الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 792
- بتاريخ: 06 - 09 - 1948
أنقذوا اللاجئين أولا!
للأستاذ نقولا الحداد
يا للعار!. . . عدد العرب في الممالك العربية السبع يناهز الأربعين مليوناً، وعدد اليهود في فلسطين لا يتجاوز ثلاثة أرباع المليون! أفليس عجيباً أن اليهود يطردون نحو نصف عرب فلسطين من بلادهم في حين كان العرب يتحفزون لطرح اليهود في بحر الروم!.
أو ليس مخجلاً أن يفر أطفال عرب فلسطين ونساؤهم وشيوخهم من أمام فصيلة الحيوانات الشرسة الطاغية، ورجال العرب لا يقفون في وجه هذه الفصيلة المتوحشة لكي يردوا طغيانها عن الأطفال والنساء؟!.
يعتذر العرب بأن الانتداب الإنكليزي المشؤوم حال دون الجنود العرب بحجة أن الانتداب كفيل بحفظ الأمن، فهو الذي كان مسؤولا عن طغيان اليهود، ولكن إذا كان هذا الانتداب لم يستطع حماية الإنكليز أنفسهم فهل يحمى العرب؟ لم يكترث اليهود بقوة الانتداب ولا بقوة الانتداب ولا بقوة جنوده التسعين ألفاً، فكانوا يعتدون على الإنكليز والعرب على السواء، وكان الإنكليز المتكفلون بحفظ الأمن يستخذون المرة بعد المرة!.
فلماذا كان العرب يتهيبون قوة الانتداب؟ ماذا كان يحدث لو هب الجنود العرب لحماية الأطفال والنساء غير مبالين بالقوات الإنكليزية كما كان يفعل اليهود؟ فهل كان الإنكليز يرتدون عليهم ويقاتلونهم وثمت يظهر تحيزهم واضحاً؟ وهب أن التسعين ألف جندي إنكليزي غلبوا العرب، أفليس هذا أشرف من أن يذلوا اليهود؟!.
دعنا من هذا التثريب فيما مضى، نحن الآن أمام كارثة قد تكون أفظع من كارثة ضياع فلسطين: إن ثلاثة أرباع مليون مشردون لاجئون إلى إخوانهم في الممالك العربية السبع!.
حكومة شرقي الأردن تقدم كل يوم 2200 جنيه أي 66 ألف جنيه كل شهر وهي أصغر الدول العربية، فإذا كانت كل دولة تبذل مثل هذا المبلغ بنسبة عدد أهلها كان في وسعها أن تقدم في الشهر 5 ، 280 ، 000، ونحن لا نريد أكثر من ثلث هذا المبلغ، فأين النخوة العربية التي (كلما دق الكوز بالجرة) تبجحنا بذكرها وفاخرنا جميع أمم الأرض بها.
عندنا مئات المليونيين في مصر والشام والعراق الخ، فإذا كان هؤلاء يوفون الزكاة التي بدون وفائها لا يكون المسلم مسلماً أمكنهم أن يجمعوا كل شهر القيمة المطلوبة ضعفين أو
ثلاثة. . . فأين أنتم أيها المؤمنون توفون دينكم لله؟ وإلا فأنتم منكرو نعمة الله!
إن بترول الحجاز والعراق والبحرين ليس لأهل العراق ولا لأهل الحجاز ولا لأهل البحرين، إنما هو ملك الله، لأنهم لم يزرعوه حتى يستغلوه، ولا صنعوه حتى يتاجروا به، فيجب عليهم أن يدفعوا ضريبة ثقيلة عليه الله!!.
يجب أن نحاسبهم، أو أن الله يحاسبهم، وحسابه صعب جداً!.
أو ليس عاراً أن ننتظر من الجنرال جلوب والمستر سبيرز وغيرهما من أنصار العرب أن يتسوّلوا لكم مائة أو بضع مئين من الجنيهات وهي (لا تقيم حجة ولا تقلي عجة) في إغاثة المنكوبين؟ ألا تكفيهم هذه النجدة أسبوعاً أو أسبوعين؟ وبعد ذلك بمن يلوذون؟ أبكم أو بالموت؟؟!!.
أتستسيغون أن تحذوا حذو اليهود في أمريكا وهم أغنى أغنيائها حتى كانوا يتسولون المال من نصائرها بلا خجل ولا حياء، حتى جمعوا من هذا التسول نحو 172 مليون ريال. ولما سئل عميدهم أين يذهب هذا المال؟ قال 42 بالمائة منه يذهب إلى فلسطين، والباقي إلى منكوبي اليهود في أوربا.
فبغت ذلك النصراني الذي كان قائماً بجمع المال لهذا الغرض الذي يسميه إنسانياً، وما شعر إلا حينئذ أن اليهود لا يقدرون هذا العمل الإنساني، بل يحسبونه ربحاً جزاء الحيلة التي احتالوها على ذلك الرجل الإنساني لكي يحض إخوانه النصارى على هذا العمل الإنساني. فأجاب: لا. لا. هل أنا أجمع المال لكي ينفقه اليهود في حرب العرب، أم لكي ينفق على المتشردين اليهود! هنا أكف عن هذا المسعى. السلام عليك.
عار يا قوم وأي عار أن تتدفق خزائنكم بالأموال وأنتم ناعموا البال، ثم تصموا آذانكم عن صراخ إخوانكم وتغضوا أبصاركم عن شقائهم!!.
يا ناس! إن إنقاذ اللاجئين أهم من إنقاذ فلسطين الآن! فلتهتز أريحيتكم ولتتحرك عواطفكم قبل أن تبتلوا بما ابتلي به إخوانكم عن يد يهود فلسطين أنفسهم! المصيبة مصيبتكم! والويل ويلكم! أما أحسستم بالألم والشقاء؟ أم أن أعصابكم مخدرة؟ أم أن عقولكم سكرى؟ أم أنتم في غيبوبة؟ أم في سكرة الموت أو حشر جته؟!.
وأما الجامعة العربية الموقرة. . . فحتى متى تصبر على مراوغة برنادوت والوقت يأكل
من لحم فلسطين ويمتص من دمها. . . بل ينهم من مهج العرب أجمعين، وكل يوم يقولون لنا إن اليهود خرقوا الهدنة 18 مرة. . . فحتى متى أنتم صابرون؟!.
إن هذا الصبر مضيع القدس أولا، ثم فلسطين ثانياً، ثم البلاد العربية كلها آخراً. . . أفما تحسون؟!.
كفى تواكلا وتماهلا وتخاذلا! إن الله يرذل المتخاذلين!.
إن إنقاذ اللاجئين قبل إنقاذ فلسطين! أيمكن ألا يكون هذا ولا ذاك؟!.
نقولا الحداد
طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
- 1 -
لقد أخذ الشرق العربي يتخوف من الدول الغربية الكبرى وأخذ يشك في قيم حضارتها المادية، بعد أن خانت عهودها معه، وسخرت من عواطفه القومية، وداست على رغباته في الرقى والتقدم ويود اليوم كل عربي استكان في فترة من الزمن لثقافة الغرب ومدينته، ورضى أن يعتمد عليها في حياته المادية والمعنوية، أن يغير نظرته إلى الغرب، ويفكر في الاستغناء عنه في كل شئ. ولقد سبق طاغور وغاندي العالم العربي في هذه المشاعر، بعد أن عانت الهند ما عانت من الاستعمار الإنجليزي. فوهب طاغور العالمي النزعة والتفكير، جميع طاقاته العقلية في سبيل وضع تصميم حديث للحياة الإنسانية، استوحاه من فكرة وحدة الوجود الهندوكية، ودمج فيه حضارات الشرق في حضارات الغرب، وجمع بين زبدهما الثقافي، وأراد به أن ينشئ عقلية عالمية تخلص من ناحية من مادية الغرب وأنانية شعبه وحبه للسيطرة وإمعانه في الإباحية التي تجعل استتباب الأمن ونشر السلام في العالم مستحيلاً، وتنشر التذمر والضيق في جميع البلدان. وتتحرر من ناحية أخرى مما علق بالحياة الهندية من تقاليد قديمة عرقلت نهضة الهند وعاقت تقدم شعبه؛ فإن التشاؤم واحتقار الحياة وتحاشى الانغماس فيها، قضى على نشاط الهنود المادي، وأدى إلى تأخرهم في مختلف نواحي النشاط الإنساني، فأنتج نتاجاً فكرياً روحياً إنسانياً عالمياً، يخلو من شوائب الحضارات الهندية وضلالات الحضارات الغربية، ومن نقائض المدنيات القديمة والحديثة والمعاصرة جميعاً، وتدعمه الأصول الروحية، ويرفع من صرح الأخلاق والفضيلة والدين، ويعطى للعلم والفن والعمل قيمة جليلة في الحياة البشرية. بينما هب غاندي الزعيم الوطني، يجاهد في سبيل حرية الوطن بسلاح معنوي استلهمه من فكرة الحب والتسامح التي تكاد تنادى جميع كتب الهند الدينية بضرورة اتباعها؛ واستغلها بدهائه الروحي في مقاومة الاستعمار البريطاني في الهند، واتخذ من المقاومة السلبية التي أقامها على اللين وعدم الانتقام، سبيلاً دينياً لإشعال الحمية الوطنية وتقوية الحماسة القومية، ونهجاً سياسياً يرد به للهند استقلالها، ويمنحها حريتها المسلوبة.
وقبل أن يحدد طاغور الهندي موقفه من حضارات الغرب والشرق، تأمل في تراث الحضارات الغربية القديمة فوجدها جميعاً قد نشأت بين جدران مدن أشادها الإنسان ليحمى نفسه من شر أخيه الإنسان، أو ليلقى حياته من هياج قوى الطبيعة. فمنعت هذه الجدران اتصال الشعوب بعضها ببعض، وعاقت اختلاط الثقافات وتمازجها، وقضت على تبادل الحب والمنفعة؛ كما حالت دون ائتلاف الإنسان بالطبيعة. فشب الغربي أنانياً، يوجه كل اهتمامه نحو نفسه، أو نحو بنى مدينته يفضلهم على القرباء عن وطنه الذين ينظر إليهم كمنافسين خطرين له ولأهله، يجب عليه أن يغتصب منهم كل ما يستطيع أن يغتصبه قبل أن يغتصبوا منه شيئاً مما يملك، ونشأ ساخطاً على الطبيعة، يخاف غضب قواها، ويتصورها عدواً له، يجب أن يحذره، ليحفظ كيانه من شدة تقلباتها، وليبعد خطر زوابعها عنه. فغرست هذه الحياة في نفوس الغربيين الأنانية وحب السيطرة، وصرفت نشاطهم إلى بسط نفوذهم على ما يحيط بهم من بلدان وشعوب، وصرفت أعمارهم لمكافحة الطبيعة والسيطرة عليها، ودفعتهم إلى أن يعتنوا عناية فائقة يشحذ مختلف مواهب الإنسان وملكاته سواء أكانت عقلية أم فنية، وبكسب مهارات صناعية، وقدرات يدوية لتساعدهم على محاربة الطبيعة، واستغلال الفقراء، وإذلال الشعوب الضعيفة. وكان ذلك كله سبباً في تفوق الغرب في العلوم والفنون، وعله تأسيسه حضارة استكملت نهضتها بتقدم البحث العلمى، وأختراع شتى الآلات الصناعية والأدوات الحربية التي تشهد بمقدرة الغربيين في الصناعة والحرب، وتدل على مهارتهم في توزيع مصنوعاتهم وترويجها في أسواق الأمم القريبة والبعيدة. فعادت عليهم بأرباح وفيرة وثروات طائلة أقنعتهم بأن تصريف أمور الحياة الأرضية لا تخضع إلا للمال. فآمن الغرب بأن المال هو الغاية القصوى، التي يجب أن يبذل الإنسان كل قواه في سبيل الإكثار منه، واعتبره الوثن الأوحد الجدير بالعبادة والتقديس.
فأعجب طاغور بنشاط الأمم الغربية، وقدر مساعيها الجليلة في تقدم العلوم والفنون، وسر من جدها الدائم في ترقية مستوى الحياة الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه سخط على أنانية الغرب وماديته، واشمأز من جربه القبيح وراء المال، واحتقر تفضيله الرذيل لبنى جنسه، وتقزز من استعماره المشين للشعوب الوديعة. لأن ذلك يخالف ما جبل عليه، ويغاير ما
تعود أن يعرفه عن الهند وما تعلمه من الهنود.
فلقد عاش أهالي الهند منذ القدم في غابات فسيحة غنية بشتى الغلات، فلم يجد الهندي صعوبة في العثور على طعامه وشرابه، وتيسر له بناء مساكن من أخشاب الأشجار، حمته من الحيوانات المفترسة، والطبيعة الهائجة. فتأثر الهنود بحياتهم الأولى في أرجاء غابات تحتوى على مختلف الخيرات، وتبلغ من الأتساع بحيث يمكنها أن تحتضن ملايين الناس، وتمدهم جميعاً بالطعام والشراب، وتوفر لهم المسكن. فنشأ الهندي منذ القدم لا يعرف الكد في البحث عن غذائه، ولا النصب في الحصول على مواد بناء مسكنه، لأن الغابات تضع كل ذلك في متناول يديه. فلم يشعر بعداوة الطبيعة، لأنها مهدت له سبل الحياة، كما لم يجد ضرورة لأن يمتلك أرضاً معينة، يقيم حولها حواجز وتخوما تقيها من طمع الآخرين، وتفصلها عما يمتلكه الغير، لأن كثرة ما في الغابات من خيرات متنوعة يسهل الحصول عليها، لم يدع أحداً يفكر في أن يخص نفسه بامتلاك شئ من دون بقية الناس، مادام كل شئ يحب أن يناله يمكن أن يفوز به بدون مشقة.
فلم يقف حائل بين الهندي والطبيعة فأحبها، وارتاح إلى الحياة في كنف حنانها، ودعا اتصاله الوثيق الدائم بها إلى ائتلافه بكل جزء من أجزائها، وإلى نجاة أفكاره من الرغبة الجامحة في بسط نفوذه على الطبيعة، أو امتلاك أرض يشيد حولها أسواراً خوفاً من أن يسطو عليها أخوه الهندي. ويعث جمال الطبيعة وتناسقها في نفسه شعوراً عميقاً بأن جميع مكونات الوجود في وحدة شاملة وأدراك أن كمال الإنسان في معرفة هذه الوحدة، وأيقن أن الطريق الوحيد الموصل إلى هذا الكمال، هو تلاشى فرديته في جميع محتويات الكون، أو بإدماجها في كل ما حوله من كائنات. فساقه هذا الشعور إلى أن يقصر حياته على تحقيق هذه الوحدة، واكتساب الوسائل الصالحة التي تساعده على إفناء ذاتيته في الوجود بأكمله. ولم يفكر قط في محاربة الطبيعة لأنه عرف أن الإنسان متحد بها، ولم يفكر قط في السيطرة على قواها، لأن أفكاره في اتحاد مع جميع الأشياء، ولأن قوى الإنسان متحدة مع قوى الطبيعة وأغراضه في الحياة تتفق وأغراض الطبيعة.
فتشبعت العقلية الهندية بحقيقة وحدة الوجود، وأصبح إدراك هذه الحقيقة الكبرى محور حياة قدماء الهنود، وموضوع دينهم، وغاية عبادتهم، وسبب سعادتهم القصوى. وأصبحت رغبة
الاتحاد بالله الذي يتجلى في مختلف أجزاء الوجود شاغلهم الشاغل؛ فانصرفت كل مشاعرهم وأعمالهم إلى العثور عن هذه الوحدة لأنهم لن يجدوا الراحة أو الأمن أو السلام، ولن يذهب عنهم الخوف والقلق والاضطراب والشك والحزن، ما لم يدركوا فكرة اتحاد الكون التي يتطلب وعياً صادقاً حياة فكرية منعزلة طاهرة، لا تؤثر فيها مشاغل الحياة.
فاختار زهاد الهنود أماكن نائية عن صخب الحياة الاجتماعية ومغريات مفاتنها، وتبدو فيها الطبيعة على قسط كبير من العظمة والجمال، حتى تبهر الفكر، وتغريه بهجرة الحياة، والتحرر من حدودها المادية الضيقة، والتخلص من ضروراتها الزائفة؛ وحتى تنبسط في ربوعها الروح، وتتلمس في كنف روعة الطبيعة وجمال تناسق أجزائها مكانتها في الوجود.
ولم يجد الهنود مكاناً أفضل من غابات الهند الطويلة العريضة التي توفر الاعتكاف على النجاة من مفاسد الحياة وتتحلى بجمال رائع متناسق؛ فلجئوا إليها يمقتون ذاتهم، وحولها إلى معابد متنقلة يأوي إليها الزهاد والحكماء، يستوحون من عظمتها وجمالها حقيقة الوجود الأولى، وينشدون من عزلتهم حبس جهودهم على الفوز بأكمل مراتب الحياة الروحية.
