ الأمر، لأنه لم يكن يظن ان بئرا توجد في ذلك المكان، ولكنه أخذ في الحفر، فضرب خيطا صدئا تحت الطبقة الأولى، ثم البئر بعد ذلك. . . وتابع الحفر، فأكتشف عظاما وملابس من العصور الوسطى، وأواني فخارية، ثم تابعوا الحفر أقداما عديدة - رأيتها بنفسي - ولكنها لم تكن بالقدر الكافي ليكتشفوا الكنوز تحتها. . .

ولما كنت أعيش في هامبتون - على نهر التيمس - كان منزلي بجوار قصر الروائية المعروفة ونفرد جراهام، التي صارت فيما بعد مسز تيودور كوري؛ وكان قصرها هذا، المسمى سانت البانز، والواقع على النهر، مملوكا من قبل لابن السيدة جوين، دوق سانت البانز. . . ففي الليلة الأولى التي نزل والداها ذلك القصر، كانا يعبران المرجة التي أضاءها القمر، وفجأة سأل الرجل زوجته: ألا ترين شيئاً غريباً على شجرة المجنوليا؟ فأجابته زوجته متعجبة: ماذا. . . . نعم. . . إن هناك رجلا متدلياً منها!

ولما أسرعا في اتجاه الشجرة اختفى ما رأيا. . .

وبعد أسبوع، كان والد الروائية في حفلة رقص بمنزل الكولونيل هارفيلد، فسأله أحد الأهليين: هل أنت مستر جراهام الذي اشترى قصر سانت اليانز، ذلك البيت القديم الجميل، الذي شنق الرجل نفسه على شجرة المجنوليا فيه؟

فاستفسر الرجل فزعاً. . .

وأخبرتني الروائية أنها علمت أن عابر سبيل وقع في ضائقة مالية، فشنق نفسه على تلك الشجرة، ويقول الناس أن شبحه يقطن الحديقة.

وذات فجر باكر، استيقظت مسز جراهام على أصوات غريبة، ورأت ثلاثة آدميين يتزاحمون على سطح الشرفة، ويتفرسون في نافذتها، كانوا وجلين مضطربين، يعينون

ص: 35

امرأة تبدو ميتة، رأسها متدل، وملابسها وشعرها مبتلة بالماء، فقفزت من فراشها واتجهت إلى النافذة وهي تصيح: ما هذا؟ ما خطبكم؟

ولكنهم اختفوا. . .

ولما طلع النهار علمت مسز جراهام أن رجلين وسيدة كانوا في حفلة بجزيرة تاج القريبة منهم، وقد عادوا إلى سيارتهم بعد انتهاء الحفل، ولكن السيارة اختلت من قائدها وسقطت في النهر، وكان أحد الرجلين، وهو تومي هام، سباق بروكلاند الشهير في السيارات، يبذل غاية ما في وسعه لينقذ زوجة صديقه التي غرقت.

ولما رأت مسز جراهام صورته منشورة في إحدى الجرائد عرفت فيها أحد الرجلين اللذين رأتهما في روياها. فما القول في هذا؟ وهذه القصة:

ذهبت خادمة إلى مسز جراهام ذات مرة تقول أنها قابلت سيدة جميلة على السلم، مرتدية ثوب سهرة مفتوح الصدر، وتحيط بها أنوار أيدت ما عليها من حلي. ولها نظرات ساحرة حلوة.

وسألتها جراهام إذا كانت خافت تلك السيدة، فقالت الخادمة: كلا. . . إنها كانت جميلة جدا. ولقد أسفت عندما اختفت بسرعة.

واستزادت السيدة خادمتها وصفا لتلك السيدة الجميلة، فرأت أن أوصافها تنطبق على السيدة نل جوين - صاحبة القصر الأولى - وعندئذ أسرعت إلى صندوق قديم وأخرجت منه صورة زيتية، فتعرفت الخادمة في الحال على صاحبة الصورة وصاحت: رباه. . . أنها بعينها السيدة الجميلة التي رأيت شبحها، إنها هي بذاتها!

وكان آل جراهام على صلة وثيقة بكنيسة القرية وراعيها. وذات عشية دعوا القسيس لتناول الشاي عندهم، فلما توجه إلى قصرهم كان بادي الخوف والجزع يلهث من شدة الاضطراب، وأخبرهم أنه وهو في طريقه إليهم، عندما مر بوصية الكنيسة، سمع ضوضاء وأصواتا غريبة كأنها أصوات جموع من الخلق تناديه من القبور ليحلق بهم، فأفزعته تلك الأصوات حتى أنه أطلق لساقيه العنان.

فقالت له الآنسة جراهام: إنها أوهام واضطراب أعصاب ثم قدمت له كأسا من الوسكي القوي مع ماء الصودا.

ص: 36

وكان هذا القسيس شابا قويا، صحيحا بالغ الصحة، ولكنه توفى فجأة بعدأسابيع قليلة.

وأما قصور هامبتون، فإن أروقته مسكونة بأشباح يمكن أن نسميها نجوم الأشباح!

فمثلا هناك شبح كاترين هاوارد التي فرت من حجرتها لتعاهد هنري قبل أن يذهب للإعدام في البرج، وهي تصرخ في يأس بين ممرات القصر فتردد أصداء صياحها.

واللادي جين سيمور، في ملابسها البيضاء تصعد السلالم وتدخل مخادع القصر القديمة، وهي تحمل شمعة موقدة.

وإن شبحي المفضل الذي أعتز به - لأسباب شخصية - هو شبح السيدة ذات، الرداء الرمادي، وهي السيدة سبيل بن، مرضعة الأمير إدوارد، بعد موت جين. . وكانت تلك السيدة تعيش في المخادع التي يقطنها الآن اللورد واللاري بيردوود.)

وقد دفنت في كنيسة هامبتون عام 1562 تحت جدث من المرمر، عليه تمثال في حجمها الطبيعي، ويبدو أنها احتفظت بهدوئها مئات الأعوام حتى أقلقت عظامها في جدثها، عندما رمم عام 1829.

فلن تحب سيدة لنفسها أن تعامل مثل هذه المعاملة الخالية من الذوق، ولو كان عمرها ثلاثمائة عام.

