الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 789
- بتاريخ: 16 - 08 - 1948
المصادفة والتاريخ
للأستاذ عباس محمود العقاد
سبق إلى أذهان الكثيرين من النقاد العسكريين، فضلا عن سواد الناس، أن النازيين احكموا خطط الميادين كلها وفرغوا من إعداد وسائلها قبل هجومها على بولونيا، ومنها خطط الميادين الفرنسية والميادين الروسية.
وظل هذا الاعتقاد عالقاً بالأذهان إلى ما بعد هزيمة ألمانيا واحتلال أرضها.
فلما تم هذا الاحتلال كان أول ما اهتم به الحلفاء جمع الأوراق والأسانيد من محفوظات الدولة، ولا سيما المحفوظات السرية في وزارة الدفاع.
فإذا بذلك الظن يتبدد كله بعد الاطلاع على أوراق القيادة العليا، وإذا بالوثائق المتكررة تدل على أن القيادة العليا فوجئت بعزم هتلر على غزو فرنسا، وإذا بهتلر نفسه يستعجل هذا الغزو على غير سابقة من البحث في خططه واحتمالاته، لأنه كان يظن أن عقد الصلح بعد هزيمة بولونيا ومحالفة روسيا مستطاع، ولكنه رأى من الحلفاء إصرارا على المقاومة، وعلم انه استنفد وسائل استعداده فلا مزيد عليها، وكلما مضى شهر على الحرب نقصت قوته وزادت قوة الحلفاء حتى تتوافر لهم أسباب الرجحان المحقق في النهاية.
وفوجئ القادة باستعجاله فعارضوه أد معارضة، وأطلعوه على حقيقة الخطر من هذه المجازفة، ولكنه سلم لهم رأيهم من الوجهة العسكرية بعض التسليم، وتذرع بما لديه من (المعلومات السياسية) لتصويب البدء بالهجوم على فرنسا من هذه الوجهة.
وجاء دور الخطة التي يعتمدونها في النفاذ إلى الأرض الفرنسية من وراء خط (ماجينو) ومن وراء الحدود المغلقة.
لم يكن هتلر قد وضع خطة لهذه الغزوة ولا هو الذي وضعها بعد موافقة القواد إياه، خلافا لما سبق إلى الظن أيضاً بعد نجاح الخطة على غير انتظار.
إنما كانت هذه الخطة من عمل (هدلار) رئيس أركان الحرب، وقد اعتمدها هتلر بعد مراجعتها، وكانت في مبدأ وضعها شبيهة بالخطة التي غزيت بها فرنسا من ناحية بلجيكا في الحرب العالمية الأولى.
ولكن ضابطا شابا علم بهذه الخطة فانتقدها، وقال إنها مكشوفة يسهل تقديرها واتقاءها،
ومن الواجب تركيز الهجوم الأكبر على جبهة غير الجبهة البلجيكية الغربية، وهي جبهة (الأردين) لأن الهجوم فيها غير منتظر، والمفاجأة من قبله أقرب إلى النجاح.
اسم هذا الضابط الشاب فون مانشتين، وقد سخط عليه رؤساؤه لاجترائه على انتقادهم، وحسبوا أنه يشق طريقه على رؤوسهم إلى ثقة هتلر وإعجابه، فنفذوا الخطة مضطرين لأنها أصابت هوى من هتلر، وأبعدوا الضابط الشاب عن كل مشاركة في تنفيذها.
ولم يكن هذا التحول المفاجئ أول المصادفات في هذه الغزوة الضخمة ولا آخرها.
فقد اتضح من الأوراق الرسمية أن النازيين لم يعرفوا قبل الحرب غاية امتداد خط (ما جينو) على وجه التحقيق، ولم يعرفوا المواقع التي كانت لا تزال يومئذ في حاجة إلى التعزيز والامتداد، فدلهم عليها في اللحظة الأخيرة، ضابط نمسوي من هواةتصوير المناظر من الطيارات.
كان هذا عمل المصادفة في اعظم نجاح أصابه النازيون في الحرب العالمية الماضية، او كان هذا عمل المصادفة في انهيار دولة كانت محسوبة في عداد العسكرية الأولى.
وليس هذا كذلك آخر المصادفات في الحرب العالمية، فإن هتلر أقدم على غزو روسيا وهو يقدر أنه سيجتاحها قبل نزول الشتاء، ولو أنه استطاع أن يوغل فيها قبل نزوله لكان من الجائز أن يتغير مجرى الحوادث في هذا الميدان.
ولكن مصادفة صغيرة حالت بينه وبين التقدم في الميادين الروسية كما شاء في الموعد المقدور.
لأن اليونان رفضت شروط إيطاليا وهزمت الجيوش الإيطالية فاضطر هتلر إلى إرسال فرق من جيوشه إلى ميدان اليونان، ليستريح من هذه الناحية ويحمى ظهره قبلالإيغال في الأرض الروسية، مخافة أن يدهمه الحلفاء من خلفه وهو مستغرق في قتال الروس.
ولم تنته المصادفات هنا وهي كافية في تحويل مجرى الأمور، بل اتفق في تلك السنة أن أمطار الشتاء نزلت قبل أوانها، وكان نزولها شديدا قارسا على خلاف المعهود في ذلك الموعد من كل سنة
والمصادفات في الحرب العالمية الماضية أكثر من أن تحصى، وحسبنا أن نزيد عليها مصادفة قريبة منا، وهي مصادفة العلمين وانسياق رومل إلى مطاردة الحلفاء قبل استيفاء
حاجته من الوقود واضطراره إلى هذه المطاردة بهذه العجلة اغتناما لفرصة سانحة لعلها لا تعود.
وشأن الحروب الكبرى في الماضي كشأن الحرب العالمية في عنصر المصادفة. فلولا أن المدد البروسي وصل إلى (واترلو) قبل وصول المدد الفرنسي لكان من الجائز جدا أن يختلف مصير نابليون في ذلك الميدان.
ذلك عمل المصادفة في أعظم حوادث التاريخ.
ولا بد للمؤرخ من تسجيله وإعطائه كل حقه، لأنه واقع لا يحسن إغفاله، لأنه نافع للعاملين وفيه عزاء لهم وشحذ لرجائهم
فأما أنه نافع فلأنه لازم في كل تقدير صحيح.
وأما أنه يوليهم العزاء والرجاء فلأنهم ينتظرون بقية مأمولة بعد استنفاد الحيل وبذل الجهود.
ومن هنا كان خليقا بمؤرخنا الأديب محمود الخفيف أن يطمئن إلى نصيب صاحبه لنكولن من التنظيم والإعجاب، بعد ما عرف من أثر المصادفة في نجاحه.
فهكذا الشأن في كل حادث عظيم!
وهكذا الشأن في كل رجل عظيم!
وكل مطلع على التاريخ لن يخرج لن يخرج مما كتبناه عن لنكولن بأنه مدين للمصادفة بكل شيء، ولكنه يخرج منه بأن المصادفة كانت شيئا في تاريخ حياته وفي أسباب نجاحه، وكل شيء في تواريخ العظماء وفي أسباب نجاحهم لا غنى عن تسجيله والتنبيه إليه.
قلنا في قصة سارة إن (الدومينة عندنا أتم الألعاب، لأن الشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيهمكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة. أما (الدومينة) ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، وللغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك، أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أ، تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك).
فنحن لا نريد تاريخا من الشطرنج ولا تاريخا من النرد، ولا ننفي المهارة عن لعبة لاعباً يمد يده إلى الورق المجهول فتصادفه الورقة التي يريدها، أو يضع من يده ورقة فتغلق الباب على خصمه، لأن المهارة في هذه (الدومينة) صفة معروفة على الرغم من هذا الحظ الذي يتفق لجميع اللاعبين.
بقيت حكاية لنكولن وأسلافه.
فالأستاذ الخفيف قد ذكر (أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب، فأصبحت ذات حمل وإن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها، فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم).
ولكن ليس المهم أنها زلت!
وإنما المهم لماذا زلت؟!
فقد كانت عبقرية لنكولن مزيجا من خصلتين: إحداهما المرح وحب النكتة، وقد أخذها من أبيه، والأخرى نهمة المعرفة، وقد أخذها من أمه وجدته، وقد كان حب المعرفة نادرا في الرجال فضلا عن النساء بين المغامرين والمغامرات من أهل القارة الأمريكية. فمن العجب الذي لا ينسى في تاريخ الرجل أن جدته أقبلت على التعليم الذي لا يطلبه منها أحد، وقادها هذا الولع بالعلم إلى التعلق بأستاذها، فاستسلمت له وجاءت زلتها من هذا الطريق!
وذلك هو بيت القصيد!
وذلك ما لم يذكره الأستاذ الخفيف!
ولعلها مصادفة من المصادفات أبعدت مرجع الحكاية من يد الأستاذ الخفيف. . . فلن يفلت إذن من حكم المصادفات!!
عباس محمود العقاد
هؤلاء هم اليهود قديماً وحديثاً وأولاً وأخراً
للأستاذ نقولا الحداد
كتب الدكتور محمد عوض محمد بك مقالا في مجلة الإذاعة المصرية فحواه: أن هؤلاء اليهود (الأخساء الأنذال) الذين ارتكبوا الفظائع الوحشية ليسوا من نسل إسرائيل. بل هم قوم أجانب (آراميين) تهودوا. وما يأتونه من المنكرات هو طبيعة سلالتهم لا من طبيعة إسرائيل، وأنهم لا ينتسبون إلى إبراهيم وأسحق ويعقوب آباء ذلك الشعب الذي امتاز بأنبيائه وكلماته. فهل يعقل أن ذلك الشعب القديم قد مسخ هذا المسخ الفظيع؟ هذا فحوى مقال الدكتور.
والظاهر أن جناب الدكتور لم يقرأ التوراة التي يعتز بها اليهود، أو على الأقل الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة لموسى لكي يعلم أن اليهود هم هم منذ القديم إلى اليوم سواء كانوا من سلالة إبراهيم أو من سلالة اشكيتاز. والأستاذ يعلم أن الآداب والأخلاق ليست وراثة بيولوجية بل هي وراثة اجتماعية تحصل من العشرة. فلو وضعت طفلا زنجيا وسط راق متمدن دمت الأخلاق، لشب كريم الأخلاق، لين الطبع.
فيهود صهيون تطبعوا بطبيعة أشخاص التوراة. اقرأ التوراة تعلم من هم اليهود من عهد نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى سلميان إلى اليوم. وإليك أمثلة قليلة من سلوك بطاركتهم عن آبائهم الذين كانوا يقودونهم.
لما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان بقيادة يشوع وأخذوا أريحا أولا بأعجوبة وهي إسقاط أسوارها بالهتاف بالأبواق دخلوها كل رجل مع وجهه، وحرموا كل أهلها من رجال ونساء وشيوخ وأطفال حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. يعنى أنهم قتلوهم ذبحا بالسيف. أنظر سفر يشوع، الإصحاح السادس، العدد 21 وما قبله وبعده.
بعد ذلك تقدموا إلى مدينة عاى فما علم ملك عاى بهم خرج بجميع شعبه لمقاتلهم، وكان يشوع قد وضع كمينا غربي المدينة من 5 آلاف مقاتل. فلما خلت المدينة من أهلها دخلها هؤلاء فأصبح أهل عاى بين شقين من إسرائيل، فأعمل هؤلاء السيف فيهم حتى أبادهم عن أخرهم رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا؟ زد على هذا أن يشوع أحرق المدينة، وتركها تلا أبديا خرابا إلى اليوم (أي يوم كتب اليهود سفر يشوع بعد 17 قرنا من ذلك العهد).
اقرأ الإصحاح الثامن من سفر يشوع:
ثم تقدم يشوع بقومه إلى مدينة مقيدة وضربها بحد السيف وقتل ملكها وكل نفس حية فيها، ولم يبق شاردا كما فعل فيعاى وأريحا.
ثم اجتاز إلى لبنة وفعل فيها كما فعل في أخواتها السابقتين وهكذا اجتاز من مدينة إلى مدينة إلى أن استتب أمره في ارض كنعان، أنظر يشوع، الإصحاح العاشر وما بعده.
فترى أن أولئك اليهود الذي فروا من مصر وأمضوا في بربة سينا 40 سنة كانوا يستعدون لهذا التفظيع ثم كانوا ينسبونه إلى أمر ربهم يهوه. ونحن نعلم أن الله تعالى الذي خلق اليهود وجميع الأمم غير اليهود يعتبر جميع الأمم عباده بلا فرق بين إسرائيل وكنعان وعرب وإفرنج، ولا يمكن أن يأمر بهذه الفظائع، فما نسبه اليهود إلى الله إنما هو من اختراعهم، أي اختراع اليهود الذين عادوا من سبى بابل بعد عهد موسى بسبعة عشر قرنا. وموسى ويشوع والله أبرياء من هذا التفظيع.
أما كان حريا بهم أن يأسروا أولئك الأقوام الذين غلبوا على أمرهم ويستعبدوهم بدل أن يقتلوهم رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا كما فعل نبوخذ نصر ملك بابل حين غزا فلسطين وهو ظنهم أنه ليس من شعب الله المختار. لقد كان أشرف منهم نفسا وأحن قلبا. بل كان سببهم إلى بابل لأنهم تعلموا هناك الحكمة والشريعة فكتبوها في أسفارهم.
إن هؤلاء الهاجاناه والأرجون واشترن والإرهابيين تعلموا هذه الفظاعات من توراتهم. فلا تبرئ يا دكتور إسرائيل القديم من فظائع إسرائيل الجديد.
هذا من حيث التفظيع، وأما من حيث المخازي الأخرى فإليك أمثلة منها:
من أمثلة غشهم وغدرهم وخداعهم حكاية غش لابان لابن أخته يعقوب الذي سمى بعدئذ إسرائيل وإليه تنتمي دولة إسرائيل الحديثة الخبيثة. فقد وعده خاله لابان أن يزوجه ابنته راحيل إذا خدم عنده سبع سنين، فخدم، وفي الميعاد عمل لابان مهرجان عرس لابنته. وبعد أن دخل يعقوب عليها وجد إنها ليست راحيل بل هي لئية أختها، فعاتب خاله في هذا الأمر. فقال له اخدم سبع سنين أخرى وخذ راحيل. وهكذا كان. (سفر التكوين الإصحاح29).
وإليك قصة غش أفظع من هذه: كان لأسحق ابنان عيسو البكر ويعقوب. وكانت (رفقة)
زوجة أسحق تحب يعقوب أكثر من عيسو أخيه. فسمعت اسحق يقول لعيسو: آتني يا ابني بطعام من صيدك لكي آكل وأباركك. فروت هذا الحديث ليعقوب وقالتله أسرع من صيدك لأبيك لكي يباركك، وكان اسحق ضريرا. فتقدم إليه يعقوب بصيده لكي يأكل ويباركه فسأله اسحق من تكون؟ قال: أنا ابنك البكر عيسو. وكانت رفقة قد ألبست زندي يعقوب فراء من الماعز لكي تكون زنده كزند عيسو. فقال هات يدك. فحبس يده: فقال اليدان يدا عيسو، ولكن الصوت صوت يعقوب. وباركه. ولما جاء عيسو بصيده قال أبوه: أتأسف أن أخاك سبقك إلى بركة بكوريتك. (الإصحاح 27 من سفر التكوين)
ولما ضرب الرب صدوم وعموره لارتفاع شرهما إلى عنان السماء، استثنى لوطا أخا إبراهيم لأنه كان صالحاً (نسبياً) وفي ذات يوم قالت ابنتا لوط: لقد انمحى الرجال من أرضنا فلنسكر أبانا ونضجع معه فيكون لنا بنون. وهكذا فعلتا بالتناوب. (الإصحاح التاسع من سفر التكوين)
وإبراهيم أبو الآباء الذي غمره يهوه ألهه بالوعود، لما ذهب إلى ارض مصر وكان سارة زوجته جميلة فخاف أن يقتلوه لكي يغتصبوها منه. فلما علم فرعون بخبرهما استدعاهما فقال إبراهيم هذه أختي. فأخذها فرعون. وما لبث أن نزل عليه غضب الله وعلم إنها زوجة إبراهيم لا أخته. فعاتبه في ذلك وردها إليه. (الإصحاح 12 من سفر التكوين)
ثم ارتكب نفس هذا الغش حين انتقل إلى أرض جيران وقدم زوجته إلى أبي مالك ملك فلسطين باعتبارها أنها أخته فنزل على أبي مالك غضب الرب وعلم أنها زوجة إبراهيم لا أخته. فعاتبه في ذلك فقال هي بالحقيقة أختي من أبي لا من أمي (تكون الإصحاح العشرون)(وما الفرق؟)
وأخذ داود زوجة أوريا قائد فرقة من جيشه وزنى بها فحبلت في غياب زوجها، فأوعز داود إلى قائد الجيش أن يضع اوريا في مقدمة الجيش لكي يقتل، وكان كذلك، ثم تزوج داود المرأة (سفر صموئيل الثاني: الإصحاح الحادي عشر) هذا هو داود الذي قال الله عنه (وجدت قلب داود كقلبي)
وسليمان الذي منحه الله الملك والحكمة والغنى غرته في آخر ملكه نساؤه السبع مائة، وسراريه الثلاثمائة الأجنبيات بعبادة الأوثان وبخطايا أخرى باهظة، فجلبت خطاياه عليه
وعلى وطنه عقابا شديدا. (سفر لوك الأول الإصحاح 11) ولما فرغت جعبته جعل يقول: باطل الأباطيل، الكل باطل.
