المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 790 - بتاريخ: 23 - 08 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٩٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 790

- بتاريخ: 23 - 08 - 1948

ص: -1

‌يهوه على الأرض

للأستاذ نقولا الحداد

جاءنا برنادوت المجيء الثاني بأوامر ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنه هو أنزل أو يريد أن ينزل سلطاناً. جاءنا بأمر هدنة لا نهاية لها. والعادة أن الهدنة يقترحها أحد المتحاربين ويقبلها الآخر لأن كلا من الفريقين يحتاج إليها لغرض واحد كأن يتفقا على دفن قتلاهما. ولكن هذه الهدنة فرضها برنادوت فرضاً لأجل غير مسمى بلا لزوم. . . بسلطان مَن فرضها؟ - بسلطان مجلس الأمن. . . يحتاج إليها اليهود ولا يريدها العرب؛ ولكن مجلس الأمن أمر، وأمره الأمر لماذا! لعل هذا المجلس هو الله على الأرض؟. . . ونحن لا نعرف إلهاً على الأرض إلا ما نسمع اليهود ينادونه حيناً بعد حين:(يا إله اليهود) كذا يدعون ويتوسلون ويصلون. . فمن هو إله اليهود هذا؟ هل هو غير إله المسلمين والمسيحيين؟ - يظهر أنه إله آخر غير إله العالم كله. بحثنا عنه في توراتهم فإذا هو الجنرال يهوه رب الجنود. انظر سفر الخروج3: 6 ومعناه (سيصير) أي أنه سرمدي. واسمه أيضاً أهيه الذي أهيه ومعناه (يكون) خروج 14: 3 ونصوص التوراة تصور لنا يهوه إنساناً عظيما يخاطب البشر ويأمر موسى ويوشع أوامر لا تطابق التعاليم الدينية الصالحة كسفك الدم والنهب. ويغضب وينتقم، إلى غير ذلك من أخلاق البشر. والله منزه عن كل هذه الصفات.

فهل نزل إلههم إلى الأرض لكي يصدر أوامر كما كان يصدر أوامر إلى يشوع حين جعل يغزو أرض كنعان بسفك دم ونهب وتقتيل كبار وصغار ورجال ونساء؟

إذا كانت هذه الهدنة أبدية فالمعنى أن الحرب انتهت. على أي اتفاق انتهت؟

هل يريد مجلس الأمن أن يفرض معاهدة خاصة على اتفاق خاص فرضاً؟ العادة أن الاتفاق يتم برضى الفريقين وإلا فلا اتفاق وإذن فلا هدنة، وإذن يكون إرغام أحد الفريقين على المهادنة دون الآخر هو بأمر يهوه. وقد قال برنادوت أمس في صراحة بهذا الصدد (أنه سيبلغ مجلس الأمن عن الفريق الذي ينقض الهدنة والمجلس يقرر العقوبة. ولكن ليس معنى هذا أن الفريق الآخر يجوز له أن ينقضها بل يجب عليه يحافظ عليها) ومعنى هذا الكلام اللغو: أنه إذا هجم اليهود بألفي جندي على القدس القديمة يجب أن تبقى الحامية

ص: 1

العربية التي فيها مكتوفة الأيدي تتلقى رصاص اليهود بصدورها.

وما على برنادوت إلا أن يبلغ الخير إلى مجلس الأمن وينتظر الجواب!

هذه هي شريعة يهوه جنرال اليهود الذي نزل إلى الأرض في هذه الأيام!

طلب السير ألكسندر كادوجان إلى مجلس الأمن أن يرسل 100 ألف جنيه للاجئين العرب فرفض المجلس هذا الطلب!

ألو كان شرتوك هو الذي طلب هذا الطلب فهل كان مجلس الأمن يرفض؟ من كلف كادوجان أن يطلب إعانة للاجئي العرب؟ ومن قال له أن العرب يقبلون إحساناً من أية أمة؟ في حين أن قسماً كبيراً من مالية هيئة الأمم هو من الدول العربية. والدول العربية كلها قررت أن تفرض ضريبة خاصة لإعانة المنكوبين. ولكن هي إنجلترا كالثعلب تتظاهر أحياناً بالعطف على العرب في حين أنها تغدر بهم في الخلفاء.

إن المائة ألف التي اقترحها كادوجان لا تكفي إلا أربعمائة ألف لاجئ أسبوعين. والملك عبد الله ينفق كل يوم 2200 جنيه ثمن خبز للاجئين عنده.

جاء برنادوت بمهمة وضع مشروع لفلسطين يقبله العرب واليهود. وقد جرب حظه في الهدنة السابقة فخاب سعيه؛ لأن المشروع عقيم، وبرنادوت لا يستطيع أن يخصب العقيم. وهو يعلم شرط العرب الذي لا يقبل الجدل بتاتاً، وهو عروبة فلسطين التامة. فلماذا يضيع وقته ووقتنا في طلب المستحيل. إذن ستبقى الهدنة إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. فما معنى هذه الهدنة الأبدية وما الغرض منها؟ أيريد سمو الكونت برنادوت أن يصيف ويشتي، ويصيف ويشتي، في رودس إلى ما شاء الله على حساب هيئة الأمم؟ ما أسخف منه إلا المجلس الذي انتدبه. لو كان شرف المحتد كما يقال وله شيء من كرامة النفس لما قبل هذه المهمة غير الشريفة.

جعل برنادوت مسألة اللاجئين العرب في مقدمة مساعيه. يريد على زعمه رجوع العرب الفارين من وحشية اليهود وتفظيعهم على الرغم من أن اليهود يرفضون رجوعهم بل يريدون أن يؤتى بيهود من الخارج يحلون محل العرب المهاجرين.

على أي أساس يقترح برنادوت رجوع المهاجرين العرب؟ هل يضمن أن اليهود لا يعيدون تمثيل دور دير يس الفظيع؟ أم هل يسمح بأن يتسلح العرب الراجعون تسليحاً كاملا ضخماً

ص: 2

لكي يدرءوا عنهم شر أولئك الوحوش الطغاة؟

أم يقول إنه يأخذ على اليهود عهداً بأن يكونوا قدسيين إنسانيين. وإذا كنا لا نصدق عهود كبريات الدول فهل نصدق عهود أبنائها اليهود المدللين؟

ثم يقترح برنادوت أن يغاث العرب اللاجئين مدة تشردهم عن بلادهم إلى أن يعودوا إلى بلادهم. وهناك ماذا يكون؟ هل يتقدم أصحابه اليهود لإطعامهم وإيوائهم بعد أن هدموا منازلهم ونهبوا بيوتهم وساقوا إنعامهم ولم يبق لهم لا مأوى ولا طعام حتى ولا زرع يستغلونه، لأن اليهود أحرقوا الزرع واستغلوا ما استغلوا منه.

هل فكر الفيلسوف برنادوت حلال المشاكل في كل هذا قبل أن يرحل إلى بلاده لكي يحضر مؤتمر الصليب الأحمر؟ أم أن المنكوبين يصومون نياماً تحت الشجر إلى أن يعود بالسلامة؟

يقول إنه سيعود إلى بلاده بكي يحضر مؤتمر الصليب الأحمر، وبعد ذلك يعود لكي يبسط مشروعه بشأن فلسطين ويهتم بالعقدة العربية الصهيونية. يعني ما دامت الهدنة أبدية فلا بأس أن يؤجل ويسوف ولا يهمه أن يقلق الناس في الشرق العربي على المصير. إذن لا يستطيع أن يفعل شيئاً الآن ونحن نعلم أنه لا يستطيع. فعليه إذن أن ينفض يده من هذه المهمة العقيمة والعرب وحدهم يمكنهم حل هذه المشكلة. فلماذا يتعب نفسه فيما لا طائل تحته؟ لسنا نصبر إلى أن يقوم في (كيف) برنادوت أن يقضي أمراً أو يقول كلمة. ونحن عندنا مشردون معذبون يجب أن يعودوا إلى بلادهم مطمئنين لا أن يحتلها قوم جاءوا من آخر الدنيا غزاة طغاة. وعندنا جيوش واقفة في الميادين معطلة عن العمل. فإذا لم يستطع برنادوت أن يأتي بحل للعقدة لكي ينفرط عقد هذه الجيوش وتعود إلى مواطنها، فلا أقل من أن تنزل الجيوش للميدان وتحل العقدة بسيف الاسكندر. دعنا نحن نحل العقدة، فنحلها بسهولة.

لا نسمح أن تحل العقدة بأن يرخي برنادوت العنان قليلا لليهود لكي يتقدموا خطوة، ثم يشد العنان للعرب لكي يتأخروا خطوة. هذه أسلوب ماكر خبيث لا يسمح به العرب. كفى ضحكا سخيفا على الذقون.

والآن نوجه العتاب إلى الجامعة العربية الموقرة: أن العالم العربي كله يضج بسبب طول

ص: 3

أناة الجامعة ومراعاتها إحساس بعض الدول الكبرى وخاطر مجلس الأمن، وقد علمنا أن مجلس الأمن كهيئة الأمم مؤتمر للصوفية. وفهمنا أن الإنجليز الذين يتظاهرون بالعطف على العرب أحياناً وبالعطف على اليهود أخرى هم أروغ من ثعلب. فحتى متى تصبر الجامعة على هذا المكر الدولي؟

اليهود ينقضون الهدنة كل يوم، فهذا يسوغ لنا أن ننقضها أيضاً وأن توعز الجامعة إلى الجيوش العربية أن تنقض على اليهود في فلسطين في وقت واحد، وتقذف بهم إلى بحر تل أبيب، فتخلص البلاد من شرهم وتحرر إخواننا العرب الذين وقعوا بين براثنهم في يافا وحيفا وعكا.

كفى يا سادة صبراً وأملا بالسراب! إن كنتم تحسبون حساباً لمساعدة الدول عليها من أن ندع السرطان الإسرائيلي يتغلغل في بلادنا ويقضي على حريتنا قضاء مبرماً. الانهزام في حرب دولية ولا الاستخذاء للصهيونية. . .

نقولا الحداد

ص: 4

‌ما أشبه الليلة بالبارحة؟

مكر يهود

للأستاذ عمر الخطيب

(إن في الغار الذي يكال رؤوس العرب، وإن في الغار الذي

يجلل رؤوس اليهود، لمادة ثرة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً

للقلم الخالق)

(الأستاذ الزيات)

على البطاح المطلة على (يثرب)، وبين تلك الشعاب البيض التي تعج بالرمال، وتنام في أحضان الجبال، تسكن قبيلتان جمعت بينهما وشائج القربى وأواصر النسب، وفرقت بينهما شريعة الصحراء، والجهالة الجهلاء، هما (الأوس والخزرج) اللتان استفحل العداء بينهما، وأكل قلوب زعمائهما وأودى بهما إلى حروب طاحنة ومعارك دامية، أرّثت بينهما نوازع الشر، والتهمت الشباب الغض، حتى أصبحوا لا يفترقون من وقعة حتى تجمع بينهما أخرى، وما يجف الدم من معركة حتى يسيل ثانية ويفور:

إذا افترقوا من وقعة جمعتهم

دماء لأخرى ما يطل تجيعها

وآخر ما تمخضت عنه هذه الأحداث النكراء، والتراث الدكناء حرب كبرى لم يشهد العرب لها مثيلاً، أورت الجزيرة بزناد الفتنة، وشطرت العرب أشطاراً متناحرة، وجعلتهم أحزاباً متنافرة، تلك هي حرب (بُعاث) التي تجندل في حومتها الفرسان وسارت بحديثها الركبان، والتي كان للشعراء فيها معارك أخرى ليست الألسنة فيها بأقل إيلاماً من السيوف، ولا القصائد بأدنى تأثيراً من السهام؛ وإذا كان السيف المهنّد يطيح بالرأس، والسهم المرّيش يزهق النفس، فإن اللسان العضب يخدش العرض الكريم بالمذمة، والقريض القوي يطعن الأنف الحمى بالمهانة. . .

ولما أن ظهر في الجزيرة (محمد) صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة الله وشرعة الحق، ويدعو العرب إلى دين الإخاء والمساواة، ومبدأ العدالة والنور، استشار العربُ أحبار اليهود

ص: 5

في أمر هذا النبي الجديد وقالوا لهم: (يا معشر يهود! إنكم أهل الكتاب الأول، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، افديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه). فخالفوا بذلك شريعة التوحيد، وناقضوا تعاليم التوراة.

بيد أنه لم يمض غير قليل حتى اشتد أزر هذا الدين، وقوى ساعد هذه الدعوة، والتف العرب حولها، واستبسلوا في سبيلها، إذ كانت حمامة السلام بين القبائل المتلاحمة، والأحزاب المتخاصمة طمست من بينهم معالم الشر، وأطفأت نار الحرب، وجعلت من هؤلاء الأعراب الجفاة خير عون وأقوى نصير، وإذا بالأوس والخزرج تتآخيان بعد التلاحي، وتتصافيان بعد التجافي، وتسيران معاً في ركاب هذا الدين الجديد، تحت قيادة الرسول العظيم. . .

ولما هاجر إلى المدينة كانوا (أنصاره) الصادقين، وأصحابه المخلصين، آمنوا به وآزروه، وعاهدوه على أن ينصروه، وأن يمنعوه مما يمنعون من أبناءهم وأنفسهم، واستقبلوا إخوانهم المهاجرين أحسن استقبال، وأنزلوهم خير منزل حتى ليقول عبد الرحمن بن عوف في حديث له:(آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وآخى بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتيَّ هويت، نزلتُ لك عنها، فإذا حلًّت تزوجتها. . .).

وهكذا تكوَّن من هؤلاء جيش الإسلام الأول وفرسانه الكماة وأبطاله المغاوير الذين بذلوا في سبيله أموالهم وأرخصوا أرواحهم، حتى أعزه الله، وساد الجزيرة، وعم صداه أرجاء المعمورة. . .

شهد (يهود) هذا التحالف القوي والإخاء المتين، وأوجسوا شراً من هذا الدين، وأجمعوا على الكيد بمحمد، والمكر بأصحابه لأنهم علموا أن هذا الدين - لا محالة - سيعلو، وإن هذا الرسول سيقوى، وإن القوة ستحمي ذمار الحق حتى ينتصر ويسود، ولما أنهم (أهل الكتاب) يعلمون صدق الرسول في دعواه، يئسوا من القضاء على دعوته، وأنفقوا على المكر به وبصحابته، واليهود أبطال الكيد في الخفاء، وأهل الخيانة والمكر، لا تعجزهم الحيل، ولا يتورعون عن الغدر!.

أما من حيث مكرهم برسول الله، فقد حرَّضوا (لبيد بن الأعصم) الذي أشتهر بعداوته

ص: 6

للرسول وشدة البغض له فسحره، بيد أن جبريل أخبره بذلك السحر وبمكانه، ورد الله كيد الخائنين، وعفا رسول الله عن لبيد وقال:(أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً)(يعني بقتله).

وأرادوا بعد ذلك أن يمكروا بأصحاب الرسول ويفرِّقوا جمعهم، حتى ينفّضوا عن (محمد) ويعتزلوا دينه، فيبقى وحده في الميدان دون نصير يمنعه ويؤيده، بعد أن كذّبته (قريش)، واشتدت في إيذائه، وأجمعت على قتله، وتفريق دمه بين القبائل، فلبثوا يرتقبون الفرص، ويحيكون الدسائس. . .

خرج (شاس بن قيس)، وهو من أحبار اليهود وزبانيتهم يجوب في أطراف يثرب يوماً وحوله بعض أعوانه، وقد بيَّت في نفسه شراً، بعد أن ضاقت به الحيل، وتقطعت به أسباب المكر، فألفى (الأنصار) مجتمعين، وقد رفرف فوقهم طائر اليمن والخير مستبشرة نفوسهم، متهللة أساريرهم، ترقص قلوبهم طرباً بهذا (الإسلام) الذي جمع بينهم، ووحد صفوفهم، وأزال من بينهم الضغائن والإحن وأبدلهم بها حباً وأخاء، وألف بين قلوبهم برابطة الإيمان، فأصبحوا بنعمته إخواناً. . .

