المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 788 - بتاريخ: 09 - 08 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٨٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 788

- بتاريخ: 09 - 08 - 1948

ص: -1

‌الفريقان المتحاربان في فلسطين الكرم واللؤم

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض لدى المملكة السعودية

- 2 -

ما ينقم اليهود من العرب إلا أنهم حموهم وأحسنوا إليهم وأفسحوا لهم في ديار العرب يعيشون أحراراً ويغشون معابدهم كما يشاءون ويتولون أمورهم الدينية دون حرج.

فتح العرب فلسطين والروم يسيطرون عليها والأمكنة التي يقدمها اليهود والتي يعادون العرب من أجلها اليوم مزابل عفي عليها الزمان والهوان، فطهر العرب هذه الأمكنة وجعلوها مساجد تنظيماً لها واتباعاً لأمر الإسلام الذي يعترف بما في الأديان السابقة من حقائق، ويعظمها ويبين أنه الدين العام الجامع الذي يجمع كل ما أوحاه الله إلى رسله في العصور كلها، والأقطار جميعها، بعد أ، ينفي عنها تحريف المبطلين، ويخلصها مما علق بها من خرافات الجاهلين.

وعاش اليهود في كنف العرب أحراراً في فلسطين وغير فلسطين وتبحبحوا في الأقطار العربية والإسلامية عامة، وساروا سيرتهم في عبادة المال، والتوسل إليه بكل الوسائل فوجدوا مرتعا خصبا ومتقلبا فسيحاً.

وقد بلغوا في أقطار العرب مناصب عالية، وكان لجماعات منهم شأن عظيم في الدولة الفاطمية في مصر، والدولة الابلخانية في العراق، ودول العرب في الأندلس، وغيرها.

ثم ضرب الدهر ضرباته، ودار الفلك دوراته، وجاء اليهود إلى فلسطين يزحمون أصدقاءهم في ديارهم، ويستعينون على حملتهم بالأمم التي كرهتهم وأذلتهم وشردتهم، ففقدوا بأعمالهم صداقة العرب، ولم يكن لليهود صديق سواهم في هذا العالم.

وينسى اليهود تاريخهم وتاريخ العرب كله ويرمون العرب بكل ما علمتهم أوروبا من عدوان، وبكل ما في سجاياهم وتاريخهم من ختل وعداوة للبشر جميعا إلا من كان يهوديا، وقالوا، بزعمهم: هذه بلادنا ومواطننا، نحن أولى بها، قد عشنا فيها زمناً، وسيطرنا عليها حقبة، ولسنا نبالي أن يكون العب استوطنوها بعدنا، وعاشوا فيها أكثر مما عشنا، وسيطروا

ص: 1

عليها أطول مما سيطرنا، ودافعوا عنها ونحن مشردون في أقطار الأرض، وهم اليوم فيها يعمرونها ويتقلبون في أرجائها ويحفظون آثارهم ومآثرهم، وفي جوانبها آبائهم الذين استشهدوا فيها ودافعوا عنها جبروت الروم، وجالدوا من أجلها الصليببين مائتي سنة. يقول اليهود: لا نعرف التاريخ ولا نذكر فضل العرب فإنا قوم لا نزن الأمور إلا بالمال والمنفعة، ولا نقدر الأشياء إلا بفائدتنا وشهوتنا وإن نال غيرنا فهذا الضرر هوانا وبغيتنا، وبه جذلنا وغبطتنا، فإننا نعمل لأنفسنا، ونبغض البشر أجمعين سواء منهم من أساء إلينا كأهل أوروبا ومن أحسن إلينا كالعرب، ولكننا نستعين بجماعة على أخرى، ونتمنى أن يهلكوا جميعاً. . .

لليهود ماض في فلسطين، وللعرب ماض وحاضر؛ لليهود فيها تاريخ النقطع منذ عشرات القرون، وللعرب تاريخ موصول منذ عشرات القرون. لليهود في فلسطين تاريخ ذليل مشرد انقطع بجلائهم عنها وبأسهم منها، وللعرب تاريخ مجيد عزيز دافع عنها في غير بأس، واستقر بها في غير ذلة. لليهود في فلسطين أحجار مهدومة يبكون عليها هي بقايا الأحداث، وفضلات العصور وللعرب آثار قائمة مشيدة تصل تاريخهم، وتشهد بمآثرهم، وتكذب دعوى اليهود في كل بقعة. لليهود في فلسطين صفحات في الكتب، وللعرب صفحات خالدات في أوديتها وجبالها ومدنها وقراها.

ولو لم يكن للعرب في فلسطين إلا أنهم دافعوا الصليبيين فيها وحولها أكثر من مائتي عام حتى أجلوهم عنها، وأقروا مجدهم وتاريخهم فيها، لكان هذا كفيلا لهم بحقهم فيها أبد الدهر.

حق العرب في فلسطين يقاتل باطل اليهود، وإحسان العرب يقاتل كفران اليهود وكرم العرب يلاقى لؤم اليهود. يتقاتل في فلسطين الحق والباطل، الخير والشر، والمروءة، والنذالة، والأخلاق الإنسانية العالية، والطبائع الحيوانية الدنيئة، والتاريخ العزيز القائم، والتاريخ الذليل الميت.

وإن عدل الله سبحانه، وإن كرامة الإنسان، وإن أخلاق البشر، وسنن الخليقة، لتأبى أن يغلب جند الباطل جند الحق، والفئة اللئمية الفئة الكريمة، وأعوان الشر أعوان الخير، وحزب الشيطان، حزب الله.

(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون).

ص: 2

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌أيها العرب ما حك جلدك مثل ظفرك

للأستاذ نقولا الحداد

قلتها وسأقولها أيضاً: لا تعتمدوا على الحق مهما كان حقكم صراحاً، لأنه ليس للحق مكان في هذا العالم الشرير؛ فقد علمتم أن هيئة الأمم هي جمعية تقسيم أسلاب وعنائم، وأن مجلس الأمن مجلس مؤامرات وما أوصت هيئة الأمم بتقسيم فلسطين إلا كتقسيم الأسد الأمريكي الفرائس على صعاليك الأمم والدول. وقد طاوعتم مجلس الأمن في الهدنة الأولى لظنكم أنهم يحسبون لكم احترامها كرام أخلاق، فظهر لكم أنها دسيسة سياسية دستها إنجلترا وأمريكا لكي تسلم الهاجناه من الهزيمة النكراء، ولكي تتسامح مزيداً وتزداد عديدا، وهكذا كان.

والآن وقد عاد برنادوت بقض وقضيض من الجنود والبوارج والطرادات والنسافات والطائرات الضخمة والحلزونية المركبات المصفحة والدبابات وو الخ من الأسلحة، وفي هدنة لا آخر لها لكي يجعل فلسطين أخيرا كلها، لا قسما منها، دولة إسرائيل. وقد جعل الهدنة بلا أجل مسمى، لكي يصفو له الجو، ويرتب ويدرب على مهل، وهو يزعم أنه يفاوض ويماحك ويناهض ويعارك وأخيرا يستفتي.

وما معنى كل هذا وقد علم أن فلسطين كل لا يتجزأ، فهل ينكنه أن يعمل أعجوبة بأن يجزئها وتبقى كلا؟ ثم يستفتي من؟ وهو يعلم أن العرب أكثرية ساحقة فلطبيعة الحال ستكون نتيجة الاستفتاء أن فلسطين كلها لسكانها من عرب ويهود وفلسطيينين فما معنى الاستفتاء، وما معنى المفاوضة والأمر واضح؟ إلا إذا كان رنادوت يظن أن العرب يملون طول الهدنة واليهود لا يملونها لأنهم مقيمون في فلسطين كلها يستغلونها وأهلها مشردون عنها. وكيف يمكن أن يعودوا إليها غير مسلحين ويأمنون شر اليهود الأرداء.

لو كان برنادوت (كونتاً) أي من الشرفاء كما قيل لما قبل هذه المهمة العقيمة، وهي مهمة غير شريفة، ولما قال إنه لم يأت لإحقاق الحق، بل لكي يسوى خلافا بين العرب واليهود بأية طريق ولو بالغبن بالعرب. ولما رأى أن هذه المهمة مستحيلة عليه عاد بقوات حربية ضخمة لكي ينفذ بالقوة القاهرة ما شاء وشاء له منتدبوه.

لا ندري الآن إلى أي حد يفلح. نترك الأمر للزمن. وإنما يجدر بالدول العربية كلها أن

ص: 4

تحذو حذو العراق باستدعاء مندوبيها من هيئة الأمم إذا لم تقرر هذه الهيئة اقتراح سوريا بعرض قضية فلسطين على محكمة العدل في لاهاي. فربما كان فيها عدل، لأنه لا يليق بالدول العربية أن تكون أعضاء في عصابة متحكمين مستبدين يبتزون من هذا لكي يعطوا لهذا، ولا أن يكونوا في جمعية لا تريد العدالة.

برنادوت يستطيع بقوته الحربية أن يقهركم. ولكنه لا يستطيع أن يقهر عصابة الأرجون الإرهابية لكي تطلق سراح الإنجليز الخمسة، حتى إن إنجلترا التي عجزت عن تخليصهم من براثن الأرجون. تضطر أن ترفع شكواها إلى مجلس الأمن، وأن يقف السير الكسندر كادوجان إلى جنب شقي من أشقياء الأرجون، وهل تخضع عصبة الأرجون لمجلس الأمن إذا كانت لم تخضع لهيئة الإمبراطورية البريطانية العظمى؟

كنت أتمنى أن تكون هذه الحادثة مع ألمانيا في عهد هتلر أو مع فرنسا لعهد ديجول في دمشق، إذن لرأينا تل أبيب كلها تندك على رءوس سكانها في ساعة من الزمن، لأنه لا ألمانيا ولا فرنسا تحتمل هذا الاستخذاء إلا متى قهرت في الحرب.

ليس غرضي من هذا المقال أن أقول ما قلته الآن. بل غرضي أنأسائل: ماذا تعلمنا من دروس في هذه الأحداث الأخيرة؟

ظهر لنا أننا لم نبخل بالمال ولا بالرجال، حتى ولا قصرنا في السياسة وإنما سلاحنا قصر، وجميع الدول تألبت علينا فحرمتنا السلاح، ولولا هذا لكان بنو إسرائيل الآن طعاما لسمك بحر فلسطين.

نحن إذن في حاجة ماسة إلى السلاح، ليس الآن فقط، بل في كل حين، لأننا لا ننتهي مع الصهيونيين بانتهاء هذه المرحلة؛ بل سنبقى في صدام ما داموا بين ظهرانينا. فإن استتبت قدمهم في فلسطين كانوا نكبة علينا لا تنتهي. فيجب أن تكون دائما على استعداد لمناهضتهم إلى أن نقذفهم في بحر فلسطين. فمن أين السلاح؟

يجب أن نستغني عن سلاح أية دولة أجنبية. لماذا لا نصنع سلاحنا بأنفسنا؟ ماذا نقصنا؟ المال؟ نحن أغيناء. بالعقول؟ لقد شهد الأجانب في مؤتمرات كاليفورنيا ونيويورك ولايك سكسس أن لنا عقولا ممتازة. العمال؟ عندنا كثير منهم.

يجب أن ننشئ معمل ضخمة في جميع البلاد العربية لصنع آخر طراز من الطائرات

ص: 5

الخفيفة الضخمة، وأن ننشئ معامل ضخمة لصنع المدافع من كل طراز والبنادق والذخائر على اختلاف أنواعها، وأن ننشئ دور صناعة وحياضا لصنع السفن، ومعامل لصنع المركبات على اختلاف أنواعها والدبابات.

كل هذا ممكن إذا كانت الدول العربية تعزم عزما صادقا أن نفعله، لا أن تعتمد على شركات مالية، لأننا نحن الشرقيين لم نجرؤ بعد على الأعمال الاقتصادية الاجتماعية. والعصر عصر اشتراكي أكثر مما هو إفرادي. فيحسن أن تكون هذه المصانع الحربية ملك الأمة لا ملك الأفراد أو الشركات. ويجب أن نقدم هذه المشروعات على كثير من المشروعات الحكومية التي يمكن تأجيلها لمدة خمس سنين على الأقل لأن الدفاع عن النفس يقدم على كل اعتبار

هذا ما يجب أن تفكر فيه الأمم العربية الآن، لأن العصر عصر الاعتماد على النفس، وإلا تغدى بنا الصهيونيون قبل أن نتعشى بهم. لم يعد في إمكان الأمم التواكل أو الاتكال على غيرهم ما دامت تبتغي الاستقلال التام. الاستقلال التام يقتضي الاستقلال في كل شئ على الإطلاق لا الاستقلال بكراسي الحكم فقط.

هذه كلمة صغيرة جداً من عربي صغير جداً، ولكنها كبيرة جداً لأمة عربية كبيرة أو تدعي أنها كبيرة. فالكبير يجب أن يكون مستغنيا عن كل كبير وصغير. والسلام على من اتبع الهدى

نقولا الحداد

ص: 6

‌الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ

للدكتور جواد علي

سكرتير المجمع العلمي العراقي

(بقية المنشور في العدد الماضي)

أما ذهب (المادية البيولوجية) فقد دعا أصحابه إلى تطبيق القوانين البيولوجية مثل نظرية داروين وما يتعلق بها على التاريخ وعلى المجمعات البشرية باعتبار أنها نوع من الكائنات الحية وأنها خاضعة للقوانين العامة التي تخضع لها كل الموجودات. فبحثوا في التاريخ البشري على أنه وجه من أوجه النشوء والارتقاء وبقاء ما هو أصلح وبحثوا عن الوراثة عند الأمم، كما فعل (فريدريك فون هلولد) في بحثه عن التاريخ الثقافي وتطوره من أقدم عصوره حتى الآن. و (دورنك (1833 - 1921م) وهو من الفلاسفة الذين لاقوا معارضة قوية بسبب آرائهم العنيدة في المادة ونكران الروح.

فعند هذا الفيلسوف (الإيجابي) أن (الشيء الحقيقي) هو الأشياء المرئية فقط، وعلى ما تظهر للإنسان، وأن الأشياء كلها واحدة، وأنها هي الواقع أو الحقيقة، ومن عدا ذلك فسخافات. وإن ما يسمى بالروح ليس إلا أسطورة وأن (الحس) أو (الشعور) طاقة من طاقات المادة، ولا توجد فوق (المادة) أي أمور أخرى؛ وأن الطبيعة نفسها تشعر وتفكر بالشكل الذي عناء من المادة، ولهذا يجب دراسة التاريخ على هذا الأساس. فرفض بهذه النظرية المذاهب المعروفة القائلة بما وراء الطبيعة والمذهب الرومانطيقي كذلك.

ومن هؤلاء أيضا (أوتوسيك في كتابه عن تدهور العالم القديم و (كومبلوبثر) في مؤلفاته عن الاجتماع. و (هوستن ستيوارت شامبرلين) في كتابه المشهور عن أسس القرن التاسع عشر. وقد بحث هذا في التاريخ متأثرا برأي أصحاب نظرية النشوء والارتقاء، ففرق بين الشعوب (المبدعة) وهي الشعوب المبتكرة على رأيه، وبين الشعوب المتمدنة والتي لم تفعل في نظره غير ذلك. وبنى تاريخه على أساس عنصري فمجد الآرية والشعوب الآرية وغنى بتفوق الأمم الأوربية على سائر أمم العالم.

ومن أصحاب هذه النظرية (فولتمن) وهو طبيب ومؤرخ وعالم من علماء علم الاجتماع.