ولما سمح فرعون لموسى وقومه أن يهجروا مصر قال (المؤرخ) أوعز الله إلى الإسرائيليين أن يستعيروا من المصريين الحلي من فضة وذهب والثياب لأن عندهم مهرجانا. والهم اله المصريين أن يعيروهم. وفي اليوم التالي فروا بها من أرض مصر.
وهكذا ترى أن اليهود بأمر الله (كما يكذبون) يستحلون أموال الأمم الأخرى. فأي إليه هذا الذي يعلم شعبه المختار النصب واللصوصية؟ أتصدق أن هذا الكلام وحي من الله؟ -
الإنسان شرير قبل أن يكون صالحا. فإذا جاءه تعليم الشر عن يد إلهه اعتبره حقا حلالا. فلا تستغرب أن اليهود يستحلون كل الرذائل والقباحات تجاه خصومهم لن إلههم يهوه علمهم هكذا كما يزعمون.
أرجو أن تعلم يا دكتور أن إله الإسرائيليين ليس الله إله والنصارى والمسلمين.
ذلك قليل جداً من كثير جداً مما جاء في التوراة من مخازي كبار اليهود. فأرجو منك حضرة الدكتور ومن كل قارئ أن تلقى من بالك أن كل ما كتب في التوراة هو وحي من الله، أو أن التوراة كتاب مقدس، لأن الله لا يوحي بمثل هذه المخازي ولا تكون قصص المخازي كتابا مقدسا.
إن أسفار التوراة كتبت بالتتابع بعد رجوع الإسرائيليين من سبى بابل أي قبل المسيح بنحو 650 سنة وبعد خروجهم من مصر بنحو 17 قرنا. وإنما هي أساطير أشور وبابل ونينوى وماري وفارس وعيلام جميعها المسبيون في مدة سبيهم ولما عادوا إلى فلسطين شرعوا يكتبون هذه الأساطير وما عندهم من أمثالهم على هواهم.
وإذا كان بعض طوائف النصارى تقدس التوراة فلأنها تعتقد أن التوراة تشتمل على نبوءات بمجيء المسيح.
ولكني وكثيرين مثلي نعتقد أن المسيح في غنى عن نبوءات تشهد له. إن حياته القوية وتعاليمه الأخلاقية الشريفة تشهد له وهي شهادة حق. وبعض الطوائف النصرانية لا تضع التوراة بين أيدي أولادها لما فيها من المخازي.
ومتى قرأت التوراة أو الأسفار التاريخية فيها على الأقل شعرت أن أولئك اليهود القدماء
الذين تنسب إليهم ابر والقداسة ليسوا أبر من يهود بولونيا وألمانيا وسائر أوربا. فهؤلاء اطلعوا على التوراة واستقوا منها أخلاقهم من شره وجشع ووحشية وتفظيع الخ. . . ولولا هذا لكانوا كسائر أهل أوربا أقرب إلى الإنسانية والرحمة وأبعد عن الأنانية.
فأعود والفت نظرك إلى الوراثة الاجتماعية فهي وراثة أخلاق وآداب في أثناء العشرة. وليست كالوراثة البيولوجية وراثة دم أو بالأحرى وراثة حيوية.
أرجو منك أنتطالع الأسفار التاريخية في التوراة وثم قابلني. والسلام عليك وعلى طيبة عنصرك. وأرجو أن تتوب عن الدفاع عن اليهود. فهم قبيل من الناس لا يمكن أن يكون إنسانياً مادام سنده التوراة وبها يدعى أرض فلسطين ودولة.
نقولا الحداد
حول مقال
الأزهر والإصلاح
للأستاذ سليمان دنيا
قرأت في العدد 786 من مجلة الرسالة الغراء، مقال الأستاذ الفاضل محمود الشرقاوي، تحت هذا العنوان؛ واعتقد أن كل من قرأ هذا المقال القيم قد أحس بروح الكاتب القوية تفيض غيرة على الأزهر، وحرصا على أن يأخذ هذا المعهد حظه اللائق به، ويتبوأ مكان الصدارة في هذا الوجود.
وأعتقد أيضا أن حياء الأستاذ الشرقاوي الجم، الذي هو خلق أصيل في طبعه، هو الذي جعله يحسب للقراء من الأزهريين كل هذا الحساب، حتى افترض على ألسنتهم كل هذه الاعتراضات وظن أن كل جملة في مقاله، بل كل كلمة وكل حرف، سيسأل عنها ب (ماذا، ولمه).
ولكنه رغم كل هذا الحياء المتأصل في طبعه، ورغم توقعه أن يسأل عن كل حرف في مقاله ب (ماذا، ولمه)، لم يطق صبرا على الصمت، وفي نفسه لواعج الغيرة تحتدم، ونوازع الشوق الملح إلى إصلاح الأزهر تضطرم، فأرسلها عالية مدوية، صريحة معلنة (إن الأزهر لم يصلح، وإن بينه وبين الإصلاح شأوا بعيدا وبونا واسعا ومرحلة طويلة جداً) و (. . . إن الحديث عن الإصلاح في الأزهر حديث لا يصغي إليه أحد، ولا يستغل به أحد من قريب ولا من بعيد).
ولعل الأستاذ الشرقاوي مبالغ في كل هذا الحذر، وفي اعتقاده أن كلماته الواضحة الصريحة التي تفيض إخلاصا وغيره، ستصرف عن ظاهرها، وسيطلب لها سر باطن، مغال في حكمه بأن الحديث عن الإصلاح في الأزهر، لا يصغي إليه أحد، ولا يستغل به أحد، من قريب ولا من بعيد؛ فمن الأزهريين كثير من المعنيين بالإصلاح في الأزهر؛ يجاهدون ما وسعهم الجهد، لإفساح المجال فيه لسياسة علمية صحيحة، ولست أدعي أنهم نجحوا في محاولتهم، ولكنهم دائبون حريصون. ومن الأزهريين كثير من المشغوفين بالحديث عن الإصلاح في الأزهر، حتى أصبح شغلهم الشاغل، وهمهم الذي يتذاكرونه في غدوهم ورواحهم، وفي خلواتهم ومجتمعاتهم، ولهم في هذه السبيل نشاط مشكور.
وإذا كان في مقال الأستاذ الشرقاوي ما يستحق العتب، ففيه، ما يستحق المدح والثناء؛ ذلك هو تصويره الأهداف العليا التي ينبغي أن يتجه إليها المصلحون للأزهر، تصويرا جمع بين إشراق الديباجة، ووجازة اللفظ وسرف المقصد ونيل الغاية.
أرأيت إلى قوله (. . . ليكون الأزهر قواما على نهضة دينية، أساسها الفهم والإدراك وسعة الأفق، حتى يقاوم بها ما ينتاش العالم كله، من إباحية وإلحاد،) وقوله: وليستخرج في الأزهر (طائفة من الرجال، يحسون ويدركون علة هذه الأمة الإسلامية وأسباب جمودها وتخلفها، وجهالة العوام فيها وتواكلهم وضعف إيمانهم وانصرافهم عن المفيد النافع من شئون الحياة، واستهتار الخواص وأنانيتهم وجحودهم).
وكثير غير ذلك مما أطلع عليه القراء واستذوقوه واستمتعوا به.
أرأيت إلى هذا الكمال الذي يحرص الأستاذ الشرقاوي كل الحرص على أن يبلغه الأزهر؟!، وهل وراءه ما يمكن أن يطمع فيه طامع، أو يأمل فيه آمل؟!.
لكني أعتب على الأستاذ الشرقاوي مرة أخرى، حيث قد عدد أهداف الإصلاح العليا على نسق جمع بين حسن الأداء وصدق التوفيق، ثم عقب قائلا (هذا هو الإصلاح للأزهر، وهذه سبيله).
حقا إن هذا هو الإصلاح الذي تصبو إليه نفوس الغيورين، ولكن أين سبيله؟!. قرأت مقال الأستاذ الشرقاوي مرة وعاودته مرارا، فوجدت فيه الإصلاح واضحا بارزا، ولكن لم أجد فيه سبيله؛ وهل سبيل ذلك إلا مشروع واضح المعالم بين الصوى، يشخص ما ينبغي أن تقوم عليه سياسة الأزهر العلمية: ما يتصل منها بالعلم، وما ينبغي أن يتوافر فيه من كفاية ومقدرة وما يتصل منها بالكتاب وكيف ينبغي أن يكون، وبالدارسة وكيف تؤدى. وما يتصل منها بالطالب وماذا يشترط فيه، وكيف يراض من جموح، ويؤلف من شرود؛ وكيف تعقد بينه وبين العلم صلة تحببه فيه وتصرفه عن كل ما ينافيه.
هذه النواحي جديرة بالدراسة والبحث، والرسم والتخطيط؛ كان على الأستاذ الشرقاوي أن يعالجها بنيانه المشرق وهديه الوضاء؛ وإن له من تتبع سير الأمور في الأزهر منذ حداثة سنه، ومن اهتمامه بنهضته وإصلاحه، ودؤوبه على الكتابة في كل هذه الشئون، ما يجعله أهدى سبيلا إذا بحث، وأصدق قيلا إذا كتب؛ إن من يدعو إلى غاية ثم لا يدل على طريقها
بوقع حيرة واضطراب؛ ومن السهل أ، تشخص الغاية وتوضح، وليس من السهل التعرف على أقرب الطرق الموصلة إليها؛ فليكتب من شاء أن يكتب في رسم السبيل وتبين معالمها، وليكثر من الكتابة في ذلك؛ فإن الطريق إذا استبانت واتضحت، وآمن الناس بأنها توصل إلى ما تصبو إليه نفسهم من الإصلاح المنشود، لم تعدم سالكين، ومن وقتئذ يبدأ الإصلاح بتحقق؛ أما الاقتصار على ذكر الأهداف والغايات دون الإيضاح الكافي للسبل والوسائل، فليس من شأنه أن يحقق غاية أو يوصل إلى هدف.
سليمان دنيا
المدرس في كلية أصول الدين
آلام بيتهوفن
للدكتور فضل أبو بكر
ولد بيتهوفن بمدينة (بون) التابعة لمقاطعة (بروسيا) الشرقية بألمانيا في السابع عشر من ديسمبر سنة 1770 وهو - كما يعلم القارئ - ثالث الثلاثة - (موزار) و (باك) - الذين تفاخر بهم ألمانيا كما أدهشوا العالم في فن الموسيقى وكان أبوه - كوالد (موزار) موسيقياً بارعاً ولكنه على العكس من زميله نشا نشأة تعسة في طفولة بائسة مشردة لقسوة والده عليه ولمعاقرة ذلك الوالد للخمر وإدمانه عليها وهو ما طبع حياة الطفل وسرعة الغضب رغما عن نفسه وطيبة قلبه. وقد حكى عنه أنه بينما كان يعزف على عودة قطعة موسيقية وإذا بعنكبوت خرجت من مكمنها وتدلت من نسجها كأنما أطربتها ألحانه الشجية فضربتها أمه ضربة أماتتها مما أثار نفس الابن وجعله يحطم عوده من شدة الغضب.
بدأ نبوغ بيتهوفن في سن مبكرة كما بدأ يؤلف وينتج في فن الموسيقى في الثالث عشر من عمره وهو ما أثار دهشة مواطنيه.
كان (موزار) في ذلك الحين قد بلغ الذروة في عالم الفن وقد تعلق به بيتهوفن وأعجب بنبوغه وتفوقه في عالم الموسيقى فلحق به في مدينة (فينا) في ربيع سنة 1878 يحمل توصية من أحد الكبراء لكي يحظى بمقابلة (موزار) فكان له ما أراد ورحب الفنان الكبير بزميله الشاب الصغير واكرم مثواه وأراد موزار أن يمتحن بيتهوفن ويتحقق بنفسه عما يذاع عنه من بوادر النبوغ فأعطاه قطعة موسيقية صعبة معقدة ورجاه أن يعزفها على البيان فأبدى الشاب من الكفاءة والنبوغ ما حير (موزار) الذي لم يملك نفسه من فرط الإعجاب فصاح فيمن حوله (تأملوا) هذا الشاب الصغير! إنه سوف يترك في الدنيا دويا وسوف يتكلم عنه العالم أجمع) على حد قوله المتنبي:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه
…
فلما التقينا صغر الخبر الخبر
أما من حيث تكونيه الجسمي فقد كان قصير القامة واسع الصدر ضخم الرأس والعنق قصيرها مما يزيد من قماءته غليظ الشفتين بارز الجبهة والحنك قصير الأنف وفي عينيه قوة معبرة وشعاع نافذ وإذا ما غضب وحدج بهما إنسانا فكأنما يتطاير منهما الشرر ويكسو رأسه شعر كثيف أسود كدجى الليل يتعذر على المشط أن يجوس خلاله أو يقوم ما أعوج
من تجاعيد خصلاتهالمتدلية على أكتافه كأنما هي عرف الأسد.
إن ملامحه - كما يقول بعض الكتاب - إن لم تنم عن وسامة وجمال فهي تعبر عن هيبة وجلال وكأنما الشاعر يعينه بقوله:
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة
…
فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
بدأ الوقر يطرق سمعه وهو في السادس والعشرين من عمره وهو في فجر الشباب وأوج المجد وبدأ الداء بأذنه اليسرى وبعد عامين لحق باليمين فضعفت حواسه السمعية وكانت عنيفة على نفسه الحساسة وجرحا لكبريائه الشامخ وكبرياء النفس صفة تميز بها الألمانيون أكثر من غيرهم ولا سيما البروسيين وكان في بادئ الأمر شديد الحرص على كتمان مصيبته ولم يبح بها حتى إلى أقرب الناس إليه لهذا بدا يمعن النظر ويتفرس في وجه محدثه مراعيا باهتمام حركات الشفاه وملامح الوجه المعبرة حتى يلم بأطراف الحديث ولكيلا يفوته حاسته فقدنا تاما وهي ما يسمونها في الطب (بالقراءة على الشفاه) - ولكن هيهات!! فما كان مجهوده يكلل بالنجاح في كل الأوقات، إذ كانت تفوته بعض الكلمات فتبدو على سيماه الحيرة والارتباك، مما يضطره محدثه لإعادة ما يقول أو الإجهار بالصوت فيزداد ارتباك ويحمر وجهه غضبا لأن في ذلك ما يذكره بمعصيته ويشعره بأنها لم تعد سراً على أحد.
وفي عام سنة 1800 اشتد داءه وظهرت عليه بعض المضاعفات - دوى في الاثنين لا ينقطع ليل نهار وضوضاء أشبه بأزير النحل مع شعور بالدوار وآلام في الأذنين عند سماع الأصوات الحادة وهي عارضة مرضية يسمونها بال
بيتهوفن والأطباء:
لجأ بيتهوفن إلى استشارة الأطباء بعد تردد كبير لأنه - كما أسلفنا - كان يأنف أن يعترف للناس أو حتى للأطباء بمرضه فضلا عن ضعف ثقته بالطب والأطباء وفي هذا يشبه المؤلف المسرحي الشاعر (موليير) الملقب بشكسبير فرنسا والذي كان يسخر من الأطباء ويهزأ بهم في مسرحياته لعجز الطب عن مداواته. غير أن إلحاح أخواته جعله يقبل العلاج فاستدعى أهله الأستاذ الدكتور (شمد) وهو صديق للعائلة ومن المعجبين إلى حد كبير بفن بيتهوفن وقد بذل الأستاذ كل ما في وسعه واستمر في علاجه أكثر من ثلاثة أعوام ولكن
جهوده ذهبت أدراج الرياح واستمر الداء يتطور ويستفحل، ثم تولى علاجه طبيب ثان هو (ملفاتي) وثالث هو (برتوليني) وأخيرا الأستاذ (استاندنهايم) وهو طبيب الإمبراطور بتضخيم الأصوات فاستعمل منها مجموعة مازالت محفوظة في المتحف الخاص به والذي يؤمه الزوار من عشاق فن الموسيقى من كل حدب وصوب ولكن الفائدة كانت ضئيلة ولم يطق بيتهوفن صبرا على احتمالها فنبذها جميعها إلى جنب وظل سمعه يضعف رويداً رويداً.