شهد هذا اليهودي الماكر، هذا المجلس الهادئ، فغاظه صلاح ذات بينهم، وقال:(قد اجتمع بنو قيلة والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار). وأزمع على أن يعكر صفوهم، ويوقع بينهم فرجع بذهنه إلى يوم (بُعاث)، وما كان فيه بينهم من هجاء وعداء، فوجد فيه مجالا للاستغلال، وموطناً لإثارة الأحقاد الدفينة، وأيقن أنه يستطيع أن يفيض مجلسهم، ويحرك أنفسهم، حتى تعود الخصومة بينهم أشد مما كانت، فتفل عزائمهم، وتحل روابطهم. . . ويرجعوا أقواماً متلاحين، وقبائل متخاصمين، ويتفرقوا عن (محمد)، ويتخلوا عن تأييد رسالته، وهذا ما تتقطع دونه أعناق يهود، وينفقون في سبيله أعز ما لديهم. . .

التفت هذا الغادر إلى واحد من أعوانه فوسوس إليه: أن يعمد إلى مجلس (الأنصار) فيجلس معهم ثم يذكر يوم (بُعاث) وينشدهم قصائد شعرائهم، ويعمل على المكر بهم، والقضاء على ألفتهم. . .

لم يدر (الأنصار) كيف تسلل إليهم هذا اليهودي الخبيث ولم ينتبهوا لمهمته، ولم يتيقظوا لمكيدته، فوقف بينهم يذكر يوم (بعاث)، وينشدهم ما كانوا يتقاولون به من أشعار، ويؤلَّب

ص: 7

الأوس على الخزرج، حتى وقعت الواقعة، فذكر القوم ذلك اليوم، وتنازعوا وتفاخروا، وأنشد كل أقوال شاعرهم، ونادى هؤلاء: يا آل الأوس! ونادى هؤلاء: يا آل الخزرج! ولم ينصرف اللعين إلا بعد أن احمرت الإحداق، واحتدم الغيظ، وثارت الأحقاد، وتطايرت الدماء إلى الرؤوس، وافترقوا وقد تواعدوا على القتال. . .

سمع رسول الله بما أصاب الأنصار، فخرج إليهم فيمن كان معه من المهاجرين وفي وجهه الغضب، ووقف بينهم يرمقهم بنظرات أرجعتهم إلى صوابهم، وأعادت إليهم رشدهم، ثم تطلع إليهم بعينين دامعتين وقال - وقد ملك عليهم ألبابهم، وتمكن من شغاف قلوبهم -:(يا معشر المسلمين! الله الله! اتقوا الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم! بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم). . . ولم ينته صلى الله عليه وسلم من كلامه حتى عرف القوم أنها نزعة شيطانية، ومكيدة يهودية، فتعانقوا وتمتعت ألسنتهم بكلمات الأخوة الحق، والتوبة الصادقة، وانتثرت من محاجرهم دموع الندامة، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عاهدوه على الإخلاص لهذا الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. . . وإذا بوحي الله ينزل على الرسول بهذه الآيات:

(يا أيها الذين آمنوا، إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)

(دمشق - المزة)

عمر الخطيب

(فتى الفيحاء)

ص: 8

‌الاتجاهات الحديثة في الإسلام:

أسس الفكر الإسلامي

للأستاذ هـ. ا. ر. جب أستاذ اللغة العربية بجامعة اكسفورد وعضو

مجمع فؤاد للغة العربية.

إذا أردنا أن نحيط علماً بالتيارات الفكرية الدينية بين المسلمين اليوم، واجهتنا صعوبة عملية. فلم تحدث حركة فكرية من غير أن يكون لها تأثير. وسواء كانت دوافعها كثيرة وقوية أو قليلة وضعيفة؛ فلابد من حدوث صدى لها. ولا يمكننا أن نتتبع الحركات الحديثة في الإسلام بدون أن نرفع القواعد من الأفكار الإسلامية.

وقد يبدو واضحاً أن الأساس المقنع هو الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر. . أو على الأقل الإسلام في القرن الثامن عشر. ولكن هذه موضوعات لا زالت معلوماتنا عنها محدودة. وقد ذهب كتاب الإسلام إلى الاهتمام بالقرون الأولى إبان التقدم العلمي والديني، وظهور حركة الصوفية وإخوان الصفاء. وبعد القرن الثالث عشر أو ما يقرب من ذلك، كان معتقداً أن الإسلام باق على قواعده الثابتة التي خلقها له العلماء والمشرعون والحكماء والروحانيون، فلن يتقدم بل يتأخر. وهذا الرأي يتراءى لنا - من بعض الوجوه - أنه صحيح. والحق أنه صدر عن أحد علماء الإسلام المحدثين. ولكن لم تبق نظم العقيدة والفكر سائدة أكثر من ستة قرون. وإذ تقدمت القواعد الظاهرية للعقيدة الإسلامية في هذه الفترة، فإن التكوين الأصلي لحياة المسلمين الدينية، قد اعتراه التغيير والإصلاح.

وسنمعن النظر فقط في الظواهر الحيوية الخارجية التي ظهرت في الإسلام، مثل تكوين الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأدنى، وقيام إمبراطورية المغول في الهند، ونشاط الشيعة في فارس، والتوسع في إندونيسيا وشبه جزيرة الملايو، ونمو المجتمع الإسلامي في الصين، وطرد الأسبان والبرتغال من مراكش، وامتداد نطاق الإسلام في شرقي أفريقيا وغربيتا. وقد اعتبرها قدماء المؤرخين حركات حربية، وإن عقيدة الغزو والتوسع عقيدة حية. ونحن نعرف - أكثر من قبل - الدور الذي لعبته هذه العقيدة.

إن أساس الفكر الإسلامي هو بالطبع: القرآن. وليس القرآن - كالإنجيل مجموعة كتب ذات تواريخ مختلفة وبأيدي متباينة؛ إنه سفر من السور بلغها محمد (ص) في السنوات

ص: 9

العشرين الأخيرة من حياته تقريباً. فيشتمل على تعاليم دينية وأخلاقية، ومجادلات ضد الكفار، وخلاصات للحوادث السابقة، وقواعد للشؤون الاجتماعية والمسائل الشرعية. وقد أعتقد محمد (ص) أن كل ما جاء به من هذه الأمور كان بوحي من الله، إذ لم يكن مصطبغاً بفكره الخاص. إنه كلام الله نفسه قام بتلقينه الملاك جبريل. وبعد ما قاله الأستاذ دنكن بلاك مكدونلد من اقتراب العالم المجهول من العقل السامي وعن نظرة الشرقيين للنبوة، فإن من الضروري أن أتتبع الأسس النفسية لهذه العقيدة.

إننا قد نحيد عن الصواب إذا اعتبرناها مجرد نظرية (بديهية) متوارثة جيلا بعد جيل منذ ألف وثلاثمائة عام. بل هي على النقيض من ذلك اعتقاد حي طالما تجدد وثبت في عقل المسلم - وخاصة العربي - بدراسته للكتاب المقدس.

لقد عارض المسلمون المتدينون عامة في ترجمة القرآن، حتى إلى اللغات الإسلامية الأخرى.

وهذا الاتجاه تؤيده أدلة نظرية، منطقية في حد ذاتها، ولكن يمكن أن تعارض من اعتبارات مختلفة. ذلك أن القرآن أساساً غير قابل للترجمة، كما هو الحال في الشعر الرصين. إن المتنبئ لا يستطيع أن ينقل نبوءته إلى لغة عادية، يمكنه أن يعبر عن نفسه في صور متكسرة، كما تلعب موسيقى الأصوات دوراً غير محدود في جذب عقل السامع لتلقي الرسالة. مثلاً حالة الترجمات اللاتينية والإنجليزية لكتاب الإغريق والعبريين؛ فقد أعطوا الكلمات الجديدة شيئاً من القوة العاطفية، بدون اعتماد على التركيب - وأحياناً المعنى - الأصلي.

وإن ترجمة إنجليزية للقرآن، ينبغي أن تستخدم تعبيرات دقيقة صحيحة للعبارات الرقيقة الذهبية في اللغة العربية، وفي نواحي القصص والتشريع وما أشبه ذلك، تكون الخسارة أقل خطراً، بالرغم من أن تفكك المعلومات، بل والظلال الجميلة والجوانب البليغة، قد يكون لها تأثير غير محدد. ففي جملة بسيطة مثل (بالتأكيد نحن نحيي ونميت وإلينا الرحيل (المصير):

يستحيل علينا أن نظهر - في الإنجليزية أو أية لغة أخرى - قوة الضمير (نحن) المكرر خمس مرات في الكلمات الست الأصلية.

ص: 10

إننا لن نتطلع إلى معنى القرآن عند العربي، حتى نتبين قيمة الدور الذي تقوم به اللغة في تحديد المواقف السيكولوجية.

فبزوغ الحياة العقلية عند العرب - كما بين الآخرين - قد ازدهر بالخيال، الذي ظهر في الإبداع الفني. ولطالما قيل إنه ليس للعرب فن، وقد يكون هذا صحيحاً إذا حددنا الفن بأعمال كالنحت والطلاء. . . ولكنه يكون تحديداً ظالماً خاطئاً. فالفن هو أي إنتاج يعبر فيه الشعور الجمالي عن نفسه. وهناك شك في حاجة الناس إلى التعبير الفني بأي شكل، سواء في الموسيقى أو الرقص، أو الفنون المادية والنظرية الأخرى. . . وميدان الشعور الجمالي عند العرب هو أساساً الكلمات واللغة، وهذا أكثر إغراء بل أعظم ثباتاً وخطراً من سائر الفنون. إذن فمن السهل أن نفهم السبب في أن العرب - الذين عندهم استخدام الكلام البليغ أسمى الفنون - يرون في القرآن أعجوبة حقيقية وعملاً فوق طاقة البشر.

ولقد كان العرب والمسلمون عامة مجبرين على إنكار الأفكار العالمية مثل (القانون الطبيعي) أو العدل المثالي، وأظهروا الثنائية أو المادية على أنها مؤسسة على طرق مزيفة في التفكير تنتج خيراً قليلاً وشراً كثيراً. وسنرى كيف أن مصلح الإسلام الكبير - في القرن التاسع عشر - جمال الدين الأفغاني، صب جام غضبه على المجددين الهنود الذين حاولوا إثبات صدق الإسلام بمناقشة (تلاؤمه مع الطبيعة). ومع أن العلماء المسلمين قد وجدوا في المنطق والرياضات - مثلاً - فائدة، وشجعوا الأسلوب (العلمي في التفكير؛ إلا أنهم قد أبقوا هذه الأمور في مراتب ثانوية.

والإجماع من مميزات الفكر الإسلامي. وهناك من حاولوا تحديده بإجماع المتعلمين، ولكن حادثاً عجباً في القرن السابع عشر يبين كيف كان هذا النوع لا فائدة منه، حتى ولو آزرته القوة الحاكمة ضد الرأي العام. فعند ما بدأ استعمال القهوة ينتشر في الشرق الأدنى، أجمع العلماء على أن شرب القهوة حرام، وعقوبته مثل عقوبة شرب الخمر. وفعلاً حوكم بعض الأفراد لانغماسهم في شربها علانية! ولكن إرادة المجتمع تغلبت. واليوم يحتسي الجميع القهوة بحرية حتى المتزمتون الذين يعارضون الإجماع في المبدأ.

ومن الواضح أن الإجماع كان دائماً موضع خلاف بين المحافظين والمجددين، وهو ليس مبدأ حرية بل أساساً للسلطة، ولو أن حكمه يقتصر على المسائل التي لم يحكم فيها القرآن

ص: 11

أو السنة، لذلك ولأنه قوة تسمح بما يسمى تجديداً، فإن العلماء الروحانيين على مر العصور - من القرن الثالث إلى الوهابيين اليوم يعارضون فيما يترتب عليه، ويقصرون شرعيته على الجيل الأول من المسلمين. هذا في حين أن المجددين على الدوام قد اعتمدوا عليه في توسيع مدى عدالة أعمالهم.

والاجتهاد عكس الإجماع. وقد أطلق عليه إقبال (مبدأ الحركة في الإسلام) ولابد من معرفة معنى الاجتهاد والدور الذي لعبه في تاريخ الفكر الإسلامي. وهو - كما يعتقد بعض المجددين حرية الحكم. ومن الناحية الأدبية يعني الاجتهاد: إجهاد النفس في محاولة الكشف عن الأغراض الحقيقية لتعاليم القرآن والسنة. وقد عمل المتدينون على تحديد موضوعه خوفاً من أن يفتح باب المعارضة الفردية والانقسام. وأخيراً لم تبق ثغرة في هذه المسائل لم تسد، فأقفل باب الاجتهاد تماماً.

ومهما يكن من شيء فإنها ظاهرة خطيرة للسنة الإسلامية في قبولها للاختلافات الواقعة في الرأي في المجتمع - ولطالما فخرت بهذا - وأحسن مثل هو المذاهب الأربعة في الشرع: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أسسها الأئمة الأربعة في القرنين الثاني والثالث، وهم جميعاً من السنيين. فهذه المذاهب - مثلا - تدرس في جامعة الأزهر الدينية. حقاً إن الاختلافات بينها تنحصر في نقط ضيقة في الشرع والشعائر، بالرغم من أن الحنابلة - بعدائهم المستحكم لكل المجددين - يعارضون الإجماع من الناحية الدينية - في كل شيء إلا مدلوله الضيق، وأحياناً يظهرون عدم رضائهم عن الآراء الأخرى.

يتبع

ترجمة محمد محمد علي

ص: 12

‌مسكويه

أبو علي الخازن

الأديب، الفيلسوف، المؤرخ، الحكيم، القصصي، توفي (421

هـ) - (1030 م)

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

نشأ في كنف آل بويه، وهم على رأي ابن طباطبا في الفخري من الفرس وليسوا من الديلم، وإنما سموا بالديلم لأنهم سكنوا بلاد الديلم، وهي في الناحية الجنوبية الغربية من بحر قزوين، كثيرة الأشجار والغابات، غزيرة الأمطار، يشتغل أهلها بصيد الأسماك والتحطيب.

وقد سميت هذه العائلة بآل بويه، نسبة إلى بويه جدّ العائلة ومؤسسها، وكان صياد سمك، وكان أحد أبنائه الثلاثة معز الدولة (أبو الحسين أحمد) يقول بعد تملكه البلاد (كنت احتطب الحطب على رأسي).

نشأت هذه العائلة المالكة من هذا الأصل الوضيع، واستولت على الخلافة العباسية، فعزلت الخلفاء وولتهم، واستوزرت الوزراء وصرفتهم، وانقادت لأحكامها أمور بلاد العجم وأمور العراق. وملكوا مائة عام من 323هـ إلى 421هـ حين انقرض ملكهم وهي السنة التي توفى فيها مسكويه، ربيبهمن وخازنهم، ومؤرخهم بل صديقهم الذي عاش في نعمائهم وترعرع في قصورهم فكان نعم الصديق الحكيم المشير.

تتلمذ على الرئيس أبو علي ابن سينا (توفي 428هـ 1036م) ولم يقدر الرئيس مواهبه، وليس هو بأول نابغة يخيب ظن الأساتذة فيه. وقد ذكره الرئيس في بعض كتبه قال (فهذه المسألة حاضرت فيها أبا على بن مسكويه فاستعادها كرات وكان عسر الفهم، فتركته ولم يفهمها على الوجه). هذا معنى ما قاله ابن سينا لأنني كتبت الحكاية من حفظي (كذا يقول ابن القفطي في أخبار الحكماء ص - 127).

