الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 79
- بتاريخ: 07 - 01 - 1935
الرسالة في عالمها الثالث
بين عيد الفطر الاسلامي، وعبد النيروز المسيحي، يقع ميلاد الرسالة! فكأن الرسالة لاتنفك تجري على قدر من الله في السفارة بين عهد وعهد، والوساطة بين فكرة وفكرة! وفي هذه الفترة التي يعاود الناس فيها سلام الروح، وسكينة القلب، فيتعاطفون على القرابو، ويخالصون على المودة، وينفضون ايديهم من اوزار العيش حيناً لتتأنس النفوس بالتحية، وتتلامس القلوب بالمصافحة، لاتجد الرسالة غضاضة الاثرة اذا تبسطت في الحديث عن نفسها، الى اصدقائها وقرائها، فان العيد يقوى شعور الانس، والسرور يهلهل رداء الحشمة
تحبو الرسالة للسنة الثالثة من عمرها، أو تخطوا الخطوة الثالثة من غايتها، وهي بحمد الله اشد ما تكون استمساكاً بالمبدأ، واستشرافاً للغرض، واستعدتداً للامر، واستبصاراً بالماضي، واطمئناناً للمستقبل
ولقد كان من دلائل رضي الله عن جهادها أن ألان لها أعطاف الشدائد، وسهل عليها مصاعب النجاح، ومكن لها من قلوب الناس، فآثروها بالعطف، وآزروها بالعون، ووجدوا فيها متنفساً لخوارهم المكظومة، ومفيضاً لعواطفهم الجائشة، فتعارفت فيها الاسماء الغريبة، وتآلفت بها الأنساب القريبة، واشرقت بين سطورها في هذه العهود السود ومضات المجد التليد، كما تومض المنارة الهادية في حواشي الافق المكفر ونواحي المحيط المضطرب
لا نريد ان نعوج لما كان، ولا أن نعد بما يكون، فان العمل الحي ينمو بطبعه، ويقصد الى ماده بفطرته؛ وحية الرسالة إنما تنبثق من إيمانها، ومن إخلاص إخوانها، فلا يكدى لها شباب ولايبطئ بها وهن
ولقد جربنا في استمالة الفوز كل حيلة فما أفاد غير الايمان: جربنا التسامح فبطر الصديق، والهوادة فضرى العدو، والثقة فنغل الناصح، والمحبة فثارت المنفعة، والكد فهاج المرض، فلولا الايمان بصحة الفكرة، وشرف الوسيلة، ونبل الغاية، وضرورة العمل، لانقطعت الاسباب وابدعت ركائب الامل
إن فيما يحمله البريد إلينا كل يوم من رضى القراء في مختلف الانحاء لأجحماعاً على الخطة التي نهجناها للرسالة. حتى أولئك الذين كانوا يحبون أن تخف أو تُسف عادوا فصالحوا بين أذواقهم وذوقهم، ولاءموا بين الخلاقهم وخلقها، ففضلوا ان تظل كما هي للخاصة فلا تتعلق بغير الجميل من الأدب والفن والخلق
على أن في الادب السنى مناحى للذة لا تجد بعضها في الأدب الدنى على ثرثرته وإغرائه. فان فيه غذاء لذوقك وذهنك ووجدانك وشعورك؛ أما غذاء الآخر على غثاثته فيغنيك عنه إن شئت نظرة أثيمة أو حكاية مخزية. وسنكشف رويداً عن هذه المناحي الممرعة الممعتة، فتساعد المربين على تنمية الذوق، وتعين المعلمين على إحياء المطالعة
وانصراف الشباب عن المطالعة الجدية داء أعيا على العلاج وأشفى على الخطر. وهو وحده علة ما نشكوه من بطء الثقافة وضعف الصحافة وقلة الانتاج وشيوع الجهالة. وما قتل الصبرَ على قراءة الكتاب المفيد والصحيفة الرشيدة إلا هذا الهُراء الذي نفقَت سوقه في المجتمع لِبَرَم الرجال من الأزمة، وسأم الشباب من العطلة، وسوء ظن الناس بالجد في علاج هذى الحال
إن من مباديء الرسالة أن تكون صورة لمنازع الأدباء وسجلاً لألوان الأدب في هذا العصر، فهي لذلك تعرض على قرائها الحين بعد الحين آراء مختلفة وأقلاماً جديدة؛ واختلاف الآراء لا يدل على غير مجرد العرض، وتعاقب الأقلام ل يعني أن بعضها خير من بعض. وقد ظهرت في العالم المنصرم بعض هذه الأقلم البارعة، فكانت براءة من الله للرسالة أنها تقوم بما تعد وتُوفي بما تُدم. وستظهر في هذا العالم أمثال هذه الأقلام من ألف بينها الفن السَّرِيُّ، وجمع بين اهلها الدرب القاصد. كذلك فتحنا بابين جديين ابتداء من هذا العدد، وهما:(من روائع الشرق والغرب) وسننشر فيه أروع ما نقرأه من الآداب الاجنبية منقولاً الى العربية العالية، وأبدع ما نختاره من الآداب العربية مأخوذاً من العصور المختلفة. وفي هذا الباب لقاح مثمر لأدبنا، وإحياء لمآثر أدبائنا، وصقل لملكات النشء بالماذج الجميلة. ثم (من هنا ومن هناك) وسنلخص فيه ما نقع عليه من طريف المسائل وجديد الآراء في الصحف أو في الكتب. ذلك إلى ما اعتزمناه من توسيع باب القصص، وتوجيه النظر في بحث المؤلفات الحديثة القيمة إلى التحليل والنقد العادل
بقي أن نؤدي فريضة الشكر لأولئك القراء المخلصين الذين عطفوا على هذا الجهد وساهموا فيه بالتشجيع والتنويه والنصية، وللأصدقاء من الأدباء الذين ما برحوا يلبون دعوة الوطن الأكبر فشاركوا في تبليغ الرسالة، وأعانوا على تأدية الأمانة، وأضافوا خيرهم الغمر إلى تراث آبائنا الخالد
وإنا لنتقدم إلى هؤلاء وهؤلاء بالتهنئة الخاصة بالعام الجديد، والعيد السعيد، والأمل الناشيء في كل نفس، والنشاط لباديء في كل أمر، وندعو الله مخلصين أن يقرن العام باليمن، ويجدد العيد بالخير، ويعقد الأمل بالنجح، ويصل النشاط بالرأي والعزيمة
ثم نجدد لأمى الرسالة العهد والعزم متعمدين على فضل الله، مطمئنين الى عطف الأمة، متكئين على عون الشباب، معتدين باخلاص النية، معولين على إجاة العمل؛ وفي بعض ذلك الضمانً الاوفى، والسندُ الأقوى، والمرفأ الأمين
احمد حَسن الزيات
الله أكبر!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلسْتُ وقد مضى هَزيعٌ من الليل، أهيء في نفسي بناءَ قصةٍ أُدِيرها على فتى كما أَحَبَّ. . . خبيثٍ داعر، وفتاةٍ كما أَحبَّتْ. . . غذراءَ ومتمجنة؛ كلاهما قد دَرَسَ وتخرج في ثلاثة معاهد: المدرسةِ، والروايات الغرامية، والسيما. وهو مصريٌ مسلم، وهي مصرية مسيحية. وللفتى هَناتٌ وسيئاتٌ لايتنزه ولايتورع؛ وهو مِن شبابه كالماء يغلي، ومِن أناقتِه بحيث لم يبقَ إالا أن تلحقه ناءُ التأنيث. . . وفد تشعبت به فنون هذه المدينة، فرفع اللهُ يده عن قلبه لا يبالي في اي أوْدِ يتها هلك. وهو طلبُ نساء، دابه التجوال في طرقهن، يتبعهن ويتعرض لهن، وقد الفته الطرق حتى لو تكلمت لقالت: هذا ضرب عجيبٌ من عربات الكَنْس. . .!
وللفتلة تبرُّجٌ وتهتك، يَعْبَثُ بها العبث نفسه، وقد اخرجتها فنون هذا التأنثِ الاوربي القائم على فلسفة الغريوة، وما يسمونه (الادب المكشوف) كما يثوره اولئ الكتابُ الذين نقلوا إلى الانسانية فلسفة الشهوات الحرة، عن البهائم الحرة. . .! فهي تبرزُ حين تخرج من بيتها، لا إلى الطريق، ولكن إلى نظرات الرجال؛ وتظهر حين تظهر، مُسوَّرةً لا بتلون نفسها مما يجوز وما لايجوز، ولكن بتلون مِراتها مما يُعجب وما لا يُعجب
وَكِلا ثْنيهما ل يُقيم وزناً للدين، والمسلم والمسيحيُّ منهما هو الاسم وحده؛ إذ كان من وَضع الوالدين رحمهما اللهّ والدين حرية القيد لا حرية الحرية؛ لإنتَ بعد ان تُقيد رذائلك وضراوتك وشر وحيوانيتك - أنت من بعد هذا حرٌّ ماوسعتك الارضُ والسماء والفكر؛ لأنك من بعد هذا مُكملٌ للانسانية مستقيمٌ على طريقتها. ولكن هَبْ حِماراً تفلسفَ واراد أن يكون حراً بعقله الحماري؛ أي تقرير المذهب الفلنسفي الحماري في الادب. . . فهذا إنما ينبغي إطلاق حريته، اي تسليط حماريته الكاملة على ما يتصل به من الوجود
وتضى قصتي في أساليب مختلفة تمتحن بها فنونُ هذه الفتلة شهوات هذا الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولاتزال تمنعه من حيث لاترده؛ وما ذلك من فضيلةٍ ولا امتناع، ولكنها غزيرةُ الانوثة في الاستمتاع بسلطانها، واثباتها للرجل ان المرأة هي قوة الانتظار وقوة الصبر، وأن هذه التي تحمل جنينها تسعة أشهر في جوفها، تُمسك رغبتها في نفسها
مدة حَملٍ فكريٍ إذا هي أرادت الحياة لرغبتها، ليون لوقوعها وتحققها مثلُ الميلاد
ولكن الميلاد في قصتي لايكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها. فان المرأة في رأيي - ولوكانت حياتها محدودةً من جهاتها الاربع بكبائر الاثم والفاحشة - لايزال فيها من وراء هذه الحدود كلها قلبٌ طبيعته الامومة، أي الاتصالُ بمصدر الخلق، أيْ فضائل العقيدة والدين؛ وما هو الا أن يتنبه هذا القلبُ بحادثٍ يتصل به فيبلغُ منه، حتى تتحول المرأة تحول الارض من فصلها المقشعر المجدب، الى فصلها النضر الاخضر
ففي قصتي تُذْعنُ الفتاةُ لصاحبها في يومٍ قد اعترتها فيه مخافةٌ ونزل بها همٌ وكادتها الحياةُ من كيدها؛ فكانت ضعيفة النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة. وتخلو بالفتى وفكرها منصرفٌ إلى مصدر الغيب، مؤملٌ في رحمة القدر. ويخلبها الشابُ خَلَابةَ رُعُونته وحبه ولسانهِ، فيعطيعا الألفاظ كلها فارغة من المعاني، ويقر بالزواج وهو منطوٍ على الطلاق بعد ساعة. فاذا اوشكت الفتاة ان تصرع تلك الصرعة دوي في الجو صوتُ المؤذك:(الله أكبر!)
وتُلْسَعُ الفتاة في قلبها، وتتصل بهذا القلب روحانيةُ الكلمة، فتقع الحياة السماوية في الحياة الارضية، وتنبه العذراءُ إلى ان الله يَشهدُ عارَها، ويَفْجَؤُها انها مُقدمةٌ على ان تُفيد من نفسها ما لا يصلحه المستحيل فضلاً عن الممكن، وترنو بعين الفتلة الطاهرة من نفسها إلى جسم بفيٍ ليستْ هي تلك التي هي؛ وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسقٍ ليس هو ذا الذي هو؛ ويَحْكي لها المكان في قلبها المفطور على الامومة - حكايةً تثور منها وتشمئو؛ ويصؤخ الطفلُ المِسكينُ صَرْخته في أذنها قبل ان يُولد ويُلقى في الشارع. . .!
الله أكبر! صوتٌ رهيبٌ ليس من لغة صاحبها ولا من صوته ولا من خِسته، كأنما تفرغ السماءُ فيه مِلء سحابةٍ على رِجْسِ قلبها فتنفيه حتى ليس به ذرةٌ من دَنَسِهِ الذي رَكِبَهُ الساعة. كان لصاحبها في حِس أعصابها ذل الصوتُ الأسودُ المنطفيء المبهم، المتلجلج مما فيه قوة شهواته؛ وكان للمؤذن صوتٌ آخر في روحها؛ صوتٌ أحمر مستعلُ كمْعَعَةِ الحريق، مجلجلٌ كالرعد، واضحٌ كالحقيقة، فيه قوة اللهّ!
سمعتْ صوتَ السلسلة وقَعْقَعَتها تُلوَى وتُشد عليها، ثم سمعتْ صوتَ السلسلة بعينها يُكسر حديدُها ويتحطم
كانت طهارتُها تختنق فنفذتْ إليها النسمات؛ وطارت الحمامةُ حين دعاها صوتُ الجو، بعد أن كانت أَسَفتْ حين دعاها صوتُ الأرض. طارت الحمامة، لأن الطبيعة التفتتْ فيها لفتةً أخرى.
ويكرر المؤذن في ختام أذانه: (الله أكبرُ الله أكبر!) فاذا. . .
* * *
وتَبلدَ خاطري فوقفتُ في بناء القصة عند هذا الحد، ولم أدرِ كيف يكون جوابُ (إذا. . . .) فتركتُ فكري يعمل عمله كما تُلْهِمه الواعيةُ الباطنة، ونِمْت. . . .
ورأيتُ في نومي أني أدخل المسجد لصلاة العيد وهو يعجُّ بتكبير المصلين: (الله اكبرُ الله أبر!) ولهم هديرٌ هدير البحر في تلاطمه. وأرى المسجد قد عص بالناس فاتصلوا وتلاحموا؛ تجد الصف منهم على استوائه كما تجد السطؤَ في الكتاب، ممدوداً محتبكاً ينتظمهُ وضْعٌ واحد، وأراهم تابعوا صفاً وراء صف، ونسقاً على نسق، فالمسجد بهم السنبُلة مُلئتْ حباً ما بين أولها وآخرها؛ كلُّ حبة هي في لفٍ من اهلها وشملها، فليس فيهن على الكثرة حَبةٌ واحدة تُميزُها السنبلة فَضل يمييز، لا في الأعلى ولا في الأسفل
وأقف متحيراً مُتلدداً ألتفتُ ههنا وههنا، لا أدري كيف أخلُصُ إلى موضع أجلس فيه؛ ثم أمضي أتخطى الرقاب أطمع في فُرْجةٍ اقتحمها وما تنفرج، حتى انتهىَ إلى الصف؛ وانظرُ إلى جانب المحراب شيخاً بادناً يملأ موضع رَجلين وقد نفح منه ريحُ المسك، وهو في ثيابٍ من سُندُسِ خُضر. فلما حاذْيته جَمع نفسه وانكمش. فكأنما هو يُطوي طياً، ورأيت مكاناً وسعني غحططتُ فيه إلى جانبه وأنا اعجبً للرجل كيف ضاق ولم اضيق عليه، وأين ذهب نصفه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زيماً على زيمٍ وامتلاءً على امتلاء.
وجعلتُ أْحدُسُ عليه طني، فوقع في نفسي انه ملك من ملائة الله قد تمثل في الصورة الآدمية فاكتتم لأمرٍ من الأمر
وضج الناسُ: (الله أكبرُ الله أكبر!) في صوت تقشعر منه جلودُ الذين يخشون ربهم، غير أن الناس مما ألفوا الكلمة ومما جهلوا من معناها - لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام، اما الذي إلى جانبي فكان ينتفض لها انتفاضةً رحبتني منع رجا، إذ كنت ملتصقاً به مناكباً له؛ وكأن المسجد في نفضه إيانا كان قطاراً يجري بنا في سرعة السحاب، فكل ما فيه يرتج
ويهتز. ورأيت صاحبي يّذْهل عن نفسه، ويتلألأ على وجهه نورٌ لكل تكبيرة، كأن هناك مصباحاً لايزال ينطفيء ويشتعل؛ فقطعتُ الرأي انه من الملائكة
ثم اقيمت الصلاةُ وكبر الامام وكبر اهلُ المسجد، وكنت قرأتُ أن بعضهم صلى خلف رجلٍ من عظماء النفوس الذين يعرفون الله حق معرفته؛ قال: فلما كبر قال: (الله) ثم بُهت وبقي كأنه جسدٌ ليس به رُوح من إجلاله لله تعالى؛ ثم قال: (أكْبَرْ) يَعْزِم بها عزماً، فظننتُ أن قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره. قلتُ أنا: أما الذي الى جانبي فلما كبر مد صوته مداً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نورً لملأ ما بين الفجر والصُّحى
* * *
وعرفتُ واله من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأني لم ادخله من قبل، فكان هذا الجالسُ الى جانبي كضوء المصباح في المصباح، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحي عن معانٍ ادختني من الدنيا في دُنيا على حِدَة. فما المسجدُ بناءً ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيحٌ للعالم الذي يموج من حًوْله ويضطرب؛ فان في الحياة أسبابَ الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد إذ يجمع الناس مراراً في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس؛ ولا تدخله إنسانية الانسان إلا طاهرة منزهةُ مسبغةً على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعارَ الهرِ الذي يُسمى الوضوء، كأنما يغسل الانسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميعُ في هذا المسجد استوا واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، ويكونون جميعاً في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخرون الى الأرض جميعاً ساجدين لله، فليس لرأسٍ على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقق الانسانية وحدتها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجد العالمُ صوابه إلا ههنا؟
فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يَزيغُ به الاجتماع. هو فِكْرٌ واحدٌ لكل الرؤس؛ ومن ثم فهو حلٌ واحد لكل المشاكل، وكما يُشق النهر فتقف الارضُ عند شاطئيه لاتتقدم، يُقام المسجد فتقف الارض بمعانيها التُرابية خلف جدرانه لا تَدْخله
* * *
وما حَرَكةٌ في الصلاة إلا أولها (الله أكبر) وآخرها (الله أكبر)؛ ففي ركعتين من كل صلاة - إحدى عشرة تكبيرة يجهر المصلون بها بلسان واحد؛ وكأني لم أفطن لهذا من قبل، فأيُّ زِمامٍ سياسي للجماهير وروحانيتها أشدُّ وأوثقُ من زمام هذه الكلمة؟
* * *
ولما قُضيت الصلاةُ على المَل وسلم علي، ورأيته مقبلاً محتفياً، ورأيتني أثيراً في نفسه، وجالت في رأسي الخواطر فتذكرتُ القصة التي أريد أن اكتبها؛ وأن المذن يكرر في خاتمة أذانه:(الله أكبرُ الله أكبر) فاذا. . . .
وقلت لَلأْسألنه، وما أعظم أن يكون في مقالتي أسطرٌ يُلهمها ملك من الملائكة! ولم أكدْ أرفع وجهي اليه حتى قال: (فاذ لطمتان على وجه الشيطان؛ فَولَى مُدبراً ولم يُعقب؛ ووضعت الكلمةُ الآليةُ معناها في موضعه من قلب الفتاة، فلأياً بلأيٍ ما نجت
إن الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولنه هو الفولاذُ السيكُ الصلبُ الذي تُصفح به أخلاقها المدافعة
الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟
إنها تنشد هذا النشيد:
* * *
بَينَ الوقتِ والوقتِ من اليوم تَدقُ ساعةُ الاسلام بهذا الرنين: الله أكبرُ الله أكبر، كما تدق الساعةُ في موضعٍ ليتكلمً الوقتُ برنينها
* * *
الله أكبر. بَيْن ساعاتٍ وساعاتٍ من اليوم ترْسِل الحياةُ في هذه الكلمة نداءها تهتفُ: أيها المؤمن، إن كنتَ أَصبْتَ في الساعات التي مضتْ، فاحتهدْ للساعات التي تتلو؛ وإن كنتَ أخطأتَ، فكفر، وامحُ ساعةً بساعة؛ الزمنُ يمحو الزمن، والعملُ يغير العمل، ودقيقةٌ باقيةٌ في العمر هي أملٌ كبير في رحمة الله
* * *
بين ساعات وساعات، يتناول المؤمنُ ميوانً نفسه حين يسمع: الله أكبر. . ليعرف الصحة
والمرضَ من نيته؛ كما يضَعُ الطبيب لمريضه بينَ ساعاتٍ وساعاتٍ ميزان الحرارة
* * *
اليومُ الواحد في طبيعة هذه الارضُ عمْرٌ طويل للشر، تكاد كلُّ دقيقةٍ بشرها تكون يوماً مختوماً بِلَيْلٍ أسود؛ فيجب أن تقسمَ الأنسانيةُ يومها بعدد قارات الدنيا الخمسْ، لأن يومَ الأرض صورةٌ من الأرض. وعند كل قسم: من الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعِشاء، - تصيح الأنسانيةُ المؤمنةُ مُنَبهةً نفسها: الله أكبر، الله أكبر
* * *
بين ساعات وساعات من اليوم يَعْرِص كل مؤمن حسابَه، فيقوم بين يَدَي الله ويرفعه إليه. وكيف يكون من لا يزال ينتظر طولَ عُمره بين ساعاتٍ وساعات - الله أكبر.
* * *
بين الوقت والوقت من النهار والليل تدوي كلمةُ الروح: الله أكبر. ويُحييها الناسُك الله أكبر. لعتادَ الجماهير كيف يُقلدون الى الخير بسهول، وكيف يحققون في الأنسانية معنى اجتماع أهل البيت الواحد؛ فتكون الأستجابةُ إلى كل نداء اجتماعي مغروسةً في طبيعتهم بغير أستِكْراه
* * *
النفس أسمى من المادةِ الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرِب، ولا دِينَ لمن لا تشمئزُّ نفسُه من الدناءة بأنَفَة طبيعية، وتحمل همومَ الحياة بقوةٍ ثابتة
لا تضطربوا؛ هذا هو النظام، لاتنحرفوا؛ هذا هو النهجْ. لاتتراجعوا؛ هذا هو النداء. لن يَكْبرَ عليكم شيءٌ ما دامت كلمتُكم: الله أكبر.