ولهذا بدأ شبحها يظهر في حجراتها القديمة، حيث يسمع فتيات آل بونسونبي وغيرهن - من خلف الجدران - صوت سيدة كأنها تدير آلة غزل قديمة.

وقد رأى جندي (ديدبان)، ذات ليلة شبح امرأة في (برنس) رمادي ذي رأس طويل.

ولولا خشيتي أن تحسب أني أطيل في القصة، فإني أضيف إليها باختصار أن مكتب العمل - لأسباب عرضية - هدم هذه الحائط ووجد حجرة مختفية فيها آلة غزل قديمة، ولوازم نسوية أخرى. وكان (خشب الأرضية) متآكلا بفعل أقدام من سارت عليه؟

وقد ذكر أرسنت لو، مؤرخ قصور هامبتون، شبح السيدة بن ووصفه بأنة: أحسن الأحسان التاريخية الحقة.

فقد روت اللادي مود - ساكنة حديثة في ذلك القصر - للآنسة جراهام أن ضيفة من ضيوفها كانت تزورها، فجلست على منضدة الملابس بحجرة نومها، فدخلت عليها سيدة طويلة، نحيفة البدن، في ثياب رمادية. وقد ظنت الضيفة أنها رئيسة الخدم، فقالت لها: هل

ص: 37

تتفضلين بإبقاء النور؟

وكان زر الضوء بجانب الباب.

ولكن السيدة لم تجب، ثم انسلت خارجة في هدوء. .

وقالت السيدة مود إنه لم يكن هناك سيدة بهذا الوصف في ذلك الوقت، ولكنه ينطبق كل الانطباق على السيدة بن.

وقد رأى كثيرون هذا الشبح مراراً. .

ومن هذا القبيل. . . إن الفنان أريك فريزر يعيش في بقعة من ذلك القصر، بقرية هامبتون. ولعله يعيش في نفس المكان الذي ماتت به السيدة بن.

وقد خبرتني السيدة فريزر أن ابنتها الصغيرة، ولم تكن سنها تزير على عامين أو ثلاثة أعوام، ولم تعرف شيئا مطلقا عن هذه الأقاصيص، قالت لأمها عرضا ذات يوم: مامي. . . . لقد رأيت سيدة جميلة في ملابس رمادية. دخلت حجرتي في الليلة الماضية، ولم اهتم بدخولها. . .

وفي مرات متكررة بعد ذلك، قالت لها الطفلة. لقد رأيت السيدة الرمادية مرة أخرى.

وهناك حكايات وأقاصيص أخرى عديدة، تقشعر من ذكرها الأبدان، ولكن القصص التي رويتها هي التي أستطيع الاعتماد عليها لوثوقي من مصاردها، ذكرتها لمن يهتمون بالأرواح والأشباح.

(للمقالة بقية)

حسين مهدي الغنام

ص: 38

‌أحمد الكاشف

مات الشاعر الماجد أحمد الكاشف: منذ أيام معدودات، بعد أن خدم الشعر والأدب، والسياسة والعروبة نصف قرن أو يزيد.

نشأته وحياته:

ولد بناحية القرشية من أعمال مديرية الغربية. من أبوين تركيين عريضي الجاه، وافري الثراء. رفيعي المنزلة تربطهما بكرام الأسر في مصر وشائج القربى أو صلات المعرفة، وعميد أسرة الكاشف بعد الفقيد هو شقيقه محمود بك ذو الفقار الكاشف وكيل الجمعية الزراعية الملكية ومن أقارب الأسرة معالي علي باشا الشمس، والدكتور حامد باشا محمود.

تلقى الفقيد علومه الأولية في منزل والده كعادة الأسر الكبيرة. ثم التحق بمدارس طنطا ولكنه لم يتم تعليمه لانصرافه عن العلوم المدرسية إلى كتب الشعر والأدب من جهة، ولاعتماده على ثراء أسرته من جهة أخرى.

ولم يتزوج الفقيد وعزف منذ صباه عن مباهج الحياة واطمأن إلى العيش الريفية الهادئة. فترك بيت الأسرة الواسع الرحاب بالقاهرة. وقضى كل عمره ببيته القروي مستغنيا بوجهاء القرية عن كبراء مصر وبصداقة الفلاحين عن مخالطة المتمدنين.

وملأ حب القرية قلبه وشغل فكره حتى قضى حياته معتبرا جميع أهلها أهله، وشواغلها شواغله ولا يمكن أن يهتم أي شخص بأسرته وبيته أكثر مما اهتم الكاشف بالقرشية وأبنائها وكان منزله جامعة شعبيةللقرية. وبرلمان لها. ومحكمة يقضى فيها بين المتخاصمين، ولا يخلو يوما من الشيخ الفاني والشاب الفتى، والفلاح الساذج. والمثقف الفذ - يديره الكاشف بحكمة ولباقة ومرونة تؤلف بين هذه العناصر الشاذة بحيث ينال كل جالس ما يرضيه ويسمع ما يعجبه -

أخلاقه:

كان الفقيد متصوف النزعة. وإلى الزهد في الحياة وزهرتها أميل. إلى إيثار لازم حياته فجعله دائماً يفضل مصلحة غيره على نفسه. فيجرد بالضروري ولا يرد سائلا. ويرحب بالعافين والسائلين ولو كان به خصاصة.

ومن أبرز صفاته التسامح. فلم يحمل قلبه غيظا لعدو. ولا حقدا لمسئ، وما كانت تمنعه

ص: 39

إساءة أحد عن أن يخلص في خدمته، بطبع صاف لا تكلف فيه، وسماحة نفس لا تحامل عليها. كما كان شديد العطف رقيق الوجدان دائم الوفاء وله في ذلك فصص لا يتسع المقام لذكرها.

أدبه:

برع في الشعر السياسي حتى بز جميع شعراء العصر في هذه الناحية، ويمتاز شعره بأنه سجل حافل للمسألة الشرقية والقضية المصرية، وقد ارتفع صيته في فترتين، أولاهما أيام الخديوي عباس وثانيتهما إبان الوزارة الأخيرة لمحمد باشا محمود.

كما يمتاز شعره القديم في (ديوان الكاشف) ولكن ما بقى من شعره الأخيرة غير مجموع أكثر وأقوى مما جمع.