فهيأت العزلة الفكرية للهنود فرصا للغوص في عوالم من المعاني الروحية أنارت نفوسهم، وكشفت لهم عن مثل إنسانية، ومبادئ أخلاقية وقيم دينية، ودفعتهم إلى سلوك طرق فاضلة، وإتباع نُهج طاهرة، بينت للبشرية أن الهند بروحيتها أفادت الفكر الإنساني، وأضفت عليه قبساً من النور السماوي، وأضافت إلى الحضارات حضارة تسمو عليها جميعاً في الروحية، وهذا كسب عظيم للإنسانية يشرف الهند. إلا أن الهند يجريها الحثيث وراء الروح أهملت الحياة الأرضية إهمالا معيباً جعلها لم تبال بتنمية مواهبها الفكرية، أو إنضاج استعداداتها الفنية، لكي تكتسب ملكات عقلية ومهارات صناعية، تظهر بها تفوقها في ساحات السياسة والاقتصاد والحرب، وهي دعائم السيادة الحديثة. فلم تعتن بالعلوم التي هي أساس كل تقدم مادي أو نفوذ سياسي أو سطوة حربية، فنشأ الشعب الهندي غير متمرن على أساليب الحرب، لا يتقن وضع خطط الدفاع والهجوم فاستولى الطغاة على بلاده، واستعمروا وطنه. وشب غير مدرب على الفنون الاقتصادية، جاهلا السبل العبقرية في جمع المال بعيداً عن جبل السياسة الملتوية؛ فخدعه المستعمر، واستغل موارده الطبيعية لمصلحته الخاصة من دون الهند صاحبة الحق الأول في الاستفادة من هذه الموارد.
فعاب طاغور على الهنود جهلهم بمقومات الحياة العصرية، وأنبهم على نفورهم من مشاكل الحياة الاجتماعية، وحثهم على الاندماج في ميدان الحياة العامة، يؤدي كل منهم خدمات تعود على أهله أو الهند أو البشرية بالنفع والفائدة، ما دامت هذه الخدمات لا تخرج على تعاليم الدين أو تهدم قيم الأخلاق. ورغبهم في الاشتغال بالعلوم والفنون، ما دام الاشتغال بها لا يتعارض مع تطهير الروح، أو يعوق خلوصها من الدنس. بل إن العلوم والفنون والأعمال التي يواغثها فاضلة تقود إلى الفناء في الله، وتوصل إلى أعلى درجات الكمال الروحي، فيجب على الهند أن تقلع عن تمسكها بتقاليد قديمة بالية أو هنت من عزيمتها، وتترك جانباً النظرات التشاؤمية التي عاقت سعيها في أي إصلاح، وزعزعت ثقتها في الحياة الأرضية فمهدت لاستعمارها واستغلالها.
وبتحليل طاغور الدقيق للحضارات الهندية والغربية، كشف بذهنه الصافي عن أخطاء الحياة الدولية، وعن مدى تأخرها في الروحية؛ ولكي ينقذها مما هي فيه من فوضى وإثم حرض الهند على رفع مستوى حياتها المادية والفكرية في حدود الأصول الروحية حتى لا تكون فريسة سهلة الاقتناص من جهة، وحتى لا يتفشى فيها وباء المادية وأمراض الحياة الغربية من جهة أخرى؛ وبين للغرب أن الإنسان يمكنه أن يفكر، ويكشف القوانين، ويخترع مختلف الآلات، ويبتكر في الفنون والصناعات، ويحافظ في الوقت نفسه على الميول الخيرة في الطبيعة البشرية، ويكون روحياً غيريا محباً للإنسانية، ويتخذ من علمه وفنه وعمله وسائل متعددة للفناء في الله وفي مختلف أجزاء الوجود. فحول طاغور الأنانية إلى غيرية، وحب سيطرة إلى تعاون وتآلف وتحاب، وحول العلوم والفنون والأعمال إلى إضراب متنوعة من العبادة بأن جعل محراب العلم لا يقل طهارة عن محراب المعبد، وسما بقداسة الفن حتى عادلها بقداسة الدين، واتخذ من العمل المنتج الصالح صلاة ترفع بالإنسان إلى خالقه. واعتبرها جميعاً سبلا طيبة تعمل على بلوغ نمط من الرقي الروحي، ينمحي فيه شعور الفرد بشخصيته، ويغمره إحساس عذب بفناء روحه في ذات الله العليا، ويستولي عليه إدراك عميق بوحدانية الوجود.
وعلى هذه الصورة الرائعة طهر طاغور الفكر الإنساني من أشرار الأنانية، وحب السيطرة، ومن نقائض العزلة الفكرية، ومساوئ تجنب الحياة الاجتماعية والعملية، وأخطار
النظرات التشاؤمية. وجمع بين نبوغ الغرب في العلوم والفنون، وجده المستمر المتجدد في العمل، وبين عبقرية الشرق الروحية، وتعلقه الوطيد بالحب والتآلف، فوضع للإنسانية دستوراً شريفاً لو اتبعته لتذوقت طعم الراحة والسلام والأمن التي تحن إليها، وتحررت من كل ما ينغص عليها الحياة، وعاشت سعيدة في وئام، يشملها الحب والإيثار، ويضمها الخير والود، ويعلو من شأنها العلم والفن والعمل.
(للكلام بقية)
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات
رحلة إلى ديار الشام في القرن الثامن عشر (الثاني
عشر الهجري)
(الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية)
لمصطفى البكري الصديقي
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وفي أواخر شوال سنة 1129 شرع الشيخ في عمارة الخلوة التحتانية البيرمية، وساعد في عمارتها جناب عثمان باشا المهتدي، وصار الإخوان يجتمعون فيها للأوراد. وزار مقام النبي موسى بصحبة صديقه الشيخ محمد الخليلي، وجعل مقره في خلوة الشيخ يونس شيخ الحرم. وقبل العيد الكبير سار الوزير [رجب باشا] لملاقاة الحج. وبعد قدومه من ملاقاة الحج جاء البشير بإسناد منصب ولاية حلب لرجب باشا، فسر الشيخ، وقد توجه الوزير، وكان صديقاً للشيخ إلى حلب في شهر ربيع الأول. وفي ربيع الثاني عزم الشيخ على زيارة الخليل ومنها إلى غزة وعسقلان ووادي النمل ويختم بزيارة علي بن عليم العمري. وتوجه ومعه الشيخ محمد الموقت، والشيخ نور الدين الهواري والشيخ رضوان الزادي، ونزل دارا قريبة من الحرم وورد عليه الشيخ عبد الرحمن الخطيب والشيخ محمد الطرعاني والأخ محمد القميري صاحب الميقات وغيرهم. وكان الشيخ إبراهيم الدكاني ينشد لهم من قصيدة للشيخ عبد الغني النابلسي مطلعها:
أنت قيد الوجود إن غبت غابا
…
وإذا ما ظهرت كنت حجابا
وقصد زيارة عسقلان، فتوجه إلى بيت (جبرين) ونزل لدى علقتها، ومنها إلى (الفالوجة) وزار الشيخ أحمد الفالوجي، وسار نحو المجدل، وبات عند رجل معبَّد، يقال له ابن معبد، وأم عسقلان وزار شهداء المعركتين ووادي النمل، وأتى قرية (الحورة) وتوجه إلى قرية (حمامة) وزار الشيخ أبي عرقوب، وبايع عنده الشيخ يحيى المجدلاوي وابن أخيه، وسار في الليل وبات عند العرب والموالح، وسار إلى الرملة مدينة فلسطين، وصلى العصر في
جامعها الأبيض، ونوى أن يتعداها إلى (لد) وزار مقام سيدنا علي رضي الله عنه، كما زار الجبانة، وبات عند الصديق المسعود الأعلمي الشيخ أبي السعود الممدود العلمي، ثم توجه إلى قرية (عابود) ومنها إلى قرية (سلفيت) وبات بها، وتوجه في الضحوة إلى نابلس ونزل في التكية الدرويشية، وبلغه وهو فيها أن الشيخ محمد الخليلي ومعه النقيب السيد محب الدين يقصدان الشام للاجتماع بمتوليها قريباً جناب رجب باشا، للسلام. وكان قريبه الشيخ إبراهيم بن سعد الدين الجباوي قد وصل إلى نابلس بعد أن زار الخليل، فسلم عليه، ومن بني سعد الدين جدة جد الشيخ فهم أخواله، وبقي الشيخ في نابلس في التكية. وكان معمر الدرويشية سيفي أغا البكداشي الطريقة ذهب للديار الرومية، وأبقى مكانه شاباً اسمه أحمد. وممن زاره حسين بيك بن شرة، ودعاه لداره مع الأخوين السلفيتي والموقت فقبل دعوته. ودار بينه وبين الدرويش أحمد البكداشي حديث وقد أخبره الشيخ عن الشيخ عبد الغني النابلسي أنه قال بمناسبة حمل البكداشية للبوق وضربهم به في المساء والشروق، أنهم إنما يفعلون ذلك لتنفير الوحوش في المهمة الموحش المفروش، لأنهم يسيحون في المهاد فيحتاجونه لدفع أنكاد، فقال الشيخ نعم أنهم يضربونه لطرد وحوش الخواطر في مهمة القلب الموحش المفروش بغير العواطر. ثم إلى قرية (حجة) وأقام بها في خلوة الجامع المرتفعة مع إخوانه. ورأى عند الشيخ محمد شرح الجزائرية للشيخ قاسم الخاني ورأى بخطه قصيدة أبي مدين الغوث التي مطلعها:
ادرها لنا صرفاً ودع مزجها عنا
…
فأنا أناس لا نرى المزج مذ كنا
وسار نحو قرية (عزون) وبعد الأكل وشرب القهوة عاد إلى (حجة) وكتب منها مكتوبين للاخوان، وودع رفاقه، وتوجه إلى (المجدل) قرية من قرى بني صعب، وإذا بخيول تتجارى في سهول الغابة وانقشع الغبار عن سحابة، فقيل له أن تلك الخيمة الزاهرة اللامعة نصبت للوزير جناب رجب باشا أمير الحاج صديقه، فأراد الاجتماع به، وما تغبرت الأقدام حتى ارتفع ذلك الخام، فجد بالسير نحو (عيتل) وبات فيها عند الشيخ عبد الله المغربي، ثم توجه نحو قرية (الهويج) وكان قد عمرها الشيخ صالح بن الشيخ سهل، فرحب به، وأقام بها يومين، وكرر شر القهوتين، السوداء والبيضاء، ودعاه الشيخ قاسم أخو الشيخ صالح قرية (المغار) وزار جدهم رفيع المنار وبات فيها أربع ليال، ولم يزل يسير إلى أن وصل
قرية من قرايا مدينة صفد التي صفاها بالاندثار مصفد، فأنزله الأخ محمد عند صديق يقول له أسعد، فبات عنده ليلتين. ثم بات في قرية ملئت بالفرقة الدرزية عند رجل من أهل السنة وبكر منها إلى جنان (حاصبية) ومنها إلى كفر كوك الدبس، ومنها إلى كفر قوق الفستق، ومنها إلى حارة القبيبات، ونزل في دار المكارى للراحة، لا للبيات، ووصل دار صهره الشيخ إسماعيل التي جددها.
وكان قد نزل الخلوة بتوصية منه إلى صهره، جناب الصديق السيد محمد التافلاتي، مفتي القدس، والذي رافقه في طرابلس الشام. وجاءه للسلام وودعه في اليوم الرابع فانتقل الشيخ إلى الخلوة وأخذ بزيارة جدوده، لدى الشيخ أرسلان، والصالحية في دمشق، وزار شيخه الشيخ عبد الغني النابلسي وبات في خلوة داخل الجامع المحيوي، ومفتاحها بيد خادمه الشيخ إبراهيم الحتمي، وبايع فيها شاب يدعى عثمان حرشي، وعاد في الصباح من طريق عين الكرش إلى مرج الدحداح وزار جده الأعلى سيدي محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم شيخه المرحوم الشيخ عبد اللطيف، ثم توجه إلى جنينة تحت القلعة وزار سيدي عدي بن مسافر، وقبره ملاصق لشجرة عظيمة مكتوب عليه عدي بن مسافر كتابة قديمة، وللمذكور ديوان، وعاد مع رفاقه للخلوة.
واجتمع الشيخ بوالي الديار صديقه [رجب باشا] وكان معه خبر قضية العم محمد أغا البكري الصديقي، وقد فاتحه في أمر زواج ابنته من الشيخ، فوعده خيراً، وأضاف أنه سيهبه مسكناً وسكناً، ويدخله على ابنته فرضى منه الوزير، بهذا الوعد العرقوبي، وصار عينه به، وسار الشيخ مع صهره إلى حرستي لحضور ختان ولديه السيد محمد أبي الفضل والسيد أحمد أبي الهدى. وأراد بعض الإخوان الرجوع إلى القدس وذلك سنة (1130هـ) فحملهم كتباً للإخوان في القدس، ومنهم الشيخ محمد الخليلي، وكتاباً للإخوان في مدينة الخليل ومنهم الشيخ عبد الرحمن الخطيب التميمي، وقصائد نصف شوق الشيخ إلى تلك الربوع.
ولما دخل شهر رمضان حرك الله همة عم الشيخ، لزيارة البيت، فقال الشيخ في نفسه أن ذهابهم في صحبة الوزير، رجب باشا، وكان أميراً للحج فيه فائدة، أضف إلى هذا أنه يتقرب إلى قلب عمه، ثم يقضي فرضه، فرضي عمه بذلك، وقد ذكر الشيخ ما وقع له في
هذه الرحلة في رسالة سماها [الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية] والتي انتهت بوصول الشيخ إلى الشام في السابع والعشرين من شهر محرم سنة (1131هـ). ولما عاد الشيخ من الحج، ألح الوزير على عمه إنجاز ما وعد به بشأن زواج ابنته، ولكن عمه لما بلغه خبر عزل رجب باشا عن الولاية عدل عما كان قد وعد به من أمور فيئس الشيخ وقطع أمله من ابنة عمه، فعول على بيع بعض أملاكه وحصة في بستان الدولابي والحاجب، وبستان النصراني، وسود في هذه المدة الفية في التصوف.
وكان الشيخ قد فاتح السيد السلفيتي ووعد الشيخ نور الدين الهواري أنه إذا لم يحصل مع عمه اتفاق بشأن الزواج، فإنه يرجع لأخذ ابنة بنت أخيه الروحي، أي حفيدة السلفيتي فحسن له ذلك، وعلى هذا عزم الشيخ على السفر إلى القدس للزواج وذلك في أواسط ذي القعدة سنة 1131هـ مع جمع من الرفاق، فودعه صهره في المرجة في دمشق، وسار إلى (المزة) وزار قبر دحية الكلبي، ومنها توجه مع جمالة (جينين) في الليل واجتمع بالشيخ محمد بن يسن الملقب طبيعة وبات في خان سعسع ومنها إلى قرية الجيب، وهي مشهورة بالسمن لجودته وهو مشهور في قطرها بطيبته، ومنها إلى الجسر ثم المنية، ثم عيون التجار ثم جينين ذات المياه والأشجار، وكان تعارف بالشيخ في الطريق السيد مصطفى التميمي فدعاه إلى بيته فأجاب الدعوة. وسمع بعد المغرب صوت خيل وطارق، وإذا هو السيد محمد السلفيتي وسار في الصباح إلى قرية (الزاوية) وأقام تحت شجرة البطمة، وكان قد دخل هذه القرية أحد أجداد الشيخ رضوان واسمه قاسم فقال الشيخ موالياً.
قاسم حبيبك على ما تملكوا قاسم
…
فرد علا في المحاسن اسمه قاسم
بل سلمو الكل إذ حبو الحبيب قاسم
…
لا زال في حرز من يدعى أبا القاسم
ثم توجه للقدس وبات في قرية (بيتونيا) ويقول الشيخ في أمر زواجه (ويوم الخميس آخر ذي القعدة النفيس أقمنا في الحرم نستقبل أهل الكرم، وبعد مضي أيام الضيافة تعرضنا للنكاح بغير آفة، وفي يوم الأحد جرى القلم به بحول الأحد، أوائل ذي الحجة الحرام من العام، العام الأنعام، وليلة الخميس حصل الدخول الواجب التأنيس) وقد أرخ الزواج صديقه الشامي إذ قال (زفت الزهراء للقمر) سنة 1131هـ.
ولما حلت سنة 1132هـ، ومضى منها حصة، تحركت همة الشيخ لزيارة القاهرة وذهبت
بهذه النية إلى الخليل، ولكن لم يتيسر له السفر إلى مصر فعاد إلى القدس. ولما عاد خطر له أن يخلف الأخ السيد محمد السلفيتي فباشر ذلك في المولوية وألبسه الكسوة الخلوتية، وأذن له الإذن العام.
(وقريباً من ختام هذا العام ورد الوزير ذو الاحترام رجب باشا متوجهاً إلى الكنانة بإقدام، وطلب بإلحاح وإبرام أن نصحبه وجناب الشيخ محمد الخليلي الهمام فقسم النصيب قهراً وسرنا معه إليها جبراً وقسراً، وقد ذكرنا ما جرى فيها إلى سنة 1133هـ. في الرحلة المأساة (النحلة البصرية في الرحلة المصرية).
وبعد العودة من مصر شرع في رسالة المنهل العذب السايغ الواردة في ذكر صلوات الطريق وأوراده، وكان في مصر بيض الصلات البرية والألفية ومنهج الصوفية، وأخذ عنه في مصر الطريق الشيخ محد الحفناوي. وفي سنة 1133 شرح الشيخ صلوات سيدي عبد السلام بشيش المسمى بالروضات العريشة على الصلوات البشيشة)، وبيض (السيوف) الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد) وتمرض الشيخ سبعة أشهر وأكثر، وفي أواخر مرضه جاءت والدته لما سمعت بمرضه البدني، وجاء الوزير المقدم أمير جودة ومعه الصهر الشيخ إسماعيل المدرس تحت القبة، وودع الوزير في الخليل وفي صحبته صهره الذي عاد للديار الشامية بعد أن اطمأن على صحة الشيخ.