وأخيراً نصحه أطباؤه بمغادرة فينا - فينا الجميلة عروس الدانوب والتي أحبها كثيرا فغادرها مرغما إلى قرية مجاورة وانقطع لقنه انقطاع العابد في محرابه والراهب في صومعته بتحف العالم من حين لآخر بأروع ما عرف في فن الموسيقى.
ولكن العزلة وحرمانه من مجالس الأنس وسمر الأحباب في فينا كل ذلك زاد من أحزانه وشقاء نفسه حتى ضاق ذرعا بالعيش واستعجل الموت وقد كتب في ذلك عدة مذكرات منها وصيته التي تركها لشقيقتيه (كارل) و (جوهان) نقتطف منها:
(ما أقسى المجتمع في حكمه على الفرد!! إن الناس كالقاضي المستهتر الذي ليس له من ضميره رقيب ولا حسيب فهو يدين المتهم البريء ويوقع العقاب من غير أن يكلفه نفسه مؤونة البحث والدراسة لقضيته! إن الناس يرموني بالصلف والترفع عن مجالسهم كما ينعتني البعض الآخر بالشذوذ وما دروا أن قلبي منذ نعومة أظفاري مفعم بالحب وتفيض في نفسي عاطفة البر والرفق بالضعفاء والمحرومين. وما ألحاني إلا تعبير صادق لما يختلج في نفسي من احساسات.
لقد مضى على أكثر من ستة أعوام وأنا أعاني من عاهتي الأمرين وتزداد حالتي المعنوية سوءا يوما بعد يوم كما فقدت الأمل في استرداد سمعي رغما عن الوعود الكاذبة التي يتمشدق بها الدجالون من الأطباء. لقد جفوت - كرها - مجالس الأحباب لأن كبريائي لا يسمح لي أن أقول لأحد من الناس أرفع صوتك وأجهربما تقول لأني ضعيف السمع أو عديمة!! إن العزلة تميتني حقا ولكن أين المفر؟! إن سخرية الناس وشماتتهم هما لا على نفسي أدهى وأمر.
يا أخوي التمسا من صديقي الأستاذ (شمد) أن يطالع الناس بحقيقة عاهتي بعد موتي حتى
يقفوا الأمر وسبب نفوري منهم وليكن لي ذلك مبرر وشفيع وأني لآمل إلا تعاجله المنية قبلي لأني لا أثق بغيره من الأطباء.
إني أترك لكما الثروة المتواضعة التي جمعتها بعرق جبيني فاقتسمها بينكما بالعدل كما آمل أن يسود بينكما الحب والوفاق وأما أنت يا شقيقي (كارل) فأشكر لك حسن صنيعك وعطفك على كما أسألك أن تنشئ أبناءك نشأة طيبة متمسكين بالفضيلة ففي ذلك وحده النجاة كما أنها الطريق المفضي إلى السعادة، والسعادة ليست في الثراء لأنه عرض زائل وإنما هي معنوية وليست مادية.
أشكر جميع أصدقائي ولا سيما سمو الأمير (شنوسكي) والأستاذ (شمد) كما التمس منكما أن تحتفظا بالآلاتالموسيقية التي أتحفني بها سمو الأمير كذكرى نفيسة (اللهم إلا إذا أعوز كما المال ففي هذه الحالة فقط أسمح لكما ببيعها).
أسباب مرضه:
اختلف الأطباء في تعليل الأسباب التي أدت بسمعه فبعضهم يعزوها إلى مرض الزهري كالدكتور (جاكوبصن) مثلا ولكن تشريح جثته بعد موته في السادس والعشرين من شهر مارس سنة 1827 لم يظهر أي أعراض للزهري وبعضهم يقول إن حمى التيفويد التي أصيب بها في حداثته سببت له التهابا في الأذن الداخلية غير أن هذه الدعوى ليس لها مكان من الصحة إذ أن مثل هذا الالتهاب له عوارض لم تظهر على بيتهوفن والمتفق عليه الآن أن مرض أذنيه الذي أودى بسمعه هو ما يسمونه بال - لأن كل ما كان يشكومنه من عوارض وما دلت عليه نتيجة التشريح بعد الموت ولا سيما تشريح الأذن نفسها يدل على أن بيتهوفن كان مصابا بالمرض الأذني المذكور يضاف إلى ذلك أن والده كان ضعيف السمع والوراثة تلعب دورا هاما في هذا النوع من الأمراض السمعية.
أثر الصمم في فن بيتهوفن:
يظن الكثير من الناس بأن حاسة السمع شيء لا عوض عنه للفنان الموسيقى وذلك أن يعزف بنفسه أو يعزف له أحد غيره ما يؤلف من قطع موسيقية فيتذوق ما بها من فن ويصلح ما بها من ضعف وهو ما حرم منه بيتهوفن مدة طويلة ولكن الواقع ينفي ذلك إلى
حد كبير ولا سيما لدى فنان ملهم موهوب مثل بيتهوفنوحاسة السمع لا تلعب إلا دورا ثانويا وهذا الصدد وإنما العامل الأول في الإنتاج هما ذكاء القريحة وقوة الخيال وقد وهبه الله منهما قسطا وافرا. والموسيقى فن فوق الاحساسات المادية وهي لغة الوجدان وترجمان العواطف.
إن عاهته لم تعقه عن النبوغ والوصول إلى درجة الكمال في فنه كما أن أحزانه قد صهرت نفسه وطهرته من أدران المادة كما أرغمته أن ينزوي وينقطع لفنه ويعيش من أجله كما خلقت في نفسه (مركب نقص) دفعه إلى طلب الكمال كما تفعل مركبات النقص والعاهات في النفوس الكبيرة التي تغالط ف حقائق الواقع وتتحدى الأقدار.
وقد وصف ذلك الكاتب الألماني بيوش وصفا بليغا قال فيه:
(أيها الساري إذا ما مررت بالقرب من داربيتهوفن في دجى الليل فلا ألتمس منك أن تسير رويدا وتقبض أنفاسك كما تهمس في أذن عشيقتك مخافة أن تزعجه ولكن سر ما بدلك وأملا الدنيا ضجيجا وغناء بصوتك الآدمي الخشن لأن (موجات) ما تحدثه من ضوضاء لا تجد طريقها إلى أذن بيتهوفن رب الألحان وإله الفن وقد ترفعت أدناه عن سماع همس النسيم يداعب ما جف من أعشاب الحقول وهديل الحمائم وتغريد البلابل وسجع الهزار فكيف الحال بصوتك الأجش المنكر؟! إن في نفسه تتفجر ينابيع الفن وتجري أنهر من اللحن العذب تروى عطاش ما جف من زرع أنفسنا فيأتي بالثمر الشهي وتجنبه جنبا هو البر والحب والجمال).
فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا
عناصر الشخصية الأدبية
للأستاذ أنور المعداوي
أريد بهذا المقال أن أحدد عناصر الشخصية الأدبية، وأن أعدد ملامحها العامة، وأن أرسم خطوطها الرئيسية. . .
وإذا ما كان هناك دافع إلى هذا التحديد، فهو دافع وزن القيم بميزانها الصحيح الدقيق، ووضع الأمور في موضعها من صدق النظرة ونزاهة القصد وهدى التائهين إلى معالم الطريق.
عناصر الشخصية الأدبية في حاجة إلى تحديد، بل ما أحوجها إلى كثير من التحديد في هذا الجيل الذي نعيش فيه. . . إنه جيل تنقصه الأداة وتعوزه الأناة، ولا يستقيم له الحكم على حقائق الأشياء في الكثير الغالب من الأحيان، ذلك لأنه يأخذ زاده من الثقافة القاصرة، ويستمد علمه من القراءة العابرة، وينساق وراء الرأي ينادي به ويدعو إليه، بلا تمحيص ولا مراجعة!
أول عنصر من عناصر الشخصية الأدبية هو الكرامة العقلية. . . وفي ظل هذه الكرامة تحتشد بقية العناصر الأخرى مكتملة ناضجة، لتصنع الكاتب الحق وتخلق الأديب الكامل. الكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب عقله وعقول الناس، فلا يقدم إليهم إلا ما يؤمن به أيمانا يقوم على القدر المشترك بين فهم وفهم، وبين ذوق وذوق، وبين أفق وأفق، في مجال التفكيروالتعبير. . . والكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب قلمه فلا يتجر بفنه، ولا يهبط به إلى ما دون المستوى اللائق بحرمة الفكر الحر ومنزلة الفن الرفيع. . .
ومن الكرامة العقلية ينبع الضمير الأدبي، ولا وجود لهذا بغير تلك، لأنها الموجهة له والرقيب عليه. . وفي الضمير الأدبي يتمثل الركن الثاني من أركان الشخصية الأدبية، ومن التقاء الركنين يتم الاتحاد في الهدف والاتفاق في الغاية، وإن اتجه كل منهما بعد ذلك في طريق.
أنا لا أنكر أحدا كما أنكر الذين يلغون عقولهم غير عابثين بيقظة الرأي العام الفني ولا آبهين لسلطانه، إنهم أشبه بالنعامة حين تخفي رأسها في الرمال لتصبح بمأمن من عين الصياد اليقظ. ولا أرثى لأحد كما أرثي لأولئك المتجرين بالفن لقاء غرض من الأغراض.
إنهم يهونون على أنفسهم ويهونون على الناس!
أما أولئك العلماء بلا ضمير، فكأني برابليه كان يعنيهم حين قال: علم بال ضمير خراب للنفس!
إنك لن تجد في مجال الحكمة الخالدة وتقرير الواقع أصدق ولا أكمل ولا أدق من هذه العبارة. إن رابليه حين نطق بها كان يشرف على الإنسانية من قمة عالية هي قمة الضمير العلمي!
ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يستقل الكاتب عن غيره في طبيعة النظرة وأصالة الفكرة وطريقة التعبير. . .
ولا نعني بذلك ألا ينتفع الكاتب برأي لغيره يتسع به أفقه أو تقوم عليه دعامة من دائم دراسته. . . كلا، وإنما نعني به ألا يكون مقلدا بغير وعي، ومرددا بغير فهم، وبوقاً ينفخ فيهمن يشاء. . . ألا يكون بتعبير أدق كتلك النباتات الطفيلية التي لا تستطيع أن تصل إلى الضوء والهواء إلا إذا تسلقت الأغصان الشوامخ؟!
أنا لا أضيق بشيء كما أضيق بتلك النباتات الطفيلية، أولئك الذين يسطون على أفكار الغير، ويعيشون في رحاب الغير. . .
ولست أدري ما هي قيمة العمل الأدبي وما هي جدواه، إذا لم يستقل صاحبه بملكاته الخاصة ويتفرد بمواهبه الأصيلة؟!
ولست أدري ما هو موقف تلك الفئة الأخرى من أصحاب المقالات المترجمة والكتب المترجمة؟ أقول لست أدري ما هو موقفها من موازين لأدب والفن؟ إنك لا تكاد تقرأ للواحد منهم مقالا إلا وهو منقول من لغة إلى لغة، ولا كتابا إلا وهو منقول من اسم إلى اسم!!
ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يكون الكاتب واسع الاطلاع رحب الأفق نافذ البصيرة، وهذا كله لا يتهيأ لصاحبه إلا عن طريق واحد هو أن يقرأ ويقرأ ويقرأ. . وحسن أن يتخصص الكاتب في ناحية بعينها، يكب عليها ويفرغ لها ويقتلها بحثا وتحقيقا ودراسة، وأحسن منه أن يقتطع من وقته وجهده ما يتيح له النظر في ألوان أخرى من الثقافات والدراسات ليكون مثقفا بأوسع معاني الكلمة حين تنطبق على المثقفين. . .
أنا لا أفهم أن يقتصر بعض الأدباء على ميدان الأدب وحده دون أن ينظروا إلى صلة
الأدب بغيره من ألوان العلم والفن، إن الأدب ليتصل اتصالا عميقا بالتصوير والموسيقى حين يلتقي معهما في مجال واحد هو مجال التعبير الفني عن قيم الجمال في الكون، ويتصل اتصالا عميقا بالتاريخ حين يبحث الدارسون عن أثر البيئات المادية والمعنوية في توجيه الإنتاج الأدبي، ويتصل اتصالا عميقا بعلم النفس حين ينظر النقاد إلى العمل الفني على ضوء المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، ويتصل بغير هذا وذاك في ميدان الروابط والعلاقات.
ولا أفهم مرة أخرى أن يقتصر بعض الأدباء على الثقافة المحلية وحدها دون أن يتزودوا بغيرها عن طريق لفة من اللغات، ولا أفهم أن يقتصر غيرهم على الثقافة الأجنبية وحدها دون أن يكملوا شخصيتهم الأدبية بروافد من تراثهم الفكري ولأصيل!
هؤلاء وأولئك لا أملك القول بأنهم مثقفون، لأن ذلك (المثقف) الذي يعرف الكثير عن تاريخ الفكر الغربي ولا يعرف إلا القليل عن تاريخ الفكر العربي، ذلك المثقف في رأي البعض ليس مثقفاً في رأي. . . وقل مثل هذا إذا ما عكسنا القضية فنقلناها من وضع إلى وضع ومن حال إلى حال!
ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر، عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابة القصة فلا يوفق، وهذا القاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يوفق، وهذا القاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصم هذا العنصر من عناصرالشخصية الأدبية عنصر الدراسة الخاصة لقيم المواهب والملكات!
وأعود فاقرر ما سبق أن قررته من أن الكرامة العقلية هي الركن الأول لذي يشرف على كل ما عداه من أركان الشخصية الأدبية. . . إن الكرامة العقلية من شأنها أن تخلق الضمير الأدبي، وأن تحول دون الاتجار بالفن، وأن تربى النزعة الاستقلالية، وأن تدفع إلى سعة الاطلاع، وأن تعين على أن يعرف الكاتب أين يضع ملكاته ومواهبه.
أنور المعداوي
الأرواح والأشباح
للأستاذ حسين مهدي الغنام
(بقية المنشور في العدد 787)
هذا بعض ما يتعلق بوجود الأشباح
أما موريس باربائل فقد كتب حديثا مقالاتعديدة تتعلق بتحضير الأرواح، وعن جلسات روحية حضرها، وعلى الأخص في تجسد الروح.
ونلخص بعض هذه المقالات فيما يلي:
قال عن جلسات تحضير الروحق أن في هذا الجلسات تتركز الخليقة في ثوان معدودة، وأن الأرواح تتشكل في هيئات الخلق، ويمكنك أن تراها مجسمة أمامك وتخاطبها وتلمسها. وأن قلوبهم لتخفق ونبضهم يضطرب، وأجسامهم وأطرافهم كاملة، حتى لترى أظافرها. ونظراتهم طبيعية، وشعورهم تختلف ألوانها كشعور الأحياء، ففيها الأشقر والذهبي والأشيب. أما أصواتهم فهي نفس الأصوات التي كانت لهم وهم أحياء. وفي بعض الحالات تتجسد الأرواح وترتدي بعض الملابس التي كانوا يلبسونها في حياتهم، ولكنه عادة يظهرون في أردية طويلة تبرز أشكالهم.
وتتجسد الأرواح بواسطة مادة (الإكتوبلازم)، التيحللت في المعامل، وهي مادة لدنة مطاطة جداً
وكما أن (البروتوبلازم) أساس مواد البناء، فإن (الإكتوبلازم) هي المادة التي تتجسد بواسطتها الأشباح.
والتجسد هو أعلى مراحل الظواهر الروحية، التي تقدم دليلاً ماديا، الغرض منه إيجاد قرينة تدل على وجود الروح.
وإذا قدر لك أن تشاهد علميات التجسد كما شاهدتها بنفسي، فستفهم سر بعض (المعجزات) التي ذكرت في العهد الجديد (الإنجيل).
ولقد وقع بين الدكتور بارنس، مطران بيرمنجهام، وبين بعض زملائه مناقشات حامية، لأن ثقافته العلمية دفتعه إلى إنكار (معجزات) الإنجيل، ولو كان له نصيب من الإلمام بالظواهر الطبيعية الحديثة، لم يكن هناك باعث لهذا الإنكار.
إن ظهور المسيح بعد الموت، الذي ينكره الدكتور بارنس ويعتبره من أساطير الأولين، لا أستبعده شخصيا، ولا يستبعده غيري من الذين أتيح له أن يشهدوا بعض الظواهر الروحية في هذه الأيام.
فإن ظهور المسيح في الحجرة العليا لتلاميذه معقول؛ لأنه في الوقع ظهر في نسخة أخرى من جسده الدنيوي، وكان جسدا صلبا كاملا، حتى إن تلميذه (توما) تشكك في حقيقته، فسئل أن يتحسس الجسد بنفسه ليتأكد.
ولم يكن في هذا معجزة إطلاقاً، لأنه ظاهرة من ظواهر التجسد الروحي.