واجب:

أليس من حق الراحل الكريم أن يجمع ديوانه. ويبحث ويدرس كفاء ما أسداه للأمة واللغة من خدمات؟ وهل يجوز في منطق الوفاء أن يهمل هذا الرجل بعد موته وقد ضحى بماله ومستقبله وأوقاته في سبيل خدمة اللغة والأمة؟

يا أصدقاء الكاشف وعارفي فضله ويا إسراء معروفه ويا محسوبي إحسانه ويا رجال الأدب واللغة والصحافة أسألكم بالله ألا تنسوا أحمد الكاشف الذي خدم الأمة واللغة نصف قرن أو يزيد.

عطية الشيخ

ص: 40

‌يا ثائراً بالنار

للأستاذ حسن الأمين

صمتاً فقد نطق الرصاص وحسبنا

أن الرصاص إلى القتال ينادي

في سفح (نابلس) لهيب معارك

وعلى جبال (القدس) صوت جهاد

كل يلوذ بنخوة عربية

كل يردد صرخة استنجاد

يا ثائراً بالنار يحمي أرضه

ويذب عنها جاهداً ويفادي

لم يستكن للظالمين ولم يدع

علجاً يدوس مراقد الأجداد

أنشدتني لحن الرصاص وربما

يذكى الجبان ويستهيج الهادي

أرنو إليك فمن لظاك قصائدي

نظمت ومن قاني دماك مدادي

إن فاتني بالأمس يومك إنني

أهفو إليك بعدتي وعتادي

فلعل لي يوماً بجنبك يرتوي

فيه من التارات قلبي الصادي

ولعلني ألقاك في رهج الوغى

ولعلني أمشي إلى استشهادي

ردد على الأسماع أنغام الظبي

نارية الترجيع والترداد

قل للغفاة عن القتال ألم تروا

ماذا يراوح (قدسكم) ويغادي

أأموت في كف اللئام وأنتم

حولي ولم يهززكم استنجادي

أأرد عن وردي أأقتل صابراً

بيد اليهود أتستباح بلادي

يا نائمين على الحرير وما دروا

أنا ننام على فراش قتاد

متلفعين دم المعارك مالنا

إلا الحصا في القفر ظهر وساد

نغدوا على النيران يذكيها لنا

غدر اللئام وخسة الأوغاد

وبيت لا ندري أنصبح بعدها

ِأم أن عين الموت بالمرصاد

يا نائمين وما دروا أنا هنا

لسنا تذوق اليوم طعم رقاد

إخواننا والدهر فرق بيننا

مدوا لنا منكم يد الأنجاد

هبوا إلينا بالبنادق بالظبي

بالمال بالأرواح بالاعتاد

لبيك (نابلس) بكل مصابر

حر وكل مغامر ذواد

يفديك إن حمى الوطيس بنفسه

ويقيك بالأموال والأولاد

ص: 41

يا لفيلق العربي يمشي صارخاً

القوم قومي والبلاد بلادي

أحمى بنيران المدافع حقها

وأذود عنها بالرصاص العادي

من يستبيح حماي من يسطو على

حتى ومن يلوى رفيع عمادي؟

(دمشق)

حسن الأمين

ص: 42

‌نشد (إلى الأمام)

للأستاذ إبراهيم محمد مجا

إلى الأمام يا جنود الوطن إلى الأمام

على الدوام فوق الزمن على الدوام

تقدموا يا جنود الفدا طال السكون

وحطموا ما بناه العدا من الحصون

وقدموا من بغي واعتدى إلى المنون

أنتم حماة البلاد إذا دعا داعي الجهاد

إلى الأمام في ظلال العلم يا جنود

على الدوام فوق هام الزمن على الدوام

إلى الأمام في ظلال العلم يا جنود

وجددوا يوم النزال القسم والعهود

بأن تبيدوا كل باغ ظلم من الوجود

وأن يكون الانتصار شعاركم. نعم الشعار

إلى الأمام يا جنود الوطن إلى الأمام

على الدوام فوق هام الزمن على الدوام

سيروا إلى النصر سيروا

فالنصر للعالمين

طيروا إلى المجد طيروا

فالمجد للقادرين

والله نعم النصير

والله نعم المعين

ولتهتفوا للمليك

أرواحنا تفتديك

إلى الأمام يا جنود الوطن إلى الأمام

على الدوام فوق هام الزمن على الدوام

(الإسكندرية)

إبراهيم محمد نجا

ص: 43

-

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوع

علماء الدين والفن:

طلب إلى فضيلة الشيخ الجامع الأزهر، الموافقة على استخدام فرق المسرح الشعبي في الدعاية الدينية، وذلك بإدخال الموضوعات التي يتناولها الوعاظ في الروايات التي تمثلها هذه الفرق، فلم يوافق فضيلة الأستاذ الأكبر على ذلك.

قرأت ذلك الخبر في الصحف، وقرأت إلى جانبه أن الشيخ محمود أبو العيون لبى دعوة زوجين من ممثلي السينما، فتناول طعام الإفطار على مائدتهما، وأرشد الزوجة إلى بعض الأمور الدينية وقد نشرت مجلة (الاثنين) صوراً لفضيلته معها، إحداها وهي تنصت لقراءته آيات من القرآن الكريم، وواحدة وهو يؤمها في الصلاة، وثالثة في الشرفة ينتظران غروب الشمس، ولم تهملالممثلة في أثناء ذلك زينتها وخاصة صبغ شفتيها باللون الأحمر. . . وقد حسبت أول ما وقعت عيني على هذه الصور أنها مناظر من فلم جديد. . . ثم قرأت في مجلة (آخر ساعة) بتوقيع (الشيخ العزيز علوان) أنه لقي الشيخأبو العيون وهو خارج من صالة العرض السينمائية في وزارة الداخلية، فقال له:(لقد شاهدت اليوم الفليم المصري الأول الذي يستطيع أن، يفخر به كل شرقي) وذكر اسم الفلم وبعض أبطاله. .

وهكذا ترى موقف كل من الشيخين الكبيرين من عالم المسرح والسينما، مخالفاً لموقف الآخر، ولا بد أن لكل من فضيلتهما وجهة نظرة، ولكنها على أي حال بمفارقة من المفارقات التي لا تخلوا من طرافة.