وما زال كذلك إلى أن جاءه الخبر بأن عمه أصدر عليه حجة نفقة ووكل السيد محب الدين النقيب في تحصيل ما حرر، فاستخار الله في السفر إلى جهة حلب لينال الظفر لأن الوزير (رجب باشا) صديقه منجم فيها بحال موفور فاستبشر وتوجه في رحلة سماها (تفريق الهموم وتغريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم). وقد أدرج الشيخ في آخر هذه الرحلة ما ذكره في الرحلة الرابعة والخامسة القدسية، ثم المصرية، ثم أوصلها بالرومية - انتهى.
أحمد سامح الخالدي
طرائف من العصر المملوكي:
من وحي حماة
للأستاذ محمود رزق سليم
لا أدري لماذا يهزني شوق إلى حماة، ويهفو قلبي إليها كلما ذكرت، ويردد لساني اسمها في كثير من التقدير، وأقف عند ترديده وقفة المتأمل المستهلم، مستعرضاً على ذاكرتي لمحات من لمحات تاريخها الفياض، فتشرق منه سماء الذهن ومضات من أمجادها الماضية، يستشعر منها القلب ضروباً من الجلال والقدسية، ويتجدد بها للنفس ألوان من الدهش والإعجاب، بهذه المدينة الشامية المصرية المجيدة الساحرة.
حرت حقاً في تعليل هذا الشعور الذي ينتابني كلما ذكرت حماة، ولم تربطني بها وشيجة ولا وليجة، ولم تصل حبالي بحبالها ليال ولا أيام، ولا اكتحلت العين بمرآها ولو مرة واحدة، ولم يجش في النفس أمل بلقياها والنعيم عهداً بالمقام فيها.
قلت للنفس: لعل هذا الشعور أثر من تلك الآثار التي أفدتها من مصاحبة تقي الدين بن حجة الحموي، وليد هذه المدينة، وأحد أدبائها النجباء، فلقد صاحبته في بعض مؤلفاته، ودراسة آرائه وأفكاره، وقرأت في إمعان كثيراً من فصوله، ووعيت في إعجاب عديداً من مذاهبه، وكان رفيقاً في صحبته، حبيباً في حديثه. حتى كان في مقدمة الأسباب التي حببت إلى دراسة عصره، ومهدت لي السبيل إليها، وأنارت لي الطريق لبلوغ مأربي منها.
ولقد راعني منه فيما راع، ولوعه بمدينته تلك، ولوعا تردد صداه في كثير من منشئاته، ولوعا لم يزايل قلبه ولم يفارق فؤاده في يوم من الأيام، على الرغم من انتزاحه عنها واغترابه منها زمناً طويلاً. وتلك لعمري مكرمة منها ومحمدة له، جديرتان بأن تشعرا القلب بالجلال والإعجاب كلما ذكرت حماة.
لقد ولد ابن حجة عام 767هـ بحماة، ثم شب وتعاطى الأدب. وطفق ينشئ وينظم ما شاء له الفن والهوى. وطوف في بعض الآفاق، حتى اتصل حبل وده وخدمته بسلطان مصر الملك المؤتد شيخ، حينما كان أميراً في بلاد الشام. فلما تم له أمر السلطنة في مصر عام 815هـ جمع من حوله حاشية من أهل وده، ممن دانوا له بالولاء في عهد إمارته، وألقى إليهم بمقاليد الأمور. وكان من بينهم ابن حجة الحموي، فاتخذه كاتباً من كتاب إنشائه.
والكاتب المنشئ حينذاك، كان في الديوان كما يكون الوزير للسلطان.
عاش ابن حجة حينئذ في مصر زمناً. فلم يلهه النعيم بها عن حماة. ولم تسله حاليات أيامه عندها ليالي لهوه ومدارج صباه فطفق يبعث إليها تحية اللهفان، بين الآن والآن. ويحن إليها حنين النيب إلى العطن، والهديل إلى السكن.
ويبدو أنه انتزح عنها في أول أمره انتزاح المضطر الذي دعته الأحداث إلى الاغتراب. فظل حب حماة يساوره أني سار، فلا يفتأ يتغنى بمحاسنها، ويتشوق إلى مغانيها، ويتغزل في مفاتنها ويحن إلى مجانيها.
كتب - وهو بالقاهرة عام 820هـ - إلى صديقه ابن البارزي بحماة، قصيدة تفيض بالشكاية والأنين، والشوق والحنين. استغرق ذكر حماة وأهلها أكثر أبياتها. وفي صدرها يقول مخاطباً ريح الصبا الذي يمر بها.
يا طيب الأخبار يا ريح الصبا
…
يا من إليه كل صب قد صبا
يا صادق الأنفاس يا أهل الذكا
…
يا طاهر الأذيال كم لك من نبا
يا من نراه عبارة عن حاجر
…
يا روح نجد مرحباً بك مرحباً
يا نسمة الخير الذي من طيبه
…
نتنشق الأخبار عن تلك الربا
بالله إن رنحت ذيلك بالحمى
…
ووردت شعباً من دموعي معشباً
وهززت فيه كل عود أراكة
…
أضحى بهاتيك الثغور مطيباً
ولثمت من ثغر الأقاحي مبسما
…
أبدى بدر الطل ثغراً أشنباً
ودخلت كل خباء زهر قد غدا
…
بدموع أجفان الغمام مطنباً
وطرقت حي العامرية ظامئاً
…
فنعمت في الوادي برياً زينباً
وحملت من نشر الخزامى نفحة
…
مشمولة بالطيب من ذاك الخبا
عج بالعذيب فإن محجر عينه
…
أضحة لما حملته مترقباً
واصحب عبير المسك منه فإنه
…
لشوارد الغزلان أضحى مشرباً
وإذا تنسمت الشذى وتعطرت
…
منك الذيول وطبت يا ريح الصبا
عرج على وادي حماة بسحرة
…
متيمما منه صعيداً طيباً
واحمل لنا في طي بردك نشره
…
فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا
وأسرع إلى وداو في مصر به
…
قلباً على نار البعاد مقلباً
لله ذاك السفح والوادي الذي
…
ما زال روض الأنس فيه مخصباً
أنعم بمصر نسبة لكن أرى
…
وادي حماة ولطفه لي أنسباً
أرض رضعت بها ثدي شبيبتي
…
ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم
…
من بعدكم ما ذقت عيشاً طيباً
على هذا الضرب من الغزل الواله والشوق الباكي، يتارع ابن حجة أبياته تلك، وله أبيات أخرى كثيرة على غرارها.
ويبدو أن حماة كانت قمينة بهوى حبيبها وغرام نجيبها. فهي - فضلا عن أنها محل ميلاده ومجتمع أو طار فؤاده - قد شهد لها التاريخ بعراقة في المجد وأصالة في السؤدد وبسطت لها الأيام من البلهنية بساطاً، ونشرت لها من النعيم بندا. إذ كانت عاصمة إمارة صغيرة، اعتلى عرشها أمراء من الأيوبيين، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، وهم الملك المظفر تقي الدين عمر، ثم سلالته من بعده. وتحولت في العصر المملوكي إلى نيابة من نيابات المملكة المصرية، توالى على امرأتها أمراء من قبل سلطان مصر، فكان منهم أبو الفداء إسماعيل المعروف بالملك المؤيد، وهو من سلالة المظفر. أنابه الناصر بن قلاوون سلطان مصر، عنه في حكم حماة، وكرمه بأن خلع عليه ألقاب الملك، دون سائر نواب السلطنة.
وتقع هذه المدينة في شمال سوريا، بين حمص والمعرة. ويجري في وسطها نهر العاصي. وكان بها كثير من النواعير، تستنبط بها المياه من الآبار. وكثير من الطواحين المائية، وكانت تجعلها البساتين المتعددة. ونبت من ناشئتها عديد من الأدباء والفضلاء. وفي العصر الحديث تطامن بنيانها وتناقص عمرانها.
أما في عصر ملكها المؤيد أبي الفداء إسماعيل، فقد كانت مدينة زاهرة، وعاصمة ناضرة. تضرب من حولها الوديان وتمتد القيعان، وتكثف الغابات حيث يتخذ الوحش له مراحاً، والطير الجارح مسرحاً. ويحلو في جنباتها الصيد والقنص، ويصفو بين دوحاتها اللهو والسمر. وقد استطاع المؤيد أن يجعل منها جنة نعيم، ومنتدى علم، ومجتنى أدب. فقد كان عالماً وأديباً وجواداً سخياً. ولهذا طاف به العلماء والأدباء يطرقون بابه ويرجون جنابه ويستمطرون سحابه. فأعاد ببذله وفضله عهد الامتياح والسماح، وزمن الاجتداء والعطاء،
وأجرى في أعواد الشعراء، ذوباً من البشر والرجاء، وصوباً من الينع والنماء.
وممن هوى إليه في حماة، شاعر مصر الكبير جمال الدين بن نباتة، بعد أن نبا به المقام في مصر، ولم يجد بها إلا عيشاً يابساً، ويوماً عابساً. فرحب به المؤيد، وأوسع له في بطانته مكاناً، ومن عطفه بستاناً، ومن صحبته إحساناً. فعاش في كنفه مكرماً أثيراً. يروح ويغدو في حماة، بين سفوحها ورباها، وينعم بطبيب رياها. ويصحب المؤيد أحياناً في رحلاته بين الغابات والوديان، والأدواح والقيعان. وعاش ابن نباتة حتى شهد موت المؤيد، فصحب ابنه الأفضل وأخلص له الود ووفى باعهد.
وإذا تصفحت ديوان ابن نباتة، بدا لك أثر حماة في شعره واضحاً. فإقامته بها وطوافه برحابها، واتصاله بملوكها، كانت موحيات إليه، وملهمات في كثير من قصائده. فله نحو عشرين قصيدة في مدح المؤيد، ومثلها في مدح الأفضل. وهي قصائد مشرقة حية، جمع فيها من أفانين الشعر أعاجيب. فمن غرر المديح إلى المليح ومن الوصف الدقيق إلى الخيال الرقيق، ومن الشوقيات الذاكرة إلى الخمريات الساكرة.
وترى في حمويات ابن نباتة هذه، بشاشة سافرة، ورواء ضاحكاً مستبشراً. اتضحت عليها طبيعة حماة، فبدت حسناء والشعر مرآتها، وغيداء وأبياتها. لا أقول إنها علمت بن نباتة الوصف فقد كان وصافاً. ولا دعته إلى العطف فقد كان عطافاً. وإنما فره بجمالها وصفه، وزاد بين يديها عطفه.
فمن غزله في صدر قصيدة مدح، بها الأفضل قوله:
صدودك يا لمياء عني ولا البعد
…
إذا لم يكن من واحد منهما بعد
بروحي من لمياء عطف إذا زها
…
على الغصن ما أنا والقد
وعنق قد استحسنت دمعي لأجلها
…
وفي العنق الحسناء يستحسن العقد
من العرب إلا أن بين جفونها
…
أحد شبا مما تجرده الهند
على مثلها يعصي العذول وإنما
…
يطاع على أمثالها الشوق والوجد
عزيز علي العذال عني صرفها
…
وللقلب في دينار وجنتها وقد
أعذالنا مهلا فقد بان حمقكم
…
وقد زاد حتى ما لحمقكمو حد
وقلتم قبيح عندنا العشق بالفتى
…
ومن أنتم حتى يكون لكم عند
سمحت بروحي للحسان فما لكم
…
ومالي وما هذا التعسف والجهد
ومن خمرياته في مطلع مؤيدية قوله:
عوض بكأسك ما أتلفت من نشب
…
فالكأس من فضة والراح من ذهب
واخطب إلى الشرب أم الدهر إن نسيت
…
أخت المسرة واللهو ابنة العنب
غراء حالية الأعطاف تخطر في
…
ثوب من النور أو عقد من الحبب
عذراء تنجز ميعاد السرور فما
…
تومي إليك بكف غير مختضب
مصونة تجعل الأستار ظاهرة
…
وجنة تتلقى العين باللهب
لو لم يكن من لقاها غير راحتنا
…
من حرفة المتعبين العقل والأدب
فهات واشرب إلى أن لا يبين لنا
…
أنحن في صعد نستن أم صبب
وإذا كان أثر حماة في شعر ابن نباتة واضحاً، فهو في إحدى قصائده أشد وضوحاً وأبين أثراً. وأعني بها قصيدة (مصائد الشوارد). وهي أرجوزة مزدوجة في نحو مائة وسبعين بيتاً، خرج ابن نباتة مع الملك الأفضل صاحب حماة في رياضة للصيد والقنص في وديانها. فألهمته رحلته تلك قصيدته المذكورة. بدأ فيها بوصف الرياض ووشيها، وما فيها من نور باسم وزهر ضاحك وعشب يانع، ونواعير حادية ومياه جارية. ثم وصف البروز إلى الصيد، والتضييق على الوحش في مساربه. والغلمة وما بأيديهم من البندق والأقواس اللدنة. ومواقع الأطيار ومراتعها. والأفق وقت المغيب، وسهود الليل، ويقظة الفتية تلمسا للفريسة. بينما يحلك الليل ويرزم الغيم. وهو بين هذا وذاك يصف جياد الصيد وكلابه وبزانه وصقوره وما إلى ذلك.
والقصيدة فريدة في بابها، بارعة في تصويرها، وقد نعود إلى عرضها في مقال جديد. ونذكر هنا منها أبياتاً على سبيل المثال، قال في المطلع يصف الرياض والنواعير:
أثنى شذا الروض على فضل السحب
…
واشتملت بالوشى أرداف الكتب
ما بين نور مسفر اللثام
…
وزهر يضحك في الأكمام
إن كانت الأرض لها ذخائر
…
فهي لعمري هذه الأزاهر
قد بسطتها راحة الغمائم
…
بسط الدنانير على الدراهم
أحسن بوجه الزمن الوسيم
…
تعرف فيه نضرة النعيم
وحبذا وادي حماة الرحب
…
حيث زها العيش به والعشب
أرض السناء والهناء والمرح
…
والأمن واليمن ورايات الفرح
ذات النواعير سقاة الترب
…
وأمهات عصفه والأب
تعلمت نوح الحمام الهتف
…
أيام كانت ذات فرع أهيف
فكلها من الحنين قلب
…
لا سيما والماء فيها صب
ويستطيع طلاب الموازنات، ومحبو المقارنات، أن يجدوا مجالاً واسعاً للموامنة بين قصيدة ابن نباتة هذه، وقصيدة أخرى لمعاصره صفي الدين الحلي. فقد كان صفي الدين أحد الأدباء الذين هووا إلى حماة، في عهد ملكها المؤيد. فنال من جداه، ونعم بهداياه، ومدحه بقصائد غر ممتعة. وقد شهد صفي الدين وفاة المؤيد عام 732هـ، ورثاه. ثم هنأ ابنه الأفضل بملكه الجديد، ثم مدحه بقصائد أخرى نفيسة. من بينها موشحة نظمها عام 740هـ وصف فيها رماية البندق والصيد والقنص في مرج من مروج حماة، وفيها يهنئ الأفضل بعيد الفطر. وفي مطالع هذه الموشحة يقول:
قم بي فقد ساعدنا صرف القدر
…
وجاء طيب عيشنا على قدر
فكم علا قدر امرئ وما قدر
…
فارضعُ بنا در الهنا إن تلق در
فالشهم من حاز السرور إن قدر
وقد صفا الزمان والأمان
…
وأسعد المكان والإمكان
وأنجد الإخوان والأعوان
…
وقد وفت بعدها الأزمان
والدهر تاب من خطاه واعتذر
ومنها يصف الأطيار:
أما ترى الأطيار في تشرين
…
مقبلة بادية الحنين
قريقها ناب عن الأنين
…
إذا رنت نحو المياه الجون
يأمرها الشوق وينهاها الحذر
هذه أبيات من قصيدة صفي الدين التي نود لو نتناولها - أو يتناولها أحد الأدباء - فيوازن بينها وبين (مصائد الشوارد) لابن نباتة. فالشاعران متعاصران. والقصيدتان صيغتا في مدح ملك واحد هو الأفضل صاحب حماة. والمناسبة التي قيلت فيها إحداهما، شبيهة
بمناسبة الأخرى. فقد قيلتا في وصف رمي البندق والخروج للصيد في مصاحبة الأفضل. واستلهم كل من الشاعرين أوصافه من واد من وديان حماة - ولعله واحد لا وديان - هذه أمور ومشابه بين القصيدتين تحبب في بينهما وتعين عليها. ولا أدري بالضبط متى قيلت مصائد الشوارد، وفي آية سنة، وفي أية رحلة. فلعلها هي نفس السنة ونفس الرحلة التي كان فيها صفي الدين. نقول ذلك بمناسبة ما نشعر به من تشابه في الموضوع والتصوير والخيال بين القصيدتين. مما يدل على اتحاد منازعهما.
ومهما يكن من شئ فإن القصيدتين وما عداهما من شعر الشاعرين الكبيرين، وشعر زميلهما الذي قفي على آثارهما، وأعني به ابن حجة، وشعر غيرهم من أدباء حماة، قبس من وحيها، وجذوة من إلهامها، ووقدة من سناها. وقد مات صفي الدين عام 750هـ، وابن نباتة عام 768هـ، وابن حجة عام 837هـ، ومات غيرهم من شعراء حماة وأدبائها، وبقي شعرهم وأدبهم خالداً محدثاً بما كان لحماة في نفوسهم من أثر، وما كان لوحيها من بعث، ولإلهامها من رجع، ولسانها من إشراق.