أما أبو حيان في كتابه الإمتاع فقد وصفه بقوله (وأما مسكويه ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء؟)(كذا) لأنه شاذ، وإنما أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي

ص: 13

وقاطيغورياس من تصنيف صديقنا في الري (معجم الأدباء لياقوت ج5 - ص5).

واتصل مسكويه بكبار أدباء زمانه ومنهم ابن العميد واتخذه هذا خازناً لكتبه كما ذكره أبو حيان في كتاب الوزيرين، وراسل بديع الزمان الهمذاني وتدرج حتى صار خازناً للملك عضد الدولة بن بويه وكان مأمونا لديه أثيراً عنده وله مناظرات ومحاضرات. . .

على أن مسكويه لم يكن أديباً بارعاً فحسب بل كان مؤرخاً ممتازا فلقد ألف كتابه الشهير (تجارب الأمم) بلغ فيه إلى بعض سنة 372هـ وهو السنة التي مات فيها عضد الدولة بن بويه صاحبه وهو كتاب جميل كبير يشتمل على كل ما ورد في التاريخ مما أوجبته التجربة وتفريط من فرط وحزم من استعمل الحزم.

ولم تقتصر جهوده على الناحيتين الأدبية والتاريخية بل كان (فاضلاً في العلوم الحكمية متميزاً فيها خبيراً في صناعة الطب جيداً في أصولها وفروعها وله من الكتب كتاب الأشربة وكتاب الطبيخ).

ويقول عنه ياقوت في معجم أدبائه (ويظهر أنه كان مشغولا بطلب الكيمياء مفتوناً بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان فلم يكن يلتفت لغير ذلك. وقد قطن العامري الري خمس سنين يدرس ويملي ويصنف ويروي، فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ويظهر أنه ندم على ذلك وأنبه أصدقاؤه. ومع هذا فهو ذكي حسن الشعر، نقي اللفظ، ويظهر أنه كان بخيلاً)!.

وقد ترك لنا صاحب الترجمة كتباً قيمة في الأخلاق والتربية والفلسفة منها (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) و (كتاب تهذيب الأخلاق) في التربية، و (الطهارة في تهذيب الأخلاق) و (الفوز الأصغر) و (لغز قابس) وكتاب (الفوز الأكبر) و (كتاب ترتيب العادات) الخ.

وله وصية أنهاها بهذه التذكرة وهو يدعو للعمل بموجبها، وهو تشتمل على أرقى المثل العليا وأسماها، وتلخص لنا فلسفته في الحياة ومذهبه في السلوك. وهي خمسة عشر باباً:

1 -

إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات والصدق على الكذب في الأقوال والخير على الشر في الأفعال.

2 -

كثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائم بين المرء وبين نفسه. . .

3 -

والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها. وأول ذلك ما بيني وبين الله جل وعز.

ص: 14

4 -

وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال.

5 -

ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك.

6 -

والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل.

7 -

وحفظ الحال التي تحصل في شئ حتى تصير ملكة ولا تفسد بالاسترسال.

8 -

والأقدام على كل ما كان صواباً.

9 -

والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره.

10 -

وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي.

11 -

وترك التواني، وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم.

12 -

وحسن احتمال الغنى والفقر، والكرامة والهوان بجهة وجهة.

13 -

وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضا عند الغضب، ليقل الطغي والبغي.

14 -

وقوة الأمل وحسن الرجاء.

15 -

والثقة بالله عز وجل وصرف جميع البال إليه.

هذه الشخصية النابغة، قد تركت لنا آثاراً خالدة في الأدب والتاريخ، والكيمياء والطب والحكمة والأخلاق والفلسفة، تشتمل على ناحية مجهولة لم يشر إليها الكتاب قبل الآن على ما نعلم، تلك هي ناحية القصص.

فقد جاء في أخبار الحكماء لابن القفطي، أن من تصانيف ابن مسكويه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار والفوائد اللطاف. ويصف لنا ياقوت في معجم أدبائه هذا الكتاب النادر فيقول (كتاب أنس الفريد، مجموع يتضمن أخباراً وأشعاراً وحكما وأمثالاً غير مبوب).

وقد لفت نظر هذا الكتاب، وخصوصاً وإن ابن القفطي يقول عنه أنه أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار، والفوائد اللطاف.

ولما كان هذا النوع من الأدب العربي نادراً أخذت أفتش عن هذا الكنز الضائع في مكتبات فلسطين ومصر، والأستانة وإيران الخ. واستعنت بقناصل تلك الدول وحكوماتها ولكن

ص: 15

جهودي المتكررة لم تثمر مع الأسف حتى الآن.

إن الذي يكتشف لنا (كتاب الأنس الفريد) لابن مسكويه الخازن إنما يعثر على كنز ثمين، ويضيف ثروة أدبية قيمة إلى تراث السلف الصالح.

أحمد سامح الخالدي

ص: 16

‌توبة المحروم!.

. .

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

بقى في (نيويورك) يكدح وراء الرزق الشرود عشر سنين دأباً، ثم أصاب حظاً سعيداً بعد نحس، وارتجع مالاً كثيراً بعد بؤس، فعاد - وهو على عتبة الأربعين - إلى مسقط رأسه (الميناء) بلدتنا الهادئة المنعزلة التي توشك ألا تسمع فيها الأجمال الطبيعية، وألا تحفظ لها ألا الاستعصام بالتقاليد.

وما جداك أن أصف لك (ميناءنا) الجميلة، فما أراك راغباً في الوقوف على ما صنع الغنى بصاحبنا الذي أوى إلى بلدته بعد غيبة طويلة؛ فهل غردت له بلابل السعادة أغاريدها الحلوة، وهل هتفت له هتافاتها الناعمة، أم نعبت له غربان الحوادث بشقاء جديد، ولاعت قلبه بهوان شديد؟

علمت أنه كان في (مينائنا) قبل أن يتسع رزقة ويرفه عيشه مضرب المثل في قناعة العفيف، وعزة الشريف، سليم الفطرة معتدل المزاج حنيف الدين؛ فرجوت ألا ينقلب سهوان عن ماضية، ووددت لو أبقت يد غناه على ذكرى فقره فلم تمح صورتها من مخيلته، ولم تبدد آثارها في فؤاده، ولم تمر شجرتها أمام عينيه، وتمنيت أن يكون له من صدق الأريحية وكرم المهزة ما يذكره بالفقراء والمعوزين الذين لا عمل لهم في بلدتنا إلا في البحر، فلا يحرمهم من صدقات يوزعها، أو زكوات يؤديها، أو ثمرات يجبيها، أو مشروعات يحييها، أو مصانع يؤسسها، أو مدارس يفتتحها، أو ملاجئ ينشئها، وألا يكون المال قد أطغاه، وختم على قلبه فأعماه!.

ولم يكن رجائي إلا كرجاء الذي أراد أن يشم الريحانة فألفاها ذابلة، فما رضخت يده خيراً، ولا اصطنعت معروفاً، ولا كسبت معدوماً، ولا أعانت في نائبة، ولا ساعدت في خطب، وإنما نثرت المال على الهوى يمنة ويسرة، وفي الشهوة عيشاً وبكرة، حتى عادت صفراء خالية، وباتت على إسرافها باكية. . .

أبطره الغنى فعلمه العجب، وأفسده الفراغ فحجب إليه الطيش فأصبح سكران لا يصحون هيمان لا يعي، (غفلان لا يفيق)، وأضحى لا يحفل في الناس أحداً، ولا يقيم لكبير وزناً، ولا يرعى لصغير حرمة، ولا يرقب في ضعيف إلا ولا ذمة، وإنما كان ينظر إلى الجميع

ص: 17

نظرة الفيل إلى البعوض أو الجمل إلى النمل، (لا يحس منهم من أحد ولا يسمع لهم ركزاً).

ومنذ ذلك الحين أمسى أهل بلدنا إذا أرادوا أن يصفوا الرجل الشهوان الذي ما ينفك يوبق جسده برغائبه، ويدسي نفسه بمعايبه، قالوا وهم يتخافتون: أهو أشد من فلان شهوة، وأكثر منه جهالة وصبوة؟!.

وأنى لهم السكوت على مآثمه التي جرها عليه بذخه وسرفه، ولهوه وعبثه، وإنه لم يكتف ببنان الهوى يركبهن سيارته الفخمة، وينتقل بهن في شوارع البلدة المحافظة تحت الأسماع والأبصار، ولم يقنع بالخمرة يتهالك على شربها أناء الليل وأطراف النهار، ولا بالموائد الخضر يرودها غير ملول، ولا بالليالي الحمر يواصلها غير خجول، ولا بداره التي استحالت ندياً للأشرار، ولا بشقاقه مع الأبرار والفجار، وإنما راح يكلل جميع ذلك بشرفه يدوس عليه، وبعرضه يفرط به، وبدينه يقصر فيه، وبوطنه يحقره، حتى أضحى شعور الناس لا يأتلف إلا مقته، وباتوا من كرههم له يديرون في أفواههم ألسنة حداداً تلعنه، وينظرون صيحة القدر الراصد تأخذه وهو يعمه في طغيانه، ويتباهى بعدوانه. . .

ولم يطل إملاء الله له واستدارجه، فما مضى عام واحد على طيشهُ ولهوه حتى خر من قفه المرفوع، وتهاوت من شجرته الجذوع والفروع، وغدت جنته الفتانة ذابلة الورود، ميتة الأعشاب، ساكتة البلابل (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً).

وصار الناس منه على شماتة الحاقدين، فما أدركت الشفقة عليه أحداً سواي - لا لأني أقرب رحماً، ولا لأني ألين قلباً - وإنما لشعور عنيف تملكني يؤمئذ وأخذ يهتف بي بلا انقطاع:

إن هذا لضحية! ولكن ويح نفسي إن بك مثل هذا الشهوان ضحية، فمن الجزار الذي ضحاه، وأين الساطور الذي ذبحه؟

وما عرفت الجواب إلا حين جمعتني بهذا المخلوق صلاة الجماعة فرأيته يدخل أول الناس ويبقى في تضرع واستغفار آخر الناس، فراعني مظهره وعجبت له فدنوت منه وقد استبد بي الفضول، ولم يحوجني هو إلى مقدمة لا تجدي فقد فهم غرضي فالتفت إلى وكأنما شعر نحوي بالاطمئنان وحدثني وهو يشرق بالدمع حديثاً كشف غنى الغطاء، فصار بصري فيه

ص: 18

حديداً، وحكمي عليه سديداً.

وقلت لصاحبي وأنا أصف له الرجل:

- (أنه لضحية يا صاح، بيد أنه ضحية نفسه وهواه، فنفسه كانت جزاره الذي ضحاه، وهواه كان ساطوره الذي ذبحه، فهو في أيام فقره وبؤسه كان قانعاً قناعة المحروم، وفي أيام غناه وسعده كان بطراً بطر المنهوم، وهو لولا استفناؤه لما طفى، ولولا تخمته لما ثارت شهواته فبغى!.

وهكذا الإنسان يا صاحبي يقوده الطمع فيردى، وتعميه الشهوة فيخزى، ويسمع بالعبرة فلا يخشى)!.

ولكن هذا الرجل وعدني في بيت الله وهو ما زال عبران أن يتوب، ولست ارتاب لحظة في أنه قد أناب ولكني أتساءل ما تنفع التوبة إذا لم تكن إلا في ساعات الحاجة والحرمان؟.

(طرابلس الشام)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 19

‌الشعر في السودان

للأستاذ على العماري

يقول الدكتور زكي مبارك في تقدمته لديوان الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير: (فما في بلاد الله مسلمون أصدق من مسلمي السودان، والإسلام قوة روحية سامية لا يمن الله بصفائها على غير المصطفين من عباده الأصفياء. يضاف إلى ذلك أنه عند السودانيين فضيلتين جوهريتين: فضيلة الكرامة، وفضيلة العدل، وتتمثل الأولى في اعتزازهم بأنفسهم اعتزازاً هو الغاية في شرف النفس، أما الفضيلة الثانية فتتمثل في صدق المعاملات؛ فمن النادر جداً أن يحتاج من يعامل تجارهم الكبار إلى الاستعانة بالقضاء). ثم يقول: (المسجد في السودان هو المسجد، ورواده هم المؤمنون، ومسلمو السودان هم البقية الصالحة من رواد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا أغناهم الله بالمعاني، وأنزلهم منازل الكرماء).

وأنا أعرف أن الدكتور زكي لم يهبط أرض السودان، ولم يمتع نظره ومسامعه بمظاهر التدين عند مسلمي السودان، وإني محدثه - لو كان يسمع الآن ويقرأ - حديث الخبير، فما راء كمن سمع:

التدين في البلاد السودانية ظاهرة واضحة بارزة تراها في كل ما تقع عليه عيناك، فالأمانة الطبيعية غير المتكلفة، والأمن في الأنفس والأموال، وهذه الصلوت الخمس التي تقام جماعات في أوقاتها، في الأسواق العامة، وأمام حوانيت التجار، وكم ملأني غبطة وإعجاباً منظر المصلين في ساحة المحطة الوسطى بأم درمان، أو أمام حوانيتهم، يؤمهم أحد التجار، وهم بملابسهم البيض النقية خاشعين خاضعين لله، ثم الكرم الذي لا حد له، والإجلال لعلماء الدين. . . كل هذه مظاهر محببة للتدين العميق في نفوس القوم.

ويظهر هذا التدين بصورة واضحة في شغف السودانيين بالمدائح النبوية، فهي أناشيدهم يترنم بها عالمهم وجاهلهم، ويستمعون إليها، ويستمتعون بهان وربما كان المألوف إذا دعيت إلى وليمة أن يكون من تتمة الإكرام أن تسمع (مديحاً). والمداحون منهم المحترفون، وهؤلاء يدعون في المجتمعات العامة وفي المناسبات الدينية، كليلة الإسراء، أو ليلة القدر، وكثير من البيوت - هنا - تحيي ليالي رمضان بالمديح، ومنهم من دفعته رغبة شخصية،

ص: 20

وآنس من نفسه جمالاً في الصوت، وقدرة على التنغيم والتلحين، وهؤلاء - يمدحون - غالباً في المجالس الخاصة. والمدائح - في أكثر الأحايين - بالشعر الذي قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمداحون يعتمدون اعتماداً كبيراً على (المجموعة النبهانية) كما يعتمد أهل الحِلات والبوادي على أشعار عامية هي غاية في جودة المعنى، وحسن الأداء، ولها تأثير قوي، يهز المشاعر، ويحرك العواطف، وأشهر هذه المجموعات (ديوان أبى شِريعة)، ولهذا الديوان ميزة أخرى، ذلك أنه وثيقة هامة لمن يريد أن يدرس اللهجات العامية في السودان، ونصيحتي لكل من يريد أن يعالج هذا البحث أن يدرس هذا الديوان، وأن يدرس (طبقات ود ضيف الله) فإن فيهما غناء أي غناء في هذه الناحية.

ولا يفوتني أن أذكر أن المداحين المحدثين قد أخذوا ينحرفون عن إنشاد المدائح النبوية، ولكنهم لم ينحرفوا كثيراً، فهم يتغنون بالقصائد التي تتصل بالعروبة والإسلام، كأندلسية شوقي، ورثاء حافظ للشيخ محمد عبده، ووقفة على طلل لغنيم، وإن كنت سمعت في أيام العيد مدحاً يتغنى بقصيدة المتنبي (من للجآزر في زي الرعابيب). وقد - والله - أجاد، لكنه سأني جداً حين طلبت إليه أن يسمعنا مدحة نبوية، فقال إنه لا يحفظ من هذا النوع شيئاً.