ص: 7

طبق نظرية (داروين) على التاريخ وعلم الاجتماع وخرج بتأثير هذه النظرية على أن الشعوب غير متساوية في الكفايات وأن الشعوب الشمالية هي الشعوب المنتجة والمبتكرة في هذا العالم. وكذلك (نوفيزو) ووقد حاول هؤلاء مندفعين بالنظرية الداروينية ربما شاهدوه من تقدم عظيم في أوربا وتأخر في الشرق إلى تطبيق هذه النظرية على التاريخ وفي السياسة.

وقد بحث في هذا الموضوع وبصورة أوضح وأعمق جماعة من أصحاب المذهب (الواحدي) القائل بائن أصل كل الأشياء واحد وهو (المادة) أو (الروح)، ومن هؤلاء (أوستوالد)(1853 - 1932م) وهو أستاذ من أساتذة الكيمياء حاول تطبيق مبدأ (الطاقة) حتى على العلوم الاجتماعية، فألف في الثقافة وفي علم الاجتماع؛ والعالم (كولد شايد) صاحب نظرية (الاقتصاد البشرية) وقد بحث في (المادية) على أنها طاقة من الطاقات التي يتأثر بها التطور البشري.

إن أصحاب هذه النظرية وإن كانوا قد تأثروا بنظرية (داروين) وبالآراء المادية إلى حد كبير؛ غير أنهم لم ينكروا عموماً وجود (الروح). وقد فسروا (الروح) تفسيراً يلائم النظريات الطبيعية، كما أنهم فسروا تأثير القوة الموجدة أو (الله) تفسيراً لا يدعو إلى مذهب الإلحاد أو نكران الخالق نكراناً باتاً

والمذهب الآخر من المذاهب المادية في تفسير التاريخ هو مذهب (المادية الاقتصادية) أو (الوجهة المادية في تفسير التاريخ) فكل العوامل المادية المؤثرة في التاريخ البشري هي ذات طابع اقتصادي، وهذه العوامل الاقتصادية تؤثر في حياة الأفراد والجماعات والحكومات. وحتى في العلوم والأديان. وما الحياة الإنسانية والمظاهر الثقافية على رأي هؤلاء سوى مظهر من مظاهر التقلبات اقتصادي، فالتاريخ إذن هو تاريخ اقتصادي، والعامل الاقتصادي إذن هو العامل إذن هو العامل الفعال تغيير مجرى التاريخ وتكوين التاريخ.

ويلتقيبهذا المذهب التاريخي مذهب آخر يقالله (المذهب الإثباتي في التاريخ) وهو قريب من المذهب المادي وإن ظهر لنا أن المبادئ مختلفة تمام الاختلاف. ومن رجال هذا المذهب الفيلسوف الفرنسي (أوكست كونت) يرى أكثر رجال هذا المذهب أن التاريخ البشري مر

ص: 8

في مراحل حتى بلغ هذه المرحلة الأخيرة، وإن من الممكن تمييز ثلاث مراحل مهمة مرت بها هذه البشرية وهي:

1 -

مرحلة إرجاع كل الأشياء إلى أسباب وعوامل روحية وقوى غير منظورة مثل السحر والقوى الخارقة والآلهة والقوى التي لا يمكن رؤيتها.

2 -

مرحلة ما وراء الطبيعة (. أو مرحلة الأفكار المجردة، وترجع فيها الأسباب والمسببات والوجود وما يحدث إلى عامل مؤثر.

3 -

المرحلة الثالثة وهي مرحلة (الفكر الإيجابي) وفي هذه المرحلة بدأ الإنسان يفكر في ترك البحث في العلل النهائية غير المنظورة إلى البحث بالطرق الإيجابية وفق الطرق الطبيعية وقوانين التجارب العلمية.

وقد تطورت أكثر العلوم وسارت سيراً إيجابيا إلا العلوم التي تبحث عن المجتمع والمجتمعات البشرية فإنها لا تزال في حاجة إلى إيجاد قوانين ودساتير الطبيعة يتمكن بواسطتها عالم الاجتماع أو التاريخ من الحصول في النهاية على نتائج إيجابية ثابتة.

وقد وجدت آراء (كونت) رواجاً كبيراً بين الجماهير. وإن لم يكن ذلك التأثير مباشراً بل كان بواسطة كتابات الكتاب الآخرين أمثال (جون ستيوارت دميل) و (هوربرت سبنسر) و (هنري توماسي بكل) و (إميل ليثريه) و (هنري نين) وغيرهم. لقد وجه هؤلاء أنظار قرائهم إلى دراسة العلوم الاجتماعية وحالات الشعوب والتاريخ الثقافي وما إلى ذلك وساعدوا على نشر آرائه ولا سيما (بسكل) في كتابه القيم الذي ظهر بين سنة 1857 - 1861 وهو (تاريخ المدينة في أنكلترة).

وقد أشارت إلى ضرورة دراسة نفسيات الجماعات والعوامل الروحية التي تؤثر في التطور الثقافي، ولابد لمعرفة ذلك من الاستعانة بالإحصائيات التي تتعلق بالجماعات، وبواسطة هذه الدراسات التي تستند على الطريق التجريبية نتمكن من رفع (التاريخ) إلى درجة (علم) من العلوم. أما الاستعانة بالحوادث الفردية وبالوقائع المدونة فإن ذلك لا يرفع من التاريخ شيئاً، ولا يمكن أن يصل به إلى منزلة العلوم.

وقد تطرق هذا البحث بحث الاستعانة بالإحصائيات لتكوين (علم التاريخ الناطق) عالم فرنسي هو (هنري نوردو) في كتابه الذي ظهر سنة 1888 وعنوانه التاريخ والمؤرخون

ص: 9

حيث نادى بموجب تدوين التاريخ على صورة أرقام وإحصائيات ناطقة تتكلم للناس بصراحة وبدون خجل، مثل المعادلات الرياضية أو الكيماوية. أما وصف الحوادث وتدوينها على رأيه فذلك من وظائف الآداب.

ومن الذين نحوا منحى (كونت) في ألمانيا المؤرخ الألماني (كارل لامبرشت) الذي سار على أكثر الأسس التي وضعها ذلك الفيلسوف الفرنسي وطبقها في التاريخ الاجتماعي. وقد أشاد بالقيم التاريخية للجماعات وبأنها هي الموجهة للتاريخ متجاهلا بذلك (عامل الفرد) في التاريخ وتأثير الأفراد في الجماعات. وقد أدى ذلك إلى احتدام النزاع بين المؤرخين في موضوع مهم جداً: هل التاريخ من صنع الأفراد أم من صنع الجماعات؟ وأيهما أقوى أثرا في سير الحوادث البشرية؛ فكان من تأثير ذلك ظهور رسالة في موضوع (أهمية الشخصية في التاريخ بالنظر إلى مقدمة بلوشي في التاريخ اليونان).

وقد اصطدم (لامبرشت) بأكثر المؤرخين من أتباع طريقة المؤرخ (رانكه) في تدوين التاريخ.

غير أن هنالك جماعة سارو على نهج آخر في تفسير التاريخ البشري هو نهج الفيلسوف الشهير (كانت) ومثل هؤلاء (فيشته) و (شلنك) و (هيكل) غير أن أعظم ممثل لنظرية (كانت) في التاريخ هو المؤرخ الشهير (ليويولدفون رانكه) الذي اهتمعلى الأخص بالبحث في (نظرية الفكرة) وأهمية الدولة والفرد. وقد انتقلت آراؤه إلى تلاميذه ومريديه.

ومن أهم النقاط التي بحثت فيها مدرسة (رانكه) هي كيفية اشتراك الشعوب العالمية كلها في تكوين (التاريخ) والحرية والجماعة وعلاقة الفرد بالحكومة، وكيف أمكن الجمع بين الحرية والإرادة الحرة للأفراد، وتكوين التاريخ العالمي. وحكم الضرورة الذي أجبر الإنسان على تقييد حريته طائعا مختاراً لئلا يقع في كفاح لا نهاية له، فاضطر إلى تكوين الحكومات والخضوع لأحكامها مع ما في ذلك من تضييق للحريات. فضمن بذلك من جهة أخرى أكبر قسط ممكن من الحرية للأفراد. وقد جاءت هذه الآراء في شعر الشاعر (شلر) كما جاءت في نظرية (هيكل) عن تطور العالم في نظريته عن تطور الـ أو (الفكرة) حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العهد الثالث وهو (العصر المسيحي الجرماني).

على أن هذا المذهب في التاريخ يقابله مذهب آخر هو المذهب التجريبي الانطباعي في

ص: 10

التاريخ ومذهب (الموسوعيين). و (الإنسانيين).

جواد علي

ص: 11

‌تعليق على مقال في الرسالة

جهود العرب المنسية في الفلك والهيئة

(كتاب عربي في الهيئة يذكر قبل مئات السنين ما اكتشفه

العرب حديثا)

للأستاذ ضياء الدخيلي

قرأت في العدد (782) من مجلة الرسالة الغراء مقالا للدكتور فضل أبو بكر، جاء فيه إغفال لجهود علماء المسلمين والعرب في علوم الطبيعية والفلك. فوجب على أن أعرفه بالحقيقة.

قال الدكتور:

(كان الإنسان لعهد ليس بالبعيد يعتقد في سطحية الأرض ويظنها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له، بساطاً لا حراك فيه، وكان جهله بالسماء، وكواكبها أشد من جهله بالأرض التي يعيش فوق أديمها، وذلك إلى أوائل القرن السابع عشر حتى جاء (جاليلي) و (نيوتن) و (لابلاس) فيما بين منتصف القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فأثبتوا كروية الأرض ودورانها حول الشمس وقانون الجاذبية ونهضوا بعلم الفلك ووضعوا له أسسا وقواعد علمية متينة).

ولا أريد أن أطيل محاسبة الكاتب المحترم فحسبي أن اقتطف له فقرات من كتاب الملخص في علم الهيئة، تأليف محمود بن محمد الجغميني ولم تحضرني ترجمته، ولكن من الأكيد أنه كان قبل جاليلي ونيوتن بزمن طويل، وقد شرح رسالته المختصرة شارح (لم يذكر اسمه في المطبوع في إيران). وأهدى الشرح إلى السلطان بن السلطان ألغ بيك بن شاهرخ بن أمير تيمور كور كان خلد الله شموس سلطنته.

وقد طبعت هذه الرسالة في إيران وكنا نتدارسها في مدارس النجف الأشرف ككتاب مدرسي في علم الهيئة، قال: (المقالة الثانية في بيان الأرض وما يتعلق بها، وهي ثلاثة أبواب الأول في المعمور من الأرض وعرضه وقسمته إلى الإقليم السبعة: الأرض كرية الشكل كما سلف في المقدمة، ويبتني عليها مسألة غريبة وهي أنه لو تيسر السير على

ص: 12

جميع الأرض وتفرق ثلاثة أشخاص من موضع معين بأن سار أحدهم نحو المغرب والآخر نحو المشرق وأقام الثالث حتى عاد إليه السائر إلى المغرب من المشرق والسائر إلى المشرق من المغرب في وقت واحد لكان الأيام التي عدها الغربي في مدة الدورة أنقص من أيام المقيم بواحد، وأيام الشرقي أزيد منها بذلك؛ ويتفرع عليها مسائل غريبة يسأل عنها، كما يقال: هل يجوز أن يكون يوم بعينه جمعة عند شخص، وخميسا عن آخر، وسبتا عند ثالث، وغير ذلك مما هو من هذا القبيل، فيجاب بالجواز ويستغرب هذا ((أقول إن نقصان الأيام وزيادتها هنا مبنى على ما تسببه معاكسة دوران الأرض أو مسيراتها) ثم إن المؤلفين يقسمان الأرض إلى المناطق المتعارفة في كتب الجغرافيا اليوم فيقولان (ونفرض على الأرض ثلاث دوائر إحداها في سطح معدل النهار وهي خط الاستواء كما عرفت، والثانية في سطح أفق الاستواء، والثالثة في سطح دائرة نصف النهار، وكلتاهما في منتصف المعمورة بخط الاستواء، فالأولى تقطع الأرض بنصفين جنوبي وشمالي، والثانية تنصف كلا من نصفيها المذكورين فيصير الأرض بهما أرباعاً، ربعان جنوبيان، وربعان شماليان، والمعمورة منها أحد الربعين الشماليين، وهو أربع المشهور بالربع المسكون على ما يرى فيه من الجبال والصحارى والمروج والبحار ونحوها كالآجام ونحوها من المواضع الخربة. قال الشارح يعني أن المعمور منها هو هذا الربع مع أن أكثرها خراب في زماننا هذا وسائر الأرباع خراب ظاهراً، وإلا لوصل خبرهم إلينا غالبا ويحتمل أن يكون بيننا وبينهم بحار مغرقة، وجبال شاهقة وبراري بعيدة تمنع وصول الخبر إلينا. غير أن أحد الربعين الجنوبيين قد حكى أن فيه قليلا من العمارة كما يجئ. وأما ما يحكى من قصة وقعت في نوبة ذي القرنين فالظاهر أنها موضوعة لا أصل لها، والله أعلم بما في ملكه.

والدائرة الثالثة من تلك الدوائر الثلاث تقطع المعمور بنصفين غربي وشرفي، ونقطة التقاطع بين الدائرة الأولى والثالثة تسمى قبة الأرض، وابتداء المعمور من خط الاستواء على ما ذكره بطليموس في المجسطي، إلا أن بطليموس بعد ما صنف المجسطي زعم في كتابه المسمى بجغرافيا أي صورة الإقليم أنه وجد وراء خط الاستواء في أطراف الزنج والحبشة عمارة الخ. . . فها أنت ترى أن ما أدرجاه قريب جداً مما يدرسه طلاب الجغرافيا والفلك اليوم. وإليك ما قاله المؤلفان عن اختلاف الليل والنهار: (الشمس إذا وقع ضوئها

ص: 13

على الأرض استضاء وجهها المواجه للشمس لكونها كثيفة ووقع ظلها لكثافتها المانعة من نفوذ الضوء في مقابلة جهة الشمس، إذ من شأن الظل أن يكون كذلك؛ فإذا كانت الشمس فوق الأرض فهو النهار، وإذا كانت تحت الأرض وقع الليل، ووقوع ظلها يكون على شكل مخروط مستدير، إذ الشمس أعظم جرما من الأرض بكثير.

وقال المؤلفان عن الخسوف والكسوف: (إن جرم القمر في نفسه مظلم، وإنما بضياء الشمس فيكون النصف المواجه للشمس فيكون النصف المواجه للشمس أبدا مستضيئا لو لم يمنع مانع كحيلولة الأرض بينهما، والنصف الآخر مظلما؛ وهذا الحكم تقربي لما بين في موضعه من أن الكرة إذا استاءت من كرة أكبر منها كان المستضيئأكثر من نصفها، فعند الاجتماع يكون القمر بيننا وبين الشمس فيكون نصفه المظلم مواجها لنا فلا نرى شيئا من ضوئه، وذلك هو المحاق؛ وإذا بعد عن الشمس مال نصفه المضيء إلينا فنرى طرفا منه وهو الهلال؛ ثم كلما ازداد بعده عن الشمس ازداد ميل النصف المضيء إلينا فازداد ضياؤه أي نور القمر بالنسبة إلينا وهو الزيادة حتى إذا قابلهاانحرف عن المقابلة مال إلينا شئ من نصفه المظلم ثم كلما يزداد ذلك الميل يأخذ الظلام بالزيادة حتى يمحق القمر وإذا حال القمر بين الشمس وبيننا فيستر ضوءها عنا كلا أو بعضا وهو كسوف الشمس، وإذا حالت الأرض بينهما ووقع ظلها على وجه القمر المواجه للشمس كله أو بعضه فلم يصل إليه ضوء الشمس أصلا أو بقدر ما وقع عليه الظل فيبقى ما لم يصل إليهالضوء على ظلامه الأصلي وهو خسوف القمر. ولنجتزئ بما تقدم عرضه من كلام هؤلاء الذين عاشوا قبل (جالليو) بمئات السنين ولتغفروا لنا طول ما اقتبسناه من مؤلف الجغميني (الملخص في الهيئة) ومن شرحه وقد طبعا في إيران عام 1286هـ والعادة في النجف الأشرف أن يدرسا في رمضان عندما تتعطل باقي الدروس الأصلية.