(الإسكندرية)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
12 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
الحالة الاجتماعية
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
يعيش أهل النوبة عيشة بسيطة لا تركيب فيها ولا تعقيد، فحياتهم أشبه ما تكون بحياة أهل الريف، إلا أنها غير دسمة، فليس فيها الطيور المختلفة والحيوانات السمينة، بل الطيور لا تكاد تجد بها غير العظام والريش، والحيوانات عجاف، لا يكاد يشارك العظم والجلد شئ من اللحم!.
وأكثر الأهلين يشتغلون بالزراعة المحدودة المساحة طول العام، والتي يبدأ موسم اتساعها غالباً في شهر مايو من كل عام، إذ تنخفض مياه النيل، فتنكشف الأرض التي غمرتها مياه الخزن، فيزرع الأهلون هذه الضفاف التي كانوا يملكونها قبل التعلية الأخيرة، والتي أعطتهم الحكومة تعويضاً عنها، ولا يكادون يتركون منها شبراً بغير زراعة.
وتجود زراعة الحبوب من القمح والذرة والشعير وبعض الخضر والبقول، إلا أنه تكثر زراعة نبات (الكشر نجيج) وهو نبات يشبه الفاصوليا أو اللوبيا في شجيراته وثماره. ولهذا النبات قيمته الغذائية الكبيرة، لأنهم يأكلون ثماره، ويتخذون أوراقه وسيقانه غذاء أساسياً لدوابهم ومواشيهم، والسعيد منهم من يدخر من هذا النبات كمية كبيرة تكفي مواشيه طوال مدة الشتاء، حين تمحل الأرض وتجدب وتجف الأوراق ولا تكاد تجد في هذه المنطقة على ضفاف النيل خضرة، إذ تغطي مياه الخزن جميع الأرض، ويبدو النخيل غارقاَ في النيل كأنه يحتضر ويستغيث!.
وقد قامت وزارة الأشغال بإنشاء مشروعات للري، فأحيت بهذه المشروعات الآلية آلاف الأفدنة ووزعتها الحكومة على بعض النوبيين الذين رغبوا في شرائها ممن ذهبت ميان الخزن بأراضيهم، وهي تستغل الآن أحسن استغلال، وتكاد تقوم بتموين بلاد النوبة في كثير من الأغذية الضرورية، وبخاصة بلانة، والعلاقي، والدكة، حيث تعطي هذه الأرض أجود المحاصيل. وتمتاز هذه المشروعات بالري الدائم والزراعة طول العام دون ارتباط بارتفاع النيل أو انخفاضه، ولا بانكشاف الأرض أو انغمارها. وقد جذبت هذه المناطق الزراعية شباب النوبة إلى حد ما لكثرة ما تتطلبه من الأيدي العاملة والجهود المتعاونة، ولا
يزال الكثيرون موزعين في القاهرة والإسكندرية وغير ذلك من مدن القطر، ويرسلون إلى أهليهم بعض ما يكفيهم من المؤن والنفقة، ولهذا يكثر النساء والأطفال والشيوخ في البلاد كثرة تفوق الحد وتسترعي النظر والاهتمام، وتتجسم هذه الظاهرة بوضوح عندما يحل فصل الصيف فيسافر تلاميذ المدارس الابتدائية والقسم الثانوي في عنيبة إلى ذويهم وأولياء أمورهم في شتى مدن القطر، فلا يكاد يقع نظرك حينئذ على شاب أو صبي!.
وما أحوج النوبة إلى أيدي أبنائها الذين هجروها ولا يزورونها إلا في النادر القليل، ولا يكاد يمكث الواحد منهم أكثر من بضع ليال، أو بضعة أيام، ريثما تعود الباخرة التي جاءت به لتحمله مرة أخرى إلى الشلال، حيث يتمتع في مكان عمله بما لا يجده في وطنه الأصلي من متع ولذاذات. . .
أجل، ما أحوج النوبة إلى أيدي شبابها وسواعدهم وبخاصة في هذه الأيام التي تتجه فيها الحكومة المصرية إلى تنفيذ المشروعات النافعة التي تجعل من هذه المنطقة جنة وافرة الظلال دانية القطوف تمسح عن أهليها كل ما قاسوه من آلام جسام، وأهوال عظام، في سبيل رفاهية مصر وسعادة أبنائها وزيادة ثروتها وكثرة خيراتها عن رضا وإيمان بحق الوطن في التضحية والإيثار!!.
والمالكون قليلون، فأكثر الذين أخذوا التعويض من الحكومة أنفقوه على أنفسهم وملاذهم، أو في بناء بيوتهم التي أغرقت هي الأخرى لانخفاضها عن منسوب التعلية الأخيرة، وكان الأجدر بالحكومة أن تعوضهم بدلاً من أرضهم التي انتزعت منهم أرضاً مستصلحة معدة للزرع والنتاج. . .
وفي النوبيين أناس على درجة من الفطنة والذكاء والميل للأعمال الحرة، وقد قام هؤلاء بتكوين شركات زراعية وجلبوا لها أحدث الآلات الزراعية على اختلاف أنواعها مما تقوم باستصلاح الأراضي البور وحرثها وريها وإعداد الغلات وغير ذلك.
وتكثر في بلاد النوبة بعض الصناعات اليدوية الصغيرة كصناعة الأطباق والحصر والسرر من الخوص والقش والجريد، ويتجلى فيها الذوق الفني السليم ودقة الصنع، ويقوم بهذه الصناعات في الغالب النساء والفتيات في بيوتهن، وتعني الحكومة الآن بدراسة هذه الناحية بواسطة بعض مبعوثيها لإدخال بعض الصناعات الصغيرة التي تناسب البيئة
وتشجيعها لتنمو وتكبر عن طريق المصانع الصغيرة أولا في البلدان المزدحمة بالسكان والتي تكثر فيها الأيدي العاملة، ويشرف عليها موظفون مختصون مهمتهم أولا تعليم أكبر عدد ممكن من الأهلين بنين وبنات، ولكن المشكلة القائمة الآن هي صعوبة المواصلات بين هذه البلاد بعضها وبعض، وعسى أن تحل هذه المشكلة وتذلل هذه العقبة حتى تسود هذه المنطقة صيغة صناعية ويجرفها التيار الصناعي، وبخاصة حينما تكفيها كهربة الخزان مؤونة الوقود، وتتكشف للناس كنوزها الدفينة من ذهب وقصدير وحديد.
والبيت النوبي على درجة كبيرة من النظافة وحسن التنسيق تلمس النظام في كل ناحية من نواحيه ورجو من أرجائه، سواء في ذلك بيت الغني والفقير، والفرق بينهما في بناء البيت نفسه ومواد البناء، فبيت الغني متسع رحب مبني بالحجارة من الجبال المحيطة به متعدد الحجرات، وبيت الفقير في الغالب من الطين، وسقفه من جذوع النخيل وسعفها، ولكنه مع ذلك يشرح الصدر ويملأ القلب راحة وطمأنينة وهدوءاً، ومن جذوع النخيل وسعفها يسقف الغني بيته كذلك، إلا أنه يطلي السقف بطلاء ملون، ويزخرفه زخرفة فيها كثير من العناية والمبالغة، بحيث يبدو كقطعة فنية جميلة من أجود أنواع الأخشاب، عملت فيها اليد الصناع عملها، حتى أصبحت تستهوي العقول وتجذب الأنظار.
وتعجب لهذا الذوق السليم في كيفية البناء نفسه، فالبيوت بوجه عام تتكون من طابق واحد ذي فناء واسع، ومن النادر أن تجد بيتاً من طابقين، وحول البيت بناء قصير بارز يشبه المصطبة في ريفنا ويستعمل استعمالها. . . وشكل البيوت من الخارج هرمي تقريباً، وبالغرف فتحات صغيرة مستطيلة ومثلثة قرب السقف الغرض منها التهوية الدائمة، وحجرة الجلوس واسعة مستطيلة قد يبلغ طولها في بعض البيوت أثنى عشر متراً، والأبواب والنوافذ تدهن بألوان زاهية جداً، وقد يكون لبعض البيوت الكبيرة شرفات مسقوفة في الغالب لاستقبال الأضياف والترويح عنهم، ويزخرف المنزل من الخارج بأطباق الصيني الملونة تغرس في البناء نفسه بشكل منظم جميل يراعى فيه التناسب، كأنما وضع تصميمه مهندس معماري بارع، وقد يستغني عن الأطباق الصينية بقوالب من الطوب توضع بشكل بارز بحيث تكون أشكالاً هندسية دقيقة، فمن دوائر وأقواس إلى مستطيلات ومربعات ومثلثات وزوايا، مما يزيد البيت روعة وجمالا، وفي ناحية الشلال
حيث تقل الزراعة ويقل النخيل يجعلون سقوف بيوتهم على شكل القباب. ولا تكاد تجد لبيوتهم أفنية إلا في النادر القليل، وعلى العكس من ذلك المنطقة الجنوبية إذ لا يكاد يخلو بيت من فناء رحب. . .
وأثاث البيوت في العادة هو (العنجريب)، وهو سرير من الخشب والجريد توضع فوقه حشية إذا كان معداً للنوم، أو السجاجيد العجمية الفاخرة إذا كان معداً لجلوس الأضياف، ولا بد من وجود هذه السجاجيد في كثير من البيوت، سواء منها بيت الغني والفقير.
وفي كل بيت الأطباق الصينية والملاعق والأكواب المختلفة بكثرة عجيبة، وهي في الغالب من الأنواع الغالية الثمن، بحيث إذا أعدت المائدة لضيف ما، لا يشعر أبداً أنه في غير القاهرة، بل وفي بيت يهتم بهذه الأدوات ويجعلها في مقدمة ما يعنى به!.
والنوبيون يبالغون في إكرام الضيف، وأول ما يقدمونه له (الفشار) وسط طبق من الخوص وحوله البلح الجاف، فيأكل الضيف من هذا وذاك، ثم يقدم له الشاي، حتى إذا جاء الموعد قام إلى مائدة لا تختلف في تنسيقها ونظامها وما حشد فيها من أنواع اللحوم والطيور والحلوى عن موائدنا الحافلة وولائمنا الفاخرة، وكأنما هيّ هي!.
وإذا كانت بيئة العربي دفعته إلى الكرم والإيثار والبذل عن طواعية ورضا، فإن بيئة النوبي الجافة القاسية، والجرداء المالحة في أكثر أيام العام دفعته إلى العطف الشامل والحب المتبادل لأفراد بيئته الذين يعتبرهم منه بلا خلاف يؤثرهم على نفسه ويخصهم بالنعمة دونه. . . فإذا أقبل المساء خرج من كل بيت ما فيه، واجتمع أهل النجع وتناولوا جميعاً عشاءهم في هدوء واطمئنان، ولا يضير المعدم والحالة هذه ألا يجد ما يخرجه أو يأتي به، بحيث يصيب كل واحد ما يسد جوعته، فلا يبقى من يشكو ألم الجوع أبداً. . .
وذوو المراكز السامية من النوبيين عندما يذهبون إلى بلادهم يتركون في القاهرة ألقابهم وأوسمتهم، ويلقون إلى حين رداء المدنية الخلاب، لأن هذه لا يجوز في شرعة أهليهم وذوي قرباهم الذين لا ينادونهم مهما ارتفعت مكانتهم وسمت منزلتهم بأكثر من أسمائهم المجردة في بساطة وسذاجة بلا تعمل أو تكلف والجميع هناك أهل وأقارب وأولاد عمومة وأبناء خئولة، لا فرق بين الكبير منهم والصغير والعظيم والحقير. . .
وللنوبيين جميعاً ولع بشرب الشاي المركز، فهم لا يشربونه إلا بعد أن تلقى في الماء كمية
كبيرة ويغلي مرات ومرات بحيث يكون في النهاية أسود اللون مر المذاق، ولهذا فإن للسكر هناك سوقاً سوداء، بحيث تباع الآفة منه بخمسة وعشرين قرشاً أو ثلاثين أحياناً، وهم معذورون لأن الشاي يقوم عندهم مقام الفاكهة التي لا توجد هناك إلا نادراً. . .
وبعد، فهذه صورة عاجلة عن الحياة الاجتماعية العامة في مجموعها، وهناك نواح كثيرة في حاجة إلى الإفاضة والبحث، ولكن ليس هذا موضعها لحاجة كل ناحية إلى الإفراد بالحديث وعسى أن نوفق إلى هذا إن شاء الله.
عبد الحفيظ أبو السعود
الموشحات وموسيقانا الحديثة
للأستاذ حسني كنعان
ظن بعض الناس، وإن بعض الظنِّ إثم، أني بما كتبته عن المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق وعن النهضة في الموشحات ولزوم إحياء موات موسيقانا القديمة أنني انبعثت أدعو الناس إلى تعلم هذه النوع من الفن البالي على زعمهم، والعزوف عن الحديث ولزوم مقاطعته، ولذا أخذوا ينعتونني بالرجعي الجامد. ودفعاً للالتباس أريد في كلمتي هذه أن أضع النقط على الخطوط التي تعتلج في ضميري لإحياء قديم هذه الفن والنهوض به فأقول:
ليست الموشحات وحدها هي التي تبعث الموسيقى من رقادها وجمودها، ولا الأدوار والقصائد الموقعة على الأوزان مثل التي كان ينشدها الشيخ أبو العلاء محمد أستاذ الآنسة أم كلثوم، ولا المنولجات الحديثة والأغاني الدارجة التي تسمى (طقاطيق) ولا المواويل والأغاني الشعبية الطاغية في هذا العصر، وإنما الذي ينهض بالفن الجمع بين هذه العناصر جميعها، فحفلة تقوم على نوع واحد ولون خاص من هذه الألوان والأنواع الفنية يكون مآلها الإخفاق والضجر والملل. ولا بد من التنويع، وعدم الاكتفاء بنوع واحد، فالآذان والأرواح تتغذى بالفن كما تتغذى الأبدان، والاقتصار على نوع واحد من أنواع الطعام يفسد المعدة ويدفعها إلى الملل والعزوف عن الأكل. ولقد كان الأقدمون يجعلون الموشحات في المقدمة من حفلات السمر والتلهي، ويليها الدور والقصيدة، والأغنية (الطقطوقة) والموال، وبهذا الترتيب والتنويع كانت تحصل النشوة والطرب وتدوم الحفلات لديهم من مغيب الشمس حتى مطلعها دون أن يعتري السامعين السامرين المغتبطين شئ من الإملال بعكس ما هي عليه حالنا اليوم. نكتفي بعرض قطعاتنا التجارية الرخيصة المبتذلة المخنثة نقلد فيها أبطال مطربي الأفلام السينمائية، فتارة نتغزل بالبنزين: يا أو تمبيل يا جميل ما أحلاك، وتارة بالقطار: يا وبور قل لي رايح على فين. . . وتارة وتارة. . . فلا ينتهي الهزيع الأول من الليل على السَمار حتى يأخذهم من الملل وضيق النفس التثاؤب ويرنق النوم على أجفانهم فيتركون الحفلات دون أن يتمموا المدة المخصصة لختامها.
وهذا ما دعانا إلى امتداح الموسيقى القديمة وطرق عرضها ولزوم إحياء مواتها لنعيد بها ليالي السلف، فنتذوق طعم هذا الفن كما كانوا يتذوقون، ونطرب له كما كانوا يطربون،
فأين ليالي اليوم من ليالي أمس في عهد الحمولي، والمنيلاوي، وسلامة حجازي، والبولاقي، والسفطي، وغيرهم من كبار فنانينا الأقدمين؟ وأين الأنس والطرب فيها من ليالينا القاتمة؟ فهذه تنتهي بأسرع وقت، وتلك كانت تدوم حتى مطلع الفجر فلا يعرف السامرون اللاهون كيف كانت تمرُّ لياليهم من شدة لهوهم وهيامهم. ولقد كانت تستغرق آه واحدة من آهات الحمولي كما روي لنا المعاصرون له ساعة كاملة على التحقيق وهو يكررها بمختلف الأنغام، وكل نغمة منها كانت تحدث في السامرين من الشجو أضعاف ما تحدثه سابقتها، ولذا خلده أمير الشعراء ساكن الجنان بقوله فيه:
يتمنى منه أخو الشجو آها
…
حين يلحي تكون من أعذاره
يسمع الليل منه في الفجر يا ليل
…
فيصغي مستمهلا في قراره
هكذا كانت ليالي الأقدمين، وهكذا كان سحر فنهم. أما ليالي اليوم فإنك لا تكاد تجلس لتسمع فيها إلى صوت مغنية أو مغن، حتى تخالك في مأتم تصغي فيه إلى أصوات النادبين والنادبات والنائحين والنائحات لفسولة غناء هذا العصر وبعده عن مواطن الطرب. . .
فجل الغناء العصري إن لم نقل كله من النوع الحزين الباكي الذي يقتل الشعور المشبوب والعواطف الفياضة. فإذا كنا نحن دعونا الناس فيما كتبناه إلى إحياء موات القديم فذلك لاعتقادنا أن الموشحات القديمة والأدوار تعد قواعد أساسية للفن الموسيقي كالنحو والصرف للتمكن من اللغة العربية، فإذا قدر لمثل صاحب قطعة (بلاش تبوسني بعينيَّ) ولمثل صاحبة قطعة (نامي ياملاكي) الخلود فلن يخلد إلا بالقطعات التي جاريا فيها الأقدمين، كقطعة (يا جارة الوادي) البياتية النغمة، وتلفتت ظبية الوادي، من نغمة الحجاز، وقطعة وحقك أنت المنى والطلب من نغمة السيكا، وقطعة سلوا قلبي، من نغمة الرصد. فهذه قطعات ذات نغمات شرقية جارى بها أصحابها الأقدمين وساروا باللحن على غرارهم؛ فيها وبلحنها لا بغيرها تخلد أسماؤهم وهذا ما حفز الآنسة أم كلثوم على الإيعاز لملحنيها أن يكثروا من تلحينهم لها القطعات ذات الأنغام العربية المعروفة المألوفة، فجددت بهذا شباب فنها الهرم ذي اللوثة الإفرنجية الدخيلة. أما الموشحات التي مرَّ معنا ذكرها في البحث السالف فليست كلها أندلسية، ومعظم المتداول منها الذي يُنشد في الحفلات ويُذاع على الناس من الموشحات التركية المستعربة، ودليلي على ذلك أنه لا يخلو موشح فيها من قولهم
في تقاطيعه وطياته من كلمتي (جانم وأمان، يللي ويللالي) ولا جرم أن الموشحات الأندلسية لها قيمتها وروعة معانيها وأنغامها بالنسبة إلى التركية المتداولة المعروفة: وإليك نوعا من هذه الموشحات من النغمة الجهاركاه يُنبئك عن روعة هذا الفن القديم الأندلسي. . .
كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي
…
واجعلي سوارك منعطف الجدول
يا سما، فيك وفي الأرض نجوم وما
…
كلما، أغربت نجماً أشرقت أنجما
وهي ما، تهطل إلا بالطلا والدما
…
فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
من ظلم، في دولة الحسن إذا ما حكم
…
فالسدم، يجول في باطنه والندم
لا أريم، عن شرب صهباء وعن عشق ريم
…
فالنعيم، عيش جديد ومدام قديم
أسفرت ليلتنا بالأنس منذ أقمرت
…
بشرت بلقا المحبوب واستبشرت
طوِّلي، يا ليلة الوصل ولا تنجلي
…
واسلبي سترك فالمحبوب في منزلي
فأين روعة هذا الموشح الأندلسي المقتضب بتصرف من موشحاتنا اليوم. ولو استعرضنا جميع ما تقع عليه العين من الموشحات القديمة لألغيناها من هذا النوع الساحر الأخاذ، وهذا ما حدا بنا إلى الدعوة لإحياء مواتها والعناية بها. فإذا كان الحمولي قد كتب له الخلود فلم يكتب له عن طريق الفنِّ وحده، وإنما كتب له عن طريق التجويد في ابتكار أروع القطعات الأخاذة المعاني، وإليك نموذجاً من أدواره في نغمة الحجاز كار:
الله يصون دولة حسنك
…
على الدوام، من غير زوال
ويصون فؤادي من جفنك
…
ماضي الحسام، من غير قتال
أشكي لمين غيرك حبك
…
أنا العليلي، وأنت الطبيب
أسمح وادويني بقربك
…
واصنع جميل، إياك أطيب
وأنا أعرف مغنياً من هذه الطبقة سمعته في حداثتي يدعى محمد سالم، وكان يزيد عمره على المائة سنة، سمعته في حفلة سمر خاصة، وأذكر أن أحد الحاضرين قد استخفه الطرب فقذف بنفسه في نهر يزيد في الربوة بملابسه من شدة ما عراه من الطرب والشجن، وما فتئت إلى الآن أتخيله كالأخطبوط يغوص في النهر يضرب وجهه من غير شعور كأني أشاهده الآن. أما البعض من مطربي هذا العصر فإنك لتهم أن تلقيهم في النهر وتبيدهم
تخلصاً منهم، أو أن تلقي بنفسك منتحراً إذا كان ليس بمقدورك أن تلقيهم وتبيدهم فراراً مما تسمعه وتراه. . .
(دمشق)
حسني كنعان
لقد طار لأول مرة.
.
للكاتب الايرلندي لام أفلا هيرني
للأستاذ محمد سعد الدين وهبة
وقف العصفور الصغير وحيداً أمام عشه. . . لقد تعلم أخواه وأخته الطيران في اليوم السابق، ولكنه لم يجرؤ على الطير معهم. . . وحينما كان يجري على فرع الشجرة الممتد أمام العش وحينما يبلغ نهايته ويوشك أن يرفع جناحيه يحس بالخوف فيجمد في مكانه. . . كان البحر منبسطاً هناك في أسفل. . . عدة أميال بينه وبين سطح البحر. . . كان يشعر بشعور مؤكد أن جناحاه لن يستطيعا حمله فكان ينكس رأسه في ذلة ثم يعود إلى عشه الصغير. . . وكان أخوته يحومون حوله يحثونه على الطيران. . . فكان أبوه وأمه يدوران حوله يؤنبانه على خوفه وجبنه، ويهددانه بحرمانه من الطعام وتركه في العش يموت جوعاً إذا لم يطرح عنه الخوف ويبدأ في الطير. . . ولكنه كان يريد الاحتفاظ بحياته فلم يغادر العش. . . ومر أربع وعشرون ساعة ولم يقترب منه أحد. وفي اليوم التالي أخذ يرقب أباه وأمه يطيران مع أخوته يصححان لهم أوضاعهم، ويعلمانهم كيف ينقضون على البحر إذا شاهدوا سمكة طافية. . . وكيف يتناولونها بمنقارهم ثم يرتفعون في سرعة. ورأى أخاه الأكبر يصطاد سمكة ثم يأخذها إلى حجر ناتئ بعيد حيث جلس يلتهمها وحوله باقي أسرته يصيحون في فرح وزهو. ثم طار الجميع إلى الصخرة البعيدة بعد أن مروا به يسخرون منه ويعيرونه بجبنه وخوفه. . .
وأخذت الشمس ترتفع في السماء وترسل أشعتها المتألقة وحرارتها الوهاجة. . . فأحس بالدفء. . . إنه لم يذق طعاماً منذ المساء السابق. . . أخذ يرتعد ثم فكر في طريقة يصل بها إلى أسرته طريقة تستوجب الطيران. . . ولكن لم يكن هناك سوى البحر الوسيع يمتد من تحته. . . وأراد أن يلفت نظرهم إليه فوقف على رجل واحدة ووضع الثانية تحت جناحه. . . ثم أغمض عينيه وتظاهر بالنوم. . . وفتح عينه فشاهد أخوته يتمرغون على الصخرة فرحين. . . أما أبوه فكان ينكش ريشه بمنقاره. . . وأمه. . . كانت هي التي تنظر إليه. . . ومن لحظة تنهش قطعة من السمك ملقاة تحت رجليها. . . وأثاره مرأى الطعام حتى كاد أن يجن. . . كم يحب أن يذوق السمك. . . ولم يلبث أن صاح صيحة
ضعيفة يستعطف أمه أن تحضر له بعض الطعام. ولكنها أجابته بالرفض. . . ثم انطلقت من حنجرته صيحة فرح. لقد شاهد أمه تقبض على قطعة السمك بمنقارها ثم تطير متجهة إليه. . . وجرى إلى نهاية الفرع في شغف وأخذ يدق الفرع في سرور. . . وحينما قربت أمه منه توقفت عن الطيران ثم حلقت في الفضاء وقطعة السمك في منقارها. . . وانتظر أن تقترب منه. . . ولكنها لم تفعل. . . وعضه الجوع. . . وفجأة قفز إلى قطعة السمك ولكنه. . . أخذ يسير إلى الهاوية وحينما مر بأمه سمع صوت أصطفاق جناحيها. . . ثم لم يعد يسمع شيئاً. . . بقيت لحظة. . . لحظة واحدة بعدها سوف يسقط في البحر. . . ففرد جناحيه. . . وأحس بالهواء يدفعه فحرك جناحيه. . . إنه لا يسقط الآن. . . ولكنه يرتفع. . . وغادره الخوف. . . لم يعد يهاب شيئاً. . . إنه يطير. . . إنه يطير. . . وأطلق صيحة فرح. . . ورأته أمه يطير فأخذت تصيح فرحاً. . . ثم رأى أسرته وقد التف أفرادها به ونسي أنه لم يكن يعرف الطيران فأخذ يحلق في السماء. . . يطير مرتفعاً ثم ينخفض. . . يطير مشرقاً ومغرباً. . . والسرور يملأ نفسه. . . ولكن. . . لقد صار فوق البحر. . . والمسطح الأخضر تحته تماماً. . . ورأى أبوه وأمه وأخوته وقد حطوا فوق البحر. . . وأخذوا ينادونه في سرور. . . أخذ ينخفض حتى بلغ سطح البحر فأسقط رجله على المسطح الأخضر ولكنها غاصت فيه. . . وصاح من الخوف وأراد أن يرتفع ثانية. . . فأخذ يضرب بجناحيه. . . ولكنه كان تعباً. . . ضعيفاً من الجوع. . . لم يستطيع الارتفاع فترك أرجله تغوص. . . ثم شعر بالماء يلمس جسده فارتعد. . . ولكنه لم يغص أكثر من ذلك. . . لقد طفا جسده فوق الماء، والتف حوله أفراد أسرته يصيحون فرحين ثم تقدموا منه وبمنقار كل قطعة من السمك. . . فرموها إليه ثم أخذوا يعودون فرحين. فقد طار صغيرهم لأول مرة. . .
محمد سعد الدين وهبة
الدوحة الذاوية
للأستاذ محمد محمد علي
كانت تنشر ظلالها على ذلك الغدير الرقراق الذي تلتقي عنده مدارج السيول وتنعكس على صفحته ألوان السحب التي تظلل سماء القرية وكان الخريف يبتسم لها فتورق وتزدهر غير أنه في هذه المرة تنكر لها فغادرها شبحاً لا رواء فيه ولا ماء.
زينة الحي جردتك الأعاصير
…
فواها للمة الخضراء
كنت كالغادة المدلة تستج
…
لي رؤى من جمالها في الماء
كنت طيفاً من الجمال وضيئاً
…
لابتسام الخميلة الفيحاء
كنت فناً إزاءه كل فن
…
مستخف كالقطر في الدأماء
رب حسناء تحت ظلك أزكت
…
وقد حسى بالمقلة الحوراء
وابتسام وميضه في حياتي
…
كافترار البروق في الظلماء
رب شرب أقام حولك عرساً
…
بابلياً في ليلة حمراء
يا عكاظ الطيور أين نشيد
…
عبقرى للقينة الورقاء
أين تلك الوكون تطفح بشراً
…
أين ظل يرف فوق الماء
واضطراب النسيم يخرج قسراً
…
من فروع نضيرة ميساء
وائتلاق الشعاع فوق اخضرار
…
سندسي في الليلة القمراء
ذاك عهد طوته منك الليالي
…
في سموم وزعزع نكباء
أنت مثلي وكل من بات مثلي
…
غارق في غيابة الأرزاء
عقني الدهر في رجائي وأهلي
…
وابتهاجي بخيرة الخلصاء
الظلام الظلام يفعم نفسي
…
ويح نفسي من وحشة الظلماء
والصباح المأمول مات بأفقي
…
في غيوم النحوس والبأساء
جاءك الغيث والبروق اشرأبت
…
من فروج السحائب الدكناء
أغمضت أعين النجود فردت
…
سهم لحظ يشير في استهزاء
غرها الخلد والشباب نضير
…
وانطلاق في القبة الزرقاء
واضطراب في الأرض يصرع جيلا
…
أثر جيل من سائر الأحياء
نحن من عنصر التراب ولكن
…
في سمو الوضيئة الزهراء
ليس للأنجم الوضيئة خلد
…
بل رحاب الخلود للشعراء
آه لو كان للأسير جناح
…
مستمر يهتز في الأجواء
كان يستبطن السماء ويدني
…
فلسفات الغيوب للغبراء
كان يحبو مع الشموس بعيداً
…
عن نطاق الصباح والإمساء
كان يبني لقومه شرفات
…
شامخات في هامة الجوزاء
نحن أحرى من النجوم بحشد
…
يرسل النور من جبين السماء
جاءك الغيث فارشفيه كئوساً
…
تطلق الغصن من وثاق الفناء
حسرتا للغصون أوسعها الده
…
ر جموداً كالصخرة الصمَّاء
زينة الحي كل شئ بهيج
…
كل شئ يختال في السراء
غير شخصين ضارعين أقاما
…
في رحاب الوجود رهن شقاء
ها هو الدوح مورقاً فيناناً
…
ها هو التل معشب الأرجاء
ها هو الطير ناشطاً يتغنى
…
في اصطخاب مجلجل الأصداء
صرت قبراً على الطريق ولكن
…
حرمتك الشفاه همس الدعاء
أنت منا لو يعلمون وإن لم
…
تشركينا في سحنة ودماء
رب صخر تهفو القلوب إليه
…
وابن أم كالحية الرقطاء
سجد الناس للصخور قديماً
…
وتهادوا بالغارة الشعواء
لست أنساك ما تألق برق
…
في حواشي سحابة وطفاء
تحدر السيل في المدارح كالخي
…
ل خفافاً تستن للهيجاء
يفعم النفس رهبة ويدوي
…
كدوي العواصف الهوجاء
يخرج الحي من شقوق الروابي
…
هارباً من تزاحم الضوضاء
يركب النجد مائجاً يتنزى
…
ثم يفنى في مهجة البطحاء
محمد محمد علي
شاعرة مصرية
مهداة إلى (الأستاذ العباس) بمناسبة قوله في (عدد الرسالة
784): هل عندنا شاعرات.
شمس الدين السخاوي المؤرخ النقاد للقرن التاسع الهجري أفرد جزءاً خاصاً من تاريخه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) لتراجم النساء في الشرق، ومنه أنقل بإيجاز ترجمة الشاعرة المصرية فاطمة ابنة القاضي كمال الدين محمود بن شيرين: ولدت بالقاهرة سنة 855، ونشأت فتعلمت الكتابة وما تيسر، وتزوجت الناصري محمد بن الطنبغا، واستولدها ابنتها فاطمة وغيرها، ثم مات عنها، فتزوجها العلاء علي بن محمد بيبرس حفيد ابن أخت الظاهر برقوق، فاستولدها بيبرس، ولاحظ لها في ذلك مع براعتها في النظم وحسن فهمها وقوة جنانها حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه. وقد حجت سنة 884 سنة حج الملك، ثم سنة 886، ثم سنة 894 وجاورت في هذه بجوارنا، ثم في سنة 898 مع ابنها وجاورا في التي تليها.
ومما كتبت به إلى من نظمها بعد مجيء الخبر بموت أخوي:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي
…
فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
تجمعت الخيرات فيهم وقد حبوا
…
من الله مولاهم بأعظم منة
وأما التي أدعو لها الله دائماً
…
فآمنة فيكم لآخر مدة
وإن كرهت من حادث الدهر فرقة
…
فجنة عدن بالمكاره حفت
أثابكم ربي وأعظم أجركم
…
على فقد أحباب وأحسن جيرة
كرام سموا علماً وحلماً وسوددا
…
وكنتم بهم في غبطة ومسرة
قطعتم لذيذ العيش وصلا بقربكم
…
فوا أسفا عند الفراق وحسرة
نعم هكذا أيدي المنية لم تزل
…
تفرق إخواناً على حين غفلة
فكرر لذكراهم على السمع ربما
…
به سيدي عن رؤية العين أغنت
فهم في سويداء الفؤاد وإن نأوا
…
ومنزلهم مني مكان سريرتي
لهم برسول الله إذ ذاك أسوة
…
أثابهم الله الجزاء بمنة
وإن أفلت تلك البدور التي زهت
…
فها شمس دين الله خير ذخيرة
هو العالم الحبر الإمام الذي له
…
بفضل علوم شهرة أي شهرة
فليس له في حضرة غير منحة
…
وليس له في خلوة غير خلوة
فأنتم خيار الناس حقاً بلا امترا
…
فديتكم من كل سوء بمهجتي
حماكم إله العرش من كل حادث
…
لتنفع بالآداب كل الخليقة
بحق نبي جاء للخلق رحمة
…
محمد المبعوث من أرض مكة
عليه صلاة الله ما هبت الصبا
…
وتحمل أشواقي إلى نحو طيبة
وكتبت إلي بغير ذلك، ومنه وقد بلغها عن بعضهم كلام:
يا سيداً ما له مثيل
…
من في المهمات أرتجيه
ماذا ترى في امرئ خبيث
…
يحسد ذا سودد عليه
فاسمع كلام امرئ لبيب
…
لجاهل رام يزدريه
ما ضر بحر الفرات يوماً
…
لو خاض بعض الكلاب فيه
ومنه حين طالعت كتابي (ارتياح الأكباد) لتتسلى عن بنت أثكلتها، سائلة عن شئ من الأبيات التي أوردتها فيه فقالت:
يا إماماً قد حاز علماً وفهماً
…
وله في الورى محاسن جلت
ما رأي الشاعر اللبيب بقول
…
جرح القلب والدموع استهلت
فاصطبر وانتظر بلوغ مداها
…
فالرزايا إذا توالت تولت
لم أطق سيدي بلوغ مداها
…
ضعفت قدرتي لذلك وكلت
أخبروني عن نطقه ببيان
…
نلت أجراً ورتبة قد تعلت
ثم كتبت إلى سائلة أيضاً:
يا أيها الحبر وبحر الندى
…
يا حافظاً نقل حديث قديم
يا منحة في دهره لم يزل
…
ممتدحاً من كل (فاء وميم)
يا غاية الآمال يا منيتي
…
يا من به أضحى غرامي غريم
يا شمس دين الله يا من غدا
…
بكل علم في البرايا عليم
ويا سخاوي يا إمام الورى
…
من خصه الله بعلم جسيم
أسألك يا شيخ شيوخ النهى
…
ومن ثوى في فيه در نظيم
فيمن أناها عائق عاقها
…
عن أمل صارت به في حميم
قيامها إذ ذاك يا سيدي
…
بين مقام زمزم والحطيم
في ليلة أخبرنا أنها
…
يفرق فيها كل أمر حكيم
يا من فتاواه إذا أبرزت
…
يكاد ذو فهم بها أن يهيم
يهنك شعبان الذي قدره
…
ما زال عند الله قدر عظيم
بجاه من أسرى به في الدجى
…
وهُو للمولى كليم نديم
صلى عليه الله طول المدى
…
ما ناح قمري بصوت رخيم
وكتبت إلي بلغز في اسمي ونسبي في 25 بيتاً أوله:
ألا يا إمام الناس يا أوحد الورى
…
ويا من حوى كل العلوم ولم يزل
ثم بلغز آخر في اسم (محمد) أوله:
يا مفرداً علومه مجمله
…
وعالماً مولاه قد جمله
وقالت بديهاً في الزين سالم:
أيا سيداً عم الخلائق بره
…
وإحسانه فرض تضاعف لازم
أعن سائلا يأتيك والدمع سائل
…
ولا تخشى من سوء فإنك (سالم)
ذلك، وفي (نزهة الجلساء في أشعار النساء للسيوطي): عائشة الإسكندرية المعروفة بزهرة الأدب، دار محلها يعرف بالروض، ولها شعر. . .
أسامة
الأدب والفنّ في أسبوُع
للأستاذ عباس خضر
الدكتور طه حسين أيضاً:
يوم أشرت إلى ما نمت عليه مقالات الدكتور طه حسين بك، من شعور بعدم الارتياح إلى حاله في مصر وتعزيه عن هذا بمكانه في فرنسا - لم ألتفت إلى ناحية ينبعث منها هذا الشعور، إذ قصرت الأمر على ما عساه أن يكون بينه وبين الدولة من أشياء لا ترضيه؛ وهذه الناحية وقفت عليها من كتاب (رحلة الربيع) الذي أخرجته له أخيراً (سلسلة اقرأ) والذي تحدث فيه بخواطر خطرت له في أثناء سفره إلى فرنسا وإقامته فيها وعودته منها إلى مصر في الربيع الماضي.
يقول في موضع في أوائل الكتاب (وكنت قد تركت في مصر شراً ونكساً وإثاً، وخرجت وفي نفسي شئ من شرها ونكرها وإثمها) ويقول في موضع آخر: (إني لظالم للحق ولنفسي حين أحفل بهذه الضفادع البائسة التي تملأ جو مصر نقيقاً. وما الذي يمنعني حين تثقل على عشرة الضفادع أن أنسل من بينها كما تنسل الشعرة من العجين لأخلو إلى رائع القديم وأخلو إلى رائع الحديث، وأتعزى بجمال الأدب والفن والموسيقى عن قبح السياسة والمنافع وغدر الغادرين ومكر الماكرين وخيانة الخائنين!) ويقول بعد أن يعبر عن اغتباطه بزيارة الأطلال اليونانية في (الأكروبوليس) في أثناء رسو السفينة في أحد ثغور اليونان، وبعد أن يعبر عن نشوته بسماع موسيقى بيتهوفن عند عودته إلى السفينة في المساء، يقول مخاطباً نفسه:(وقد أنكرتك مصر أو أنكرت مصر، فخرجت منها ذات يوم مع الصبح، ولم تكد تنأى عنها حتى غمرك جمال القديم اليوناني في الضحى، وجمال موسيقى بيتهوفن في المساء، فنسيت مصر وأهلها، ونسيت مكر الماكرين، ولهوت عن غدر الصديق وعن جحود الجاحدين).
إذن فالذي استشعره الدكتور طه من الشر والنكر والإثم في مصر، مبعثه غدر الأصدقاء ونفاق المنافقين؛ وليس هذا غريباً، بل هو أمر طبيعي لم يكن من الممكن - في طبيعة الأحوال عندنا - غيره. . . فقد كان الرجل في منصب كبير من مناصب الدولة، وكان له سلطان، وفيه أريحية، فنثر حوله حباً تساقط عليه طير كثير، ولصق به كثيرون من
محترفي الصداقة. فقدم ورفع وأعطى ومنح. وهؤلاء (الأصدقاء) اللصقاء يعرفون كيف يلبسون لكل حال لبوسها، كما يصفهم الدكتور، وقد بلغ الغاية في هذا الوصف، ومن ذلك مخاطبته لأي منهم:(وأي شئ أيسر من أن تصفو لي اليوم وتكدر لي غداً، ثم تعود إلي مثل ما كنت فيه من الصفو، ثم ترتد إلى مثل ما كنت فيه من الكدر، وتجعل نفسك على هذا النحو كرة تقذفها من الصلة إلى القطيعة ومن القطيعة إلى الصلة).
وقد تغير هؤلاء المراءون على الدكتور، لأنه أصبح لا يملك ما كان يملك لهم من المنافع، فتحولوا عنه إلى غيره يلتمسونها عنده.
ولا شك أن من فوائد هذه المحنة النفسية (الطبيعية) هذا التحليل الرائع لتلون المتلونين ورياء المنافقين، وتهوين أمرهم، والسخرية منهم وما إلى ذلك مما تضمنته فصول الكتاب؛ ومن المحقق أن هذه المحنة صبغت - وستصبغ - أدب طه حسين بلون جديد.
ويتعزى الدكتور طه عما ترك في مصر من الشر والنكر والإثم بما يلقى في فرنسا من كثير يعبر عنه تعبيراً يشيع فيه الارتياح والاغتباط. وقد عاد إلى فرنسا بعد هذه الرحلة، رحلة الربيع، ولا تزال بها إلى الآن، يعالج نفسه بما يحب هناك، وما ينسيه ما لقي في مصر. . . ومن حق الدكتور طه حسين على فرنسا أن تيسر له كل ذلك، فقد أحبها وتغنى بها، وها هي ذي تستأثر بقلمه، دون مصر وما فيها من شؤون وشجون. . . ومن حق مصر على فرنسا أيضاً أن تشفى لها نفس الدكتور طه وتأسو جراحه، فقد أنبتته مصر وأنجبته ولم تبخل به على فرنسا. . . وهى - أي مصر المسكينة - حائرة بين إسراف (الفتى) في التدلل وبين غدر الغادرين به، وترجو أن يعو إليها سالما معافى موفوراً.
أدب الهروب:
قرأت في العدد الأخير من مجلة (الأديب) اللبنانية، كلمة للأستاذ حسن حمام من اللاذقية، حمل فيها على الأدباء (الذين غرقوا بين أمواج الحب المصطنع وبين زبد أمواج الرمزية الغامضة وبعدوا عن ساحل الحياة المضطرب الجياش الثائر) وناشد أدباء العرب أن يرفعوا من القومية العربية ويعلوا شأنها، ودعا إلى أن يشعر الأديب بما يضطرب في بيئته ويستوحى أدبه من الحياة وقلبها النابض.
وقد استرعى انتباهي قوله: (إن أدبنا الحاضر أيها الأدباء بحبه وغزله، بشكواه وأنينه،
ببكاه ونواحه، بضعفه وتخاذله، لا يمثل بيتنا ولا يصور حياتنا الاجتماعية والسياسية والقومية. وسيقف أحفادنا في المستقبل من هذا الأدب مقبلين أكفهم متسائلين عن معنى هذا الأدب يحاولون أن يستنبطوا حياتنا الاجتماعية منه فلا يفهمونها) استرعت هذه الفقرات انتباهي، فجعلت أتصور أدبنا الحاضر وأجول بفكري في نواحيه المختلفة، وأسأل نفسي لأحقق قول الكاتب الفاضل: هل يصور هذا الأدب حياتنا بحيث يستدل به عليها الآتون من بعدنا أو بحيث يصدق عليه ما هو مقرر معروف من أن الأدب مرآة المجتمع وصورة الحياة؟
إن أكثر الكتاب والشعراء مشغولون بالدراسات والبحوث والتعبير عن المشاعر المترفه، أو بالسياسة الحزبية، أو بالتوافه المسلية؛ فأين الحياة التي يحياها الناس من كل هذا؟.
والدراسات الأدبية مطلوبة ولابد منها للبناء عليها، ولكن لا يجوز أن يعكف عليها، ولكن لا يجوز أن يعكف عليها كلنا، أو أن نستهلك فيها كل جهدنا، ولا نضيف إلى أدب الذين ندرس أدبهم أدباً يدل على أننا كنا هنا. . .
لقد قال الكاتب في مستهل كلمته إنه تناول عدداً من مجلة الأديب فلم يجد به تعبيراً عن مثل ما يجيش بنفسه من المشاعر القومية. والعدد الذي نشرت به الكلمة زاخر بالفصول الأدبية الدراسية والأبحاث الفلسفية العالية، ولكنه يكاد يخلو مما يدعو إليه. وليست الزميلة كذلك وحدها فهذا طابع عام للإنتاج الأدبي في جميع البلاد العربية في هذا الوقت الذي يتوثب فيه الوعي العربي الجديد وينظر شزراً إلى الأدب الذي أنبت عنه.
وقد سمى السيد حمام هذا الإنتاج الذي يهرب أصحابه من الحياة (أدب الهروب) وقد أعجبتني هذه التسمية فأثبتها على رأس هذه الكلمة.
أهذا جزاء النيل؟:
أرادت إدارة الإذاعة أن تشارك في الاحتفاء بوفاء النيل، فأذاعت شيئاً مما تسميه (برامج خاصة) اسمه (النيل) من تأليف حضرة مراقبها العام، جمع فيه كل محفوظات الإذاعة مما يتعلق بالنيل من مثل (النيل نجاشي حليوة أسمر) و (يا بحر النيل يا غالي). . .
وقد بدأ البرنامج بمناجاة شعرية من الشاعر القديم (حابى) يلقيها بين يدي النيل ويتحدث فيها عن الآلهة القديمة، وقد أقلق مؤلف البرنامج روح (حابى) وأرواح تلك الآلهة إذ أثارها
من مستقرها في كتاب الأستاذ حسن سليم بك، حيث يليق بها أن تكون، لأنه كتاب علمي؛ وأكرهها على الظهور أمام جمهور مستمعي الإذاعة الذين لا يألفونها. . .
ويدور الحوار في البرنامج بين النيل ومصر على نسق كتب المطالعة للمدارس الابتدائية، كالمناظرة بين الدراجة والحمار. . . وكان الممثلون يلقون كما يطالع التلاميذ، والتي مثلت مصر مثلت بها!.
واستغرقت إذاعة ذلك البرنامج نحو ساعة قضيتها متجشما الإصغاء لأرى نهاية ما يصنع بالنيل. . . فقد كان كلاما يتلو بعضه بعضاً على كره، لا أثر فيه لأي عمل فني. وظاهر أن المقصود منه أن يكون حبلا يجر ما لدى الإذاعة من (الاسطوانات) القديمة التي ورد فيها ذكر النيل، وقد كان يمكن إذاعتها من غير هذا التكلف.
والنيل واهب مصر، وكل من فيها يعيش في كنفه وعلى ما يجود به غدواته، فهل يصح أن يكون هذا جزاؤه من مراقب الإذاعة العام؟ وماذا ترك للمراقب الخاص ومن دونه. . .!
لا تكتبوا عن أشياء:
شغل البريد الأدبي في الرسالة. . . منذ أكثر من شهر - ببحث نحوي أثاره الأستاذ محمود البشبيشي في كلمة (أشياء) ولا تزال المناقشة متصلة بين الأستاذ ومناظريه، وهى مناقشة لا طائل تحتها، فسواء أكانت أشياء على وزن أفعال أم على وزن فعلاء، وسواء أكانت جمع شئ أم جمع (لا شئ) وسواء أكانت ممنوعة من الصرف أم ليست ممنوعة منه ومستعملة كالممنوع.
كل ذلك لا أثر ولا نتيجة عملية له، لأن الكلمة (أشياء) تنطق وتكتب وتقرأ وتفهم، فلا تختلف في شئ من ذلك على أي وجه من تلك الوجوه. وأنا لا أنكر النبذ النحوية واللغوية التي يتعقب بها كاتبوها زلات الأقلام، فهذه رقابة لغوية مفيدة، على أن يكون (الرقيب) جيد التحصيل حسن التصرف غير متشدد ولا متعسف. أما الجدل في التعليلات النحوية وما يماثلها فلا غناء فيه. ثم أريد أن أسأل الأستاذ أحمد أحمد العجمي: أيهما أولى بالتأمل والتثبت، إحصاء المقاطع (إن إن) أو ملاحظة الفرق بين الماضي والمضارع؟ وأرجو أن يكون قولك:(ولا يقال أنا لا أزال أقول كما قال الأستاذ إلا في الدعاء كقول ذي الرمة: ولا زال منهلا بجرعائك القطر) أرجو أن يكون هذا الكلام الذي يريد أن يمنع دخول لا النافية
على (أزال) المضارع من هفوات العلماء. . .
وبعد فلم لا يترك أستاذنا البشبيشي هذه (الأشياء) ويعود إلى الروض؟
مسابقة القصة في الإذاعة:
كانت إدارة الإذاعة قد أعلنت عن مباراة في القصص، وألفت لجنة للتحكيم فيما يقدم أليها برياسة الأستاذ عباس محمود العقاد وعضوية الأستاذين محمد فريد أبو حديد بك ومحمد كامل المحامى. وقد انتهت اللجنة من عملها وأعلنت نتيجة المباراة كما يلى:
لم يفز أحد من المشتركين في المباراة بجائزة من المرتبة الأولى وفاز بالجائزة الثانية - وقدرها ثلاثون جنيها لكل فائز - ثمانية متبارين. وفاز بالجائزة الثالثة - وقدرها عشرون جنيهاً لكل فائز - اثنا عشر. وقبل عدد من القصص لتذاع بالمكافأ المعتادة، وعنيت قصص أخرى يختار منها للإذاعة.
وقد بدت في هذه المسابقة ظاهرة تكررت في غيرها من المسابقات الأدبية المختلفة التي أجريت في السنوات الأخيرة، وهى إحجام المعتدين بأنفسهم من ذوى الإنتاج الجيد عن دخول هذه المسابقات، وقد نشأ عن هذه الظاهرة خلو المرتبة الأولى في مباراة الإذاعة. ويحدث أن تسأل شاباً من المعروفين بالنشاط الأدبي: لم لم تدخل مسابقة كذا؟ فيجيب: قد تقدم إليها فلان وصلته بفلان (أحد المحكمين) وثيقة. . . وأنا لا صلة لي بأحد منهم. . . ومما يذكر - اعتباطاً - أن بين الفائزين في مسابقة الإذاعة موظفين فيها.
من طرف المجالس:
قال المتحدث: أرأيتم ما نشر بإحدى المجلات الشهرية من شعر شاعرين: ذكر وأنثى وصورة لهما؟
ولم يبد على الجالسين أنهم رأوا شيئاً من ذلك، فنظروا إليه متسائلين، وقال قائلهم:
وكيف كان ذلك؟
- عبرت الفتاة (ا) عن لواعج فؤادها في أبيات، ورد عليها الدكتور (اأيضاً) بأبيات ضمنها هواه، ونشر كل ذلك تحت صورة اضطجع فيها الشاعر على سرير، ووقفت الفتاة بجانبه.
- وما معنى هذا الوضع؟
- لا أدري، ولعل في بطن الشاعر. . . على أن الجدير بالسؤال هو أثار الفتاة هذا الشاعر وهو كما نعلم مثل من دعاه الغواني عمهن!.
قال ثالث: ألا يدل هذا على أن الأمر بينهما هوى شعر؟
قال آخر: ولم لا تقول إنها اختارته على طريقة فقراء الهند؟
عباس خضر
البَريُد الأدَبيَ
لا أزال عند رأيي في (أشياء)!
قبل معاودة البحث في هذا الموضوع أرى لزاماً أن أحمد الأستاذ الفاضل أحمد العجمي جنوحه بالمناقشة إلى الهدوء والأناة وهما أساس أدب البحث، وطريق الوصول إلى الحقيقة.
ثم أرجع فأكرر أنني لا أزعم أن كلمة (أشياء) وردت مصروفة في التنزيل أو في غيره من الكلام؛ ولكني أعتقد أن علة عدم صرفها في التنزيل - في سورة المائدة - ترجع إلى خصوصية سامية مما ألتزمه القرآن الكريم؛ وهي في هذه المسألة الترفع عن شائبة التنافر بتكرار مقعطع واحد حتما وهو (إن) في الآية الكريمة؛ وإذا كان الشعر خلوا من ورودها مصروفة فالشعر محل التساهل؛ يتحكم الوزن فيه فيصرف ما لا ينصرف، ويمنع صرف ما ينصرف؛ إلى غير ذلك مما لا يخفى على الأدباء؛ أما ورودها ممنوعة في النثر فهو إتباع للوضع الذي وجدت عليه في القرآن الكريم، ومسايرة للقدامى من أئمة النحاة الذين ذهبوا في التماس علة المنع مذاهب شتى، أقربها إلى حسن الذوق وأدناها إلى الحق رأي (الكسائي) الذي نقله الأستاذ الفاضل محمد غنيم، وهو مشابهتها للاسم المختوم بألف التأنيث المحدودة؛ وقد التمست فيما هداني إليه البحث علة فنية سائغة لمنعها من الصرف الآية الكريمة، وهذه العلة تجعل الحكم مرتبطاً بجو الكلمة في الآية، فتعود إلى حقها الطبيعي في الصرف إذا خرجت عن هذا الجو، والعلة - كما يقولون - تدور مع المعلول وجوداً وعدماً؛ وإذا كنت في هذا مخالفاً للإجماع فما هو بإجماع على حكم شرعي ولا أصل معلوم بالضرورة من أصول الدين.
والقول بجواز الوصل بين جزأي آيتي (يسّ) و (الملك) لا يمنع جواز الفصل بينهما؛ فهو رد احتمالي لا يركن إليه في المحاَّجة؛ والقول بتساوي الحرف اللين الصامت الهادئ في كلمة (شئ) والحرف الصاعد الممدود في كلمة (أشياء) مما لا تقره أذن شاعر موسيقي الإحساس كالأستاذ أحمد العجمي؛ فانتقال حركة التنفس من الأول إلى مقطع مكرر وهو (إن) أسهل من انتقالها بعد صعود كبير في ألف (أشياء) إلى ذلك المقطع المكرر حتماً في آية (المائدة).
هذا وقد تسرَّع الأستاذ في مقاله الثاني فخطّأني في قولي (لا أزال أقول. .) وقال وإنها مقصورة على الدعاء محتجاً ببيت قديم أورده (الأشموني والصبان، وابن عقيل، والخضري) وهو قول (ذي الرمة) أو غيره:
ألا يا أسلمي يا دارمى على البلى
…
ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وسها الأستاذ الفاضل عن أن (لا زال) خلاف (لا أزال) وأنا لا أحمل منه ذلك إلا على السهو، وإلا فهل غاب عنه قول الله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) وقوله مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم (ولا تزالُ تطلع على خائنة منهم)؛ وبعد فأنى مع الأستاذ العجمي في أن الأسباب التي قالوها في منع (أشياء) من الصرف قد أثقلت كواهل النحويين في الكتب وإفهام الطلبة في المدارس، ولذلك أدليت برأيي؛ والحمد لله على توفيقه. والسلام.
(الإسكندرية)
محمود البشبيشي
إلى المشتغلين بإصلاح الأزهر:
اسمحوا لي يا سادة أن أعبر عن رأي لا أدري أيروقكم أم لا، وذلك بعد أن أحييكم تحيات عطرة. . .
الأستاذ الشرقاوي يريد أن يخرج علماء قوامين على التراث الإسلامي والعربي، وهو مطلب عسير على عامة الأزهريين مهما أدخلوا لهم من إصلاحات. ولم يبق إلا الخاصة وهؤلاء هم الذين يعقد عليهم الأمل. . . وهم بعون الله يتخطون السدود والقيود، ويحققون كثيراً من الأماني التي تناط بالأزهر، وشأن الأزهر في ذلك شأن كل جامعة وهيئة، ولا أجد في علم الأزهر خيراً من تعبير الرسول في حديثه المشهور:(مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً الخ). فالأرض الطيبة لا بد أن تنفع الناس وتتغلب على عوامل الجفاف. والخبيثة لن تجديها نترات الشيلي التي تحاولون أن تنثرها على سطحها. وأضنني لا يعوزني التطبيق بالأمثلة الحية، فمحمد عبده لا يزال حياً في الأذهان وغيره كثير. كل على مقدار ما كان يكن من حيوية.
أقصروا الأمل على الأذكياء وستجدون النتيجة تشجع كثيراً، ثم هم لن يتعبوكم كثيراً، وإذا شئتم أن تساعدوهم، فنقبوا عنهم في حقول الأزهر، أدام الله غيرتكم الطيبة، ووسع من المنطقة التي نحتلها في قلوبكم. . .
(أزهري)
لا زال في النقي والدعاء:
كتب الأستاذ أحمد أحمد العجمي في رده على أستاذنا الكبير البشبيشي في العدد 790 من الرسالة الغراء ما نصه (ولا يقال أنا لا أزال أقول كما قال الأستاذ إلا في الدعاء كقول ذي الرمة ولا زال منهلا بجرعائك القطر).
وأود أن أقول للأستاذ العجمي أن (زال) تدخل عليها (لا) النافية ولا مانع في ذلك كما تدخل عليها (لا) في الدعاء وكل ما قيل هو أن الدعاء في (زال) يكون (بلا) خاصة ولم يقل أحد أن (لا) مقصورة على الدعاء وقد مثل الأشموني وغيره من النحويين للنفي بقوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك).
فعلى هذا قول الأستاذ البشبيشي (أنا لا أزال أقول) صحيح لا خطأ فيه. . .
عمر إسماعيل منصور
1 -
مجلات الثقافة في المدارس الأولية النموذجية:
أعلنت وزارة المعارف أنها سترعى المدارس الأولية النموذجية (مدارس المرحلة الأولى الجديدة في مصر) بما تعمله في مدارسها الابتدائية سواء بسواء. . وننظر من هذه الناحية إلى مجلات الثقافة فيها فنراها تجري عليها (مجلتي الإصلاح الاجتماعي والفلاحة) فقط في حين أنها تشترك للمدارس الابتدائية ودواوين المناطق الإدارية! في جميع المجلات المأمولة النفع كالرسالة والثقافة والهلال الخ - وحاجة هذه المدارس إلى جميع هذه المجلات أقوى وأشد؛ لبعد غالبيتها عن المدن - أماكن المكتبات العامة - ومن ثم فإننا نرجو ألا يأتي العام الدراسي القادم إلا وتكون هذه الرغبة حقيقة واقعة لمصلحة العلم والتعليم والتربية الاجتماعية والثقافية في مصر.
2 -
معلمو الشعب في مصر
ينحدر معلمو الشعب في مصر من أصلاب الغالبية فيه وهم الفلاحون فاشترك حظهم وحظ هؤلاء مع الحكومات المصرية المتعاقبة شداً وجذباً ومداً وجزراً!! وقد انتهت بهم هذه الحال إلى أن يحرموا في هذا العهد من (التنسيق) دون غيرهم من موظفي الدولة!! - وهذا العمل لا يضر بنتائجه الخفية والظاهرة هؤلاء المعلمين بالذات، وإنما يتأثر به المجتمع المصري الذي يرتبط بوجودهم في كل مظاهره وحقائقه - وإذا كان هؤلاء المعلمون بحق هم رسل الثقافة الشعبية في الديار المصرية، فقمين بمجلة الرسالة وهي من تعرف فضلهم وتقدر صنيعهم أن تسجل في صفحاتها هذا العمل الذي لا يتفق مع الحق والعدالة والمساواة بين أبناء الأمة قبل أي اعتبار آخر!.
خورشيد عبد العزيز
معلم دمبره
تصحيح:
ورد في مقالي السابق عن رقص السماح أن أحد المختصين في حفظ الموشحات من المتوفين الشيخ صالح الجدبة كان يحفظ عشرة آلاف موشح، والصواب ألف موشح وأن أحد كبار العازفين على الكمان من الحلبيين توفيق الصباح والصواب توفيق الصباغ الملقب بسلطان الكمنجة الموسيقار المعروف ولذا اقتضى التنويه والإفصاح.
(دمشق)
حسن كنعان
القَصَصُ
الانتظار
للكاتبة الأمريكية سنزي أورموند
لقد أخبرها بأنه سيعود إلى الديار بعد انتهاء الحفلة قبيل منتصف الليل. ولكن الساعة الصغيرة القائمة على المنضدة كانت تشير إلى الواحدة صباحاً. إنه لم يسبق له أن تأخر مثل هذا التأخير تأخر وحيداً وبدونها.
ورقدت تحت الأغطية في فراشها قلقة مضطربة. كانت مجهدة من العمل. وكانت كل حاسة فيها تصيح بها أن استريحي ولا تقلقي كل هذا القلق على ولدك لقد بلغ السادسة عشرة. إنه الآن ليس طفلاً.
وتذكرت. . . لقد ذهبت مرة في صباها إلى النزهة ولم تحضر إلا ليلا. وعندما عادت ورأت الستار القاتم على نافذة غرفة الجلوس ينسدل ارتبكت واضطربت. إن والدتها كانت تتطلع خلال النافذة تترقب عودتها في قلق ولهفة. إنها لا تزال تذكر كلمات أمها وهي تقول لها (انتظري يا عزيزتي وستشريني في يوم ما على شدتي نحوك). ولكنها كانت في سن السادسة عشرة ولم تكن لتعي معنى لهذه الكلمات، ولا لما قالته والدتها بعد ذلك (أنها ليست كمسألة عدم الثقة بك، ولكن كثيراً ما تقع الحوادث بين أطيب العائلات في هذه الأيام).
ولا تدري لماذا كانت تهيجها هذه النصائح عند بلوغها هذا السن الذي أدركت فيه الشعور بالحرية الشخصية. ذلك الوقت التي بدأت تخفي فيه بعض أسرارها، وتشعر بأنها تخصها وحدها، تخص عالمها التي تعتقد أنه ملك لها.
ولكن. . . كانت والدتها تتدخل في كل شؤونها، فتفتح رسائلها قبل أن تعود من المدرسة. إنها لا تلومها على رقابتها، ولكنها ليس لها حق فض رسائلها، إن التدخل فيما يخصك في هذا السن هو إهانة لا تغتفر، ولا يصح أن يحدث ذلك لأولادك كل ما تستطيع عمله هو أن تراقب فقط، وعندما يكبرون ويقبلون على الزواج.
نعم، لقد اكتمل نضجها وتزوجت، ثم ترملت بعد عامين، وها هو ذا ولدها قد نما عوده ووصل إلى أول مرحلة الشباب. إنها لم تفكر قط في الاطلاع على رسائله كلا، إنها لن تتهم بذلك الفعل، ولكنها الآن راقدة في فراشها مغمضة العينين، وقد انسابت روحها تخترق
ستار النافذة وتتساءل: لماذا لم يحضر؟ وما الذي حدث له؟ وعزمت على أن تسأل عنه في المستشفيات وفي أقسام البوليس إذا لم يعد بعد نصف ساعة. . . من يدري؟ فلعله راقد الآن في غيبوبة، أو ملقى في حفرة وقد سلبت منه ساعته اليدوية التي أهدتها له في عيد ميلاده الأخير والخمسة دولارات التي في جيبه، إن الكثير من الحوادث أحياناً ما يقع بين أطيب العائلات! وطاف بفكرها خاطر مزعج، إن على ولدها أن يعبر تلك الشوارع التي يجتازها سائقو السيارات، بعرباتهم غير مبالين بنظام المرور في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وودت في تلك اللحظة لو أنها كانت تعيش في الريف بعيداً عن هذه السيارات. . .
وهبت واقفة وأقبلت على النافذة تتطلع إلى الشارع. يا إلهي ما هذا الضباب المخيم في الخارج؟ كان يتكاثف واستقر في صمت وسكون. وتركت طرفي الستارة، ثم زحفت داخل الأغطية في عصبية. وحاولت أن تسيطر على أعصابها، وأغمضت عينيها. ولكن. . سرعان ما فتحتهما عند سماعها صوت أقدام تدب خفيفاً على إفريز الشارع. حمدا لله ها هو ذا قد قدم.
وترددت الخطوات، ثم سمعت بابا يفتح. لم يكن باب شقتها بل كان باب جارها الكهل. ثم سمعت صوت سيارة الإسعاف فهبت من فراشها بقلب واجف، كانت تسمع رنين جرس السيارة كأنه العويل، وسرعان ما تلاشى الصوت تدريجياً واختفت السيارة.
وأقبلت على النافذة مرة أخرى وتطلعت، وإذا بولدها قادم صوب المنزل، يسير وقد انعكست عليه أنوار الشارع. نعم إنه هو ولا يمكنها أن تخطئ مشيته وحركاته. كانت ساقاه الطويلتان تخطران في خطوات متسعة نحو الدار، وكان يصفر لحناً شائعاً، وكتفاه يتمايلان في حرية وكأنه يقول:(إن هذا هو عالمي. . . أنني رجل وهذه دنياي). وشعرت بالغضب يعصف بها، ثم بالحزن ينتابها، كانت تود أن تشاركه ذلك الشعور بالحرية، ولكن قلقها عليه حال بينها وبين ذلك. وتبين لها حقه في السير، لا في هذا الشارع الذي تحفه الأشجار فحسب، بل في الأزقة المظلمة والأماكن الأخرى، بل حتى في الأركان المظلمة من عقله. إن وجوده معها تحت سقف واحد لا يعطيها الحق في امتلاكه امتلاكا كاملا. وليس لها حق مشاركته أفكاره إلا إذا اضطرتها الظروف اضطراراً. إن الرجل له حق العيش في عالمه الخاص. وإذا سمت أفكاره حتى وصلت إلى الأشجار التي يسير تحتها وإذا ما جعلته يصفر
مسروراً، إذاً لوجب عليها أن تكون سعيدة من أجله. ومع ذلك. . . كان في استطاعته أن يخبرها تليفونياً. وعادت إلى فراشها وتنفست في هدوء عندما أقبل ولدها، وحياها في مرح وهو واقف على عتبة غرفتها وقال (لقد ظننتك نائمة إن الساعة الآن حوالي الثانية). كان يشوب صوته نبرات من الحماس. وتمطت ثم مسحت عينيها وتمتمت قائلة.
- يغلب على ظني أنى نمت وتركت النور مضاءاً دون أن أطفأه. مساء الخير يا عزيزي. ثم مدت يدها لتطفئ النور. ولكن ولدها تقدم في الغرفة ووقف أمام فراشها ينظر إليها، ثم قال
- أظنك لم تسمعي ما قلته. إنها الآن الساعة الثانية صباحاً.
وتظاهرت بالدهشة ثم قالت - نعم إنها الثانية. حسناً. . . ليلة طيبة يا بني. ونظر إليها مستغرباً ثم قال - ألست عاتبة على؟! فتثاءبت وقالت - ولماذا أعتب عليك؟
- ولكنى قلت إني سأعود قبيل منتصف الليل. إني آسف إذا كنت قد أقلقتك. وأظن أن جدتي قد رفعت عقيرتها حتى السقف. إنه لا فائدة من إخباره الآن أن جدته قد رحلت غاضبة بعد أن يأست من التحدث معها عن (طيشه وتأخره) فقالت - لم أكن قلقة على الإطلاق: - هذا حسن. كان يجب على أن أخاطبك تليفونياً، ولكن. . . ما الأمر؟! هل الضوء قوى؟! وأنزلت عينيها عن موضع أحمر الشفاه الملطخ به خده وقالت في بطء أجل. . . إنه الضوء. . . وضغطت على أداة إطفاء النور، وغمر الليل الهادئ الغرفة. إنها لن تر أحمر الشفاه في ذلك الضوء. كانت تعرف بأنه لو كان عنده ما يقوله لها هذه الليلة فأنها لا ترغب في أن تفرض عليه القول فرضاً كأنه واجب يتحتم عليه أداءه. إنه ليكون أقل ارتباكا إذا ما اعتقد بأنها لم تلحظ هذه البقعة الحمراء. ولكنها كانت تشعر في قرارة نفسها أن ما شاهدته لم يكن سوى نصف الحقيقة. وكانت غريزتها تهيب بها أنه يتحتم عليها أن تنتظر حتى يطلعها على النصف الآخر، أو. . . أو يفضي إليها بالأكذوبة التي تخشاها. فقالت:(هل هناك فتيات في هذه الحفلة الليلة؟). انساب ذلك السؤال منها دون أن تتمكن من كتمانه، وانتظرت في لهفة الرد عليه، وخيل إليها أنه أبطأ في الرد كثيراً عندما قال:(كلا. . . كلا). ولم ينظر إلى عينيها عندما استمر يقول: (لم يكن هناك ألا رفقائي. . . ولكن. . . يوجد شئ آخر أود أن. . .) فقاطعته قائلة وهى تحاول الاحتفاظ بهدوئها:
ليس الآن يا عزيزي. . في الصباح. فتمتم قائلا: حسناً ثم استدار وسار صوب الباب وأقفله وراءه في هدوء، وجلست في فراشها متصلبة الجسم حزينة القلب، لقد كذب عليها أولى أكاذيبه، أكانت هي الأولى حقاً؟ كم عدد الأكاذيب التي سبقت هذه الكذبة؟ وشعرت برغبة جارفة تدفعها إلى القفز من الفراش لتواجهه بخديعته وتقول له: التفت إلى. ثم ماذا؟ إنها تشعر بأنه لا فائدة من مواجهته، إنه ليكفى أن تنظر إلى وجهه، فيحدق إليها بطريقته المحبوبة، وإذا بشيء ينغلق خلف تلك العينين الرماديتين.