ذكرت هذا كله لأمهد به للحديث عن غرض من أغراض الشعر في السودان، هو غرض غالب ذائع، ذلك هو المدائح النبوية، وإذا كنت في مقالي السابق قد وصفت الشعراء بالتقليد للشعر القديم، فإني أقرر هنا أنهم أصلاء في هذا الغرض، وإن كل ما قالوه من شعر فيه، فهو استجابة لعواطفهم الدينية، واستجابة لبيئاتهم التي أسلفت الحديث عن مظاهر تدينها، ولم أقرأ لشاعر هنا لم يجعل أكثر شعره في المدائح، وإن منها لشعراء نظموا دواوين كاملة في هذا الغرض كديوان (روض الصفا في مدح المصطفى) للعالم الكبير الشيخ أبي القاسم.

ولم يفت الشعراء أن يتحدثون عن تدينهم، واعتصامهم بالله، وبعدهم عن طرق الغواية والهوى، وحبهم في مديح الرسول، وارتياحهم له، ويقول الشيخ الطيب أحمد هاشم:

إن سار غيري للهوان وللهوى

فإلى العلا والمكرمات أسير

أو سامر الناس الحسان جهالة

فسميري القرآن والتفسير

ويقول الشيخ علي الشامي:

ص: 21

إن طال ليلي فطول الليل يؤنسني

إن كان غيري طول الليل يضجره

فإن لي في ظلام الليل مأثرة

هي الصلاة إلى المولى فتقصره

ويقول الشيخ مجذوب جلال الدين:

إني لمن معشر كانت شمائلهم

محبة المصطفى في السر والعلن

يلين قلبي لذكراه إذا تليت

ويقشعر إذا ما رتلت بدني

كما لم يفتهم أن يتحدثوا عن زهدهم في الدنيا، ورضاهم فيها بالقليل، وحثهم الناس على القناعة، والبعد عن سفاسف الأمور وصغائرها؛ وهذا شاعر قديم عاش في السودان منذ قرنين من الزمن هو الشيخ فرح تكتوك، وقول صاحب (شعراء السودان) في ترجمته:(هو ولي صالح، وشيخ من الشيوخ التقاة وشاعر من كبار الشعراء، له من صفاء سيرته وسريرته ما يشهد بصلاحه وتقواه، وهو من قبيلة عرب البطاحين المشهورة في السودان، له في الحكم آيات بينات، وقصائده كلها في الوعظ والإرشاد، قلما ينظم في موضوع آخر إلا ما دعت إليه الضرورة). ومن شعره:

يا واقفاً عند أبواب السلاطين

ارفق بنفسك من هم وتحزين

إن كنت تطلب عزاً لا فناء له

فلا تقف عند أبواب السلاطين

واعلم بأن الذي ترجو شفاعته

من البرية مسكين ابن مسكين

خل الملوك بدنياهم وما جمعوا

وقم بدينك من فرض ومسنون

واستغن بالله عن دنيا الملوك كما

استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

مالي أذل لمخلوق وأسأله

ولو سألت الذي أعطاه يعطيني

فلقمة من طعام البر تشبعني

وجرعة من قليل الماء ترويني

وقطعة من قليل الثوب تسترني

إن مت تكفنني أو عشت تكسوني

وقد تناولت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر القصص التي ذكرت في السير، كما تناولت تمجيده وتمجيد أصحابه رضوان الله عليهم، وتتزاحم علينا الأشعار حين نريد أن نختار منها فلنكتف بقليل من كثير.

تناول الشاعران عبد الله حسن الكردي، وجلال مجذوب قصيدة الإمام البرعي التي مطلعها:

ص: 22

خل الغرام لصب دمعه دمه

حيران توجده الذكرى وتعدمه

فخمساها تخميسين أعجباني غاية الإعجاب، وبهذه المناسبة أقول أن التخميس والتشطير من الأمور الشائعة في الشعر السوداني، فمن تخميس الشيخ المجذوب:

يا من تطاول في وصل تنعمه

ونام ملء جفون العين نومه

أهنأ فما أنت صب القلب مغرمة

(خل الغرام لصب دمعه دمه

حيران توجده الذكرى وتعدمه)

شتان بين سمير الليل ساهرة

ونائم غط من بدء لآخره

أتعذل الصب يشكو بُعد هاجرة

(عذلته حين لم تنظر بناظرة

ولا علمت الذي في الحب يعلمه)

وينتهي من هذا الغزل إلى المديح فيقول:

لا تستوي في الهدى الأنوار والظلم

ولا السميع كمن في أذنه صمم

أتاهم المجتبي شمساً وعنه عموا

(حال السها غير حال البدر لو علموا

بل أهل مكة في طغيانهم عمهوا)

يا ضيعة العمر يا عظمى خسارته

إن لم أشد رحالي نحو دارته

يا كل موصي وفيُّ في سفارته

كم أستنيب رفاقي في زيارته

عنى، وما كل صب القلب مغرمُه)

ويقول الكردي:

أهوى النبي وأرجو من كرامته

خيراً، وأطمع في عقبى شفاعته

ومن صبابة قلبي في مقامته

(كم أستنيب رفاقي في زيارته

عني، وما كل صب القلب مغرمة)

ويتصل بهذه المدائح شعر كثير في ذكرى المولد النبوي، وفي ذكرى الهجرة، وفي ذكرى غزوة بدر، وفي المناسبات الإسلامية المختلفة، وليس أدل على سيادة هذا الغرض وقوته، من أن شعراء غير مسلمين يقولون في الأغراض الإسلامية، ومن ذلك قصيدة الشاعر صالح أفندي بطرس في الحث على العناية بجامع أم درمان، ومنها:

يا مسجداً مطلت بنوه بعهده

حتى غدى وهو الحسير المعدم

ص: 23

بدأوك جوداً بالصنيع وأحجموا

ما كان أولى أن ذاك يتمم

بيننا تشيد إذ وقفت كأنك الط - لل المحيل عفاه هام مرهم

أترى المساجد في القديم تشاد في

أبهى الشكول فمذهب ومرخم

وتراك تعجزهم بأن تبني بآ - جر وتسقف (بالعروق) وتردم

علي العماري

مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بام درمان

ص: 24

‌عالم الغيب:

الجن في منطق الأساطير

للشيخ محمد رجب البيومي

أما العامل المادي فقد كان ذا أثر ملموس في شيوع الخرافات حيث كانت البادية مورداً تجاجاً لما انتشر على الألسنة من الأساطير وطالما وفد إليها المتندرون والمتظرفون، يستعلمون ويستنبؤن. وإن أحدهم ليصحب البدوي إلى حاضرته ليقص على أصحابه وذويه ما يتقنه من الترهات إزاء أجر ثمين، وطبيعي أن يلجأ الأعرابي إلى الافتعال، لتنفق بضاعته، فتملأ حقيبته، وهنا يطلق لخياله العنان فيزعم أنه رأى الشيطان مرة فاستضافه وأنشده الشعر، ومرة أخرى فحاربه وصرعه، وكلما كان البدوي شديد المبالغة في حديثه كان أخف موقعاً في القلوب، وأسلس مقادة للعقول، فإذا أخذ نصيبه المادي ورجع إلى خيمته عكف على اعتمال الأباطيل ليكون على أتم استعداد إذا طلب مرة أخرى للسمر والاستمتاع!!.

ويجدر بنا أن نشير إلى ما شاع لدى العرب من تأثير الجن في الأجسام، فإذا مرض منهم مريض لجئوا إلى العرافين ومن بقي من ذوي الكهانات، وهؤلاء لا يرعون في الناس حرمة أو ذمة بل يجسدون الأوهام، ويبلبلون الخواطر، فيزعمون أن بالمريض مساً يجب أن يتدارك، ويطلبون الأجور المرتفعة جزاء ما يقرءون من التعاويذ الكاذبة، وما يصنعون من الرقي الباطلة. وقد يعشق البدوي فتاة تنتزع فؤاده من أضالعه، وتخطف عقله من رأسه، فيأتي به ذووه إلى العراف فيلجأ أيضاً إلى التمائم والتعاويذ، وكأنه يرى مريض القلب لا يختلف عن مريض الجسم، فيجعل الدواء واحداً لكِلا الرجلين، وقل في الجهالة ما تشاء!!.

وقد يبالغ بعض العرافين فيزعم أن الجن تعشق الإنس عشقاً مبرحاً وأن الجنية تلاقي الصد والتيه ما يلقاه الإنسي، فإذا تمكنت الصبوة من فؤادها، سلب رشادها، وتبددت قوتها، فيمر بها قومها من الجن فيسألون عنها، فيقال مسها إنسي كما يقال لم صرع من الإنس مسه جني، والطيب في كلتا الحالتين هو العراف الأثيم!!.

ولا يترك الفقهاء هذا الباب حتى يؤيدوه بما يعن لهم من الأدلة، ونحن نعلم الخلاف

ص: 25

العريض بين أهل السنة والمعتزلة في الصرع والمس حيث قد ذهب الفريق الأول إلى حدوث ذلك، وقد استشهدوا بحديث رواه البخاري، كما أجاز بعض الحنفية زواج الجنية من الإنسي!! قال الجاحظ (وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد؛ وهذا ظاهر لأن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب الفساد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء. قال تعالى لم يطمثهن إنس قبله ولا جان، ولو كان الجان لا يفتض الآدميات ولم يكن ذلك في تركيبه، لما قال الله تعالى ذلك القول).

وهذا قول لا يدري حقه من باطلهن وإلا فكيف نقول لمدنف عاشق يهوى فتاة معنية باسمها وصفتها إن به مسا من الجن!! ولماذا يزول المس إذا اقترن بمحبوبته الإنسية؟ وأين الجنية المزعومة إذن؟ كل هذا تدجيل صارخ فطن إليه من قال.

وقالوا به من أعين الجن نظرة

ولو علموا قالوا به أعين الإنس

وكم في الحياة من أكاذيب!!

بقى أن نتحدث عن العوامل الأخلاقية، وهي ذات الحظ الأوفر في اختلاق الأساطير، لأنها ترجع إلى عامل واحد، هو الافتخار بالمواهب؛ وقد شاع لدى العرب أن الجن متقدمون عن الإنس في كل شئ، فهم مصدر الإلهام في الشعر، ومنبع الوحي في البيان، وهم أولو البأس في القتال والصيال، وهم سلاطين الصحراء وأمراؤها، يستأذنون فيأذنون، ويأمرون فيطاعون. كل أولئك قد جعل أصحاب الزهو والخيلاء يزعمون أنهم يفوقون الجن في مواهبهم، ويزاحمونهم بمنكب ضخم في مناقبهم، وما من دليل سوى الأساطير المزعومة يخلقا أولو الفخر الكاذب فيتناقلها الناس على ممر العصور!!.

فالشاعر مثلاً يرى أن منزلته لا تعظم في قبيلة إلا إذا زعم أن الجن تلهمه ومن ثم يتجه إلى وادي عبقر كل يوم حيث يصعد إليه الوحي من الأرض، بدل أن يهبط عليه من السماء!! ونحن ننظر فنجد ذا الرمة وأبا النجم، ورؤية والأعشى وغيرهم يدعون أقرانهم من الشياطين، هم ناظمو القصائد ومبدعو المعاني والأساليب، وربما سمى الشاعر قرينه باسم معين، وذهب يفتخر به في كل ناد، كما قال الأعشى في قرينه (مسحل).

وما كنت شحذوذا ولكن حسبتني

إذا مسحل يسدي لي القول أعلق

ص: 26

شريكان فيما بيننا من هوادة

صفيان، إنسي وجن موفق

وصحائف الأدب مليئة بما يماثل ذلك، وربما كان أصل هذه الفكرة لدى العرب أن شاعراً حسد زميله في إبداع، فأدعى أن الشيطان هو الذي يجري البيان على لسانه، وفي جمهرة أشعار العرب أساطير تؤيد ما نقول، ومن ذلك ما زعمه ابن المرزوي عن أبيه أنه مر على جماعة ظباء في سفح جبل، فرأى شبحاً ذا منظر غريب فارتاع من، فقال له اذكر الله ولا تخف ثم سأله: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال المرزوي: نعم وأخذ يروي له شعر عبيد بن الأبرص!؟ فسأله الشيخ من قائل هذا الشعر؟؟ فقال: عبيد، فتهافت وقال: ومن عبيد، لولا صاحبه هبيد؟! ثم شاعت بهذه الخرافات فكرة الأخذ عن الجن فكان كل شاعر يأتي بعد ذلك يزعم أن له قرينا، بل ميز شيطانه بخصائص لا توجد في غيره، كما زعم أبو ألنجم وشركاؤه. وأتى من الراوة من بسط الحبل على امتداده، فقيض لكل شاعر أنجبته الجاهلية شيطاناً فهو له قرين، وإن لم يعترف به الشاعر نفسه، فلا قط قرين امرئ القيس، وهاذر صاحب النابغة، وجهنام شيطان عمرو بن قطن وغير هؤلاء لا يحصون!!.

هذا في الشعر والأدب؛ أما الافتخار بالشجاعة فقد أورث العربية تركة مثقلة بالخرافات، فكل صعلوك يزهى ببسالته، ويختال ببطشه، يختلق من الأساطير ما يؤيد دعواه، فيزعز أنه حارب الجن، ولقى السعلاة فضربها بسيفه، وامتطى الغول في البيداء، وقد زعم صاحب الأغاني أن ثابت بن جابر لقي الغول في ليلة دامسة، فأخذت عليه الطريق، فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها، فلما أصبح حملها تحت إبطه وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شراً، فلقب بهذا القول وعرف به لدى الجميع.

ومهما يكن من شئ فإن تأبط شراً قد أكثر من الحديث عن الجن إكثاراً لم يتح لغيره. وكأنه رأى في انتصاره الموهوم على الغول ما يبرر له كل اختلاق، فذكر في شعره محاورة قامت بينه وبين غول ضربها ضربة واحدة بسيفه، فقالت له: ثن الضربة، فأبى كيلاً تعود لها الحياة إذا ضربت مرة ثانية حسب اعتقاده، كما زعم أنه قابل وفداً من الجن فأشعل النار ونحر الذبائح ودعاهم إلى الطعام، فذكروا أنهم يحسدون عليه الإنس فهم لا يأكلون كما نأكل، اسمعه يقول من أبيات.

أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجن قلت عموا ظلاما

ص: 27

فقلت إلى الطعام فقال منهم

زعيم تحسد الإنس الطعاما

لقد فضلتمو بالأكل عنا

ولكن ذاك يعقبكم سقاماً

وقد ابتلى تأبط شراً بمن كذب دعواه، فزعم أنه نزل بشعب وادي الجن فرأى وجوها صباحاً وسُما، فنحر لهم مطيته ليأكلوا من طيباتها المشتهاة ذلك هو جذع بن سنان الفساني إذ يقول.

نزلت بشعب وادي الجن لما

رأيت الليل قد نشر الجناحا

أتوني سافرين فقلت أهلا

رأيت وجوهكم وسُما صباحاً

نحرت لهم وقلت ألا هلموا

كلوا مما طهيت لكم سماحاً

وقد لا يكتفي الصعلوك بأن يفخر بنفسه بل يتعدى ذلك إلى قبيلته، فيزعم أنها حاربت الجن، فانتصرت انتصاراً رفعها إلى ذروة عالية من المجد. قال أحد الأفاكين من بني سهم: ذهب جني يطوف بالبيت فعرض له شاب من بني سهم فقتله، فثارت بمكة غبرة لم تبصر لها الجبال - وإنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن - فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن، فكان فيهم سبعون سيخاموي الشباب، فنهضت بنو سهم وحلفائها إلى الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا خنفساء، ولا شيئاً من الهوام يدب على الأرض إلا قتله وأقاموا على ذلك ثلاثا، فسمع في الليلة الثالثة هاتف يهتف بصوت جهوري، يا معشر قريش اعذرونا من بني سهم فقد قتلوا منا أضعاف من قتلنا منهم فأصلحوا ما بيننا، ففعلت ذلك قريش، وسميت بنو سهم (قتلة الجن).