فقد قمت بنفسي - منذ أعوام قليلة - في ويلز الجنوبية بملامسة أجسام موتى متجسدة. وكان الوسيط - آلك هاريس - وسيطا هاويا، ولم يكن محترفا يتناول شيئا عن جلساته.
وتكلم المستر باربانل بعد ذلك عن حضوره مع السيدة هيلين هيوز الوسيطة الشهيرة، بعض جلسات روحية تتجسد فيها الأرواح، وكان الوسيط ذلك الرجل.
وكان قبل كل جلسة يقوم بفحص الحجرةفحصاً دقيقاً جداً
ثم أخذ يصف الحجرة المعدة لذلك، وما فيها من أثاث بسيط جمع لهذا الغرض. . وقد ضمته الجلسة مع ستة وعشرين شخصاً آخرين، أما هو وهيلين هيوز - باعتبارهما ضيفي الشرف - فقد جلسا في مقدمة الوزارة - كما يسمون هيأة الجلسة - حتى أن أرواحا كثير متجسدة كانت تسير على قدميه!
واستمرت إحدى هذه الجلسات ساعتين ونصف ساعة، شاهدوا فيها ثلاثين روحاً متجسداً، وجلس بعضهم على مقاعد وتحادثوا مع الحضور.
أما الروح، راعي هذه الجلسة، فقد كان يسمى الكيمائي ثم قال:(وكنت في فترات متعددة أتحسس هذه الشخوص المتجسدة، فكنت أجد ذلك (الإكتوبلازم) ذا ملمس حريري ناعم، ولكنه ليس كالحرير، فإلى لي من خبرتي بالمنسوجات - إذ عملت سنين طويلة في صناعة النسيج - ما يجعلني أستطيع التمييز بين المنسوجات الحريرية بمقدرة.
ولما هززت بعض هذه الأيدي مسلما، رأيتها ثابتة وطبيعية، حتى إنني تحسست أنسجة الجلد والعظام تحته. وكانت أيديا دافئة نابضة. . .).
ثم ذكر الكاتب مشاهدات أخرى، ثم قصة الطيار دوجلاس هوج الذي قتل في معركة
بريطانيافي الحرب الأخيرة. فلما تجسدت روحه عرفتها هيلين قبل أن يذكر اسمه، إذ شاهدتها قبل ذلك مرات عديدة.
وهو شاب جميل، وقد طلب من هيلين أن تقف ليحادثها وجها لوجه، فشكرها على ما قامت به من خدمة لوالديه، إذ كانت الوسيطة بينهم، وقبل أن يذهب قبلها في جبينها، وقالت هيلين إن أنفاسه كانت حارة. . .
وكان لدى هيلين مفاجأة أخرى.
فقد ظهر دليلها الروحي، وهو من الهنود الحمر، بزي الهنود الحمر كاملا. . . وإنه لمن العسير أن يكون في هذا شيء من التلاعب.
وكان أروع ما في هذه الجلسة ظهور روح متجسد خرج وانحرف مسافة عشر أقدام، ثم حيا الحضور، ورفض أن يذكر اسمه وشخصيته قائلا أنهم لا بد يعرفونه من هيئته وصوته.
وقد عرفناه فعلا، فقد كان موظفا كبيرا ومن أكابر رجال الحركة الروحية في حياته.
ومن المستحسن أن أذكر لك أنه من النادر أن تظهر هذه الأرواح المتجسدة من وراء مثل هذه الهيئة، أو المجلس، لأن هناك حبل حياة خفيا يربطهم بالوسيط، في مثل (خلاص الطفل) الذي ذكرته التوراة، ويقطع عند الموت.
وسار هذا الموظف الميت مع آخرين إلى زاوية الحجرة، وجلس على مقعد، وبدا نقاشاً طويلا، بدا طبيعيا جدا حتى كان من الصعب أن تعتقد أنك تصغي إلى حديث بين الأحياء الموتى وكان بعض هذه الأرواح المتجسدة يقول أن عليه أن يعود إلى المجلس - أو الوزارة - ليأخذ (تموينا) آخر. . . ثم يتقهقرون ويختفون خلف الستارة الموضوعة، ثم يظهرون بعد دقائق قليلة، ويحتلون مقاعدهم التي تركوها.
ولكننعتقد أن هذه الأرواح لم تكن فراغا، فقد كانوا يستديرون لنرى ظهورهم.
وكان لهم وزن جسمي. . فقد انحنى أحدهم بساط (يعدله) بعد أن زحزحه روح مضى.
وجاء روح صيني بسحنته الشرقية وشواربه الطويلة المدلاة، وحيا سيده كان يعالجها بطريق الوسيطة.
وتجسد روح فتاة، ولكنها لم تقل شيئا، وكان الغرض من حضورها إزالة كل شك في هذه
الحقائق بطريقة صامتة، فقد كشفت عن تكوينها النسوي.
وإذا كان أحد المتشككين حضر هذه الجلسة، وبقى متشككا كان من الذين يصدق عليهم وصف الإنجيل بأنهم لا يؤمنون حتى إذا رأوا الموتى يستيقظون.
ومن العجيب أن يعزز الكاتب مقالاته بصور (فوتوغرافية) لأرواح تجسدت. ومنها روح الملكة أستريد، زوجة ليوبولد ملك البلجيك، وكانت ولية عهد السويد، وهي ابنة عم ملك السويد الحالي. وقد أخذت هذه الصورة باستعدادات فينة خاصة.
والأعجب من ذلك أن روح هذه الملكة أحضرت ووعدت الوسطاء بتجسدها بعد أيام وحصولها على صورة لها.
ثم حضر، وقالت له سيكون لكم صورة جميلة، ولما تم لهم تصويرها اختفت.
وبعد دقائق قليلة عادت فتجسدت ثانيا ووقفت مع الوسيط - وهو القسيس مارتن ليلجيبالد، وهو شخصيه محترمة جداً - وكانت وقفتهما بجانب فتحة الستار، حتى يستطيع أحدهما مشاهدة الآخر.
ولما قابل هذا القسيس ملك السويد وحدثه عن تجاربه في الجلسات الروحية، قال الملك: إن هناك أشياء اكثر في السماوات وفي الأرض.
ومن الأشياء العجيبة كذلك التي قدمها بارانل، توقيع روح باسمه، كتوقيعه أيام حياته، ودلائل مادية أخرى كتصوير الروح فوتوغرافيا. . .
ومن هذا القبيل أيضا الكتاب الضخم الذي وضعه الصحافي الإنجليزي الأشهر - هاتي سوافر - بعنوان قصتي الكبرى وقد ترجم بعضا منه الدكتور مصطفى الديواني.
هذا إلى جانب عشرات العشرات من الكتب والمجلات التي تبحث في الروح وكل ما يتصل بها، في الغرب المادي. أما تحضير الأرواح في مصر فقد قرانا عنه كثيرا، وسمعنا عنه كثيرا من بعض أصدقائنا المشتغلين به، ولكن لم يتح لنا إن نحضر إحدى جلساته.
وأما وجود الأشباح هنا، فنسمع عنها مئات من الحكايات المصرية. ولكني أذكر الحكاية التالية التي وقعت لنا شخصيا ولم نستطع لها تعليلا حتى اليوم:
كان ذلك منذ سبعة وعشرين عاما. وكان والدي وابن عمته مدعوين في زواج ابن عمدة إحدى القرى التي تبعد عن بلدنا حوالي عشر كيلومترات. فصحبني والدي معه وصحب
ابن عمته ولده وكان في مثل سني، وكانت ثماني سنوات.
وطالت السهرة، وكان المدعوون كثيرين جدا من مختلف القرى المجاورة، وكان لدى بعضهم مطايا، والبعض بدون مطايا وكانت مطايانا عادت إلى البلدة.
وبعد انتصاف الليل أراد ابن عمة والدي أن يعود إلى بلدنا، فقال أبي لننتظر حتى الصباح إلى أن تيسر لنا مركب. فقال الحاج لوالدي: إن الوقت صيف، وإذا عدنا سائرين على أقدامنالم نشعر بتعب فالجو جميل جداً. . .
ولم يستطع والدي إقناعه بالعدول عن الرجوع في تلك الساعة. وسرنا، ولكن بعد خروجنا من القرية قال والدي:(أمرنا الله. . . من استخف عقله تعبته رجليه!)
وكان على بعد ثلاثة كيلومترات أو أقل من بلدنا، (وأبور مياه) مهجورة، وعلى بعد منه مقبرة للمسيحيين. والجسر مرتفع، وأراضي منخفضة على كلا الجانبين انخفاضا يبعث في النفوس شيئا من الرهبة، وكان أعواد الذرة في كل مكان مرتفعة بين الأشجار البعيدة، والدنيا ساكنة. . .
فلما اقتربنا من ذلك (الوابور)، وكان القمر بدار تقريبا، وكان الوقت حوالي الساعة الثالثة صباحا، رأينا امرأة قميئة متشحمه بالسواد تصعد من بين الحقول إلى الجسر، وتتجه إلينا من بعيد، وكانت تلف وجهها، وتضع على رأسها (طشتا) كبيرا جدا من النحاس، لا يتناسب مع حجم جسمها الصغير
وقابلتنا وهي ما زالت تخفي وجهها، ولكني لاحظت أن والدي لم ينقطع عن قراءة القران منذ لمحها. ولما مرت بنا ومررنا بها سمعناها تقول نفس الكلمة التي قالها والدي عند خروجنا من تلك القرية:(من استخف عقله تعبته رجله!)
وأراد الحاج أن يقف ليخاطبها وهو يصيح: ماذا تقولين يا ست؟ ماذا تقولين؟
ولكن والدي جذبه، وهو ما زال يقرأ القرآن بصوت مسموع، وقال الحاج: أنها حماة (مبيض النحاس) في البلدة
فقال والدي: وما الذي يأتي بها إلى هنا في هذه الساعة، وفي ذلك المكان بالذات؟ يا شيخ، أسرع بنا!
وعاد إلى قراءة القرآن. . . .
ونظرنا خلفنا فرأينا تلك السيدة قد جلست وسط الجسر، وأخذت تجمع التراب من الجسر وتضعه في (الطشت) الكبير.
ولم يكن هناك مساكن قريبة، بل كانت المسافة بيننا وبين أقرب مسكن، ما بين اثنين أو ثلاثين كيلومترات.
وأخذ والدي بعد أن وصلنا بلدنا، يتكلم عن كثير من الأشباح والعفاريت في ذلك المكان. . . وعما شاهد من قبل فيه وفي غيره.
ولكن لم أفهم تعليلا آخر لهذه الحادثة حتى الآن!
وبعد. . . . فقد قدمنا بعض ما قرأنا في هذه الأيام عن وجود الأشباح والأرواح.
فهل وجود الأرواح، وبالتالي تحضيرها واتصالها بالآدميين، حقيقة أم وهم؟
وهل معقولة كل هذه الأشياء؟
وإن لم تكن معقولة، فما هو تعليلها وبعض العلماء الماديين أنفسهم يجزمون بصحتها؟
وإذا صح كل هذا، فما هو التأثير الذي سيكون له على نظرية فرويد في تفسير الأحلام؟ أنه سيقلبها رأساً على عقب، فلن تعود تلك الأحلام تفسر على أنها صورة من شهواتنا في اليقظة تتراءى لنا في عالم الأحلام، لأنها هنا اتصالات روحية، وليست مادية.
وسيؤثر ذلك أيضاً على المتواتر من علم تفسير الأحلام، والرؤى الذي يتاجر به بعض (الفلكيين وقراء الكف وعلم التنجيم!)
ومن يدري؟
منذ آلاف السنين، منذ أن كان الإنسان يعبر عن نفسه وفكره بالإشارة والنحت - في العصر الحجري - إلى عصرنا هذا الذي استطاع فيه العلم المتقدم أن يصور الروح بآلة التصوير ما زال العلم يتخبط في إدراك ماهية الروح وكنهها. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز:(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، صدق الله العظيم.
حسين مهدي الغنامأأاا
الفتوة في اللغة وكتب الأدب
وحياة الفتيان في الجاهلية وعصور الإسلام
نقص قواميس اللغة العربية وقصورها عن تحديد المعاني
للأستاذ ضياء الدخيلي
في العدد (784) من مجلة الرسالة الغراء انتقد الأستاذ محمد عبد القادر الجمل استشهادي بأبيات المتنبي وابن هرمة لإثبات معنى (فتى) في لغة العرب وهذان الشاعران وإن كانا من المولدين إلا أنهما مما يحتج بهما، وهذه كتب اللغة مفعمة بالاستشهاد بأبيات ابن هرمة في إثبات معاني الألفاظ، وقد قال شارح لديوان الحماسة جمع أبي تمام (إن ابن هرمة آخر الشعراء الذين يحتج بقولهم) وابن هرمة هو إبراهيم بن علي ابن سلمة ابن هرمة بن هذيل جاء في (بلوغ الأرب) أن أبا عبيده كان يقول افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بابن هرمة وإنك لواجد الاستشهاد بشعره في كتب اللغة من ذلك أنهم استشهدوا في مادة سلا السمن إذا طبخه وعالجه فأذاب زبده يقول ابن هرمة
إن لنا صرمة مخيسة
…
نشرب ألبانها نسلؤها
وأورد الجوهري في الصحاحفي (هيد) عن أبي عمرو قول ابن هرمة.
حتى استقامت له الأفاق طائعة
…
فما يقال له هيد ولا هاد
و (هيد وهاد) زجر للإبل وما رأيك فيمن منحه الجوهري ثقته؟
وإني لم أورد بيته شاهدا باختيار تعمدته، ولكن ذلك جاء ضمن كلام لابن منظور الأفريقي نقلته من كتابه (لسان العرب) فهو الذي احتج بكلام ابن هرمة واستشهد بشعره وفي الأغاني أن ابن هرمة ولد سنة تسعين وأنشد أبا جعفر المنصور في سنة (140) قصيدته التي فيها.
إن الغواني أعرضن مغلبة
…
لما رمى هدف الخمسين ميلادي
قال ثم عمر بعدها مدة طويلة وفيه أخبر علي به سليمان النحوي عن ابن الأعرابي انه كان يقول ختم الشعراء بابن هرمة وفيه وفي كتاب (الشعر والشعراء) أن الأصمعي عده في خمسة ختم بهم الشعراء فيرأيه. فها أنت تجد اعتداد علماء اللغة بشعره ولو لم يكن فصيحا
لما اقبلوا عليه.
وأما المتنبي فالويل لناقده من غضبته، لقد جحدت يا أستاذ آيات المتنبي وكفرت بشريعته الأدبية، فأحذر شواظ غضبة ذلك العبقري الذي تولج بأكاليل الخلود والذي صرخ في العصور
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
فآمن من بعبقريته حكيم المعرة وأبصر جلاله على عمايته فأهدى للأدب (معجزة أحمد) ومن قبلنا بأزمان وأزمان قال العباسي في (معاهد التنصيص) لقد كان المتنبي من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل أن الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوما كم لنا من الجموع على وزن فعلى فقال المتنبي في الحال حجلي وظربي. قال الشيخ أبو علي فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة قال العباسيورزق المتنبي في شعره السعادة واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه حتى قيل أنه وجد له ما يزيد على أربعين شرحا وقال فيه أبو القاسم الطبسي:
ما رأى الناس ثاني المتنبي
…
أي ثان يرى لبكر الزمان؟
هو في شعره نبي ولكن
…
ظهرت معجزاته في المعاني
وحكى أن المعتمد بن عباد صاحب قرطبة وأشبيلية، أنشد يوما في مجلسه بيت المتنبي الذي هو من جملة قصيدته المشهورة وهو:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة
…
أثاب بها معي المطي ورازمه
وجعل يردد استحسانا له وفي مجلسه بن وهبون الأندلسي فأنشد ارتجالا.
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما
…
تجيد العطايا واللُها تفتح اللَها
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى
…
بأنك تروي شعره لتألها
واللها بالضم العطايا وبالفتح جمع لها الحلق.