لقد تبين مما تقدم أن علماء الفلك المسلمين لم يكونوا يعتقدون في سطحية الأرض ولم يكونوا بظنونها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له الخ، كما ظن الدكتور فضل.

بقى لنا أن ندرس فكرة حركة الأرض فهل هي حديثة الميلاد كما تفضل فضل الحق أنها ليست كذلك. وحرصا على الوقت نورد مقتطفات من آثار أناس يوثق بشهاداتهم، قد عرفوا بالخبرة في الموضوع. هذا هبة الدين الشهر ستاني يقول في كتابه (الهيئة والإسلام) - (إن

ص: 14

أول من كشف السر عن دوران الأرض هو (فيثاغورس) النابغ قبل الميلاد بقررون خمسة، وتبعه (فلوطرخوس) و (ارخميدس) ثم قوى رأيه (ارسترخوس) الساموسي بعده بقرنين، وعلم دوران الأرض السنوي حول الشمس فشكي وكفر، ثم نبغ بعده بنصف قرن (كليانثوس) من أسوس واختار الحركتين للأرض فشكي واتهم بالكفر أمام الحكام؛ ثم ظهر (بطليموس) بعيده بقليل فأوضح سكون الأرض الذي كان الناس يزعمونه فطريا ويحسبونه بديهيا ورتب الأجرام السماوية والحركات الفلكية على ما فصله في (المجسطي) فنال نظامه الصوت والصيت في العالم المتمدن (حينذاك) حتى أصبح المتفلسفون من المسلمين وغيرهم ينقحون هيئته ويدافعون عنها. وكان في مهرة فلاسفة المسلمين من يدفع الموانع عن تحرك الأرض أيضا كالعلامة نصير الدين الطوسي والفاضل بهاء الدينالعاملي وكان الأفرنج يومئذ غارقتين في الضلالة، وكن استبداد البابوات قد منع الأفوه والإفهام عن التحرك في سبيل العلوم العقلية وإظهار ما لا تقبله الكنيسة، وقد أحرقت ألوفا من المستنيرين بعلوم الإسلام وفلسفة ابن رشد القرطبي. وحسبك أن الحكيم (برونو) نطق بسير الأرض قبل الألف الهجري، فهجروه وأبعدوه عن أوطانه ثم سجنوه ست سنين ثم أحرقوه وأحرقوا كتبه. واجترأ (بعد الألف الهجري، فأثبت الحركتين للأرض فأهانوه واضطهدوه حتى قارب الهلكة ثم سجن طويلا. وأول من نطق بتحرك الأرض من الأفرنج هو (الكردينال دى كورا) ثم (الكردينال إلينا كوس) ثم (جون مولار) لكنهم لم يتجاهروا بالقول ولا أتوا بأدلة مقنعة حتى قام (كوبرنيك) في حدود الألف الهجري وأقام أدلة قوية وكتب الرسائل والكتب في هذه المسألة، فصار بذلك محييها ومؤسسا للهيئة العصرية وسلك الحكماء مسلكه، فأصبح اليوم هذا النظام هو الشائع).

ويؤيد كلام الشهر ستاني ما قرأت في كتاب (مبادئ علم الهيئة) تأليف اليز أفرت، إذ جاء فيه (أنه نحو نصف القرن السادس عشر، بينما كان تعليم بطليموس هو المشهور في كل مدارس أوربا قام (كوبرنيكوس) من بروسيا، وأحيا تعاليم فيثاغورس التي هي التعاليم الحقيقية المعول عليها في هذه الأيام، وهي أن الشمس مركز، والأرض وبقية السيارات تدور حولها، وأن لكل منها دورة ثانوية تدور على محورها) وفيه (أن فيثاغورس قبل المسيح بخمسمائة سنة، أسس المدرسة الثانية المشهورة الفلكية وهي في يكروتونا من

ص: 15

أعمال إيطاليا، وهو أول من اكتشف ناموس حركات الأجرام السماوية، ولكن آراءه رفضت عند علماء هذا الفن بسبب التعصب والعجب.

وقال كرنيليوس فانديك في (أصول علم الهيئة):

كان فيثاغوس اليوناني معلم هذا الفن في مدرسة كروتونا في إيطاليا قبل الميلاد بخمسمائة سنة، ولم تعتبر تعاليمه مدة ألقى سنة إلى أن أحياها غاليلو من إيطاليا وكوبرنيكوس من بروسيا في القرن الخامس عشر والسادس عشر.

أما فكرة الجاذبية فهي أن أيضا قديمة قال في كتابه (بسائط علم الفلك)(وهذا التفاعل بين الأجرام السماوية التي يطلق عليه اسم الجاذبية العمومية انتبه له بعض العلماء من قديم الزمان فأشار إليه بطليموس صاحب كتاب (المجسطي) حاسبا أنه هو الذي يجعل الأجسام تقع على الأرض متجهة نحو مركزها وهو الذي يربط كواكب السماء بعضها ببعض. ويقال إن موسى بن شاكر المهندس الذي نشأ في أوائل القرن الثالث الهجري انتبه له أيضا وقال به قال ابن الفقطي أ، موسى بن شاكر كان مهندسا مشهورا من منجمي المأمون) أقول ولوح ابن سينا في إشاراته ونصير الدين الطوسي وفخر الدين الرازي في شرحيهما لها. وكان هؤلاء يعبرون عن الجاذبية بين الكواكب بالشوق.

قال الإمام فخر الدين الرازي في شرحه:

وأما الشيخ (ابن سينا) فقد جزم ها هنا (في الإشارات) بأنه لا بد وأن يكون لكل واحد منها (أي للكرات في الأفلاك) محرك خاص، لأن المتحرك بالاستدارة إذا ثبت أن حركته ليست إلا شوقية تشبهية، وجب أن يكون الحال في كل الكرات كذلك. وأما قوله وتعلم أنه ليس يجوز أن يقال السافل منها لا يجوز أن يكون معشوق الكرة السافلة في حركتها الكرة العالية الخ. . .

ضياء الدخيلي

ص: 16

‌11 - من ذكرياتي في بلاد انوبة:

إصبع الإنجليز في النوبة

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

قد يثير هذا العنوان العجب والدهشة في بعض النفوس التي لا تعرف شيئا عن منطقة النوبة، وربما يدفع بعضها إلى التساؤل الملح: وما صلة الإنجليز ببلاد النوبة؟ وأين مكان هذا الإصبع في تلك البلاد التي ليس فيها موضع لأجنبي؟!

والواقع أن الغفلة مستولية على كثير من ساستنا الذين لا ينطرون إلا إلى مواقع أقدامهم، ولا يجشمون أنفسهم عناء التفكير فيما هو أبعد من ذلك، ولا مشقة اليقظة والانتباه لما يراد بوادي النيل كله، وما يكون دائما وراء الأنباء الذائعة، والأخبار الطائرة، ولا يعرفه في الغالب كثير من الناس:

غفل بعض الساسة المصريين عن واجبهم الوطني، حينما جعلوا من بعض بلادهم، وأعني منطقة النوبة منفى للموظفين، واحكموا عقد هذه العقدة النفسية الأليمة، حتى أن الموظف ليتولاه العجب العاجب حينما ينزل بهذه البلاد، فلا يرى بها جديدا في أية ناحية من النواحي، وأن كل شر سمع به لا أثر له على الإطلاق، وربما يجد العكس، كشهرة هذه المنطقة بالحشرات السامة، والأفاعي القاتلة. . . . و. . . مما لم نجد فيه خلاف ما نعرف في مختلف بلدان القطر، بل في كثير من بلاد الريف ما هو أجدر بحمل هذه الشهرة، وأولى بذيوع هذا الصيت عنه؟! ومما زاد الطين بلة، أن كثيرا من أولى الأمر يهملون شان هذه المنطقة سنوات فتظل مشروعاتها مهملة، في زوايا النسيان، مما كان له أكبر الأثر في كراهية الناس لهذه المنطقة التي تعتبر من أهم المناطق المصرية الكبيرة.

وإذا كانت السياسة البريطانية قد نجحت في شئ، فإن نجاحها في تعمد إهمال منطقة النوبة، وحمل الحكومات المصرية على هذا الإهمال - فاق كل نجاح. . . إهمال جعلها كمنطقة طبيعية خادمة خاملة، لا حياة فيها ولا حركة نشاط، حتى ليعتقد المار بها طريقة من مصر إلى السودان، أو العكس، أنه منطقة قبور، يدفن فيها الأحياء بدل أن يدفن الأموات، وكم من موت خير من حياة كلها الجدب والألم، والشقاء المسر، والعناء المميت، وأنها فاصل طبيعي بين السودان ومصر!.

ص: 17

وكأنما أرادت السياسة البريطانية بذلك أن نلقى في روع كل مشاهد لهذه المنطقة هذا الشعور الباطني العجيب، وأن تتخذ من هذا دليل على الفصل بين شقي الوادي، جنوبه وشماله، مصره وسودانه وأن تجعل ذلك حجة لها على تحقيق ما تبغي، وإنقاذ ما تريد، وهي دائما تبنى آمالها وأمانيها الكواذب على الخواء، وتنسج العنكبوت ثم تمضي في طريقها الفاسد لتجعل من الظلم عدلا، ومن الباطل حقا، ومن الوهم واقعا محسوسا، ولكن هذا وإن جاز في شريعة الماضي، وقد سيطرت الغفلة على العقول، ورانت على القلوب، فلن يجوز في شريعة القرن الحاضر، وقد انتبهت الأذهان، وتفتحت العيون، واستيقظت القلوب، ونضج الوعي القومي، حتى أصبح الابن يشارك أباه في السياسة، ويعاونه على أداء الواجب، ويتقدمه إذا دعا الداعي ميدان الجهاد والنضال لا يعرف الوهن والضعف إلى نفسه سبيلا، وهو بما يلاقي من الهول والشدة، والحبس والتشريد، جد سيد وفخور!

ولئن غفل هذا الفريق المصري عن نبات هذه الدولة العجوز الشمطاء، اللعوب، ذات الناب الأزرق الاستعماري، الأصيل في المنكر والدس، والخداع والرياء، فلقد فهم الشعب على بكرة أبيه الآن حقيقة الموقف، وأدراك ما يساق إليه. . .

وفي بلاد النوبة مشروعات كثيرة نفذت بالفعل وآتت ثمارها أطيب ما تكون، وكان لها في نفوس النوبيين جميعا أجمل الأثر وهناك مشروعات كثيرة تنتظر التنفيذ والعقيدة السائدة أن كل مشروع يكون نصيبه الإهمال والنسيان، لا بد وأن يكون للإنجليز إصبع في وقفه وإهماله، لأنهم لا يريدون رفاهية هذه البلاد، ولا خيرها، لأنهم آخر من يستفيدون منها، ولأن القلب النوبي بكره الإنجليز كراهية تملك عليه نفسه من جميع نواحيها، ويدرك تمام الإدراك أن الانجليز عدو بلاده رقم (1) وأنه خطر ليس بعده خطر، وأنه شر في كل مكان يحل به، والسر في ذلك يجهله كثير من المصريين، والقليلون يعلمون أن الانجليز في وقت ما، حينما اشتدت بالنوبيين الأزمات، وضاقت بهم سبل العيش، بسبب التعلية الأخيرة. . . انتهز هؤلاء الإنجليز الأوغاد، عن طريق أذنابهم - الفرصة، وحاولوا اجتذاب قلوب النوبيين إليهم، وربطهم بعجلة الإمبراطورية بحجة صلتهم الوثيقة بأهل السودان، فأن مديرية دنقلة بأسرها تعتبر منطقة نوبية صحيحة من قديم الزمان، ولعب الذهب، وأعشى بربقه العيون، وامتدت الآمال والأماني الخوالب، ولكن قلوب النوبيين لم تتحرك لهذا

ص: 18

البريق، وعيونهم لم يعشها هذا اللمعان، وكان الجواب المفحم أنهم حراس النيل من فوق هذا القمم الشوامخ، التي تشبه عزة نفوسهم، ونيل أخلاقهم على الرغم من ضيق ذات اليد، والمبيت على الطوى في أغلب الأحيان.

وتلقى الإنجليز هذا الدرس القاسي، وعلموا أن الذهب ليس هو كل شئ، وإن سياستهم لم يكتب لها النجاح على طول الخط ولهذا أدركوا وطنية هؤلاء. . . الوطنية الحقة، التي لا يتم عنها كلام منمق معسول، ولا عبارات خلابة، ولا أحاديث مستفيضة ولا خطب حماسية، ولا مقالات تفيض بها أنهار الصحف والمجلات، وإنما هو شئ أسمى من هذا وأجل هو العمل والصبر والجلد، والإخلاص، وحب مصر والمصريين، واحترام القانون إلى حد يثير الدهشة والعجب، ويكفي أنه قد ينقضي العام بأسره دون أن تقع جناية في بلاد النوبة كلها على الرغم من امتدادها خمسين وثلاثمائة كيلو متر (فأين تجد هذه الوطنية الصادقة، والهدوء الجميل؟

لقد كان الإنجليز يريدون النوبيين على تشجيع الحركة الانفعالية عن مصر، التي أهملت أمرهم، ونسيتهم في قفارهم وصحاريهم) وبذل الإنجليز الوعود الخلابة لإحالة منطقة النوبة إلى جنة تجري من تحتها الأنهار، وأنفاذ جميع المشروعات الممكنة وغير الممكنة لتكون هذه البلاد حافلة بالثمار الناضجة، والزهور اليانعة. يتدفق على أهلها الخير من كل حدب وصوت، ولكنهم بحمد الله باءوا بالفشل، وكان نصيبهم الخذلان الأليم. . . ومن عجب أن أمر هذه المحاولة لم يكتب له الفضيحة كما يجب. وإنما ظل سرا لا يعرفه إلا القليلون من المصريين، لأن النوبيين لا يرون فيما فعلوا حكومة يستحون عليها المدح أو الثناء، بل هو الواجب الذي لا شكر عليه.

ومما يؤسف له أن كثيرا من الأخطاء تقع كل عام في الوزارات. . . الأخطاء الوطنية التي يحزن لها قلب الغيور فمن ذلك ما حدث معنا عام 1946 بخصوص استمارات السفر إلى عنيبة، وجهل الموظف المختص بأمر هذه الاستمارات، وهل تكون من حق موظف عنيبة أم لا، وطال الأخذ والرد بيننا، وأخيرا صرف لنا استمارات إلى الشلال فحسب، لأنه يعتقد أن الشلال نهاية اقتصاصه، وأننا ملزمون أن نأخذ الاستمارات الباقية من منطقة قنا التعليمية، إذا كان في وسعها هي الأخرى أن تصرف استمارات أبعد من الشلال.

ص: 19

وإذا اغتفرنا لهذا الموظف هذه الغلطة، فهل نغتفر لموظف آخر بالوزارة نفسها غلطة أفظع وأعنف؟ لقد ذهب أحد الزملاء بعد تعيينه إلى وزارة المعارف ليأخذ استمارات سفره إلى عنيبة أيضا، وما كان أشد عجبه عند ما فاجأه الموظف المختص بطلب تقديم ترخيص للموافقة عليه من الجهات المختصة في مصلحة الحدود. فقال: لماذا؟ فأجاب الموظف: لأن عنيبة خارج الحدود المصرية، فلا بد من جواز السفر إليها؟!