وكثير من مسطري هذه الأخبار - في القديم - من يملأ بها الصحائف دون أن يلفت الأنظار إلى مبلغها من الافتراء وكأنه يرى من الأمانة العلمية أن يذكرها كما تلقفها من الأفواه، أو نقلها عن الأسفار بدون تعليق يضع الحق في نصابه، بل لعله يتصب لها تعصباً يترك القارئ في شك من أمره، ولكن الحق لا يعدم أنصاره في كل زمان ومكان، فكما وجد جماعة من الفقهاء ينشيعون لهذه الأساطير، فقد وجد منهم آخرون يفتدونها أتم تفنيد، قال ابن حزم عن الجن:(ومن ادعى أنه يراهم أو رآهم بالفعل فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء) وقال أبو إسحاق المتكلم فيما رواه عنه الجاحظ (وأصل هذه الفكرة أن القوم تأثروا بوحشة بلادهم، ومن أقام بالصحراء منفرداً استوحش وابتلى بالوسوسة، وتمثل له الشيء

ص: 28

الصغير كبيراً، فإذا اشتملت عليه الغيطان، وسمع صياح بومة أو مجاوبة صدى، تصور في نفسه كل باطل. وربما كان أحدهم كذاباً فيأتي بشعر يزعم فيه أنى رأي الغيلان وكلمها ثم يتجاوز ذلك، فيقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك فيقول رافقتها وتزوجتها) ويستفيض حديثه بين الناس فتسيل به الأندية والمجتمعات)!.

هل عرفتم مصرع حرب بن أميه؟؟ فقد خرج في نفر من قومه فاعترضتهم حية خبيثة فقتلها وكانت من الجن - فجاءت حية أخرى فطالبت بالثأر، وقام بين الفريقين معركة طاحنة قتل فيها حرب، ودفن حيث وافته منيته فقالت فيه الجن.

وقبر حرب بمكان ففر

وليس قرب قبر حرب قبر!

وهل علمتم أن سيد الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه أصيب بسهمين قاتلين من الجن ففاضت روحه الكريمة إلى بارئها العظيم؟ ثم رثوه بعد ذلك بشعر نائح! وهل سمعتم أن الغريض غنى بالبادية صوتاً مؤثراً فحسده الجن وقتلوه!؟ وهل تدرون أن أمية بن أبي الصلت تعرض ليهودية من الجن، فبرص أعلاه واسود أسفله. هذا رذاذ من وابل هطال تتدفق به الأساطير!.

إن في هذه الخرافات لمتعة عجيبة، وأخشى أن أدعو إلى تذوقها تذوقا فنياً يكشف عن طرافتها الغريبة، فأجد - في القرن العشرين - من يميل إلى تصديقها من الناس! ولم لا يكون ذلك والغباوة تسير مع الزمن في خطوة السريع!.

رحم الله أيام الطفولة، فقد ملأت مخيلتي بآلاف مولعة من هذه النوادر، وكنت أسمعها في لذة ومتعة، فأترنح من السرور كمن مالت بقامته نشوة السلاف! فأين مضى هذا العهد الحالم، وكيف عصفت به ريح الزمان!!

أقرأ على الوشل السلام وقل له

كل المشارب مذ هُجرت ذميم

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي

ص: 29

‌الفتوة في اللغة وكتب الأدب وحياة الفتيان في

‌الجاهلية وعصور الإسلام

نقص قواميس اللغة العربية وقصورها عن تحديد المعاني

للأستاذ ضياء الدين الدخيلي

ولنقتطف من ديوان الحماسة اختيار أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وقد شرحه الشيخ أبو زكريا التبريزي الشهير بالخطيب وكان تلميذاً للمعري.

قال النابغة الجعدي:

ألم تعلمي أني رزئت محارباً

فما لك منه اليوم شئ ولا ليا

(فتى) كملت خيراته غير أنه

جواد فما يبقى من المال باقيا

قال الخطيب في شرحه أنه يخاطب صاحبته أم محارب وقوله ألم تعلمي: ظاهرة تقرير، وإنما هو توجع وتلهف على ما فاته من المرثى محارب ابنه.

وقال ابن أهبان الفقعسي يرثي أخاه

على مثل هما تشق جيوبها

وتعلن بالنوح النساء الفواقد

(فتى الحي) إن تلقاه في الحي أو يرى

سوى الحي أو ضم الرجال المشاهد

طويل نجاد السيف يصبح بطنه

خميصاً وجاديه على الزاد حامد

قال الخطيب جادية الذي يجتديه، ويطلب منه جعل الفتوة والرئاسة مسلمة له في كل حال وعلى كل وجه ألا ترى أنه قال هو الفتى بين رجال الحي وعند لقائك إياه فيهم وقوله أو يرى سوى الحي، أي في مكان آخر وفي قوم آخرين بدلا من الحي وقوله أو ضم الرجال المشاهد معناه وهو الفتى إذا حصلت وفود القبائل في مجامع الملوك وقال سلمة الجعفي يرثي أخا

أقول لنفسي في الخلاء ألومها

لك الويل ما هذا التجلد والصبر

ألم تعلمي أن لست ما عشت لاقيا

أخي إذ أتى من دون أوصاله القبر

(فتى) كان يعطي السيف في الروع حقه

إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر

(فتى) كان بدينه الغني من صديقه

إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

ص: 30

قال الخطيب ثوب الداعي أي دعا واصل التثويب أن يكون الرجل في مفازة لا يهتدي بها فيلوح بثوبه فربما رآه إنسان فيهديه وينجيه ثم استعمل في غيره.

وقال سالم بن وابصة الأسدي:

أحب (الفتى) ينفي الفواحش سمعه

كأن به عن كل فاحشة وقرا

سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى

ولا مانعاً خيراً ولا قائلا هجرا

وقال زياد بن حمل:

كم فيهم من (فتى) حلو شمائله

جم الرماد إذا ما أخمد البرم

قال الخطيب كم للتكثير وموضعه رفع بالابتداء وخبره من فتى وجم الرماد كثيرة ولا يكثر الرماد إلا لكثرة الغاشية والأضياف والبرم الذي لا يدخل مع القوم في الميسر (نوع من القمار) والمراد إذا أخمد البرم النار لبخله.

وقال العريان:

ورحت إلى دار امرئ الصدق حوله

مرابط أفراس وملعب (فتيان)

ومنحر مئناث يجرُّ حُوارُها

وموضع إخوان إلى جنب إخوان

قال الخطيب: وملعب فتيان، لأنهم يجتمعون عنده لسخائه وقوله: يجر حوارها، لأنها تجزر وهو في بطنها فيجره من بطنها وروي في الحماسة ولم يذكر قائلهما:

وليس (فتى الفتيان) من جل همه

صبوح وإن أمسى ففضل غبوق

ولكن (فتى الفتيان) من راح أو غدا

لضرِّ عدوّ أو لنفع صديق

وقد اعترض علينا الأستاذ محمد عبد القادر، حيث أننا لم نذكر القائل وقد استشهدنا بالبيت الثاني أخذناه من تاج العروس ولم يذكر قائل البيتين في ديوان الحماسة إلا أن الخطيب التبريزي في شرحه بعد أن قال الصبوح شرب الغداة والغبوق شرب الخمرة في العشى. روى الأصمعي أن أكثم بن صيفي قال: اصحبْ من الإخوان منْ إن صحبته زانك، وإنْ خدمته صاتك، وإن اختللت عانك، إن رأى منك حسنةً جازاكَ عليها، أو سقطةٍ أغضى لك عنها، لا تختلف عليك طرائقه، ولا تخشى بوائقه. ثم أنشد البيتين: وليس فتى الفتيان الخ. ومن هذا يتبين قدمهما وصحة الاستشهاد بهما.

وقال أبو كبير الهذلي (عويمر بن حليس أحد بني سعد بن هذيل)

ص: 31

ولقد سريت على الظلام بِمغشَم

جَلْدٍ من (الفتيان) غير مُثقل

قال: سرى وأسرى بمعنى واحد، وعلى الظلام: أي في الظلام ويجوز أن يكون وعلى الظلام في موضع الحال أي وأنا على الظلام أي راكب له، والمغشَم من الغشَم: وهو الظلم، فإن قيل إذا كان السرَى لا يكون إلا ليلا، فلم قال على الظلام، ولم جاء في القرآن الذي أسرى بعبده ليلا؟ قيل المراد توسط الليل والدخول في معظمه، والجلد: الصلب القوي. وقوله غير مُثقل: أي كان حسن القبول محبباً إلى القلوب، قال، وقال أبو رياش (المغشم) الذي يغشم الأمور ويخلطها من غير تمييز، وقيل المِغشم ههنا: من إذا اختفى عليه الطريق اعتسف أي ركب الطريق على غير هداية ولا دراية.

وروى في الحماسة لامرأة من طيء:

دعا دعوة يوم الشرى يا لمالك

ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يكلم

فيا ضيعة (الفتيان) إذ يعتلونه

ببطن الشرى مثل الفنيق المسدَّم

(الشرى مكان، والحفيظة الغضب أي استغاث هذا الرجل بهذا الموضع فلم يجب، وقولها يكلم: كناية عن الغلبة والقتل، والعتل: القود بعتف، يقال عتله يعتله، ويا ضيعة الفتيان: لفظه لفظ النداء ومعناه الخبر كأنها قالت ضاع الفتيان جداً إذ كان أعداؤه يعنفون في قودهم إياه وهو كأنه فحل مشدود الفم خوفاً من صياله، والفنيق: الفحل، والمسدَّم: المشدود الفم الهائج الممنوع، وإنما يفعل به ذلك إذا هاج خوفاً من فضاضه.

وقال جابر بن ثعلب الطائي:

وقام إلى العاذلات يلمنني

يقلن ألا تنفك ترحل مرحلا؟

فإن (الفتى) ذا الحزم رامٍ بنفسه

جواشن هذا الليل كي يتمولا

وتزري بعقل المرء قلة ماله

وإن كان أسرى من رجال وأحولا

(أي لا تزال ترتحل ارتحالا ومرحلا انتصب على المصدر وجواشن الليل صدوره وأوائله وأحواله أكثر حيلة).

وقال أبو النشناش:

فللموت خير للفتى من قعوده

عديماً ومن مولى تدب عقاربه

(أي الموت خير للرجل من قعوده راضياً بفقره وبإفضال مولى يؤذيه بالمن، ودبيب

ص: 32

العقارب: كناية عن الأذى وانتصب عديماً على الحال.

وقال آخر:

إذا القوم قالوا من فتى لعظيمة؟

فما كلهم يدعى ولكنه الفتى

فهذه النصوص الأدبية أظن أن فيها الكفاية لمن ارتاب في دلالة فتى على الشهامة والفروسية، ونود أن ننبه القارئ الكريم إلى أن الفتوة في العصر العباسي كانت تطلق على اجتماع بعض المياسير على اللهو واللذات تجمعهم الملاهي والعبث والترف والسماع، فقد وصف عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع حال الفتيان الذي كان يعاشرهم فقال:

في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا

وأنفقوا في التصابي العرض والنشبا

وجاء في (نهاية الأرب) فيمن شرب الخمر واشتهر بها، (ومنهم والبة بن الحباب الأسدي وهو الذي ربى أبا نواس وعلمه الفتوة وقول الشعر) ويفسر لنا أبو نؤاس تلك الفتوة التي درسها على والبة بقوله:

ما استكمل اللذات إلا فتى

يشرب والمرد نداماه

هذا يغنيه وهذا إذا

ناولهُ القهوة حياه

وقوله:

متيمُ القلب معناه

جادت بماء الشوق عيناه

إن كان أبكاك الهوى مرة

فطالما أضحككَ اللهُ

لا خير في العاشق إلا فتى

لاطف مولاه وداراه

ودَافع الهجر وأيامه

فالوصل لا شك قصاراه - (أي غايته)

وروى النواجي في حلبة الكميت أن أبا الهندي كان منهمكا في الخمر مغرماً بالشرب، ودخل حانة خمار فشرب عنده إلى أن غلب عليه السكر فنام، ودخل جماعة (فتيان) فرأوه على تلك الحالة فقالوا للخمار ما حال هذا؟ قال طيب العيش قالوا فألحقنا به فسقاهم حتى انتهوا إلى حاله فانتبه أبو الهندي فرآهم فقال للخمار ما حال هؤلاء؟ فقال مبسوطون، قال فالحقني بهم، فسقاه حتى لحق بهم، وانتبهوا فقالوا مثل ذلك إلى أن مضت عليهم عشرة أيام ولم يلتق بعضهم ببعض ثم أنشد أبو الهندي:

ندامى بعد عاشرة تلاقوا

تضمهم (الفتوة) والسماح

ص: 33

نقيم معاً وليس لنا تلاق

بيت ما لنا منه براح

وجاء في الأغاني (وبع وفاته كان الفتيان يجيشون إلى قبره ويصبون القدح إذا انتهي إليه على قبره) وجاء في مسالك الأبصار عن حانة عون (أن عوناً كان ظريفاً طيب الشراب نظيف الثياب وكان فتيان الكوفة يشربون في حانوته ولا يختارون عليه أحداً).

وجاء في حلبة الكميت قال السري الرفا الموصلي:

وفتية زهر الآداب بينهم

أبهى وأبهج من زهر الرياحين

مشوا إلى الراح مشى الرخ فانصرفوا

يمشون من شربها مشى الفرازين

(في المنجد الرخ طائر وهمي كبير وأيضاً قطعة من قطع الشطرنج الجمع رخاخ ورخخة: وفرازين جمع فرزان وهي الملكة في لعب الشطرنج).

وبدهى أن الفتوة في النصوص الأخيرة لم تستعمل في المعاني التي استعملت فيها إشعار الحماسة وغيرها التي تقدمت، وإنما استعملت في معنى الانغماس في اللهو والسكر والسماع، وقد نسب الثعالبي في كتابه (الخاص للخاص) بيتين للأعشى أورد فيهما (فتى) في ذلك المعنى فقال:

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

لكي يعلم الناس إني (فتى)

أتيت المروءة من بابها

وقد أكثر في الأغاني استعمال الفتوة في هذا المعنى فقد جاء في الجزء السابع وكان الوليد بن يزيد من (فتيان بين أمية) وظرفائهم وشعرائهم وأجدادهم وأشدائهم، وكان فاسقاً خليعاً متهماً في دينه مرمياً بالزندقة وشاع في أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل.

وعن الوليد أيضاً أنه أبلغه أن جماعة من بني مروان يعيبونه بالشراب فلعنهم وقال أنهم ليعيبون على ما لو كانت لهم فيه لذة ما تركوه وقال هذا الشعر وأمر عمر الوادي أن يغني فيه وهو من جيد شعره ومختاره:

ولقد قضيت وأن تجلل لمتى

شيب - على رغم العدا لذاتي

من كاعبات كالدمى ومناصف

ومراكب للصيد والنشوات

في (فتية) تأبى الهوان وجرههم

شم الأنوف حجاحج سادات

أن يطلبوا بتراثهم يعطوا بها

أو يطلبوا لا يدركوا بتراث

ص: 34

وفيه كان الهذلي النقاش يغدو إليه (فتيان قريش) وقد عمل عمله بالليل ومعهم الطعام والشراب والدراهم فيقولون غننا الخ وقد قال فيه في التعريف بالهذلي هاذ أنه سعيد بن مسعود كان ينقش الحجارة بأبي قبيس (جبل في الحجاز) وكان فتيان من قريش يروحون إليه كل عشية فيأتون بطحاء يقال لها بطحاء قريش فيجلسون عليها ويأتيهم فيغني لهم ويكون معهم.

وفي الأغاني أن وضاحاً هوى امرأة يقال لها روضة، فذهبت به كل مذهب وخطبها فامتنع قومها من تزويجه إياها وعاتبه أهله وعشيرته فقال في ذلك:

يا أيها القلب بعض ما تجد

قد يعيش المرء ثم يتئد

قد يكتم المرء حبه حقباً

وهو عميد وقلبه كمد

ماذا تريدين من (فتى غزل)

قد شفه السقم فيك والسهد؟

حديث الأصمعي عن الخليل بن أحمد أن وضاحاً كان يهوى امرأة من كندة يقال لها روضة.