ومفهوم طبعا أن المنشور في آخر ساعة بتوقيع الشيخ عبد العزيز علوان، يقصد منه الإعلام عن الفلم الذي تناول الشيخأبو العيون طعام الإفطار على مائدة بطله، وهنا شئ طريف ينبغي تسجيله، وهو استخدام اسم عالم كبير من علماء الأزهر في الإعلانات السينمائية. . . وهو (تقليعة من تقاليع) مصر التي تبذ يها هوليود!

معهد للدراسات الاجتماعية:

قررت جامعة فاروق الأول بالإسكندرية إنشاء معهد جديد للدراسات الاجتماعية، يلتحق به الراغبون في هذه الدراسات من خريجي كليات جامعتي فاروق وفؤاد، على أن يكون الطالب قد درس في جامعة أو معهد عال علم الاجتماع أو علم النفس أو التربية أو

ص: 45

الاقتصاد الاجتماعي أو الجغرافية البشرية أو الجغرافية الاجتماعية أو أصول القانون. ومدة الدراسة في المعهد سنتان يحصل الطالب بعدها على شهادة معادلة للماجستير. وستبدأ الدراسة به في شهر أكتوبر القادم.

وتستبين فكرة من المذكرة التي وضعها عميد كلية الآداب بجامعة فاروق في هذا الصدد، فقد جاء فيها أن مصر في حاجة إلى جديد من الباحثين الاجتماعيين، يقوم بدراستها على الإحصاء الدقيق لأنها بلد لا تعرف شئونه الاجتماعية على الوجه الأكمل، وإن علم الاجتماع هو الذي يستخدم الآن في تعرف أحوال الجماعات الإنسانية وتطورها الاجتماعي والسياسي، كما أنه الأساس الذي تعتمد عليه الأمم في توجيه الإصلاح الاجتماعي. والغرض من إنشاء هذا المعهد هو دراسة العلوم الاجتماعية. والغرض من إنشاء هذا المعهد هو دراسة العلوم الاجتماعية وتطبيقها بوجه خاص على البحوث العملية المتصلة بمصر الأقاليم المجاورة لها.

والواقع أن الدراسات الاجتماعية قليلة الحظ في بلادنا، وخاصة الناحية التطبيقية، فإذا كان لدينا بضعة علماء في الاجتماع فإن درستم نظرية حصلوا بها على شهادات ودرجات جامعية، أما المجتمع المصري، فهو كما يقول عميد الآداب بالإسكندرية لا تعرف شئونه على الوجه الأكمل. ولا تكاد تجد في ميدان الكتابة والتأليف مكانا لدراسة أحوالنا الاجتماعية ولعل ذلك من أسباب ما نراه من عقم المشروعات الاجتماعية التي توضع وتعتمد لها الأموال وتؤلف لها اللجان ولا يرى لها أحد أثرا في الوظائفدرجات الموظفين.

اليونسكو ومساعي اليهود:

يبذل اليهود مساعي للحيلولة دون انعقاد مؤتمر اليونسكو في لبنان، وقد كان من أثر هذه المساعي أن أبدي بعض الأعضاء الغربيين مخاوفهم من الاجتماع في بيروت في الوقت الذي تدور فيه المعارك بين العرب واليهود في فلسطين، وأبلغت هذه المخاوف إلى الحكومة اللبنانية، فسارعت إلى طمأنتهم وأكدت لهم أن المؤتمر سينعقد في جو آمن لا يخشى فيه أي ضرر.

ولكن المساعي اليهودية نشطت أكثر من ذلك، فقد جاء في نشره الهيئة العربية العليا أن إحدى الدول الأعضاء في اليونسكو أرسلت - بدافع تلك المساعي - مذكرة رسمية إلى

ص: 46

المستر هكسلي المدير العام لليونسكو، ترغب إليه فيها إعادة النظر في موضوع عقد مؤتمر اليونسكو في لبنان، بسبب الاضطرابات القائمة في فلسطين، ولأن لبنان يؤلف أحد طرفي النزاع، وهو في حالة حرب مع اليهود، ويخشى أن يؤثر موقفه في سير أعمال المؤتمر. وقد رد المستر هكسلي على طلب هذه الدولة بقوله: إن مسألة الأمن في طليعة المسائل التي تراعيها هيئة اليونسكو عند عقد مؤتمراتها، وهي تستطيع أن تصرح استنادا إلى المعلومات التي لديها أن لبنان لم يعلن الحرب على اليهود في فلسطين، بل بالعكس، فهو واقفموقف الدفاع، وقد حشد جيشه على الحدود، لا رغبة منه في الغزو أو الفتح، وإنما للدفاع عن أرضه وتأمين السلام والأمن في ربوعه؛ على أن إدارة اليونسكو سوف تدرس الحالة في لبنان في ضوء التطورات الجديدة.

ومما لا يلاحظ أن مؤتمر اليونسكو قد شغل الدول العربية عن عقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني في هذا العام، مع أن هذا أجدى عليها وأدنى إلى الناحية العملية من حيث تنفيذ توصياته. أما اليونسكو فما هي إلا إحدى هيئات الأمم المتحدة (المتحدة ضد العرب فقط) ونحن الآن في حالة توجب علينا ألا نثق في هذه الهيئات، سياسية كانت أم ثقافية، أو على الأقل لا نرجو منها خيراً.

إذاعات من باريس عن أدباء العرب

الأوربي للإذاعة المصرية قرر إذاعة سلسلة من الأحاديث باللغة الفرنسية عن الأدباء والشعراء العرب والمصريين مع ترجمة قصائدهم شعراً، وعهد بذلك إلى الأديب الفرنسي مسيو جاستون برتيه مراسل جريدة (الفيجارو) الباريزية والذي عاش في مصر طويلا. وقد شملت أول سلسلة من هذه الأحاديث إذاعات عن أحمد شوقي وخليل مطران وحافظ ابراهيم وابن الرومي وأبي تمام وأبى نواس وعباس محمود العقاد وعبد الرحمن صدقي وأحمد رامي وشعر الفرنسية عند العرب وما نقله منه واصف غالي باشا. وستذاع هذه الأحاديث قريبا من محطة إذاعة باريس، وسيعقبها أحاديث عن الناثرين والقصصيين.