إن خوفها كان أكثر من ألمها، خوفها من أن تكون أمها على حق، ربما كان ولدها في حاجة إلى المزيد من الرقابة. وشعرت برجفة تسرى في جسدها، كان يجب عليها أن تواجه كل شئ دون موارية. وسمعته يتحرك في الحمام وهو ينظف أسنانه ويخلع حذاءه، ثم سمعت الماء يجرى على جسده، ووقع خطواته على الأرض، ومسح جسمه بالمنشفة، ثم خرير الماء المتساقط من الصنبور. كان له وقع غريب في أذنيها كأنه صوت لحن موسيقى واستمر الماء يتساقط. هاهو الآن في المطبخ يبحث عما يأكله كان يحاول ألا يحدث صوتاً حتى لا يقلق نومها. وانطفأ النور في المطبخ ولما تزل جالسة في فراشها، ثم استمعت إلى وقع خطواته تتلمس طريقها في الظلام وهو يسير في البهو وفى غرفة الجلوس، إن هذه الأصوات العادية كانت كأنها تجمع في ذاتها سر الحياة ربما كانت غير عادلة نحوه، يجب أن يكون هناك شرح مقبول لهذا الطلاء الأحمر، واستمعت مرة أخرى إلى خرير الماء التساقط وخيل إليها أن نغماته قد اختلفت عن ذي قبل. ومرت بيدها على وجهها، لقد فشلت في أداء مهمتها كأم، إن والدتها على حق، لو كانت قد تعهدت ابنها كما نصحتها لما كذب عليها الآن، إنه لم ينو الذهاب بتاتاً إلى تلك الحفلة، لقد حاول أن يخبرها بشيء الليلة، ولكنها لم تحتمل الاستماع إليه. وسمعت همساته صادرة وراء الباب تقول:(ألا زلت مستيقظة؟) فقالت: (ادخل) ربما كان من الأفضل لها أن تعرف كل شئ الليلة، وأقبل عليها وهو يحمل زجاجة قد امتلأ نصفها باللبن، وجلس على المقعد الكبير، ها قد حان وقت الاعتراف، وجعل يرتشف اللبن ثم قال فجأة:(لقد تركت الحفلة مبكراً. كان ذلك عند الساعة الثامنة. . .). فقاطعته قائلة: يا عزيزي. . . يخيل إلى أنى أسمعك وكأنك جالس تؤدى شهادة في المحكمة. كلا. لا أود فقاطعها قائلا وهو ينظر إلى وجهها وقد تدفقت
الكلمات من فيه: (الحقيقة أنى خرجت مع فتاة، وأكنى لم أرغب في أن أطلع أحداً على ذلك) ونظرت إلى ولدها، كان في وجهه البراءة ونضارة الشباب، إن ألم الوضع لم يكن الألم الوحيد للأم، إن مهمتها تنحصر في شيئين: أن تكون أما وأن تكون أباً. وها قد حان الوقت الذي يجب أن تؤدى فيه مهمتها على الوجه الأكمل، والذي يجب أن تدرك فيه دون مرارة بأنه إذا توجهت نظرات ولدها إلى حقيقة الشباب، فإنها يجب أن تودع صباه. واصطبغ وجهه بحمرة الخجل وهو يقول:(كانت تنتظرني مع أبويها، وذهبنا معاً، وكنت على وشك أن أخاطبك تليفونياً، إلا أنى لم أستطع الاتصال بك). ثم وضع الزجاجة على المنضدة ونهض وقبل والدته. وحياها تحية المساء. وعند ما اقترب من الباب تردد ثم قال أظن أنى ارتكبت غلطة واحدة، لقد قلت لوالدتها (نعم يا سيدي) فابتسمت وقالت (لا تفكر في ذلك. وعلى فكرة يا حبيبي إذا كانت قد أخلفت الميعاد فما الذي كنت تفعله؟) وفكر لحظة ثم قال (لا أعلم. أظن كنت سأقول لنفسي (حظ عاثر) ثم أترك الأمر يقف عند هذا الحد. ألا تعلمين أنها ستقابلني لأعرفك بها وبوالديها؟ على أية حال أظن أنى عملت كل شئ على ما يرام، أليس كذلك؟) فابتسمت وقالت في إخلاص) أجل، لقد قمت بكل شئ على الوجه المرضى) وذهبت وجلست يغمرها الضوء وهى تبتسم لنفسها. نعم لقد أدى كل شئ على الوجه الأكمل. إنه لم يحدثها عن القبلة. هذا حسن. إنها فخورة به. لقد أصبح رجلا مهذباً. ثم أطفأت النور واستقرت في فراشها في رضاء تام. لقد انقطع خرير الماء. وأسفت على ذلك. كان في الحق صوتاً مبهجاً.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب
الكتُبُ
1 -
أعلام الشعر الفرنسي وطرائف من آثارهم
تأليف الأستاذ العوضي الوكيل، والسيدة س. عبد الرزاق
صبري
هذا كتاب يحتوي على إهداء وتمهيد وتراجم ومختارات:
فالإهداء - كما كتبه الأستاذ العوضي - (إلى حضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا. منذ عامين سميت ابني الثاني باسمك وكأنه كتاب أرفعه إليك، وهاأنذا أرفع هذا الكتاب إليك وكأنه ابن أسميه باسمك) وعجب فالباشا أهل لما أهدي إليه لما يسبغه على الأستاذ من فضله وتقديره ووده أولا، ولأنه يحسن فهم الكتاب المهدى إليه ثانياً، فهو أديب مطلع على كثير من الآداب العربية والغربية، والمؤلف بهذا الإهداء يصطاد عصفورين بحجر واحد. فهو بهديته يعلن بره واعترافه بالجميل لموليه، ويقدمها لمن يقدرها قدرها.
والتمهيد قصير: يتضمن (تعريفات) موجزة بأسماء النزعات الأدبية الواردة في كتابه: كالكلاسيكية والرومانتيكية والليريكية والبرناسية والرمزية، وهذه التعريفات غير منطقية لأنها غير جامعة ولا مانعة، ولا توضح الفوراق الحاسمة بين نزعة وأخرى من النزعات الأدبية مع أن التوضيح هو المقصود.
والتراجم والمختارات هي الجزء الرئيسي في الكتاب والمترجمون خمسة: أولهم ألفونس دي لمرتين (1790 - 1869م) صاحب رواية روفائيل التي ترجمها الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات من الفرنسية إلى العربية ترجمته العالية المشهورة، وقد اختار له المؤلفان قصيدة عنوانها الوحدة ، فترجماها شعراً ثم نثراً. وثانيهم فكتور هوجو (1802 - 1885م) صاحب رواية البؤساء التي ترجمها الشاعر المصري المرحوم حافظ بك إبراهيم ترجمته العالية المشهورة أيضاً. وقد اختار له المؤلفان قصيدة عنوانها (الضمير) فترجماها نثراً وشعراً، وقصيدة عنوانها (واترلو فترجماها شعراً وعقبا عليها بشروح موجزة لبعض الأعلام الواردة فيها.
وثالثهم الفريد دي فيني (1797، 1863م) وقد اختارا له قصيدة عنوانها النفير في قرابة ثمانين بيتاً، ومهداً لها بتصوير القصة التي بعثت عليها كما حدثت والفرق بينها وبين صورتها محرفة في القصيدة وأتبعاها بتفسير قصير لبعض أعلامها، وترجما له أيضاً قصيدة عنوانها (موت الذئب) شعراً ونثراً. ورابعهم ألفريد دي موسيه (1810 - 1857م) صاحب رواية (اعترافات فتى العصر) التي ترجمها المرحوم فليكس فارس، وقد اختار المؤلفان للشاعر قصيدة عنوانها (ليلة مايو فترجماها شعراً في قرابة تسعين بيتاً، ثم ترجماها نثراً، وقدمها لها مقدمة قصيرة تصف الحالة التي كان عليها الشاعر حين نظمها.
وخامسهم بول فرلين (1844 - 1896) وهو أقل الأعلام حظاً من الدراسة والمختار، فدراسته وقعت في ثلاث صفحات ونصف صفحة، ولم يختر له المؤلفان غير قصيدة واحدة عنوانها (الخريف) ترجماها في ثمانية أبيات.
ومن هذا العرض نفهم ما في العنوان من مبالغة، فإن (أعلام الشعر الفرنسي) ليسوا خمسة فحسب، والخمسة المترجمون كلهم من شعراء القرن التاسع عشر وحده، وليسوا مع ذلك كل (أعلام الشعر الفرنسي) فيه. ويلاحظ أن دراسة الأشخاص واضحة جيدة، وأسلوبها شبيه بالأسلوب الإنسكلوبيدي فهي تعريفات خفيفة تتناول ظواهر الأشخاص ولا تنفذ إلى ما وراءها.
كما يلاحظ أن القصائد المختارة سهلة قريبة التناول في (صورتها العربية) ولا أستطيع الحكم على الترجمة من حيث أداؤها للأصول الفرنسية (وهي ما يعول المؤلفان عليه) إذ لا علم لي بها. ولكنا نستطيع أن نقارن بين الترجمتين الشعرية والنثرية للقصائد التي ترجمها المؤلفان: شعراً ونثراً معاً. والمفهوم لي أن الترجمة النثرية أدنى إلى الأصل، فإن الناثر أكثر حرية وقدرة على التزام الأصل من الشاعر، إذ لا تتكاءده عقبات الوزن القافية التي تتكاءد الشاعر فتضطره في بعض المراحل أن يحيد عن الطريق قليلا أو كثيراً ويظهر أن الأمر مع المؤلفين كذلك.
وهذا مثال لم أتكلف في اختياره: فهو صدر القصيدة الأولى لأول الأعلام كما رتبوا في الكتاب وعنوان القصيدة (الوحدة) للمرتين، والمثال قد اجتمعت له ثلاث أوليات:
والترجمتان للمؤلفين: قالا شعراً:
(أسرح الطرف في الوادي الذي انبسطت
…
أمام عيني ووجداني مرائيه
والشمس تسبح نحو الغرب في طفل
…
وقد جلست حزين الفكر عانيه
في ظل (صفصافة) أمست كهولتها
…
تذرو الشجون على الوادي وما فيه
أرى هنا غالباً في وحدة عجب
…
مشرداً وكأن القلب في تيه)
وقالا نثراً، والنثر والشعر يتقابلان، فهما ترجمة لشيء واحد:
غالباً. . . على الجبل. . . وفي ظلال بلوطة معمرة
أجلس ساهماً حزيناً والشمس في ساعة الغروب
أسرح الطرف هنا وهناك في رحاب الوادي
الذي انبسطت أمام عيني لوحاته المختلفة)
وهاك ترجمة نثرية أخرى لهذه الفقرة بقلم أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات:
(جلست محزون القلب مستطار
اللب على قلة الجبل وتحت ظل السنديانة
العتيقة، أشيع شمس النهار وهي تغرب
وأسرع بصري في وجوه السهل وهي تتغير:)
2 -
شعراء وأدباء في جيش الفاروق
تأليف الأديب محمود عيسى الضابط بالجيش المصري
قرأت هذا الكتاب مغتبطاً فخوراً؛ فكاتبه ضابط بالجيش المصري الباسل، وسكرتير تحرير مجلته، وقد عرض في كتابه تراجم تسعة أدباء وشعراء من ضباط جيشنا الأحياء - متعهم الله بالعمر الطويل العريض - وأورد في تراجم بعضهم نبذاً من آثاره شعراً أو نثراً مع الإشارة إلى أعماله التأليفية. . وهذا الكتاب آية على اهتمام من ضباطنا بالشعر والأدب إلى جانب عنايتهم بالكتابة في فنون الحرب ورجالها ومعاركها قديماً وحديثاً.
ويظهر من فهرس كتب المؤلف المنشور في آخر كتابه هذا أنه غير (حديث عهد) بالتأليف، فله قبل هذا الكتاب عشرة غيره: منها ثلاثة قصصية وسبعة في قادة الحروب
ومعاركها القديمة والحديثة وأدواتها، ومن هذه العشرة أيضاً سبعة استقل بتأليفها وثلاثة اشترك معه فيها البكباشي عبد الرحمن زكي أحد من ترجم لهم في هذا الكتاب.
وإذاً فلا علينا إذا لم نبذل من (المحاباة) في حساب مؤلف (قديم) كصاحب هذا الكتاب (كل) ما نلزم أنفسنا تقديمه منها للمبتدئين والشداة، ولا علينا أيضاً ألا نعده (ضيفاً) في جماعة المؤلفين بعد هذه الآثار الكثيرة مع أنه ليس مؤلفاً محترفاً كالمنقطعين للبحث في الحياة. هذا الكتاب يشتمل على إهداء وتعريف للناشر بالمؤلف وتسعة فصول في تسعة ضباط بجيشنا المصري: فأما الإهداء فإنه (إلى راعي السيف والقلم حضرة صاحب الجلالة الفاروق المعظم) ولا غرابة فهو عنوان ولاء من ضابط أديب لراعي سيفه وقلمه، والكتاب كله في تعريف (شعراء وأدباء في جيش الفاروق) كما كتب في العنوان.
وأما تعريف الناشر بالمؤلف فصفحة عنوانها (هو) وصف فيها المؤلف (شكلا) وكشفه (كشف نظر) وعرفه فيها بأنه اشتغل بالأدب في الرابعة عشرة من عمره، وأنه يقرض الشعر ويكتب القصص، وأنه في خلقه (مستقيم) ينأى بنفسه عن إغراء المرأة حتى استأثرت به أخيراً (قديسة) تراه يفنى في تقديسها فهو تعريف (تقريري) للقراء أن يفهموا منه ما يفهمون كما يفهمون. وأما المقدمة ففي الصلة بين الجندية والأدب وفيها يقرر المؤلف أن الجندي إنسان عاطف كسائر الناس لا وحش شغوف بالدماء، وأن القتال بغيش إليه حين يكون أداء الواجب، وأن الأدب والجندية لا يتنافران، وفي هذه المقدمة (صرخات في الهواء)، وإذ يحاول المؤلف فيها تزييف أوهام لا قرار لها في عقل يحسن قراءة الأدب.
وأما الفصول التسعة، فقد تحدث في كل منها بضابط من هؤلاء الضباط التسعة: اللواء عبد المنصف محمود باشا، والبكباشيين عبد الرحمن زكى، وعبد الحميد فهمي مرسى، ومحمد عبد الفتاح إبراهيم، والصاغين محمود محمد الشاذلي ويوسف السباعي، واليوزباشيين حسين ذو الفقار صبري وسيد فرج، والملازم الأول مصطفى بهجت بدوى، وهم على هذا الترتيب في الكتاب تبعاً لرتبهم العسكرية لا لشيء آخر مما يقدمه على سواه غير (الرسميين) في التقدير.
ويلاحظ بلا عناء أن المؤلف في هذه التراجم عامة (كثير السخاء) فيما يسبغه على مترجميه من (فضل ونبوغ)، وهو - مع هذا السخاء الكثير - لا يقدم للقارئ من آثار
(إخوانه) ما يبرر (سخاءه الغامر) حتى يكون له من ذلك (بعض الشفاعة) عند من يحبون من القراء (المجاملات المعقولة) في حدود (العدل) فضلاً عن القراء المتزمتين الذين يبخلون بثقتهم حتى تقدم إليهم البراهين الناصعة الكافية على كل ما يطلب إليهم الثقة به من أحكام.
فالمؤلف في بعض التراجم يكتفي بالكلام في أخلاق المترجم وأطواره في المعيشة والجندية، ويسكت عن إيراد شئ من آثاره وهو في سائر التراجم يورد للمترجم (نماذج) ولكنها (متواضعة) غالباً، فإذا حاولنا تلمس السبب لم نجد أمامنا إلا فرضين: فإما أن لهؤلاء المترجمين (نماذج عالية)، ولكن المؤلف لم يحسن الاختيار، وإما أنه لم يجد لديهم نماذج خيراً مما ذكر، ولعل أول الغرضين أصح ولو في بعض التراجم لا كلها، ولقد اطلعنا على آثار بعضهم فقرأنا لهم نماذج خيراً مما وجدنا في هذا الكتاب ولا سيما اليوزباشي سيد فرج والبكباشي محمد عبد الفتاح إبراهيم.
قال المؤلف في مقدمة فصوله معرفاً بها: (هذه صورة سريعة التقطتها عدسة المصور لطائفة من الشعراء والأدباء الذين يحتويهم جيش الفاروق آثرنا أن نعرضها في هذا (الألبوم) دون (رتوش). . .). والحق أن في هذا التعريف كثيراً من الصدق فالتراجم (صور سريعة)، ولولا ذلك لكان من الممكن أن تكون الصور أبرز وأثبت، ولقد طبعت صور منها على (ورق نشاف)، فجاءت مضطربة الوضع، حائلة الألوان، مطموسة المعالم، وقد استعمل (المصور) في استكمال بعضها كل مهارته الفنية، وكل ما لديه من أدوات الزينة لوضع (الرتوش)، ومن أجل ذلك، ولحسن ظننا بالمصور القدير لا نزال ننتظر (إعادة) هذه الصور على حقيقتها بلا (رتوش) أو مع (رتوش) خفيفة لا تخفى الحقائق، فالغرض من التعبير التوضيح لا التعمية، ونطمع في إضافة (صور) جديدة توضع جميعاً في (ألبوم) جديد حتى تكون جديرة لوجه الحق بالتسجيل والحفظ، ومؤلفنا أو (مصورنا) أولى من يقوم بهذه المهمة، وما هى بالمهمة العسيرة على (مصور) مثله طال عهده (بالتصوير)، والله يوفقه إلى خدمة مليكه وإخوانه وبنى وطنه.
(القاهرة)
محمد خليفة التونسي