طنطنا
مصطفى صادق الرافعي
مصر وماء النيل وحوادث الحبشة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تجري الآن على حدود لحبشة حودث خطيرة، ويكشف الاستعمار الايطالي عن نياته ومطامعه نحو الحبشة شيئاً فشيئاً؛ وقد احتلت الجنود الايطالية بالفعل بعض مواقع ومراكز حبشية على مقربة من حدود السومال الايطالي، وما زالت إيطاليا تحشد قواتها في تلك الانحاء، وترخق الحبشة بمطالبها ودعاويها؛ والحبشة من جانبها تلتمس تدخل عصبة الامم، وتشهدها على هذا الاعتداء، ولكن ماذا عسى أن تفعل عصبة جنيف إزاء خطة مبيتة مدبرة تترقب إيطاليا الفاشستية الفرصة لتنفيذها منذ أعوام؟ ولقد بينا في مقال سابق أدوار هذا النضال الذي يضطرم منذ أواخر القرن الماضي بين الحبشة والاستعمالا الغربي، وكيف أن ايطاليا استاعت في وقت من الاوقات أن تفرض حمايتها على الحبشة بعد أن احتلت مصوع والارتيرية، وكيف استطاعت الحبشة لأعوام قلائل أن تحطم هذا النير الذي حاولت إيطاليا أن تضعه في عنقها، وأن تسحق الجيوش الايطالية في موقعه (عدوه) الشهيرة (سنة 1896)، وأن ترغم إيطاليا وأوربا على احترم استقلالها. وسوف تنظر عصبة الأمم في هذا النزاع بعد أيام قلائل، ولكنا نستطيع أن نتنبأ منذ الآن أن العصبة لن تستطيع شيئاً، وأنها كما فشلت في المسألة المنشورية ورد عدوان اليابان عن الصين، ستلقي مثل هذا الفشل في حل النزاع الايطالي الحبشس، وسيكون القول الفصل للقوة المادية، فاذا استطاعت إيطاليا أن تتوغل في الحبشة فسوف تمضي في تنفيذ خطتها المرسومة لغزو الحبشة واحتلالها كلها أو بعضها، ولن ينقذ الحبشة من هذا الخطر على حرياتها واستقلالها سوى الاعتماد على نفسها وما تستطيع أن تتذرع به من وسائل المقاومة والدفاع
وقد كان حرياً ان تلقى هذه الحوادث صداها في مصر وأن تثير فيها أعظم اهتمام: فبين مصر والحبشة علائق تاريخية قديمة، والشعب الحبشس تابع من الوجهة الدينية للكنيسة القبطية المصرية، وبطريرك الحبشة او زعيمها الديني مصري بعينه البطريرك المصري؛ ومن جهة اخرى فان لمصر مصالح خطيرة في الحبشة تتعلق بمياه النيل ومنابعه؛ فالنيل لأزرق الذي يمد النيل بكميات عظيمة من الماء والطمى المخصب ينبع من بحيرة تبسانا
الحبشية التي تقع مستعمرة ارتيرية الايطالية؛ ولايطاليا في هذه المنطقة مطامع اقتصادية كبيرة. والحبشة لا تجهل أهمية تسانا ولا خطورة المصالح الخارجية المتعلقة بمائها؛ وقد بذلت انكلتر في العهد الاخير جهوداً عظيمة لتحصل من الحبشة على امتياز بماء هذه البحيرة حفظاً لمصالحها الاقتصادية في السودان، وخشية أن تنافسها في ذلك دولة أوربية أخرى فتهدد هذه المصالح؛ وكانت الحكومة الحبشية تميل إلى منح هذا الامتياز لشركة أمريكية كبيرة، وقدذهبت بالفعل شوطاً بعيداً في هذا السبيل، وقامت هذه الشركة ببعض الأعمال والاجراءات التمهيدية في منطقة البحيرة، ولكن الحبشة آثرت في النهاية أن تستبقي إشرافها وسيطرتها على البحيرة، ولم تكن جهود السياسة البريطانية بعيدة عن هذا القرار. وتعمل الساسة البريطانية اليوم على أن تضطلع مصر بأعباء النفقات التي تقتضيها المشاريع الخاصة بمنطقة تسانا، وقد بذلت مصر فعلاً مبالغ طائلة في هذا السبيل.
كان يجدربمصر إذن أن تتبع حوادث الحبشة بمنتهى الاهتمام، وأن تقدر جميع الاحتمالات التي تترتب على نجاح إيطاليا في غزو هذه المنطقة، إذا قدر لخطتها النجاح؛ ولكن مصر ترغم بكل أسف على أن تقف من هذه الحوادث موقف المتفرج الذي لايعنيه من الأمر شيء؛ والسياسة الانكليزية تأخذ بيدها كل الامر سواء باسمها أو بأسم مصر؛ والسياسة الانكليزية تحرص على مصالحها في السودان قبل كل شيء. وقد كان التوازن الانكليزي الايطالي في تلك المنطقة يحول دون وقوع تطورات جديدة؛ ولكن الظاهر أن إيطاليا الفاشستة استطاعت أن تتفاهم مع السياسة البريطانية، وأن تقنعها بوجوب التسليم بمطامع إيطاليا وتفوق مصالحها في المنطقة الحبشية، وهي مطامع نوهت باحترامها المعاهدة الثلاثية التي عقدت في سنة 1906 بين إيطاليا وانكلترا وفرنسا؛ وإيطاليا تقوم الآن بتنفيذ خطة مقررة لا ترى فيها انكلترا أو فرنسا ما يدعو الى الاعتراض، بل لقد تقدمت السياسة البريطانية لمعاونة الاستعمار الايطالي على التوسع، فحملت على عقد معاهدة جغبوب، والنزول لايطاليا عن بعض اراضيها، وعادت هذا العام فنزلت لايطاليا باسم مصر عن جزء من واحة العوينات الواقعة في السودان الغربي مما يلي برقة، وها هي الآن تترك ايطاليا حرة في تدبير اعتدائها غبى الاراضي الحبشية، وقد أشرنا في مقال سابق الى أن اهم عامل في وقوف السياسية البريطانية هذا الموقف هو ظهور النفوذ الاقتصادي الياباني
في تلك المنطقة، وهو نفوذ تجارية بكل ما وسعت واينما ان
* * *
كان ماء النيل وما زال اعظم قنية تحرص عليها مصر؛ ومنذ فجر التاريخ تشعر مصر بح أن حياتها تتوقف على مياه هذا النهر الخالد، وبأن كل ما حبتها به الطبيعة من النعاء والخصب إنما هو من جريانه وفيضه، وكم نكبت مصر، وعانت أهوال القحط والوباء، وفقدت من أبنائها الملايين، لان النيل لم يسعفها بوافر فيضه. ومصر تعمل منذ اقدم العصور للفوز بأكبر قسط من هذا الغيث المبارك، وتسعى بكل ما وسعت لضبطه واستثماره، وكثيراً ما سير الفراعنة الحملات الى أعالي النيل للوقوف على أسرار هذا النهر العظيم واستقصاء منابعه والسهر على سلامة مجراه. وكان طبيعياً أن ترث دول مصر الاسلامية هذا الاهتمام بأمر النيل؛ واي دولة لم تقدر أن النيل هو حياة مصر؟ وكانت حكومات السلاطين تعني باستقصاء كل ما يتعلق بمجرى النيل واحوال جنوبي مصر والنوبة؛ وكانت تعرف ان الحبشة تسيطر على قسم هام من منابع النيل، وكانت الحبشة تقدر من جانبها اهمية هذا الاشراف الذي يتعلق بمصالح لمصر تعرف أنها حيوية جوهرية، وتتخذ هذا الأشراف في أحيان كثيرة وسيلة لنوع من الضغط السياسي تتذرع به لتحقيق بعض مصالحها ومطالبها المعلقة على إرادة مصر؛ ذلك أن مصر كانت تسيطر على بيت المقدس وبها الاماكن النصرانية المقدسة، وتسيطر على ارواح ملايين من النصارى، وبها مركز البطريركية المرقسية التي تتبعها الحبشة من الوجهة الدينية. ففي عصور الاضطراب او الاضطهاد حيثما يصيب المصالح النصرانية او الرعايا النصارى شيء من الظلم او الغبن، كان ملوك الحبشة يسعون لدى سلاطين مصر لرفع هذا الاضطهاد، او لتحقيق بعض المنح كأن تعاد بعض الكنائس التي هدمت، او يطلق سراح المعتقلين، او غير ذل من المطالب؛ وكان ملوك الحبشة يجدون دائماً في التلميح إلى ماء النيل وإلى منابعه الواقعة تحت إشرافهم اداة قوية لتحيقي مطالبهم، وكذلك كانت سيطرتهم على أرواح كثير من الرعايا المسلمين في بعض الولايات الحبشية عاملاً آخر من عوامل الضغط، مثلما كانت سيطرة السلاطين على أرواح الرعايا النصارى
وقد انتهت إلينا بعض وثائق قديمة هامة تلقي ضوءاً على اهمية هذا التجاذب السياسي بين
مصر والحبشة، ومداره ماء النيل والتنويه بخطورته واحتمال حجزه عن مصر؛ ومن ذلك وثيقة طريفة وجهت من ملك الحبشة إلى سلطان مصر سنة 847هـ (1443م)، وكان نجاشي الحبشة يومئذ (زرع يعقوب) الملقب بقسطنطين، وسلطان مصر هو الظاهر جقمق الذي تولى الملك سنة 842هـ؛ ووصلت هذه السفارة الحبشية إلى بلاط مصر في 18 رجب سنة 847هـ، على يد وقد حبشي يحمل هدية فخمة الى السلطان منها عدة كبيرة من الجواري والى والاسلحة الذهبية؛ ورسالة طويلة من النجاشي الى السلطان، ينوه فيها بما بلغه من حزمه وعدله وحسن سيرته، وبما كان من تسامح أسلافه السلاطين نحو النصارى، ويعتب عليه فيما بلغه من اضطهاد النصارى في ظل حكمه، في حين أن المسلمين في الحبشة، وهم كتلة كبيرة، يلقون كثيراً من ضروب التسامح والرعاية؛ ويشير إلى سيطرة الحبشة على ماء النيل في هذه العبارة:(وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجر إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة على أن تمنع الزيادة التي تروي بلادم من المشي إليم لأن لنا بلاداً نفتح لها أماكن فوقانية ينصرف فيها إلى أمكامن أخر قبل أن يجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله) وقد لبثت علائق مصر الاسلامية والحبشة عصوراً تدور حول هاتين النقطتين الخطيرتين: المسألة الدينية أعني معاملة مصر لرعاياها النصارى، ومعاملة الحبشة لرعاياها المسلمين، ومسألة مياه النيل؛ وانت مصر تستعمل المسألة الاولى وسيلة للضمان والتوازن في المسألة الثانية؛ وكذلك مسألة إشرافها على اكنيسة القبطية ومن ثم على تعيين المطران الحبشي؛ ومنذ القرن السابع الهجري نجد سلسلة من السفارات والمراسلات المنظمة تتبادلها مصر والحبشة، ففي عصر الظاهر بيبرس وردت مكاتبات ودية من الحبشة إلى سلطان مصر تنويهاً بحسن العلائق بينهما؛ ووردت على مصر سفراة حبشية في عصر الظاهر برقوق من الملك داود نجاشي الحبشة وهو والد قسطنطين السابق ذكره؛ وأرسل الملك الظاهر جقمق سفارة إلى الحبشة رداً على السفارة المتقدمة ولكن النجاشي استقبل رسل السلطان أسوأ استقبال، لان السلطان رد عليه رداً لم يرقه، ولم يعد بتحقيق مطالبه
* * *
ولم تغفل مصر في العصر الحديث هذه الحقيقة الخلدة، وهي أن حياتها من النيل واليه،
ومستقبلها الاقتصادي متوقف على حسن استثنارها لمائه؛ وكانت تلك الخرافات القديمة التي تحيط بمنابع النيل العليا قد اخذت تغيض شيئاً فشيئاً، وتبدو اهمية الاحاطة بهذه المناطق وإشراف مصر عليها؛ وكانت عندئذ فتوحات مصر في السودان منذ أوائل القرن الماضي، ثم فتوحاتها في بعض المناطق الحبشية، واستيلاؤها على كثير من هذه الانحاء، ووصول الحملات المصرية إلى اعالي النيل الأبيض ومناطق المطيرة وبحر الغزل، ووقوفها على كثير من أسرار النهر العظيم وطريقة جريانه ووصولها إلى منطقة تسانا في الحبشة، وسيطرتها على مجرى النيل الازرق كله. ثم كانت البعوث الاكتشافية التي اخذت مصر بقسط وافر في إعدادها وتنظيمها لاتشاف منابع النيل، والاحاطة التامة بظروفها الجغرافية، فكانت بعوث أمين باشا (ادوارد شنتزر)، والسير سمويل بيكر، والكبتن سبيك وغيرهم في اواخر القرن الماضي؛ واكتشفت منابع النيل الاصلية في قلب افريقية، ورفع القناع الاخير عن الاساطير التي احاطت بها، وعرفت مصر من أين ياتيها كيف يسير اليها الغيث المبارك
ومنذ اوائل هذا القرن تعنى الحكومة المصرية أكبر العناية بأنشاء المشاريع الهندسية الكبرى سواء في مصر او السودن، لضمان انتفاع مصر بأكبر قسط من مياه النسل، وقد انفقت مصر الى اليو في هذا السبيل عشرات الملايين؛ وان آخر هذه المشاريع مشروعا تعلية خزان أسوان، وإنشاء خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض. وما زالت ثمت مشاريع اخرى في اعالي النيل الابيض، وفي منطقة بحيرة تسانا يراد أن تحمل مصر على القيام بها
* * *
ولا ريب أن السياسة البريطانية تعمل من جانبها على أن ينتفع السوادن بأكبر قسط من مياه النيل، وأن تجني بريطانيا من وراء ذلك أعظم الثمار الاقتصادية، والسياسة البريطانية ما زالت تحمل مصر على غنفاق الملايين في مشاريع النيل السودانية باسم المصالح المصرية؛ وقد استطاعت بريطانيا العظمى ان تستأثر في العهد الاخير بالسيطرة على السودان، وأن تقضي فيه على كل نفوذ فعلي لمصر، والسياسة البريطانية تعترف بحقوق مصر في مياه النيل، ولكنها لا تتأخر عن الضغط على مصر ن هذه الناحية إذا اقتضت
مصالحها ذلك، وقد لجأت فعلاً إلى هذا الضغط في أواخر سنة 1924 لمناسبة مقتل السردار، فانذرت مصر في بلاغها النهائي بأن حكومة السودان سترفع كل قيد وتحديد عن ري اراضي الجزيرة، او بعبارة اخرى ستطلق فيها من المياه ما شاءت دون النظر إلى حقوق مصر وحاجاتها
على انه يحسن فيما يتعلق بمسألة تسانا والحبشة ان تفاهم الحكومتان المصرية والبريطانية على الوسائل التي تؤدي الى صون مصالحهما المشتركة في مياه هذه المنطقة، إذا أسفر الصراع الحالي بين إيطاليا والحبشة عن تسرب النفوذ الايطالي الى تلك المنطقة.
ومن واجب الحكومة المصرية أن تتبع ادوار هذا الصراع بمنتهى الاهتمام؛ واما الشعب المصري فلا ريب انه يتتبعه بمنتهى العطق على امة صديقة تربطها بمصر علائق قديمة، وامة باسلة تعمل للذود عن حرياتها إزاء عدوان الاستعمار الغربي
محمد عبد الله عنان المحامي
آفة الغة هذا النحو.
. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
أستأذن أستاذَنا الجليل (الزيات) فاستعير منه هذا العنون. فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في (الرسالة) الثالثة عشرة:
قال الاستاذ: (ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن نحن اليوم، وقبل اليوم، إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوم تلك اللهجة، وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلاب القديم، على ألا يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد، وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها، وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمة التاريخ، وفي خدمة التاريخ؟).
ولقد صدق أستاذنا وبر، واصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لاعرف جماعة من الشيوخ، قرأوا النحو بضعة عشر عاماً، ووقفوا على مذاهبه واقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، واولوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب، ثم لايفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، او خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. . .
ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الاول:
وقد روي السيوطي في (بغية الوعاة) أن الكسائي قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية!. . . وأن الخليل لم يكن يحسن النداء. . . وأن سيبويه لم يكن يدري حد التعجب!
وأن رجلاً قال لابن خالويه: أريد أن تعلمني من النحو والعرية ما أقيم به لساني. فقال له ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني:
لإاي فائدة من النحو، إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ وما الذي يبقي للنحو إذا لم يؤد إلى هذه الغاية، واذا أصبح أصعب فنون العربية وهو لم يوضع
إلا لتسهيلها وتقريبها؟
ومن - ليت شعري - يسلك الجادة ليخلص من الوعر ويدنوا من الغاية، إذا رأى من هو أقوى منه وأجلد قد سلكها فانتهت حياته ولم ينته منها، واتته منيته وهو في بعضها. . . يقلب حصباءه، وينبش تربها، وينظر في جوانبها؟. . .
وإذا كان ملك النحاة بعد أن أنفق عمره كله في تعلم الحو وتعليمه، يستشكل عشر مسائل، وتستعصى عليه فيسميها (المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر) ويأمر أن توضع معه في قبره، ليحلها. . . عند ربه! فما بالك بأمثالنا من السوقة؟. .
وكيف نفهم هذا النحو وندركه ادراكاً بله الاستفادة منه؟ وأن نجتنب به الخأ في النطق وفي الفهم؟. . .
ومن يقبل على النحو، وهو يرى هذه الشروح وهذه الحواشي التس تحوي كل مختلف من القول. وكل بعيد من التعليل، وفيه كل تعقيد، حتىما ينجو العالم من مشاكلها مهما درس وبحث ونقب، ولايشتقر في المسألة على قول حتى يبدو له غيره أو يجد ما يرده ويعارضه، القائم على ظهر الحوت، لايميل الى جانب الا ميل به إلى جانب، ولا يدري متى يغوص الحوت، فيدعه غريقاً في اليم. . .
وسبب هذا التعقيد - فيما أحسب - أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى، وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرضاً من أعراض الدنيا، فعقدوه هذا التعقيد وهو لو أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلا بهم، فيأتوهم، فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا. . .
روي الجاحظ في كتاب الحيوان، أنه قال الأخفش: مالك تكتب الكتاب فتبدؤه عذباً سائغاً، ثم تجعله صعباً غامضاً، ثم تعود به كما بدأت؟
قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرهم، أتوني ففسرت لهم الغامض فاخذت منهم!
وروي السيوطي: أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة اين خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟
فقالوا: لا. فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟
فقال: أنا أعرف اسمين. قال: ما هما؟
قال: لا أقول لك إلا بالف درهم!. .
وكان نفطويه لا يُقريء كتاب سيبويه إلا إذا أخذ الرسم، من أل ذلك اتخذ النحاة هذا التعقيد سنة جروا عليها، وغاية تواطأوا على بلوغها، لتتم الحاجة إليهم وتثبت لهم مكانتهم، وتستمر الحاجة إليهم، حتى ان أبا علي الفارسي، لما سأله عضد الدولة بن بويه أن يصنف له تاباً في النحو - وصنف الايضاح، واوضح فيه النحو وقربة حتى أتى عليه عضد الدولة ليلة، واستقصره وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، أخس أبو علي بالخطأ، وشعر [انه خرج على هذه الخطة التي اختطوها لانفسهم: خطة التعقيد. . . فعمد إلى تدارك الخطأ، فمضى فصنف التكملة وحملها إليه، فاما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ فجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو. . .
وزاد النحو تعقيداً وإبهماً وبعداً عن الغاية الي وضع من أجلها، ما صنعه الرماني من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر من بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو مهاصر له:
(إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء. . .).
فخرج النحو بذلك عن الجادة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا عاماً مستقلاً معقداً مضطرباً لا تكاد تثبت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسباً، حتى أن السيرافي لما ألف كتابه الاقناع (الذي اتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فاصبح مفهوماً سهلاً، لايحتاج الى مفسر ولا يقصر عن إداراه أحد، حتلا قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الاقناع. . . لما ألفه قاومه النحاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف انه بقي منه بقية!
وزاد النحو فساداً على هذا الفاد هذا الخلاف بين المذهبين (او المدرستين على التعبير الجديد): المذهب الكوفي، والمذهب البصر، وما جره هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظر المشهورة بين الكسائ وسيبويه، حين ورد هذا بغداد علي يحيى البرمكي، فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة فقال له السائي:
- كيف نقول: قد نت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فاذ هو ي، أو هو إياها
- فقال سيبويه: فاذا هو هي، ولا يجوز النصب
- فقال السائ: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فاذا زيد قائم أو قائماً وسيبويه يمنع النصب
فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد وفدوا عليك، وهم فصحاء الناس فسألهم
- فقال يحيى: أنصفت
وأحضروا فسئلوا، فاتبعو الكسائي فاستكان سيبويه وقال:
- أيها الوزير. سألتك إلا ما امرتهم أن ينطقوا بذلك، فان ألسنتهم لا تجري عليه، وكانوا إنما قالوا: الصواب ما قاله هذا الشيخ!
- فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد اليك من بلده مؤملاً، فان رأيت الا ترده خائباً
فإمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج الى فارس فمات بها بعد قليل غماً وأسى!
في حين أن الحق كان في الذي يقوله سيبويه، ، ان الكسائي كان - كما يقول السيوطي - ممن أفسدوا النحو، لأنه ان يسمع الشاذ الذي لايجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً. . . .