ويمكن أن نفهم تكليف الأديب الفرنسي مسيو جاستون بأعداد هذا البرنامج على أنه مشرف على تنظيمه ويعاونه فيه أدباء مصريون. وإلا فكيف يدرس ابن الرومي وأبا تمام وأبا نواس؟ وأني له القدرة على ترجمة أشعارهم؟

ص: 47

مؤتمر المستشرقين:

جاء من باريس أن المؤتمر الدولي للمستشرقين عقد جلسته الافتتاحية بالمعهد الوطني للعلوم السياسية في يوم 24 يوليه الحالي وقد شهد الجلسة ممثلون لجميع البلاد التيتهتم بدرس حضارة الشرق الأدنى وتاريخه، وفي مقدمتهم مندوبو مصر برياسة أحمد ثروت بك سفيرها في فرنسا، ومندوبو الباكستان والهندستان وتركيا النمسا ولبنان. وسيوالي المؤتمر أعماله في عشر لجان أولها الجنة الدراسات المصرية.

وقد تكلم في هذه الجلسة الدكتور طه حسين بك فقال إنه يحمل إلى المندوبين الفرنسيين وإلى أعضاء المؤتمر تحية مجمع فؤاد الأول للغة العربية وتحية مصر كلها التي يسرها أن تشترك في مؤتمر تعده جوهريا بالنسبة إليها، لأن الدور الذي قامت وستقوم به في الثقافة الشرقية وفي أبحاث المستشرقين يقضى عليها بأن تشترك في كل اجتماع من هذا النوع. ثم قال: يسرني أن أنتهز هذه الفرصة لأعلن شكري وشكر جيل كامل من المصريين جيل المهتمين باللغة والآثار المصرية للمستشرقين الفرنسيين وغيرهم من المهتمين بتلك اللغة وهذه الآثار. فما من مصري يعني بالشئون الشرقية لا يشعر بأنه مدين بأمور كثيرة للمهمة العظيمة التي قام بها المستشرقون سواء هناك في القاهرة أو هنا في باريس لقد كنا جميعاً من تلامذة المستشرقين الفرنسيين، فسمعنا دروسهم على ضفاف النيل، وعلى ضفاف السين، في مختلف الجامعات الفرنسية. فإذا أعربت لكم عن شكر أبناء الجيل الذين تجاوزوا سن الشباب الآن، والذين أمثلهم أنا هنا، فإني أعزب لكم عما نشعر به شعوراً عميقاً، وأقوم بواجب أعده واجب الأبناء نحو الآباء.

من طرف المجالس:

قال أحد الأصحاب إنه من سلالة علي بن أبى طالب، وسلسلة النسب بين علي وعدنان معروفة، وهو يريد أن يبحث عمن بين عدنان وآدم، لتتم له معروفة سلسلة نسبه إلى آدم.

فانبرى له صاحب آخر قائلا:

أتريد أن نثبت أنك من بنى آدم!

على طريقة طه حسين:

ص: 48

بدا لي أن أكتب في هذا الموضوع الذي تستطيع أن تقول إنه ليس موضوعاً، وإنما هو بحث عن موضوعه. وسواء اتفقنا على أنه موضوع أو أنه غير موضوعأم لم نتفق على شئ من ذلك فالأمر الذي لاشك فيه أني دفعت إلى الكتابة فيه دفعا وحملت عليه حملا. فأنا أريد أن أملأ هذه الصفحات الثلاث التي أملؤها كل اسبوع، والمطبعة تريد أن تملأها أيضاً، والقراء ينتظرون أن يقرؤوها أو بعبارة أخرى يريدون أن يملؤوا هم أيضا فراغهم بقراءتها.

كتبت من هذه الصفحات الثلاث ما كتبت، ثم رجعت إلى ما كتبت، وقسمته إلى ما تعودت أن أكتب كل أسبوع، فوجدته أقل منه بحيث لا يسد الفراغ، ولم أجد عندي ما أكتبه، أو قل لم أجد أدبا ولا فنا ولا شيئا يصح أن يقال عنه إنه أدب أو فن أو شبيه بالأدب والفن من قريب أو من بعيد.

هذه الصحف وهذه المجلات، يومية وأسبوعيه وشهرية، يحررها محررها ويكتبها كاتبوها في هذا الحر الشديد، لأنها لا تتوقف عن الصدور في الصيف كما لا تتوقف عن الصدور في الشتاء. تقرأ هذه الصحف وهذه المجلات يصبح الصباح، وحين يرتفع الضحى، وحين يقبل المساء، فلا ترى فيها أدبا أو فنا أو شيئا من قبيل الأدب والفن يترك في نفسك أثراً أو صدى بعد قراءته، ويظل عقلك فارغا من هذا الأثر وهذا الصدى كما كان قبلهذه القراءة.

وهذه القاهرة تكاد تخلو أنديتها وهيئاتها الثقافية الرسمية وغير الرسمية، تكاد تخلو من كل نشاط أدبي أو ثقافي في هذا الصيف كما تعودنا أن نراها كل صيف.

قلت لصاحبي: ماذا أصنع هذا الموضوع؟ فقال في شئ من الإنكار: وهل هو موضوع؟ فلم أجد مناصاً ولا مفرا ولابدا من أن أتمثل بهذا البيت الذي طالما تمثلت به قبل الآن وسأتمثل به في كل آن:

أيتها النفس أجملي جزعاً

إن الذي تحذرين قد وقعا

وأكبر الظن أن أوس بن حجر حينما قال هذا البيت في رثاء فضالة الأسدي لم يكن يخطر له على بال ولم يكن يدور له في خلد أنني سأتمثل به حينما أقع في أزمة الأدب والفن في هذا الأسبوع.

العباسي

ص: 49

‌البريد الأدبي

حول لفظة (العتيد):

بينما كنت أستمع بقراءة المقال الشيق الذي كتبه الجهبذ الكاتب الشيخ محمد رجب البيومي في العدد 773 من الرسالة الغراء إذ لفتنظري وأسر انتباهي في ثنايا لفظه (عتيدة) التي جاءت وصفا في قوله: (ويقود أركانا (عتيدة) صالحة للبقاء!) وقد كان معناها (القدم) كما يريد كاتب المقال في هذا المقال. وكتبت اللغة التي رجعت إليها المختار، المصباح، المحيط لم تذكر أن لفظة (العتيد) معناها (القدم) وإنما الذي أفصحت عنه إنما هو لمعنى (العتيد) - بدون هاء - الحاضر المهيأ، كما في قوله تعالي: - (وأعتدت لهن متكأ. . .) وفي قوله تعالى: - (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).