وبهت الزميل، وحاول أن يفهم الموظف حقيقة الأمر، وأن عنيبة ليست خارج الحدود، ولكنه نظر إليه شذرا في شئ من التعالم المقيت، فلم يجد الزميل بدا من الرضوخ لما أراد، وقدم الطلب المراد، وأخذ مجراه، وانتقل من مكتب إلى مكتب، دون أن يفطن أحد إلى هذا الخطأ، حتى وصل إلى يد أحد الرؤساء بالوزارة، وكان رجلا ذكيا يعرف الكثير من عنيبة، فأمسك بالطلب، وأطال النظر فيه، وبدا الاستياء على وجهه، ثم نادى الموظف الذي أشار به، وافهمه حقيقة الأمر، وأتحفه بقسط كبير من اللوم والتعنيف، فما يجدر بموظف أن يجهل حقيقة عمله، وإن جهل حقيقة بلاده!

وأرمنا بلدة في بلاد النوبة بين توشكي وأبي سمبل، وحدث أن أرسل إليها أحد موظفي وزارة الصحة بعض الأوراق، الخاصة بطبيب المركز أي مركز عنيبة، بيد أن هذا الموظف كتب على الظرف (السودان) فذهبت الأوراق إلى السودان، ثم ردت إلى الوزارة مرة أخرى بعد ما كتب عليها موظف الحكومية السودانية أن هذه البلدة ليست في السودان وإنما هي في منطقة النوبة التابعة للحكومة المصرية واتبع هذه العبارة بمجموعة من علامات التعجب والاستفهام، التي معناها أننا معشر المصريين لا نعرف بلادنا).

هذه الأخطاء التي أسميها أخطاء وطنية، تقع في شتى الوزارات، ومختلف دور الحكومة كل عام، وهي إن أحزنت الوطني الغيور، فإنما بطرب لها المستعمر الغاصب. . . لأنه يرضيه أن يرى كل مصري منصرفا عن خير بلاده، ومصلحة أمته إلى لذاذاته ومسراته، ويسره جهل الموظفين بما لا يصح أن يجهلوه ويزيد في سعادته أن يرى القلق باديا في وجوه الموظفين في بلاد النوبة، ولهذا يتألم الإنجليز لعمران هذه المنطقة بالغ الألم، ويسوئهم أن تتجه الحكومة المصرية بالإصلاحات الشاملة في هذه البلاد، وبخاصة في هذه الأيام، لأن إصلاح منطقة النوبة يصل ما بين الإنجليز على اتساعها، ولكن الله سيحبط

ص: 20

مسعاهم حينما تخاطبهم باللغة التي يفهمونها، وإن غدا لناظره قريب.

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 21

‌في الطائرة

للأستاذ نجاتي صدقي

كان المسافر من فلسطين إلى سوريا في الزمن الغابر يشعر بأنه مقدم على رحلة محفوفة بالمغامرات والمخاطر، فيقطع المسافة الطويلة إلى عكاء بالدلجانس، ثم يستقل حمارا ويجتاز به معبر الناقورة. . . ثم يتابع السفر بدلجانس آخر.

وكان معبر الناقورة هذا طريقا جبليا ضيقا، يقوم على أحد جانبيه جبل شاهق، وتترامى على الجانب الآخر هوة سحيقة تنتهي إلى صخور مسننة يداعبها البحر الأزرق العميق مداعبة هادئة، فإذا ما نظر إليها المسافر الراكب شاعت في نفسه موجة من الهلع، وفضل اجتياز المعبر سيرا على قدميه. . أو زحفا على أربعته.

ثم يصل المسافر المدينة التي يقصدها، ويقص على أهله وذويه ما لاقاه من أهوال أثناءرحلته الشاقة. . . ولا يغرب باله طبعا عن أن يروى لهم وقائعه مع قطاع الطرق، وفتكه ليلا بالضباع التي ينبعث الشر من أعينها، وبطشه نهارا بالذئاب الجائعة ذات الأنياب الحادة والمخالب الجارحة.

هكذا كانت مشاق الأسفار في الأيام الغابرة، أما مشاقها في أيامنا هذه فأليك ما حدث في الطائرة:

كنت مرة مسافراً في الطائرة من اللد إلى حلب، وكان الفصل شتاء، وكانت الطائرة تقل شخصين فقط هما أنا وتاجر أغنام يدعى أبا محمود، وهو رجل في حدود الخمسين، طيب القلب، يلبس القمباز، ولا ينفك عن مداعبة حبات سبحته القيقية. وبعد أن قطعنا مسافة في الطائرة حدث ما أثار دهشتي. . . رأيت تاجر الأغنام وقد انكمش على نفسه، ممتقع اللون، زائغ البصر، فاغر الفم، مشنج اليدين. . فدنوت منه وسألته: ما بالك يا رفيق الطريق؟. . .

فأجابني بصوت بكاء: أريد النزول!. .

قالت هذه طائرة وليست سيارة، ولن تتمكن من النزول

إلا في مطار حلب. . . الأول تصعد في الجو؟.

قال: نعم. . . لأول مرة يا لشقائي.

ص: 22

قلت: لا تخف، فبعد ساعتين سنصل إلى حلب. . . أنظر إلى أسفل، ها نحن نجتاز رأس الناقورة. . . فتطلع تاجر الأعنام من النافذة. . . وحدث في هذه البرهة أن هبطت الطائرة في فجوة هوائية، فانتفض رفيقي، واسترخى على مقعده، وراح يؤنب نفسه قائلاً:(أجننت يا أبا محمود. . . ما لك وركوب الطائرة. . . سافر في السيارة. . . أو في الدلجانس. . . الله يرحم أيام الدلجنس. . . أو على حمار. . أو مشيا على قدميك. . . ولكنك تريد السرعة، والآن ستكلفك هذه السرعة حياتك. . . يا لك من شقي جاهل يا أبا محمود). . . (وأخذ يبكي).

ولما دخلت طائرتنا وسط غيوم كثيفة رفع تاجر الأغنام ناظريه إلى وقال: أين نحن الآن؟.

قلت: وسط الغيوم.

قال: في السماء؟.

قلت: نعم.

قال: في أي سماء؟!

قلت: اجتزنا السادسة وعلى وشك الدخول في السابعة! فصرخ بأعلى سوته: الله أكبر. . . الله أكبر. . الله أكبر!. .

ثم ارتجت الطائرة فجأة ومالت إلى اليمين، ثم انحرفت إلى اليسار. . . ثم هوت في فجوة هوائية بعنف. . . فشددت الحزام على وسطي. . . أما تاجر الأغنام فكان يتمتم قائلاً: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، ولا تجازينا إن أسأنا أو أخطأنا، اللهم أدخلنا في زمرة عبادك الصالحين، آمين يا أرحم الراحمين.

ثم ألتفت إلي وقال: أبنائي أمانة في عنقك!

قلت: وماذا تعني بذلك؟. .

قال: أبنائي ليس لهم من معيل غيري. . أستحلفك الله أن تتردد عليهم دائما، وأن تمد لهم يد المعونة إذا ما احتاجوا لها لا سمح الله. . . دعهم يبيعون الأغنام أو يقتسمونها فيما بينهم. . . وقل لأم محمود بأن تكرس حياتها في تربية أولادها. . . آه إني أشعر بدنو الأجل!. .

قلت: ولكن إذا أصيبت الطائرة بكارثة فسيقضى علينا معاً! وارتجت الطائرة ارتجاجا عنيفاً، ثم هبت علينا عاصفة مصحوبة بالرعد، والبرق، والأمطار فحلقت بنا الطائرة عالياً،

ص: 23

وكانت أثناء تحليقها هذا تهوى بين حين وآخر في فجوات جوية. وفي هذه اللحظة أطل علينا عامل الراديو من كونه وناولني ورقة فلم أطلع على مضمونها لاعتقادي أنها تحدثنا عما قطعناه من مسافة وما تبقى منها لنصل إلى حلب. . . أما رفيقي تاجر الأغنام فكان مستلقيا على مقعده مغمض العينين، متهدل الشاربين، مرتخي اليدين.

وهبطت بنا الطائرة في مطار حلب، وأبو محمود لا يزال يعتبر نفسه في عداد الهالكين. . . فهززته قائلاً: أنهض أيها الرجل لقد وصلنا!.

ففتح عينيه الذاهلتين وقال: أين نحن الآن. قلت في حلب.

فنزلنا من الطائرة، وسمعت تاجر الأغنام يقول: هذه هي السفرة الأولى والأخيرة بالطائرة. . لقد نجانا الله!.

فضحكت منه، وربت على كتفه، وافترقنا.

ولما بلغت النزول حلب، أخذت أفحص ما في جيبي من أوراق، فعثرت على ورقة عامل راديو الطائرة التي ناولني إياها ونحن نجتاز الزوبعة. . وقرأت فيها:

(نطير الآن على ارتفاع أربعة عشر ألف قدم. . لقد تعطل أحد محركي الطائرة! نجتاز زوبعة عنيفة شد الحزام على وسطك إذ ربما نضطر إلى الهبوط في أي مكان!.)

والحق يقال إنني ما كدت أنتهي من قراءة هذه الورقة حتى أحسست بقشعريرة تنتابني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي. ومرت بي فترة من الزمن تعرضت فيها إلى ذات الرعب الذي تعرض له تاجر الأغنام وهو في الطائرة. . . ثم رحت أسائل نفسي: هل تنبأ عقل تاجر الأغنام الباطن بما لم يتنبأ به عقلي؟. وهل كان لرعبه علاقة بشعورة مقدما بكارثة كادت تقع؟!.

نجاتي صدقي

ص: 24

‌دراسات تحليلية:

ذو النون المصري

للأستاذ عبد الموجود عبد الحفيظ

بين ضفاف النيل ورمال الصحراء في بلدة أخيم بمديرية جرجا من أعمال صعيد مصر، ولد أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري سنة 180 بعد الهجرة، وكان أبوه نوبيا جئ به من بلاد النوبة رقيقا ثم اعتق. ونشأ ذو النون تهب عليه نسائم النيل الرطبة، وتلفح وجهه رياح الصحراء الجافة، كلاهما تحمل أسرارا غامضة وتوحي بعظمة الكون وخالقه، وبين قوم محدودي المعارف ضيق أفق التفكير، قضي أيام صباه.

فلما شب عن الطوق اتسعت مداركه، ضاقت نفسه الكبيرة بهذا الجو الخانف المحدود، فلم يجد سوى الخرائب المصرية يطوف بينها من بلدة إلى أخرى يدرس رموزها ويحاول حلها والوصول إلى أسرها - وقد كان هذه الطواف المحدود عاملا من عوامل حبه التنقل بين بلدان العالم الإسلامي سعيا وراء بحثه عن الحقيقة ودراسته الصوفيه - ولما لم يجد بين هذه الخرائب ما يشفى عليل نفسه، راح ينشد الهداية في جوانب الصحراء الواسعة عله يصل إلى طلبته من المعرفة والعلم. وفيما هو في حيرته، سمع بسعدون الصوفي المصري، فذهب إليه وسمع منه فسحره بحديثه وأشرب قلبه محبته؛ فلقد وجد بعد العناء والتعب بغية نفسه وأمله المفقود، وتتلمذ عليه، ودرس الصوفية على يديه، وسرعان ما أعجب الأستاذ بفصاحة تلميذه فقربه إليه وآثره بصحبته. وبجانب توفره على دراسة الصوفية كان يدرس الطب والكيمياء وعلوم السحر.

وذات يوم عاد إلى أخيم فوصلها ليلا وسمع دفوفا تضربومشاهد قوما يلهون، فسأل ما هذا؟ فقيل له عرس. ثم سار قليلا فسمع نواحا ورأى نسوة يندبن، فسأل ما هذا فقيل له فلان مات. فقال: أعضي أولئك فما شكروا، وابتلى هؤلاء فما صبروا. لله على ألا أبيت بهذا البلد. وانطلق لا يلوى على شئ، ترفعه رابية ويخفضه واد، هائما ينشد المعرفة ويبغي الوصول، حتى بلغ بيت الله الحرام وزار القبر الشريف، ثم تابع سيره إلى دمشق وزار كثيرا من النساك المقيمين في جنوب إنطاكيا، وسألهم وسمع منهم. قال (زرت في لبنان رجلا نحيفا ضعيفا يصلي. فسلمت فرد السلام وما زال في ركوع وسجود حتى صلى

ص: 25

العصر، ثم جلس ولم يتكلم، فطلبت منه أن يدعو لي فقال: آنسك الله بقربه. فطلبت منه المزيد، فقال: من آنسه الله بقربه أعطاه أربعا. عزا من غير عشيرة، وعلما من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنسا بغير جماعة. ثم شهق فلم يفق إلا بعد ثلاث وأنا منتظر، فما أفاق فال: انصرف عني بسلام. فقلت أوصني قال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلا).

عاد إلى مصر وقد روى ظمأه، وأخذ ينادي بتعالميه بين قوم ران الجهل على قلوبهم وعميت بصائرهم فم يفقهون قولا - وكان أول من تكلم عن علوم المنازلات، فأنكر عليه أهل مصر هذا واتهموه بالزندقة والخروج عن الدين لأنه لم يكن لهم بهذا العلم عهد، فقالوا أحدث علما لم تتكلم فيه الصحابة - فاضطهدوه وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، فبعث إلى عامله على مصر فأرسله أليه، فألقى به في السجن، ولكن أصدقاءه وتلاميذه طلبوا له العفو من الخليفة وما زالوا به حتى أخرجه من السجن، وجمع العلماء ليناظروه. وتحدث أبو الفيض وتحدث العلماء فما زال كلامه يعلو وكلامهم يهبط حتى صمتوا جميعا وتحدث وحده. ثم وعظ الخليفة، فبكى بكاء مرا وندم على سجنه وقال: إذا كان هذا زنديقا فما في الأرض مسلم. ورده مكرماً. فدوى اسمه في الآفاق وأقبل عليه الناس من كل صوب وحدب يلتمسون العلم عنده ويطلبون الرشاد على يديه.

وكان يعلم تلاميذه التوبة ويلقنهم كبح جماح جماع النفس والإقلاع عن الغواية. وقد كان يفرق بين توبة الإنابة التي ترجع إلى خشية العقاب والخوف منه، وبين توبة الاستحياء التي تستند إلى الاستحياء من رحمة اله سبحانه وتعالى. وكان يقول التوبة ثلاث:(توبة العوام وهي عن المعاصي، وتوبة الخواص وهي التوبة عن الإهمال، وتوبة المعرفة وهي التوبة التي تعنى الإعراض عن كل شئ سوى الله).

ومن تعالميه عن الروح أن النفس هي العقبة الكأداء في سبيل الكمال الروحي لأنها خاضعة لرغبات النفع الذاتي، ولذلك وجب على المتطلع الى الله أن يحارب نزواتها ويتغلب عليها. ولما سئل عن الحجب الموجودة بين الله والروح هو أعظمها أثرا في إخفاء رءية الحقيقة قال:(أخفى الحجاب وأشده رؤية النفس وتدبيرها).

ويقول إنه يمكن عن طريق كبح جماع النفس تخليص الروح من العقبات النفسية وإعادتها إلى أصلها الأول من الطهارة والنقاوة فتعود إلى اتصالها بالله.

ص: 26

فالعودةإلى الله لا بد من تطهير النفس من الشرور وكبح جماحها عن الرغبات ومن أية صلة أخرى غير الصلة بالذات العلية ومن تعاليمه في ذلك: (لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة).