وما تقول يا أستاذ في ابن هشام إمام النحاة، لقد استشهد بشعره في كتابه شرح قطر الندى في النحو، واتخذ شاهدا في بحث الندبة قوله في سيف الدولة:
واحر قلباه ممن قلبه شيم
…
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ولا أكتمك أنه انتقده أيضا وخطأه في بيت له وذلك في بحث (عمل لا النافية عمل ليس) إذ قال وغلط المتنبي في قوله:
إذا الجواد لم يرزق خلاصا من الأذى
…
فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً
والشاهد في (لا) في الموضعين فإن المتنبي أعملها عمل ليس مع تعريف اسمها في الموضعين وذلك غلط لاشتراط كون اسمها وخبرها نكرتين، ومع ذلك فإن للمتنبي جلالا لا يهدم في اللغة ونحن لم نستشهد بشعره وشعر ابن هرمة لإثبات المعنى، وإنما جئنا بهما لتأكيد، ما دل عليه شعر طرفة ولا ريب أن ذلك مما لا يؤخذ عليه وفرق بين التأسيس والتأكيد وأنت أيها الأستاذ الناقد المحترم قد أسأت إلى المتنبي عندما أنكرت علينا أن نحتج بروائع أبي الطيب في تفهم لغة العرب الأصيلة المنزهة من تلويث المولدين والأعاجم والمتنبي العربي لو كان حيا لتناولك لهيب انتقامهولسير قصيدة في هجائك ترتعد لهولها الفرائص فكفر عن كفرك بآياته الخالدة وجحودك لعبقريته الفذة، أما سمعت بقصة أبي علي الحاتمي عندما تحرش به وتعرض له إذ قدم بغداد فتاة اعتزازا بأدبه وأبدى من الكبرياء والعظمة ما أسخط عليه البغدادين فانتقده الحاتمي ثم خشي بطشه قال (ثم عمرت ما بيني وبين المتنبي وخفته بالحقيقة أن يشتغل بي دون كل أحد فحداني ذلك إلى كتابة الأبيات من شعره المقابلة لما قال الحكيم أرسطاطاليس وهي الجامعة لجواهر شعره وقدمتها هدية إليه حسن الحال بيني وبينه) وعلى كل فإن أبيات المتنبي يعتمد عليها في تفهم معنى مفردات اللغة، هذا ما أردنا بيانه بالنسبة لما تفضلتم به عن هرمة والمتنبي، أما الأبيات الأخرى فقد استشهد بها كبار علماء اللغة في أهم الموسوعات اللغوية المتداولة، وقد ذكرت كتبهم التي أخذت منها وهم الزمخشري في الأساس وابن منظور في لسان العرب وصاحب تاج العروس، ولا ريب أن ما احتج به هؤلاء الفطاحل يصح لي أن أتبعهم في الاحتجاج به واذكره شاهدا. وإن لم أعرف قائله، وقد غمزتني بأني أوردت تلك الأبيات المجهولة القائل مع ذكر من وثق بها من كبار اللغويين ولا يهمني بعد ذلك أن يكون قائلها جاهليا او مولدا واستثني من ذلك البيت التالي علم آخذه من كتب اللغة وإنما وجدته في (حلبة الكميت) تأليف النواجي شمس الدين محمد بن الحسن إذ أورده ثاني بيتين لم يذكر قائلهما هما:
كن ابن شئت واكتسب أدباً
…
يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
…
ليس الفتى من يقول كان أبي
هذا وليتذكر الناقد المحترم أنني أوردت تلك الأبياتفي نقض قول الأستاذ محمود رزق (وبدهي أن معنى فتى لا يغيد لغة معنى شهم) ومع ذلك يصح لي أن أستند إلى قولي المتنبي وابن هرمة إذا استعملا فتى في معنى شهم فإن لغة عصرهما الأدبية الجارية في الشعر مما يعتد به.
ولإكمال البحث أورد لك نصوصا أدبية أخرى قد لا يأتي جملة منها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وقد استعمل فيها (فتى) في معنى الشهامة، فقد جاء في هامش بلوغ الأدب أن سعد بن مالك بن ثعلبة جد طريفة بن العبد قال:
والحرب لا يبقى لج
…
احمها التخيل والمِراحُ
إلا (الفتى) الصبار
…
في النجدات والفرس الوقاحُ
الحاجم من الحرب: معظمها وشدة القتل في معاركها، تخيل الرجل تكبر، والمراح الاسم من مرح الرجل إذا اشتد نشاطه وفرحة بطر واختال.
وفي بلوغ الأرب قال عمرو المحاربي من عبد القيس:
سقى جدث (الريان) كل عشية
…
من المزن وكاف العشى دلوح
أقام (لفتيان) العشيرة سهوة
…
لهم منكح من جريها وصبوح
فيا من رأى مثل الهراوة منكحاً
…
إذا بل أعطاف الجياد جروح
(الجدث محركة الفبر والوكاف المطر المنهل والمزن السحاب الواحدة مزنة سحابة، دلوح كثيرة الماء، والسهوة الفرس السهلة، والصبوح بالفتح شرب الغداة) فالشاعر هنا جعل الرابطة بني الفتيان الفروسية والخمر والنساء، وذلك ما اعتبره من الفتوة - طرفة في معلقته قال الألوسي أن الريان هذا الذي رثاه الشاعر كانت له فرس لا تدرك تدعى (هراوة الأعزاب) لأنه تصدق بها على أعزاب قومه فكان العزبمنهم يغزو عليها فإذا استفاد مالا وأهلا دفعها إلى آخرمن قومه فكانوا يتداولونها فضرب مثلا، وهذا ما يريده الشاعر بقوله أنها منكح لهم، وذلك لأنهم يسبون النساء بفضلها كما كانت عادة العرب في الغزو والغارات والسبي.
وروى في بلوغ الأرب عن الأغاني أن كلا بابن أمية هاجر إلى المدينة في خلافة عمر بن
الخطاب (رض) فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة والزبير فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالا الجهاد فسأل عمر (رض) فأعزاه في جيش، وكان أبوه قد كبر وضعف، فلما طالت غيبته قال في قصيدة يصف شوقه وحنين أم كلاب لابنها.
إذا سجعت حمامة بطن وج
…
إلى بيضاتها دعواً كلاباً
تركت أباك مرعشة يداه
…
وأمك لا تسيغ لها شراباً
فبلغت عمر (رض) فلم يردد كلابا فاهتز أمية وخلط جزعا عليه ثم أتاه يوما وهو في مسجد الرسول (ص) وحوله المهاجرون والأنصار وأنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير علم
…
وما تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلة فردي
…
كلاباً إذ توجه للعراق
ولم أقض اللبانة من كلاب
…
غداة وآذن بالفراق
(فتى الفتيان) في عسر ويسر
…
شديد الركن في يوم التلاقي
فهو يرى الفتى ذلك البطل القوى والفارس الذي لا يهاب (واللبانة الحاجة وآذنه بالأمر أعلمه به وقوله سجعت حمامة يعلن وج سجعت الحمامة هدرت وصوتت ووج اسم وادي بالطائف وقوله لا تسبغ الشراب أي لا يسهل مدخل الماء إلى بلعومها ولا تقدر أن تبتلعه لكربها وشجوها قال عبد الله بن يعرب بن معاوية:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
…
أكاد أغص بالماء الفرات
وروى السيد المرتضى في أماليه لشاعر يبكى على قتلى بدر من المشركين) ولا بدأن يكون جاهليا:
فماذا بالقليب قليب بدر
…
من (الفتيان) والشرب الكرام
وماذا بالقُليب قليب بدر
…
من الشيزي يكلل بالسنام
قال المرتضى: القليب هي البئر وأهل القليب جماعة قريش منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه والوليد بن عتبة، وقال في المنجد الشرب بالفتح جمع شارب. وفي الأمالي قال بشر بن أبي خازم لابنته عميرة:
فمن يك سائلا عن بيت بشر
…
فأن له بجنب الردَم بابا
ثوى في مَلحَد لا بد منه
…
كفى بالموت نأياً واغترابا
رهين بلى وكل (فتى) سيبلى
…
فأذرى الدمع وانحبى انتحابا
وظاهر أنه يريد كل رجل طيب كريم سيناله البلى، وروى المبرد في الكامل قال رجل من الخوارج في قتلي إحدى معارك المهلب والخوارج.
بسلي وسليري مصارع (فتية)
…
كرام وجرحى لم توسد خدودها
وقال آخر:
بسلي وسليري مصارع (فتية)
…
كرام وعقري من كميت ومن ورد
(قال الأخفش سلي وسليري بفتح السين فيهما موضعان بالأهواز) وقال المبرد ارتحل المهلب والخوارج بسلى وسليرى فنزل منهم فقيل منهم، فقيل ما تنظران بعدوكم وقد هز متموهم بالأمس وكسرتم حدهم؟ الخ وأورد النويري في (نهاية الأرب في فنون الأدب) الأبيات للهذلي.
ألا لله درك من
…
فتى قوم إذا رهبوا
قالوا من (فتى) للحرب
…
يرقبنا ويرقب؟
فكنت (فتاهم) فيها
…
إذا تدعى لها تثب
وفي الأغاني أن أبا زبيد يمدح الوليد بن عقبة:
لعمر أبيك يا ابن أبي مرىٍ
…
لغيرك من أباح لها الديارا
أباح لها أبارق ذات نور
…
تُرعَّى القف منها والعرارا
بحمد الله ثم (فتى قريش)
…
أبي وهب غدت منها والعرارا
أباح لها ولا يحمى عليها
…
إذا ما كنتم سنة جزارا
يريد جزارا من الجدب والشدة
فتى طالت يداه إلى المعالي
…
وطحطحتا المقطعة القصارا
(الأبرق هو البرقة إذا اتسعت وهي أرض غليظة فيها حجارة ورمل وطين مختلفة، وتنبت إسنادها وظهورها البقل والشجر نباتا كثيرا يكون إلى جنسها الروض أحياناً: والقف م يبس من البقول تناثر حبه وورقه، فالإبل ترعاه وتسمن عليه والعرار نبت أصغر طيب أرائحة. وقيل هو بهار البحر واحدته عرارة: وغزارا جمع غزيرة وهي من الإبل الكثيرة اللين: وطحطح الرجل ماله فوقه، والمقطعة الثياب القصار وهي برود عليها الوشي) وقد
قال في الأغاني عن الوليد بن عقبة هذا أنه أخو عثمان بن عفان (رض) لأمه وكن من (فتيان قريش) وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم، وكان فاسقاً ولى لعثمان (رض) الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فشرب الخمر وشهد عليه فحده وعزله وفي الأغاني أن الخطيئة قال يمدح الوليد هذا بعد أن وصله وكان جواداً:
أرى لابن أروى خلتين اصطفاهما
…
قتال إذا يلقى العدو نائله
(فتى) يملأ الشيزى ويروى بكفه
…
سنان الرديني الأصم وعامله
يؤم العدو حيث كان بجحفل
…
يصم السميع جرسه وصواهله
إذا حان منه منزل الليل أوقدت
…
لأخراه في أعلى البقاع أوائله
(الشيزى خشب أسود تعمل منه القصاع أي أواني الطعام وبطلق على ما صنع من ذلك، والرديني الرمح نسبة إلى ردينه وهي امرأة رجل اسمه سمهر كان يبيع الرماح بالخط (موضع) فإذا غاب باعت ردينه مكانه وكانا يثقفان الرماح أي يقومانها ويسويانها فالردينه منسوبة إلى ردينه والسمهرية إلى سمهر، والخطية إلى موضعها، وعامل الرمح هو صدره، وقال في المنجد الخطى الرمح المنسوب إلى الخط وهو مرفأ بالبحرين حيث تباع الرماح؛ واليفاع كسحاب التل).
وروى ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الشابشتي أن الحجاج غضب على هند بنت النعمان لكلام خشن وجهته إليه، فأمر بإخراجها من ديرها القريب من الكوفة فأخرجت ومعها ثلاث جوار من أهلها، فقالت إحداهن:
خارجات يسقن من دار هند
…
معلنات بذلة وهوان
ليت شعري؟ أأول الحشر هذا
…
أم محا الدهر غيرة (الفتيان)
فشد فتى من أهل الكوفة على فرسه فاستنقذهن من رسل الحجاج وتغيب فبلغ الحجاج شعرها وفعل الفتى فقال إن أتانا فهو آمن، وإن ظفرنا به قتلناه فاتاه، فقال له ما حملك على ما نعت؟ قال الغيرة فوصله وخلاه وفي كتاب الحماسة للبحتري قال عمرو بن مالك البجلي:
إذا شئت أن لا يبرح الود دائماً
…
كأفضل ما كانت تكون أوائله
فآخ (فتى) حراً كريماً عروقه
…
حساما كنصل السيف حلواً شمائله
فذاك الذي يمنى لواشيك جده
…
ويكفيك من لهو الكواعب باطله
ويحمل ما حملته من ملمة
…
ويكفيك طلق الوجه ما أنت سائله
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي
عالم الغيب
الجن في منطق الأساطير
للشيخ محمد رجب البيومي
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
…
رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن
(أبو العلاء)
يتطلع الإنسان للأسطورة في تلهف، ويطالعها مرات عديدة في تشوق، وهي على غرابتها وافتعالها تبعث في العقل نشاطا موفوراً، وتخلق في النفس متعة حبيبة. وقد رزقت الأسطورة في الغرب مكانة ممتازة، فوضعت لها الأسفار المتشعبة شارحة جامعة، وخدمتها الأقلام القوية محللة ممللة، فهذا باحث يستنبط منها المعنى الخفي، فإذا تعذر فهمه خلقه اختلافاً، وانتزعه انتزاعاً، وهذا روائي يلونها بأصباغ فاتنة، فيخلع عليها من خياله الرائع حلة زاهية، وهذا سمير يطرف بها أصحابه، فينفث في المجلس روحا مرحة تخلب الأفئدة، وتسرى عن النفوس، ولا كذلك الأسطورة العربية، فهي من قومها في هم ناصب، وشجو مبرح، فإذا تعرض لها من بني الضاد باحث أو قصصي أو سمير قوبل بكثير من الاستخفاف، وربما منى بمن يطعنه في ذوقه وعقله. لو دونت الأساطير العربية في سفر واف ورزقت من يتوفر على دراستها دراسة منتجة مركزة، لكان لنا منها - كما أعتقد - معين رائق، وكنز نادر ثمين.
ونصيب الجن من الأساطير عظيم موفور، فقد وضع المتقدمون عن القوم طرائف خالدة، يطالعها القارئ فيضطر اضطراراً إلى تكرارها وإعادتها، لأن الجن من العوالم الغيبة المجهولة، فكل نفس تتوق إلى استيضاح اسرارهم، والوقوف على أساليبهم في السعي والكدح وما من إنسان تنسم ريح الحياة إلا غذى في طفولته بعجائب مدهشة عن الجن، فردت على سمعه الغض أحاديثهم المتوهمة، ونوادرهم المتعددة، حتى إذا شب عن الطوق شبت معه هذه الطرائف، فتصور الجن أبطالا مغاوير يهابهم الإنس، ويذعنون لسلطانهم العتي، وأنت تسأل عن سبب هذا كله فلا تجد غير الأساطير القديمة، تلك التي نمت وترعرعت في نفوس العامة، حتى أصبحت بتوالي الزمن من حقائق ثابتة، يلقنها الصغير
في المهد، فلا تبارح مخيلته حتى يغط في رقاده الأبوي العميق!!
ولا نجد بأيدينا من المصادر المعتمدة فيما يتصل بالجن غير ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فقدذكر الله عز وجل في كتابه بعض ما كان يعتقده الجن، حيث كانوا يعوذون برجال منهم إذا ضربوا في البيداء واشتمل عليهم الظلام حذروا مما يتأكدونه من بطشهم العارم، وقوتهم الخارقة، كما ذكر إيصال الجن بالسماء قبل البعثة النبوية، فيسترقون السمع، ويتنبئون بالغيب، وبين - جل ذكره - كيف حرم عليهم الاستراق. فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. ولك أن تفهم من ذلك سلطان الجن على الإنس، وكيف شغلوا جانبا من تفكير الأعراب وتأملهم، فلا غرو أن وضعوا عنهم الأساطير وأكثروا من نوادرهم العجيبة، فيما سجلته عليهم كتب الأدب وصحائف التاريخ!!
والجن في كل زمان ومكان لغز مبهم تبذل الجهود الدائبة في حله فلا تستطيع أن تفك غامضة. ومن التوافق العجيب أن الأساطير الدائرة حول هذا النوع من المخلوقات، تكاد تكون متحدة متشابهة، فكما تزعم الأساطير العربية قدرة الجن على التشكل والتنوع، وملازمتهم الأمكنة الخالية، وظهورهم مع الأشباح في حندس الليل، كذلك نجد الأساطير الأوربية تؤكد هذا الزعم، واقرأ إن شئت ما سطره شكسبير في روايتي:(العاصفة)(وأبيرون) تجد حديثا مسهبا عن الجن لا يكاد يخرج عما تطالعك به الخرافات البدوية، بل عما سمعته في طفولتك من العجائز الأميات!! اللهم إلا بعض اختلافات يسيرة تحتمها طبيعة المكان، وظروف المناخ. فالأخبار العربية (مثلا) تؤكد ظهور الجن بكثرة في الفيافي والقفار، والأساطير الأجنبية تعلن وجود هذا النوع في أعماق المحيطات، وشواطئ البحار. وقد يكون ما ذكرناه من التشابه راجعا إلى اتفاق المصادر السماوية في الحديث عن الجن، فكانت عنصراً هاما للتوليد والاستنتاج ويجب أن لا ننسى أن ثقافتنا الحديثة، قد وقفت حائلا منيعا أما أساطير البدو عن الجن وسائر الكائنات الغيبية، فلم تصادف من الذيوع ما صادفته الخرافات الأجنبية، لأن القريحة العربية الحديثة التي ارتوت بفيض زاخر من العلوم العقلية تزن كل حديث بميزان المنطق، فما رفضه الفكر السديد حاربتة وفندته، ولكن الغربيين قد احترموا الخيال كما احترموا الحقيقة على السواء فهم مع تسليهم بوهم هذه الأساطير قد اتخذوها مجالا للعبرة والعظمة، فاستنبطوا منها المغزى الخلقي، والمرمى
الإنساني. وقد تكون الأسطورة تافهة لا تهدف إلى غرض، ولعل واضعها أبله غر نطق بها كما اتفق له، ولكنهم يكدحون أذهانهم في التحليل والاستنتاج حتى يظفروا بما يريدون، أما الذهن العربي الحديث فقد احتقر هذه الأساطير احتقارا تاما، ورمى قائلها وسامعها معا بالجنون والغفلة، وأنا لا أدري لماذا لا نجعلها من قبيل الأمثال الفرضية الذائعة في الأدب الجاهلي، فنسلم أولا بوضعها، ثم ندلف إلى استنتاج العبرة من حوادثها كما يفعل الأوربيون سواءبسواء؟. .