وأما المعنى المراد الذي لم تؤده هذه اللفظة في هذه المقالة والذي هو (القدم) كما هو مفهوم من المقام فإنما تكون تأديته بألفاظ أخر ليس من بينها (العتيدة) هذه في هذه المقالة، ألا وهي: العتيق والقديم والعهيد - بالهاء بدل التاء - وللفظة الأولى جاءت في قوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق)، وأما الآخر فقد نطق بها مرتين في بيت واحد المرحوم شاعر النيل حافظ إبراهيم بك في استقباله السير غورست: -

وفي الشورى بنا داء (عهيد)

قد استعصى على الطب العهيد

وهذا ما يحضرني الآن من الألفاظ الدالة تعلى معنى (القدم) ولا أقول هذا كل ما في اللغة في هذا المعنى إذ ربما يطلع علينا بألفاظ أخر من المراجع اللغوية (الرقيب العتيد) الأستاذ عدنان وذلك ما كنا نبغي.

وللأستاذ صاحب المقال إكباري وتقديري وللأديب عدنان تحيتي وللرسالة اللامعة تجلتي.

(طرابلس الغرب)

محمد مهدي أبو حامد

كلية أحمد باشا

في ميدان الاجتهاد:

ص: 51

أخرجت جمعية الثقافة الإسلامية بحلوان كتاب في ميدان الاجتهاد للأستاذ عبد المتعال الصعيدي، وهو معروف لقراء الرسالة بآرائه الحرة المتزنة في كل ما يكتبه في الأدب والعلم، وبميله إلى التجديد في العلوم على اختلاف أنواعها، حتى تخلع ثوبها القديم البالي، وتلبس ثوبا جديدا يجدد عقلية المسلمين، ويقضي على عهد الجمود، ويعيد عهد الاجتهاد، وهم في حاجة إلى تلك الصيحات الإسلامية الشديدة التي انقضتبموت جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لتنبههم من غفلتهم التي عادوا إلى الاستنامة إليها، بعد أن نبهتهم بعض التنبه صيحات هذين الإمامين.

وكتاب في ميدان الاجتهاد صيحة من تلك الصيحات التي طال عهد المسلمين بها، بعد أن كانوا يهزون بها هزاً عنيفاً في عهد ذلك الحكيم وتلميذه؛ فتحي ما مات مت آمالهم، وتفتح باب الرجاء في مستقبل ناهض، بعيد لهم سابق عزهم، ويسترد لهم جلال ماضيهم، فيعيشون في هذا العصر كما يجب أن يعيشوا فيه، ليشاركوا أهله بأرواحهم كما يشاركونهم بأجسامهم، ولا يشاركوهم بأجسامهم دون أرواحهم، فيتخلفوا عن ركب الحياة، ويدركهم ما أدرك المتخلفين من الأمم الماضية - لا قدر الله.

لقد عالج ذلك الكتاب كثيراً من المسائل الشائكة في الإسلام، فأتى فيها بالعلاج الصالح، وحل مشكلها بالرأيالقاطع، لأن صاحبه قد درس دينه دراسة صحيحة، وخلص نفسه من قيود التقليد والجمود التي تحول دون الوصول إلى الحقيقة، وجمع إلى هذا إخلاصه لدينه، وحبه له حبا يملك عليه نفسه، فجمع بهذا كله أسباب الرأي الصحيح، والاجتهاد المتزن.

وهذا بعد أن مهد بدرس نافع في الاجتهاد، وأتى فيه بتوجيه جديد لم يسبق إليه، يجمع بين الفرق الإسلامية التي باعدت بينها أصول الاجتهاد القديمة، ويوجهها لوضع فقه جديد يمثل البيئات الإسلامية كلها، فيسع المسلمين جميعهم، ولا يمثل بيئة دون أخرى من بيئاتهم، وهذا توجيه له خطره في الإسلام، وله حسن أثره في المسلمين.

(ع)

ص: 52

‌رسالة النقد

من حديث الشعر والنثر

حملتني الظروف الراهنة على أن أقف من هذا الكتاب موقف الدارس الناقد، وقد وقفت منه فيما مضى موقف القارئ المستوعب وكان اختلاف الاتجاه في الحالين لاختلاف البواعث التي حدت بي إلى قراءة الكتاب.

قرأته فيما مضى لأستفيد من معارفه إثر ظهوره، وهأنذا أقرأه مع طلابي بمدارس السودان، لأبصرهم بما اشتمل عليه من آراء قيمة وبحوث طريفة لمست منها الدليل الناصع والنهج القويم. غير أني وقفت - واستوقفني طلابي - عند بعض الآراء فلم أجد لها دليل من معقول أو منقول يشفى الغلة ويحمل على التصديق وسأعرض لبعض منها بالدارسة على فيها شيئا من الهداية للطلبة الدارسين.

1 -

قتل ابن المقفع:

يعتقد المؤلف بأن إيمان المقفع لم يكن صحيحا فهو يقول (ولكن إيمانه لم يكن فيما ظهر صحيحاً ولا خالصاً لله فقد كتب في الزندقة كتبا كثيرة اضطر بعض المسلمين أن يرد عليها في أيام المأمون. . .)

يعتقد هذا الاعتقاد ثم ينفي أن تكون الزندقة هي التي قتلته دون أن يلتمس لذلك دليلا فلم يزد على أن قال: (أم أنا فأرجح جداً أن الذي قتل ابن المقفع ليست الزندقة. . . .) ونحن لا نجهل أن كثيراً من الباحثين قد دافعوا عن إيمان ابن المقفع إكبارا للرجل وضنا بمثله أن يعود إلى الزندقة وقد من الله عليه بالإسلام وحق لهم وقد حاولوا إبطال هذه التهمة بالدلائل أن يبطلوا ما ترتب عليه من قول القائلين: إن الزندقة هي التي قتلته.