وزاد النحو فساداً على هذا الفساد، ابتغاؤهم العلة والسبب، لكل ما نطقت به العرب، وسعيهم لتعليل كل منصوب ومخفوض، وسلوكهم في ذل أبعد السبل من الواقع، وأدناها إلى التنطع والوهم. ومن ذلك ما رواه أبن خلكان من أن أبا علي الفارسي كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له:
- بم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً؟ قال السيخ: بفعل مقدر. قال: كيف تقديره؟ قال: أستثنى زيداً، فقال له: هلا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد!
فانقطع الشيخ وقال:
- هذا جواب ميداني فاذا رجعت قلت الجواب الصحيح.
ثم انه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً وحمله إليه فاستحسنه
قال السيوطي، والذي اختاره أبو علي في الأيضاح أنه ينتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا
قال: والمسألة فيها سبعة أقوال. . . . حكيتها في كتابي جمع الجوامع من غير ترجيح، وأنا أميل الى القول الذي ذكره أبو علي اولاً. . .
* * *
هذه بعض الأسباب التي جعلت النحو معقداً هذا التعقيد، مضطرباً هذا الأضطراب، بعيداً عن الغاية هذا البعد. (فلماذا لانرجد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وتقوم تلك اللهجة - التي نلهجها - وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة؟)
ولماذا لا يدلي علماء العربية وأدباؤها برأيهم في سبيل الأصلاح، ولماذا لا ينشر شاعرنا الفحل الأستاذ المحقق محمد البرم، وهو أول رجل اعرفه انتبه إلى فساد هذا النحو، ولبث خمسة عشر عاماً يعالج أدواءه، ويصف دواءه، ويقرأ من أجل ذل كل ما في أيدي الناس من كتب النحو وأسفار العربية؛ لماذا لاينشر ثمرة بحثه، وخلاصة دراسته في (الرسالة) مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية، ليطلع عليها علماء العربية وأدباؤها، ويبدوا آراءهم فيها، فيكون من ذلك الخير للعربية إن شاء الله؛ ويكون الفضل للأستاذ الزيات على أن فتح هذا الباب، وللأستاذ البزم على أن كان أول من ولجه؟
علي الطنطاوي
مسابقة أدبية
إلى شعراء العربية
من الآسة (مي)
قصيدة من النسق العالي في الشعر الوجداني الفرنسي صغتها قريحة الآنسة النابغة (مي) ثم ترجمتها هي إلى العربية وقدمتها إلى شعرائنا مقترحة أن ينقلوها نماً إلى لغتنا في موعد لايتجاوز آخر شهر فبراير سنة 1935.
وقد تفضلت فتبرعت للمجيد الاول بجائزة مالية قدرها جنيهان مصريان. وسيكون الفصل بين الشعراء للجنة ن الأدباء سنعلن تأليفها عما قريب (المحرر)
الترجمة
ارتباب
صديقتي يا ذات العينين الكبيرتين الوديعتين، روحي تناديك!
الريحُ في هذا المساء تهبُّ هوجاء شديدة الوطأة،
الريحُ تجأر، وصوتها العصي الناحب
يُرجعُ في دوي الصدى عصياً مكبوتاً.
صديقتي يا ذات العينين الكبيرتين الوديعتين، روحي تناديك!
* * *
في اكتئاب أحلمُ، جالسةً بين الأزهار؛
جناحُ الأعصار يلطمُ نافذتي،
السماءُ تبكي: واهاً لهذه الدموع! هذه الدموع المنتحبة
ماذا تحركُ بسيرها في أعماق الكيان؟
في اكتئاب أحلمُ جالسةً بين الازهار.
* * *
أتذكرين يوماً هو الأول من العام؟
إذ السرُّ المغري أنار عينيك،
وإذْ روحي عبدتْ فيكِ روحها الأكبر سناً،
وإذْ منكِ إلى جاءت الكلمةُ الصامتة؟
أتذكرين يوماً هو الأول من العام؟
* * *
شهرٌ تولى، وها قد أتينا على نهايته،
رأيتك خلالهُ مرتين في مسائين اثنين.
والآن وقد أصبح ابتهاجي في عدهِ،
أحنُّ إلى لقاءِ ذياك الفجر الفتان. . .
شهرٌ تولي، وها قد أتينا على نهايتهِ.
* * *
وهذا المساءُ الحالك الممطر مساءُ وداع؛
قاتمةٌ هي افكاري والغمُّ يُبقُ علي؛
ارتيابٌ خبيثٌ يخالطُ قلبي المستسلم للحنان:
ماذا لو كان قلبك مغروراً محتلاً؟. . .
وهذا المساءُ الحالك الممطر مساءُ وداع. . .
(مي)
عابر سبيل
للأستاذ محمد سعيد العريان
قالت له نفسه الكريمة:
(سِرْ يا رفيقي على هادك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس،
ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!)
* * *
قَبْلَ أن يسفر الصبحُ من ليلة العيد، أستهل الصبيُّ صارخاً لأولِ ما يرى الدنيا؛ وقالت القابلة:(ي بُشرى هذا غلام!) فانبسطت وجوه؛ وابتسمت شفاه، ودب المرح في جنبات
الدار
وضمته أمه إلى صدرها النابض فقبلته وقالت: (ستكون سعيداً يا بني؛ إن الحياة لَتبسم في وجهك؛ هذا يوم أشرق صبحه!)
وعاد (الشيخ) من المسجد يدب على عصاه، في لسانه تكبيرُ وتسبيح، وفي قلبه صلاةٌ قائمةٌ ودعاءٌ خاشغ. واستقبلته ابنته بالبشرى:(إنه صبي يا أبتِ! هل ترى أخي؟)
وأدنى الشيخ من جبين الصبي فما يختلج بالشكر! فقبله والدمع يترقرق بين أهدابه، والكلمات تحتبس في لسانه؛ وأطال النظر في وجه الوليد فقال: (لقد أبطأت طويلاً يا بني حتى أدركني الهَرَم، ولكني بك اليوم سعيد! لئن كنت موشكاً أن أمضي إلى الدار الأخرى - إنني لحيٌّ بك في دنياي جيلاً جديداً؛
فَعشْ واسعدْ يا ولدي وابتسم للحياة!) ورفع الشيخ راسه إلى السماء وقال: (اللهم هذا دعائي وأنت أرحم الراحمين!)
* * *
مضى الطفل يعدو وراء الأيام تجاذبه أثوابَ الطفولة؛ فاذا هو غلام يلهو في فناء الدار مع لِداتٍ من الصبيان
وقال له صبيٌّ: (ما هذا معك يا رفيقي؟) فانبسط وجه الغلام، وقاسم الصبيان حلواه ومِليماتِه! وعرف الأطفال أن صاحبهم جواد، فأقبلوا عليه واجتمعوا على وده: وهمس أحدهم فيمن يليه: (إن معه اكثيراً من ذاك!) فتعود الأطفال أم يسرقوه!
ومضى الصبي إلى أبيه يبكي
- (ولدي، ما يبيك؟)
- (أبكي المليمات يا أبي!)
- (غداً أُعطيك غيرها يا بني؛ إن عند الله كثيراً من المليمت للاولاد الصالحين!)
ونظر الغلام إلى فطير في أيدي صحابته فاشتهته نفسه؛ أفيطلب أن يقاسمهم وما تعود؟ ولكن أباه أخذه بألا ينظر إلى ما في أيدي الناس؛ وكم علمه بالحكاية، وكم ضرب له من الأمثال:
أن الحيوان الضعيف هو الذي يعيش على ما في الأيدي؟
ورأى الاطفال شهوته في هينه، فاستخفوا منه يلتهمون من في أيديهم!
* * *
وشب الغلام، فدفعه أبوه إلى المدرسة، وعلمه في أول لياليه وقد رجع من مدرسته؛ أنْ هؤلاء بازاء أهلك هناك؛ فأحسنْ فيهم رعابة الود، وكن بينهم أخاً في إخوانه.)
وقال له زمياه في المدرسة ذات يوم: (هل تعينني على كتابة دَرْسي؟) فلما اعانه مضى الزميل وخلفه يعالج درسه وحده!
وسمع المعلم ذات مرةٍ همساً بين تلميذين؛ وكان جاره يطلب منه قلماً؛ وغصب المعلم وصاح: (مَن يتحدث؟) ولصقت التهمة بالمظلوم، فتلقى الصفعةَ صامتاً وجاره يبتسم؛ ولم تكن ابتسامته من شناته، بل فرحاً بالنجاة من كف غليظة!
وفي الطريق شاغَب التلاميذُ في أحد الايام أعمى يدب على عكازه، فلما توعدهم وهز لهم العصا، فروا وبقي الغلام لأنه بريء، فلم تنل عصا الرجل أحداً غيره! لقد ىلمته الضربةُ ولكنه تقدم بيهتدي الرجل الطريق!
* * *
وأيفع الغلام، واستدناه أبوه اليه وهو مطوي في الفراش على نفسه من وهن الشيخوخة؛ ولبث الشيخ طويلاً يصوب النظر في الغلام ويصعده، ثم تكلم:(ليتك يا بني ملء عيني ما أراك ملء قلبي! ولكني أرى في وجهك اليوم ما كانت تُريني المرآة منذ عشراتٍ وعشرات، فلا جرم أن تبصر يا بني في مرآتك بعد عشراتٍ وعشراتٍ صورة أبيك؛ ستكون أميراً يا ولدي؛ سيستجيب الله دعائي لك، وما انقطع دعائي لك منذ ولدت؛ فأحب الناس، وَهبْ نفسك للجماعة! كن رجلاً قوياً يا بني؛ كن للناس فيض الحب والرحمة، ولا تستجد الحياة ما لا تعطيك؛ السعيد يا بني من يعطي لا من يطلب العطاء!)
وتكرر هذا من أبيه اياماً، كان يريد الا يموت إلا وقد وضع نفسه في ابنه!
ثم مضى أبوه في رحلة طويلة لا رجعة منها إلى هذه الدار.
يا حسرتا! هذا هو في الفراش مسبحي والنائحات تنوح! وأخفى الفتى عينيه يستر دمعه، لقد علمه أبوه أن يكون جَلداً فليحفظ وصاة أبيه
ونظر في وجوه المشيعين في الجنازة فما رأي بينهم رجلاً كالذي فقده، فعلم أنه فَقدَه الى
الأبد. وتصور الدار الخلاءَ إلا من أمه وإخواته. يا للفاجعة! يحب أن يون رَجُل الدار؛ لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد صبياً. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة: (يا أبي، فانني أنت هنا!)
وعاد الى الدار مطرق الرأس، ليضع يد الرجل الصغير في أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته!
أجاءوا يُعزون (الرجل الصغير) أم جاءوا يُحصوُن ما خلف الميتُ وأنفيهم تسيل طمعاً؟
وقال له أمه: (ما بي خوف الوحدة وأنتَ لي، فقم على الدار والدرس؛ إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم والكرامة، فقد كان أبوك عالماً كريماً. كن للناس ما كان أبوك: وجهاً طلقاً، ونفساً سمحة، ويداً معطية، وقلباً يفيض بالحب!
* * *
وخُيل الى الغلام أنه الرجل، وطَمْأنَهُ الى الناس أن أباه اوصاه بالناس، فلم يرد لأحدٍ طَلِبه، وإنه ليحمل من هموم الناس أكثر مما يحمل من هموم نفيه؛ مؤمناً بأنه يفعل واجبه للجماعة، ويؤدي دْينه للأنسانية؛ مستيقناً أن الناس ستحمل عنه إذا نابه هم!
وقال له جاره يوماً: (إن دائني يركب كتفي، فهل عندك فضلٌ من المال الىحين؟)
وأعانه ما قَدَر على إعانته، فاذا جارهُ لا يقلقاه من بعدها إلا حادَ عن الطريق؛ وإن غب (الرجل الصغير) لقيلاً من سوء الظن، وإن فيه لكثيراً من الحياء!
وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا من عسرٍ يستحي أن يستعلن، وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل وينكر العارفة. . .؟
وسأله صديق مرة: (هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي طاقةٌ على أن ادفعه الى معلم بالمال؛ وما بي طاقة أن اهمله من التعليم!)
واهتزت نفس الفتى، لأنه - فيما بدا له من صاحبة - قادرٌ على أن ينفع النس مثل أبيه. وشد الولد من العلم ما شدا، فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!
وقال رجلنا لنفسه: (با للأب المكدود! لقد حَزبته مشغلة العيال عن ذكري؛ ليته يستعينني على بعض أمره!)
ومن أين للفتى أن يعلم بأن كل مبذول مًهين. . . .؟
* * *
وقال له واحدٌ من قرابته ينصحه: (هلا ادرخت فضل اليوم للغد؟ إن المالَ عَصب الحياة، وجاه الرجولة، ومطيةُ الامل البعيد)
وابتسم (الفيلسوف الصغير) وهو يقول: (المال؟ ما أُحب أن أجعل المال خاتمة المسعى وغاية الجهاد، إن البطن لشبرٌ في شبر، وإن الثوب لذراع في ذراع؛ أفيتسع البطن حتى يبتلع غلات ضيعة، أو تطول القامة حتى ما يكسوها إلا ثوبٌ بألف، أو يتضاعف الجسم حتى ما يرويه إلا بيت في مساحة مدينة؟ أنا هو أنا يا صديقي، غنياً أو فقيراً؛ بطتي هو بطني، وثوبي هو ثوبي، وبيتي هو ما متد من قدمي الى رأسي حين أنام!
أي سخرية! إن الفقير الذي يعوزه القرش ليستطيع أن يقول قالة الغني الذي يملك المليون. وماذا يملك العني مما يملك إلا أن يسرح الطرف فيقول: هذه ضيعتي وهذا قصري. أفلا يستطيع الفقير أن يسرح عينيه معاً فيقول مثله: هذه ضياعي وتلك قصوري؟ يلي يا صاحبي. إن الفني لوهم من أوهام الناس، وإن الفقير المعدم ليرى أنه يملك ما شاء أن يملك من الدنيا ما دام راضي النفس!))
وفتراقا وكلاهما يرثى لصاحبه!
* * *
وقالوا له: (هلا التمستَ لك زوجةً تأوى إليها فتجمع ما تفرق من أمرك؛ لعلك أن تجد عندها راحةَ النفس وهدوء القلب؟)
قال: (حتى ألقاها فأعر فها فيدلني عليها قلبي. ما أريدها غنية، فمالي وغناها وأنا عائلها وكاسبها؟ وما أريدها جميلة، فمالي وللجميلة تتوزعها قلوبُ الناس وعيونهم، وبتوز عني منها الشك والقلق؟ وما أغلو في طلب الفيلسوفة العالمة، فأجمع على نفسي هما بالليل وهما بالنهار! وما أريد أن تقول: (كان أبي ورَحم الله جدي)، فتملأ بيتي بأشباح الموتى وأطياف الهالكين! بحسبي أن أجد الفتاة التي يخفق لها قلبي ويهدأ عندها حنيني.)
وخُيل إليه أنه وجدها بعد إذ أعياه المطاف؛ فوهب لها قلبه، وأخلص لها وده، وكشف لها عن نفسه؛ ونظرت الفتاة في مرآتها، ثم لَوَتْ عنه معجبةً مزهوة!
أتراه وقد نالت منه بقسوة الصد، وصَعرِ الخد، وجفوة الدلال - قد أيقن أن المرأة لاتستوثق
من حب صاحبها إلا غلبتْ، ولا تستمكن من زمامه إلا رَكبتْ. . .؟
* * *
باللمسكين! لقد كان بريئاً طاهراً كالطفل، وادعاً مستكيناً كالحمل؛ يحسب الناس كل الناس في مثل براءته وطهره، فما ينشد فيهم إلا المثل الأعلى الذي يراه في نفسه! وأين المثلث الاعلى من هذا الناس؟ أين هؤلاء الذين يرى، من أناسي خياله؟ وأين هذا الوجود من عالم قلبه؟
لقد منحهم حبه فهل لفقي عندهم إلا الغدر؛ واصفاهم وده فهل رأى إلا الاثرة؛ ومحضهم إخلاصه فهل عرف إلا الخديعة والمكر؛ وألان لهم جانبه فهل وجد إلا الكبرياء وصعر الخد. . .؟
وأيقن (الرجلُ الصغير) انه لم يكن في هذا العالم غير طَفلٍ كبير!
وعرف أخيراً أين أحلامه من اليقظة، وأين أمانيه من الحقيقة، وأين المثلُ العليا التي جد ينشدها منذ كان صبياً فلم يجدها إلا في نفسه. . .!
وراودته نفسه أن يكون بعض هذا الناس لعله يلقي بعض أسباب السعداة، فَرن الصدى في مسمعيه يرجع قول أبيه:(ستكون أميراً يا بني، فأحب الناس، وهَبْ نفسك للجماعة؛ إن السعيد من يعطي لا من يطلب العطاء!)
وثابت إليه نفسه، ونفذت الطمأنينةُ إلى قلبه فقال:(نعم غنني لأمير، لأنني فوق الناس، لأنني أعطي ولا أستجدي؛ وإنني لسعيد، لأنني أملك الرضى، ولأنني أمل أن أجعل الحياة جميلة!))
وتلفت يمنةَ ويسرة، ونظر إلى الناس تتجاذبهم ضرواتُ الحياة، مستعيناً بالرضى، مستيقناً أنه سيجد المثل الأعلى هناك؛ عند الغاية من هذا الطريق!
وقالت له نفسه: (سِرْ يا رفيقي على هداك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس؛ ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!