وعلى أن اكثر هذه الأساطير تهدف إلى الشجاعة والمروءة وما إليهما من الشمائل التي تشربها البدوي، وسرت في عروقه مع الدم في مجرى واحد، فكان علينا أن نجعل منها أداة صالحة للتهذيب والتعليم فتضم إلى غرابة المنحى وطرافة التفكير، روعة المغزى وجمال الهدف، وإليك هذا المثال مع الإيجاز.
خرج عبيد بن الأبرص إلى الصحراء في نفر من صحبه فسد عليهم الطريق شجاع أسود قد فتح فمه فتدلت مشافره كالبعير، وكان غريب الخلقة ترمى عيناه بالشرر حتى ما يطيق أحد ان ينظر إليه، وقد احترق جانباه من الرمضاء فاصطبغا بلون مرعب، فصاح القوم بعبيد: دونك هذا الجني فاقتله، ولكن الشاعر عمد إلى إداوة من ماء فصبها عليه، فانفتل إلى حجره شاكرا قانعا، ثم سار القوم فقضوا حوائجهم وقفلوا راجعين، غير أن عبيدا قد أضل بعيره، فسدت السبل في وجهه وداهمه الليل بكلكله الثقيل، فوقف متحيرالا يدري ما يصنع في ظلام البيداء إذا بهاتف من عدوة الوادي يصيح
يا صاحب البكر المضل مركبه
…
دونك هذا البكر منا فاركبه
فالتفت الرجل فإذا بكره بجانبه، ومعه بكر آخر يرشده إلى الطريق، فركب والخواطر تملأ فؤاده ورأسه، إذ يفكر في صاحب هذه اليد البيضاء، من هو؟ وكيف اختصه بالرعاية؟ ولكن الهاتف لا يتركه يمعن في شعاب أوهامه بل يصيح:
أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاء
…
في رمله ذات دكداك وأعقاد
فالخير أبقى وإن طال الزمان به
…
والشر أقبح ما أوعيت من زاد
فعلم الشاعر أن الجميل قد رد إليه وأوفاه، فأخذ السير إلى مقصده في فرح وابتهاج!!
فماذا تقول عن هذه الأسطورة؟ إننا نتعب أنفسنا في إنكار وقوعها، كأنه - وهو الواضح
البديهي - مجال فسيح للنقاش والجدال، أما أن نستخرج منها المغزى الرائع، فنبين لقارئها كيف ينفع المعروف صاحبه فهذا ما لا تفكر فيه على الإطلاق، فلا عجب أن ضاعت لدينا قيمة هذه الأساطير!!
وقد يدهش القارئ لازدحام الأسفار الأدبية بأقاصيص الجن، بل ربما تعجب ممن عكفوا على اختلافها عكوفا دائبا، والحق أن هناك عوامل قوية فرضت هذا العكوف فرضا لازماً، حيث كان الواضع يجد في عمله مغنما وافرا يدفعه إلى الاستزادة والتوليد، فكثير من الناس - كما أسلفنا - يحرص على الإلمام بما في العوالم المجهولة من أسرار، وكأنه غضب أن يقف علمه عند ما يقع تحت سمعه وبصره، فعمد إلى استنطاق الأساطير وجمع الخرافات، وخاصة إذا كان فيما يحصله من الغرابة والطرافة ما يدعو إلى استيعابه، فهو يلجأإلى من يتوسم فيه المعرفة، فيمتعه بنادرة معقولة تدخل في هذا الباب، وما تلبث أن تسير بها الركبان من مكان إلى مكان، وهي في كل دقيقة تتزايد وتعظم، ويجري فيها الخيال الخرافي مطلق العنان حتى تخرج من دائرة المعقولات إلى حيز المحالات، وأنت تقرأ الأسطورة الجنية في كتاب متقدم فلا ستغربها، ثم تجدها انتقلت إلى كتاب آخر وقد اكتسبت كثيرا من المبالغة والتهويل فتفق عندها كالمستغرب، فإذا انتقلت إلى سفر ثالث بدت صورة مجرفة مضخمة، تتناكر مع الصورة الأولى تمام التناكر، فإذا كان التأليف المفيد لا يسلم من الافتعال الملموس، فما بالك بالسمر الذي لا يعرف القيود والحدود بل ينطلق من الأفواه كما شاء الخياليون. ومهما يكن من شيء فإن الأسباب الدافعة إلى الاختلاق لا تخرج عن عوامل ثلاثة: دينية، مادية، خلقية. وماذا نصنع وقد تكون لنا ثالوث مرح ساذج يمتع الأفئدة ويرفه عن النفوس!!
ونحن بادئون بالحديث عن العامل الديني، فنذكر أن مفسري القرآن ورواة الحديث، وأصحاب السير، قد ساهموا بنشاط وافر في هذا الميدان، فقد عولوا جميعا على استهواه العامة بما يقصون من أنباء، كما وقع في نفوسهم أن الغابة تبرر الوسيلة، فلا عليهم إذا وضعوا التفاسير الكاذبة، ولفقوا الأحاديث الموضوعة، ما دامت تجذب إليها القلوب وتدفع سامعها إلى الإيمان والتصديق، فإذا أراد أحد هؤلاء يحض على الصدقة - مثلا - لجأ إلى الخرافات المزعومة فأسهب فيها كما أراد، ثم لا ينسى أن يخص الجن بنبذ كريمة من
وعظة، فينتقل عن الحاكم بإسناده ما ملخصه أن أبى بن كعب رأى شبحا يأكل من تمرة، فقال له من أنت؟ وأمسك بيده فإذا هي كف كلب، فصاح به أجني أم إنسي؟ فقال بل جني! قال وما حمل على ذلك؟ فقال له: لقد علمت أنك تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك لتثاب من الله، ثم أخبر الرسول بذلك فقال: صدقك الخبيث.
وإذا أراد أحدهم أن يدفع الناس إلى الاستغفار، وذكر الله لا ينسى أن يلم بحديث الجن فيذكر جانبا من استغفارهم وأدعيتهم، ويزيد فيحكى من الأخبار الملفقة مال نجد داعيا لنشره على القراء. وقد يبالغ بعضهم فيخص آيات من القرآن بفوائد نافعة هي إبعادها الجن عن كل مكان تقرأ فيه، وفي حياة الحيوان الكبرى للدميري صفحات مملوءة بهذه الأعاجيب!! وقد نسب أكثرها زورا وبهتانا إلىرسول الله، وليت شعري ما نقول لهؤلاء الذي أسدلوا على عقلوهم حجبا كثيفة حين اتعبوا أنفسهم في تسطير هذا الهراء.
على أن وضاع الحديث لم يبلغوا شأو رواة السير في هذا المضمار، فقد تفنن الأقدمون من المؤرخين في اختراع الأوهام الباطلة، أو على الأقل في تسجيلها بكتبهم المتداولة دون مناقشة أو تعليل، فما من كاتب متقدم بذكر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا تعرض لما قالته الجن في ذلك الشعر!! وما أوحته إلى الكواهن من غريب الأنباء. وقد يستغل كثير منهم ما ورد في القرآن عن الجن فيفسره كما يمليه هواه، وما ظنك بتفسير مشوه، لا يعمد إلى إيضاح المعنى وتركيزه بل يحيطه سياج مديد من الأساطير، كأن كتاب الله وصحف السيرة لا تفهم بغير هذه المحالات؛ وقد زعم بعضهم أنه ركب بحر الخزر فضللت ريح الشمالمركبه حتى بلغ جزيرة قاحلة ليس بها أنيس، فشاهد شجرة ضخمة قد استند إليها شيخ هائل، فتقدم إليه، فسأله الشيخ من انت؟ فقال من العرب؟ فجعل يسأله عن الجرهمي وعن فلان وفلان، حتى انتهى إلى عبد المطلب فسأله عن ابنه محمد الهادي، فقال له: قد مات منذ زمن، فشهق شهقة عظيمة، وانتفض كالفرخ، ثم أخذ ينوح ويبكي، وقال أنا السفاح بن الرقراق الجني، أعرق التوراة والإنجيل، وقد اختبأت في هذه الجزيرة يوم أن أطلقت الطوالق المقيدة، من وقت سليمان وكنت اطمع أن أرى محمداً، فإذا رجعت إلى المدينة، فأقرأ السلام على قبره وبلغه أطيب التحيات)!!
فهذه أسطورة مقتضية من مئات تدور حول التبشير بنبوة الرسول، ولا أدري كيف كانت
تقابل من السامعين بالارتياح، وكيف أبقى عليها الزمن فخلدت في بطون الأسفار؟ وليس بعيدا أن نرى في العصر الحاضر من يتعصب كمعجزة خارقة؟ وكم في الناس من أغبياء!
ويجب أن يفهم أننا لا ننكر البشائر النبوية التي آذنت ببعثة الرسول العظيم، بل نؤيد جميع ما ذكرته الكتب الصحيحة، مما يخضع للناموس الطبيعي، ولا يصطدم مع التفكير المستقيم، ومن ذلك - فيما يتعلق بهذا النوع - ما روى عنإسلام سواد بن قارب رضى الله عنه، فقد كان في جاهليته كاهنا تهبط الجن عليه بما تسترق من السمع، فأخبر فيما أخبر به ببعثة الرسول، ووقع الإيمان في قلبه فوفد على الرسول بمكة وأنشد
أناني رئي بعد ليل وهجعة
…
ولم يك فيما قد عهدت بكاذب
ثلاث ليالي قوله كل ليلة
…
أتاك رسول من لؤي بن غالب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
…
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
فهذا خبر لا يعدم الدليل على صدقه، لأن استراق السمع ثابت بنص القرآن، وسواد رحمه الله قد أسلم لربه، وقد اعتز بإيمانه اعتزازا لا يحتمل تخرص وادعاء، حتى أن عمر بن الخطاب قد ذكر مرة بكهانته في الجاهلية فغضب فضبا فعرف في وجهه، فاعتذر إليه أمير المؤمنين وقال له يا سواد، والله ما كنا عليه من عبادة الأصنام شر من كهانتك. فليس بمعقول أن يتحدث عن سبب إسلامه بما لم يقع، فهو إذن صادق مصدق، وإنما الكاذب من يروى الأساطير التي تنتهي إلى عهد سليمان بن داود ثم يكدر بها حياض السيرة المطهرة، وأولى بها أن تأخذ مكانها في (ألف ليلة وليلة) فتتلاقى الأكاذيب وتمتزج الغرائب بالأعاجيب.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ العباس خضر
محاضرات المصريين بالسودان:
تهتم الآن وزارة المعارف بتنظيم المحاضرات الثقافية التي يلقيها الأساتذة المصريون بالسودان، وأدرجت في الميزانية لهذا الغرض ألفي جنيه؛ وذلك بعد أن رأت إقبال الجمهور المثقف بالخرطوم على المحاضرات التي نظمتها في العام الماضي مدرسة الملك فاروق الثانوية بالخرطوم، فرأت تدعيم محاضرات المدرسة بمحاضرات أخرى في نوادي الخرطوم يلقيها المفتشون الذين يعملون بالمراقبة العامة في السودان.
وليست محاضرات مدرسة الملك فاروق في العام الماضي، أول تجربة في هذا السبيل، ففي سنة 1943 أوفدت وزارة المعارف بعثتين من كبار أساتذتها، فألقوا محاضرات بأندية الخرطوم وأم درمان، كان لها طرب في نفوس إخواننا بأعلى النيل، وأقول (طرب) وأنا أقصد معنى الكلمة. . فقد كنت هناك في ذلك الوقت، ولا أزال أذكر كيف امتلأ نادي الخريجين بأم درمان - امتلأ ذلك النادي الرحيب واحتشدت فيه الجماهير لسماع محاضرة الأستاذ السباعي بيومي في (إعجاز الفاصلة في القرآن) وشاع الطرب في الحاضرين حتى كانوا يهتفون عند الفواصل: الله! كأنهم - لشدة تأثرهم وعمق تذوقهم - في حفل غناء ويوم ذلك أبقيت هذه الثقافة العربية الإسلامية هي الغذاء الروحي المشترك بين أهل الوادي في الشمال وفي الجنوب، كما يشتركون في الغذاء المادي من ماء النيل.
وأريد أن أفرغ من ذلك لأبنه على أمر آخر في هذا الموضوع، ذلك أن الوزارة تقصر بعثات المحاضرين المصريين إلى السودان على أساتذتهم والمفتشين بها. ولكني أقترح عليها أن تدعو بعض الكتاب والمؤلفين، من غير رجالها، الذي يعرفهم السودانيون بالقراءة لهم، وهم ولا شك يودون رؤيتهم وسماعهم؛ فتخرج بذلك هذه المحاضرات الثقافية عن النطاق الرسمي. ولا أخفي أن اكثر محاضرات المفتشين والمدرسين ذات طابع مدرسي، وقد أشارت إلى ذلك بعض صحف الخرطوم التعليق على بعض محاضرات سنة 1943.
مؤتمر اللغويين والمستشرقين:
عقد بباريس في أواخر يوليه الماضي وأوائل أغسطس الحالي، مؤتمران كان لمصر فيهما نشاط ملحوظ، وكان للغة العربية في أحدهما ظفر يغتبط به، وهما مؤتمر اللغويين ومؤتمر المستشرقين، وقدانعقد على التعاقب، كان أولهما مؤتمر اللغويين وقد اختم أعماله يوم 27 يوليه، وكان مما قرره تمثيل مصر في لجنته الدولية الدائمة.
وكان بعد ذلك مؤتمر المستشرقين، وكان من الرغبات التي أبداها أن تعنى دول العالم أجمع بإدخال معلومات عامة عن المدينة الشرقية في برامج التعليم مع العناية بالمدينة الإسلامية وما تبقى من المدينتين الهندية والصينية، فإنه لا يجوز لأهل الغرب أن يجهلوا ما كانت عليه مدينة أهل الشرق الذين يؤلفون نصف سكان العالم.
وظفر اللغة العربية الذي يدعو إلى الاغتباط، كان في الجلسة الختامية المؤتمر المستشرقين، إذ اقترح الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ بالأزهر أن يوافق المؤتمر على قبول التباحث باللغة العربية في المؤتمر القادم ولا سيما عند بحث المسائل الإسلامية. ونوقش الاقتراح ثم تقرر قبوله.
وقد بدا نشاط ممثلي مصر في المؤتمرين، إذ ألقوا بحوثا، وقدموا تقارير واقتراحات، كانت موضع التقدير، واسترعى الانتباه ما أبداه العلماء المصريون في علم الآثار القديمة مما يدل على بلوغهم فيه درجة عالية، وقال بعض الأعضاء إنهم اصبحوا فيه مساوين لسائر علماء الآثار في العالم.
الدكتور طه حسين:
ويمثل الدكتور طه حسين بك في هذين المؤتمرين، مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وتدل الأنباء الواردة على وفرة نشاطه فيهما، وقد كتب للأهرام مقالاً - من المقالات التي يوافيها به من باريس - نشرته بعنوان (بين مؤتمرين) أبدى فيه شغفه بمتابعة أعمال لجانهما فتمنى أن يظفر ب (تعدد الأجسام) فيستطيع، كما يقال عن أهل الخطوة، أن يحضر الاجتماعات المتعددة المنعقدة في وقت واحد. . . أي يحضرها كلها في وقت واحد أيضا! (ولكن هيهات، إذا أتيح لك أن تستمع لحديث يلقى في هذه الساعة من ساعات الضحى فقد قضى عليك أن تحرم أحاديث كثيرة جدا تلقى في نفس هذه الساعة في الغرفات المجاورة
أو في الغرفات البعيدة أو في الدور النائية من هذه الدار التي أنت فيها) ومما تضمنه مقال الدكتور طه أن المصريين كانوا قلة في مؤتمر اللغويين، وكانوا كثرة في مؤتمر المستشرقين ومع ذلك فانهم اكثر ما ألقى فيه من حديث (فلم يشهد المصريون إلا ثلاثة أقسام من عشرة أقسام، لا لأن أجسامهم لم تطاوعهم ولا لأن عددهم لم يطاوعهم، بل لأنهم مع الأسف الشديد لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، فهم قد استطاعوا أن يشاركوا فيما يتصل بالدراسات الإسلامية وبالدراسات السامية وبالآثار المصرية القديمة والقبطية والإسلامية، فأما عدا ذلك من شؤون الترك والفرس والهند والصين ومن شؤون الدراسات اليونانية الرومانية في الشرق القريب والبعيد فلم يشارك المصريون فيه لأنهم لا يحسونه ولأنه لا يدرس في بلادهم، ولأن بلادهم لم تفكر بعد في أن تهيئ أبناءها للتخصص في فنون العلم على اختلافها).