أما الدكتور فيثبت الزندقة ثم ينفي أن يكون القتل بسببها كأنها الأمر الهين الذي لا يستوجب قتلا ولا يستدعي حسابا مع أننا نعلم أن الزندقة في العصر العباسي قد امتحن بها طائفة من المفكرين والأدباء ولم يعنهم حين نزل بهم بلاء الحاكم أقدارهم ولا علمهم وربما قتل بعضهم زورا وعدوانا للشبهة الباطلة التي زيفها الحساد الناقمون.

والمؤلف ينفي كذلك أن يكون العهد الذي كتبه لبعد الله بن علي على أبي جعفر المنصور هو الذي قتله فيقول: (ولم يقتله تشدده في الأمان الذي كتبه لبعد الله بن علي لأنه يوشك أن

ص: 53

يكون أسطورة ليس لدينا منها نص).

وأعتقد أن نعت العهد بالبطلان - لأنه لم يصل إلينا - حجة لا تنهض على أساس فكم من عهود أضاعها الزمن، وكم من كتب عفى عليها القدم وبقيت لنا أخبارها فيما بقى من أخبار السابقين، وإذا كان هناك أثر جدير بالضياع فهذا الأثر الذي يعارض مشيئة الحاكم ويقيده بقيود قاسية لا يرتضيها لنفسه ومنها طلاق النساء وتحرير العبيد إذا ما نقض العهد:

على أننا إذا التمسنا سبب القتل فيما كتب الدكتور وجدناه سببا لم يشر إليه نص من التاريخ ولم يقل به من كان في عهد ابن المقفع أو بعده بقليل وهو إلى جانب هذا تلمس لأشياء لم تجد لها قوة السببين السابقين: فهو يقول: إن رسالة الصحابة هي التي قتلته ويسرد منها ما يراه مثيرا لحفيظة الخليفة ومشجعا له على قتل الرجل.

لست أفهم أن تزلف الكاتب إلى الخليفة بنصيحة من النصائح بعد أن يمهد لها بالثناء المستطاب مما يدعو إلى الانتقام والقتل.

ولست أفهم أن إشارته عليه بأن يكرم جند خراسان والعراق وأن يأخذ الحيطة من جند الشام مما يريب الخليفة في أمره إلى الحد الذي يدفعه إلى الفتك به.

ولست أعتقد كذلك أن اقتراحا يتقدم به كاتب فيبسط فيه اختلاف القضاة في الأمر الواحد ثم يرجو أن يكون البت في مثل هذا لولى الأمر مما يكون له كبير أثر في نفوس الحاكمين.

وما جريمة ابن المقفع حين يتوسل إلى الخليفة طالبا (أ، يعينفي الأمصار جماعة من الخاصة يكون أمرهم تأديب العامة ومراقبة أعمالهم فإن العامة لا تصلح بنفسها إلا إذا وجدت مؤدين من الخاصة والخاصة لا تستطيع أن تعيش إلا إذا كان لها من الإمام مؤدب)؟

وأي ثورة أرادها - كما يقول الدكتور - وهو في هذه الرسالة ناصح متودد يرجو أن يبسط الخليفة سلطانه في كل أمر وتنفذ مشيئته في كل عمل؟!

والحق الذي لا شك فيه أن هذه الآراء وأشباهها ليس لها من جلال الخطر ما يرفعها فوق الزندقة أو يحلها فوق مكانة العهد الذي قيد فيه الخليفة بقيود قاسية ما كان أغناه عنها.

2 -

بين الكتابة والشعر:

ويرى الدكتور فيما يرى أن الكتابة تختلف عن الشعر والخطابة من حيث فهم الناس لهما

ص: 54

فالناس عنده متساوون في فهم الكتابة وفي التأثر بها ولكنهم متفاوتون أما الشعر والخطابة فهو يقول: (ونحن عندنا نقرأ عبد الحميد أو ابن المقفع لا نجد عندهما اللذة الفنية إذا كنا في طبقة واحدة أو اشتركنا في ثقافة واحدة وإنما يقرؤها منا ذوو الثقافة العالية والساذجة والمتوسطة والبسيطة وكلنا يجد لذة ومتعة فنية. بينما تختلف لذتنا في قراءة الشعر باختلاف حظوظنا من الثقافة. فليس كل الناس يقرأ جريرا والفرزدق أو يتذوق زيادا والحجاج. . .)

وأعتقد أن الواقع يخالف هذه القاعدة وضعها الدكتور؛ فأكثر الشعر أوضح في معناه وأبين في فحواه من الكتابة وبخاصة في العهد الذي يتحدث عنه المؤلف؛ فكثير من الناس يفهمون كثيراً من شعر جرير ولكنهم لا يفهمون قليلا ولا كثيرا من المثال الذي ساقه الدكتور لعبد الحميد وقد جاء فيه في وصف الرماح: (معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم، أجناسها مختلفة وكعوبها جعدة وعقدها حنكة شطبة الأسنان محكمة الجلاء. .)

أما الخطابة فالقاعدة المطردة فيها أن تكون أسهل من النوعين ليفهمها السامعون في يسر ويدركوا ما جاء بها في سرعة وإلا ضاعت قيمتها وذهب الغرض من إلقائها.

على أني اتهمت معرفتي أمام هذه الحقائق فعرضت على الطلاب طائفة من شعر جرير وتلوت شيئا من خطبة زياد البتراء فوجدتهم مقبلين متأثرين ثم أقبلنا على الكتاب نقرا ما جاء فيه من رسالة عبد الحميد فرأيتهم أقل تأثرا وفهما.