وذل النفس ضروري للروح التي تأمل في أنس الله والقربمنه، فكلما ازداد العارف في إذلال نفسه وإخضاعها ازداد قربا من الله، فيقول (وما أعز الله عبداً بعز، أعز له من أن يدله على ذل نفسه) لأن المريد عندما يبصر القوة السماوية وتتملكه عظمة خالق السماوات والأرض يدرك كم هو ضئيل بالنسبة لهذه القوى فيمتلئ تواضعا. . . . وفي ذلك يقول ذو النون (من أراد التواضع فليوجه نفسه إلى عظمة الله تعالى فإنها تذوب وتصفو. ومن نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته وجبروته).

وكانت المعرفة أهم الموضوعات من تعاليمه، فهو أول الصوفيين الذين تعرضوا للكلام عنها. ومن تعاليمه في المعرفة أن المعرفة بالله ثلاث، أولاها معرفة التوحيد التي هي ملك المؤمنين جميعا. وثانيتها معرفة الحجة والبيان وهذه هي معرفة الفلاسفة وعلماء الدين. وثالثتهما معرفة صفات الله وهي معرفة أولياء الله الذين يتأملون الله بقلوبهم فيكشف لهم عما لا يكشفه للآخرين فيقول:(علامة العارف ثلاث: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولا يعتقد باطنا من العلم ما ينقض عليه ظاهرا من الحلم ولا يحمله كثرة نعم الله عليه، وكرامته على هتك أسرار محارم الله تعالى).

والمعرفة تقود إلى الحيرة، ولكنها حيرة على نوعين: حيرة العامة وتؤدى بأصحابها إلى الزندقة والضلال، وحيرة الخاصة وهي تسبب عن الاكتشاف، فهي الحيرة التي تدوم وتبقى. في ذلك يقول (التفكير في ذات الله تعالى جهل، والإشارة إليه شرك، وحقيقة المعرفة حيرة).

وكما أن المعرفة تؤدى إلى الحيرة فهي كذلك سبيل الاتحاد بالذات العلية، وفي ذلك قال: (إن الله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب أعينهم وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا من غير جنون، وتبلدوا من غير وعي ولا بكم، وإنهم لهم البلغاء الفصحاء العارفون بالله وبرسوله، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في

ص: 27

الملكوت، وجالت فكرهم بين سرايا حجب الجبروت واستظلوا تحت راواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحب النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلى حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقدموا من غدير الحكمة، وركبوا في سفينة العطية وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا الرياض الراحة ومعدن العزة والكرامة).

وتحدث ذو النون عن أسفاره التي كان فيها ينشد سبل الخلاص من شوائب الحياة وأكدارها قال: (لقد حصلت في أول أسفاري علما يرضى الخاصة والعامة، وحصلت في ثانيها علما يرضى الخاصة دون العامة، وفي ثالث أسفاري حصلت من العلم ما لم ترض به لا الخاصة ولا العامة، فغدوت شريدا طريدا. لقد حصلت من العلم في المرة الأولى التوبة وهي مقبولة لدى الخاصة والعامة على حد سواء وفي المرة الثانية وصلت إلى التوكل على الله ومعاملته ومحبته وهي شئون تتقبلها الخاصة ولا تتفهمها العامة، وفي المرة الثالثة وصلت إلى الحقيقة التي تسمو على العلم والعقل فأعرضها عنها ولم يتفهماها).

لقد كان ذو النون في بادئ الأمر متنسكا ينشد الوحدة ويبتغي العزلة، ليدرب نفسه على كبح رغباتها حتى تغلب عليها، فسار في طريق التوبة والتطهر حتى من الله عليها بهبة المعرفة فأصبح في آخر الأمر صوفيا عارفا بالله. وقد وافاه الأجل بمدينة الجيزة سنة 245 للهجرة. ومما يروى عن جنازته أن كان الطير تتجمع في السماء وتظلل نعشه. وأنه بعد وفاته ظهر على قبره مكتوب: ذو النون حبيب الله، من الشوق قتل الله.

(أسيوط)

عبد الموجود عبد الحفيظ

ص: 28

‌بعد الامتحان.

. .!

للأديب الطاهر أحمد مكي

ماذا أصنع؟، وإلى أين أتجه؟ وفي أي المعاهد أنتسب؟، ومن أي الثقافات أرتوي؟. . . أسئلة حائرة تتراقص على لساني، وخواطر قلقة تتماوج في جناني، وآمال واسعة يضيق بها صدري، ويعجز عنها بياني؟

أنا أريد المعهد الذي يربى الروح وينشئ البدن، ويساير الحياة، ويراعي تطور الزمن،. . . وأنا أفتش عن الأستاذ الذي بوجه ولا يستأثر، ويرشد ولا يقيد، ويرسم المنهج، ويحدد الهدف، ولا يدخل في التفاصيل، ولا يتمسك بالجزئيات، ليجعل شخصه فوق الأشخاص، وعقله سيد العقول، ورأيه أكمل الآراء!. . .

قالوا أمامك بليع اللغة، بها نشأت العربية، وفي أحضانها ترعرعت، وعلى هدى منها تطورت، ولعلك واجد هناك ما يرضى ذوقك وفنك، ويشبع رغبتك وهويتك، ويصمد بك في معارج من السمو البلاغي، تتيح لك لذة لا تعدلها لذة، ومتاعا لا يعدله متاع!. .

واسترجعت نفسي، واستأنيت فكري، ولم أصدق ما قالوا فأنا أعرف بالأزهر، وألصق بشيوخه، وأخبر بمناهجه، وأعلم بطلابه، وهم جميعا ليسوا في شئ مما يصفون، وإن بدت ظواهرهم لماعة خداعة. . .

فكلية اللغة قالوا لها يوما، كوني على العربية حارسا ولها رائداً، ثم باركوها بالعناية، وغذوها بالرعاية، وحبوها بالجاه، وعززوها بالإيثار، وجعلوها مطمح الأنظار، واستخلصوا لها من الطلاب أنجبهم وأمكنهم، واعزرهم ثقافة وعلما. . ومضت عجلة الحياة مندفعة إلى الأمام، مسرعة الخطا، فأصاب التطور والتقدم شتى مرافق مصر، ولكن كلية اللغة لم تؤت ثمارها، ولم تبلغ أكلها، ولم تحقق أمل الناس فيها، فتوارت عن الأنظار.

ذلك لأن المشرفين عليها بالأمس واليوم، جعلوا من عقول بنيها آلات لرصد الآراء، ومذكرات لتدوين الحواشي، وسجلات لحفظ الهوامش، وحفظة على كتب الأوائل، غثها وسمينها، خبيثها وطيبها. . . ثم قالوا لهم، حدودكم فلا تتخطوها، وتلك آراؤهم تناقشوها، فوجد الطلاب أنفسهم مضطرين لدراسة قواعد لا تتمشى مع الذوق، ولا تستقيم مع المنطق، ولا تنهض على أسس سليمة من الفكر الصحيح والنظر السليم، والرأي الثاقب، والبحث

ص: 29

العميق، وتصطدم مع واقع الحياة اصطداما مرا، ثم وجدوا أنفسهم مسيرين في إضفاء القداسة على أشخاص المؤلفين، لا ينقص لهم رأي، ولا تنقض لهم قاعدة، مع أنهم بشر أيا كانوا، يخطئون ويصيبون على السواء فكان الإيمان المطلق، وما اكثر ما يجنى الانقياد الأعمى على حقائق الأشياء!

وأنا حين أعرف لهذا المعهد بمثل هذه الصراحة، لا يمنعني غل في النفس أو مرض في الرأي، أن أعترف أن فيما يدرس هناك، كتبا لها قيمتها واعتبارها، ولها مكانها في عالم البلاغة والأدب، ويرجى منها كبير فضل لو أتيح لها المدرس الصالح!.

ولكن، أين هو المدرس الصالح؟. . وقد أفقدت السياسة الأزهر صوابه، فاضطربت فيه مقاييس الأخلاق وموازين الرجال وجعلت منه مجالا فسيحا لنمرة العصبية، وشحناء الحزبية، فعلا أناس مكانهم في الحضيض، وفات الركب آخرون كانت النصفة تقضي، أن يكونوا في مقدمة الصفوف، ولا يرجى من تافه علا نفع، ولا من عزيز امتهن فائدة!. . . والعربية في كلا الحالين هي الخاسرة، والطلاب هم الضحايا!!

وإذا كانت الصراحة رائدى، فأنا أجد في نفسي الشجاعة لأقول: أن هيئة التدريس في كلية اللغة أجمالا، لا تتناسب وجلال المعهد وعظمة رسالته، وما يرجو له المخلصون من بقاء ودوام. ولست أعرف فيما أذكر من كليات مصر والعالم، أن هيئة تدريس جامعية، لا يجيد أساتذتها أكثر من لغتهم التي ولدوا بها، غير كلية اللغة، وتلك تقيصة ما كنت أحب أن يوصموا بها، في عالم أضحى كتلة واحدة، وتلاشت فيه الحدود والحواجز، لم يعد في طوع شخص مثقف، أن يستقل فيه بفكره وآرائه، بعيدة عن مؤثرات الفكر وتياراته العالمية!. .

وتستطيع أن تلمح أثر هذا التقصير واضحا، في متابعة ما يؤلف من كتب، وما يصدر من صحف، وما ينشر من بحوث وما يدرو من مناقشات، هل تحس لهم كلمة، هل تسمع لهم رأيا؟ سؤال ما أظنه يحتاج إلى جواب!

كان في وسع الأزهر أن يتلافى هذا النقص، وأن يدفع عن نفسه، هذه المعرة، لو مد يده إلى الأدباء والمفكرين، ممن بنوا مجدهم العلمي على أسس متينة، وبجهاد مضن، وما عليه من بأس، فكل جامعات العالم تسد نقصها، لما تجد من أساتذة متخصصين أني وجدوا. والعالم لا وطن له، والحقيقة واحدة وإن تعددت المذاهب والأجناس والأوطان!

ص: 30

ولكن. . لأمر ما، رفض شيوخنا أن يعترفوا بالنقص ولغيرهم بالفضل، فآثروا السكوت والعزلة، وضربوا حول أنفسهم حاجزا حصينا، وأقاموا دون العالم سدا عالياً، لا ينفذ منه شعاع الفكر الحديث؛ وال يخترفه صدى المعرفة الحقة، لا يتقدمون ولا يتطورون، ولا يؤثرون ولا يتأثرون. . . وتلك طلائع الموت وبشائر الانحلال!

وهمس في أذني آخرون، يستحثونني في اللحاق بدار العلوم ويسبون لها من المزايا والفضائل ما عرفت وما لم اعرف، ومن يدري فقد لا أعرفه أبداً، لأنه ليس هناك، وإنما هو وليد التعصب الأصم، والخيال المغرض!. .

قالوا إنها مهذبة منظمة، مرتبة منسقة، سخية في المال، شهية في الطعام، لن تجد في دراستها تعبا ولا نصبا، ولا رهقا ولا وصبا، ووجدتني أدير ظهري مرة أخرى، فأنا عارف بما هناك.

قد تكون دار العلوم جميلة المبنى، لطيفة الموقع، نظيفة المظهر، لامعة البناء، فاخرة الرياش، ولكنها وا أسفاه أيضا! أزهرية التفكير، جامدة الشعور، لا تربى دراستها فنا، ول تعلى ذوقا، ولا ترهف حسا، ولا تنمي خيالاً، وإنما تنتج مدرسا صالحاً طيعاً، لحفظ القانون، ويجيد قواعد التربية، ويطبق منشورات الوزارة، ويحسن حفظ النظام في صفوف التلاميذ!. . .

لن أذهب إلى الأزهر، لأني سأكون أكثر من أستاذي علما، وأوسع ثقافة ومعرفة، فأنا أجيد لغة، وفي طريقي لإجادةالثانية، وهو لا يعرف إلا واحدة؛ وأنا ألم بالحركة الفكرية الحاضرة، ممثلة في الصحافة والإذاعة والمحاضرة، وهو ليس على شئ من ذاك. . . ولن أذهب إلى دار العلوم، لأنها مصنع مدرسين، وأنا لا أريد أن أصبح مدرسا ناجحا، بقدر ما أحرص على أن أكون مفكر حرا، ولا أحرص على شئ أكثر من حرصي على المعرفة الطليقة، التي لا تتأثر بالمذاهب والأشخاص، قدر تأثرها بالمنطق والإقناع!. .

ولا يعنيني من الحياة، إلا أن أعيش مع أولئك الخالدين من عباقرة الإنسانية في مختلف فنونها، مصورين ومثالين ونحاتين وأدباء وشعراء وموسيقين، ممن أعلوا من قيمة الإنسان وقدره وجعلوه جديرا بما أكرمه من الخالق من مزايا وصفات!. . .

بقيت كلية الآداب. . . وهي ثرية مترفة، نافعة مرهفة، تتأفف من أمثالي، من الغلابى في

ص: 31

دنيا الجاه والمال، الفقراء في عالم المادة والسلطان، فهي تقيم الحواجز، وتصنع العقبات. ولعلها ثائبة إلى رشدها يوما. . عافاه الله!

وبعد. . . فأين أكمل تعليمي، وفي أي مهد تستقر روحي، وعلى أي أساس أحتفظ نهجي؟. .

أنا حائر. . . فهل عند أحد من جواب؟!

الطاهر أحمد مكي

ص: 32

‌رسالة الفن

(الاتجاهات الفنية الحديثة)

للأستاذ محمد بك ناجي

يشاء الله لنا أن نعيش ليختبرنا بهذه الأوقات كي نستحق مصيرا أجل وأعظم. لهذا حشدنا جميع فوانا في خدمة غرض نبيل، وانبعثت همتنا للكفاح في جميع الجبهات في نفس الوقت. فلنزد من هذه القوى، ولنضاعف وثباتنا، فليس في حوزة الغرد أكثر ما تجمع له من الوسائل. ولقد ظلت الروح أبدا مكرسة للنصر.

انظروا إلى الحرب الأخيرة وتساءلوا عما إذا كان جنود الأمم المتحدة قد تجردوا من تذوق الجمال الذي كان يسري في مظاهر فنهم مبدينتا القاهرة. لكي يكلل السلاح بالنصر لا يكفي صوت المدفع وحده؛ فإن الحلفاء قد عبئوا مصوريهم ومتاليهم ليعبروا عن حيويتهم. قد دعيت مصر الاشتراك في معرض البندقية الدولي للفنون الجميلة، وهو حلبة سبق أوربية يضرب كل فيها بسهمه. ومصر ساهمت بجرأة بدورها في هذا المضمار، حقاً أنها وصلت إلى الصفوف الأولى وهي تلهث؛ ولكنها أقرت مكانتها في مجمع الأمم. وأنا لنتقدم بشكرنا إلى إيطاليا صانعة السلام الذي يوفق عن طريق الفن بين المصالح المتضاربة المتباينة.

في البندقية، المدينة الغناء، والتقت جميع الأمم. وقد ظفرنا بمثل هذا الامتياز أثناء الحرب؛ وبعدها احتفظت به القاهرة فأمست عاصمة الفنون في الشرق الأوسط، وظلت حريصة على هذا التقليد ومن أجل هذا ستخطي إيطاليا التي تنزلنا اليوم بجناحها الفخم بنفس حقوق الضيافة في قصر المعارض بالقاهرة، في العام القادم.