طنطامحمد سعيد العريان
7 -
محاورات أفلاطون
الحوار الثاني
كريتون أو واجب المواطن
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أشخاص الحوار: سقراط. كريتون
مكان الحوار: سجن سقراط
سقراط وانه لو عصى رأى الواحد ورضاه وغض عنهما النظر، واضعاً في اعتباره رأي الكثرة التي لا تفقه من الأمر شيئاً، أفلا يعاني شروراً؟
كريتون - انه بغير شك يعانيها
سقراط - وماذا عساها تكون تلك الشرور؟ الام تنحو؟ وأي شيء تصيب من الشخص المتمرد؟
كريتون - لاريب في أنها ستصيب منه الجسد، فذلك ما تقوى على هدمه الشرور
سقراط - ذلك جد جميل، أليس ذلك حقاً يا كريتون بالنسبة إلى الأشياء الأخر، ولا حاجة بنا إلى ذكرها تفصيلاً؟
أينبغي أن نتبع رأي الجمهرة ونخشاها في موضوعات العدل والظلم، والجميل والقبيح، والخير والشر، وهي ما نحن الآن بصدد بحثه، أم نتبع في ذلك رأي الرجل الواحد الذي يفهمها، والذي يجب أن يكون له منا هيبة وإجلال أكثر مما يكون لسائر الناس أجمعين، والذي إن نبذنا قوله فانما نهدم في أنفسنا جانباً كان يرجى له أن يقوم بالعدل وأن يسوء بالظلم، أليس فينا ذلك الجانب؟
كريتون - إنه موجود يا سقراط، ولا شك في وجوده
سقراط - خذ مثلاً شبيهاً بهذا: هب أننا انتصحنا بما ينصح به هؤلاء الذين لا يفقهون فأفسدنا من أنفسنا جانباً، تصلحه الصحة ويتلفه المرض - أفتكون الحياة جديرة بالبقاء اذا افسد ذاك؟ وإنما أعني به - الجسد
كريتون - نعم
سقراط - أفي وسعنا أن نعيش وأجسامنا مصابة بالشر والفساد؟
كريتون - كلا ولا ريب
سقراط - وهل تساوي الحياة شيئاً إذا ما فسد من الانسان جزؤه الأسمى، ذلك الذي تقومه العدالة ويفسده الجور؟ أفيمكن أن يكون ذلك العنصر الذي يرتبط أمره بالعدل والجور - مهم يكن شأنه في الأنسان - أدنى منزاة من الجسد؟
كريتون - كلا ولاشك
سقراط - هو إذن أرفع مقاماً
كريتون - هو ارفع مقاماً إلى حد بعيد
سقراط - إذن فلا ينبغي يا صاح أن، ابه لما تقوله الجمهرة عنا، إنما يجب أن نصغى لحكم الحقيقة، كما نستع إلى رأي ذلك الواحد الذي يفهم كنه العدل والظلم، فأنت إذن قد رقعت في الخطأ حين ارتأريت وجوب العناية بما يقوله الدهماء في الظلم والعدل، والخير والشر، والزائن والشائن، سيقول أحد:(ولكن الدهماء في مقدروها إهدامنا)
كريتون - نعم ياسقراط، سيكون ذلك بغير شك رد ما تقول
سقراط - هذا حق، ولكن مع ذلك يدهشني أن أرى الحًجة القديمة لا تزال فيما أحسب قائمة قوية كما كانت، وأحب أن أعرف إن كنت أستطيع أن أقول هذا القول في قضية أخرى - وهي أن ليست الحياة حقيقة بالتدقير ما لم تكن قبل كل شيء حياة خيرة؟
كريتون - نعم بقي لنا أن نبحث هذه أيضاً
سقراط - والحياة الخيرة تعادل الحيادة العادلة الشريفة - أليس هذا كذلك صحيحاً؟
كريتون - نعم إنه صحيح
سقراط - سانتقل من هذه المقدمات إلى البحث عما إذا كان واجباً عليّ أن أحاول الفرار بغير موافقة الاثينيين، م إن ذلك لايجوز؛ لإان كنت على حق صريح في الفران حاولته، إن لم أكن، امنعت. اما سائر الاعتبارات التي ذكرتها عن المال وضيعة الأخلاق وواجب تربية الأطفال، فهي كما بلغني، ليست إلا تعاليم الدهماء الذين لو استطاعوا لما ابوا أن يضيفوا الى الحياة أناساً، كما انهم لا يتعففون عن أن يوردوا الحتف أناساً، وتكقيهم في كلتا الحالتين أوهن الأسباب. أما وقد وصلنا بالجدل إلى هذا الحد، فقد بقيت لدينا مشكلة واحدة
جديرة بالبحث، وهي: هل نكون على حق في الهروب بأنفسنا، أو في تحميل سوانا عناء عوننا في الفرار، لقاء نقدهم جزاء وشكوراً أم لا نكون، فان كانت الأخيرة فلا ينبغي أن يحسب حساباً للموت، أو لما شئت من الكوارث التي قد تنجم عن بقائي هنا
كريتون - احسبك مصيباً يا سقراط، فكيف سبيلنا إذن إلى البحث؟
سقرا - لننظر معاً في الأمر، فان استطعت لما أقول تفنيداً فافعل، وسأقتنع بك، وإلا فأمسك يا صديقي العزيز، ولا تقل ثانية بأنه يجب عليّ أن الوذ بالفرار برغم إرادة الاثينيين، وليتني أجد منك غقناعاً، ولشد ما أرغب في هذا على ألا يكون ذلك مخالفاً لما أراه حكماً سديداً. وتفضل الآن فانر في موقفي الأول، وحاول ما استطعت أن تجيب عما أقول
كريتون - سأبذل في ذلك وسعي
سقراط - افيجوز لنا القول بأنه لاينبغي لنا قطعاً أن نتعمد الخطأ، أم أن فعل الخطأ مقبول حيناً مرذول حيناً آخر، أم أن فعله أبداً شر ووصمة عار كما سبق لي القول الآن وسلمنا بصحته معاً؟ أفننبذ الآن كل ما سمحنا لأنفسنا به منذ أيام قلائل؟ أم أننا قضينا هذا العمر الطويل، يحاور بعضنا بعضاً في حماسة وإخلاص، لكي نوقن ونحن في هذه السن بأنا لا نفضل الاطفال في شيء؟ أم نثق ثقة قاطعة بصحة ما قيل من قبل، من أن الجور دائماً شر وعار على الجائر، يرغم ما يرى الدهماء، وبرغم ما ينجم عن ذلك من نتائج، حسنة كانت أم سيئة؟ هل نؤيد هذا؟
كريتون - نعم
سقراط - إذن يجب ألا نفعل الخطأ
كريتون - بقينا يجب ألا نفعله
سقراط - واذا أصابنا الضرر فلا نرده بضرر مثله، كما تتخيل كثرة الناس، لأنه يجب ألا نصيب أحداً بضر
ريتون - واضح أن ذلك لا يجوز
سقراط - ثم هل يجوز لنا أن نفعل الشر يا كريتون؟
كريتون - لا يجوز قطعاً يا سقراط
سقراط - وما رأيك في رد الشر بالشر، وهي أخلاق الدهماء - أذلك عدل أم ليس بالعدل
كريتون - ليس بالعدل
سقراط - فلأن تصيب أحداً بشر كأن تصيبه بضر
كريتون - صحيح جداً
سقراط - إذن لاينبغي لنا أن نأخذ بالثأر، ولا أن نرد الشر بالشر لاحد ما، كأننا ما كان الشر الذي ابتلانا به، وأحب أن تنظر في الامر يا كريتون، لترى هل كنت حقاً تعني ما تقول، ذلك لأنه لم يأخذ بهذا الرأي يوماً، ولن يأخذ به إلى آخر الدهر فريق من الناس كبير. ولا سبيل الى اتفاق بين من يقرون هذا الرأي ومن لا يقرونه، فما بد من أن يزدري بعضهم بعضاً، عندما يرون كم بينهم من شقة الخلاف. حدثني إذن: أأنت متفق معي ومؤيدي في مبدئي ذاك، وهو أن ليس من الحق أيقاع الضر، ولا الأخذ بالثأر، ولا رد الشر بالشر؟ أمسلم أنت بهذا مقدمة لحديثنا، أم أنت منكر له راغب عنه؟ لقد كان ذلك مذهبي منذ عهد بعيد، وما يزال كذلك؛ فان كنت ترى غير ذلك رأياً، فهات ما عندك؛ أما إن كنت بعد هذا كله لا تزال عند رأيك الأول، انتقلت معك في الحديث خطوة أخرى
كريتون - إنني ثابت عند رأيي، فتستطيع أن تسير في الحديث
سقراط - سانتقل إذن إلى الخطوة الثانية التي يمكن أن توضع في صيغة هذا السؤال: أينبغي للأنسان أن يفعل ما يراه حقاً، أم ينبغي له أن ينقص الحق
كريتون - إنه يجب على الأنسان أن يفقعل ما يظنه حقاً
سقراط - ولكن ما تطبيق هذا إن صح؟ ألست أسيء إلى أحد إن تركت السجن برغم غرادة الأثينيين؟ أو على الأصح، ألست أخطىء في حق أولئك الذين ينبغي أن يكونوا من أبعد الناس عن الأساءة؟ ألا يكون ذلك تطليقاً لمبادئي التي سلمنا معاً بعدها؟ ماذا تقول في هذا؟
كريتون - لست أدري يا سقراط، فلا أستطيع أن أقول شيئاً
سقراط - إذن فانظر الى الأمر على هذا الوجه: هب أنني هممت بالابوق (أو إن شئت فسم هذا العمل بما أردت من أسماء) فجاءت الى القوانيين والحكومة تسائلني: (حدثنا يا سقراط، ماذا أنت فاعل؟ أتريد بفعلة منك أن تهز كياننا - أعني القوانين والدولة بأسرها بمقدار ما هي في شخصك مائلة؟ هل تتصور دولة ليس لأحكام قانونها قوة، ولاتجد من
الافراد إلا نبذاً واطراحاً، أن تقوم قائمتها، فلا تندك من أساسها؟) فبماذا نجيب يا كريتون عن هذه العبارة واشباهها؟ وسيكون مجال القول واسعاً لكل انسان، وللخطيب البليغ بنوع خاص، يهاجمون هذا الشر الذي ينجم عن اطراح القانون الذي لابد لحكمه من النفاذ. وربما أجبنا نحن:(نعم، ولكن الدولة قد آذتنا، وجارت علينا في قضائها) هب إنني قلت هذا
كريتون - جميل جداً يا سقراط
سقراط - سيجيب القانون: (أفكان ذلك ما قطعته معنا من عهد، أم كان لزاماً عليك أن تصدع لما حكمت به الدولة؟) فان بدت علي من قولهم هذا غعلائم الدهشة، فربما أضاف القانون قوله: (أجب يا سقراط بدل أن تفتح لنا عينيك: وقد عهدناك مسائلاً ومجيباً. حدثنا، ما شكاتك منا، تلك التي تسوغ لك محاولة هدمنا وهدم الدولة معاً؟ فوق كل شيء، ألم نأت بك الى الوجود؟ ألم يتزوج أبوك من أمك بعوننا فأعقباك؟
قل إن كان لديك ما تعترض به على أولئك الذين ينظمون الزواج منا؟ وهنا لابد من إجابتي أن لا (أو على أولئك الذين منا ينظمون طرائق التغذية والتربية للأطفال، وفي ظلها نشأت أت؟ ألم تكن القوانين التي نهضت بهذا على حق في أن طلبت الى أبيك أن يدربك في الموسيقى ورياضة البدن؟) وهنا يلزم أن أجيب أن قد كانت على حق: (حسناً، فان كنا قد أتينا بك الى العالم، ثم أطعمناك فانشأناك، أفأنت جاحد أنك قبل كل شيء ابننا وعبدنا كما كان آباؤك من قبل؟ فان صح هذا فلسنا وإياك سواسية، فلا تظن أن من حقك أن تفعل بنا ما نحن بك فاعلون، وهل يكون لك أدنى حق في أن تنال أباك أو سيدك، إن كان لك أب أو سيد، بالضرب أو بالشتم أو بغير ذلك من السوء، إذا رقع عليك منه ضرب أو شتم، أو اصابك منه غير ذلك من الشر. - لا نخالك قائلاً بهذا: وإذا كنا قد رأينا أن من الصواب إعدامك، أفتطن أن من حقك أن تجازينا إعداماً باعدام؟ وأن تجازى وطنك بمقدار ما هو مائل فيك؟ وهل تظن يا أستاذ الفضيلة الحق أن يكون لك في ذلك ما يبررك؟ أيعجز فيلسوف مثلك أن يرى بأن وطننا أخلق بالتقدير، وأنه اسمى جداً واقدس من ام أو أب أو من شئت من سلف، وهو أجدر بالاعتبار في نظر الآلهة واهل الفطنة من الناس؟ وانه ان غضب وجب أن نهدىء من سورته، وأن نلاقيه لقاء وديعاً خاشعاً أكثر مما نفعل حتى مع الوالد، فان تعذر اقناعه وحببت طاعته؟ فاذا نالنا منه العقاب بالسجن أو بالجلد، وجب ان
نحتمل جزاءه في صمت، إن ساقنا الى حومة الوغى حيث الجراح والموت، كان لزاماً أن ننصاع له باعتباره مصيباً، دون أن يُسلم أحد منا أو يقهقر أو يترك منصبه، وواجب حتم على الانسان أن يصدع بما يأمره به الوطن، سواء أكان في ساحة الحرب أم في ساحة القانون، إلا إذا غير من وجهة نظره في ماهية العدل، وإن كان لايجوز له أن يقسو على أبيه أو أمه، فما أوجب أن يكون رحيماًعلى وطنه) بماذا تجيب على هذا يا كريتون؟ آلقوانين فيما تقول صادقة أم ليست بصادقة؟
كريتون_أحسبها صادقة فيما تقول
زكي نجيب محمود
غياث الدين الكاشي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يهمنا دائماً أن نكشف عن نواحٍ من التراث العربي والأسلامي أحاطها إهمالنا غيرنا بسحب من الغموض والأبهام حتى ادت تصبح غب عالم النيسان. وقد يظن بعضهم أن الكشف عن هذه النواحي سهل لايحتاج إلى تنقيب، ولكن الواقع غير ذلك، فاننا نجد صعوبة كبرى ومشقة عظنى في وضع ترجمة عالم مغمور، إذ يحتاج ذلك الى مراجعة الكتب قديمها وحديثها من عربية وإفرنجية، ويحتاج أيضاً لمطالعة متنوع المخطوطات علنا نتمكن من الكتابة عن ذلك العالم كتابة تعطي فكرة صادقة عن حياته ومآثره في العلوم. ولقد ثبت لنا أن هناك عدداً كبيراً من علماء العرب والمسلمين اشتغلوا بالرياضيات والفلك والطبيعة وغيرها من العلوم والفنون، لم يأخذوا حقهم من البحث والاستقصاء، وأن مآثرهم لاتزال مجمهولة لدينا إذ هي ملعثرة في شتى الكتب، وأنه لم يقم أحد منا يعني بها أو يهتم بكشفها، ولست ادري على من يقع علينا جميعاً كلا من ناحيته، فعلى الذين يعنون بالتاريخ والجغرافيا يقع اللوم على عدم تبيانهم للملأ أثر علمائهم فيها، كذلك يقع اللوم على الذين يعنون بالكيمياء، إذ من الواجب العلمي والوطني أن يهتموا بمآثر العرب فيها وبما قدمه العقل العربي من خدمات جليلة لها. وما يقال عن التاريخ والجغرافيا والكيمياء يُقال عن غيرها من فروع المعرفة.
ولا يخفى أنه يجب أن يكون وراء الكشف عن مآثر وتراث أسلافنا فكر وطنية تعود على الأمة بالخير والنفع، فتحفز همتها وتُثار عزيمتها، ولسنا في هذا مبتدعين أو آتين بجديد. ونظرة إلى تاريخ العلوم والفنون عند الفرنجة نجدهم عند بحثم عن مآثر علمائهم ونوابغهم فيها يدخلون وراءها فكرات وطنية مستورة تتجلى لنا في كل مناسبة، وتتجلى لنا ايضاً في كتبهم وفي تدريسهم في الجامعات والكليات. وبذلك يكونون قد جعلوا النشء يؤمنون بقابليتهم ويعتقدون بعبقريتهم ويشعرون بقوميتهم، وفي هذا كله قوى تدفع الأمة إلى حيث المجد والسؤدد.
بعد هذا نعود إلى موضوع مقالنا فنقول: إن غياث الدين جمشيد الكاشي من الذين لم يكتب عنهم إلا الشيء القليل، وهذا الشيء القليل موزع في عدة كتب منها الصفراء (ومنها الخير الكثير) ومنها الفرنجية، ومنها التركية، ةوقد حاولت أن أستعين بما عثرت عليه في مختلف المؤلفات التاريخية، فوقفت والحمد لله إلى ترجمة متواضعة، أرجو أن أكون قد قمت بها ببعض الواجب نحو عالم من علماء المسلمين اشتغل في العلوم الرياضية، ومهر الرصد وبرع في الفلك
* * *
ولُد غياث الدين في القرن الخامس عشر للميلاد في مدينة كاشان مما وراء النهر، وكان يقيم فيها مدة ثم ينتقل إلى محل آخر، ولقد توجه إلى سمرقند بدعوة من أولوغ بك، الذي ان يحكم بأسم (معين الدين سلطان شاه) وفيها ألف أكثر مؤلفاته التي كانت سبباً في تعريف الناس به. ويقال إن الفضل في إنشاء مرصد سمرقند يرجع إلى غياث الدين وإلى قاضي زاده رومي، ولكن الأول توفي قبل البدء باجراء الرصد فيه، كما أن الاخير توفي قبل تمامه، وعلى هذا سُلمت أمور المرصد إلى على قوشجي، ولهذا المرصد أهمية كبيرة، إذ بواسطته أمكن عمل زيج (كوركاني) الذي بقي معمولاً به قروناً عديدة في الشرق والغرب، واشتهر هذا الزيج بدقته وبكثرة الشروح التي عملت لأجله. والكاشي من الذين لهم فضل كبير في مساعدة أولوغ بك في إثارة همته إلى العناية بالريضيات والفلك.
واختلف المؤلفون في تاريخ وفاة الكاشي، فبعضهم يقول إنه توفي حوالي سنة 1424م، ويقول أخرون إنه توفي حوالي سنة 1436ن، ولم نستطع البت في هذه المسألةن ولكنا
نستطيع القول أن الوفاة وقعت في القرن الخامس عشر للميلاد في سمرقند بعد سنة 1421م، وهي السنة التي أنشيء فيها المرصد
أشتهر الكاشي في علم الهيئة، وقد رصد الخسوفات التي حصلت سنة 809هـ، 810هـ، 811هـ، وله في ذلك مؤلفات بعضها باللغة الفارسية، منها كتاب زيج الخاقاني في تكميل الأباخاني، وكان القصد من وضعه تصحيح ويج اليلخافي للطوسي، وفي هذا الزيج الخاقاني دقق ي جداول النجوم التي وضعها الراصدون في مراغة تحت إشراف الطوسي، ولم يقف غياث الدين عند حد التدقيق بل زاد على ذلك من البراهين الرياضية والأدلة الفلكية مما لا نجده في الأزياج التي عُملت قبله، وقد أهداه الى اولوغ بك. وله في الفاريبة أيضاً التي وضعها باللغة العربية ما يبحث في علم الهيئة والحساب والهندسة، نذكر منها كتاب نزهة الحدائق، وهذا الكتاب يبحث في استعمال الآلة المسماة طبق المناطق، وقد اوجدها لمرصد سمرقند، ويقال إنه بواسطة هذه الآلة يمكن الحصول على تقاويم الكواكب عرضها وبعدها مع الخسوف والكسوف وما يتعلق بهما. وله رسالة سلم السماء، وهذه تبحث في بعض المسائل المختلف عليها فيما يتعلق بأبعاد الأجرام. وله أيضاً رسالته المحيطية، وهي تبحث في كيفية تعيين نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، وقد أوجد تلك النسبة إلى درجة من التقريب لم يسبقه إليها أحد كما قال البروفسور (سمث). وقيمة هذه النسبة كما حسبها الكاشي كما يلي:
3.
1415926535898732، ولم نستطع أن نتأكد من استعمتله علامة الفاصلة، ولكن لدى البحث ثبت أنه وضع هذه القيمة للنسة في الشكل الآتي:
صحيح
1415926535898732 3 وهذا الوضع يشير الى أن
المسلمين في زمن الكاشي كانوا يعرفون شيئاً عن الكسْر
العشري، وأنهم سبقوا الأوربيين في استعمال النظام العشري،
يعترف بذلك البروفسور سمث في كتابه تاريخ الرياضيات في
ص290 من الجزء الاول. وللكاشي رسالة الجيب والوتر، وقد
قال عنها المؤلف في كتابه المفتاح ما بيل (وذلك ما صعب
على المتقدمين كما قال صاحب المجسطي فيه أن ليس إلى
تحصله من سبيل). وقد يكون كتاب مفتاح الحساب من أهم
مؤلفات صاحب الترجمة، إذ وضع فيه بعض اكتشافات في
النظريات الحسابية. ويقول عن هذا الكتاب الاستاذ صالح
زكي: (ويعتبر هذا الكتاب الخاتمة لكتب الحسلاب المبسوطة
التي ألفها الرياضيون الشرقيون. . .) وكذلك يقول عنه كتاب
كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون: (. . . بلغ إلى غاية
حقائق الأعمال الهندسية من القوانين الحسابية، وهو على
مقدمة وخمس مقالات: المقالة الاولى في حساب الصحيحن
الثانية في حساب الكسور، الثالقة في حساب المنجمين، الرابعة
في المساحة، الخامسة في استخراج المجهولات، وهو كتاب
مفيد أوله. . . الحمد لله الذي توحد بابداع الآحاد الخ. . . ألفه
لأولوغ بك ثم اختصره وسماه تلخيص المفتاح، وقد شرح
بعضهم هذا التلخيص. . .) وفي هذا الكتاب نجد قانوناً لايجاد
مجموع الاعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة.
ويعترف كتاب تراث الاسلام بأن الكاشي استطاع أن يجد قانوناً لايجاد مجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة كما اعترف بذلك أيضاً البروفسور سمث في كتابه
تاريخ الرياضيات في ص505 من الجزء الثاني
هذه لمحة موجزة عن حياة الكاشي ومآثره في الرياضيات والفلك، والذي نرجوه أن نوفق في المستقبل للكتابة عنه بصورة أوسع وأوفى للمرام، وأن تكون هذه اللمحة حافزاً لغيرنا للأهتمام باحياء العلماء المغمورين أمثال الكاشي، نسأله تعلى التوفيق والعون
نابلس قدري حافظ طوقان
مطالع الأعوام
للأستاذ عبد العزيز البشري
جرت عادة الناس من الزمان البعيد أن يفرحوا أو يتكلفوا الفرح كلما طالعتهم دورة الأيام بعام جديد. وكثير منهم من يتخذ من مطلع العام عيداً، بليس فيه جديد الثياب، ويحتفل لتهنئة الصحاب واستقبال الهناء من الصحاب، ويتفرغ من كل عمل ليتوفؤ ومن يحمل من الأهل والولد على إصابة ما يتهيأ لهم من اللذائذ والمتع، وتقليب العطف فيما يتيسر من ألوان النعيم. ذلك جرت عادة الناس، أو عادة أثر الناس
ولو قد راجع المرء نفسه في هذا، ورح يتحسس الأسباب والعلل في ذلك الذي يكون منه في مطالع الأعوام، فليت شعري بِمَ هو في غاية الأمر راجع؟. أتراه فرحاً بأنه طوى من عمره عاماً؟. أم تره فرحاً بأنه سينشر من عمر عاماً؟
وإن عجباً دونه كل عجب أن هذا الانسن الأثِر، المتشبث بأسباب لحياة، مهما تذلل وتوجع، يفرح بطي صفحة من حياته، وقطع مرحلة من عمره، فيدنو من الغاية المحتومة التب ما ذكرها إلا مليء منذكرها فرقاً ورعباً!
وإن عجباً لاينتهي منتهاه عجبٌ أن هذا الانسان الجبان المنخلع القلب، الذي لا يرى إن يقيناً وإن وهماً، فيل قنيه من ثنايا الغيب، وفي كل منعطف من منعطفات الدهر، إلا ما يرتصد له، ويتربص به الدوائر، ويرميه ما أصحرت به الأيام بالوان المكلره والمخاطر - اللهم إن عجباً لاينتهي عجب أن يفرح هذا الانسان باستقبال ل هذا الذي يتوقع من أذى طارقات الليال!
إذن ففيم فرح الانسان بدورة الأيام، وأغتباطه ذاك بالتخلص من عام لاستقبال عام؟
ليت شعري أتراه يضيق بالحياة ويبرم بها، ويسر كلما طوى من كتابها صفحة، واقترب من غايتها خطوة. اللهم إن الأنسان لأ كلف بالحياة، وأود لو تطر به إلى غاية الزمان، وإلى ما بعد غاية الزمان! أليس أبر عزائه في هذه الحياة إذا عرض ذكر الموت، ولا مفر منه، أنه مبعوث من بعده لحياة لا يدركها عدم ولا يلحقها فناء؟
إذن ففيم فرح الأنسان بدورة الأيام، واغتباطه بالتخلص من عام لأستقبال عام؟
ألَا إن أعجب من هذا كله أن يراجع الأنسان نفسه، ويسائلها فيم اغتبطاها وفرحها من حيث يجب أن يتداخلها الاسى وتلح عليها الحسرة من كل مكان؟!
اللهم إنه ليكلف بطول العمر، ويكلف بقصر العمر، وإنه ليشغف ببسطة الأيام، ويشغف بنفاد ما بقي بين يديه من الأيام!.
اللهم إنه لا يستريح إلى هذا المحال، إلا من كان به مس من جنون أو مس من خبال!
* * *
ليس الانسان مجنوناً ولا مخبلاً؛ بل إنه ليفر فيحسن التفكير، ويقدر فيصيب التقدير، ويدبر فيُحكم التدبير. وإن عقله الجبار ليأبى إلا يستذل عنف الطبيعة كل يوم. وها هوذا لا يفتأ يسخر لحاجاته جوها وماءها، وأرضها وسماءها، بما لا يحتاج معه إلى قيام دليل على صحة العقل وسلامة التفكير!
ما لنا بعد هذ بد من التدسس إلى قررة النفس، والتسلسل إلى ثناياتها، علنا نصي الوجه ونستخرج العلة في ذلك الذي نحسبه في المحال!
ها نحن اولاء نتحرى خطرات النفس، ونتقرى خلجات الحس، فنسير وراءها حيثما سارت، وندور معها كيفما دارت. حتى إذا بلغت سائلها القرار، تهيأ لنا أن نروى عنها أصح الانباء واصدق الاخبار.
هذ الانسان العاقل المفكر الدبر، يجزع حقاً أشد الجزع لما ينطوي من أيام عمره، ولقد يهش حقاً لما يستقبل من بقايا أيام الحياة. غبر انه لا يعقد أية صلة بين هاتين النزعتين القويتين فينفسه، فهذه تكون منه في حال، وهذه تكون في خال، فليس ثمت في الأمر للمحال. فاذا طلبت بياناً فاليك البيان:
إن علة العلل في كل هذ الذي ترى من تناقض الانسان، وخلاف نزعات نفسه بعضها
لبعض، إنما هي فيما طبع عليه من الأثرة وشدة الكلف بالنفس. فهذه الاثرة هي التي تدخل عليه الفزع لما فنى من سني العمر، وهذه الأثرة هي التي تدخل عليه السرور بما يستقبل من بقية أيام الحياة، وإن شئت قلت بما يقبل على استهلاكه من بقايا الحياة!
أما أن الأثرة هي التي تدخل عليه الجزع لما يتصرم من أيام العمر، فيدنو به خطى إلى مهواه من القبر، فذلك ما لا يحتاج إلى توجيه ولا إلى تعليل، وأما أن هذه الاثرة نفسها هي التي تدخل عليه السرور بما يُقبل على استهلاكه من بقايا أيام العمر.
فذك بأنه ما يثفنى من حياته يوماً إلا أطمعته أياماً، ولا يَطوي من عمره عاماً إلا بسطت بين يديه أعواماً: فالانسان، على إيمانه بالموت، وجزمه بألا مهرب منه، لا يفتأ يدافع الأجل كلما تقدم خطوة إلى الأجل، وهكذان حتى لو قٌدر في الزمان أن يبسط في عمر إنسان الى ألف عام، لوسوس له تأمسل الاثرة بعدُ بالمزيد!
وعلى هذا فمهما يَطْوِ الانسان من سنه، ومهما يفن من عمره، فان ما خلا يكاد يسقطه من مساحة العمر بما يجد له التأميل كل يوم من بسطة الزمان بين يديه! فيعيش كذلك ما يعيش، وأنما يمتح من بحر لجي ما لمائه من نفاد!
وكذلك القول في تطامن الانسان لمستقبل الايام وإستبشاره، في غالب الأحيانن بمقدمها، وقلة احتفاله لما عسى أن يكون قد جُن له من المكاره في ضمائر الغيوب، فان هذه الأثرة نفسها لتأبى إلا أن تطالعه بألوان التأميل، فلا ينتظر له من واردات الليالي إلا كل مشتهى وكل جميل! بل انها لتدخل عليه أحسن العزاء بما سيلقي من الخير والعافية عما كان قد أصابه من الخيبة فيما سلف من الزمان!
فقد بان لك أن الأثرة في الأنسان هي علة العلل، وهي مصدر ما يُحسب عليه من خطأ في الحساب ومن خطل
* * *
وبعد، فلو قدر أن الله أمكن للمء من طبعه، وهيأ له أن يسوي منه ما شاء على ما يشاء. افتراه يعتمد هذه الخلة فيه، أعني الاثرة، فينتزعها من فطرته انتزاعاً، فلا تعود تخدعه وتختله، ولا تزيغه عن الواقع ولا تضلله؟
لاشك في انه إن فعل سلم تقديره، واستقام له القياس، وأدرك الحقائق على ما هي عليه لا
على ما يشهى أن تكون؛ لأن هذه الأثرة كثيراً ما تلبس المنى بالحقائق الواقعة. وقد تستدرج الانسان إلى المطامع البعيدة بما تهيء له من إجراء القياس، في شأن نفسه، على ما يقع من الأمور النادرة في شئون بعض الناس. وبهذا وبهذا تسيء تقديره، وتفسد حكمه على الاشياء أيما إفساد. وأنت بعدُ خبيرٌ بأن السعادة في هذه الدنيا لا تُرجى بخير من الأصابة، والتهدي إلى جوهلا الحقائق، وسلامة التقدير وصحة التدبير. وتلك الطرق الواضحة، لاشك، لأسعاد الحال، وإدراك المبغى من ميسور الآمال.
ولكن. . . . ولكن إذا قدر هذا في الطبيعة، وتهيأ للانسان ففعل، فعلى أية صورة ترى يتمثل له العيش في الدنيا، و [اي شعور يتلقى آثار هذه الحياة؟
إنك مهما تبحث من أصول هذه الأثرة النغروسة في طبيعة الانسان، فانه، ولابد، يألم إذا دخل عليه ما يعدو إلى الالم. وهو، لابد، يلتذ بما يصيب من المتع، إنه ليستريح إلى العافية، وإنه ليفرح بما يصيب من النعم، وإنه ليحزن إذاطرقته داعياتُ الحزن؛ وتلك أدنى مطالب الحس في الحيوان، بَلْهَ الانسان
فلو قدرنا أن الانسان قد استوى في عيشه إلى الحقائق الواقعة، وأجرى حسابه في جميع أسبابه عليها، فهل تراه يعدل ما يصيب في الدنيا من لذة ومتاع، بما يعاني من شدائد وبُرح وأهوال وأوجاع؟. اللهم لا! على انهما لو تكافآ فاضحى خارج الحساب صفراً، لأمسى التشبث بهذه الحياة من غحدى المعابث!
على أنه الأملث، أملُ المعني المبتلي في العافية، وأمل المعافي إن كان في الدنيا معافي، في صعود الجد، وفي إقبال الزمان بما تتطلع النفوس إليه وتهفوله - هو الذي يرجح كفة الربح ويشهى الينا الحياة، ويغرينا بالحرص عليها أيما إغراء!
وما كانت هه المُنى فينا لتقوى وتستمكن، وتستحفل وتستحصد، لولا هذه الأثرة التي تذلل لأوهامنا عصى الىمال، وتسوي لنا في صورة الممكن ما تظمته الطبيعةُ في سلك المجال!
هذه الاثرةُ التي تغبينا عن كثير من الأشياء، حتى إنها لتغيبنا عن أدنى ما يحيط بنا من الأسباب، با إنها لتغيبنا عن أحق الحق الذي لانستطيع مدافعته ولو بالأوهام، أعني الموتَ الذي لا مهرب منه لهارب ولو تعلق من السحاب، بعلائق وأسباب!. نعم إنها لتغبينا عنه لأننا ما ذكرناه أبداً إلا رأينا منا بعيداً، وقد نون منه على رمية حجر!
* * *
إذن لقد خرج لنا من كل هذا أن قيام الانسان في الدنيا إنما هو مدين لهذه الأثرة في طبعه، فيها يحرص على الحياة ويتشبث، وبها يرضي عن الحياة ويكلف، وفي سبيلها يحتمل الأوجاع والاسقام، ويسيغ كل من تعتريه به الليالي من أحداث جسام.
فمن فاتته فيها المتع ففي الآمال متع ومناعم، ومن ألح عليه الضيق ففي المني سعة ومغانم. بل إنه ليفرح كلما مضى من عمره عام وأقبل عام، بما توسوس له من المنى وعدله من كواذب الأحلام.
ألا عاشت هذه الاثرة ليعيش في ظلها هذا الانسان. . .
عبد العزيز البشري
5 -
بين القاهرة وطوي
طهران الى نيسابور
للدكتور عبد الوهاب عزام
تلقينا يوم قدومنا طهران دعوات كثيرة إلى حفلات رتبتها الحكومة - دعوات باسم رئيس الوزراء ووزراء الداخلية والخارجية والمعارغ، ولجنة الآثار القومية، ونادي (إيران جوان). وكانت دعوة رئيس الوزراء إلى العشاء في قصر كلستان، والعدوات الاخرى إلى الغداء في دار البلدية ونادي إيران. وقد دعت لجنة الآثار إلى شهود التمصيل مرتين في مشرح (مساكن نيكوئي) وإلى شهود لعب الجوكان وألعاب أخرى في ميدان سلطنت آباد
تعشينا الليلة الأولى في القصر الملكي. قصر كلستان، وهو بناء جميل يرى الداخل إليه حديقة فيها أحواض ماء كبيرة، وقد رأينا على حافة الاحواض شموعاً كثيرة. توقدت فيرى للألألها على صفحة الماء رواء جميل
وصعدنا إلى بهو فسيح غشيت جدُره وسقفه بالمرايا وقطع البلور - وهذه زينة شائعة في إيران رأيناها في أمكنة ثيرة - وصفت في جوانب المكان دواليب فيها ذخائر الملوك السالفبن: قطع كبيرة من الاحجار النفسية، وسيوف وخنجر وتروس، وأدوات للزينة، ، اباريق وطسوت، كل ذك محلى بالماس والياقوت، والعقيق والفيروز، وفي صدر المكان
عرش محلى بالاحجار الثمينة له مسند على صورة ذنب الطاووس ويسمى عرش الطاروس، وكذلك رأينا كتباً قديمة قمة فيها من عجائب الخط والنقش والتجليد آيات من الصناعات الاسلامية
أمتعنا النفس برؤية هذه الأعلاق، ثم تعشينا، وشهدنا بعد العشاء ألعاباً نارية كثيرة
ومن الأبنية الفخمة التي رأيناها في طهران مسجد سباهسلار وهو مسجد كبير فيه مدرسة تسمى الآن مدرسة المعقول والمنقول، ولها مكتبة بها مخطوطات قيمة، ومساجد إيران كلها متشابهة في قيامها على عقود كبيرة وقباب، وفيما يجللها من الكاشاني، والخط الجميل
وزرنا مجلس الشورى الملي (البرلمان) وهو بناء جديد رائع تناولنا الشاي في الطبقة الثانية منه في حجرة غشيت جدرها وسقفها بقطع البلور، يتخللها ضوء النهار أو ضوء الكهرباء ليلاً فاذا حجرة من النور يحار فيها الطرف
وكذلك رأينا مدرسة الصنائع المستظرفة (الفنون الجميلة) وهي مدرسة ناشئة يرجى لها في الاحتفاظ بصنائع إيران مستقبل عظيم
وزرنا مصيف جلالة الشاه قصر سعد آباد. وهو بناء جميل في سفح جبل شمران شمالي طهران، يحلف على منظر رائع من الأشجار الممتدة على السح، وتنحدر إليه المياه متدفقة ن الجبل.
والقصر بناء صغير به بضع حجرات، وقد بنى كله بأحجار ذات ألوان طبيعبة مختلفة جلبت اليه من أرجاء البلاد. ومن حجراته واحدة فيها مكتب جلالة الشاه. وقد لفت الأنظار اليه جمال صنعه، وصورة مدفع صغير فوقه، ومقامه لها سياج من رصاص البنادق. تناولنا الشاي في حديقة نسقت بها الازهار تنسيقاً رائعاً. ثم انصرفنا حين أشفقنا من برد العشى
وشهدنا التمثيل مرتين، مثلت في الليلة الاولى قطع من الشاهنامة. وفي الليلة الثانية قصة سهراب
وشهدنا يوم السبت 14 مهرماه (6 أكتوبر) في ميدان سلطنت آباد على مقربة من المدينة لعب الجوكان (جوكان بازي) وألعاباً رياضية أخرى (نمايشات زورخانه)
والجو كان لعب الكرة والصولجان على متون الخيل. وكان لعباً شائعاً في العالم الاسلامي
ولاسيما إيران. ويذكر كثيراً في الشعر الفارسي. واخذت منه في اللغة كنايات كقولهم (كوي برد) أي اخذ الكرة، بمعنى حاز قضب السبق في اللغة العربية
يقول الشيخ سعدي:
(فسحت يدان أردت بيار تابزند مرد سخنكوي كوي) وترجمته: افسح ميدان الارادة ليضرب الرجل المنطيق الرة أي أحسن الاستماع ليستطيع النصيح أن يتكلم. وان بجانبي وقت اللعب ملك الشعراء بهار فقلت: كم قرأت هن (اخذ الكرة) في الشعر الفارسي وما فهمته حقاً إلا الآن
والألعاب الاخرى، وتسمى (نمايشات زورخانه) ضروب مختلفة من اظهر القوة: ضرب الطبل فجاء جماعة يلبسون سراويلات من الجلد وسائر أجسامهم عار؛ ونزلوا الى حفرة مستديرة قريبة الغور. وجلس على مقربة منهم رجل على منصة يدق الطبل وينشد شعراً من الشاهنامة وغيرها، بدأوا يرقصون على هذه الأنغام، ثم لعبوا ألعاباً مختلفة: يدور واحدهم على نفسه مسرعاً باسطاً يديه أو يحمل حلقة من سلسة ثقيلة يرفع بها يديه واحدة بعد الاخرى أو يستلقي على ظهره ثانياً رجليه ويأخذ بكل يد قطعة من احديد مبسوطة لها مقبض في وسطها فيرفع بها يداً بعد أخرى مائلاً على جنبيه، أو يوم ممسكاً بيديه حديديتين ثقيلتين يحركهما حركات مختلفة، وهكذا. وهي ألعاب قديمة تدل على القوة والمران
أمضينا في طهران خمسة أيام. وطهران مدينة حديثة، كانت قرية صغيرة بجانب مدينة الري الكبيرة. ثم بني لها الشاه طهما سب الصفوي سوراً غظيماً. ثم اتخذها آغا محمد خان القاجاري دار ملك، فشرعت تعظم وتتسع
ويو الثلاثاء 40 جمادي الثانية (9 أكتوبر - 17 مهرماه) برحنا طهران مبكرين متوجهين تلقاء مشهد. وبين المدينتين 897 كيلا قطعناها في ثلاثة أيام؛ وان جلالة الشاه قد سار الى مشهد قبلنا ببيومين
اجتزنا جبال فيروز (فيروزكوه) وهي جبال وعرة مديدة تجهد فيها السيارة صاعدة وهابطة ثلاث ساعات، وبلغنا مدينة سمنان بعد الظهر فنزلنا داراً بظاهر البلد في فناء واسع، جلسنا على حافته فرفعنا عن الوجوه وعث السفر واسترحنا وتغذينا، ثم اسنفنا المسير فقطعنا الى دامغان 13 كيلاً، واخترقنا البلد ولم نقف به
وسأتكلم عن سمنان ودامغان حين أصف عودتنا من مشهد الى طهران. وقطعنا من دامغان الى شاهر ود 67 كيلا، وبلغنا المدينة بعد الغروب، وقد زين شارعها بساجيد كثيرة، فنزلنا بدار كيرة خارجها، نزل بعضنا في حجراتها وآخرون في خيام ضربت في الحديقة وفرشت فرشاً حسناً، وقد شعرنا بالبرد الشديد في هذا البلد، وأصابني به برد لازمني حتى عدت الى طهران، فنغص على السفر قليلاُ وأفاتني بعض المشاهد. فلها في سفرنا ذكرى لا تنسى
إذا أنت لم تنفع فضر فانمايرجى الفتى كيما ويضر وينفعا
وشاهرود قرية غربي خراسان على مقربة من حدود ولاية استرآباد، طولها 52 درجة وعرضها 36 وارتفاعها 1110 أمتار.
وهي مكان تجاري على الجادة من طهران الى مسهد، ويذهب منها طريقان الى استر آباد. وفيها مجرى ماء عذب، وبساتينها كثيرة
والى الشمال منها بسطام بلد الصوفي الكبير أبي يزيد البسطامي المتوفي سنة 36، وبها قبره؛ وقد تحولت التجارة عنها الى شاهرود في القرن الماضي فتضاءلت حتى صارت قرية صغيرة. وقد بنى ألجايتو خان من السلاطين الايلخانية مسجد أبي يزيد والمسجد الجامع
- حرصت على زيادة أبي يزيد - فقيل لي سنزوره في عودتنا من مشهد، ثم لم يتيسر لنا هذا حينما رجعنا الى شاهرود قافلين الى طهران لضيق الوقت وتعلل سائق السيارة بوعورة الطريق. وأنا أنقل هنا ما كتبه ياقوت وقد زارها قبل سبعة قرون
فتني أن أرى الديار بعينيفلعلى أرى الديار بسمعي
قال ياقوت (وقد رأيت بسطان هذه، هي مدينة كبيرة ذات أسواق، إلا بنيتها مقتصدة ليست من أبنية الاغياء.
وهي في فضاء من الارض، وبالقرب منها جبال عظام مشرفة عليها، ولها نهر كبير جار. ورأيت قبر أبي يزيد البسطامي رحمه الله في وسط البلد في طرف السوق. وهو أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان الزاهد البسطامي)
وبسطام ودامغان كانتا من مدن قومس المعروفة في التاريخ الأسلامي
تركنا شاهرود صباحاً ونحن ننشد ما قاله أبو تام حين اجتاز بقومس وهو يؤم عبد الله بن طاهر في نيسابور
يقول في قومس صبحي وقد أخذت
منا السري وخطى المهرية القود
أمطلع الشمي تبغي أن نؤم بنا؟
فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ونذكر ما قاله يحيى بن طالب الحنفي:
أقول لأصحابي ونحن بقومس
ونحن على أثباج ساهمة جرد
بعدنا وبيت الله من أرض قرقري
وعن قاع موحوش وزرنا على البعد فصلنا من شاهرود والساعة ثمان إلا ربعاً من صباح الاربعاء ومررنا بعد نصف ساعة بقرية قفر اسمها خير ىباد. قال سائق السيارة هذه قرية هاجت بساكنيها العقارب، حتى تعذر عليهم الاقامة بها فهجروها، ونزلنا بعد ساعة وعشر دقائق في منزل على الطريق اسمه (باغ زيدر)، فشربنا الشاي على جدول عليه أشجار جميلة.
وسلكنا طريقاً موحشة ذات تلال ومحان كثيرة.
قال محدثنا كانت طريقاً مخوفة لا يفارقها خطرالتركمان. ورأينا هناك قلاعاً قديمة مشرفة على الطريق. ونزلنا وقت الظهر في قرية اسمها داوكرزن في خان ضربت فيه خيام بيرة فاسترحنا وتغدينا، ثم ركبنا بعد ساعة ونصف نؤم سبزاوار. وهي كاسمها في إقليم مخضر، كثير البساتين فيه مجرى ماء، وكانت مدينة عامرة، قامت فيها في القرن الثامن الهجري (735 - 772) أمارة عرف أمرؤها باسم السربداريين (سربداران) واوهم خوجه عبد الرزاق أحد رجال السلطان أبي سعيد آخر ملوك الدولة الابلخانية، ودامت الامارة خمسا وثلاثين سنة تداول فيها الامر المضطرب اثنا عشر أميراً حتى قضي عليهم تيمورلنك وسبزوار الآن بلدة صغيرة لا يبدو عليها غني ولا جمال. ودخلنا وثد زين شارعها سموط من مصابيح الكهرباء. نزلنا بها وأوينا إلى خان واسع ذي طبقتين، فرشت حجراته فرشاً
حسناً من أجل وفود الفردوسي. وبتنا للتنا مسرورين على ما صحب بعضنا من بردشاهرود
نحن الآن على مائة يل من نيسابور العظيمة. فتنظر في المقال الآتي حديث نيسابور
عبد الوهاب عزام
الذكرى الألفية لابي الطيب احمد المتنبي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
ما أنت يا احمدٌ في دولة الأدب
…
إلا الزعيم وإلا شاعر العرب
وما تنبأت في دين كما زعموا
…
بل في الفصاحة سباقاً وفي الأدب
فكان يوحى اليك الشعر عن شَحَطٍ
…
وكان يوحي اليك الشعر عن كثب
ما كنتَ للشعر تستوحي قوافيه
…
حتلا تجيء من الاعجاز بالعجب
وكنت في قادة الآداب أولهم
…
وكنت أولهم في الجحفل اللجب
وكنت في الشعر مثل الماء منطلقاً
…
وكنت في الحرب مثل النار في الحطب
كم حكمة لك سارت في الورى مثلاً
…
قد قلتها بسان الشاعر الذرب
كم دولة القريض الناهض انقلبت
…
لكن عرشك فيها غير منقلب
وقالة الشعر إن نذكر منازلهم
…
فانت في الرأس والباقون في الذنب
صاحت بُغاثٌ ببازي الشعر تنقده
…
فلم يبال بها البازي ولم يُجب
* * *
لأنت عند الأسى في الناس أشعرهم
…
وانت أشعرهم في سورة الغضب
تصور الشيء في وصف لحادثة
…
جتى كأني أرى الموصوف من صقب
بك احتفت بعد ألفٍ قد مضى أممٌ
…
في مصر، في الشام، في بغداد، في حلب
إن الذي مات عن شعر هدى أمماً
…
لخالدٌ في قلوب الناس والكتب
باللبغي قد قتلوا للشعر منك أبا
…
لإاصبح الشعر من يتم بغير أب
لهفي كثير لو ان اللهف ينفعني
…
على حياتك إذا أفضت إلى العطب
هي الررية لاتُنسى فجيعتها
…
على توالٍ من الأعصار والحقب
بالشعر والأدب الأيام طيبةٌ
…
فان خلت منهما الأيام لم تطب
الدهر جار على الآداب يزهقها
…
وما على الدهر إما جار من عتب
القتل رزء وهذا القتل افجعه
…
كأنما بك منه الشر حل وبي
وربما عرف الأسلاف مصرعه
…
مما على الارض فيه من دم سَرِب
القبر قبر فلا يجدي الدفين به
…
وإن بنته أكف القوم من ذهب
مضى يريد حياة كلها دعةٌ
…
وما درى أن غول الموت في الطلب
ولستُ أسأل عنه عند غيلته
…
أكان مضطرباً أم غير مضطرب
ما في الرزية للمرزوء مُنتعشٌ
…
لايرقص الطير مذبوحاً من الطرب
ليست بدار أمان يُطمأن لها
…
دنيا مصائبها ينسلن من حدب
قصيدتي هذه ريحانة عبقت
…
جنيتها من لباناتي ومن اربي
نظمتها من شعور لي لأهديها
…
إلى أبي الطيب النهاض بالأدب
وما الذي قد نظمنا القولَ فيه سوى
…
صدى الذ قاله في سالف الحقب
تحية الرسلة في منهل عامها الثالث
للأستاذ محمود الخفيف
أردت بشعري إجلالها
…
فما طرب القلب إلا لها
تبدت لنا في عطاف الجلال
…
عروساً تُجررُ أذيالها
تناهت اليها معاني الجمال
…
فما أطلع الشرقُ أمثالها
تسير إلى الناس موموقةً
…
وقد أكبر الناسُ إقبالها
عليها من الشرق ديباجةٌ
…
توشح بالسحر سربالها
وقد عقدت تاجها من سناه
…
وصاغت من الحق أحجالها
وفي مقلتيها يشعُ اليقين
…
ويشغل ذكر العلي بالها
وما حفلت بصغار الأمور
…
وما صحب المينُ أقوالها
ومن ذا رأى قبلها غادةً
…
تقابل بالصفح عذالها؟
* * *
تجدد للناس عهد الوفاء
…
وقد رافق السعدث آمالها
وتستقبل الفطرَ في عيدها
…
فيصبح نور الهدى فالها
أشيع أيامها الحافلات
…
وأستعرض اليوم أعمالها
وما عرفتْ قبلُ غير الرشاد
…
وقد سجل الدهرُ أفعاله
ألم نر كيف مشت حرةً
…
تفك عن الضاد اغلالها؟
وتجري البلاغة رقراقةً
…
فترتشف النفس سلسالها
فمن أدب تشتهيه النفوس
…
ومن قصص هو أشهى لها
وتزجي القوافي معسولة
…
وتسكب في القلب جريالها
تسوق العلوم لأهل النهى
…
وتفتح للذهن اقفالها
وترفع ثم صروح الفنون
…
وقد كره الناسُ أطلالها
وتحيو إلى مُسْتَكيِنَّ الخدور
…
تفتق في الشرق أسدالها
وتخرج ميتدعات العصور
…
وتعرض للناس أشكالها
وما الشرق إلا معين الفنون
…
وإن أخرج الغرب مثالها
وما هو فن ولكنه
…
وميض من الروح أوحى لها
تجدد ماضيه العبقري
…
وقد هاج ماضيه بلبالها
وتدعو إلى العزفي أمة
…
اطال بنو الغرب إذلالها
تذكرُ بغدادَ عهدَ الرشيد
…
وتحصى بجلق أقيامها
وتتلو بمصر حديثَ الخلود
…
فتوقظ للجد أشباله
تريك الملاحم في هولها
…
وقد توج النصرٌ أبطالها
كأنك تلمح بين السطور
…
دخان الحروب وقسطالها
وتسمع فيها صليل السيوف
…
وكرَّ الجياد ونصالها
وقد ضاق بالجمع رحب الفضاء
…
وزلزت الارض زلزالها
ترى خالداً في غمار الحتوف
…
يخوض إلى النصر أهوالها
وتلقي صلاحاً يذل العداة
…
وقد كان في الحرب رئبالها
فيملأ نفس ماضي البلاد
…
ويذكر قلبك ما نالها
وكم جدد الذكرث بأس الشعوب
…
إذا أقعد الخوف أعزالها
حمدنا لصاحبها جهده - فقد ألهم الشرق إجلالها
(رسالته) فيه رمز الأخاء
…
إذا رسم الفكر تمثالها
لقد وحدت فيه شمل الشعوب
…
وإن فرق الدهر أنسالها
وتهدي إلى الرشد في أمة
…
أراد أولو العلم إضلالها!
فلابرحت تصطفيها لقلوب
…
وتستقل العين إجمالها
محمود الخفيف
الراديو
للأستاذ محمود غنيم
شادٍ ترنم لاطير ولابشر
…
ياصاحب اللحن أين العود الوتر؟
إني سمعت لساناً قُد من خشب
…
فهل تُرَى بعد هذا ينطق الحجر؟
لو قلتُ بالجن قلتُ الجن أنطقه
…
أو قلت بالسحر قلت القوم قد سحروا
صوت (بروما) صداه رن في أذني
…
كأنما هو من فكي منحدر
كأنما كل أذنٍ أذن (ساريةٍ)
…
وكل ناءٍ ينادي نائياً (عُمَر)
هنا الخطيب الذي خانته جرأته
…
يقول ما شاء لا جبن ولا خور
فليس يخشى ضجيج القوم إن طربوا
…
وليس يخشى عجيج القوم إن سخروا
لهفي على صولة الحاكي ودولته
…
لقد غدا في ربيع العمر يحتضر
وآلة جعلت من حجرتي أفقاً
…
يرتد منحشراً عن حده البصر
كأنما الكرةُ الأرضية انحصرت
…
في جوفها، والوري في جوفها انحصروا
قد حكمتني في الأصوات لوحتها
…
فصرت أختار ما ىتي وما أذر
وكل رقم عليها شوه طرب
…
وفيه كنز من الالحان مستتر
قد كنت أغشى بيوت اللهو منتقلاً
…
فصار يسعى إلى اللهو والسمر
لها فم ليس يستعصى على لغة
…
على الرطانة ولإفصاح مقتدر
عوراء لاتخرج الاصوات من فمها
…
إِلا إِذا ما بدا من عينها الشرر
صماء لكن تعي ما لاتعي أذن
…
بكماء من فمها الاخبار تنتشر
ثرثارة إن أردت القول ثرثرة
…
فأن أردت اختصاراً فهو نختصر
في كل يوم نرى لغرب خارقةً
…
يكفيه هذا ويكفي المشرق النظر
القوم يبتكرون المعجزات لنا
…
ونحن نفتن في إطراءابتكروا
فهل تُرى الشرق قد أدى رسالته
…
وهل تُرى أنبياء الغرب قد ظهروا
محمود غنيم
زهرة أقحوان
للأستاذ إغيليا أبي ماضي
كان في صدري سر
…
كامن كالأفعوان
أتوقاه وأخشى
…
أن يراه من يراني
وإذا لاح أمامي
…
عقل الذعر لساني
لم أخفه غير أني
…
خفت أبناء الرمان
ولكم فان نطيري
…
خاف قبلي بطش فاني
لم يَسَع سري فؤادي
…
لم تسع نفسي المعاني
فقصدت الغاب وحدي
…
والدجى ملق الجران
ودفنت السر فيه
…
ثلما يدفن جان
ورأى الليل قتيلي
…
فبكاه وكاني
إن لليل دموعاً
…
لاتراها مقلتان
كنت حتى مع ضميري
…
أمس في حرب عوان
فانقضى عهد التجافي
…
، اتى عهد التداني
خدرت روحي فأمسى - شأن جل الخلق شأني
لا أرى في الخمر معنى
…
ولَكَم فيها معاني
فكأني آلة العا
…
صر أو إحدى الأواني
لم يعد قلبي كالبر
…
ق شديد الخفقان
لم تعد نفسي كالنج
…
مة ذات اللمعان
بت لا أبكي لمظلو
…
م ولا حُر مهان
لا ولا أحفل بالبا
…
كي ولو ذا صولجان
صرت كالصخر سواه
…
هادم عندي وبان
يا لَلآمالي الغوالي
…
يا لأحلامي الحسان!
طوت الغابة شري
…
فانطوت معه الأماني
ضاع لما ضاع شيء
…
من كياني بل كياني
في صباح مستطير
…
كمصباح المهرجان
لبست فيه الروابي
…
حلة من ارْجوان
وتبدى الغاب من أو
…
راقة في طيلسان
ساقني روح خفي
…
نحو ذياك المكان
فاذا بالسر أضحى
…
زهرة من أقحوان
فصول ملخصة في الفلسفة الالمانية
4 -
تطور احركة الفلسفية في ألماني
للأستاذ خليل هنداوي
الذات تخرج من نفسها وتعود الى نفسها، ولكنها تعود أكثر قوة وغنى، وكل معارضة تلقاها في الخارج لا تزيدها إلا قوة ومضاء. وفي كل جزء من أجزائها تحس أن قوة حيوية جديدة تولدت فيها، ونهاية أربها أن تعلن فوز سلان العقل على المادة والطبيعة، أو كما يقول (فيخت)(اتحاد الذات مع غير الذات) وهذا الاتحاد أو هذا الامتزاج المطلق يجعله فيخت مثله لأعلى، ويراه الفيلسوف (هيجل) حقيقة من حقائق الوجود
الذات السامية متمثلة في الله، والذات الآلهية هي الكمال الاعلى. والذات الانسانية تمثل - مجازياً - ما يمثله الله - خقيقياً - ولكنها يحدها الزمن وينتظرها الزوال. أما فاعليتها فباقية خالدة لتحقق مثلها الاعلى ولتدنو في الشبه طوراً بعد طور - من الآلة. والآلة لا حق لنا في تمثيله ولا إثبات وجوده بما هو خارج عن كنهه، لأن تمثيله معناه تحديده وإبرازه على صورتنا الزائلة، وجعله وثناً له شأن الاوثان. وإثبات وجوده معناه أن نستعين بيقين مستمد من غيره في سبيل اثباته، مع أنه هو مصدر كل يقين وهو الفاعل المطلق
موقفه من الدين
لم يؤثر شيء من النقد في نفس فيخت كما أثرت فيه تلك
الوشاية التي أراد خصومه من ورائها أن يتهموه بالألحاد، وما
زال الالحاد سيفاً يشهره العاجزون يهولون به على الأقوياء.
قابل (فيخت) هذه التهمة بابتسامة كئيبة، لأنه يعتقد أنه مضمر
للدين عاطفة طيبة تشف عنها كتاباته ومقالاته، وإزاء هذه
الوشابة أرسل إلى قومه نداء يدفع به عن نفشه هذه التهمو
الشنيعة، وهو نداء يطفح حرارة والتهاباً وإيماناً. قال فيه:)
(إن الرجل المتدين هو الذي يشترك في تمثيل سلطة الله على
الأرض، ٌائمة نفسه حق القيام بما يجب عليها من قواعد
الأخلاق. يستيل علي أن اتخذ لي هدفاُ وغابة هذه الحياة التب
يتبرم الناس بهمومها وأفراحها. . . وإنما يجب على أن يكون
لي غرض مباين لهذه الأغراض. . . إن الاشياء تقاسمنا -
بحسب أهوائنا - أمانينا وميولنا، فهي تئن إذا أرغمها على
الزهو مرغم وهي ترجو الانعتاق إذا أمسك الحرية عليها
مسك، وهذا الأمل المتوقد في ما هو أسمى وأرفع وفي ما هو
أبقى وأخلد، وهذه السآمة من الأشياء الزائلة الفانية، كل هذه
هي عواطف لاصقة بقلب الانسان! ووراء ذلك صوت لا يمكن
لبشر أن يخنقه إذا علا وارتفع في صدر الانسان، يوحي عليه
أن هنالك واجباً فرض عليه أن يقوم به لأنه هو الواجب،
والانسان الذي لا مفر له إلا إلى نفسه يسمع ذلك الوصت
ويردد معه (ليمنعني ما يمنع! فانني لقائم بواجبي حتى لايكون
هنالك لائم) وهذا الحل الذي وجده هو الذي يجعله محتملاً لهبة
الحياة إذا استلمها، ولا نتزاعها منه إذا فقدها، يقول بنفسه. .
أريد أن أنجز أيامي لأن الواجب يدعوني إلى ذلك. . . أريد
أن اتمم ما تطلب الحياة مني وما تفرضه علي. . . إن الحياة
مقدسة عندي! وما قدسها إلا حب الواجب.)
ويرى فيخت وجوب توحيد الاخلاق والدين لأن غايتهما واحدة ووجهتهما واحدة. فالدين بغير أخلاق ما هو إلا مظهر خارجي يغذي العقل بالأوهام والأساطير دون أن يرقي به إلى ناحية من نواحي الكمال. والأخلاق بغير الدين تتركنا نجتنب الشقاء خشية عاقبته، دون أن نغرس في نفوسنا حب الخير لنفيه. ألا ليكن دستورك الشريف في حياتك أن تريد ما يجب، وأن تظهر إرادتك من أدران هذا العالم، وتنقذ وجودك منها ليتسنى لك العروج الى عالم هو أسمى من عالمنا الحاضر، ، ان تصرف نفسك عن هذه الحياة الى الحياة الهادئة السعيدة
ويقول أيضاً: (إن مزية الرجل المتدين الحقيقي في مذهبي هي أن تكون له رغية واحدة تحدوه، وفكرة واحدة تسوقه، صلاته هذه الآية: (ليأت ملكوتك) وفي غير ذلك لايتسع صدر لشيء، ولا تسمى قدماه إلا في سبيل واحد يدينه من غايته ولايطيع في كل ما يأتيه من عمل إلا صوت ضميره
على أن روح فيخت الدينية بدأت تبدو كثيراً في كتاباته الاخيرة التي أراد بها توضيح مذهبه. ففي كتابه (الموجز) نرى نزعته الفكرية التي تؤمن بأن الله قد أناب منباه (الذات المطلقة) على الأرض، وأن نهاية هذه (الفاعلية) الانسانية تفنى في وحدة تمزجها مع الالوهية. وفب كتابه (غاية الانسان) يعلن فيخت بأن حقيقة العالم الخارجي بعيدة عن الوضوح والبيان، ولكن في الامكان تعليلها بطريقة من طرق الايمان، أليس هو شعورنا الذي يحفزنا الى معرفة (حقائق الأشياء الخارجة عنا) وهي كائنات لها وظيفتها في الوجود كما لنا وظيفتنا، وأرانا مضطرين الى اسعافها في اكمال وظيفتها
وفي كتابه (معرفة الحياة السعيدة) يبحث مسألة الاتحاد مع واجب الوجود، وقد يكون في استطاعتنا القول أن هذا الاتحاد قد يكون اتحاداً صوفياً (يمثل فناء المحب في المحبوب) لو لم ينبهنا فيخت الى أن هذا الاتحاد ليس باتحاد فارغ - كما نتمثله - وإنما هو اتحاد ملائم لجبلة الله. وإنما الرجل المتدين عنده هو الذي يؤمن ويضع رجاءه - لا في الله - لانه يحمل الله في قلبه، ولكن في الانسانية التي يجاهد في سبيل إسعادها وكمالها
قيمته الفلسفية
أجمع النقاد على أن فلسفة فيخت ليس لها ذلك الألتئام والاتحاد اللذان تمتاز بهما فلسفة (انت)، وإنما هي قوة منبعثة يجهل بواعثها فيخت نفسه. قد لا تتفق وجوهها إلا بجملة امتيازات خاصة لو تأملها متأمل عن كثب لرأى ركاكتها ولمس ضعفها، فالذات في نظره هي الفاعل المطلق، ولكن يف يسند إليها هذا الأطلاق وهي ليست بالمطلقة، وكيف تكون مطلقة وحولها ذوات ثيرة مثلها، كل ذات منها مطلقة في نفسها؟
إن قيمة فلسفة فيخت لا تتمثل حقيقة فيما اتسفت وابتدعت - في عوالم النفس - فهي لم تكتشف شيئاً، ولم تكشف عن شيء في المسائل العلمية، ولكن هذه الفلسفة ستبقى مطبوعة بصفة لاتبلي، هي سر كل بقائها وعظمتها
قد يأتي يوم يفقد فيه (كانت) كل مناصر، ولكنه لن يفقد بعض آراء مثمرة جديدة لها خطرها فيما أبدعت، (وفيخت) لن يفقد بعص صفحاته النقية وبعض آرائه السامية. وهب أنه فقدها، فهو لن يفقد ذلك المثل الأعلى الذي هام في طلبه طيلة حياته، وكان أبلغ واسمى ما تجلى به مذهبه أن الأنسان الأخلاقي - في فيخت - يغلب على الأنسان الفيلسوف! والأنسان الأخلاقي - في فيخت - يغلب عليه وسمو عليه النسان وحده. . .
(يتلي) خليل هنداوي
القصص
من الادب الألماني
التأمين (ضد) امرأة جميلة
للقصصي الالماني
قبيل الساعة السادسة جلس في الغرفة الخلفية لحانة (الطاحونة الملكية) ستة رجال على مائدة مستطيلة. وكا منهم يخشى البدء بالكلام برغم تعارفهم - ذلك التعارف الذي لامفر نه لسكان بلدة صغيرة. وكانوا في حياتهم ومعاشهم متشابهين، فكلهم موظفون، لهم مكاتبهم التي يجلسون إليها في مصارف أو مصانع أو محال تجارية. جاءوا جميعاً لأن كلا منهم قد بلغته دعوة للحضور إلى (الطاحونة الملكية) في نفس اليوم من الساعة السادسة لكي يتم تأسيس جميعة عظيمة الخطر والنفع له. وقد طلب إليهم صاحب الدعوة أن يسروا الخيبر، فأخفوه حتى عن نسائهم، إذ ظنوا أنها مسألة قد تكون خاصة بالرجال. . . ون يدري؟ وكان الداعي فطناُ إذ خلق لكل منهم آملاً معسولة. غير أن واحداً منهم لم يعرف شيئاً على وجه التحديد. فانتظروا (الهر فِريِد) صاحب الدعوة. وكان هذا شاباً رشيقاً، جواباً للبلاد يطويها من المشرق إلى المغرب، وله مهم غير معروفة بالذات. وكثيراً ما كان شخصه موضع حديث الناس لغريب شأنه
وما ان دقت الساعة حتى دخل الهر فريد إلى الغرفة، وقال كمن يرأس جماعة:
(سادتي! إنه ليسرني أن أراكم مجتمعين كاملي العدد. . .) فابتسموا جميعاً، ولكنهم أزداودا اليه تطلعاً. وابتسم الهر فريد وتابع قوله:
(كاملي العدد - يا حضرات المختلسين. . .!)
فذعُر الرجال الستة وهرب الدم ن وجه ثلاثة منهم، وصعد الدم إلى رؤوس الثلاثة الآخرين. وحاول كل منهم أن يكظم غيظه، أو يرسله كلمة صاخبة يحملها إلى الهر فريد في شيء من الرفق والتودد. أما هو فأخرج من جيبه ورقة قرأ فيها أسماء الحاضرين، وكان يردف كل اسم بأرقام تتراوح بين الألف والعشرة آلاف.
وما كاد ينتهي من ذلك حتى شملهم سكون أشبه بسكون الموت. وبعد هنيهة تشجع من
اقترت اسمه بأكبر رقم - وكان صيرفياً في (بنك التجارة) وأراد محاسبة الهر فريد على كلامه فقال له:
(من أين عرفت ذلك؟)
فقال: (هذا ما لا أريد ذكره الآن.)
فسأله: (أمن رجال الأمن أنت؟)
فأجاب: (لا.)
فتنفس الرجال الستة الصعداء. ولما سئل ثانية:
(ألاستغلال الموقف؟)
قال (كلا!) قالها فرحاً وزاد عليها: (وهل لديكم أشياء يستغلها الغير؟ لقد اختلستم أكثر من نصف ما في خزائنم، وأريد الآن أم اوجه إليكم سؤالاً بسيطاً: ماذا تفعلون لو جاء مفتش؟)
وانقلب الرجال الستة مرة أخرى الى كتلة من الذعر والمرج، وتعالت الصيحات وكثرت الأسئلة، ومضت دقائق يغمغمون دون أن تتميز كلماتهم
وقال الهر فريد: (إني أعرف جيداً أن ساعتين كفيلتان بدرء الخطر، إذ النجدات تطلب، والتلغرافات إلى الأقارب ترسل، والمحادثات التليفونية مع الأصدقاء تقعز فيتم جمع المبلغ المطلوب، ويوضع في الخزينة لكي يرد الى أصحابه بعد عملية المراجعة والتفتيش التي قد تستغرق بضع ساعات. ولكن ماذا أنتم فاعلون أذا فسل المسعى رة؟
وبدت على الجميع الحيرة. غير أن الهر فريد بسط ذراعيه وقال (إني لا أريد بكم سوءاً، بل لقد جئت لرشادكم. إني أعرض عليكم خطة للنجاة. . . ماذ ترون في تنظيم مساعدة سريعة حينما يداهمكم تفتيش على غير انتظار؟)
(انها أسئلة مفجعة. ولكن ما هي الخطة: يا سادتي! يجلس هنا صيافة ستة لمحال مختلفة. وإذا لم أخطيء التقدير فاثنان منكم في مصرفين، وأربعة لأاربعة مصانع. فهل يمكن أن يجري التفتيش عند الجميع في وقت واحد؟ كلا يا ساتدي، فهذا من الوجهة العملية لايمكن، ولن يمكن وقوعه في الحياة. وإذاً فهذه المفاجأة غير المرغوب فيها لا تهدد إلا خزينة واحدة. ولا يجيء الدور على الخزينة الثانية حتى ينتهي التفتيش من الخزينة الاولى. ويصح أن أكرر القول بأنه حينما تكون إحدى الخزائن واقعة تحت خطر داهم، فلن يصيب
الخزائن الخمس الاخر شيء قط مهام كان العجز الذي فيها. ولهذا يمكن أخذ الأموال من تلك الخزائن لأنقاذ الخزينة المهددة. ثم بعد مرور الخطر، أي بعد بضع ساعات ترد الأموال ثانية. هذا كل شيء. وهو بالنسبة اليكم ولموقفكم كبيضة كولومبوس) من أجل هذا وجب عليكم يا سادتي أن تتعاونوا للتأمين ضد الحالات السيئة الطارئة وتجعلوني رئيساً عليكم، ولابد أن تجعلوا لي على ذلك أجراً شهرياًز ولس هذا بالأمر العسير، إذ أن الخزائن التي أنقذتكم في ميسورها أن تتحمل ذلك دون أي مشقة)
وفي الليلة نفسها تألفت في حانة الطاحونة الملكية شركة للتأمين من نوع جديد، ثم أملي الرئيس، الهر فريد، مواد قانون الشركة ومنها: الدفع في الللحظة المطلوبة، رد المبلغ في طرف أربع وعشرين ساعة، عدم تغطية الخسائر السابقة، يتقي خطر كل اختلاس جديد. ومن ثم تلاشى الرعب وسرى في النفوس البشر. وكانت أقداح البيرة تملأ باستمرار من جديد. وان الهر فريد، المقذ، موضع التكريم من الجميع
وتناسوا جميعاً الورقة التي بها الاعداد الصحيحة من النقص في كل خزانة، وكانت على المائدة. فلما أبصرها أحدهم على حين غرة وجه السؤال مرة أخرى الى الهر فريد الذي تصادق مع الجميع فقال:(من أين عرفت ذلك؟)
فأجابك (الآن سأقص عليكم المسألة: طبعاً تعرفون السيدة ماري لو؟)
فاندفعوا جميع في صوت واحد ليقولوا كلمة (لا!)
فاستأنف قوله: إذاً سأذكر لكم شيئاً عنها. ان السيدة (ماري لو) جذابة، قصيرة القامة، شقراء اللون، تسكن وحدها منزلاً خلوياً في ظاهر بلدتنا. أما كيف صار لها هذا المنزل، وكيف حصلت عليه، ولا زالت تحصل على مطالبها - وحياتها هي الترف بمعناه الكامل - فهذا ما لا يعرفه أحد في بلدتنا، أليس كذلك؟ غير أني أعرف السر، إذ هو متعلق بعمل أمارسه في بعض الأحليين. إن للسيدة (ماري لو) دفتر حساب يحصر فيه جميع داخلها ومصروفها، وكانت قد دعتني مرة لتنظيم هذه الدفاتر. ومن ذلك اليوم وأنا أعالج تنظيمها بطريقتي الخاصة. وإذاً فأنا لست رئيس هيئتكم فقط، ولكني أيضاً مراجع حسابات السيدة (ماري لو) وها أتنم اولاً ترون إنني أمارس مهناً غريبة، ولكنها في الواقع متصل بعضها ببعض، ففي أحد دفاتر الدخل وجدت أسماءكم جميعاً يا سادتي، ووجدت بجانب كل أسم
رقماً من الارقام. . إنني أعرف انكم متزوجون. ومعنى ذلك أن مرتباتكم الكاملة تقدم اولاً بأول إلى زوجاتكم. . . والأرقام التي وجدتها في دفتر دخل السيدة (ماري لو) نقلتها هنا بكل أمانة. . . ولابد أن تكون هذه الارقام هي اختلاساتكم الجليلة اشأن، المحسوبة حتى أخر فلس
ولم يغضب هؤلاء السادة لسماع ذلك، إذ أن هذا الشاب الظريف كان قد دفعهم الى التمتع برؤية مستقبل باهر. ثم لم يغب عنه أنه يختم الليلة بالتحدث عن مكارم الأخلاق إذ قال:
(إنه لا يليق بمقامكم أيها السادة أن تجر عليكم الخسارة امرأة مثل السيدة ماري لو. . إنني أكتفي بهز رأسي. انظروا الي، إنني لم أجد اسمي في دفتر دخل السيدة ماري لو، برغم أني أعمل معها ليل نهار في مراجعة حساباتها وشؤن أخرى)
وراج التأمين ضد الحالات غير المرغوب فيها بسرعة فائقة، وأصبح عدد الاعضاء ثلاثين عضواً، إذ وجد الهر فريد أسماء الاربعة والعشرين الجدد مدرجة واحداً بعد واحد في دفتر ماري لو. . . وسرعان ما كانت له سيارة جديدة يجوب بها البلاد والمدن المجاورة، لينشئ فيها فرعاُ لشركته التعاونية هذه، أو ليقوم بما يشبه ذلك من الأعمال. وكان كل مطمعه الا يظهر أي اختلاس في الوطن الذي يحميه
ومن الأموال المقيدة بارقام ميتة في دفتر لخزينة ان الصيارفة يرتعون في بحبوحة من العيش. وكان المفتشون والمراقبون يجدون كل شيء على أمله. وكانت الاحصاءات تدل على ان درجات الشرف ترتفع باستمرار في البلاد
ولا أن اجتمعت الجمعية العمومية في (حانة الطاحونة الملكية)، وفقاً لتقاليدها القديمة، كان التقرير السنوي حسناً، فوافق عليه الثمانمائة عضو بالاجماع. وأذاغ الهر فريد في خطابه السنوي قرب تحيقي ما يأمله من تبليغ أعمال الشركة الى عاصمة الدولة حتى يقضي على الاضطرابات المالية وفق طريقته المبتكرة، ثم جلس بين عاصفة من التصفيق والابتسام، وفي هذه اللحظة اندفع باب غرفة الاجتماع، وتقدم اثنان من مديري البنوك، وثلاثة من مديري المصانع، يعلو وجوههم الحزن. وكان يحمل كل منهم خطابات ورسائل مطبوعة تشيد بمكانة شركة التأمين وقدرتها. وظن المجتمعون أن عهد الاختلاسات قد مضى فاختل التوازن بينهم. ولكن الهر فريد بقي جالساً لاتفارقه ابتسامته
وسأله المتكلم من بين المديرين الخمسة:
(هل هذه المطبوعات خاصة بكم؟)
فرد عليه الهر فريد بالايجاب
ثم استمر في السؤال: (هل كل هذه البيانات المذكورة صحيحة؟)
فرد عليهم الهر فريد بالايجاب مرة ثانية
وأخيراً لب خمستهم قبولهم أعضاء في هذه الشركة العملية، ولما انتهى الاجتماع السنوي سأل احدهم الهر فريد:
(لماذا ل م تحرك ساكناً في أول الأمر، ودق داهمنا هؤلاء المديرون؟)
فأجاب: (رأيت من قبل أسماؤهم الخمسة في دفتر حسابات دخل السيدة ماري لو.) ثم أعقي ذل بقوله (إنني لا أتمالك غير هز الرأس، أي، لقد تدنس عظماء الرجال)
وما لبث أن طلب المديرون الجدد التوسع في أعمال الشركة وإصلاح نظمها. فالتأمين ضن الحالات غير المرغوب فيها - بعد أن اتسعت أعمال الشركة وتشعبت - تطلب تنظيماً جديداً وفرض اشتراك (يرد ثانية إلى الاعضاء) لكيكون بمثابة احتياطي مضمون.
ودفع كل عضو مبلغاً من ماله الخاص. ولما أن تجمعت هذه المبالغ العظيمة اودعت عند الرئيس المبجل الهر فريد، كرصيد سريع لدرء الخطر
* * *
وفي صباح يوم اتصل الهر فريد تليفونياً بالاعضاء السبعين (وهكذا أمسى عددهم) وكلفهم بسرعة جمع مبلغ جسيم. وبالطبع سأله الجميع عن أسم المختلس الذي وقعت له حالة غير مرغوب فيها
فكان يجيب: (هس شركة التأمين ضد الحلات غير المرغوب فيها.)
وكان كل واحد منهم يعتقد أنه سمع خطأ أو فهم خطأ.
ولكن الرئيس سؤكد له:
(إنك تسمع ما أقول صحيحاً. إن المديرين ضربوا اليوم موعداً للمراجعة والتفتيش، وللأسف اختلست انا الرصيد الذي كان عندي منذ أيام.)
فكان جواب كل منهم: (ماذا تقول؟ إنه يجب عليك أن تتحمل الخسارة وحدك وتسد النقص
حالاً)
وكانت إجابة الهر فريد الثابتة: (إنني لا أفكر مطلقاً في ذل. إنني عضو في الشركة سائر السادة المختلسين)
ثم يسأل كل منهم: (وكم يكون العجز؟)
فيجيب: (هو الاحتياطي بأجمعه وإني آسف إذ ليس في وسعي
إعطاء الارقام الصحيحة.)
وكانت صرخة الغضب تدوي من كل منهم حين يقول:
(لماذا؟ أليس امبلغ مقيداً في دفتر حسابات دخل السيدة لو؟)
فيقول الهر فريد متحسراً: (لا. إن صديقتي الجديدة ترهب مسك الدفاتر وتمقته. نعم إن السُّمْر من النساء لا يرين للمال حرمة.)
عربها عن الألمانية ا. ا. ي.
من روائع الشرق والغرب
المشهد العام للكون
لشانو بريان من كتابه (عبقرية المسيحية)
إن في الكون إآلهاً تقدسه أعشاب الوادي، وتمجده أدواح الجبل، وتسبح بحمده الحشرة، ويحييه في الصباح الفيل، ويغرد به على الغصون الير، وتُبرق بقوته الصاعقة، ويدل على سعته البحر، والانسان وحده يزعم أن ليس في الكون إآله! كأنه لم يرفع بصره إلى السماء فيْ بلائه، أو لم يخفض نظره إلى الأرض في رخئه! وكأن الطبيعة بعيدة عن تناوله، خارجه عن تأمله!
لعله يعتقد أنها أثر من فعل النصادفة! ولكن أية مصادفة استطاعت أن ترغن نافرة عصية على هذا النظام الكامل المحكم!؟
إن في إمكانك أن تقول إن الإنسان فكرة الله المُعْلَنة، وأن العالم مخيلته المُحَسةـ وأن الذين قبلوا أن يكون جمال الكون دليلاً على قوة الادراك وسمو البصيرة كان يجب عليهم أن يلاحظوا شيئاً تعظم له كرة العجائب وتزيد به دبائع الخلق: ذلك أن ما ينوع زخرف الدنيا وجمال الوجود من الحركة والسكون، والظلام والنور، وتوالي الفصول، وسبوح الكواكب، ليس تعاقبه إلا في الظاهر؛ أما في الواقع فكل شيء ثابت؛ فالمشهد الذي يمحي من عيوننا، يشرق في نظر قوم غير قومنا. إنما يتغير الناظر؛ أما المنظر فهو باق على حاله. وهكذا يجمع الله في صنعه بين الدوام المطلق والدوام المتجدد، فَوَضع الأول في الزمان والثاني في المكان، وجعل بالدوام المكاني جمال الكون واحداً ثابتاً غير محدود، وجعله بالدوام الزماني متكاثراً متجدداً غير متناهي، وبدون هذا لايكون تنوع الطبيعة، وبغير ذلك لا تتم عظمة الخليقة
هنا يتراءى لنا الزمن في علاقة جديدة، لإادنى جزء من أجرازئه يصير كُلاً تاماً يشمل الكل. وإنْ من شيء إلا يتغير حاله فيه ويختلف نظامه به، سواء في ذلك موت الحشرة، ومولد العالم: فكل دقيقة خي في ذاتها خلود مصغر
دع فكرك يجمع في لحظة واحدة أروع حوادث الطبيعة، فقدر أنك ترى في وقت واحد جميع الساعات، وجميع الفصول، وصبحاً من أصباح الربيع، وبكرة من بُكر الخريف،
وليلاً مرصعاً بالنجوم، وليلاً آخر ملبداً بالغيوم، ومروجاً مطرزة بالزهر، وغابات محملة بالصقيع، وحقولاً مذهبة بالحصيد، تجتمع في ذهنك فكرة صادقة عن الكون
إن في الساعة التي تعجب فيها بالشمس وهي تغيب في جنية المغرب، إنساناً آخر يعجب بها وهي تلوح من حاشية المشرق فبأي سحر خفي تكون هذه الشمس العجوز التي ترقد مكدودة محترقة في غبار المساء، وهي في هذه اللحظة نفسها تلك الشمس الشابة التي تستيقظ من خدر الصباح مبللة بالأندار؟!
في كل لحظة من لحظات النهار تشرق الشمس، وتسطع في السمت؛ وتغرب عن هذا العالم، أو قل توهمنا مشاعرنا بذلك؛ والواقع أن ليس هناك شرق ولا ظهر ولا غرب! انما يرتد كل ذلك إلى نقطة محدودة ترسل فيها شعلة النهار في جوهر واح، ثلاثة أضواء في وقت معاً
من بدائع طاغور
من كتابه (القربان الغنائي)(جيتَنْجالي)
يا حياة حياتي: أنا اجتهد دائماً أن أحفظ جسمي من الدنس، لأني أعلم إن لَمْستَك الحي وَسْمٌ على كل عضو من أعضائي
أنا أجتهد دائماً أن أحفظ قكري من الخطأ، لأني أعلم أنك أنت الحقيقة التي تبعث نور العقل في ذهني
أنا أجتهد دائماً أن أذود عن قلبي الخبث، وأدفع عن حبي الذبول، لأني أعلم أن مسكنك هو الهيكل السري من قلبي
وسيكون قصاراى أن أجتليك في كل عمل، لأني أعلم أن قدرتك هي التي تندني بالقوة لأعمل
- 26 -
أقبل فجلس الى جانبي ولم أستيقظ! فعلى نومي الشقى اللعنة!
جاء في سجُو الليل وفي يده قيثارته، ثم غني فاهتزت أحلامي لانغامه!
وا أسفاه! لماذا تذهب ليالي ضياعاً؟! والهفتاه! لماذا يفر من مشهدي، ذلك الذي تمس أنفاسه
مرقدي؟
- 35 -
هناك حيث الفكر أمن والرأس مرفوع؛
هناك حيث المعرفة حرة؛
هناك حيث العالم لم يُجَزأ أجزاء ضيقة مشتركة؛
هناك حيث الكلمات تصدر من أعماق الاخلاص والصدق،
هناك حيث الجهد اللاغب يبسط الاذرع نحو الكمال؛
هناك حيث البرق الساري للعقل لا يضل ضلال الموت في بيداء التقاليد والعرف،
هناك حيث الذهن يتقدم على نور قيادتك في تحرير الفر والعمل:
هناك في هذا الفردوس، فردوس الحرية، تَطَول علي يا أبي أن يكون موطني هناك!
طاغور
إني شكرت لظالمي ظلمي
…
وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدي إلى يداً
…
لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته إلى
…
وإحساني فعاد مضاعف الجُرم
وكأنما الأحسان كان له
…
وأنا المسيء إليه في الحكم
ما زال يظلمني وأرحمه
…
حتى بكيت له من الظلم
ابو العتاهية
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
…
فقير مُعري أو أمير مُدوج
وقد يُرزق المجدود أقوات أمة
…
ويحرم قوتاً واحداً وهو أحوج
أحسن جواراً للفتاةوعُدها
…
أخت السماك على دنو الدار
كتجاور العينين لن تتلاقيا
…
وحجار بينهما قصير جدار
ــــــ
ياقوت! ما أنت ياقوتٌ ولا ذهب
…
فكيف تُعجز اقواماً مساكينا؟
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم
…
لما رأيت بني الأعدام شاكينا
أبو العلاء
ـــ
كأن بلاد الله وهي عريضة
…
على الخئف المطلوب كِفة حابل
يؤدي اليه أن كل ثنيةٍ
…
تيممها تُوحي اليه بقاتل
القتال الكلابي
لقد خفت حتى خلت أن ليس ناظر
…
الى أحد غيري فكدت أطير
وليس فم إلا بسري محدي
…
وليس يد إلا إلي تُشير
عبيد بن أيوب
ــــــــــــــ
مثل الحقد في القلب إذا لم يجد محركاً مثل الجمر المكنون إذا لم يجد حطباً، فليس ينفك الحقد متطلعاً إلى العلل كما تبتغي النار الحطب، فاذا وجد علة استعر فلا يطفئه حسن كلام ولا لين ولا رفق ولاخضوع ولا تضرع ولا مصانعة ولا شيء دون تلف الأنفس وذهاب الأرواح
* * *
لين ما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسوداً، فان الحسد خلق لئيم، ون لؤمه أن يوكل بالادننى فالادني من الأقارب والاكفاء الخطاء. فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير من، وان عُنما لك أن يكون عشيلاك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من عمه، وافضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجت بجاهه، وأفضل منك في الدين فتزادا صلاحاً بصلاحه
* * *
أبل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وااعامة بشرك وتحننك، ولعدوك
عدلك، واضنن بعرضك ودينك على كل أحد
ابن المقفع
من هنا وهناك
هل لامرتين عربي؟
جاء في كتاب (لامرتين) تأليف الأستاذ ج. كلويه، وش. فيدال ما نصه
(كان لامرتين يقول من ذات نفس إنه نحدر من أصل عربي وإن استقرار آل مرتين في مقاطعة (ماكونيه) يرجع تاريخه إلى الغزوة. وهذا التأكيد لانجد له أساساً مادمنا لانستطيع الرجوع بأصل آبائه إلى ما قبل القرن السادس عشر
ففي سنة 1572 ذُكر واحد من أسرة لامرتين في مذكرات كورديه بين النبلاء والوجهاء الذين أرغموا على أداء مبلغ جسيم من المال الى (كولدجيز) أسقف (ليمي). .
ويقول م. بيير دلاكرتول إن جد لامرتين، وهو لويس فرنسيس دلامرتي زور في سجل الأحوال الشخصية فحول أسم آلمرتين الى دلامرتين)
ويقول بيير دلا كروتل في كتابه (أصل لامرتين وشبابه)
(. . . وأصل الاسم هو أَلامرتين أو أللامرتين كما كان يكتبه، ولا يزال يُسمع الى هذا اليوم في برغونيا وفي منطقة اللوار الاعلى. أما موطن الأسرة الأول فهو أقليم كاروليه حيث يجد الباحث في أخريات القرن الخامس عشر أسماء ألابرت وآلابرناد وآلابلانش وقد تحولت فيما بعد، الى دي، لا، برت وديلابرت ودي بلانش
أما الأصل العربي الذي ان يعترف به لامرتين في زهو وفخر فربما كان عذراً جميلاً عن استسلامه للكسل الرفيع، وحبه الشديد لأنواع الحيوان، وتأثير جاذبية الشرق فيه وسلطانها عليه.
ولاتزال هذه النسبة من المسائل التي يغيم على حقيقتها الشك)
فأنت ترى أن لامرتين يعترف في صراحة وثقة بجنسيته العربية، ولكن الكتاب الفرنسيين بالطبع لا يصدقون هذا الاعتراف، ولا يؤيدون هذه النسبة، وإنما ينتحلون لها شتى الأسباب ومختلف العلل. فهل فينا من يصمد لهذا البحث في مظانهفيضيف الى عبقريات العرب هذه لعبقرية الخالدة، ويُرجع إلى أرواح الشرق هذه الروح الشاردة؟
أحد تعاريف الشعر
ذكر بعض المؤرخين أن جيوزني كارديوسي سئل مرة عن خير تعريف للشعر، فقال إن
خير التعاريف تعريف الأب اكسافييه بيتينللي خصم دانتي الألد وهو قوله:
(الشعر حلم يتهيأ في يقظة العقل)، وكتب أدريانو تلغر في مؤلفه دراسة الشعر شرحاً دقيقاً لهذا التعريف قال:(لو تأملت قليلاً، وجدت أن التعريف الذي يتصل بعلم الجمال الحديث اتصالاً مباشراً إنما يتمثل فيما قاله ذلك اليسوعي عدو دانتي (يقصد به الأب اكسافييه)، وهو أن الفن حل. فهو نشاط روحي يتميز بطبيعة العقل وبالتفكير والمنطق، ولكنه حلم في يقظة العقل؛ فالفنان يحلم، ولكنه يدرك ما يتراءى له، أي يحلم وعيناه مفتوحتان، وهو يحلم ولكن نتيجة ذلك الخلم تخالف ما نحلم به ونحن رقود. فحلم الفنان إغفاءة في يقظة الضمير ورقابة العقل، فلا هو حلم كما نفهم من كلمة حلم، ولا هو نتيجة خالصة للعقل، ولكنه شيء لا هو بالحلم ولا هو بالأدراك. وإذا كان الفن حلماً يتهيأ في حالة اليقظة فمعنى ذلك أن الفن نتيجة روحية سابقة لانتباه العقل، منطقية سابقة للمنطق؛ وهو إدراك خالص للتصور وللضمير في وقت واحد. أي إن هؤلاء الذين هم في حضرة عقولهم وصحو ضمائرهم وكمال يقظتهم الفنية لم يخرجوا عن الصواب
من بشر بن عوانة؟
هل عثر أديب من الأدباء على اسم هذا الشاعر في غير المقامة البشرية لبديع الزمان الهمذاني، وكتاب تاريخ أدب اللغة العربية للمرحوم جورجي زيدان، وكتب المحفوظات لوزارة المعارف المصرية؟ أما نا فلم يقع لي هذا الاسم في سفر من أسفار التاريخ ولا في كتاب من كتب الأدب على كثرة ما قرأت، فرجع عندي أن بشر بن عوانه الأسدي شخصية خرافية من شخصيات المقامات، خلقها البديع، وأجرى على لسانها تلك القصيدة المشهورة وفي وصف قتال الاسد
وقد راعى البديع في نظمها الصيغة المحلية للعصر الجاهلي الذي فرض وقوع حادثها فيه، فجاءت في لغتها وأسلوبها وصورها أشبه بما قيل من نوعها في ذلك العصر، فدخلت في مختار لشعر، وسارت على ألسنة الشعراء، حتى خدعت رجال الأدب في وزارة المعارف، فحفظوها للطلاب على انها قصيدة جاهلية لشاعر جاهلي اسم بشر بن عوانه كان من امره وخبره ما أخبر عنه البديع في مقامته. وجاء المرحوم جوؤجن زيدان، فوجد القصيدة تدرس في المدارس، وصاحبها يذكر في الشعراء، فاقبته في الجاهليين، وترجم له قصيدة لم يرجع
فيها الى غير تلك المقامة. وهذا مثل قريب تعرف منه كيف كانت الأساطير تدخل في التاريخ، والشخصيات الخرافية تدخل في الأدب، والقصائد المحولة تدخل في الشعر
طبقات الجو العليا:
نشرت جريدة (نوقيل ليترير) مقالاً علمياً قيماً لروجيه سيمونيت نقتطف منه الجزءالاتي:
(من المعروف أنه كلما صعدنا في طبقات الجو العليا ازدادت الطبقة الهوائية انبحاجاً وازداد انتشار الهواء وقلت كثافته، ونقص تركيبه، وازداد صفاؤه حتى يصير رائقاً لا تشوبه ذرات الغبار التي تكون اعمدة طويلة من التراب قرب سطح الأرض، والهواء في تلك الطبقات غير صالح للحياة لانعدام الاكسيجين. وقد حاول علماء الطبيعة اليوم الوصول إلى تلك الطبقات واكتشافها لما لها من الفوائد العلمية العظيمة، فقاموا بكثير من المحاولات والتجارب نجح بعضها وأخفق الآخر، إذ أرسلوا منايدهم الكشافة، وبهذه الطريقة توصلوا الى معرفة بعض حقائق علمية ذات قيمة كبيرة. من ذلك أن الحرارة تنخفض درجة مئؤيو كلما ارتفعنا مائة وخمسين متراً فوق المستوى الأول لهذه الطبقات المجهولة التي أسموها وهذا الارتفاع يتغير إلى مائة متر في الهواء الجاف وإلى مائتي متر في الهواء الرطب. ولاحظوا أيضاً أن أقل درجة حرارة جوية تبلغ 85 فوق المنطقة الاستوائية على ارتفاع عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف متر، وأن ضغط الهواء ينقص بسرعة هائلة فيصير نصف الهواء على سطح البحر على ارتفاع ستة آلاف متر، وينقص إلى الربع على ارتفاع أحد عشر ألف متر، وإلى عشر هذا القياس على ارتفاع ستة عشر ألف متر
واكتشاف هذه الطبقات ذو فائدة كبيرة، إذ يصبح في مقدورنا أن نعرف موضع الازون وهو الذي يمتص أشعة الشمس فوق البنفسجية التي تهيء لنا الحياة على سطح الارض.
ومن بين المعضلات التي يحاولون حلها ايضاً اكتشاف الاشعة الكوكبية ومن ثم مسألة أخرى تهم جماعة اللاسلكيين وهي دراسة الاحوال الكهربائية والحرارية لتلك الماطق الصامتة كما يسمونها، إذ أن اكتشافها سيفتح أمام العالم عصراً جديداً بل عالماً جديداً بأكمله، وقد نوه تسير تييك د بورن مؤسس مرصد (تراب) بذلك فقال:(إن مشكلات الارض تجد حلها في السماء)
ويلاحظ أن الطائرة التي تحاول أن تحلق فوق هذه الطقات تلقى حتفها لساعتها، إذ يقف
محركها لعدم وجود الاكسيجين كما أن الطبقات لا يمكن تحاملها لتمدد الهواء تمدداً عضيماً، وقلة كثافته نتيجة لذلك
ويحاول كثير من العلماء اليوم تذليل تلك الصعوبات باختراع الطائرات التي يمكنها أن تصعد فوق هذه الطبقات، ولقد بدأ كثير ممنهم بالقيام بهذه المحاولات، ونذكر منهم ألبرت كاكوت ومسعده فرنان وأوجست راتو وليسيون موميه ولئن افضت أكثر هذه المحاولات الى الفشل فان النتائج تدعو الى التفاءل بالمستقبل. واذا جاء الوقت الذي يمكن فيه اختراع أمثال هذه الطائرات التي تحلق فوق هذه الاجواء امكننا الطواف حول العالم أقل من اربعين ساعة، واصبح في المستطاع أن نصل من باريس الى نيويورك في اقل من يومين، لان سرعة هذه الطائرات ستبلغ ألف كيلو متر في الساعة لقلة العوائق في الاجواء العيا، هذا الى المنافع الاخرى التي تختفي تحت ستار هذه الطبقات المجهولة
البريد الادبي
هل تتدخل الدولة لحماية الآداب القومية؟
هل تمتد سياسة الحماية الى الآداب والفنون؟ أو بعبارة اخرى هل أضحى من الضروري أن تعامل الثمرات العقلية والفنية كما تعامل الصناعات والمحاصيل القومية، فتفرض لها قوانين خاصى لحمايتها من المنافسات الاجنبية؟ هذا موضوع يتناوله الجدل اليوم في فرنسا. والمعروف أن الادل الفرنسي في مقدمة الآداب العالمية قوة وازدهاؤاً؛ ولكن الدوائر الادبية والفنية في فرنسا أخذت تنظر بعين الجزع الى اشتداد المنافسة الاجنبية للأدب الفرنسي، والى طغيان سيل الثقافة والآداب الاجنبية في فرنسا، وقد نشرت جريدة (الجورنال) الباريزية مقالاً في هذا الموضوع بقلم الكاتب الفرنسي جاستون رجو رئيس جمعية الكتاب الفرنسيين، يتساءل فيه عما إذا كان من الواجب أن تتقدم الحكومة لحماية الثمرات العقلية كما دعيت الى حماية القمح والنبيذ، ذلك أنك لاتكاد تفتح صحيفة يومة أو مجلة اسبوعية أو تشاهد واجهة مكتبة، أو إعلان مسرح، حتى ترى هنا قطعة ألمانية، وهناك قطعة انكليزية، أو اوبرا نمسوية، وهكذا في سائر نواحي الأدب والفن يتبوأ العنصر الأجنبي مكانته، وإذا كان التعاون العقلي هو شعار جميع الامم المتمدنة، فان ظروف العصر، ومصاعب الحياة الاقتصادية تجعل من المحتوم أن تأخذ الثمرات العقلية مكانتها اولاً ، ان يعيش الكتاب المحليون
ويضرب مسيو راجو لذلك مثلاُ عملياً فيقول: إن القصة الفرنسية القصيرة التي يؤلفها كاتب فرنسي متوسط يدفع فيها إذا نشرت في مجلة أسبوعية كبيرة بين ألفين وثلاثة آلاف فرنك؛ ولكن القصة الأجنبية القصيرة المماثلة لها في النوع والقيمة يدفع فيها ألف فرنك فقط. ويبدو هذا الفرق بالاخص في الروايات والقطع الكبيرة؛ فان القطع المترجمة لاتساوي من حيث الاجر اكثر من ربع القطع الفرنسية، وقد اشتدت هذه المنافسة حتى أن قيم القطع المؤلفة قد انحط انحطاطاً كبيراً
وقد أثارت جمعية الكتاب هذا الموضوع الخطير وانتدبت لجنة لبحثه
ثم يقول مسيو راجو: اذا كانت الامور قد وصلت الى ها الحد، أفلا تدعو مصلحة الكتاب الحيوية الى التماس الحماية؟
وهل يكون تحقيق هذه الحماية بأصعب من حماية المزارعين؟ إن الادب الفرنسي من أكثر آداب العالم انتشاراً، وأشدها عرضة للترجمةوالاقتباس، وفرنسا في ذلك تتفوق في نسبة الصادر الى الوارد تفوقاً كبيراً. وفكرة الحماية تقتضي المساواة والتبادل، فاذا طبقت هذه الحماية فان انتشار الكتب والصحف والقطع الفرنسية يحد تحديداً شديداً. هذا من الناحية المادية ومن الناحية المعنوية يخشى من فكرة الحماية على نفوذ فرنسا الثقافي والأدبي؛ ذلك أن انكلترا وايطاليا تشجع كل منهما فكرة الترجمى والاقتباس من آدابهما الى اعظم حد توسلاً الى نشر النفوذ المعنوي حيثنا تنتشر الثقافة الانكليزية او الايطالية؛ والحد من هذ1االانتشار يصيب مصالح فرنسا المعنوية بضرر عظيم
وعلى هذا فان فوائد هذه الحماية ومضارها تتعادلان إذا صدرت من الحكومة. ولكن الحل الامثل هو أن تكون هذه الحماية اختيارية، وأن تصدر من الفرنسي إلى الفرنسي سواء في الانتاج والاستهلاك؛ فاذا كان شعار الفرنسيين (اقرأوا المؤلفات الفرنسيةّ! واطبعوا المؤلفات الفرنسية!) تحققن هذه الحماية على الوجه الاكمل دون أ، يتعرض التفكير الفرنسي للخصومة او الانكماش
نقول: فما قول كتابنا المصريين في ذلك؟
مذكرات الامبراكورة ماري لويز
ذكرنا في عدد سابق أن مجموعة ثمينة من خطابات نابليون إلى زوجة الامبراطورة ماري لويز عرضت للبيع في لندن، واشترتها الحكومة الفرنسية بمبلغ خمسة عشر ألف جنيه؛ وقد بيعت في نفس الوقت مذكرات الامبرطورة ماري لويز مكتوبة بخطها، فاشترها أحد الهواة بمبلغ 490 جنيهاً، وهذه المذرات عبارة عن جريدة تبدأ مذ غادرت فينا في رحلة الغرس حتى استفرارها في باريس. فيها أخبار وحقائق غريبة عن علائق الامبراطور بزوجة الفتية؛ وتقول ماري لويز في اكثر من موضع إنها كانت تؤنب زوجها، وتدفعه أحياناً كما تدغع جندياً بسيطاً. وفي مكان آخر تصف رحلتها إلى البارجة الحربية (شارلمان) في ثغر شربور، وتقول إنها اضطرت أثناء طوفها بالسفينة غير مرة أن تشمر عن ساقيها وأنها سوف ترتدي في المستقبل (سروالاً) إذا ما أرادت أن تزور السفن الحربية
وبيع في نفس هذه الجلسة قرطان انت تتحلة بهما الامبراطورة جوزفين زوجة نابليون
الاولى، أثناء حفلة تتويجها بمبلغ ألف وخمسمائة جنيه، ويبعت مجموعة من خابات نابليون إى الماريشال مكدونالد بمبلغ 190 جنيهاً
علم رياصي جديد
خطب الأستاذ أميل بوريل رئيس أاديمية العلوم الفرنسية والأستاذ بلية العلوم في الأكاديمية منوهاً بأهمية علم أو فرع رياضي جديد أدخل في برنامج الجامعات من شأنه أن يسهل البحث والدراية في بعض العلوم، وبالأخص في الاحصاء والاقتصاد السياسي والمسائل النقدية، والعلوم البيولوجية والطبيعية والفلكية، وهذا الفرع هو علم (تقدير الاحتمالات) وهو فرع له خطورته في الفكرة العلمية كلها. وسوف يجدد مسائل العلم والفلسفة الخالدة التي وضعها الفلاسفة اليونان، وبحثها علماء العصور والأجيال كلهاز وقد كان له شأن في تغيير فكرة (الجبر) الطبيعي
في تشيوسلوفايا
توفيت أخيراً في براج فنانة تشيكوسلافية عظيمة هي الآنسة زدنكا براوبرفا، وقد كانت من زعيمات التفكير والفن، ومن أرفع سيدات براج ثقافة وذكاء وسحراً، وهي ابنة سياي كبير كان نائباً في البرلمان النمسوي أيام الامبراطورية، ونشأت فنانة بالطبيعة وظهرت في التصوير بسرعة؛ وهي أول من أنشأ فن تصوير الكتب في تشيكوسلوفاكيا، ولم يكن بين فناني براج أقدر منها في إبراز الصور والمناظر القومية في روعة قوتها وتواحيها الشعرية؛ ولها فصول ورسائل قوية في تاريخ براج، وصور بديعة لمتاظرها، وكان لها أيضاً صلات وثيقة بدوائر باريس الفنية حيث تلقت تقافتها وتربيتها، وكانت فضلاً عن فنها وأدبها من زعيمات النهضة الوطنية في تشيكوسلوفاكيا، ومن زعيمات الحركة النسائية فيها
اورسمة العلم النمسوي
قرر رئيس الجمهورية النمسوية أن يمنح وسام الشرف للفنون والعلوم الى الدكتور اوزالد ريدلخ رئيس أكاديمية العلوم، والدكتور ايزلسبرج الجرح الأشهر، والدكتور فلاساك، والاستاذ فراتز سميث أستاذ الموسيقى والتمثيل بالاكاديمية الحكوةمية، والى الكاتبة الشهيرة
انزيكا هاندل مازيثي، والى الدكتور هولسميستر المثال الكبير، والى الدكتور كارل شينهير الكاتب الاشهر
هذا وقد عقد احتفال رسمي فخم بهو أكاديمية العلوم، وقدمت فيه جائزة الفن النمسوي التي سبق أن أشرنا اليها الى الفائزين بها وهما الاستاذان هربرت بل وفالتر ربتر، وألقى الدكتور شوشنج رئيس الوزارة النمسوية بهذه المناسبة خطاباً نوه فيه بأهمية الفنون والفنانين في حياة الأمم
الكلمات العربية في اللغة الانكليزية
لما فرغت نسخ الطبعة الاخيرة من معجم وبستر الانكليزي المشهور دعت لجنة تنقيحه الدكتور فليب حتى الاستاذ المساعد للغات السامية في جامعة برنستن للاشتراك معها في تنقيح الالفاظ الانكليزية المأخوذة من لغت سامية في الطبعة الجديدة
وقد صدرت هذه الطبعة في أمريكا الآن بعد ما قضت لجنة التنقيح أكثر من ثماني سنوات في اعدادها
وفي الطبعة الجديدة من معجم وبستر ستمائة ألف لمة مأخوذة من اللغة العربية، منها 500 كلمة من الالفاظ المستعملة في التابة والأحاديث العادية، والنصف الاخر في الشؤون الفنية
الكتب
جبران خليل جبران
تأليف الاستاذ ميخائيل نعيمة
يقع في 307 صفحات من القطع الكبير، ثمنه عشرون فرنكاً ذهباً يطلب من المؤاف في بكننا لبنان، ومن المكاتب الشهيرة في الأقطار العربية وفي مصر من مكتبة الهلال
هذا كتاب من كتب التراجم، أخرجه للناس كاتب له في الشرق العربي مكانة، يحلل فيه حياة صديق عزيز عليه، وهذا كما نرى موقف من ادق المواقف التي يصادفها أديب، إذا أراد أن يتوخى الانصاف فلا يظلم صاحبه ولا يظام التاربخ. ولفد أحس المؤلف دقة موقفه كما يتضح في مقدمة كتابه، وعلى هذا الأساي سأبني رأيي في نقد ذلك الكتاب
ويحسن اولاً أن أعطي القاريء فكرة عامة عن تقسيم الكتاب وطريقة السير في موضوعه، ولست أسير في التقسيم حسب أبوابه، بل لقد أحسست بعد قراءته أنه أقسام عامة أولها: حياة جبران قبل أن يعرفه المؤلف، ثم حياتهما معاً، واخيراً نجد ملحقاً في ذيل الكتاب غن وصية جبران ورسائله الى المؤلف وتخليده، وغير ذلك مما حدث بعد موته
فالكتاب كما ترى وصف حياة رجل من أولها حتلا خاتمتها. وفي كتب التراجم إما أن يكون المؤلف غريباً عما يكتب عنه، أو صديقاً له. بيد أن هذا النوع من التأليف أو هذه الناحية من نواحي الكتابة تسير أو ينبغي أن تسير في أساسها وجوهرها وفق ما اصطلح عليه الأدباء في هذا الباب الذي يعتبر في ذاته فناً من فنون التابة كسواء من الفنون، مثل القصص والروايات المسرحية، وكتب النقد وغيرها
يبدأ المؤلف في كتب التراجم عادة بوصف الأسرة التي ولد منها صاحب الترجمة، كصورة لبيئته المنزلية وما قد يختلط بدمه من وراثة، ثم يأخذ في وصف بيئته الطبيعبة والاجتماعية مصوراً طفولته وأخلاقه في تلك الفترة وما يلقي من تربية، وما كان من أثرها في حياته المستقبلة، ثم يتدرج به في مراحل الحياة في تسلسل متصل ووحدة مترابطة الى ما صدافه من حوادث، مبيناً علاقتها بفنه وأثرها في توجيهه، وفي ضوء ذلك كله يحلل آثاره موضحاً ما فيها من تأثر بما سلف، على أن يكون أساس ذلك كله الحقيقة لا الخيال. فالاسناد الصحيح القوي في كتب التراجم عنصرها الجوهري، ولاسيما إذا المؤلف أن يقول
رأيه في آثار صاحبه وفيما تخلل حياته من قوة أو ضعف، فليبتعد عن التحيز إن أراد الكمال
وبعد، فماذا رأيت في كتاب الأستاذ ميخائيل عن صاحبه المرحوم جبران خليل جبران؟. مضيت في قراءته فاذا بالمؤلف يسير فيه على نهج غريب، حتى لقد كنت أحسبني في القيم الاول حيال قصة لا حيال شخص معروف، فلقد أحاطني المؤلف بجو من الخيال تحت عنوان خيالات بشرى، وراح يصف لحظة مولد جبران، وما كان من أعمال أبيه وأقوال أمه وأقوال الجيران في تفاصيل تغيب حتى على من يرى رأى العين، ثم يطير بي إلى مدينة كولومبيا بأمريكا، فيصف لي فتاة تحلم في نومها، ويصف حلمها كأنه هو الحالم! ثم يعود الى بشري فيعرض لي بعض صور من طفولة جبران ومن حياة أسرته، ولكن عليها جميعاً ابع الخيال، فتفاصيلها لايمكن أن يلم بها إلا شخص يتحدث عن تفسه، على أن يكون قوي الذاكرة الى أقصى حد؛ ومن أمثلة ذلك وصف والدة جبران (ص20) وحكاية بائع الزيت (ص23). وما لي أورد الامثلة، وهذا القسم الاول من حياة جبران قبل أن يعرفه المؤلف عبارة عن قصة خيالية؟ ولقد كان المؤلف وهو يصف حياة جبران وهو بوسطن، يتقل اليك نتاجيه وخلجات حسه، ونزعات قلبه، وانفعالات نفسه، كمن يكتب مذكرات لساعتها عن نفسه. خذ لك مثلاً حواره مع أبيه (ص32)، وزيارته للفنان (ص33)، وخلوته مع المرأة التي دعته إلى منزلها (ص40)، ومناجاة نفسه (ص47)، وهو يكتب مقالاً ويصححه (62)، وأثناء عرضه صوره وعلاقته بماري الفتاة الحالمة في أول الكتاب وهي الآن مديرة مدرسة، وعلاقته بميشيلين، وغير ذلك من عزلاته وهواهسه. . . الخ
وما أظن أن عرض هذا الجزء من حياة جبران على مثل تلك
الصورة الخالية، وما فيها من براعة ومن وراء، متفق مع ما
يتبع في كتابه التراجم أو باعث في القلب ما تبعه الحوداث
التي يدعمها الأسناد والرواية، وتطلبها الحقيقة من الأهتمام
والعناية. هذا إلى أن المؤلف في تلك الفترة من حياة جبران لم
يعلق على ما فيها من مواقف، وما كان لحوادثها من أثر في
مستقبله، ولكن ما حاجته إلى التعليق؟ بل كيف يتسنى له ذلك
وقد صور لنا جبران كما لو كان جبيران يحدثنا عن نسفه؟
وبذلك تخلص من عرض رأيه في صاحبه
ومما يلاحظ على هذا القسم من الكتاب أن الرابطة فيه ضعيفة، وقد ذكرت فيه بعض الحوادث دون أن يفهم القصد من ذكرها، فلم تكن للتبسيط أو للتحليل أو لبيان العلاقة بين المترجم له وبين الحياة
أما في القسم الثاني من الكتاب عند ما صحب المؤلف جبران، فانك تحس بجو من الحقيقة ويبتعد عنك الخيال القصصي، ويحدثك المؤلف عن جبران كما رآه في عدة مناسبات، وتبدأ تهتم بحياة جبران وآثاره، وتتضح لك شخصيته فتزداد معرفة به، وان جهلت الظروف التي كونته هذا التكوين، اللهم إلا ما كان من تأثير (نيتشه) فيه، وهو ما شرحه المؤلف في آخر القسم الأول.
على أنك في هذا القسم الثاني من حياة جبران لن ترى المؤلف يحدثك عن رأيه في صاحبه من الناحية الأدبية أو الخلقية، ولا تجد منه مناقشة جدية لآثاره ومقدار قيمتها، بل تراه يقتصر على ذكرها دون تعلي، إذا استثنيت وصفه لكتاب (النبي) وإظهار أثر نيتشه فيه، وقراءة قصيدته التي جاء ذكرها في (ص160) معه، وحتى في هذين ترى الأعجاب يغلب على النقد النزيه
لكنني كما قدمت أحس بدقة موقف الأستاذ ميخائيل بالنسبة إلى حياة صديقه جبران؛ على أني أتساءل هل أنصف صاحبه وعرضه على الناس كما هو على حقيقته، أم أحاط شخصيته بشيء من الغموض؟ ولست أعرف إلا أن طريقته التي سلكها من الصعب أن توفي بغرضه، وهل يتفق ذلك مع ما جاء في مقدمته (ألفت هذا الكتاب على أمل أن يطالع القاريء من خلال فصوله صورة جبران كما عرفته لا (تاريخ) حياته الذي لا يعرفه أحد)؟
ولئن اختلفت مع الأستاذ نعيمة في طريقته، فاني معجب بمقدرته في الوصف، وقوته في
تحليل العواطف النفسية، ورسم الخواطر الذهنية، وقوة روحه التي خلصت الكتاب على طوله من الفتور، وجعلني أقلب صفحاته في شغف ولذة، ولن أنسى دقة أسلوبه ومتانة نسجه، لولا هناتت ما كنت لأشير إليها لولا أنها علقت بهذا الأثر النفيس، ومنها بعض المجازات الغريبة كتعبيره عن الموت بالغور في رحم الزمان (ص17) ووصفه الخالق بأنه (الحائك الأبر قد التقط بمكوكه العظيم خيطي حياتهمت من جديد)(ص68)، وكوصفه القاريء بأنه يمضغ الكتاب بعينه وروحه (ص101)، وما استعمله عن الفلس من المجازات (ص123)، وكقوله في (ص215) يحفزها تنين النسيان ويطويها غربال الزمان. . . وسواها من الأخيلة غير المألوفة، والقياسات الشاذة كجمعه سؤال على سؤالات وكأستعماله لفظ اندلق للقهوة بدل أن يقول انسبت مثلاً
على أنني كما ذكرت ما كنت لأغرض لهذه الهنات لولا صدورها من أديب له مكانة كالأستاذ ميخائيل نعيمة