3 -

في كتابة عبد الحميد

ساق المؤلف أدلة ثلاثة حاول فيها أن يثبت أن عبد الحميد الكاتب متأثر بثقافة اليونان وكتابتهم ولست أريد أن أبطل هذا الرأي أو أثبته ولكني أقول: إنني لم أجد في هذه الأدلة - أو على الأقل في اثنين منها - نصاعة أو قوة تحمل على الإقناع:

فأما أحد الدليلين فهو ما ذكره الدكتور حين قال: (وعندي في هذه الرسالة نص بسيط يدلني على أن عبد الحميد كان في هذه الرسالة متأثر إلا باليونانية وحدها بل بما كان مألوفا عند اليونان فهو يقول في نصحه لولى العهد، ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقافتك ونصائحك وتقدم إليهم في ضبطهم) ونحن نعلم أن الوحدات التي كان يتكون منها الجيش البيزنطي كنت وحدتين اللجيو ويتكون من ستة آلاف رجل ثم السنتريو

ص: 55

وعدده مائة رجل ورئيس المائة هو السنتريونس (فنظام الجيش هذا ما أشك في أنه متأثر فيه برسائل الحرب عند اليونان.) اهـ

لا أستطيع أن أفهم هذا الكلام إذا حدثني التاريخ أن جيوش العرب قبل عبد الحميد كانت تقاتل جملة ولم يكن لها إلا رئيس واحد وأن هذا الرئيس لم يكن يعتمد في تحريك جيشه على أعوان من الأبطال يتولون جماعات من الجيش يتقدمون بهم أو يحجمون وأنا أعتقد أن تقسيم الجيش سنة طبيعية هدت إليها ظروف القتال والسرعة في إنجاز الأعمال وقد حفظت لنا اللغة كثيراً من الأسماء التي تدل على أن العرب قد فهموا هذا وجربوه في حروبهم: ومن ذلك المقنب والتو والقنبل والمنسر والسرية والحضيرة والجريد وهكذا ومن بين الأسماء ما يدل على المائة وأعتقد أنها كلمات استخدمها العرب قبل عبد الحميد ولم يكن لليونان ولا لغيرهم آثار في وضعها.

أما الدليل الثاني فهو أقل من هذا في المنزلة وأضعف منه في الحجة إذ يتخذ المؤلف تقسيم عبد الحميد لرسالته الطويلة إلى أجزاء أساسا للقول بأنه تقل هذه الطريقة عن اليونان.

يقول الدكتور هذا وهو يعلم حق العلم أنها رسالة طويلة توشك أن تكون كتابا وأنهاتناولت نواحي مختلفة وضروبا عدة. ومن حق الكاتب في مثل هذه الرسائل الطويلة أن يستريح بين الفقرة والفقرة ومن حقه كذلك أن يفصل كل ناحية عن الناحية التي تليها لاختلاف الاتجاهين. وليس من الضروري أن يتعلم عبد الحيمد هذه الطريقة عن أمة بعينها فهي الطبيعة التي يوحي بها طول الرسائل

أقول هذا وأنا مقدر لزعيم الأدب فضله ومعترف بمجهوده الذي أفاد اللغة العربية ونهض بها في بلاد الشرق عامة.

وسأحاول فيما بعد أن شاء الله أن أناقش ما بقى من مسائل على في هذا النقاش بعض الفائدة للطلاب. والله الموفق.

أحمد أبو بكر إبراهيم

المدرس المنتدب بحنتوب الثانوية بواد مدني بالسودان

ص: 56

‌الفن الهندي

هذا كتاب لطيف الحجم كبر الفائدة، يضم بين دفتيه أربع مقالات عن الفن الهندي كتبها أخصائيون ممن وكل إليهم تنظيم المعرض الهندي بالأكاديمية الملكية.

فالمقالة الأولى كتبها الأستاذ راولسن، أحاط بها بالتاريخ الاجتماعي والفني للشعب الهندي منذ العصر البليوليني، معتمداً على الحفريات والكشوفات. وتحدث عن الفتح الإسلامي وبين أن الدين الإسلامي هو دين الإخاء والمساواة: فالأمير والعبد سواء أمام الله وكان الآلام من الهم الأسباب التي جعلت جنوده ينجحون في غزو الهند المتنافرة المذاهب والعقائد، وتكلم عن الدولة الغرنوية فقال:(وجاء شيخ البراهمة سعيا إلى محمود الغزنوي وعلى أكفهم أموال عظيمة يقدمونها للفاتح المنتصر ويتوسلون إليه إلا يحطم لآلهتهم فأجابهم الرجل: إني محطم أصنام ولست بائع أصنام) وقد أولى الكاتب السلطان محمود الغزنوي الكثير من غابته، فتحدث عن الناحية الثقافية التي امتاز بها هذا الرجل، وظهور الفردوس، صاحب الشاهنامه (كتاب الملوك) والبيروني المؤرخ العالمي في أيامه، وتكلم عن الهند المغولية ولكنه لم يتعرض لوصف عمائرها، وقد وصفها أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك في 18 مقاله نشرتها الرسالة، ظهر آخرها بالعدد 763.

وفي المقالة (الثانية تكلم الأستاذ كوردنجتون عن النحت وذهب في بحثه إلى 5000 سنة. وتنقل بين عصور الفن الوثني، ولم يجد في الإسلام مادة لبحثه إذ أن الإسلام بطبيعته ما حق للأصنام المنحوته.

وتحدث الأستاذ ولكتس في المقالة الثالثة عن التصوير. وللإسلام في الهند باع طويل في هذا النوع من الفن، يقول عنها الكاتب أنها وصلت حداً من الجودة والغنى والتنوع في دولة المغول بحيث يستعذبه الذواقع مهما اختلفت الأمزجة. والمقالة الأخيرة كتبها الأستاذ أروين بعنوان (الفنون الصغرى الهندية). والواقع أنه لم يحدثنا عن تاريخ الصناعات اليدوية، فبعد عن الغرض الفني وقد شرحها الدكتور زكي محمد حسن في كتابه فنون الإسلام وأدخل في مقاله الحديث عن التصوير بطريقة (الفريسكو) مع أنه قد اصطلح على جملة ضمن فن التصوير. والمقالات شائقة مفيدة ولكن الكتاب لا يمكن أن يصور للقارئ فنون الهند جميعها. فعنوان الكتاب إذن لا يتفق مع ما يحتويه، ولا ندري كيف أتخذ السير ريتشارد وينستدت هذا العنوان لهذه المقالات الأربع.

ص: 57

والكتاب يقع في 200 صفحة وبه 16 لوحة ورسومتوضيحية أخرى قيمة، وهذا يعرف ما بين القارئ وبين دولة الهند التي صارت إلى هند ستان ورباكستان تلك التي تريد أن تعود من جديد لتعلب دورها على مسرح النشاط العالمي، نرجو أن يختلف كثيراً عن تلك الأدورا المقيتة التي تمثل اليوم في هيئة الأمم المتحدة.

(القاهرة)

مصطفى كامل إبراهيم

وكيل اتحاد النقابة الأثرية

ص: 58