الدكتور طه بين مصر وفرنسا:
وعلى ذكر المقالات التي يوالى الدكتور طه كتابتها للأهرام من باريس - أقول إنه لوحظ في بعض عباراتها ما يدل على أنه عاتب على مصر، أو غير راض عما يتعلق بشخصه فيها، أو كما نقول بلغة الحديث العامية (واخد على خاطره) فقد قال في أولى هذه المقالات إنه سيعود إلى مصر يوم تدعوه إليها. . . وفي المقال (بين مؤتمرين) المتقدم ذكره، ختم الحديث عن وفد مصر غير المستكمل للدراسات المختلفة بتوجيه الكلام إلى الهيئات التي أوفدته، فقال (وأول هذه الهيئات المختصة مجلس الوزراء الذي أوفد إلى المؤتمر وفدا مصريا أستثنى نفسه منه، ثم أقول بعد ذلك إنه شرف مصر حقا) وجاء في بعض الأنباء أن الدكتور طه سيسافر إلى إحدى القرى الفرنسية للاستجمام، ثم يسافر إلى إسبانيا لإلقاء محاضرات أدبية ببعض معاهدها وجامعاتها، تلبية لدعوة حكومتها، ولم يرد في النبأ ذكر لعودته إلى مصر.
ويدل استثناؤه من الوفد الذي أوفد مجلس الوزراء على أن الأمر إنما هو بينه وبين الدولة، ولكن ألم يوفده مجمع فؤاد الأول للغة العربية وهو من الدولة؟ ولنفرض أن الدولة جافته في بعض الأمور، فهل هذا يؤدى إلى التدلل على مصر وهجرانها وهي تقدره حق قدره؟ وماذا صنعت فرنسا للدكتور طه مما لم تحققه له مصر، فرضى عنها واخذ أمورها مأخذ
المحب، كما تدل على ذلك مقالاته الأخيرة بالأهرام؟
على أننا لم نسمع قبل اليوم أن أحداً من كبارنا أمثال الدكتور طه، ممن نالهم بعض العنت في عهود غير أوليائهم، قد غضب من مصر وهجرها إلى غيرها من البلاد. ولعل ذلك لأنهم ليس لهم (فرنسا) يهيمون بها. . . وهل تحتضن الدولة كل كبار الأدباء؟ وهل هذا لازم لعيشهم في البلاد ورضائهم عنها؟
أكتب هذه وأنا آسف لحرمان مصر في هذه الآونة المضطربة قلم طه حسين الفياض، وهي أحوج إلى صولاته في صميم شؤونها المعقدة المختلفة، منها إلى ما يلقى في حجرات المؤتمرات القريبة والنائية. . . وإن ذلك لأجدى عليها من دراسة شؤون البلاد التي تركب الأفيال!
الكبراء والكتب:
قرأت في مقال للأستاذ المازني بالعدد الأخير من أخبار اليوم، أنه كان في مجلس جاء فيه ذكر بعض الذين يعدون أنفسهم من القادة أو الزعماء، فقال (إني أراهن بما تشاءون - وأنا واثق أني لن أخسر - أنه ليس في بيت (فلان) - ولا داعي لذكر اسمه - كتاب واحد حتى ولا رواية بوليسية وقال هذا مثل واحد أكتفي به لأنه يغنى عن غيره.
وقد ذكرني هذا بما قصه على صديقي س قال: عهد إلى أن أقدم إلى بعض الكبار هدايا: نسخا من كتاب أخرجته لجنة إحياء آثار أبي العلاء المعري، تنفيذا لقرار وزارة المعارف القاضي بهذا الإهداء فقدمت له الكتاب، فتناوله ونظر إلى غلافه ثم قال متلطفا أو متظاهرا بالمعرفة: نعم. أبو العلاء المعري! بضم الميم.
وهذا الذي جرى لميم المعري ليس أمرا هينا. . فأقل ما يدل عليه عدم استحقاق الهدية! وكم هناك ممن يستحقونها ولا تهدى إليهم، لأن الوزارة تهدى هذه الكتب إلى الكبراء وأصحاب المناصب العالية، وأكثرهم لا يقرءونها ولا يعرفون قيمتها، ولا تنظر إلى غيرهم من الأدباء والمتعلمين الذي يلاقون العنت في استعارتها من دار الكتب المصرية.
احتلال الأوبرا:
يظهر أن المهزلة التي تمثل سنويا على مسرح الأوبرا - ستتابع فصولها في الموسم القادم.
أعنى الفرق الأجنبية التي تجلب من أوربا كل عام لتسلية (الخواجات) والترفيه عن أبناء الذوات. . . فتحتل المسرح القومي أكثر الموسم بعد أن تجلو عنه الفرقة المصرية وهي أحق به.
فقد قال مراسل الأهرام من باريس أن الأستاذ سليمان نجيب بك مدير دار الأوبرا الملكية وصل إلى باريس وصرح له بأنه سيدعو إلى مصر بين شهري يناير ومارس القادمين، فرقة مونت كارلو لمدة 15 يوما، وفرقة الأوبرا الإيطالية لمدة أربعين يوما، كما أنه سيدعو إليها ببار بيار بلا نشان لمدة شهر مع فرقة تمثل خمسا من رواياته. ويضيف إلى ذلك أنه يرجو أن يوفق لإرسال فرقة الكوميدية المصرية إلى فرنسا وانجلتا في مقابل الفرق الأجنبية التي تستقبلها مصر.
وأنا أسال أولا: ما هي فرقة الكوميديا المصرية التي يرجو أن يبادل بها. . .؟ هل عندنا فرقة بهذا الاسم؟ إن كل ما لدينا هي الفرقة المصرية التي تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية وهي ليست كوميدية، والفرق الأخرى معطلة هذه السياسة التي منها استجلاب الفرق الأجنبية.
المسألة ليست إلا ستراً للموقف بتسميتها (تبادل فرق) فقد استنكر الرأي العام في السنة الماضية الاستمرار في استيراد الفرق الأجنبية، وحمل عليه النقاد حملات موقفة، وكان لنا في ذلك مشاركة. فأريد اتقاء الشعور العام بهذا (الرجاء) وقد تطورت ظروف البلاد بعد ذلك حتى صرنا إلى حال لم يكن يصح فيها أبدا مجرد التفكير في شيء من هذا الذي يزمعه مدير دار الأوبرا. وقد قال النقاد وقلنا في العام الماضي، والجديد الآن أننا نحارب في فلسطين - نقاتل ونهادن وندفع العدوان ونستأنف القتال - وهذا يقتضي تجديد الجهود والأموال لمواجهة الجهاد، ولماذا نلغي الحفلات الرسمية وتستغني عما يماثلها من الكماليات. وقد وقفت دول الغرب ضج قضية العروبة، وهذا يقتضي أن نقف منهم موقف الحازم لا يتفق معه أن ندعو فرقهم لاحتلال مسرحنا القومي، ولا يكفى اختصار المدة المعتادة، لأن الذي يدعو إلى هذا الاختصار هو الذي يدعو إلى الاستغناء التام
أراني أخذت في بيان ما هو ظاهر بالبداهة. . . وإني والله لأخجل أن أرى في بلادنا وفي هذه الظروف التي نحن فيها، تلك الفرق التي يراد قيادتها إلى مصر في الموسم القادم.
من طرف المجالس:
كان الحديث في قضية فلسطين وموقف هيئة الأمم المتحدة منها، وهو حديث المجالس الغالب في هذا الظرف. قال قائل: عجبا لهذه الهيئة. . . كونتها الأمم الكبيرة، لتحل - فيما تحل - المشاكل التي تنشأ بينها، وهذه - مثلا - مسألة برلين، لم تعرض عليها ولم تنظر فيها، بل عمدت الدول المؤلفة لها إلى المباحثة فيها، خارج الهيئة، بالمؤتمرات الثلاثية والرباعية، أما فلسطين فما أسرع ما تبت في شؤونها، لا لتحمي السلام وإنما لتحمي دولة إسرائيل المزعومة من بطش العرب، فهل تكونت الأمم المتحدة لتكون (هيئة شرف) بالنسبة لمسائل الأمم الكبيرة، ثم لتكون أداة فعالة في خدمة الأغراض الاستعمارية الصهيونية؟
قال آخر: ألا ترون أن هيئة الأمم المتحدة هي أيضا هيئة مزعومة
العباس خضر
البريد الأدبي
إلى فضيلة الشيخ أبو العيون:
كان تجلدك الذي امتنع على صدمة تلك الملمة؛ وثبات جأشك في عصف ذلك الخطب؛ موضع إكبار الجميع؛ حتى عدت سابقة لفضيلتكم في هذا الميدان، لقد تخطفت المنايا السود ولدك - وهو يمرح في أعطاف الرابعة عشر ربيعا، ويختال في حالة نسجت من طراءة العمر، ونضارة الصبا، لا تحركها أنامل الحياة غير مرة؛ فها هو ذا الشاب يلوذ بحمى - المستشفى - ليكف عادية الداء عن شابه؛ فإذا في ارتقابه بهذه الدار تلك السفينة التي تقلع بالإنسان إلى الشاطئ المجهول. ويهبط النبأ الفاجع على قلب - الشيخ - يا أسلاك البرق - قدحت أي زناد!! وأطرت أية شعلة بفؤاد - الشيخ - المرهف الشفوق. أية ناسفة تحمل أمثال هذه الأنباء التي تنزل في عالم الشعور؛ والإحساس؛ وأي لغم تفجره بين الجوانح تلك الكوارث ولكن قوة إيمان الشيخ، قد استطاعت أن تحول بين الشيخ، وبين ما تستهدف له القلوب. فيأتي الشيخ. وهو السكرتير العام للأزهر والرجل الموصل بأفئدة الأمة؛ أن يذيع نعيه في الصحف ولا حتى بين الأصدقاء الأقربين.
وتوجه في قلة قليلة لا تعدو أصابع اليد الواحدة إلى - دار المستشفى - وحمل قطعة قلبه إلى حيث يوسدها المضجع الأخيروصلى عليه حيال القبر؛ وعاد الشيخ ببعض النفس؛ والبعض في القبر وتجلس إلى الشيخ فإذا هو باسم الثغر، طلى الحديث. مؤنس المحضر. تدور أحاديث الدين، والأدب، والاجتماع، كأننا لسنا في دار ثكلت عزيزا؛ ولا بجوارح شيخ حتى التراب على معارف كان يخشى عليها الثقل من موطئ الذر.
لم أكتب هذه الكلمة لتكون عزاء فأنت، أيها الشيخ، أسمى من أن يسوق العزاء سائق؛ ولكن أريد أن أقدم نموذجا لما تكون عليه الرجولة في الشدائد، وأن يعرف الناس السنة الإسلامية التي يجعل بهم أن يستنوها مع من يشيعون.
محمد عبد الحليم أبو زيد
1 -
ولم لا نسأل عن أشياء؟
أهي من عالم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؟ أم هي من الأمور المعلومة من الدين
بالضرورة فيكفر جاحدها؟ أم نحن نشك في روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورتها الحاضرة؟ أم أغلق باب الاجتهاد في فروع اللغة كما أغلق عند جمهور العلماء في فروع الفقة؟ الهم لا هذا ولاذاك؛ وإنما قصدت في كلمتي السابقة أن التمس الوجه الصحيح الخالي من الحدس والافتراض والتكلف لورود كلمة (أشياء) في القرآن الحكيم على صورة الممنوع من الصرف، وإن بدا رأيي جريئاً غير مستساغ عند بعض الناس فحسبي أن يكون رائدي حسن النية، وأن فتح البحث أمام الذين يبحثون في وسائل تيسير النحو في هذه الآونة على المعلمين حتى اقترحوا حذف (الممنوع من الصرف) من منهج التعليم الابتدائي لا نزاع في إن البحث من الجفاف بحيث لا يحمل الخوض فيه على صفحات المجلات، ولذلك عرضته ملخصاً في الكلمة الأولى وما زلت على خطتي في هذه الكلمة، وأن عسيراً أن أجشم القارئ درس موضوع من أيسر مسائلة ادعاء بعضهم أن (أشياء) اسم جمع مثل (طرفاء) قدمت الأمة فصار على وزن (لفعاء)؛ كل ذلك ليبروا وروده ممنوعا من الصرف في سورة المائدة، وأنا بلا ريب أستحسن كثرا رأى (الكسائي) الذي أورده الأستاذ الفاضل محمد غنيم في كلمته القيمة وملخصة أن (أشياء) جع (شئ) جاء على صيغته الأصلية، ولكن منع صرفه لكثرة استعماله في الكلام تشبها له بالاسم المؤنث المنتهى بالألف الممدودة، هذا أشبه بالحق، وأدنى إىل حسنا الذوق ولكن ماذا لو التمسنا للمسألة وجها آخر؛ مع التسليم المطلق بصحة الرواية، أنا لا أزال أقول إن ورود الكلمة على صورة الممنوع من الصرف مبني على القاعدة النحوية المشهورة التي أوردها (ابن مالك) حيث قال:
ولاضطرار أو تناسب حرف
…
ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
وقد طابق هذه القاعدة كثر من استعمالات العرب، وخرج عليه بعض آي الذكر الحكيم؛ وقد أشرا إلى ذلك في الكلمة السابقة؛ والمسألة ترجع إلى الذوق الموسيقي المعبر عنه (بالتناسب) في كلام (ابن مالك) وإنه لو وردت (أشياء) مصروفه في الآية الكريمة (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم) لتكرر حتما مقطعان بلفظ واحد، وكان ذلك مخلا إلى حد ما بحسن الجرس والتناسق ولا شك أن القرآن الكريم في المكان الأول من رعاية هذا التناسق، والسلامة من كل مظان التنافر، وهذا - كما قلت - من أعظم وجوه الإعجاز،
ولولا ذلك لجرى على كلمة (الأشياء) ما جرى على كملة (أفياء) وأمثالها بتكرار (إن) في قوله تعالى: (ما نزال الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) كما يقول الأستاذ العجمي، فإن القياس مع الفارق كما يقولون؛ إذ من الممكن بل من الحسن الوقف على كلمة (شئ) في هذه الآية وفي الآية الثانية التي أوردها الأستاذ العجمي، ويكون البدء بما بعد كلمة (شئ) في الآيتين مما يزيد المعنى قوة؛ وإذا لا يتوالى المقطعان، على أن همزة (شيء) مسبوقة بحرف لين صامت وهمزة (أشياء) مسبوقة بحرف مد صاعد ولذلك تأثيره في نقل المقطعين، أما كلمة (أشياء) في آية المائدة (وهي محل البحث فإنها مرتبطة بما يليها من الآية الكريمة ارتباط الموصوف بصفته؛ والصفة هنا قيد في صاحبها، فلا بد من وصلها حتى يكون معنى النهي في الآية واضحا ولا بد إذا من توالي المقطعين، وهذا ما أجعله علة المنع من الصرف؛ وعلى ذلك يمكن القول - في غير حرج - أو ورد كلمة (أشياء) غير مصروفه راجع إلى الجو المحيط بها في الآية الكريمة فلو خرجت منه جاز عليها ما يجوز على سواها.
ولا محل بعد ذلك للاعتراض الذي أدلى به الأستاذ محمد غنيم وخلاصته أنه لو كانت الكلمة معروفة لضبطت همزتها الأخيرة بالجر من غير تنوي؛ فأنها بلا نزاع غير مصروفه (في الآية الكريمة) فيجرى عليها حكم الممنوع من الصرف كاملا وتجر بالفتحة؛ ولكن المنع صرفها سبباً فنيا غير الذي قالوه؛ فهو في رأي المتواضع (ولا يؤاخذني الأستاذ العجمي) مبنى على اعتبار حسن الجرس والتناسب وعند القدامى الذي ندين لهم بالحق وعرفان الجميل مبنى
على أسباب شتى ألمعنا إلى بعضها في صدر المقال.