وقد شئت أن أحدثكم عن مدينة أوربية باهرة بقول البعض آسفا إن الشيخوخة قد دبت فيها - ومعرض البندقية يقدم إلينا صورة جلية. قد تثير أسباب الكوارث قلق المؤرخين؛ ولكن العلوم الزاخرة، والحرية الوافرة، والفردية الواسعة، ثم الكبرياء، والرغبة العابثة في خلق عالم مجرد من الطبيعة لا تقلقنا، ولكن فضيلة التواضع التي تنقص الفنان هي الباعثة على انحلال فنه.

وأمعنا في التدقيق، إليكم المراحل التي اجتازها الفن المعروف بتصوير (المرئيات)

تتضمن أولى هذه المراحل إبراز صورة المرئيات مباشرة بطريقة ساذجة. أما الثانية

ص: 33

فتقتبس العناصر الطبيعية لإبداع الطبيعة من جديد. وتطمح الثالثة إلى تكوين عالم لا يمكن تصوره مستقلا عن عالمنا المعقول.

والرأي عندنا أنه يمكن أن نحدد بين قطبين ما ينتاب عالم الفنون من الاضطراب البالغ: أولهما المحسوس وهو نقطة ارتكاز الفن التصويري أو المرئي، والآخر المجرد ويثير في النفس برموزه وإشاراته المعاني والارتسامات.

وتطرف الفن المعاصر وجموحه شبيه بتحرير الفرد من الأوضاع القائمة. والنشاط الروحي الرفيع لا يقبل بطبيعته أي مبرر؛ إذ هو حادث مستقل لا يخضع لسواه أو يمكن استخدامه كأداة. إزاء هذه الانقلابات الطارئة على الفن بفعل التفكير الفلسفي المتضارب، وما تقده لنا مذاهب مثل:(وما فوق الطبيعة)(الميتافيزيقة)، (والتجريدية)، (وما فوق المحسوس)(سيررلست)، (ولاستبطانية)؛ لا يعدو واجبنا غير الإلمام بهذه التيارات التي تعتبر أكثر من أن تكون فنية: أما الأخذ بها والجري عليها فمتروك للأذواق والميول. ولا يخفى أن حب البشرية والدين والتقاليد والوطن ليست موضوع ما يعرف (بالفن الدولي) وهذه العوامل المذكورة التي خلقت للإنسان أجمل تراث ما تزال تفعل فعلها في بعث نهضة الشرق. ولسوف يظل الشرق للجميع مستودعا روحيا زاخراً ليعالج مرة أخرى هذه الوثنية يسمى عالم الفن للتحرر منها.

هذا ما يلقيه علينا معرض البندقية من الدروس، وإنا لجد عارفين له بالجميل.

محمد ناجي

ص: 34

‌من هنا وهناك

من شئون الحرب في الإسلام:

قال عمر بن الخطاب لعمر بن معدي كرب: صف لنا الحب، قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف.

وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ قال ما سلمت من ذلك من ذعر نبه على حيلة ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. قال هشام: هذه والله البسالة.

وسئل بعض أهل التمرس بالحرب: أي المكائد أحزم؟ قال إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وأمانة الفرق، والاحتراس من المكائد الباطنة، من غير استصغار لمستنصح، ولا استناد لمستغش، واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.

وكان بعض أهل التمرين بالحرب يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولى العزم، والجبناء من أولى الحزم، فإن الجبان لا يألوا برأيه ما بقى مهجكم، والشجاع لا يعدو مايشد بصائركم، ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرة الجبان، وتهور الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج، والحسام الوالج. ولما فتح عمرو بن العاص قيسارية، سار حتى نزل غزة، فبعث إليه علجها أن ابعث إلى رجلا من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو وقال ما لهذا أحد غيري، فخرج حتى دخل على العلج فكلمه فسمع كلاما لم يسمع قط مثله، فقال العلج حدثني هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال لا تسأل عن هذا إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني، ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذ مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج، ففطن عمرو لما أراده فرجع، فقال له اللج ما ردك إلينا؟ قال نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد، فقال صدقت عجل بهم. وبعث إلى البواب أن خل سبيله.

كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضوان الله عليهما: أما بعد فإني آمرك

ص: 35

ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم الله، ولولا ذلك لم تكون لنا بهم قوة. . ولا تعملوا بمعاصي الله وانتم في سبيل الله. . . واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي، الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ أحد من أهلها شيئا فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولوهم خيراً، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أرض العدو فبث العيون بينك وبينهم ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والفاش عين عليك وليس عينا لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا إمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم، وتنق الطلائع أهل الرأي والبأس من اصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا يهوى فتضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حييت به أهل خاصتك، ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه غلبة أو ضيعة ونكاية، فإن عاينت العدو فأضمم إليك أقاصيك وطلائعك وساياك وأجمع إليك مكيدتك وقوتك ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تبصر عورة عدوك ومخاتلته وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها فتصنع بعدوك كصنعه بك، ثم أذك حراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب به عدو الله وعدوك. والله ولى أمرك ومن معك وولى النصر لكم على عدمكم والله المستعان. قال خالد بن الوليد عليه رضوان الله عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسمي

ص: 36

موضعشبر الأ وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموت حتف انفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء، وقالت عائشة رضوان الله عليها: أن الله خلقا قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح معها، فأنف للجبناء فأف للجبناء.

الوساطة الدولية:

هي تدخل دولة أو شخص تدخلا وديا خلاف قائم بين دولتين أو أكثر لحسم النزاع بما يرضي الفريقين كوساطة البابا سنة 1885 بين دولتي أسبانيا وألمانيا لرفع الخصام الذي كان بينهما بسبب جزيرة كارولين، وقد عرض عليهما البابا فكرة لفض النزاع فوافقنا عليها في معاهدة عقدت بينهما في روما.

والوساطة إما أن يعرضها الوسيط على المتنازعين من نفسه أو يطلب إليه ذلك أحد الفريقين أو غيرهما، والوسيط ناصح ينحصر عمله في فحص القضية المختلفة فيها فحصا دقيقا واقتراح ما يراه نافعا ومقبولا لدى الفريقين.

وقد جاء في المادة الرابعة من معاهدة لاهاي ما نصه: إن عمل الوسيط ينحصر في التوفيق بين الآراء والمتعارضة وتخفيف الأحقاد التي تنشأ عن الخلاف.

وجاء في المادة السادسة من المعاهدة المذكورة: إن المساعي الجميلة والوساطة سواء أكانتا بطلب من الدول المتنازعة أم بلا طلب منها لا تخرجان عن إسداء النصح ولا تلزمان الفريقين.

والفرق بين الوساطة والمساعي الجميلة هو أن الوسيط يدخل في المفاوضة توا ويضع الأسس لحل الخلاف، أما الساعي لرفع النزاع فيعمل لرفع الخصام بنفوذه وسلطانه، دون دخول في المفاوضة أو وضع أسس للصلح.

والفرق بين الوساطة والتحكيم أن الوسيط ناصح يبسط رأيه للفريقين ويترك لها الخيار في القبول أو الرفض. وأما الحكم فحاكم يبرم قرارات حكمية، والفريقان مجبران على تنفيذها. وأوضح فرق بين الوساطة والتحكيم هو أن الوساطة مفاوضة سياسية، وأما التحكيم فعمل حقوقي، وأن الوساطة تكون في أي مسألة من المسائل المختلفة فيها وان كانت تتصل بشرف الدول وحياتها، وأما التحكيم فلا يشمل هذه المسائل.

وأول رغبة في تحقيق الوساطة كانت في مؤتمر باريس عام 1856 فقد ورد في البيان

ص: 37

الذي أذاعه المؤتمر: إن المندوبين يرغبون باسم حكوماتهم في أن تطلب الدول المتنازعة وساطة دولة محبة أخرى أو بذل مساعيها الجميلة في النزاع الناشب بينهما قبل أن تمتشق الحسام. ثم جاءت معاهدتنا لاهاي الأولى والثانية وبحثنا في الوساطة والمساعي الجميلة، وقسمتا الوساطة إلى قسمين: الوساطة العادية ولا وساطة الخاصة، فالوساطة العادية جاء عنها في المادتين 2، 3: إن الدول المتعاقدة تتعهد بأن تجنح إلى توسيط دولة أو إلى طلب مساعيها الجميلة قبل أن تمتشق الحسام، على أن تكون الأحوال مساعدة على ذلك، كما أنها ترى من الواجب على الدول المعتزلة (الحيادية) أن تعرض وساطتها على المتناوعين خلال الحرب إذا كانت الحالة مساعدة على الوساطة، ولا يحق لأحد الفريقين أن يرى هذه الوساطة عملا يناقض المحبة والولاء. والوساطة الخاصة بحثتها المادة 8 من معاهدتي لاهاي فجاء فيها: إن من الواجب على أي دولة تقع في نزاع مع دولة أخرى مت أجل قضية مهمة أن تختار دولة ثالثة وتخولها حق المفاوضة مع دولة رابعة يختارها خصمها لإعادة العلاقات السياسية التي انقطعت بينهما، ويجب على الدولتين المتنازعتين أن تمتنعا عن كل خصومة خلال مدة المفاوضة التي لا تتجاوز 30 إذا لم يكن هناك نص يحدد المدة.

أسامة

ص: 38

‌البريد الأدبي

أزهري في السوربون:

مما يذكر لمصر عامة وللأزهر خاصة مقرونا بالفخر والإعجاب اليوم الثالث من شهر يولية سنة 1948 م ففي هذا اليوم شهدت باريس لونا من ألوان النبوغ المصري، وشاهدا من شواهد التطور العلمي في الأزهر الحديث؛ ففي قاعة (ريشيليو) الكبرى بالسوربون نوقش فضيلة الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة في الأزهر الشريف، لنيل درجة (دكتوراه الدولة في الفلسفة)؛ وقد تقدم الأستاذ موسى إلى تلك المناقشة برسالتين، الأولى موضوعها (الدين والفلسفة في رأي ابن رشد، وفلاسفة العصر الوسيط) وموضوع الثانية (التوجيه الفلسفي، أو ما بعد الطبيعة في القرآن). وكانت لجنة المناقشة والامتحان مكونة من خمسة أساتذة من السوربون والكولج دي فرانس كما هو المتبع دائما في دكتوراه الدولة. وقد رأس لجنة المناقشة البروفسور ليفي برفنسال، وشهد الامتحان أيضا الدكتور طه حسين بك، كما شهده أكثر من مائتي طالب مصري من طلبة البعثات في فرنسا، وكان الأستاذ موسى موفقا كل التوفيق في عرضه لنظريات رسالتيه ودفاعه عن آرائه فيهما، استمرت المناقشة خمس ساعات كاملة، ثم أعلنت اللجنة الأستاذ موسى قد نال درجة دكتوراه الدولة في الفلسفة بدرجةمشرف جداً والدرجة التي نالها الدكتور محمد يوسف هي أعلى درجة تنحها السوربون.

وعقب الامتحان أقبل أصدقاء الدكتور موسى من المصريين والفرنسيين يهنوئنه على ذلك النصر العلمي الباهر، وأشاد الدكتور طه حسين بك بفضله كثيرا في تلك البرهة. وقد دعت السوربون الدكتور موسى لإلقاء محاضرات عن فلسفة التشريع الإسلامي في القرآن باللغة العربية.

ألا إن هذه يوم من أيام الأزهر المشهودة، وإذا كنا نزف التهنئات إلى الدكتور محمد يوسف موسى على ذلك التوفيق الرائع، فإننا نسأل الله أن يعيده قريبا إلى جامعته الإسلامية الكبرى حتى يشارك مشاركة قوية في السير بها إلى الأمام.

أحمد الشرباصي

المدرس بمعهد القاهرة الثانوي

ص: 39

أحسن ما قيل في كلمة أشياء

حكي أن بعض النحاة سئل عن كلمة أشياء فتظرف، وقال:(إني لا أخالف قول الله تعالى: (لا تسألوا عن (أشياء.) وما تظرف هذا النحو، وأجاب بهذا الجواب ألا وهو يرى أن النحويين - وإن كانوا أجمعوا على منع صرفها - في حيرة من أمر جمعاء، وأمر تعليل منع صرفها.

وقد روى العلامة المحقق شهاب الخفاجي في كتابه طراز المجالس في مبحث هذه الكلمة - وذلك بعد أن نقل عن النجاة إجماعهم على أنها ممنوعة من الصرف. وتعليلاتهم لذلك - روى الخفاجي: أن أحسن ما قيل فيها، وعد أقرب إلى الصواب هو ما قاله الكسائي، وأنها جمع شئ كفرخ، وأفرخ وترك صرفها لكثرة الاستعمال بشبيها بفعلاء أي بألف التأنيث الممدودة، وقد يشبه الشيء بالشيء فيعطى حكمه كما شبه (أرطى) بألف التأنيث الممدودة فمنع صرفه في المعرفة.

ولعل الكسائي يريد بكثرة الاستعمال الوارد في تعليله - أن كلمة أشياء وردت قراءتها هكذا عن الرسول بغير تنويين مجرورة بالفتحة، وأنه ليس بد من استعمالها هكذا في هذه الحالة؛ إذ كل النحاة مجمعون على أنها غير مصروفه وإنما اختلفوا في التعليل وعدم اهتدئهم إلى تعليل صحيح لا ينفي أن منع الصرف موجود.

وإلى هنا يتبين أن الأستاذ البشبيشي - في ارتيائه ما رأى من صرف الكلمة - قد خالف إجماع النحاة دون مبرر قوي. فضلا عن أنه تلكف في التعليل. وعرض علينا تعليلاتهم لهذه الكلمة مقتضبة اقتضابا لا ينقع غلة.

وإذا ثبت أن النحاة مجمعون على أن كلمة أشياء غير مصروفة، وأن الكسائي علل منع الصرف بأنها شبه فعلاء، وقوى ذلك بكثرة الاستعمال، وعرفنا ما المراد بهذه الكثرة - إذا ثبت هذا فقد سقط استدلال الأستاذ البشبيشي بالقياس على كلمة أفياء.

وإنه ليبدو لي - بعد ما سبق - أن أسال الأستاذ عن هذه الكلمة في الآية القرآنية؛ فقد وردت كلمة أشياء في الآية مسبوقة بحرف جر. وهو عن، فلم ضبطت الهمزة الأخيرة بالفتحة! أليس هذه يدل - دون احتياج إلى كثرة تعليلات، لا داعي لها - أن كلمة أشياء

ص: 40

اسم ممنوع من لصرف جر بالفتحة كما هو المعهود فيه لسبب - من الأسباب المعتبرة في المنع.

على أنه لو كانت أشياء مصروفة كما يرى الأستاذ لضبطت الهمزة الأخيرة - على الأقل - بالجر من غير تنويين هكذا: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوئكم) وكان هذا كافيا في التناسب، والانسجام مع محيطها في الآية الكريمة. وكنا وكان النحاة من المسلمين بصرفها، وما أجهدو أنفسهم، وأعتنوها هذا الاعتناء الطويل.

ولكن - يا سيدي الأستاذ - كل هذا لم يكن، وإنما الذي كان هو أنها جرت بالفتحة، ودل ذلك على أنها ممنوعة من الصرف، ولأي سبب كان المنع؟ ذاك هو ما أوقع النحاة في حيرة وجعلهم يختلفون في أصل جمعها ويذهبون مذاهب شتى في تلعيل منع صرفها، وإن كانوا اجمعوا على منعها من التنوين

محمد غنيم

حول بيت:

قال الأديب: أو قرأت قصيدة الجارم بك في (فلسطين) حين يقول:

عشنا أعزاء ملء الأرض ما لمست

جباهنا تربها إلا مصلينا

ثم أو قرأت من قبل قصيدة شوقي رحمه الله في أندليسته حين قال:

لفتية لا تنال الأرض أدمعهم

ولا مفاقهم إلا مصلينا

قلت: قرأت وعلمت ما تعني، ولكن ما قولك أنت في قول القائل:

وقوفاً بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وقول الآخر:

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون تهلك أسى وتجمل

قال الأديب أن ما قاله الرواة والشعراء في أمر البيتن صحيح وأن كلا من الشاعرين صادق في قوله، أمين في نظمه، لم ينقل أحدهما عن الآخر، ولكنهما صدرا عن مورود واحد بمعنى واحد

قلت: إذا كان هذا هكذا فما بالك تشك وتشكك القارئ معك في بيت الأستاذ الجارم وهو من

ص: 41

هو؟ أو كانت جملة (إلا مصلينا) تلك وقفا على أمير الشعراء دون أشعر الشعراء؟

وإذا كان بعض النقاد - قديما وحديثا - قد تجاوزوا في اتفاق بيتين معنى ومبنى؛ فكيف يصح الحجر على اللفظ وهو أداة التعبير والأداء؟!

وبعد، فالنقد تذوق وليس تبشدق وتفيهق، ولا هو رجم بالغيبأو تعلق بالشبهات وللشبهات حدود.

الزيتون

عدنان

لا تسألوا عن أشياء:

في العدد السابق من مجلة الرسالة الغراء كتب الأستاذ محمود البشبيشي كلمة عن (أشياء) وأشار إلى اضطراب آراء النحاة في أسباب منعها من الصرف، وانتهى إلى أنها وردت ممنوعة من الصرف في قول تعالى:(لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) بآية 101 من سورة المائدة حتى لا تقع (إن) بعد الهمزة المكسورة المنونة فتتوالى (إن) مرتين، والأستاذ لا يرضى ذلك بحجة أن القرآن وهو المثل الأعلى للبيان الرفيع لا يجيز هذا التعبير.

فإليه قول الله تعالى: (وما أنزل الرحمن من شئ إن أنتم إلا تكذبون) في آية 15 من سورة يس، وقوله تعالى:(وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلى في ضلال كبير) في آية 9 من سورة الملك، وفي كلتا الآيتين جاءت (إن إن) بهذا التكرار المقبول الخفيف على اللسان (من شئ إن انتم. . .)

ولهذا تبقى كلمة أشياء - كما كانت - ممنوعة من الصرف لأحد الأسباب المدونة بكتب النحو، وقد وردت كلها باختصار في (حاشية تفسير الجلالين) للجمل عند شرح آية (لا تسألوا عن أشياء. . .) خلافا لما يتوهمه الأستاذ ولما يراه، وهو مجتهد في اللغة له أجر على خطئه غير المقصود!

أحمد أحمد العجمي

ص: 42

‌الكتب

زعماء الإصلاح في العصر الحديث

تأليف الأستاذ الجليل أحمد أمين بك

بقلم الأستاذ محمد خليفة التونسي

أستاذنا الجليل أحمد أمين من علمائنا النابغين الذين ندين لهم بالفضل الكبير في (ريادة) مجهولات التراث الإسلامي وكشف خفاياه، والذين عبدوا لأنفسهم بجهودهم الخاصة الطرف التي سلكوها إليها فاستقاموا عليها، وعرفت بهم كما عرفوا بها. فأعلى القمم في البيئة العلمية التي نبت فها الأستاذ تتمثل في علم الشيخين الجليلين: محمد الخضري بك، وعبد الوهاب النجار، ولكن الأستاذ استطاع أن يرتفع بجهاده الشخصي إلى مستوى فوق أعلى هذه القمم. وهو من أظهر (الرواد) الأكفاء الذين احسنوا دراسة تطورات الحركات العقلية في التاريخ الإسلامي وأخرجوا محصول دراساتهم في كتب كثيرة تعد في بابتها من أوفى المراجع اليسيرة التناول، وأكثرها دقة ونظاما ووضوحا، ومن أجل ذلك لا نرى كتابا أخرج بعد كتب الأستاذ في موضوعاتها إلا رأينا فيه استشهادات كثيرة بها، وإحالات كثيرة إليها، مما يشهد بفضل الأستاذ وكفايته، وحسن ثقة الباحثين به وبآرائه.

ودراسة الحركات العقلية الفردية والاجتماعية خير ما تظهر فيه (ملكاته الذهنية الأصيلة) فهو يبدو للمتوسم في هذا المجال كالسمكة الجبارة في العيلم الزاخر: ساربة في مسبحها في خفة ونشاط عاملة بكل قوتها، منطلقة بكل حربتها دون تردد ولا بهر، ودون شعور بالخوف ولا الغرابة. ولم التردد والخوف وهي في (بيئتها) التي خلقها الله ويسرها لها؟ لقد ألفتها فهي عنها راضية، وإليها مطمئنة، وبها ناعمة مهما اعتكر العيلم، وضاقت أزماته، وجاشت دواماته، واشتجرت تياراته، وأطبقت عليه الأعاصير تناوشه من كل جانب وإن (السمكة) لتبدون هناك في منتهى جبروتها وحريتها وابرع حركاتها وأجملها. فمن شاء أن يراها في هذه الصورة الممتعة فلينظر إليها هناك، وكذلك من شاء أن يلقى الأستاذ في أكمل أهبة وأمتع صورة فليلقه في كتبه التي درس فيها الحركات العقلية الإسلامية: ففيها يرى ملكاته الذهنية الأصيلة متملكة في عملها كل قواها ونشاطها واطمئنانها. وإنها هنا تعمل في

ص: 43

(بيئتها) كأنما (تلهمها) التصرف الواجب (بداهة أو غريزة) دون بذل أي مجهود عقلي في البحث والاختيار. إنها (ركبت) لتعمل هذا العمل، وإنها لتتكلف فيه كل وسعها، وتجهد له كل جهدها، وإن كانت كل كلفها وجهدها خفية لفرط موافقة هذه الملكات لعملها واتصالها به.

ومن يقرأ فاحصا متدبرا سلسلة الكتب التي أخرجها الأستاذ ودرس فيها الحركات العقلية الإسلامية مثل كتاب فجر الإسلام وتوابعه يجد كل فصل فيها مصداقا لما نقول.

والكتاب الذي بين أيدينا على نمط هذه المجموعة لا يختلف عنها إلا اختلافا يسيرا سنوضحه بعد، وهذه التواليف كلها تسيطر عليها (الروح العلمية) وتستقيم مضامينها على (المنهج العلمي) معا، وقلما نجد فيها مواضع (محررة) من سلطان هذا المنهج، واكثر هذه المواضع القليلة (حلقات مفقودة) في سلسة البحوث المعروضة لا تتضح (فراغات) مواضعها إلا للمختصين، و (المنهج العلمي) يوجب على الباحث ترك (فراغ مناسب) لكل (حلقة مفقودة) حتى يعثر عليها هو أو غيره بعد، وتظل قبل ذلك (مفتوحة) للداسين.

لا يختلف هذا الكتاب عن (فجر الإسلام) وتوابعه إلا في الغاية التي يرجوها المؤلف منه، فهو لا يقصد فيما يقدم من معلومات عن هؤلاء المصلحين وإصلاحاتهم أن تعلم فحسب بل أن تكون حافزا لهم الشباب إلى الإصلاح والنهوض بأممهم، ومن أجل ذلك لا عبرة بأن فصول الكتاب متناثرة، ولا بأن بعضها نشرت من قبل على (صورة) مقالات في بعض المجلات ولا عبرة حتى بعنوان الكتاب (زعماء الإصلاح. . .) فأنت إذا كتبته (حركات الإصلاح. .) لم يكن عنوانك أقل صدقا في دلالته على مضامين الكتاب من العنوان الذي اختاره مؤلفه له فهو (كتاب عنى فيه أستاذنا الجليل بدراسة الحركات الإصلاحية التي تتمثل أبرز صورها في طائفة معظمهم من زعماء الإصلاح الديني وأقلهم من زعماء الإصلاح السياسي ف الشرف الإسلامي في الجيل الماضي) وأولا أن هذا التعريف - على قصره - لا يصلح أن يكون عنوانا لطوله لكان أليق عنوان لهذا الكتاب لأنه أصدق تعريف به كما ستقصه. وليسأل نفسه وحدها من يفهم العنوان على ظاهره.

يتضمن الكتاب تعريفا فمقدمة فعشرة فصول اختص كلمنها بزعيم وحوى له صورة شمسية، فخاتمة.

ص: 44

فأما التعريف، فبالكتاب وتطوره ونشره والغاية منه: فموضوعه (سير عشرة من المصلحين الحديثين في الأقطار الإسلامية المختلفة) فأما أنهم عشرة كما وصفوا فنعم، وأما أن الكتاب في سيرتهم أو سيرهم فتعريف فيه (تواضع) من ناحية ومبالغة من أخرى، كما سنبين بعد. ويفهم من كلام التعريف أن كثيراً منه نشر في بعض المجلات، ثم أتم وجمع (ليسهل تناوله، ويكثر تداوله) وقد أحسن أستاذنا فيما صنع: إذ أرضى بصنيعه الكريم رغبة إليه ملحة كانت تعتلج في نفوس من قرءوا الأجزاء التي نشرت منه، ومما يزيد في قيمة صنيعه أن في الزعماء الذي تحدث بهم في كتابه من ليس للقراء علم حتى باسمه، ومنهم من للقراء به علم قليق مضطرب لا يسد حاجة ولا (يثير) فكرا أو قلبا. والغاية المرتجاة من الكتاب (أن يكون - فيما يصور من حياة المصلحين ونوع إصلاحهم - باعثاللشباب، يستثير هممهم، فيحذون حذوهم، ويهتدون بهديهم وينهضون بأممهم) وإنها لغاية حقيقة بالتقدير والسعي إليها، ولاعجب في أن يصمد إليها (مرب) كأستاذنا الجليل.

وليست هذه الغاية ظاهرة في فصول الكتاب، فالمؤلف اعقل واكرم من أن يظهرها في فصوله، وإن كانت حاضرة في ذهنه وهو عاكف على كتابة هذه الفصول. فمن (وراء) المعلومات التي يسوقها إلينا (معلمنا) الذي لا يعنيه إلا بسط الحقائق (لنعلم) بل قبل التصدي للتعليم وبعيدا عنه: أي في مرحلة (اختيار) الموضوعات التي تعلم - من وراء ذلك كله يبدو المؤلف موجها عقله (تلاميذه ومريديه) وقد انبعثت من قلبه حرارة منظورة مجتازة عقولهم إلى قلوبهم حنانا وخفية (لتوحي) إليهم إيحاء بالعطف والغيرة على المصلحين وإصلاحاتهم والنفور والتمرد على أعدائهم وأعدائها، من غير أن يدر ك (التلاميذ والمريدون) أنهم في حضرة (مرب) أو واعظ فالمؤلف (يربى) من غير إخلال بالأصول التي يجب على (العالم) التزامها، ولا يسلك سبل الوعاظ المفضوحة العقيمة ولا يتكلف حماستهم الزائفة، فمن (يعلمه) هذا الكتاب فيها ونعمت، ومن (يريه) فهو أفضل.

وأما الفهرس فثلثا صفحة في عناوين فصول الكتاب لا في أعلامه، ولا في عناصر موضوعاته ونحو ذلك، ولا حاجة إليها لما سنبين.

وأما المقدمة فهي لازمة أشد اللزوم لفهم الفصول التي يليها إجمالا، وهي تمهيد لها، إذا لمع المؤلف فيها إلى نهضة العالم الإسلامي بعد الإسلام ثم سقوطه وجموده، وما أصابه من

ص: 45

محن حطمته وتركت فيه كثرا من الآثار السيئة، ثم ما كان من نهضة الغرب واقتحامه الشرق اقتحاما جعله يفيق من غفلته، ويحس بعيوبه وبخاصة إلى إصلاحها، والمؤلف يبين بذلك أن البيئات التي ظهر فيها هؤلاء الزعماء كانت تحس بحاجتها إليهم ويبين أن (أمكنتهم) كانت (فارغة) تنتظرهم، وأنهم لها وأنها لهم، لم يقحموا فيها إقحاما. ومن ثم يراهم القراء حيث هم دون أن يحس لظهورهمبغرابة ولا حيرة.

وأما الفصول العشرة، فقد اختص كل فصل منها بزعيم، والزعماء العشرة هم كما رتبوا في الكتاب محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب، ومدحت باشا في تركيا، والسيد جمال الدين في الأفغان ومصر وغيرهما، والسيد أحمد خان، والسيد أمير علي في الهند، وخير الدين باشا التونسي في تونس، وعلي باشا مبارك، وعبد الله نديم في مصر، والسيد عبد الرحمن الكواكبي في الشام والشيخ محمد عبده في مصر. وقد اختلف حظوظ الفصول من صفحات الكتاب: ففصل (السيد أمير علي) وهو أقصرها - نال سبع صفحات، وفصل (الشيخ محمد عبده) وهو أطولها - نال إحدى وستين صفحة، وبقية الفصول بين هذين حظا، وفي كل فصل درست (البيئة التي نشأ فيها الزعيم المصلح وحاجتها إليه، وصفاته التي أهلته للزعامة فيها، وما واجهه في جهادة من عقبات، وتعاقب عليه من أزمات، وما صادفه من نجاح وخيبة وأسباب نجاحه وخيبته. كل ذلك قد ساقه المؤلفبأسلوب سديد، وتعبير واضح، مع أدب جم في النقد، وتقدير قصد في النقاد.

وكما اختلف الفصول حظا من الطول والقصر اختلف حظها من الإتقان والتماسك، ومن التأثر الخفي بالغاية التي قصدها المؤلف بكتابه.

وأما الخاتمة، فقد استعرض المؤلف فيها إجمالا وصف النقلة التي انتقلها الشرف الإسلامي على أيدي مصلحيه، والفروق بين حاليه قبلهم وبعدهم، وما وقع من الغرب عليه من أفكار ونظم في استبداده به، والأزمات الروحية ولاماديةالتي يعانيها الآن، والتيارات والمذاهب الفكرية والاجتماعية التي تتدافع فيه، والأخطار التي تتهدده، والأطماع التي تشتجر حوله، والمشكلات التي تواجهه في انتظار الحل على أيدي (مصلحين جدد) والشروط التي يجب توفرها في المصلح، والشروط التي يجب أنتهيأ له لنجاحه في إصلاحه.

هذه كل مضامين الكتابة بإجمال دقيق، ومن استعراضها يتبين سبب إعراضنا عن فهم

ص: 46

العنوان على ظاهره، فلم يدرس الكتاب بالأجمال ولا التفصيل (كل زعماء الإصلاح في العصر الحديث) ولا في الجيل الماضي وحده فضلا عن الجيل الحاضر، ولا كل زعماء الشرق الإسلامي فضلا عن الشرق عامة والعالم بوجه أعم، ولا حتى (كل) الزعماء الدينين في الجيل الماضي في الشرق الإسلامي، بل اكتفى بدراسة حركات الإصلاح على التحديد المتقدم كما يمثلها (أبرز) زعمائها، وهو مع ذلك لم يوجه عناية ممتازة بتصوير (شخصيات) هؤلاء الزعماء البارزين القلائل، ودراستهم دراسة بيوجغرافية بل أقنع من لك مع أكثرهم بأقل ما يكفل فهم الصلة بين شخصية المصلح وإصلاحاته مع اقلهم بما لا يقيد شيئا في فهم هذه الصلة التي لا بد من فهمها وهو يهتم في دراسة الزعماء أحيانا ببيان بيئتهم وأثرها فيهم، وبيان ما ورثوا من أصولهم، ويتمسك بتطبيق ذلك عليهم وعلى أعمالهم وإصلاحاتهم ولكنه يأتي مثلا في فصل الشيخ محمد عبده فيعترف بأن نبوغ النابغ يعتمد على عنصرين: استعداده الفطري وبيئته التي عاش فيها، ويلتوى على أستاذنا تطبيق ذلك على الشيخ الإمام، فينفض يديه عنه جملة، ويقول (إنه هكذا خلق)(ص185) ولا عجب في ذلك عندنا لأن مجال أستاذنا الجليل الذي تظهر فيه ملكاته الذهنية الأصيلة - كما قدمنا - دراسة الحركات العقلية، ولانقول فيه إلا ما قال في الشيخ الإمام (إنه هكذا خلق) وذلك حسبنا وحسبه أيضا كي يكون من أعلامنا الذين نفخر بهم ونطاول بهم أمثالهم في شتى الأممعن ثقة وجدارة.

ليس في الكتاب دراسة جليلة ولا تافهو لديفاليرا ولامزاربك ولا طيلاق ولا غاندي ولا تشانج كأي شيك ولا مصطفى كمال ولا سعد وغلول ولا قاسم أمين ولا أحد من كثير أمثالهم، وإن كانوا جميعا من (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) بل من أبرز زعمائه، وفيهم ما لا يقل في عظمته وأثره فينا وقربه منا، وصلته بنا عن كثير من الزعماء الذين اختارهم المؤلف الكبير.

وقد خلا الكتاب - مع أنه تاريخي - خلوا تاما منذكر المراجع: فلا إشارة إليها مفصلة، ولا مجملة في حواشي الصفحات، ولا تعديد لها في أول الكتاب ولا في آخره، ولا في أوائل الفصول ولا أواخرها، ولعل غاية المؤلف من كتابه هي شفيعه في هذا السكوت، فهو كتاب موجه إلى الشباب كي يثير جمعهم، ولا حاجة مع هذه الغاية إلى ذكر المصادر، لأن (الثقة)

ص: 47

بما يقول (المربي) أمر مسلم به لدى (التلاميذ والمريدين).

ولعل لسكوته سببا آخر شاقا له: فقد نشرت فصوله من الكتاب في صورة مقالات في إحدى المجلات للقارئ العجلان، ثم جمعت المقالات المنشورة وأضيف إليها مثلها فاستوت كتابا، ولا ضرورة مع القارئ العجلان إلى ذكر المراجع أيضا، إذ كل ما يعنيه أن (يعلم) وقد (يثار) بذلك وحده، ولا حاجإلى المصادر لا في (التعليم) ولا في (الإثارة) ولا بعينه مرجع علمه وثورته للبحث بنفسه بعد ذلك استزادة من العلم والثورة.

غير أن ذلك كله لا يمنعنا من ملاحظة نصوص حصرها أستاذنا بين أقواس، ولا شك أنها من كلام غيره، ولا ذكر معها لأصحابها في المتن ولا الحاشية (مثلا ص39) كما أن هناك نصوصا حصر أولها وأطلق آخرها وذلك يحير القارئ فلا يستطيع أن يميز كلام المؤلف من كلام غيره (ص39).

وقد تغفر (الثقة) و (العجلة) السكوت عن المصادر كما أسلفنا، ولكني لا ادري أتغفران للمؤلف أيضا أن ينطلق في إيراد خوطر على لسان دوان أدنى إشارة إلى اقتباس نص له ولا استشهاد بواقعة تاريخية عليه تؤكد لأهل (الثقة) وأهل (العجلة) معا أن المصلح كان يفكر على النحو الذي قيل على لسانه للتفرقة بين أسلوب القصاص وأسلوب الباحثين (أنظر ص41 - 42، ص45 - 46).

إن لكل كفاية مزيتها وخطرها، وقد تحدثت قبل بكفاءة أستاذنا في دراسة الحركات العقلية، ودودة سبح ملكاته الذهنية الأصلية في عيلمها الزاخر مهما اعتاصت مساربه، ولعل هذه الرغبة في السبح هي التي أدت بها - في دراسة الحركة الوهابية - إلى تناول الحالة الدينية في الشرق الإسلامي عامة، وإلا فهل يمكن أن نسلم مهما بلغت (ثقتنا) وبلغت (عجلتنا) - بأن محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب كان يعرف (في مصر شجرة الحنفي، ونعل الكلشني، وبوابة المتولى)(ص9) أو هل تأثر بهذه (المقدسات وإلا فما الداعي إلى الحديث بها في دوفعه إلى الإصلاح، والحديث بغيرها في غير موضعه (مثلا ص129 - 130).

وأستاذنا الجيل - غفر الله له انتصاره للعامية - كتب بالعربية منذ عشرات السنين، فهو كاتب (منقوع) فيها، ومن أجل ذلك وجب علينا أن نعرف له حق (المجتهد) في (سك)

ص: 48

تراكيب جديدة فيها، ولو لم ترد (المعاجم) بها، ما دام لها مبرر (ذوقي) يحسه الأديب. مثال ذلك قوله (مازجا التصويف بالفلسفة بالهيئة بغير ذلك)(ص63 ومثله في ص 309) وقوله (غيورون)(ص355) والمعروف أن جمع غيور غير. وأنا أحمل تبعه هذا وما إليه مع أستاذي الكبير.

وقد وردت تعبيرات أخرى لا أدري رأي القراء فيها، فأستاذنا يستعمل (السلم) مذكرة (ص355) وما أعرفه - وليس بين معجم - أن السلم مؤنثة كما وردت في القرآن (وإن جنحوا للسلم فاجمح لها) فهل يجوز تذكيرها؟ ويقول (صورة للسيد جمال الدين أهداها الشيه محمد عبده. .)(أنظر الصورة أمام ص100) والذي أعرفه أن أهدي يتعدى لثاني مفعولية فإلى أو باللام، ويقول (فمن أراد الحق كاملا وإلا لا)(ص110) وأعرف القول (وإلا فلا)(أنظر أيضا ص44، 211).

وفي الكتاب مواضع موازنة بين شيئين أو أكثر لبيان وجوه الوفاق أو الخلاف، غير أن ما قيل في الموازنة لا (يوضح) هذه الوجوه توضيحا حاسما ولا شبه حاسم (أنظر الموازنة بين محمد عبد الوهاب ومدحت باشا وجمال الدين ص57، والموازنة بين ابن خلدون والكواكبي ص263).

أما بعد فنحن نتوجه إلى أستاذنا الكبير بالتقدير والتحية، شاكريه على ما أسدى إلينا نحن الشباب من فضل بهذا الكتاب القيم الممتاز من وجوه عدة، راجين الناشئة أن يقرءوه كي تتحقق الغاية التي ارتجاها أستاذنا لهم منه. وإنهم لأهل أن يستزيدوه من أمثاله، و (كل يعمل على شاكلته) و (كل ميسر لما خلق له) و (الله يقول الحق وهو يهدي السبيل).

(القاهرة)

محمد خليفة التونسي

ص: 49

‌عصر سلاطين المماليك

تأليف الأستاذ محمود رزق سليم

أستاذ الآداب العربي بكلية اللغة العربية

بقلم الشيخ محمد رجب البيومي

عرفت صديقي الأستاذ الجليل محمود رزق سليم - أول ما عرفته - شاعرا مطبوعا، ينظم القصائد العامرة في شتى لا الأغراض الوطنية والاجتماعية والعاطفية، ولقد قرأت له منذ أمد بعيد ديوانه (رحى الربيع) فأعجبت بديباجته المشرقة وتفكيره المستقيم، وعاطفته الدافقة الجياشة.

وعرفته - ثانيا - أديبا منصفاً يسوق آراءه الناضجة، معتزة بأدلتها المقنعة، وبراهينها الدامغة، وذلك حين قرأت له منذ سنوات، مصنفة، القيم عن الأدب الفاطمي وما يليه، فراقني منه إيجازه البليغ، وتحليله الدقيق، ونماذجه الجيدة، المختارة من حر القول، وماثور البيان مما يدل على ذوق محمود، وطبع سليم.

وهاأنذا أعرفه - للمرة الثالثة - مؤرخا دقيقا يكتب عن حقبة مظلمة من التاريخ المصري، فيكشف القناع في براعة، ويميط اللئام في اقناع، فلقد قرأت كتابه الأخير (عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي) فخرجت منه بذخيرة ثمينة من الحقائق التاريخية، كانت مخبوءة عن الناس، مستورة في غواش حالكة من الإبهام، حتى جاء المؤلف فاستنطق المخطوطات العتيقة وقرا المطبوعات العديدة، وتنقل بين المكاتب العربية باحثا فاحصا، وقد حالفه التوفيق فأصدر موضوعة حافلة عن هذا العصر الغامض، تقع في أربعة أجزاء ضخمة. بلغ القسم الأول منها - وهو الذي تقدمه الآن - سبعمائة صحيفة دافقة بالمعلومات الغزيرة، في تركيب سلس وترتيب دقيق.

ولقد وفق الأستاذ محمود في اختيار هذا العصر بذاته، فقد مر به الكاتبون عابسين كالحين، ومن ألم به منهم إلمامه يسيرة، قسا عليه قسوة عاتية في حكمه، فجرده من المحاسن، ووصمه بما هو برئ منه وذلك ما دفع المؤلف إلى كتابة موسوعته الحافلة فأسهب واستطرد، وناقش وجادل، وعلل وحلل، ثم أصدر حكمه النهائي تنطق أدلته بالحق،

ص: 50

وتعترف أسانيده بالصدق.

يقول المؤلف في مقدمة كتابه عن هذا العصر المغبون (ولقد راعني ما أصابه من جفاء، وهالني ما ناله من صد، وما رمى به حينا من أنه عصر ظلمة وتأخر، وانحطاط وتقليد مع أنه جليل الخطر، عظيم الأثر ولم تقدم لنا منه الكتب الحديثة إلا صبابة لا تنقع غلة، وثمالة لا تروى طالب نشوة، لذلك أحببت أن أدرسه، وأطيل الوقوف بمعالمه حتى أصل إلى قرار الحق فيه، وعولت على الرجوع إلى ما كتبه بنوه الذين عاشوا فيه، آتياالبيوت من أبوابها، فهم أصدق حديثا، وأقرب مرجعا، وأجمل نجوى، وأغراني البحث والقراءة حتى وجدتني غارقا محيط من مؤلفات لا عدد لها، فيها الغنية لكل أديب، والمنهج لكل ناهج، وهي كالبحر لا ينضب معينه، وكالسيل لا تفيض عيونه، حينئذ انبهرت عيني، وما جت الآمال في نفسي موجا ووددت لو استطعت أن أضع موسوعة جامعة في أدب هذا العصر تكون منه للقارئ بمثابة المائدة الشهية التي تضم ألف طعام وطعام. . . .)

ولقد قصر المؤلف هذا الجزء على التاريخ السياسي للعصر المملوكي ممهدا له بكلمة موجزة عن التاريخ المصري من العهد الفرعوني إلى عهد المماليك، ولجأ إلى الإسهاب حين تكلم عن أضل السلاطين، وكيف انتقل إليهم الحكم من الأيوبيين، ولم يترك من رجال الدولتين (البحرية والبرجية) مملوكا دون أن يخصه بترجمة وافية مذيلة بالمراجع التي ورد إليها الكاتب، وقد اهتم كثيرا برجال السلطنة البارزين كالظاهر بيرس قلاوون والغوري وطومان باي، ثم عرج على نواب السلطنة فأفرد لهم أكثر من مائتي صحيفة تنطق بأعمالهم البارزة، وتسجل على المحسن إحسانه، وعلى المسيء إساءته في دقة وشمول.

على أني أخالف الأستاذ في ناحية هامة تشيع في مؤلفه، فقد حرص كل الحرص على أن يترجم لكل من ولى السلطنة أو ناب عنها وكذلك من تحدث عنهم فيها بعده من القضاة والخلفاء وفي هؤلاء جميعا من لا يستحق أن يكتب عنه سطر واحد، حيث كان فردا عاديا، لم يخلف أثرا، ولم تحدث في عهده من المفاجآتالسياسية ما يدعو إلى الحديث عن زمن ولادته، أو مدة حياته، أو آونة وفاته!! وإنما ولى وعزل وكأنه لم يولد، فلم إذن نتعب أنفسنا في تراجم أصنام آدمية، فذف بها الزمن في قرار سحيق!!

ومن المؤرخين من يسهب في الحديث عن الحكام والرؤساء دون أن يتعرض للحياة

ص: 51

الاجتماعية في العصر الذي يؤرخه، وكأنه يؤمن بأن تاريخ الشعب يتمثل في تاريخ ملوكه، ولكن الأستاذ محمود رزق يفطن إلى خطأ هذا الوهم، فيخص القسم الثاني من الكتاب بالكلام عن الناحية الشعبية، فيتعرض للتقاليد والعادات التي شاعت في المجتمع المصري، إذ يصف حفلات الزواج والمآتم والختان، ويتحدث عن ليالي السمر وأيام الأعياد والمواسم، وخروج المحمل وعودته، كما يعتني اعتناء تاما بأخبار النيل والفيضان فيتحدث عن الجسور والتروع والمقاييس ويميل إلى وصف الاحتفال بوفاته السنوي، وإن كان المؤلف لا يجيد - أيضا - عن استقصائه الشامل فهو يملأ أكثر من عشرين صحيفة بأرقام الصعود والهبوط وتواريخ الزيادة والنقص، وهذه مغالاة لا تفيد القارئ في شئ وما دامت هذه الصحائف العديدة تسير على وتيرة واحدة فيكفى أن يسطر الكاتب نموذجا مختصرا منها على سبيل المثال!

ولا أكتم إعجابي بالفصل القيم الذي كتبه المؤلف الفاضل عن القضاة فقد استسقاه من أصفى المراجع، وأبدع في عرضه إبداعا عجيبا، فوصف جلوس السلطان للقضاء، ونظره في المظالم والخصومات، ودلف إلى حقه الشرعي في مصادرة الأملاك، وتدخله الرسمي في أحكام القضاة، مبينا بعض ما حدث من مشادة عاتية بين الحاكم والمحكوم، ثم انتقل إلى القضاء الشرعي، وكيف اختص به الشافعية بادئ الأمر؟ ثم اشترك فيه علماء المذاهب الأربعة على السواء، وما شعور الشافعية إزاء ذلك؟ ومن هو صاحب الحق في العزل والتعين؟ وكيف كان يحدث ذلك؟ وبعد جولة ممتعة في هذا المضمار، ختم فصله الجيد بطائفة من التراجم الموجزة لأعلام الفقة والتشريع، كل ذلك في سلامة ووضوح.

ولقد كان الأستاذ منصفا كل الإنصاف حين تعرض إلى محاسن هذا العصر ومساوئه فذكر من الأولى صد الهجمات المعادية من التتار والإفرنج، ورصد الأوقاف وبذل الأموال، والثانية احتقار السلاطين للشعب وإهمال حقوقه السياسية وفداحة الضرائب وانتشار الجهل والأوبئة والزلازل، وذلك جميل من باحث متحمس كتب كتابة ليمجد العصر المملوكي فدفعته الحقيقة إلى الاعتراف بالواقع المرير.

وبعد فلقد قرأت هذا الكتاب من ألفه إلى يائه، فرأيت من الواجب أن ألفت الأنظار إلى مادته الغزيرة ومعلوماته الضافية راجيا أن يعمل مؤلفه الفاضل على إنجاز ما لم يطبع من

ص: 52

أجزائه فنحن إليها في ظمأ شديد. جزاه الله عن صبره الدائب. ومجهوده الشاق أطيب جزاء وأوفاه.

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي

ص: 53