وجاء في الأغاني عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت الري فكنت آلف (فتياناً) من أهل النعم وهم لا يعرفونني فطال ذلك عليَّ إلى أن دعاني أحدهم ليلة إلى منزله فبت عنده فأخرج جارية له ومد لها ستارة فتغنت خلفها فرأيتها صالحة الأداء كثيرة الرواية فشوقتني إلى العراق وذكرتني أيامي بها فدعوت بعود فلما جئ به اندفعت فغنيت صوتي في شعري.

أنا بالري مقيم

في قرى الري أهيم

وقد كنت صنعت هذا اللحن قديماً بالري فخرجت الجارية من وراء الستارة مبادرة إلى فأكبت على رأسي وقال أستاذي والله فقال لها مولاها أي أستاذيك هذا؟ قالت إبراهيم الموصلي فإذا هي إحدى الجواري اللاتي أخذن عني وطال العهد بها فأكرمني مولاها وبرني وخلع على فأقمت مدة بعد ذلك بالري وانتشر خبري بها ثم كتب بحملي إلى والي البلد فأشخصت.

فترى أن كلمة (فتيان) فد استعملت في العصر العباسي وأريد بها إخوان الطرب الذين جمعتهم العشرة على موائد اللذات فهؤلاء الفتيان الذين تعطينا القصص صورة مصغرة

ص: 35

لحياتهم في العصر العباسي كانوا إخوان لهو وسكر وعربدة وهذا ما يحدد حياة الفتوة في ذلك العصر المترف كما توضح معالمها هذه القصص المنشورة في مجلدات الأغاني وغيرها من كتب الأدب وإليك صورة أخرى لحياة الفتوة الخليعة في العصر الأموي، جاء في الأغاني في أخبار الدلال أنه من ظرفاء المدينة في العصر الأموي وكان جميلا حسن البيان، ومن أحضر الناس جوابأ وأحجهم. وكان سليمان بن عبد الملك قد رق له حين خصي غلطاً قال وأن الدلال خرج يوماً مع (فتية من قريش) في نزهة لهم وكان معهم غلام جميل الوجه فأعجبه وعلم القوم بذلك فقالوا قد ظفر نابه بقية يومنا، وكان لا يصبر في مجلس حتى ينقضي وينصرف عنه استثقالا لمحادثة الرجال ومحبة في محادثة النساء فغمزوا الغلام عليه وفطن لذلك فغضب وقام لينصرف فأقسم الغلام عليه والقوم جميعاً فجلس وكان معهم شراب فشربوا وسقوه وحملوا عليه لئلا يبرح ثم سألوه وعلا نعيرهم فنذر بهم (علم) السلطان وتعادت الأشراد (تعادت من العدو وهو سرعة الجري) فأحسوا بالطلي فهربوا وبقى الغلام والدلال وما يطيقان براحاً من السكر فأخذا فأتى بهما أمير المدينة الخ فترى حياة هؤلاء الفتيان حياة تحلل من قيود العرف وتهرب من أحكام الشرائع الأدبية المتعارفة في عصرهم وهذا نموذج لحياة الفتوة في العصر الأموي وإذا تراجعنا للعصر الجاهلي فإن طرفة يحدثنا عن فتوته في معلقته والأعشى في بيتيه المتقدمين وتجد الفتوة إذ ذاك مزيجاً من الطرب والأنس والفروسية والنجدة وقد تكون نجدة وشهامة ورجولة كاملة لا غير كما في أشعار الحماسة التي أوردنا.

ومن هذا ترى أن الفتوة قد اختلف الناس باختلاف العصور والأزمان والبلدان - في فهم معناها ولولا ضيق الوقت لأتينا على عرض تاريخي مفصل للفتوة في الجاهلية وعصور الإسلام. إذ اقتصر حديثنا هذا على استعراض ما عثرنا عليه من النصوص الأدبية الموثوق بها لإثبات دعوانا السابقة من دلالة الفتوة على الشهامة والفروسية والنبل وكمال خصائص الرجولة، وعسى أن ننال ثقة الناقد الكريم وهل ندري هل يزيف شواهدنا أيضاً؟ أم يغضي على مضض وفي الغين قذي وفي الحلق شجا: الحق أن معنى (فتى) قد تجلى ولا غبار بعد اليوم عليه، وقد وضح الصبح لذي عينين والذي استهدفته من إطالة الحديث إعطاء القراء مثلا محسوساً لنقص كتب اللغة وعدم شرحها معاني المفردات كما هي إذ قد

ص: 36

رأيت في مقالي الأسبق في العدد (782) أنها أجمعت على تفسير كلمة فتى بالرجل الكريم السخي ولم تلوح كلها أو جلها إلى ما تضمنته الكلمة من معاني الجلد والفروسية والنجدة والبطولة واستكمال مزايا الرجولة وصفات الشهامة في حين أن النصوص الموثوق بها والتي وضعتها بين يديك تصرح في تكذيب قواميس اللغة، ورميها بأنها سطحية لا تمنح الألفاظ إلا لمحة الطائر وفطنة العجلان).

ضياء الدخيلي

ص: 37

‌أوراق مطوية:

كل شئ إلى زوال

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

كل شئ إلى زوال

فاسقني خمرة الجمال

لا تكلمني إلى غد

إنه في دمى خيال

أنا لو كنت خالداً

ما تعجلتك الوصال

هل ترى الصبر نافعاً

لمقيم على ارتحال؟

إنما العمر خطوة

كخطا الريح في الرمال

فاسقني خمرة الجمال

كل شئ إلى زوال!

أترى ذلك الضياء

رائع السحر والبهاء؟

يملأ القلب فرحة

ونزوعا إلى السماء

ويوافيه بالمنى

وبأحلامه الوضاء

ويغنى فتبعث الطي

ر له أعذب الغناء

سوف يمضى كما أتى

حينما يقبل المساء!

فاسقني خمرة الجمال

كل شئ إلى زوال!

أترى ذلك المساء

رائع الصمت والخفاء!

يملأ النفس رهبة

دونها رهبة الفناء

فهو بحر بلا ضفا

ف، وأفق بلا انتهاء

وهو نوم وراحة

وهو سهد على بكاء

سوف يمضى كما أتى

حينما يقبل الضياء

فاسقنى خمرة الجمال

كل شئ إلى زوال!

والربيع الذي تراه

يتهادى على رباه

فتغنى به الدني

وتغنى له الحياة

سوف يمضى كأنه

أرج الزهر أو نداه

فإذا الزهر ذابل

من بكاء على شذاه

ص: 38

وإذا النهر غائر

بعد ما فاض شاطئاه

فاسقني خمرة الجمال

كل شئ إلى زوال!

والشباب الذى يطيب

نفح ريحانه الرطيب

وترى حوله المنى

كفراش على لهيب

سوف يمضى مشيعاً

كل ما فيه بالنحيب

ثم يأتي بيأسه

دونها وحشة الغريب

فاسقني خمرة الجمال

كل شئ إلى زوال!

سوف أحيا مع الشباب

بين أحلامه العذاب

فإذا الجسم في الثرى

وإذا الروح في السحاب

وإذا بي مع الهوى

كأغان على رباب

أبصر النور في الدجى

وأرى الماء في السراب

إنما الحب ساحر

يبدع الروض في اليباب

فإذا أقبل الردى

ثائر الهول كالعباب

قلت يا نفسي اهدئي

ليس يجديك الاضطراب

إنما العمر رحلة

بعدها يحمد المآب

فاحمدي ذلك المآل

كل شئ إلى زوال!

إبراهيم محمد نجا

ص: 39

‌من وحي البحر:

السمكة الصغيرة

للأستاذ محمد يوسف المحجوب

قذفتك الأمواج ياطفلة البح

ر إلى شاطئ عديم الوفاء

لن تصيبي عليه زاداً إذا ما

جعت. . . أو تظفري لديه بماء

لن ترى أي راحم فيه يرعى

أو تذوقي غير الأسى والشقاء

نحن في عالم التطاحن والحر

ب ودنيا تعج بالبغضاء

لفظتك الأمواج يا دمية البحر

ولم تبلغي حياة الشباب

وتركت العباب وهو متاع

ومراح للخرَّد الأنزاب

لكأني بهن يبكين أختاً

لم تمتّع بالعيش غيض الإهاب

قهر البحر حسنها ورماها

فاستكانت لموجه الغلاب

أمسكتها يداى وهى على الشط

تلوى. . . تشكو لديه الجحودا

فتجلى للعين منها جمال

يتهادى: لوناً وحسناً فريدا

وبدت صورة الطفولة تحكى

رقة الطفل حين يأتي الوجودا

يالها. . . هل تموت والماء منها

قيد خطو؟. . . لهفا عليه وليدا

غمستها في الماء كفى. . . فراحت

تضرب الكف رغبة في الفرار

طفلة البحر: إن تركتك للبحر

أترعين بعد هذا جواري؟

من ضميني بأن أراك إذا أصب

حت في الغيد فاتنات العذار؟

كم رعينا الظباء وهى صغار

فاسألي اليوم عن جحود الكبار!

طفلة البحر: قد رجعتك للبحر

فعودي فيه لجو النعيم

واسعدي بالمقام في لجه الصا - في بعيداً عما نرى من هموم

واحذري الصائد الخئون إذا ما

جاء يسعى بطعمه المسموم

واذكريني. . . فإن ذكراك أندى

لفؤادي من آدمي لئيم

دمية البحر: من رعى الود يوماً

مثلنا نحن معشر الشعراء؟

لو رآك الغداة غيري لما طالع - ت منه إلا نذير الفناء

ص: 40

ولداست أقدامه جسمك الغ - ض فأمسى مبعثراً في الهواء

أنعمي بالحياة. . . أنا أياس

دأبنا في الحياة بذل الإخاء

راس البر

محمد يوسف المحجوب

ص: 41

‌ثلوج الوحدة

للأديب رشيد ياسين

(الى تلك السنوات التي قضيتها جاريا وراء مثل خادعة. . .

اسوق هذه اللعنة)

هلمي ينابيع المآسي وسمَّعي

كياني، وشى عاصفاتك في دمى

وخلى وجودي في فم النار آهة

وشكوى، على سمع المقادر، يرتمي

فيا رب مأساة يذيب لهيبها

ثلوج سآماتى، ويمحو تبرمي

فأنسى شروري في مغاوز وحدتي

وأحرق بلآهات صمتي على فمي!

مع الوحدة الخرساء عادت سذاجتي

تكلف مغبون وصرخة ناقم

دفنت مراحي في تهاويل حكمتي

وضيعت في صيد السراب تبسمي

وعشت يغشيني الضباب فلا أرى

سوى أنجم تنقض في إثر أنجم

أسير فلا ظل لخطاي على الثرى

وأشدو فلا ألقى صدى لترنمي

أدور على نفسي. وعيني كفيفة

كدوامة يا هو بها لاعب عمى

وحولي وجوم في فؤادي له صدى

وفوقي ركام من أسى وتندم

وفى مقلتي طيف من الشك حاطم

تغذيه أشلاء اليقين المحطم

هلمي احرقي دنياي علىَ أهتدي

إلى دربي الخافي بنار تألمي

وأوقد من ماصىَّ في فورة اللظى

بخوراً على قبر الشباب المهدم

فيا رب مأساة يذيب لهيها

ثلوج سآماتي ويمحو تبرمي

فأنسى شروري في مغاور وحدتي

وأحرق بلآهات صمتي على فمي!

بغداد

رشيد ياسين

ص: 42

‌الأدب والفنّ في أسبوُع

للأستاذ عباس خضر

سر الكافورة:

طالعني غير واحد من إخواننا الأدباء، بهذا السؤال: لم لا يكتب الأستاذ الزيات في هذه الأيام؟ وكنت أجيب إجابات مختلفة، ليس منها أنه مستسلم للكسل. . . وهل يليق أن أجيب بمثل هذا عن أستاذنا الجليل؟

يقضي الأستاذ أكثر أيام الصيف بالمنصورة. . . هناك تحت الكافورة (كافورة الزيات) المشرفة من أحد النوادي على النيل والتي خلدها في بعض ما كتب منذ بضع سنوات.

والعجيب أن الزيات، الأديب المعروف بالتعبير الجميل عن كل ما يقع تحت حسه المرهف، يخلد الآن إلى (الكسل الفني) تحت الكافورة. . . وهو الذي لم يمنعه مرضه في الأيام التي قضاها مستشفياً بحلوان - أن يكتب ما أوحت إليه، ولم ينس قراء الرسالة تلك اليوميات الممتعة.

فما أجدر الكافورة والمنصورة والريف القريب منها الذي يتردد عليه الأستاذ - بأن تفيض على قلمه من جمال البيان ما يصل به صدر الرسالة الذي جافاه من نحو شهرين.

ولست أجزم بأن الأمر في ذلك يرجع إلى الكسل، فما يدريني، لعل الكافورة تظل سراً يختمر. . .

قضية أدبية هامة:

تلقيت من الأستاذ عباس السيد أبو النجا المحامي، كتاباً قّفي به على أثر الشاعر محمد محمد علي السوداني الذي عتب على الرسالة بقصيدة لإهمالها نشر أشعاره، فأعتبته ونشرت قصيدة العتاب في العدد (786).

يقول الأستاذ أبو النجا إن ما أبداه الشاعر العاتب (ترجمان صادق لما تزخر به من الشكوى نفوس الكثيرين من أدباء الشباب، فقد درجت بعض المجلات الأدبية والصحف اليومية على إغفال ما يرد إليها من ثمرات قرائح المتأدبين من الشباب والإلقاء بنفثاتهم في سلة المهملات رغبة عنهم إلى أولئك الذين نبه ذكرهم وبعد شأوهم من كبار الأدباء).

ص: 43

وبين ما يترتب على هذا الاتجاه من آثار بالغة في حياة الأفراد والأمة، بأنه يشكك ناشئة الأدباء في أدبهم، لأن معيار جودة الأدب هو نشره، ومتى تسرب الشك إلى النفس قلقلت ومالت جذوتها إلى الخمود؛ وهذا يميت في ناشئة الأدباء روح الأدب، إذ يصرفهم عن التحصيل وتعهد مواهبهم، إلى أن يقول:(أما النتيجة الضخمة التي يؤدي إليها هذا الأثر وذاك فهي تأخر الأدب في الأمة وعدم ازدهاره فيها، لقلة عدد الأدباء والمفكرين من أبنائها؟ والأدب في كل أمة مرآتها المجلوة، ولسانها المتنبي عن المذخور من أمجادها، والمرجو من تقدمها ونهوضها).

ويقول الأستاذ إنه عالج نظم الشعر، ودفع ببعض ما نظم إلى بعض الصحف والمجلات، وفي جملتها الرسالة، فلم ينشر له إلا قصيدة في مجلة قدمها إليها أحد أصدقائه الصحفيين. ويسأل في آخر كتابه: هل المهم هو جودة الأدب أم شهرة الأديب؟ ويقول: (صحيح أن كبار الأدباء قد انقادت لهم أزمة البيان، ومن المحقق أنهم أقدر على الغوص والسبوح والتحليق. . . ولكن هذا لا يمنع من أن يكون في الناشئة موهوب سبق عمره فهما وفطانة وكملت أداته يافعاً، فهل يكون جزاؤه - لأنه مغمور - أن نغفل إنتاجه ونهمله؟).

وكل ما ذكره الأستاذ في رسالته صحيح لاشك فيه، وتصوير المسألة وبيان آثارها كما صور وبين. ومن المؤسف أن المهم - عند الكثيرين من المشرفين على الصحف - هو شهرة الأديب لا جودة الأدب، فهم يقرؤون المقالات والقصائد من ذيولها. . . أما (الرسالة) فالأمر في ذلك عندها لا يعدو زحمة المواد واختيار الجيد والصالح للمحافظة على مستواها الأدبي المعروفة به، وليس كل ما يهمل لرداءته، فثمة اعتبارات أخرى تتعلق بالموضوع وروح المجلة وغير ذلك. والرسالة قد فتحت ذراعيها للشباب منذ نشأتها، حتى تخرج فيها طائفة منهم أخذوا أماكنهم بين الكتاب والشعراء، ومنهم من هو في الصدارة الآن؛ ويوم بدؤوا فيها قبلتهم لجودة أدبهم بطبيعة الحال، فلم تكن أسماؤهم معروفة، فلا يجوز مع ذلك أن ترمى بأنها توصد الأبواب أمام الشباب.

الألفاظ الأجنبية بين الأمس واليوم:

نشرت مجلة الإصلاح الاجتماعي مقالاً لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا، عنوانه (موقف العربية من الألفاظ الأجنبية) وهو من مقالات معاليه القديمة التي كان يكتبها في

ص: 44

أوائل هذا القرن، قالت المجلة إنها تنشره للوقوف على آراء قادة الفكر في مطلع النهضة الحديثة. أثار أستاذ الأساتذة في ذلك المقال قضية لا تزال من قضايا اليوم، فقد دعا الكتاب أن يتساهلوا في قبول الألفاظ الأوربية (كالأوتومبيل والبسكليت) ويدخلوها في الاستعمال الكتابي كما أدخلها الجمهور في المخاطبة قائلاً بأن اختراع أسماء تستعمل في الكتابة وحدها يوسع مسافة الفرق بين لغة الكتابة ولغة الكلام. والطريف في نشر المقال في هذا الوقت أنه يتضمن وجهات نظر تغير أساسها الآن تغيراً تاماً، فما كان معاليه يدرى - إذ ذاك - أن (السيارة) ستجرى على ألسنة الناس أكثر وأسهل من (الأوتومبيل) إذ قال:(نشر مجمعنا اللغوي رحمة الله عليه أن الأتوموبيل (بالإفرنجي) اسمه (بالعربي) سيارة. فإذا قلت لواحد من أهل العلم (جاءت سيارة) فهم من ذلك أنك تخبر عن جماعة من الناس سائرين أو عن أحد الكواكب فأما في العرف الفلاحي فالسيارة هي الهيئة المؤلفة من جماعة من الفقراء أبناء الطريق يحملون لواء طريقتهم وطبولها وبإزالتها لينتقلوا إلى مولد من الموالد، هذا هو ما أظن أهل القاهرة يعبرون عنه (بالإشارة) فإن قلت لخادمك جئ بسيارة فتح لك فاه ووقف ينتظر تعريباً للسيارة حتى تقول له جئ (بأتومبيل). . .)

وما كان معاليه أيضاً يعلم وهو يترحم على المجمع اللغوي القديم - أنه سيصير رئيساً للمجمع اللغوي الحالي الذي يسير في نفس الطريق فيستبدل بأمثال (الأتومبيل) أمثال (السيارة).

وبعد فلا تزال القضية - كما قلت من قضايا اليوم، بل هي من المعضلات، فليست كل الأسماء (كالأتومبيل) والسيارة، فثمة كثير من الكلمات الإفرنجية لا تزال نستعملها في الكتابة، وقد تعبت الأقواس في حراستها. . . وكثيراً ما تستأنس فتترك بلا أقواس. وقد وضع المجمع اللغوي كثيراً من الأسماء لمسميات حديثة، ولكن الكتاب حتى أعضاء المجمع منهم لم يلتزموها في كتابتهم، فلم نر أحداً منهم كطه حسين أو أحمد أمين أو المازني يكتب المسرة أو المشن بدل (التليفون والدش) وهل يعبر الدكتور أحمد زكى عن تحليل الكحول ب (الحلكحة)؟

والفئة الصابرة في هذا الميدان، هم أطفال المدارس وتلاميذها، وهم وحدهم المكلفون بتنفيذ قرارات المجمع اللغوي. . . فالطفل في السنة الأولى الابتدائية لابد أن يكون جملا تشتمل

ص: 45

على (السحاح)(والأبزن)(والمشرجَّع) وهو حين يشب عن الطوق. . . ويقرأ لكبار الكتاب لا يجد هذه الكلمات وأمثالها فيما يقرأ، فينفض يده منها كالمعلومات التي يمتلئ بها ليفرغها في الامتحان!

وقد تقول إن بعض الكلمات التي لا نستسيغها الآن، قد تسير كما سارت السيارة وكثير غيرها، ولكن هذا لا يكون إلا في الكلمات التي يقبلها الكتاب ويمنحونها الحياة بأقلامهم. ولاشك أن للكتاب عذرهم في استعمال الأسماء الأجنبية التي لم توضع لها أسماء عربية موفقة، أو لم يوضع لها شئ البتة. وأنا لا أرى أحداً يستطيع أن يصف غرفة من الغرف الحديثة فيسمى كل محتوياتها بأسماء عربية صحيحة، ويؤلف من ذلك - إن استطاع - كلاماً يقبله الذوق العصري. وهذا مثل واحد، وغيره كثير.

وما احسبنا إلا متفقين على ضرورة المحافظة على سلامة التعبير العربي، وقبول ما يوفق في وضعه من الأسماء للمسميات الحديثة، بطريق وجود الاسم في اللغة، أو بالاشتقاق أو النحت أو التعريب، ومن التوفيق في وضع الاسم أن تقبله الأذواق، ولا يكفى إقرار المجمع إياه. والمشكلة فيما عدا ذلك من الأسماء الأجنبية، أفنقبلها كما هي. . . أم ماذا نصنع؟

الفكاهة فن:

ألقى الدكتور إبراهيم ناجى محاضرة موضوعها (سيكولوجية الفكاهة) بنادي جماعة العمل الوطني الاجتماعي يوم السبت الماضي. وقد شرح في هذه المحاضرة علاقة الضحك بالغريزة، ثم تطرق إلى العلاقة بين الفكاهة والفن ذاهباً إلى أنها لون من ألوانه، وقال إن هذا الرأي خاص به، لأنه لم يجده فيما لديه من المراجع السيكولوجية والفلسفية، ثم دلل على أن الفكاهة فن يبيان المشابه بينهما فقال: إن الفن مشتق من العاطفة مباشرة والفكاهة كذلك، وقد يلونه الفكر كما يلون الفكاهة الراقية. والفن عند علماء النفس لعب بالانفعالات، أو هو طاقة حيوية فائضة، ولذلك يتبع من غريزة غنية بالعاطفة، ولا يمكن أن تنتجه الغريزة الضحلة، كذلك الفكاهة الفكرية الراقية لا يمكن أن يجئ بها إلا الأذكياء، ولا يدركها بسرعة إلا الأذكياء. ويتفق الفن مع الفكاهة في أن كليهما متعة وسرور، وفي أنهما لا يهدفان إلى غاية اجتماعية ظاهرة، وأن التهذيب بوساطتهما ناشئ من طبيعتهما الاجتماعية. ويرجع السبب في أن عباقرة الفن ممن يجيدون الفكاهة أدباً أو تصويراً، إلى أن الفكاهة

ص: 46

والفن من معين واحد، وأكاد أقول إن الكاتب الذي يجيد كتابة المأساة كشكسبير يجيد الفكاهة، لأن أعذب الفكاهة هو الذي يجئ بعد كبت ومرارة كرد فعل. . .

والنكتة البارعة سرها في حل مسألة أو مشكلة، أو في وصف شئ بقول مبتكر سريع غير منتظر، وهذا يشبه اللفتة الذهنية البارعة في الفن الأدبي كالاستعارة التي ترمي إلى وجه شبه بعيد، أو تناقض غير منتظر.

ثم ختم الدكتور ناجي محاضرته بقوله: يلاحظ أن الفكاهة في الأدب العربي القديم كانت تكثر عن الطفيليين والمتسولين، وهذا لون لا نراه الآن كثيراً. وكذلك تكثر في الأدب العربي الفكاهة باللعب اللفظي، ولا يزال هذا شائعاً.

فن مصري:

الفكاهة باللعب اللفظي فن مصري، نشأ على ألسنة الشعراء والأدباء في العهد الأيوبي وكثر فيما بعده، ولا يزال شائعاً في فكآهاتنا العصرية كما يقول الدكتور ناجي، وأكثر ما يكون ذلك بالتورية والتجنيس. وكان من أسبق فرسانه الشاعر المصري أبو الحسين الجزار، قال في زوج أبيه:

وقائل قال: ما سنها؟

فقلت: ما في فمها سن

وقال على لسان طبيب عيون:

يا سائلي عن حرفتي في الورى

واضيعتي فيهم وإفلاسي

ما حال من درهم إنفاقه

يأخذه من أعين الناس

ومما يستملح ذكره في هذا المجال أن الأستاذ العقاد كتب إلى شاعر يسكن بشارع العجم في مصر هكذا:

(إلى شاعر العرب في شاعر العجم)

ولست أدري هل يكون (المرسل إليه) شاعر العرب إذا خرج من شارع العجم؟!.

الأدب والفن في قسم حلوان:

(وبتفتيش المشتبه فيه وجدنا معه أوراقاً فيها شعر وموضوعات أدبية).

هذه فقرة من محضر التحري الذي عمل لي في قسم بوليس حلوان، و (المشتبه فيه) هو

ص: 47

أنا، والذي حامت شبهته حولي شرطي ذكي ألمعي. . . رآني بحديقة الفندق المجاور لعين حلوان وأنا منهمك في الكتابة، ثم رآني أغادر الفندق إلى مبنى المياه المعدنية، وقد عرجت عليها في طريقي إلى المحطة حوالي الساعة الحادية عشرة مساء، فظن بي الظن كأن لم ير ولم يسمع! ورآها فرصة مواتية لإظهار الكفاية والبراعة، فلا بد أني وضعت قنبلة في مكان من هذه البقعة، وعما قليل تنفجر، وهذا هو ملقيها!.

ولم يكن بد من الذهاب إلى قسم حلوان. وقال الضابط للشرطي الخارق الذكاء: وكل من تراه خارجاً من القهوة تأتي به؟! ولكن هذا لم يمنع الضابط من أن يتمم ما بدأه الشرطي. . . فسألني وأجبت، فقال لي:(وحضرتك لازم تتفلسف وتكتب مقالات!! وريني اللي كنت بتكتبه. . .) وجعل الضابط يقرأ صامتاً، وأنا أرجو أن أكسب قارئاً جديداً. ولم يخب رجائي فقد تفضل وأذن لي بالجلوس على كرسي بجواره. . . ولكن (محضر التحري) لا بد منه. وهذا يقضي بحجزي في القسم حتى يثبت لهم أن (التفلسف وكتابة المقالات) لا ينطويان على خطر. . . وتذكرت صديقي الأستاذ سيد قطب فهو من سكان حلوان، فاستنجدت به، فأسرع إلى في القسم، ولو لاه لبت، وبات معي الأدب والفن، في قسم حلوان. وتركت الصديق الكريم في القسم يتمم معهم (إجراء اللازم) وعدوت إلى المحطة لألحق بآخر قطار من حلوان في منتصف الساعة الثانية صباحاً.

ولم آسف أكثر مما أسفت لذهاب نشاط البوليس في اعتقالي هباء. . . ألم يكن من المحتمل أن يكون مكاني (عنصر خطر) ولكن لا بأس، وأرجو لهم حظاً أحسن في غير هذه المرة.

عباس خضر

ص: 48

‌البَريدُ الأدَبيّ

زعماء الإصلاح في العصر الحديث:

نشر الأستاذ الفاضل محمد خليفة التونسي في العدد 788 من الرسالة الغراء كلمة عن كتاب (زعماء الإصلاح في العصر الحديث تأليف الأستاذ الجليل أحمد أمين بك، وإنه لواجب عليَّ أن أقول كلمة صغيرة أعقب بها على النقد لعلها تبين شيئاً من أمر هذا الكتاب وإخراجه وتسميته.

لما أخذ الأستاذ الجليل أحمد أمين بك في دراسة بعض الشخصيات

الإسلامية الكبيرة في مجلة الثقافة الغراء حوالي سنة 1944 وما بعدها

جعل عنوان دراسته (زعماء الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع

عشر) فراقتني هذه الدراسة القيمة، لأن هذا الجيل لا يعلم من أمر

هؤلاء المصلحين إلا قليلا، بل لا يكاد يدري من أمر إصلاحهم شيئاً،

ولكني خشيت أن لا تتناول هذه الدراسة أمثال الأستاذ الإمام محمد

عبده والسيد عبد الرحمن الكواكبي وغيرهما ممن قضوا نحبهم في

القرن العشرين. وما دام الأستاذ المؤلف قد درس شخصية السيد جمال

الدين الأفغاني فلا بد له من أن يدرس شخصية الأستاذ الإمام محمد

عبده لأنه تلميذه الأول وخليفته في الإصلاح الديني والفكري في الشرق

كله وفي عنق كل مسلم وكل مفكر في هذا العصر دين كبير لهذين

المصلحين العظيمين.

من أجل ذلك كله رأيت أن أقترح على الأستاذ الجليل أحمد

أمين بك أن يوسع من أفق بحثه حتى يشمل من ذكرنا، ولا

بأس من أن يجعل عنوان هذا البحث (زعماء الإصلاح

ص: 49

الإسلامي في العصر الحديث) وأن يجرد هذه الفصول ليبني

منها كتاباً برأسه ينتفع هذا الجيل منه، ويكون له أسوة حسنة

فيه وأرسلت بما رأيت كتاباً إلى حضرته، فتفضل حفظه الله

وبعث إليَّ بجواب مؤرَّخ 1944624 هذه صورته:

حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو رية

سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكركم على خطابكم، وسآخذ برأيكم في تسمية البحث، زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، وأضم إليه بعض الأشخاص التي أشرتم إليها، والسلام عليكم ورحمة الله.

أحمد أمين

وما لبث حضرته - بعد هذا الخطاب - أن غير عنوان البحث في مجلة الثقافة الغراء، فجعله:(زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث) وظل يكتب بحثه إلى أن فرغ من بحثه فيما كتب عنهم، وكأنه عندما أراد أن يخرج هذه البحوث كتاباً اختصر هذا العنوان فجعله: زعماء الإصلاح في العصر الحديث.

هذا ما رأيت أن أعقب به على ما كتب الأستاذ الفاضل التونسي لأبين للناس ما أعرفه من إخراج هذا الكتاب وتسميته.

ولو أن الأستاذ الجليل أحمد أمين بك قد أراد أن يدرس شخصياته دراسة (بيوجغرافية) كما يريد الأستاذ التونسي لما أعجزه ذلك، بل لكان عليه هيناً، ولكن كيف يتبع هذه الطريقة في الترجمة عشرة من الزعماء - أو عشرين كما يريد الأستاذ التونسي - ثم يخرج هذه التراجم كلها في مجلد واحد!.

ولعل الأستاذ التونسي بعد أن يطلع على كلمتنا هذه أن يغير رأيه في هذا الكتاب القيم وينظر إلى قيمته في نفسه وأثره النافع عند قاريئه، وهو جد عليم بأن مجال البحث في دراسة هذه الشخصيات وغيرها لا يزال واسعاً لكل من يشاء أن يدرسها بما يحسن من طرائق وأساليب، ويعلم كذلك أن التاريخ نهم لا يشبع، وهو في حاجة دائمة إلى دراسات

ص: 50

مختلفة لشخصيات العلماء وأعلام الفكر والإصلاح.

على أن الذي نأخذه على الأستاذ التونسي هو تنقيبه على تلك الهنات الصغيرة التي أوردها، لأن مثل هذه الهنات مما لا يكاد يخلو منه قلم كاتب، وهو نفسه قد زل قلمه ووقع فيما انتقد فيه غيره، وإلا فما رأيه في كلمة (مبرر) التي استعملها في معنى مسوغ وهي كلمة عامية، ثم هل يرضيه أن يجُمع (معجم) على (معاجم)؟

ونكتفي بهذا القدر، وللأستاذ منا خالص التحية.

محمود أبو رية

تحية كريمة:

أرسل الأديب الألباني الأستاذ وهبي إسماعيل حقي كتابه الجديد (المهد الذهبي) إلى أمير القصة المصرية صاحب العزة محمود بك تيمور وقد تفضل وأرسل عزته إليه الخطاب الآتي:

عزيزي الفاضل الأستاذ وهبي إسماعيل حقي

تلقيت هديتكم القيمة (المهد الذهبي) وقصص أخرى من الأدب الألباني. وإنها لمجموعة طريفة تجلو لنا في صدق ووضوح أغوار النفس الألبانية وحياة المجتمع. وإني شاكر لكم أجل الشكر إذ أتحتم لي الفرصة لأن أستمتع بذلك اللون الجديد من الأدب الشرقي، وأرجو لجهادكم الطيب كل توفيق ونجاح.

وإني مقدر لمجهودكم الطيب في توطيد أواصر الود والولاء بين القطرين الشقيقين راجيا لكم حسن التوفيق ومطرد النجاح وتقبلوا خالص مودتي واحترامي.

المخلص محمود تيمور

1 -

تواريخ القدس:

ذكرني مقال الأستاذ أحمد رمزي بك في عدد سابق من (الرسالة) بناحية من نواحي عناية المسلمين ببيت المقدس، وهي كثرة التأليف في تاريخه. من ذلك ما جاء في كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 124): جمع تاريخ بيت المقدس وفضائله الحافظ أبو القاسم مكي بن عبد السلام بن الرميلي المقدس، وفضائله أبو بكر محمد بن أحمد بن

ص: 51

محمد الواسطي الخطيب والصلاح خليل العلائي، وللعماد الاصبهاني الفتح القدسي، وللحافظ أبي بكر بن المحب من نزل بيت المقدس، وللبرهان بن الفوكاح الفزاري باعت النفوس على زيارة القدس المحروس.

ومن الكتب المؤلفة في ذلك أيضاً: تاريخ القدس لمحمد بن محمود بن اسحاق القدسي، والجامع المستقصي في فضائل المسجد الأقصى، ومثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، وإتحاف الاخصا بضائل المسجد الأقصى لابن أبي شريف، والروض المغرس في فضائل بيت المقدس للتاج الحسيني، ولطائف أنس الجليل في تحاتف القدس والخليل لمصطفى اللقيمي، والأنس الجليل.

2 -

إنباء الغمر بأنباء العمر:

تكرر كثيراً في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق وغيرها اسم (إنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر العسقلاني) بتقديم الباء على النون. والصواب (إنباء الغمر بأنباء العمر) بتقديم النون على الباء، لأن الكتاب يذكر فيه مؤلفه الأنباء التي دفعت في زمنه، ثم يسرد أسماء المتوفين في كل سنة. وللمؤلف كتاب خاص بأبناء عصره اسمه (الدار الكامنة). وقد جاء اسم الكتاب صحيحاً في (فهارس الكتب المصرية).

محمد أسامة عليبة

لا تسألوا عن أشياء أيضاً:

كنت أحسب أن الآيتين الكريمتين: (وما أَنزل الرحمنُ من شئ إِن أنتم إلا تكذبون)، (وقلنا ما نزَّل الله من شئ إِن أَنتم إلا في ضلالٍ كبير). فيهما وحدهما الرد على أستاذنا الكبير البشبيشي في الرأي الجديد الذي أرتاه في صرف كلمة أشياء الممنوعة من الصرف بإجماع الآراء - فإذا بالأستاذ يقول في العدد 789 من الرسالة الغراء (ولا وجه للقياس على توالى المقطعين بتكرار (إن) في قوله: من شئ إن أنتم. . . إذ من الممكن بل من الحسن الوقف على كلمة شئ في الآيتين. .)

وإذا كانت همزة شئ مسبوقة بحرف لين صامت، وهمزة أشياء مسبوقة بحرف مد صاعد، فالأخف والأسهل نطقاً وذوقاً حرف المدِّ لا حرف العلة مما يسيغ تنوين همزة أشياء لو حاز

ص: 52

فيها التنوين ولم يرد ذلك في آية: لا تسألوا عن أشياءَ، وعن إمكان ذلك لو صح تنوينها - فلا وجه لشبهة من ثقل أو تنافر وتبقى الكلمة كما كانت ممنوعة من الصرف في القرآن وفى غير القرآن.

ولما كان الأستاذ البشبيشي لم يورد لها استعمالاً مصروفاً في القرآن أو في الحديث أو في الشعر القديم أو في النثر المعتمد فأنا ما أزال أقول (ولا يقال: أنالا أزال أقول كما قال الأستاذ إلا في الدعاء كفة لذي الرمة: ولا زال منهلاًّ بجرعائك الفطر) ما أزال أقول إنَّ الكلمة ممنوعة من الصرف لأحد الأسباب الكثيرة المعروفة التي أثقلت كواهل النحويين في الكتب وإفهام الطلبة في المدارس، فهل يريد أستاذنا البشبيشي أن يزيدها سبباً جديداً. . .؟

أحمد أحمد العجمي

ص: 53

‌القصص

من الأدب الروسي:

شجرة عيد الميلاد

للكاتب القصصي تيودورد وستويفسكي

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

أنا كاتب قصصي، وأعتقد أنني كتبت هذه القصة. أقول (أعتقد) مع علمي التام بأنها من إبداع قلمي. ولكني مع ذلك على يقين بأنها قد حدثت فعلا في مكان ما في زمن ما، وقعت في بلدة كبيرة ذات ليلة من ليالي عيد الميلاد الشديدة القر.

إني أتخيل غلاماً، صبياً صغيراً، له من العمر ست سنوات أو أقل. استيقظ من مرقده في قبو رطب بارد، وكان يرتدي جلباباً قصيراً ويرتجف من لفحات القر، وتخرج من فمه مع زفيره سحابة بيضاء من البخار وهو قابع على صندوق في ركن من أركان القبو، يراقبها تتصاعد في الجو مبتعدة عنه.

كان يشعر بالجوع يلوي أحشاءه. وكم ذهب العديد من المرات في صباح ذلك اليوم إلى الفراش العاري الذي ترقد عليه والدته العليلة، ذلك الفراش ذو الحشية الرقيقة المهلهلة والوسادة أشبه ما تكون بالأسمال.

ما الذي أوجدها هنا؟ لعلها قدمت مع ولدها من بلدة أخرى ثم دهمها المرض فجأة. كانت صاحبة الدار قد قبض عليها منذ يومين وأودعت السجن. ورحل معظم السكان لاقتراب العيد ولم يبق في الدار إلا من ثمل دون أن ينتظر عيد الميلاد، وعجوز في سن الثمانين رقدت في أحد الأركان تتأوه وتتوجع من آلام (الروماتزم) وتعنف الصبي وتبدي تذمرها منه فيخشى الاقتراب منها.

كان في وسعه أن يحصل على ما يروي ظمأه من الغرفة المجاورة، ولكنه لا يجد كسرة من الخبز يسد بها رمقه وكم قاسى من ذلك الجوع الذي كان يدفعه إلى محاولة إيقاظ والدته عشرات المرات. وشعر أخير بالخوف ينتابه الخوف من الظلام. كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يكن عنده ما يستضئ به، ولمس وجه والدته فلم تبد أي حراك. كانت باردة

ص: 54

برودة الحائط. فجعل يخاطب نفسه قائلا (إن الجو بلا شك بارد جداً) ووقف لحظة، وبدون أن يشعر، وضع يده على كتفي والدته، ثم نفخ في أصابعه يدفئها، ثم جعل يبحث على قلنسوته فوق الفراش، وأخيراً خرج من القبو.

لقد كان يود أن يخرج مبكراً، لولا فزعه من الكلب الكبير الرابض عند باب الجيران. ونظر، فلم ير للكلب أثراً، فتابع سيره لا يلوي على شيء.

فليرحمنا الله. يا لها من بلدة! إنه لم ير مثلها من قبل. حقاً إنها لم تكن كبلدته. كان الليل حالك الظلام، ولم يكن في الطريق سوى مصباح واحد. وتوارى الناس في ديارهم، فلم يسمع إلا نباح الكلاب، مئات بل آلاف منها تنبح وتعوي طوال الليل. ولكنه كان في بلدته يستشعر الدفء ويجد ما يقتاب به. أما هنا. . . آه لو استطاع أن يجد ما يأكله. يا لها من جلبة وضوضاء! ويا لها من إضاءة! ويا لهؤلاء القوم وتلك المركبات، وهذا الصقيع! كان البخار يتصاعد في سعب من أفواه الجياد، وكانت حوافرها تصطدم في سيرها بالأحجار المغطاة بالثلوج المتراكمة. كم هو في حاجة إلى ما يسد غائلة جوعه. . . ولم يشعر الآن بالتعاسة. واقترب منه شرطي فتنكب طريقه وابتعد عنه.

ها هو ذا طريق آخر، وما أوسعه من طريق. كان الناس غادين رائحين، يصيحون ويهرولون ويندفعون والضوء! ذلك الضوء! ولكن. . ما هذا؟ إنها نافذة زجاجية كبيرة. ونظر خلالها فرأى شجرة طويلة من أشجار عيد الميلاد ممتدة حتى السقف، وقد تدلت منها مصابيح وأوراق مذهبة وتفاح ودمى صغيرة وجياد. وكان الأطفال في ملابسهم القشيبة يلهون ويمرحون، ويأكلون ويشربون. ثم ابتدأت فتاة ترقص مع أحد الصبية. وانسابت إلى أذنيه نغمات الموسيقى. ونظر وتعجب ثم ضحك. كانت أطرافه تؤلمه من البرد وأصابعه حمراء متصلبة، توجعه إذا ما حركها. وعندما تذكر ذلك، طفق يبكي، ثم عدا حتى انتهى به المطاف إلى نافذة أخرى شاهد من ورائها شجرة ثانية، ومنضدة حافلة بمختلف الحلوى وقد جلس حولها ثلاث سيدات يوزعن الحلوى على كل من يقصدنهن. وظل باب الدار مفتوحاً يدخله الكثيرون من الرجال والسيدات وزحف الصبي، ودفع الباب، ثم دلف إلى الغرفة. لقد صاحوا فيه ودفعوا به إلى الخارج. وأقبلت عليه سيدة تهرول ودستْ في يده قطعة من النقود، ثم فتحت له الباب ودفعته دفعاً إلى الطريق.

ص: 55

وسقطت قطعة النقود منه، ورن رنينها على الأرض. ولكنه لم يستطع قبض أصابعه الحمراء لالتقاطها. وجرى مبتعداً، وطفق يعدو إلى حيث لا يعلم. وكاد يبكي مرة أخرى. كان خائفاً مرتعباً، واستمر يعدو وينفخ في أصابعه، يائساً، وحيداً جزعاً. ولكن. . . ما الخبر؟ كان الناس محتشدين أمام زجاج نافذة وقد ظهرت على محياهم علامات الإعجاب لرؤيتهم ثلاث دمى صغيرة تتحرك وكأنما قد دبت فيها الحياة. كانت الأولى تمثل رجلا عجوزاً جالساً يعزف على كمان كبير، والدميتان الأخرتان واقفتان تعزفان على كمانين صغيرين وتحنيان رأسيهما ثم تحيي كل منهما الأخرى. وكانت شفتاهما تتحركان كما لو كانتا تتحدثان.

ظن الصبي بادئ الأمر أنها حية. ولكنه عندما استبان له أنها ليست إلا دمى، ضحك وتهلل. أنه لم يشاهد مثلها من قبل، ولم تكن تخطر له ببال. وألهاه ذلك المنظر عن شعور البكاء الذي انتابه. ثم شعر بمن يجذبه من ردائه، فالتفت خلفه فرأى غلاماً يلطمه على أم رأسه، ثم اختطف منه قلنسوته، ثم ألقاه على الأرض، فسقط الصبي مرتعباً، ولكنه سرعان ما هب واقفا وعدا مبتعداً عن النافذة وقد وجف قلبه فزعا، وطفق يعدو دون أن يدري إلى أين يذهب، حتى وصل إلى باب ساحة، فدلف إليها وتهالك على كومة من الأخشاب وهو يخاطب نفسه (إنهم لن يبحثوا عني هنا، في ذلك الظلام المدلهم).

وجلس منطوياً على نفسه، مبهور الأنفاس. ثم شعر فجأة بالسعادة تغمره، وزال الألم من أصابعه واستشعر الدفء وكأنه قرب موقد. فارتجف وصاح (عجباً! لا بد أني أحلم! كم هو لذيذ أن ينام المرء هنا. سأرقد قليلا ثم أعود بعد ذلك لمشاهدة الدمى (وابتسم وهو يفكر فيها، وقد تمثلت في خاطره كأنها مخلوقات حية. وسمع صوتاً حنوناً يهتف في أذنه قائلا (تعال إلى شجرتي. شجرة عيد الميلاد أيها الطفل).

وظن الصبي أنها والدته هي التي تهمس في أذنه. ولكن. لا. إنها لم تكن والدته. من الذي يناديه؟ ولم يجرؤ على النظر إليها عندما انحنت فوقه تحتضنه في الظلام. ومد يده إليها. وفجأة. . . يا إلهي. ما هذا الضوء الباهر؟ وما أجمل هذه الشجرة! أين هو الآن؟ كان في مكان جميل كثير الدمى. ولكن. . . كلا إنها لم تكن دمى، بل كانوا أولاداً نضرين في حلل قشيبة وقد تهللت وجوههم بشراً. وأقبلوا عليه من كل صوب يحيطون به ويقبلونه. وشاهد

ص: 56

والدته تنظر إليه وقد أشرقت على شفتيها ابتسامة فياضة، فصاح قائلا (أماه، أماه، ما أجمل أن يعيش المرء هنا!) وجعل يقبل الأولاد، وود أن يخبرهم عن الدمى التي شاهدها. وجعل يسألهم (من أنتم؟ من أنتم؟) وهو يشاركهم الضحك معجباً بهم. فأجابوه (هذه شجرة عيد ميلاد المسيح، شجرته الخاصة، وهبها للأطفال الذين لا يملكون مثلها).

كانوا أطفالا حالهم مثل حاله. فمنهم من تجمد برداً في السلال التي تركهم ذووهم فيها على عتبات الديار. ومنهم من لقي حتفه خنقاً خشية العار. ومنهم من مات على ثدي والدته الجائعة والآخرون دهمهم الموت من فساد هواء المكان الذي كانوا يعيشون فيه. ومع ذلك. . كانوا كلهم مجتمعين هنا كالملائكة حول المسيح. وكان المسيح يتوسطهم ويمد يده إليهم يباركهم وأمهاتهم قد فاضت دموعهن. وكانت كل من تعرفت بولدها تندفع إليه في شوق تقبله فيمسح عبراتها بيديه الصغيرتين، متوسلا إليها ألا تبكي. كانت تغمرهم السعادة. . السعادة الحقة.

وانبثق نور الفجر، عندما وجد حمال جثة الصبي متجمدة الأطراف من شدة القر، راقدة على كومة الأخشاب.

وبحثو عن والدته. كانت قد سبقته إلى العالم الآخر. لقد تقابلا أمام الله في السماء.

لست أدري لماذا كتبت هذه القصة التي لا تجري في أسلوبها مع مذكرات عادية أو مؤلفات كاتب. ولكن كل ما أدريه أني ما زلت على يقين بأنها ليست وليدة الخيال، وإنما وقعت فعلا، وإنه قد حدث ما حدث في ذلك القبر وكومة الأخشاب هناك.

أما عن شجرة المسيح، فلا أستطيع أن أجزم هل هي حقاً في علم الوجود أم أنها من نسيج خيالي.

(الإسكندرية)

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 57