2 -
أخطاء مشهورة:
كثيرا ما نقرأ في الصحف والمجلات بله كراسات الطلبة والتلاميذ - كلمات جرت على اللسنة، واستفاضت؛ حتى ليحسبها من قلت درايتهم بمتن اللغة من الصحيح؛ ولعل من الخير للغة ودارسيها، أن يتعقب أهل الدراية هذه الكلمات بالنقد البريء والإرشاد الهادئ السديد، وعلى منابر الصحافة العالية متسع لمن أراد الإصلاح؛ ومن ذلك أنني قرأت أمس في (الأساس) لشاعر ناشئ مقطوعة ظريفة بدأها ببيت مشتملعلى كلمة (النضوج) وفي باب
(الكتب والمؤلفات) في (الأخوان المسلمون) كلمة قيمة في التنويه بديوان (أبن المفر؟) للشاعر النابغة الأستاذ محمود حسن إسماعيل ورد فيها كلمة (خصوبة الخيال)
والذي أعرفه أن كلمتي (الضنوج - والخصوبة) غير صحيحتين والصحيح أن يقال: (النضج والخصب) أما الكلمتين الأوليان فليستا من كلام العرب فيما أعتقد؛ ومن أنكر فليغير والسلام.
محمود البشيشي
(بالإسكندرية)
حول كلمة العتيد:
أرجو أن يعلم الأديب الفاضل (محمد مهدي أبو حامد) أن الكلمة التي كتب عنها تعليقه الكريم كانت في الأصل (عنيدة) بالنون لا بالتاء فصنع بها التطبيع ما صنع، كما لم تسلم عبارته أيضا منه، فقد كانت في الأصل و (يقوض) فجعلها التطبيع (يقود) بالذال لا بالضاد وكأن القدر شاء له ذلك ليعذرني في خطأ لم ارتكبه!!
ولا أذكر أني كتبت طيلة حياتي - في مختلف الصحف - مقالة سلمت من التطبيع، وهو على كثرته - واضح يفطن إليه المتأمل، وسبحان من تفرد وحده بالكمال.
هذا وللأديب الناقد شكري وتحياتي
محمد رجب البيومي
حول النقطة:
جاء في كلمة الأستاذ الفاضل السيد محمد مهدي أبو حامد في البريد الأدبي للرسالة الغراء قوله: (وهذا ما يحضرني الآن من الألفاظ الدالة على معنى (القدم) ولا أقول هذا كل ما ف اللغة في هذا المعنى إذ ربما يطلع علينا بألفاظ أخر من المراجع اللغوية (الرقيب العتيد) الأستاذ عدنان وذلك ما كنا نبغي)
وقبل الكلام أقدم الشكر الخالص للأستاذ المهدي على حسن ظنه وجميل شعوره، نحو هذا لضيف - القوى بالله - وأقول إن ما رآه الأستاذ الأديب ورواه حول لفظة (العتيد) صواب
كله وليس لمستزيد عليه مزيد، ولا الرقيب العتيد.
ثم أقول: ومن الألفاظ الدالة على (القدم) - وذلك بالإضافة إلى (العتيق والقديم والعهيد) قولهم: الأبيد والدهير والتليد والسحيق، وفي مقام القياس: الزمين - إن شئت - والأزيل من الزمن والأزل. . . وهي كلها ألفاظ تدل على القدم والخلود بعد العدم. . .
(الزيتون)
عدنان
من مؤلفات بن طولون:
قال الدكتور أسعد طلس في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: وقد نشر لابن طولون من المؤلفات ثلاث رسائل: (الفلك المشحون بأحوال محمد بن طولون) ورسالة (الشمعة المعنية في أخبار القلعة الدمشقية) ورسالة (المعزة في تاريخ المزة). مع أن مكتبة القدسي بالقاهرة كانت طبعت قبل ذلك من كتب ابن طولون (اللمعات البرقية في النكت التاريخية) سرد فيها كثيرا من الحوادث والتراجم التي لا يوجد بعضها في غيرها، و (إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين) ذكر فيه الكتب التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك، و (تبييض الطرس بما ورد في السمر ليالي العرس)
محمد أسامة عليبة
القصص
الخجول!!
للكاتبة الإنجليزيةكاثرين مانسفيلد
للأديب محمد فتحي عبد الوهاب
كان في الواقع شخصا خجولا بكل معاني الخجل، ولا يملك مطلقا ما يقوله عن نفسه. وياله من حمل! إذا كان في غرفتك فإنك لا تدري أين تذهب، ولكنه يظل جالسا حتى يخيل إليك أنك ستتفجر حتما صارخا، وتتحرق شوقا لقذف أي شيء وراءه، عندما يندفع أخيرا إلى الخارج.
وهو يسترعي اهتمامك عند أول نظرة. وقد تذهب إلى المقهى ذا مساء فتراه جالسا في ركن منها، قدح القهوة موضوعاً أمامه. أنه فتى أسمر البشر، رفيع القامة يرتدي صدرة صوفية زرقاء وسترة رمادية ذات أكمام قصيرة تظهره كصبي عازم على الهروب إلى البحر، صبي هارب فعلا وها هو ذا يقوم في لحظة وقد حمل على طرف عصاه منديله المعقود الذي يحوى رداء نومه وصورة والدته. . وها هو ذا يتعثر ليلاً على حافة الجسر الخشبي في طريقة إلى السفينة.
كان له شعر قصير، وعينان رماديتان بأهداب طويلة ووجنات بيض، وفم متجهم كأنه على وشك البكاء، وكيف تقاوم النساء غراءه؟ أن قلوبهن لتلتوي عندما ينظرون إليه. وكان خجله يزيد جاذبية حتى أن وجهه كن يتحول قرمزيا في كل مرة يقترب منه خادم المقهى، كأنه سجين هارب يعلم ذلك الخادم ماضيه.
وقالت إحدى السيدات (من هو يا عزيزتي. . أتعرفينه؟)
فقالت الأخرى! نعم أعرفه. أنه أيان فرنش، وهو رسام ماهر. أن أول من تعرفت به وهبته حنان المرأة وعنايتها. وكانت تسأله عن أهله، وما يكفيه من الأغطية على فراشه، وكمية اللين التي يشربها يوميا. ولكنها عندما ذهبت إلى داره لتلقى نظرة على جواربه، جعلت تطرق الباب دون مجيب، مع أنها تقسم أنها كانت تسمع تردد أنفاسه داخل الغرفة. ووقفت تنتظر وتنتظر. . . دون جدوى.
وقررت الثانية أن توقعه في شراك الحب. فقربته منها، ودعته بالصبي، وانحنت فوقه لينتشي العطر الفاخر الذي يفوح من شعرها، وأخذته بين ذراعيها، وحدثته عن مباهج الحياة التي لا يتذوقها إلا كل مقدام جرئ. ثم ذهبت إلى غرفته ذات مساء، وقرعت الباب ثم قرعت. . . دون جدوى.
وقالت الثالثة أن التسلية هي ما يحتاجه هذا الصبي. فذهبت به إلى المقهى والملاهي وأماكن الرقص وطفقت تذيقه الخمر. ولكن كل ذلك لم يحرك شعرة من رأسه. وثمل مرة، ولكنه جلس صامتا جامدا، كالحجر الأصم، وقد علت وجنتيه بقعتان قرمزيتان. وعندما عادت به إلى غرفته كان قد استرد وعيه، فحياها في الشارع كأنهما قادمان من كنيسة. . . وحاولت ثم حاولت. . دون جدوى.!!
وبعد محاولات عديدة يأسن منه النساء - لأن روح العطف لا تموت عندهن إلا بصعوبة - ومع ذلك فكن لطيفات معه، يدعونه في معارضهن، ويحادثنه في المقهى. وكان هذا هو كل ما يستطعن الحصول عليه منه.
واعتقد تمام الاعتقاد أنه يوجد شيء مريب مستخفياً في طيات نفسه. أنه لا يمكن أن يكون بريئا كما يظهر لهن. ولماذا تجئ إلى باريس إذا كنت تريد أن زنبقة في الحقول؟ أنهن لا يشتهين ولكن.
كان يعيش في أعلى بناء شامخ بجانب النهر، من تلك المباني التي تخالها خيالية في الليالي الممطرة والقمرية، وإذا بك لا تشتم في داخلها رائحة الخيال طوال السنة. وكانت غرفته تطل على منظر ساحر والنافذتان الكبيرتان تشرفان على الماء حيث الزورق تتأرجح وتتمايل. وكان أمام النافذة الجانبية منزل صغير يطل على سوق لبيع الزهور تظللها مظلات عديدة انسابت من شقوقها الأزهار حقا أنه لا يحتاج إلى الخروج، فهو يجدما يجتذبه إذا ما جلس بجانب النافذة، وما يجعله يمكث في غرفته إلى م شاء الله حتى لو ابيضت لحيته واستطالت.
كم تكون دهشة هؤلاء السيدات اللاتي تحدثن عنه إذا ما تمكن من اغتصاب باب غرفته؟ لقد كانت غرفته مثالا للعناية والنظافة وحسن الترتيب، فالأواني معلقة على الحائط خلف الموقد الغازي، وطبق البيض وقدح اللبن وإبريق الشاي على الأرفف، والكتب والمصباح
على المائدة، والستارة الهندية المزركشة بالرسومات منسدلة على فرشه، واللوحة الصغيرة المنمقة أمام عينيه بجانب الفراش وقدكتب عليها بخط واضح (استيقظ بسرعة)
كان كل يوم عنده مثل سابقه. فعندمايغمر الضوء غرفته يستميت في عمله، ثم يطهى طعامه وينظف حجرته. ويذهب في المساء إلى المقهى، أو يجلس يقرأ ويكتب عائمة معقدة يبدأها (ما الذي يمكن عمله؟) ويختمها بقسم (اقسم ألا أزيد عن صرف هذا المبلغ في الشهر القادم. الإمضاء - أيان فرنش).
لم يكن هناك ما يدعو إلى الريبة في كل هذا، كما يدعين، ومع ذلك فقد كن على حق، لأن ذلك لم يكن كل شئ.
ففي ذات مساء كان جالسا بجانب النافذة يأكل البرقوق ويرمي بالنواة على قمة المظلات في سوق الأزهار الخالية. وكانت السماء تجود مصرا، أول مطر للخريف في ذلك العام. والبرق يلمع في كل مكان. والهواء يحمل في جوانحه شذى البراعم، وقد خفتت الأصوات التي ما زال صداها يرن في الجو القائم، واقترب الناس من نوافذهم يتطلعون إلى فعل الطبيعة، ويشاهدون الأشجار وقد بدأت تورق وتزدهر. وساءل نفسه أي نوع من الأشجار تلك التي يشاهدها؟ وأقبل العامل المكلف بإنارة مصابيح الشارع، وابتدأ في إضاءة المصباح القائم بجانب المنزل أمامه، ذلك البيت المتداعي، وفجأة كاستجابة لنظراته، فتح مصراعا نافذة وأقبلت فتاة إلى الشرفة تحمل أصيصا من الأقحوان، كانت نحيفة نحافة ملفتة للأنظار، وترتدي مئزرا قاتما، وقد عقدت على شعرها منديلا وهي مشمرة الأكمام وذراعاها يلمعان في الظلام.
وسمتها تقول (نعم، إن الجو حار وذلك. يساعد الزهور على النمو) ثم وضعت الأصيص على الأرض والتفتت إلى من تحدثه داخل الغرفة. ثم استدارت ووضعت يديها على المنديل وجعلت تنظم خصلات شعرها، وألقت نظرة على السوق الخاليةثم إلى السماء، ولكنها لم تلتفت إليه كأن المكان الموجود فيه ليس إلا خلاء وكأنه لا يوجد أمامها منزل مقام. ثم اختفت داخل الغرفة.
وسقط قلبه من نافذة غرفته إلى شرفة المنزل المقابل، واستقر داخل أصيص الأقحوان تحت البراعم التي كانت على وشك التفتح. وسمع أصوات الأطباق وهي تغسلها بعد
العشاء، ثم أقبلت إلى النافذة، ونفضت ممسحة صغيرة في الهواء ثم علقتها على مسمار حتى تجف.
. . . لم يسمعها مرة تغني أو ترفع ذراعيها إلى القمر كما تفعل الفتيات. كانت ترتدي دائما نفس المئزر القاتم وعلى شعرها ذلك المنديل الأحمر. من يعيش معها؟ إنه لم يشاهدسواها بالقرب من هاتين النافذتين. ومع ذلك فكانت كثيرا ما تتحدث إلى من بالغرفة. لعلها والدتها العاجزة. ولعل والدها توفى. ولعله كان صحفيا شاحب اللون طويل الشارب أسود الشعر.
أنهما يعملان طوال اليوم ما يكفي لمدهما بالقوت الضروري ولكنهما لا يخرجان من منزلهما قط، ولم يشاهد لهما أصدقاء.
وعندما جلس على مائدته، كان عليه أن يكتب إقرارا جديداً وقسما جديداً بألا يذهب إلى النافذة إلا في ساعات معينه، وألا يفكر فيها حتى ينتهي من عمله اليومي.
كان ذلك بسيط جدا. لقد كانت المخلوقة الوحيدة التي يود أن يتعرف بها. أنه لا يحتمل الفتيات الضاحكات ولا يجديه أن يتعرف بالنساء الناضجات. لقد كانت في مثل سنه وعلى شاكلته.
وجلس في غرفته متعبا مسند ذراعية خلف رأسه، محدقا ناحية نافذتها. وتخيل نفسه موجودا معها وجعل يصفها لنفسه كما يصورها له خياله. كانت ذات طابع حاد. وكثيرا ما كانا يتشاجران في حرارة. وكانت لها طريقتها في الوقوف أمامه في عناد وغضب. ولم يشاهدها تبتسم إلا نادرا عندما كانت تخيره عن الهرة الصغيرة التي تربيها، والتي كانت تزأر كأنها الأسد عندما تقدم لها الطعام. واعتاد الجلوس بجانبها في هدوء كما يجلس الآن وقد أطبقت يديها على حجرها ووضعت قدميها تحت المقعد الجالسة عليه، وهي تتحدث في صوت خفيض أو تظل صامته، مجهدة من عناء عمل اليوم. ولم تسأله بالطبع عن عمله. وكان يرسمها في أوضاع جميلة. ولكنها كانت تكره كل هذه الرسومات، وتدعي أنها لا تمثلها مطلقا. ولكنه معذور. . . . إنه لم يتعرف بها حتى الآن. ومن يدري؟ فلعل ذلك يستغرق منه سنين طويلة.
ثم وجد أنها تخرج مساء كل خميس لتشتر حاجيات المنزل. ولاحظها خميسين متتالين وهي واقفة أمام النافذة، وقد ارتدت معطفا قديما حملت سلة في يدها. كان لا يمكنه مشاهدة
باب منزلها وهو جالس في غرفته. ولكن في مساء الخميس التالي وفي نفس الوقت، اختطف معطفه وهرول خارجا.
وارتكن بجانب منزله منظرا قدومها. لم يكن لديه أية فكرة عما سيفعله أو سيقوله. ثم أقبلت مسرعة في خطوات قصيرة خفيفة. ما الذي سيفعله معها؟ إن كل ما يستطيعه هو أن يقتفي أثرها. . . ذهبت إلى البقال وأمضت هناك وقتا طويلا، ثم توجهت إلى القصاب، وجلست تنتظر دورها، ثم مكثت دهراً عند الخائط. وأخيرا قصدت إلى الفاكهي. أنه يشعر أكثر من ذي قبل بأنه يحب أن يتعرف بها لقد أحب فيها هدوءها ورزانتها ووحدتها وطريقة مشيها، ووجد فيها كل ما ينشده في امرأة.
كانت سائرة في طريقها إلى المنزل عندما رجع يلاحقها. وتوجهت فجأة إلى اللبان، ورآها من خلال النافذة وهي تشتري بيضة أمسكت بها في عناية، بيضة كتلك التي يختارها لنفسه دائما. وخرجت من الحانوت وتابعت سيرها. وجاءته فكرة. فلم يتردد في دخول الحانوت ومكث هناك لحظة. ثم حث الخطى حتى وجد نفسه يسير وراءها. وخلفت منزله عابرة سوق الأزهار مخترقة المظلات الكبيرة وهي تطأ بأقدامها الزهور المتساقطة على الأرض وزحف داخل منزلها، وصعد السلم محاولا أن يكون وقع أقدامه ملائما لوقع خطواتها حتى لا تلاحظ وجوده. وعندما وقفت بجانب الباب وضعت المفتاح في الثقب، أسرع وواجهها فالتفت إليه في تساؤل.
. . . وأحمر وجهه أكثر من المعتاد، ولكنه نظر إليها في جرأة، وقال في صوت تلوح عليه رنات الغضب المكبوت وقد علت وجهه حمرة الخجل (أرجو المعذرة يا آنسة لقد سقطت منك هذا وقدم لها. . . بيضة!!
(إسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب