المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 793 - بتاريخ: 13 - 09 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٩٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 793

- بتاريخ: 13 - 09 - 1948

ص: -1

‌ماليَ لا أكتب؟

يعتب عليِّ صديقي العباس أنني لا أكتب في هذه الأيام للرسالة، ويحتج لعتابه بأن دواعي الكتابة في ريف المنصورة، أو في ظلال (الكافورة)، أقوى من أن ينهض لها عذر من اعتلال أو اشتغال أو إراحة. وواقع الأمر أني لم أكن كاليوم أرهفَ شعوراً بالجمال، ولا أبلغ تأثيراً الطبيعة، ولا أشد انطواءً على النفس؛ ولكن أكثر ما يتمثل في الجمال، أو يخطر على البال، سوانح هي بالشعر أشبهَ وإلى الغناء أقرب؛ فإذا همَّ باقتناصها القلم اندلعت من جوانب النفس زفرات وقَودها الصهيونيون واللاجئون والحرب والهدنة وترومان وستالين وبرنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم، فأنصرف عن الغناء إلى الرثاء، وأنتقل من الضحك إلى البكاء. وأهمَّ بتلحين الألم وتوقيع الأنين، فتنبعث من نواحي العقل أصوات تستنكر وتستنفر وتقول: لقد خطبنا حتى جف الريق، وكتبنا حتى نفد المداد، وبكينا حتى نضب الدم، فما الذي أغنى عنا كل أولئك؟ ألا يزال أرانب اليهود مغرورين يتبجحون بالدولة والجيش؟ ألا يزال عرب فلسطين مشردين يكابدون ذل الاغتراب وشظف العيش؟ ألا يزال ترومان الأخرق يجري على سياسة الهوى والطيش؟ ألا يزال برنادوت الغر يستر عجزه بالمداهنة والغيش؟ فأصيح إلى صوت العقل وأقول: بلى، كل أولئك لا يزال، وأتمنى على الله رب العالمين وناصر العرب والمسلمين، أن يستحيل اللسان في فمي حساماً يضرب، واليراع في يدي سناناً يطعن، والغضب في نفسي عاصفة تدمر، والضعف في جسدي قوة تبيد. فأنا الآن مترجح بين طرفين كلما ملت إلى أحدهما جذبني إليه الآخر أنظر بعيني إلى مفاتن الطبيعة في ضعاف النهر وحواشي الحقول ومماشي الرياض فأبتهج، ثم أنظر بقلبي إلى مخازي الناس في صور النذالة والجور والبؤس بفلسطين فأكتئب، ثم يصيبني العمى والخرس لأن ابتهاجي عابر لا يحدث غير الافترار، ولأن اكتئابي عاجز لا يبعث غير الدمع.

وإذا حصلت من السلاح على البكا

فحشاك رُعت به وخدك تقرع

إن نكبة فلسطين ومحنة العرب قد غطَّتا على كل حاسة وغلبتا على كل عاطفة؛ فالفكر فيهما والحديث عنهما ملء القلوب وشغل الألسن؛ ولكن الكلام هواء، والبكاء ضعف، والمنى أباطيل، والمهادنة غش، والمفاوضة عجز؛ فلم يبق إلا أن نسكت لنعمل، وندبر لننفذ، ونتقوى لنسود، ونتسلح لننجح، ونقتل لنحيا، ونظلم لنُحترم!.

ص: 1

لو كان في الدنيا حق لما كان لفلسطين قضية، ولو كان في الناس عدل لما اصطلحت على ظلمنا الشيوعية والرأسمالية، ولو كان في الأمر اختيار لما تركت سيوفنا من بني يهوذا بقية! ألَا إن أفدح الخطوب أن يخاصم الأسود القرود، وإن أقبح الحروب أن يقاتل العرب اليهود!

فلو أني بُليت بهاشمي

خؤولته بنو عبد المدان

لهان علىّ ما ألقى ولكن

تعالوا فانظروا بمن ابتلاني

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌لمحة من سيكولوجية الطفل

للدكتور فضل أبو بكر

غاية كل كائن حي مما يبديه من مجهود وما يبذله من حركة إنما ترمى إلى هدف واحد هو الحصول على شئ من التوازن، لملاءمته للبيئة التي تكتنفه والوسط الذي يعيش فيه وهو شرط أساسي لبقائه وحفظ نوعه، وكلما كان الكائن معقد التركيب دقيق الصنع كانت بيئته معقدة صعبة وكان مجهوده أكبر وعناؤه أشد لملاءمة تلك البيئة.

والبيئة فيما يتعلق بالإنسان الذي نحن بصدد دراسة جانب من سيكولوجية طفله - تنقسم إلى قسمين هما:

1 -

البيئة الطبيعية

2 -

البيئة الاجتماعية

فالأولى تشمل الأرض التي يعيش فوق أديمها من خصبها وجدبها ومن نجدها وغورها ومن ماء عذب وأجاج ومن طقس رطب وجاف، ومناخ حار ومعتدل وبارد إلى غير ذلك من المحيط الطبيعي. والثانية أي الاجتماعية هي اصطناعية عرفية من خلق الإنسان نفسه؛ لهذا تختلف باختلاف الأمم والأجناس والعادات والبقاع، وتخضع لمجموعة من القوانين السماوية والوضعية تلزم الإنسان بما عليه من واجبات نحو غيره وبما له من حقوق لدى المجتمع، وهى بيئة أكثر تعقيداً من الأولى لأنها كما سبق ذكره من عمل الإنسان وهو عمل ناقص إذا قورن بعمل الطبيعة؛ ومن هنا كانت مضطربة دائمة التحول والتبدل تنشد الكمال بقدر المستطاع.

فالإنسان يؤثر في محيطه بنوعيه من طبيعي واجتماعي، ويحاول إخضاعه لحد ما ليكون ملائماً له وهو ما يحدث بظاهرة الإخضاع (والتمثيل) كما أن بيئته نفسها تحاول أن تؤثر فيه وتخضعه لحد ما ليكون ملائما لها وهو ما يحدث بظاهرة الخضوع والتكييف وهو تحوير وتبديل جسماني ونفساني لذلك الغرض.

فهو لهذا في كر وفر مع بيئته يخضعها ويخضع لها حتى تناسبه ويناسبها، ولكن المناسبة المنشودة لا يمكن أن تتم وتكتمل وإنما هي نسبية وغير مستقرة، ومن هنا كانت حركته الدائمة وتغيره المستمر، وهما أبرز مميزات الحياة، وما نمو الطفل وتغيره الجسمي والعقلي

ص: 3

إلا سعياً وراء ملاءمة البيئة.

يعلم مما تقدم أن ظاهرتي التمثيل والتكييف، أو بعبارة أخرى الإخضاع والخضوع، تحدثان في آن واحد ولكن بنسبة غير متساوية، أي أن أثر إحداهما قد يكون أقوى من أثر الأخرى؛ (فدارون) مثلا يؤمن بأن إخضاع الكائن؛ الحي لبيئته هو أقوى من خضوعه لها، وعلى ضوء هذا الاعتقاد يشرح لنا نظرية التطور والتنافي الحيوي من أجل البقاء والخلود، وأن طائفة من علماء الطبيعة تؤيد (دارون) وتحذو حذوه.

وهنالك فريق آخر من العلماء يخالفون (دارون) ويعتقدون عكس ما يعتقد وعلى رأسهم العالم (لامارك) وفى نظرهم أن البيئة هي التي تخضع الكائن أكثر مما تخضع له، وأن على الكائن أن يبدل من ذاته، ويغير مما بنفسه حتى يكون أكثر ملاءمة لها.

كذلك الفلاسفة من علماء الاجتماع والأخلاق ينقسمون إلى قسمين بالنسبة للبيئة الاجتماعية:

فالفريق الأول ورائده الفيلسوف (نيتشه) يرى ما يراه (دارون) في البيئة الطبيعية، وهى فلسفة القوة والبطش وأن (الرجل المثالي) في نظره الذي يستحق شرف هذا اللقب هو الذي يخضع العالم ويبطش بالرجال حتى يدينوا له وينقادوا إليه، وأن المسالمة والتسامح والعطف والعفو ما هي إلا صفات العاجز الضعيف وهى تباعد ما بين من يتصف بها عن المجد والسلطان على حد قول أبى الطيب:

ولا تحسبن المجد زقاً وقينة

فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وأن ترى

لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك في الدنيا دوياً كأنما

تداول سمع المرء أنمله العشر

والفريق الثاني وزعيمه (أبيقور) ومدرسته ينادى بعكس ما ينادى به نيتشه وهى فلسفة الخضوع والمداراة والمصانعة، فلسفة (الدهريين)، و (الرجل العاقل) في نظره هو الذي يخضع لبيئته ويتماشى مع دهره على حد قول من قال:

ودر مع الدهر وانظر في عواقبه

حذار أن تبتلى عيناك بالرمد

والبس لكل زمان بردة حضرت

حتى تحاك لك الأخرى من البرد

هذه مقدمة موجزة لابد منها لتفهم بعض مظاهر سيكولوجية الطفل لأن نموه وتطوره ما هما إلا نوع من ضرورة ملاءمة البيئة، وهذا النمو نفسه هو تغيير مستمر في الشكل

ص: 4

(مورفولوجي) ووظيفي (فسيولوجي) ونفساني (سيكولوجي)، فالحاجة أو الوظيفة تخلق العضو وتكيفه بشكل خاص ، وكذلك العضو يخلق الحاجة أو الوظيفة ويطبعها بطابعه ،

نرى مما تقدم أن (المورفولوجى) مرتبط (بالفسيولوجى) كما أن الأخير مرهون (بالسيكولوجي) ومن هنا يحق لنا القول بأن البيئة و (المورفولوجى) و (الفسيولوجى) و (السيكولوجي) هي وحدة - كوحدة وادي النيل - لا تقبل التجزئة، ونسج واحد متناسق متجانس لحمة وسدي.

نمو الطفل:

هنالك ظاهرة تسترعى الانتباه وتلفت النظر فيما يتعلق بنمو الطفل، أو بعبارة أخرى ملاءمته لبيئته، وتلك الظاهرة هي طول المدة اللازمة لذلك ولاسيما إذا قارناها بمتوسط عمر الإنسان (نحو خمسين عاماً في الغرب وأربعين عاماً في الشرق) فهو يستغرق أكثر من ثلث متوسط عمره كرجل ليبلغ القمة من نموه الجسمي وهى سن العشرين أو الواحد والعشرين، ومن هنا يمكن أن نستخلص قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على الإنسان والحيوان، وفحواه أنه كلما كان الحيوان دقيق الصنع معقد التركيب كانت المدة اللازمة لنموه طويلة بالنسبة لمتوسط عمره.

ويمكننا أن نعتبر بأن الطفل يمر بأربعة أطوار:

1 -

الطور الأول منذ وقت ظهوره إلى عالم الوجود إلى الثانية من عمره.

2 -

الطور الثاني منذ أول العام الثالث إلى السابعة من عمره.

3 -

الطور الثالث من أوائل العام الثامن إلى آخر الحادي عشر.

4 -

والرابع منذ آخر الحادي عشر إلى آخر الثامن عشر.

الطور الأول:

يبلغ متوسط وزن الطفل عند الولادة نحو ثلاثة كيلوجرامات وهذا الوزن يبلغ ثلاثة أضعافه بعد نهاية العام الأول، وأربعة أضعافه لما يكمل الطفل عامين من عمره، ومن هنا نرى أن هذا الدور من عمر الطفل يمتاز بسرعة النمو ولا سيما من حيث الثقل، ويأتي بعده الطور

ص: 5

الرابع فيما يتعلق بسرعة النمو وخصوصاً من ناحية طول القامة، أما الثاني والثالث فهما أقل أهمية من سابقيهما إذ يبطؤ فيهما النمو نسبياً.

طور المراهقة:

يبدأ لدى الطفل في نحو العام الثاني عشر ويستمر إلى السابع أو الثامن عشر من عمره، ولدى الطفلة من الحادي عشر إلى السادس عشر، ولكن هذه الحدود والمقاييس نسبية تختلف اختلافاً كبيراً بالنسبة للأجناس والأماكن، وهى عندنا في الشرق أكثر بكوراً منها في الغرب. يسرع النمو في ابتداء المراهقة من حيث القامة والأطراف وخاصة السفلي منها، وفى هذا الطور يضعف الطفل ويعتريه شئ من الهزال والكلال كما تقل مناعته وتختل توازن الجسم، ومن هنا كان هذا الطور أخطر الأطوار إذ هو دور انقلاب جسماني وعقلي ونفساني مما يحتم على الوالدين والمربين ملاحظة الطفل والعناية به من حيث الغذاء والرياضة البدنية والنفسانية!

تظهر على الطفل عوارض وسمات الجنس تدريجياً - من رجولة أو أنوثة ويبدأ التناسق في أعضاء الجسم كما تبطؤ حركة النمو الجسمي من السابع عشر أو الثامن عشر إلى العشرين أو الواحد والعشرين على وجه التقريب وهو الحد الأعلى للنمو الجسمي.

تمركز اهتمام الطفل حول ذاته:

هو بدء الحياة العاطفية والعقلية لدى الطفل وهو شعور غريزي وغير واع لا يميز الطفل في بدايته بين ذاته وبين ما يحيط به بل يخلط بينهما خلطاً. بيد أن هذا الخلط نفسه آت من ارتباط الطفل ببيئته وتكوينه وحدة معها، كما أن هذا الشعور نفسه يقع تحت بند ظاهرة الإخضاع والحيازة إذ الطفل يحاول أن يجتذب كل شئ ويمتلكه وليس في ذلك من شذوذ، ولكنها تخضع لقانون حيوي، ثم يتطور ذلك الشعور ونقصد به تمركز اهتمام الطفل حول ذاته ويبدأ بالتفريق ما بين ذاته وغيرها مما يحيط بها، كما تبدو عنده الظاهرة الثانية ونعني بها الخضوع و (التكييف) ال وعند ظهورها فقط يمكن أن نقول بأن الطفل بدأ يلائم بيئته ملاءمة حقيقية.

تطور عقلية الطفل:

ص: 6

يقول (بياجيه) في كتابه (الحكم والاستنباط لدى الأطفال) وكتابه (فهم الطفل للعالم) وكتابه (بدء الحياة العقلية عند الأطفال) بأن أهم ما يميز عقلية الطفل ثلاثة خواص هي: (الواقعية) و (الحيوية) و (الاصطناعية)

فالواقعية لدى الأطفال ليست بواقعية الكبار، بل تختلف عنها اختلافاً كبيراً، فهي نظرة مغرضة متحيزة لما يحيط بهم من أشياء، وكل ما يقع تحت حواسهم - وما يكون منها خاصاً لتلك الحواس فقط - ينظرون إليه بلغة عواطفهم وبما يشتهونه أن يكون، كأنما كل شئ خلق لهم ومن أجلهم، وبعبارة أخرى لا يفرقون بين ما لهم وما لغيرهم.

والحيوية استعملها لأول مرة بعض علماء (الأنثروبولوجي) أي علم الإنسان، إذ وصفوا بها عقلية بعض الشعوب الفطرية التي لم تتطور عقليتها بعد، بل وقفت عند هذا الحد الصبياني؛ والذين يعبدون الجماد من أصنام وتماثيل أو الشمس والقمر، ويعتبرونها كائنات حية ذات حول وقوة.

كذلك الطفل في أول طفولته ينظر إلى بعض الأجسام من جماد كأنها كائنات حية ذات إرادة، فالقمر ينظر إليه ويتبعه، والسيارة تنقله من مكان لآخر لأنها منقادة مطواعة تقدم له خدمات عن وعي وإرادة. وقد يصطدم رأسه بالحائط فيتألم من ذلك وتثور ثورته فينهال على الحائط ضرباً عقاباً له على ما اقترف من ذنب، كما يغضب لأن لعبة من لُعبه لم تطاوعه ولم تسر على هواه فينهال عليها ضرباً ويوقع بها العقاب، وربما حطمها وهو يعتبرها كائنات حية ذات إرادة.

كذلك المعنويات لدى الأطفال ما هي إلا كائنات حية، فقد يتخيل الله كرجل وقور ذي لحية بيضاء وسيما جسيما، وليس فيما نذكر من غرابة أو شذوذ إذا علمنا بأن الإنسان الأول مر على هذا الطور، وما زالت بعض الشعوب البدائية تقف عنده في تطورها العقلي. فقدماء الإغريق والمصريين كما ورد في الإلياذة وما ارتسم على الجدران وأوراق البردي من نقوش، كانوا يتصورون الآلهة في صورة بشرية مجسدة حية لها خواص البشر إلا أنها تختلف عنهم في بعض الأوجه كالسيطرة والسلطان المطلق لتصريف أمور الكون وتنعم بنعمة الخلود والحياة السرمدية!.

أما الاصطناعية فهي تتلخص في اعتقاد الطفل أن كل ما يحيط به ويقع تحت حواسه ما

ص: 7

هو إلا اصطناعي من خلق الإنسان ولا سيما والديه وهو شعور منشؤه الحياة الاتكالية وتمركز اهتمام الطفل حول ذاته. فالشمس صنعت لإنارته ودفئه، والبقرة صنعت لكي تدر عليه اللبن كما لو كان لسان حاله يقول (من بعدي الطرفان).

العواطف عند الطفل:

هي وليدة الحاجة تتكون من مجموعة انفعالات عمياء غير واعية، ومن هنا كان الاضطراب الذي يسودها، كما أنها تنمو مع الطفل وتتهذب وتصقل ويتوجه كل منها في اتجاه معلوم، كما تلتقي الانفعالات المتشابهة المتجانسة في (بؤرة) واحدة، وفي هذه الحالة فقط يصح لنا تسميتها (بالعواطف)، وهذه العواطف الطفلية ترمي إلى غرضين مختلفين: أولهما عامل النمو والتطور وتتحكم فيه الأنانية والاستيلاء على كل شئ، وعدم الاعتراف بما يخرج من محيط (الذات) كما يمتاز بالخلط ما بين وغيرها مما يحيط بها. والثاني هو عامل ملاءمة البيئة ملاءمة حقيقية لتميزه عن العامل الأول حيث الملاءمة لا تكون إلا جزئية، ومن ناحية واحدة هي ناحية الحوز أو الإخضاع أو التمثيل، وفي هذا الطور يحدث عند الطفل ما يشبه التضحية وإنكار الذات لحد ما، إذ يبدأ التفريق ما بين ذاته وغيرها، ويعترف بوجود ما حوله. ويسمي الاجتماعيون الطور الأول بطور الحيوانية والثاني بطور الإنسانية

عاطفة الأنانية:

هي أثر من آثار تمركز الاهتمام حول الذات لأن هذا الاهتمام لم يتطور أو يتبدل إلا جزئياً وهي عاطفة غريزية وضرورة (بيولوجية) لازمة لنمو الطفل وحفظ النوع، كما أن آثارها تبقى حتى عند الكبار، تتفاوت في الدرجات ولكنها لا تزول نهائياً حتى في نفوس أكثر الناس تضحية وإنكاراً للذات، وما هذا الإنكار إلا نسي، وأن المبالغة في إظهاره وتجسيمه ما هو إلا نوع من حب الظهور تمليه عاطفة دفينة هي الأنانية نفسها التي نحاول أن نخفيها ونظهر عكسها والمضاد لها من الصفات. ويزعم الكاتب الاجتماعي (دانتك) بأن الأنانية هي الترياق الشافي لذلك السم الاجتماعي ونقصد به التطفل والحياة الاتكالية التي تعتمد على الغير، وقد ذهب هذا الكاتب إلى أبعد من ذلك في زعمه، وألف كتاباً في هذا

ص: 8

الصدد عنوانه (الأنانية هي الأساس المتين الذي يجب أن تقوم عليه الهيئة الاجتماعية).

والأنانية تتطور عند الطفل وتأخذ صورة اجتماعية معينة هي بدء الشعور بعزة النفس والكرامة؛ يشعر الطفل في هذه الفترة بحاجة ملحة إلى الإطراء والثناء من جانب الغير، فتراه تواقاً لعرض ما يمتلك من أدوات اللعب وما يرتدي من ثياب في شئ من الزهو والمباهاة، ثم يقوم أمامك بما يحسن وما لا يحسن من ألعاب، أو يلقي على مسمعك ما وسع اجتهاده وما وعت ذاكرته الضعيفة من دروس أو أغاني، وهو في كل ذلك حريص كل الحرص على أن ينال منك أكبر قسط من الثناء والتهاني، كما يسيئه أن تمتدح أمامه طفلا آخر فيشعر بشيء من الغبن ويتألم لجرح كبريائه.

هذا والشعور بالكرامة نفسه يتطور إلى غيره من الصفات، فهو إذا صادف تشجيعاً من الغير وسلم من عوادي التجريح سما إلى شئ من الاعتماد على النفس والشجاعة والكبرياء، وهي صفات مصدرها الشعور بالقوة؛ أما إذا حال حائل دون نموه الطبيعي بمعنى أن أصيب بالكبت والقهر من جانب القساة من الوالدين او وجه توجيهاً خاطئاً بواسطة الجهلاء من المربين، فإن هذا الشعور ينحرف ويشذ ويصبح الطفل خجولا أو جباناً كما تولد في نفسه عاطفة الحسد والحقد على الغير وهي صفات منحدرة من الضعف وعدم الاعتداد بالنفس.

ظهور الشخصية واكتمالها عند الطفل:

يبدو هذا الطور عند الطفل في نحو الثالث من عمره كشخصية قائمة بنفسها ويمر الطفل أثناءه بطورين متضادين:

الطور الأول سلبي: يكون فيه الطفل عصياً شديد العناد يعمل في معظم الأحيان بعكس ما يلقى عليه من تعليمات على حد المثل (خالف تعرف) ويجد في ذلك لذة نفسية تنتج عن شعوره بشخصية مستقلة عن الغير تعمل حسب ما يوافق هواها، كما يبدأ التفريق بين ماله وما لغيره وهو شديد الضن والحرص على ما يمتلكه إذ تلك الممتلكات خاصة بشخصه يرى فيها مكملا لتلك الشخصية ومساعداً لبروزها.

والطور الثاني إيجابي: يحاول الطفل فيه جلب أنظار الغير بشتى الطرق، ثم يبدأ بتقليد الغير لا من الصغار أو من هم في مثل سنه ولكن بالكبار من مختلف الأوساط والهيئات

ص: 9

تشبهاً بهم.

ثم يستجد في حياة الطفل حادث له أهمية كبيرة من حيث الشخصية، وذلك حين يبلغ السادسة من عمره وهي سن التي يغادر فيها (مدرسة الأم) المنزلية ويختلف بغيره من الأطفال في المدارس الأولية، إذ تضطره قوانينها للخضوع كما يشعر بشيء من تلاشي الشخصية وضعفها لحد ما، ويقل تفكيره في (الأنا) وتطغى ظاهرة الخضوع والمطاوعة على ظاهرة الإخضاع ويستمر الحال كذلك إلى أن يبلغ العاشرة من عمره، وهي السن التي يحصل فيها على شئ من التوازن.

بيد أن هذا التوازن لا يدوم طويلا إذ يختل ويضطرب في طور المراهقة الذي يبدأ في نحو العام الثاني عشر إذ تتغلب ظاهرة الإخضاع مرة أخرى ويشعر المراهق بحاجة شديدة لإثبات شخصيته وفرضها على الغير مثل ما يحدث عنده وهو في الثالثة من عمره ولكن بصورة أوضح، وكذلك يمر على طورين:

الطور الأول سلبي: وهو طور العصيان والتمرد، ولكنه تمرد أكثره على المعنويات منه على الناس والأشياء ينتقد فيه آراء غيره، ويتوق إلى الهدم ويخالف العرف كما يجنح إلى (المثالية) كذلك تكثر عنده أحلام (اليقظة).

والطور الثاني إيجابي: يعتني فيه المراهق بهندامه كما يكون شديد الغرور بمحاسنه الجسدية أو المعنوية والرغبة في إظهارها للغير كلما وجد إلى ذلك سبيلا.

اكتمال الشخصية:

لا يمكن للشخصية أن تكتمل إلا إذا تم التوازن في شكل متآزر متناسق بين ما ذكرنا من مظاهرات وانفعالات وصفات، ومن خطأ الرأي أن نعتمد على الطبيعة كل الاعتماد لتهب لنا ذلك التوازن المنشود، بل يجب علينا أن نعينها على أداء وظيفتها بكل ما في وسعنا وهي المسئولية الجسيمة التي تقع على عاتق الوالدين والمربين والمرشدين، فيجب عليهم - والحالة هذه - أن يكونوا أهلا للقيام بها على أحسن وجه.

وليس المجال هنا بمتسع لسرد ما يجب اتباعه حتى ينشأ الطف متزن الشخصية كاملها وبارزها، وقد عالج ذلك علماء التربية الحديثة والاجتماعيون بمقدرة تامة وليدة التجارب والعقل الذكي.

ص: 10

هذه نبذة مختصرة ولمحة خاطفة من سيكولوجية الطفل وبدء سوف يعقبه عود قريب والعود أحمد.

(باريس)

فضل أبو بكر

بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا

ص: 11

‌2 - الاتجاهات الحديثة وظهور الإسلام:

القانون والمجتمع

للأستاذ هـ. ا. ر. جب

من وجهة النظر الدينية الحديثة للمعارضين في أضيق معانيها، نتجه نحو الغايات الاجتماعية للنهضة الإسلامية. لما كانت التقاليد والأوضاع الاجتماعية والقانون - في الأصل - مظاهر للنظام الدينى في الإسلام، فإن كل هذه المسائل ترتبط بالفقه الديني إلى حد أكبر مما هي عليه في حضارتنا الغربية. وعلى ذلك فأحدث التيارات الفكرية حول هذه المسائل، تفيض في جدولين مختلفين يمكن تمييزهما - ولو نظرياً على الأقل -: جدول الإصلاح، وجدول المعارضة. بيد أنه من الناحية العلمية، يصعب أحياناً أن نقرر ما إذا كان ما يتراءى لنا معارضاً، ليس حقاً مجهود خداع تجاه الإصلاح؛ وفكرة للدفاع عما يؤكده الكاتب من أنه رأى الإسلام الأصل) في الشئون الاجتماعية.

وكثيراً ما يوصف الإسلام بأنه دين عام شامل؛ ولكن جميع الأفكار الدينية التي شكلت النظرة الخيالية والعقلية في ذهن الإنسان، وقررت الأعمال الإرادية الإنسانية، تميل إلى أن تكون شاملة. فهي يجب أن تعمل على أن تسير قواعدها على مختلف نواحي النشاط الاجتماعى، لكى تسيطر على الحكومة. وعلى هذا الأساس فالدين اليهودي عام، وكذلك المسيحية. ولئن نسينا ذلك فإنما نفعل لأن المسيحية منذ فجر حياتها، كانت مضطرة إلى قبول السلطة والقانون الروماني؛ ولأنها - عند ما كان يظهر أنها على قاب قوسين أو أدنى من النصر، في كفاحها المرير مع نظام الإقطاع في العصور الوسطى - كان عليها أن تتحمل صدمات عدوين جديدين هما: الإنسانية والعلم. والعلم نفسه آخذ في الاقتراب من الانقلاب إلى فكرة التعميم، بعد أن حطم معارضة الدين، وذلك باتحاده مع الإنسانية وارتباطه بالتحرر الاقتصادي. وإذا حكمنا بطلائعها في ألمانيا والروسيا، فإن التعميم العلمي يعمل على إيقاع العالم في مأزق ضيق، شديد وصعب، بعيداً عن كل شئ، إلا ما جربه الجنس البشرى.

وبالمقارنة نجد أن التعميم (الشمول) في العقيدة الدينية طريق سهل واضح. فمهما تكن عليه السلطات الدينية من غفلة، فإنها على الأقل تعرف قيمة الفرد وشخصيته، فتكفل له قدراً

ص: 12

معقولا من الحرية. وفى الإسلام كان لهذه الحرية حد بعيد، يزيد بعداً بفقد التنظيم، وغياب القيادة، ولكنها - كما في كل النظم العامة - تحاول أن تتحكم أو تمنع انتقال (الأفكار الخطرة) وانتشارها.

وإنه لجدير بنا أن ننظر نظرة فاحصة في أثر مبدأ (الأفكار الخطرة) خطرة على من؟ على نستقبل الفرد؟ وإذا رأى الإنسان - بعد كل شئ - أن يخاطر فيما يجلب له العقوبة الأبدية في جهنم، فإن هذا هو شأنه الخاص. أم خطرة على تنقية المعتقدات وخلاص المجتمع الذي يكون في خطر السوء؟ ربما! ولكن هذا إجماع ضئيل في مجتمع ينظر إلى (الإجماع) كما ينظر إلى التنظيم الطبيعي. ولكن الاختلاف في المعتقدات قد يؤدي إلى الانقسام والقتال، وهذا هو بيت القصيد. ولقد جرى العرف على أن المجتمع لا يمكن أن يكون ثابتاً غير مزعزع، إلا إذا كانت الأخلاق شائعة فيه؛ تنشرها عقيدة دينية صارمة، ولن تصبح الأخلاق ثابتة راسخة إلا إذا كانت العقيدة الدينية في حرز حريز من المؤثرات المعادية للإيمان وخالصة منها، إذن فليست صيانة الأخلاق بأكثر أهمية من تثبيت المجتمع فحسب، بل إنها الحالة الوحيدة التي يستطيع أن يتقدم في ظلها المجتمع نحو الطريق المستقيم؛ مثلا نحو مرتبة عالية من التكامل الاجتماعي، وحياة أكثر ملاءمة للفرد.

أي أن نوع المجتمع - الذي تشيده الجماعة لنفسها - يعتمد أساساً على معتقداته مثل طبيعة الكون وغايته، ومكانة النفس الإنسانية فيه. وهذا اعتقاد طبيعي يتكرر في الكنيسة أسبوعاً بعد أسبوع. ولكن الإسلام هو الدين الوحيد الذي رمى على الدوام إلى تشييد. مجتمع على هذا المبدأ، وكانت العدة الأساسية لهذا الغرض هي القانون. و (علم القانون) - على حد تعبير أحد المفسرين المسلمين المشهورين - (هو معرفة الحقوق والواجبات التي تمكن الإنسان من أن يبصر الأحوال الصحيحة في هذه الحياة، وأن يعد نفسهُ للعالم الآخر.)

وبعكس الحال في القانون الذي ورثه العالم المسيحي عن روما، نجد القانون الإسلامي يرعى العلاقات بجميع أنواعها، مع الله ومع البشر. ويشتمل على أمور كثيرة، مثل تأدية الواجبات الدينية ومنح الصدقات (أداء الزكاة)، وكذلك النظم المنزلية والمدنية والاقتصادية والسياسية. وهو بجوهره وطبيعته وغرضه متعلق تماماً بالمثل الدينية. والواقع أن الأحكام الخلقية تعني بالحقائق الظاهرية لفعل وقع أقل من عنايتها بالعواطف والغايات. وأن أي

ص: 13

قانون وضعي ينبغي بوجه عام أن يهتم بالحقائق الخارجية. ولكن الروح والقواعد النهائية واحدة في كل، فكلاهما يرفض الجدل الذي يرى صحة أفعال بعينها بسبب نتائجها الاجتماعية، حتى ولو كانت نتائج مرغوباً فيها. وقد تبع ذلك أن القانون الإسلامي لم يكن معتبراً - مثل القانون الروماني والحديث - أنه الخلاصة التدريجية لتجارب الناس التاريخية. وإن أولى مظاهرة هي ترتيب الأعمال في مستويات مطلقة للخير والشر، وما تثبيت العقوبات لأحكام المستوى سوى مسألة ثانوية.

إن المستوى الصحيح للخير والشر ليس بالشيء الذي يمكن أن يتحكم فيه عقلياً. ولقد رأينا في الفصل الأول، كيف أن العقلية الإسلامية رفضت كل تلك النظريات العامة التي تخرج منها بمستويات مطلقة. وكانت الوسيلة الوحيدة التي يمكن معرفتها بها هي العلانية. إذ أن الله وحده هو الذي يعلم ما هو خير أو شر مطلق. ولذلك كان النظام القانوني في الإسلام يبدأ مع القرآن، ويتطور جنباً إلى جنب - وبنفس الطريقة - مع التنظيم النظري. إن الأمثلة الموجودة في القرآن أو التي استخرجت منه، قد اكتملت بسنة النبي صلى الله عليه وسلم السائدة، وأتمها الإجماع الثابت للمجتمع. وإن المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، مذاهب قانونية، أكثر منها دينية، ثم إن الجماعات التي تعنى بالنظريات، قد شيدت نظمها على خطوط متشابهة.

ولسنا هنا في حاجة إلى أن نتعمق كثيراً في مبادئ هذه النظم القانونية وأساليبها، فإن أهم ما يعنينا، هو أن نحيط علماً بقيمة التأثير المتبادل بين القانون الإسلامي والمجتمع الإسلامي. فكل تنظيم يفترض - بادئ بدء - أن هؤلاء الأشخاص الذين يعمل لخدمتهم يرغبون في قبول سلطانه، ويفهمونه على أنه محيط بهم - حتى ولو خاطروا من حين إلى آخر - وتعدوا حدوده. إذن فقبول القانون الإسلامي كان مترتباً على قبول دين الإسلام. وقد دخل في دين الإسلام عدد كبير من الشعوب التي كان لكل منها تراث اجتماعي شرعي. وباتخاذها الإسلام ديناً لها، قبل أعضاء هذه المجتمعات مبدئياً سلطان القانون الإسلامي.

ومهما يكن من شئ فإن من الواضح أنه ليس من السهل القضاء على التراث الاجتماعي العتيق. وقد كان على زعماء الدين في الإسلام - في الواقع - أن يكافحوا في سبيل توسيع مدى السلطة الأصلية للفقه الإسلامي، ونشره بين هؤلاء الناس. وقد لاقوا في هذا الكفاح

ص: 14

حظاً موفوراً من النجاح؛ على الرغم من أنه لا تزال هناك جماعات - مثل البربر في شمال غرب أفريقيا - غالبيتها مسلمة في الشعور، بيد أنها حافظت على قانونها التقليدي أمام كل مجهودات العلماء. وقد أفلح العلماء - إلى حد نجاحهم في فرض القانون الإسلامي - في توحيد المجتمع الإسلامي؛ إذ أن القانون - كما سبق أن قررنا - كان المعول الذي رسخت به الأخلاق الاجتماعية.

على أنه يوجد هنا بعض اختلافات واضحة ينبغي بسطها. فعلى الرغم من أن القانون يشتمل نظرياً، وحسب شرح العلماء على كل نوع ومظهر للعلاقات الاجتماعية، إلا أنه كان هناك (مناطق كثيرة) في حياة الجماعة مجهولة من الناحية العملية. وإن الأوضاع السياسية والحكومية، وجزءاً كبيراً من سلطان العقوبة، ومعظم التجارة ذات النطاق الواسع، كل هذه قد وسعت مدى أثرها الفعلي - حتى ولو كان القائمون بأمرها مرتبطين - كما حدث أحياناً بأساسها بواسطة تقليد رسمي. وأنه لحق أنه في هذه المناطق، وبين الطبقات التي فيها - قد حدث الشعور بالمؤثرات الأوربية من بادئ الأمر، وانتشر نفوذها. وهذه الحقيقة تذهب بعيداً في تفسير ضعف المقاومة - في المجتمعات الإسلامية ذات الدساتير - أمام إدخال نظم حكومية وتجارية ومدنية مؤسسة على نماذج أوربية. حتى أنه لم يبق ليومنا هذا إلا المملكة السعودية - وإلى حد ما - أفغانستان تسيران على الأوضاع القانونية الإسلامية القديمة. وقد يساعدنا هذا في بيان السبب في أن المجددين الأحرار (إذ أن مكانتهم قد أصبحت أرقى من تلك الطبقات التي لم تكن سلطة القانون الديني بينهم مطلقة) سبب وقوف هؤلاء المجددين مواقف غربية - بل نقول حرجة. . . ودنيوية - تجاه مسائل في القانون الإسلامي. . .

ترجمة محمد محمد علي

ص: 15

‌تصحيح تصحيف وتحرير تحريف

للأستاذ أحمد يوسف نجاتي

كم للتصحيف والتحريف في اللغة العربية من جنايات على هذه اللغة! وكم لهما من آثار سيئة في الأدب والتاريخ! وكم أفسد كلاهما من عبارة، وشوَّه من معنى، وأوقع في لبس وإبهام، وترك القارئ يخبط في عشوة وظلام. اطلعت على الكتاب القيم الممتع (ظهر الإسلام) تأليف العلامة المحقق الأستاذ الجليل (أحمد أمين بك) فرأيت في صفحة 117 من الطبعة الثانية منه ما يأتي:

وهذا أبو على القالي البغدادي، ضاقت به الحال قبل أن يرحل إلى الأندلس، حتى اضطر أن يبيع بعض كتبه وهي أعز شئ عنده فباع نسخته من كتاب الجمهرة، وقد كان كلفا بها، فاشتراها الشريف المرتضى، فوجد عليها بخط أبي علي:

أنست بها عشرين حولا وبعتها

فقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظني أنني سأبيعها

ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية

صغار عليهم تستهل جفوني

فقلت ولم أملك سوابق عبرة

مقالة مكوي الفؤاد حزين

(وقد تخرج الحاجات يا أم مالك

ودائع من رب بهن ضنين)

وأقول إن هذه الحادثة إنما وقعت لأبي الحسن على بن أحمد ابن على العالي. فكنيته أبو الحسن لا أبو علي، ونسبته الفالي (بالفاء الموحدة التي هي من الحروف المهموسة والشفوية، لا بالقاف المثناة إحدى الحروف المجهورة التي مخرجها بين عكوة اللسان واللهاة في أقصى الغم) وقد ساق هذه الحكاية على صحتها العلامة المؤرخ الثقة الأديب شمس الدين أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه الحجة المعروف باسم (وفيات الأعيان)، قال رحمه الله تعالى في ترجمة الشريف أبى القاسم المرتضى ما نصه:

وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن على التبريزي اللغوي أن أبا الحسن على أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت له نسخة كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور بستين ديناراً وتصفحها فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبى الحسن الفالي المذكور وهى:

ص: 16

أنست بها عشرين حولا وبعتها الخ

فأرجع النسخة إليه وترك له الدنانير رحمه الله تعالى. وهذا الفالي منسوب إلى (فالة) بالفاء، وهى بلدة بخوزستان قريبة من أيذج، أقام بالبصرة مدة طويلة، وسمع بها من أبى عمر ابن عبد الواحد الهاشمي وأبى الحسن بن النجار وشيوخ ذلك الوقت، وقدم بغداد واستوطنها وحدث بها؛ وأما جده سلك فهو بفتح السين المهملة وتشديد اللام وفتحها وبعدها كاف، هكذا وجدته مقيداً؛ ورأيت في موضع آخر بكسر السين وسكون اللام والله أعلم.

وكانت وفاة الحسن الفالي المذكور في ذي القعدة سنة 448 ليلة الجمعة ثامن الشهر المذكور، ودفن في مقبرة جامع المنصور، وكان أديباً شاعراً، روى عنه الخطيب أبو بكر صاحب تاريخ بغداد وأبو الحسن الطيوري وغيرهما رحمه الله تعالى. انتهى من تاريخ ابن خلكان.

(أقول) وقد ترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بما يأتي: علي بن أحمد بن علي بن سلك أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي من بلدة تسمى فاله قريبة من أيذج، أقام بالبصرة مدة طويلة وسمع بها من أبى عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها وحدث بها، كتبت عنه شيئاً يسيراً وكان مؤدباً ثقة، مات في ليلة الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 448 ودفن في يوم الجمعة في مقبرة جامع المنصور.

وفى الأنساب للسمعاني ما يأتي:

(الفالي) بفتح الفاء وفى آخرها اللام، هذه النسبة إلى فالة قال أبو بكر الخطيب أظنها من بلاد فارس قريبة من أيذج، والمشهور بالنسبة إليها أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك المؤدب الفالي، سمع بالبصرة القاضي أبا عمر القاسم بن جعفر الهاشمي وأبا الحسن علي بن القاسم النجار وأبا عبد الله أحمد بن اسحق بن حزبان النهاوندي وغيرهم، أقام ببغداد إلى آخر عمره، وكان أديباً شاعراً فاضلا، روى عنه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب وأبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الطيوري وغيرهما ذكره أبو بكر الخطيب في التاريخ الخ) اهـ.

وذكر ترجمته أيضاً ياقوت في كتابه معجم الأدباء، قال: على بن أحمد بن سلك (الفالي) بالفاء وليس بأبي على القالي بالقاف ذلك آخر اسمه إسماعيل له ترجمة في بابه، وكنية هذا

ص: 17

أبو الحسن، يعرف بالمؤدب من أهل بلدة فالة، موضع قريب من أيذج، انتقل إلى البصرة فأقام بها مدة، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة، له معرفة بالأدب والشعر، ومن شعره قوله:

تصدر للتدريس كل مهوس

بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا

ببيت قديم شاع في كل مجلس

(لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

ومنه ما رواه عنه تلميذه الخطيب التبريزي:

لما تبدلت المنازل أوجهاً

غير الذين عهدت من علمائها

ورأيتها محفوفة بسوى الألي

كانوا ولاة صدورها وفنائها

أنشدت بيتاً سائراً متقدماً

والعين قد شرقت بجاري مائها

(أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها)

ثم ساق حكاية بيعه كتاب الجمهرة نقلا عن الخطيب التبريزي أيضاً وفيه شئ يخالف ما في ابن خلكان، قال وحدَّت أبو زكريا النبريزي قال: رأيت نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير من القاضي أبي بكر بن بديل التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسخت أنا منها نسخة فوجدت في بعض المجلدات رقعة بخط الفالي فيها:

(أنست بها عشرين حولا. . .) إلى آخر الأبيات.

فأريت القاضي أبا بكر الرقعة والأبيات فتوجع وقال: لو رأيتها قبل هذا لرددتها عليه، وكان الفالي قد مات، اهـ.

أقول لعل الفالي رحمه الله باع هذه النسخة في صفقة ثانية بعد أن أعادها إليه الشريف المرتضى. والبيت الأخير من أبياته تضمين لما قاله أعرابي باع لحمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام جملا بخمسين ديناراً، فلما نقده ثمنه جعل الأعرابي ينظر إلى الجمل ويقول:

(وقد تخرج الحاجات يا أم مالك

كرائم من رب بهن ضنين)

فقال له حمزة: خذ جملك، والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير. ومن شعر الفالي أيضاً في شهر الصوم:

رمى رمضان شملنا بالتفرق

فيا ليته عنا تقضَّى لنلتقي

ص: 18

إذا سر أهل الأرض طراً قدومه

فإن سروري بانسلاخ الذي بقي

وفي معجم البلدان لياقوت ما يأتي:

(فالة) بزيادة هاء بعد الفاء والألف واللام بلدة قريبة من أيذج من بلاد خوزستان، ينسب إليها أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك الفالي المؤدب سمع بالبصرة من القاضي أبي عمرو أحمد بن اسحق بن جربان وحدث بشيء يسير، اهـ.

وقال في تاج العروس شرح القاموس: (فالة) بلد بخوزستان قريبة من أيذج منها أبو الحسن علي بن أحمد (بن سليمان) المؤدب روى عن أبي عمر القاسم بن جعفر الهاشمي وغيره، وروى عنه أبو بكر الحطيب، وأبو جعفر الطيوري، مات سنة 448 اه.

وقد نقل هذه الحكاية صاحب كتاب الفلاكة والمفلوكين موجزة وصحف فيها الفالي بالقالي، ونص عبارته:

(الفالي) أبو الحسن علي بن أحمد بن علي القالي كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد، وكان كلفاً بها فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها فاشتراها الشريف المرتضى فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبى الحسن القالي المذكور:

(أنست بها عشرين حولا وبعتها. . .) إلى آخر الأبيات كما في كتاب (ظهر الإسلام وروايته).

ونقل هذه الحكاية أيضاً صاحب الذهب في ترجمة الشريف المرتضى نقلا عن ابن خلكان فسلم من التصحيف، غير أنه وقع فيه كذلك في ذكره من توفوا سنة 448 (وهي سنة وفاة أبى الحسن الفالي) فقال: وفيها أبو الحسن (القالي نسبة إلى قالي قلا من ديار بكر) علي بن أحمد بن علي المؤدب الثقة روى عن أبي بكر عمر الهاشمي وطبقته اهـ. فصحف كما ترى (الفالي) إلى (القالي) وزاد من عنده تلك الزيادة الخاطئة التي بين القوسين.

أما أبو علي القالي: فهو إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سلمان الفاليّ اللغوي صاحب كتاب الأمالي المشهور، ولد سنة 288 بمنازجرد من ديار بكر ودخل بغداد سنة 305 وأقام بها إلى سنة 328، ثم خرج منها قاصداً الأندلس، فدخل مدينة قرطبة في أواخر شهر شعبان سنة 330 وتوفي بها سنة 356، وإنما قيل له (الفالي) لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قالي قلا فبقي عليه الاسم: وهي من أعمال ديار بكر - ومن كل ما

ص: 19

تقدم يظهر أن صاحب الحادثة يكنى أبا الحسن لا أبا علي، وأنه الفالي لا القالي، وأن وفاة أبى علي القالي كانت قبل وفاة أبى الحسن الفالي باثنتين وتسعين سنة، بل توفي القالي قبل مولد الفالي، وأن مولد الشريف المرتضى ببغداد في سنة 355 يعني قبل وفاة أبى علي القالي بقرطبة بسنة واحدة. وقد عرفت أنه رد إلى أبى الحسن الفالي ثمن كتابه كما أعاد إليه كتابه الجمهرة متأثراً بأبياته وكان كلاهما مقيما ببغداد، وتوفي الشريف بها قبل وفاة أبى الحسن الفالي بها باثنتي عشرة سنة، على أنه لم يعرف أن أبا علي القالي بلغ من البؤس والفاقة إلى أن يبيع نسخة من كتابه الجمهرة، تأليف أستاذه ابن دريد المتوفى 321 وكان ذا ثراء واسع ومال جم وإن كان رحمه الله متلافاً مفيداً مبيداً، ولقد أفاد من بني ميكال أموالا عظيمة ونال منهم ثروة طائلة رحمه الله وعفا عنه.

هذا ومن التحريف أو التصحيف أو خطأ الطبع في ذلك الكتاب القيم (ظهر الإسلام) ما في بيتي ابن المعتز صفحة 26.

أما ترى ملك بني هاشم

عاد عزيزاً بعد ما ذلا

يا طالباً للملك كن مثله

تستوجب الملك وإلا فلا

ولعل صواب القافية في البيت الأول (بعد ما ذللا) لأن القصيدة من بحر السريع من عروضه الأولى المطوية المكسوفة التي ضربها مثلها على وزن فاعلن، وعلى ضبط (ذلا) يكون الضرب في البيت وحده أصلم (على وزن فعلن) وهو ضرب آخر لهذه العروض لا يجمع بينهما.

وفي صفحة 23 كتب البيت هكذا:

أيها الترك تلقون للدهر

سيوفاً لا تستبل الجريحا

وهو بهذا الشكل والضبط غير مستقيم الوزن ولا مفهوم المعنى، والذي في تاريخ المسعودي المنقول عنه:

أيها الترك سوف تلقون للدهر

سيوفاً لا تستبل الجريحا

وفي صفحة 69 البيت:

فيبردها كأن لها

وإن خفيت سنا لهب

أظن الصواب (فيبرزها) كما يقتضيه السياق ويتطلبه المعنى.

ص: 20

وفي صفحة 80 السطر السابع: ليوسعنكم ضرباً وتشديداً وأظنها محرفة عن (تشريداً).

وفي صفحة 136 بيت للشريف الشريف الرضي في الغزل في سوداء:

أحبك يا لون الشباب لأني

رأيتكما في العين والقلب توءما

صوابه: فأنني، أو لأنني، بزيادة نون الوقاية قبل ياء المتكلم ليستقيم الوزن.

وفي صفحة 140 في السطر الثاني البيت:

ومنفق مشفق إذا أنا

أسرفت وبذرت مقتصد

والصواب:

ومنفق مشفق إذا أنا أس

رفت وبذرت فهو مقتصد

لأن القصيدة من بحر المنسرح ولا يستقيم الوزن إلا بذلك.

والبيت سطر 4:

وصيرفي القريض وزان

دنانير المعاني الرقاق منتقد

غير مستقيم الوزن، وصوابه:

وصيرفي القريض وزان

دينار المعاني الرقاق منتقد

(فدينار) في البيت مفرد لا جمع وآخر الشطر الأول الياء منه لا النون، (والرقاق) في البيت نعت للمعاني لا للدنانير.

وفي صفحة 155 بيت أبي العلاء المعري:

وما شعراؤكم إلا ذئاب

تلصص في المدائح والشباب

(أرى) أن (الشباب) مصحفة عن السباب.

يريد أن كلا من شعراء المديح الذين يكتسبون بالمدح وشعراء الهجاء الذين يتقيهم الناس فيفدون أعراضهم منهم بالمال إنما هم لصوص يستولون على أموال الناس بغير حق رغبة في مديحهم أو رهبة من هجائهم.

وفي صفحة 184 البيت:

أنت إذا جدت ضاحك أبداً

وهو إذا جاد باكي العين

لعل (الصواب دامع العين) برفع دامع خبر المبتدأ هو.

وفي صفحة 210 سطر 4 البيت: هي قلت عن العزيز عداه

ص: 21

لعل صوابه: قد أقلت (أو هي أقلت) ضد كثرت في عجز البيت.

وفي صفحة 287 آخر الصفحة، البيت من قصيدة البيروني:

فلا زال للدنيا وللدين عامراً

ولا زال فيها للغواة مواسيا

أرى أن الصواب (للعفاة) وهم طلاب المعروف جمع عاف فليس مما يمدح به المرء أن يكون مواسياً للغواة، وإنما يواسي العافون وطالبو الجدوى.

ثم أقول بعد ذلك: أنه بمناسبة ذكر أبى علي القالي اطلعت على صفحة 742 من كتاب (سمط اللآلي) في المجلد الآخر منه ويحتوي على شرح الجزء الثاني من أمالي أبى علي القالي، للوزير أبى عبيد البكري المطبوع بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1354هـ - 1936م والذي نسخه وصححه وحقق ما فيه الأديب العالم المحقق الأستاذ عبد العزيز الميمني أستاذ اللغة العربية بجامعة عليكرة بالهند، فرأيت في أولها ما يأتي:(وهو من رجز لهيمان بن قحافة مشروح هناك):

والبكرات اللقح الفوائجا

بصفنة تزفي هديراً نابجا

ترى اللغاديد بها حوابجا

الصفنة: مثل العيبة، شبه بها شقشقة البعير، ويقال صفن فإذا ألحقت الهاء فتحت الصاد. (وتزفي): كما تزفي الريح شيئاً تسحفه، ويقال لأحد العدلين إذا استرخى (قد أسبح) يقول فهديره منصب مسترخ (واللغاديد) باطن أصول الأذنين (وحوابج) منتفخة، يريد أن نصف الشقشقة خارج من حلقه ونصفها باق فيه اهـ. وقد علق حضرة المصحح على قول البكري قد أسبح بقوله في الهامش (1) كذا في الأصلين، وقد أعياني أمر تصحيحه اهـ. أما أنا فأقول إن (أسبح) مصحف عن (استنثج) وإن (نابجا) في الرجز مصحف عن (ناثجا) قال في لسان العرب في مادة (نثج). ويقال لأحد العدلين إذا استرخى قد استنثج، قال هميان:

يظل يدعو نيبه الضماعجا

بصفنة تزقى هديراً ناثجا

أي مسترخياً (والله أعلم) اهـ.

وقال في مادة ضمعج (الضمعج) الضخمة من النوق، وامرأة ضمعج قصيرة ضخمة، وكذلك البعير والفرس والأتان، قال هميان بن قحافة السعدى:

ص: 22

يظل يدعو نيبها الضماعجا

والبكرات اللقح النواثجا

وأعاد هذا البيت في مادة (فثج): وناقة فاثج سمينة حائل أو هي الفتية اللاقح، ويروى (الفواسج بالسين، والفاسج من الإبل أيضاً اللاقح أو اللاقح مع سمن، أو هي الحائل السمينة فهي بمعنى الفاثج بالثاء المثلثة).

وينبغي أن أعترف بالفضل لحضرة العلامة أحمد أمين بك فإن كتابة (ظهر الإسلام) مرآة صافية ترى فيها بجلاء ووضوح الحياة الاجتماعية والعقلية والأدبية من عهد المتوكل إلى آخر القرن الرابع الهجري. ثم أذكر بهذه المناسبة أن خير كتاب قرأته يمثل الحياة الاجتماعية في العصر العباسي (وخاصة من الجهة السياسية والاقتصادية) هو كتاب (العصر العباسي) للأستاذ المحقق والمؤرخ الموفق المدقق الدكتور (عبد العزيز الدوري) العراقي أستاذ التاريخ الإسلامي بدار المعلمين العليا ومعهد الملكة عالية العالي بمدينة بغداد وقد طبع منه جزءان قيمان أحدهما في العصر العباسي الأول، والآخر في العصر العباسي الثاني، وإنه ليخدم التاريخ أجل خدمة إذا قدم له الجزء الثالث الذي يمثل بقية العصر العباسي، وقد رجع في كتابيه المفيدين إلى كثير من المراجع العربية وغير العربية من عدة لغات، ورجع من نفسه بعد ذلك إلى عقل ناضج كبير، وفكر عال صحيح، وذهن ثاقب جديد، ورأى قويم سديد. وكذلك أقول إن خير كتاب رأيته في أدب اللغة العربية في عصر صدر الإسلام هو كتاب الأستاذ الدكتور محمد مهدى البصير الذي سماه (عصر القرآن) تكلم فيه على الأدب العربي في صدر الإسلام وعصر بنى أمية فأحسن وأجاد، وأمتع وأفاد، دل فيه على اطلاع واسع وعلم جم وأدب غزير، ورد الزائف البهرج وقبل الثمين المصفى، وكان له فيه رأى صائب وفكر قويم. ولنا في هذا الكتاب وغيره من مؤلفات الدكتور السيد محمد مهدى البصير عودة في مقالات موعدنا بها الأعداد المقبلة من الرسالة الغراء إن شاء الله تعالى.

أحمد يوسف نجاتي

ص: 23

‌غناء الطيور

بين العلم والأدب

للأستاذ ضياء الدخيلي

فتن شعراء الطبيعة بغذاء الطيور وسحروا بهديلها وزقزقتها في السحر وعند الأصيل في الأشجار المتشابكة وعلى الأنهار والسواقي حيث يمتزج خرير المياه بهديل الطيور وقد حبت الطبيعة البساتين موسيقاراً لا يكل ولا يعجز عن توقيع ألحانه العذبه، ولايفتر عن ترديد أغانيه المشجية والمطربة أحياناً؛ وقد هام أغلب الشعراء بأغاريد الطيور فتركت صدى عميقاً في نفوسهم وخلدوا في مطارحتها روائع ساحرة. وقد زاد ولوعهم بها ما جلبوا عليه من تقديس الجمال والافتتان بالتواقيع الموسيقية فكان كثير من الشعراء العباقرة يجنون إذا جمعتهم الرياض بالحمائم والطيور المغردة فيطربون لها ويهيمون إعجاباً بسحرها الأخاذ، فيهجر بعضهم المدن لينعم بقرب الطيور في الرياض المؤتلقة.

من ذلك رأينا هذه الأشعار الكثيرة في دواوين شعراء العرب وكلها افتتان بغناء الطيور، ولم يقتصر عليهم ذلك الهيام بالطبيعة وجمالها الفاتن فقد حدث مؤرخو حياة الفيلسوف الإسلامي الكبير أبى نصر الفارابي أنه عندما سافر من بغداد إلى دمشق كان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان مدة إقامته بدمشق لا يكون غالباً عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض؛ ويؤلف هناك كتبه وينتابه المشتغلون عليه، وقال في (وضات الجنات) يحكى أن الآلة التي تسمى القانون من وضعه وهو أول من ركبها هذا التركيب، وهذا يدلك على مدى افتتانه بالألحان الموسيقية، ولعل غناء الطيور أوحى له دروساً فياضة في الموسيقى.

وكما ترى فيما سنعرضه عليك أن هناك اختلافاً بين علماء الحيوان ودعاة نظرية التطور من دارون واتباعه، وبين شعراء العرب الذي نظموا في غناء الطيور وفسروه، كما ظهر لهم حسب أفكارهم إذ يرى علماء الحيوان أن الغناء هو من خصائص ذكور الطيور، وأن هذه تغرد وتغني لتجتلب الإناث بهديرها وتغريدها فالأغاريد أسلحة أدبية تصول بها الطيور في غمار معارك غرامية صخابة تعج بالتنافس بين ذكرانها، والتغالب لاقتناص زوجات يتمتعون بالقرب منها وينعمون بالاستئناس بجمالها الأنثوي.

وأتذكر أن الصحف المصرية نشرت (تصريحاً) للأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب

ص: 24

يتحدى به الآنسة أم كلثوم قائلاً: إن الغناء في عالم الطبيعة من خصائص الذكور، ولا ريب أن الحق معه من وجهة التاريخ الطبيعي وحقائق علم الحيوان ولكن من الذي يفضل أن يسمع الغناء من رجل خشن على أن يتمتع به من فم فتاة رقيقة تفيض جمالا وفتنة، وعلى كل حال فإن علماء التاريخ الطبيعي يقررون أن الغناء ميزة للتفوق، وسلاح للغلبة واجتذاب للإناث جهز بهما ذكران الطيور، وفق نظام الكون المستهدف لإدامة الحياة، وبقاء النوع وتكثير النسل فهو من جملة المشهيات والمغريات المؤدية إلى تلك الغايات النبيلة.

وقد أخضعت نظرية التطور التي جاء بها العالم الإنجليزي دارون - غناء الطيور وهديلها لعامل الانتخاب الطبيعي. فقالوا إن خاصة الغناء الجميل التي تتحلى بها بعض الذكور من الطيور تتركها تتفوق في معارك الانتخابات التزاوجية لأجل الفوز بالإناث ويشجعها ذلك الفوز والانتصار على التناسل بكثرة. وهذا يؤدى إلى وفرة ذريتها التي تحمل خصائصها، ومن جملتها القدرة على أحداث الأصوات الجميلة الغنائية فتشيع هذه الميزة في الأجيال القادمة حسب قانون الوراثة. وإليك بعض كلمات علماء التطور.

قرأت في كتاب عن نظرية التطور تأليف العلامة الفرد والاس.

قال تحت عنوان الخصائص الجنسية المسببة بالانتخاب الطبيعي: (علاوة على تسلح الذكور بما يعدهم للنضال مع الذكور الآخرين توجد بعض الخصائص الجنسية المسببة بالانتخاب الطبيعي وذلك كالأصوات والروائح المختلفة الخاصة بالذكور التي تكون دعاء للإناث أشعاراً لهن بحضورهم، ومن الواضح أن هذه إضافات ذات قيمة في وسائط تمييز الجنسين، وزيادة على ذلك أنها إشعار بحلول فصل التزاوج. ومن الواضح أن توليد وتفريق هذه الأصوات والروائح هما ضمن نطاق قدرة الانتخاب الطبيعي، والتمييز بين الجنسين من فصائل الطيور، ولإغراء ذكرانها للإناث، وتشهيتها للفساد.

وعند ما انتشرت أفراد فصائل الطيور بصورة واسعة على وجه الأرض أصبح هذا الدعاء في غاية الأهمية لجعل التزاوج يقع بصورة مبكرة ويسرع به ما أمكن.

وهكذا قد أصبح وضوح وعلو وتميز شخصية غناء الطائر خاصة نافعة، وبالنتيجة يتحقق الانتخاب الطبيعي (أي أن الطائر الذي توجد فيه هذه الخاصة النافعة يكثر نسله فتشيع هذه الميزة الصوتية في الأجيال التالية وفق نظرية التطور والوراثة) وهذا هو الواقع خاصة

ص: 25

بالنسبة لطائر الوقوق ومع كل الطيور التي تعيش منفردة.

ولا شك أن صنيع الغناء عمل مبهج وجالب للسرور، وربما استخدمه الطير كمنقذ للفائض الزائد من الطاقة العصبية والتهيج النفسي، على حد ما يقوم به الإنسان من الرقص والغناء، والألعاب الرياضية المسلية. وهذا التعليل لغناء الطيور يرى أن رياضة القوة الصوتية مكملة لتطور الريش الثانوي الذي ليس له أهمية أساسية في الطيران، ومتممة لزخارف الزينة والتجمل في الطيور.

ويلاحظ المؤلف الفرد روسل والاس) أن كل طيورهم البديعة الغناء بسيطة التلوين، وليس لها عرف ولا يوجد في رقابها أو ذيولها من ريش التباهي، والظهور بمظهر فاتن جذاب، في حين أن الطيور المزخرفة ذات الجمال الزاهي في الناطق الاستوائية ليس لها المقدرة على الغناء، وتلك التي تصرف طاقة كبرى لتتبرج وتزهى بالريش الجميل تطورت أصواتها تطوراً طفيفاً لا يذكر إذا قسناها بالطيور الأخرى. وخذ مثلاً لذلك الديك الرومي، والطاووس، والطائر الطنان، وطيور الجنة وهذه فصيلة من طيور غينيا الجديدة وما يجاورها من الجزائر.

وتشتهر طيور الجنة بجمال ريشها وبهاء ألوانها، ولا يمتاز ببهاء اللون وحسن الريش إلا الذكور، وريش الذكران على حسنه أملس ناعم حريري فيه براقة المعادن الصافية والخلاصة أن أغاريد الطيور وأغانيها حسب الظاهر مذكرات وإشارات ورسائل غرامية مختصرة لإشعار الأنثى بوجود الذكر ولدعوتها إلى التزاوج، وهذه القابلية للغناء تفيد الفصيلة لأنها ذات علاقة بأهم وأجل وظيفة حيوية، وهى حفظ النوع بالتناسل).

وقال العالم الطبيعي دارون في كتابه أصل الأنواع إن المنافسة بين الطيور على امتلاك الإناث أقل قسوة منها بين الحيوانات التي تعيش على الأرض؛ وكل من له إلمام بالموضوع على اعتقاد تام أن هذا التقاتل لا يبلغ منتهى القسوة والشدة إلا بين الأنواع التي تجتذب ذكورها الإناث بحسن أصواتها الغنائية.

وذكر أن بعض الطيور التي يسكن جزائر (جيانا) وطيور الجنة وغيرها من صنوف الطير قد تجتمع وتتقاتل قتالا عنيفاً ثم تخرج الذكور الفائزة في المعركة وتنشر ريشها البهي اجتذب إليها الإناث، ومن ثم تأخذ في التضاحك بشكل عجيب والإناث على كثب يرمقنها

ص: 26

ثم تنتخب ما كان أشد جاذبية إليها.

وقال باحث آخر إن جمال ذكور الطيور بأصواتها أو ريشها يلعب دوراً عظيما في الحب النسلي، ولعل للطيور أعظم نصيب من الجمال، فلذلك قلما تتنازع ذكورها بالقتال، وإنما تعتمد في الأكثر على فتنة الإناث بجمال ريشها وألوانه الجميلة، وبعضها يعتمد على الرقص على الأرض أو في الهواء وبعضها يعتمد على الزقزقة والهديل.

وهكذا تعد الطيور على أعظم جانب من الجمال البصري والصوتي ولها ذوق عقلي في الجمال كالإنسان تقريباً، ولذلك يطرب الإنسان بزقزقة العصافير وهديل الطيور، ولكن الطيور المغنية قد تلتجئ إلى العراك للفوز بالإناث.

فقد روى العلامة دارون أن نوعاً من الطيور في الولايات المتحدة يجتمع نحو عشرين من ذكوره في بقعة حيث تتنافس بالزقزقة، وحالما تميل الأنثى لذكر تقتتل الذكور، والأضعف يحيد عن القتال، حتى إذا لم يبق إلا واحد ذهبت الأنثى معه. وقد بلغت مسألة الانتخاب عند الطيور حداً فصيا حتى أن بعضها لا يتزاوج لأن الإناث لم يرقها ذكر من الذكور التي تنافست في إغرائها وإثارة عواطفها.

وروى (جوير) أن مغازلة الطيور تستغرق وقتاً طويلاً وقد ينقضي الفصل كله ولا تنجح الذكور والإناث في إثارة الحب فلا تتزاوج.

ولبعض الطيور حب مبرح بحيث إذا فقد إلفه حزن عليه طويلاً ذكر دارون أن ذكر الببغاء وأنثاه يتعاشقان ويتلازمان طويلاً حتى إذا مات أحدهما أسف الآخر عليه أسفاً شديداً، وإذا قنص أحدهما بقى الآخر مدة طويلة ينادي نداء محزناً.

وللحمام أيضاً ألفة قوية كألفة البشر، فقد لوحظ أن زوجي حمام عادا إلى عشرتهما بعد فراق تسعة أشهر متذكراً كل منهما الآخر. وكثير من الطيور يختار إناثه الذكر الذي تحبه دون سائر الذكور من غير أن تتنازعهما الذكور بقتال.

فقد روى (أودوبون) الذي قضى ردحاً من الزمن في أحراج الولايات المتحدة يدرس طبائع الطيور أن الأنثى لا تقبل على أي ذكر يعرض لها بل تتئذ جداً في اختيار عريسها وتراقب منازلة كل ذكر حتى يروق لها واحد فتذهب معه. وكل ذلك يدلك على أن للطيور ذوقاً حاداً في تمييز الجمال والإعجاب والانفعال به كما أن لها قوة غريبة في التفنن بالمغازلة.

ص: 27

وهذا الذوق العجيب الذي يضاهي ذوق الإنسان هو علة ارتقاء الجمال الصوتي والنظري في الطيور كما علله دارون بسنة الانتخاب الطبيعي والتناسلي إذ الذكر الأجمل شكلاً أو صوتاً ينجح في المزاوجة، والأقل جمالاً يفشل، ذاك يكون له نسل وهذا ينقطع نسله، وبفعل ناموس الوراثة تتجه السلالة إلى إنتاج الأجمل.

قال دارون ولا شك أحد ممن لا حظوا أنواع الطير حال أسرها واعتزالها مركزها الطبيعي المطلق فإنها تفضل بعض الأفراد على بعض، فإن السير (ر. هيرون) قد وصف كيف أن طاووساً مزرقشاً قد اجتذب إليه كل الإناث وتفرد بها.

وإنه وإن كان لا يتسنى لي الإفاضة في هذا الموضوع فإني على يقين بأن الإنسان إذا استطاع أن يحسن في وقت قصير أنواع (البنتام) وهو ضرب من الدجاج الداجن - بحيث يجعلها بديعة الألوان رشيقة الصور فلست أرى مانعاً يحول دون القول بأن إناثه إذا انتخبت خلال آلاف من الأجيال أشجى الذكور صوتاً وأحسنها شكلاً وفاق ما يلوح منها من معاني الجمال فقد يحتمل أن يحدث فيها تأثيرات من التغاير ذات بال.

غير أن دائرة المعارف البريطانية تجعل من أسباب الغناء رغبة الطائر أن يشعر باقي الطيور بوجوده في المنطقة التي يغرد فيها وبذلك لا يقرب إليه ما يزاحمه على ما فيها من المواد الغذائية (راجع تفصيل ذلك في مادة

وهذا حديث يطول، إنما الذي وددت أن أقرره رأي علماء الحيوان في تعليل تغريد الطيور بأنه لأغراء الإناث وجلبها إلى السفاد ودعوتها إليه وأنه إعلان بمجيء فصل التزاوج وإن الأغاريد مغازلات غرامية، وإذا كانت أغاني الطيور أحابيل لصيد الإناث ووسائل إغراء وإقناع في غمار معارك غرامية كما بين دارون ووالاس وإخوانهما من علماء الحيوان وأفادا أن هديل الطيور شباك صيد ينصبها الهياج الجنسي فلا تلم عشاق الشعراء إذا تهيجوا وأصباهم الحمام بهديله لأنه ضرب على وترهم الحساس ونطق بلغة قلوبهم الولهى فأثارهم وهيج إحساسهم وإن لم يعرفوا كيف تسلطت تلك الأغاريد عليهم.

قال بعض الأعراب أنشده اسحق الموصلي.

ألا قاتل الله الحمامة غدوة

على الغصن ماذا هيجت حين غنت

تغنت بصوت أعجمي فهيجت

من الوجد ما كانت ضلوعي أجنت

ص: 28

فلو قطرت عين امرئ من صبابة

دماً قطرت عيني دماً فألمت

فما سكنت حتى أويت لصوتها

وقلت ترى هذي الحمامة جنت؟

ولي زفرات لو يدمن قتلنني=بشوق إلى نأي التي قد تولت

(البقية في العدد القادم)

ضياء الدخيلي

ص: 29

‌طرائف من العصر المملوكي:

العلاقات الإخوانية وصلتها بالأدب

للأستاذ محمود رزق سليم

نزعة الأدب في نفس الأديب المطبوع، أشبه شئ بالغريزة الإنسانية. فهي قوة كامنة فيها، تتحرك من تلقاء نفسها، وتقوم بعملها الحيوي في حياة الأديب. فتقرأ وتستقرئ وتطلع وتتصفح، وتختزن وتقرن، وتمزج ثم تلد وتصور وتلون، وتهب لأجنتها ما تشاء لها مقدرتها من أسباب القوة والبقاء. ثم تدفع بنتاجها إلى اللسان فينفثه سحراً حلالا، أو إلى القلم فيبعثه زهراً وضيئاً، ترى من خلاله حياة نابضة، وروحاً متحركة، تلعب دورها، وتؤثر أثرها.

والغريزة بحاجة إلى التربية والتهذيب والتثقيف، حتى توجه إلى خير السبل لإسعاد المرء وإسعاد مجتمعه. ولا يبعد عنها في ذلك، نزعة الأدب، فهي بحاجة إلى أن تتعهدها يد التربية والتهذيب والتثقيف، وإلى أن يسلك بها مسالك ثقافية خاصة، حتى تفره وتحذق، ويتسع أمامها المدى ويرحب أفقها، ويلطف حسها ويدق إدراكها. وكلما كان الأديب أكثر من غيره ثقافة، اتسع رحابه، وسما إنجابه، وأشرق وأمتع فنه.

غير أن النزعة الأدبية، مهما كانت طاغية باغية، ثائرة فائرة، يقظة ساهرة، قد يصيبها العثور ويغشيها الفتور، فيخبو زندها، ويكبو جوادها، ويتطامن إنتاجها، وتقل الروعة في فنها. حتى تتاح لها منشطات تنهض راكدها، وتنبه راقدها. وتثير فيها من جديد مظاهر الحياة الصحيحة والحركة. ولعل هذه الناحية أقوى وجوه الشبه بينها وبين الغريزة، إذ لولا ما يعرض للغريزة من مثيرات ودوافع، لعانت ألواناً من الكبت، قد تفضي بها إلى الموت.

وتتشبث النزعة الأدبية - ككل كائن حي - بأسباب بقائها. وقد درجت الطبيعة على أن تبذل لها بين الحين والحين، من أسباب البقاء ما يذكى فيها عوامل الأمل والرجاء. وحينذاك تندفع في طريقها جادة نشيطة مجاهدة مجالدة، حتى تؤدي رسالتها في الحياة.

وقد درجنا، ونحن ندرس تاريخ الأدب العربي، على أن نسمع بين الآن والآن، بضروب من التشجيع - أو قل بألوان من أسباب البقاء - تتاح للنزعات الأدبية؛ فمن عطية أمير، إلى منحة وزير، إلى ثقافة حافلة إلى آذان صاغية وقلوب واعية، إلى حوافز من صداقات

ص: 30

ومودعات، إلى غير ذلك.

والعلاقات الإنسانية كانت وما تزال، ذات أثر بعيد المدى، في حياة النزعات الأدبية. فالأديب لا يعيش في الدنيا وحيداً. حتى ولو آثر العزلة، فجميع ما حوله ومن حوله، ذو أثر فعال في حياته واتجاهاته، وعواطفه وانفعالاته. ومن أوثق هذه العلاقات، العلاقات الإخوانية.

ونعني بالعلاقات الإخوانية، صلات الود ووشائج الصداقة بين الأنداد والنظراء. وهى من العوامل الدائمة المشتركة بين كل العصور الأدبية، ومن مسعرات نزعاتها، وحافزات روحها، وموجهاتها. وهى بتأثيرها في الناحية الأدبية، بحاجة إلى دراسة مستقلة خاصة مستفيضة، تتلمسها في كل عصورها، وتبرز آثارها في كل عصر منها، وتوازن بين آثارها في عصر وعصر، وتوازن بين آثارها وآثار غيرها من العوامل.

ولعل العلاقات الإخوانية أقوى أثراً في النزعات الأدبية، وأبعد توجيهاً لها في العصر المملوكي، بالقياس إلى غيرها من عوامل النهوض الأدبي فيه. ففي العصر المذكور قلت عوامل التشجيع وأسباب الحفز الأدبي، في جملتها، بالنسبة إلى ما سبقه من العصور. واتجه الكثير منها إلى الحركة العلمية البحتة، فجذب بضبعها ومد في بقائها، وهيأ لها أسباب الحياة والنمو. أما الحركة الأدبية فقد نالها منها صبابة يسيرة، وثمالة متوارية، لا تبعث نشوة ولا تهز عطفاً. لقد صوحت عوامل التشجيع الأدبي، ويبس عودها وذبل زهرها، وأصبحت لا تبهر عيناً. فلا نوق هرم، أو عصافير بنى جفنة، ولا دنانير هشام أو بدر الرشيد، ولا مجالس المأمون أو محافل المتوكل، ولا أريحية بني حمدان أو ذهب العبيديين، بمغرية جنان شاعر، أو مجرية لسان ناثر في هذا العصر.

وككل كائن حي، أخذت النزعات الأدبية فيه، تتلمس لنفسها أسباباً أخرى من أسباب البقاء. فصادفتها العلاقات الإخوانية، فاتخذت منها إلى الحياة سبباً، وإلى البقاء وسيلة. وتشبثت بها أو اصطنعتها أداة لمعالجة عملها وإبراز فنها. والفن هنا قد تنقصه الدقة ويخطئه العمق، ولكن لا تنقصه الصراحة ولا يجافيه الصدق. إذ هو نتيجة علاقات قلبية، ورجع مودات نفسية، لا حاجة بها إلى الزيف والتلفيق.

وقد ظللت الكثيرين من أدباء العصر المملوكي رايات المودة والصحبة الحسنة، فعاشوا

ص: 31

إخواناً متحابين في الأدب، يسعد أحدهم الآخر كما يسعد الغريب الغريب. وقد نوهنا في بعض مقالاتنا السابقة بشيء من هذه العلاقات، وآثارها، كعلاقات السبعة الشهب. وصحبة الجزار والوراق.

وقد روى صاحب فوات الوفيات أن الأديب كمال الدين بن العديم كان إذا قدم مصر يلازمه أبو الحسين الجزار. حتى كانت هذه الملازمة مثاراً لتندر بعض أهل العصر عليهما، فقال، وفيه تورية:

يا ابن العديم عدمت كل فضيلة

وغدوت تحمل راية الأدبار

ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها

نفس تلذ بصحبة الجزار

وبهذه الصحبة فتح الأدباء مغالق أبواب أدبية واسعة، ما بين منثور ومنظوم. وأكثر الشعراء من التهاني والتعازي، والتشوق والحنين، والمعاتبة. وتقارضوا الثناء، وأفاضوا في المعارضات والمطارحات والمساءلات، وجدوا في المماجنة والمفاكهة والملاغزة والمحاجاة، ونهضوا للإجازة والاستدعاء، إلى غير ذلك.

والحق أن الشعر - بخاصة - قد ظنت به حينذاك الظنون، وأرجف الناس من حوله. حتى إن بعض أهله أوجس خيفة، فنعوا عليه، وندبوا أنفسهم، وشكوا كساده، وفضلوا عليه الحرف الدنيا. وهذا أبو الحسين الجزار المصري الشاعر، يقول - وقد هجر الشعر والتكسب به، واحترف الجزارة:

كيف لا أشكر الجزارة ماع

شت حفاظاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيـ

ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

ولعل أبلغ رد عليه، وهو رد يؤيدنا في أن الشعر ربح في هذا العصر حياة فيها صراحة وصدق، قول ابن الوردي:

قالوا لقد كسد القريض فقلت بل

عاشت ضراغمه ومات ضباعه

الآن طاب سماعه وتقطعت

أطماعه وتعززت صناعه

نقول إن العلاقات الإخوانية كانت خير معين للشعراء على إبراز شاعريتهم دون زيف، وإظهار فنهم دون تلفيق. فكان صدى لنفوسهم ومرآة لحوادثهم. وقد حدث صاحب مسالك الأبصار عن أبى الحسين الجزار المصري السابق ذكره، فقال:

ص: 32

(حكى أن السراج الوراق وأبا الحسين الجزار، خرجا في عهد صباهما، والشباب أعقد حباهما، يريدان النزهة. فوجدا غلاماً زامراً، يتمنى منه اللقاء ويجتمع فيه الغصن والورقاء. يتلفت بصفحة القمر المنير. ويطرب كأنما زمره مما أوتى آل داود من المزامير. فلفتاه إليهما لأمر. وظنا أنه ستلينه لهما الخمر. فأتيا به دير شعران وصعدا إليه. فوجدا راهباً يصدع حبه الفؤاد. ويطلع قمره ولا شئ أحسن منه في ذلك السواد. فزاد سرورهما بحصول الزامر والراهب. وأيقنا ببلوغ المآرب. فلما حميت فيهما سورة الحميا. وظن كل منهما أنه قد حصل له فراشه وتهيا. فطن الزامر والراهب لمرادهما، فتركاهما ومضيا قبل التمام، وتركاهما وكل واحد منهما يشكو ضجيعاً لا ينام. فقال السراج:

في فخناً لم يقع الطائر

لا راهب الدير ولا الزامر

فقال أبو الحسين الجزار:

فسعدنا ليس له أول

ونحسنا ليس له آخر

فقال السراج:

فالقلب في إثرهما هائم

فقال الجزار مكملا:

والقلب من أجلهما حائر)

وفى هذه القصة ما يصور حياة هذين الماجنين، وهما مثل لغيرهما أو لكثير غيرهما من أدباء العصر.

ويقرب من هذه الحادثة ما رواه صاحب قوات الوفيات قال:

(حكى أن نور الدين على بن سعيد المغربي صاحب المرقص والمطرب، مر مع جماعة من الأدباء بالديار المصرية، ومنهم أبو الحسين الجزار، فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة، وقد هب الهواء فكشف ثيابه عنه. فقال أبو الحسين الجزار، قفوا لينظم كل واحد منا في هذا شيئاً. فما لبثوا حتى قال نور الدين على بن سعيد:

الريح أقود ما تكون لأنها

تبدى خبايا الردف والأعكان

وتميل بالأغصان عند هبوبها

حتى تقبل أوجه الغدران

فلذلك العشاق يتخذونها

رسلا إلى الأحباب والأوطان

ص: 33

فقال السراج الوراق:

ما أعلم أن أحداً منا يأتي بمثل هذا. سيروا بنا.)

نقول: وهذه مطارحة لم تتم أدوارها، ومباراة لم تبلغ مداها وقد نظم الصاحب فخر الدين بن مكناس قصيدة طريفة فكاهية، داعب بها صديقه الأديب الشيخ بدر الدين البشتكي، ووصفه فيها يوم (أنس الهمايل)، وكان الشيخ بدر الدين في اليوم المذكور قد وضع الثور من الساقية ودار بها، فقال ابن مكناس:

دورة البدر في سواقى الهمايل

تركت أدمع العيون هوامل

آه من للرياض ثور أديب

مظهر من كلامه سحر بابل

فاق سعياً على بنى عجل في الجو

د وأغنى عن الولي الهاطل

وقد مزج ابن مكناس في أبياته بين ألفاظ الرياض والري والماء، وألفاظ الأدب والشعر مزجاً لطيفاً، واستعار من إحداها للأخرى، ووصف الرياض خلال ذلك، وما فيها من أزهار وأغصان، مع توريات جميلة، وتلميحات بارعة، تناسب الموضوع فمن أبياته يخاطب صديقه:

يا سعيداً أثرى من النظم والنث

ر فأنسى الورى زمان الفاضل

قد سقيت الرياض ياشيخ بالدو

ر فها غصنها من السكر مائل

وقوله:

وغداً بالظلال كل أديب

في هجير الرمضا بفضلك قائل

وبروحي عيون نرجس روض

تفتح العين بالندى وتغازل

أنت شنفتها بشعرك زهراً

وبعثت المياه فيها خلاخل

وقوله:

أنت لو لم تكن بحار علوم

ما جرت في الرياض منك جداول

أنت عندي أجل قدراً من الثو

ر - وقد درت - للوجود الحامل

وغدا الفن بين لفظك والرو

ض على الحالتين عندك بأقل

ومن الإخوانيات ما تبادله صفى الدين الحلي، وجمال الدين بن نباته، من شعر تعاتبا فيه وتقارضا الثناء، فلقد أرسل صفى الدين إلى صديقه قصيدة في هذا المعنى، قال في مطلعها:

ص: 34

من لصب أدنى البعاد وفاته

إذ عداه وصل الحبيب وفاته

فاته من لفا الأحبة عيش

كان يخشى قبل الوفاة فواته

كان ثبتاً قبل التفرق لكن

زعزعت روعة الفراق ثباته

ومنها يقول:

كنت مستنصراً بأسياف صبري

فنبت بعد فرقة ابن نباتة

فاضل ألف الفصاحة والعـ

لم وضمت آراؤه أشتاته

رَبُّ شعر لم يتبع ما روى الغا

وون لكن بالفضل يهدى غواته الخ

وقد أجابه ابن نباته بقصيدة طللية في المعنى، ومن البحر والروي، قال في مطلعها شاكياً متغزلا في رقة:

ما لظبي الحمي إليه التفاته

بعد ما كدر المشيب حياته

لهج بالهوى وإن نفرت أيـ

دي الليالي غزاله ومهاته

كلما قيل قد سلا عن فتاة

عاده الحب فاستجد فتاته

ومنها:

بأبي فاتر اللحاظ غرير

رام تشبيهه الغزال ففاته

صائل الحسن إن رنا وتثنى

سل أسيافه وهز قناته

ومنها يخاطبه:

يا مفيد الورى لآلئ بحر

يعرف الذوق عذبه وفراته

وصل العبيد من قريضك بر

سر أحبابه وساء عداته. . الخ

وعلى ذكر ابن نباتة نقول إنه كان قد وقع بينه وبين صديقه صلاح الدين الصفدي جفاء، ولعل ذلك بسبب سرقات الصفدي الشعرية من ابن نباتة، والتي جمعها ابن نباتة في كتابه (خبز الشعير). فتعاتبا عتاباً شعرياً قاسياً، وقد ضمن كل منها قصيدته إعجازاً من معلقة امرئ القيس، وسلكاها في نظمها مع توافق في المعاني، حتى لكأنها أصيلة فيه.

قال الصفدي:

أفي كل يوم منك عتب يسوءني

كجلمود صخر حطه السيل من عل

وترمى على طول المدى متجنياً

بسهميك في أعشار قلب مقتل

ص: 35

فأمسى بليل طال جنح ظلامه

على بأنواع الهموم ليبتلى. الخ

فقال ابن نباتة متقبلا صافحاً:

فطمت ولائي ثم أقبلت عاتباً

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

بروحي ألفاظ تعرض عتبها

تعرض أثناء الوشاح المفصل

فأحييت وداً كان كالرسم عافياً

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

تعفى رياح العذر منك رقومه لما نسجتها من جنوب وشمائل الخ

وقد بعث الصفدي بعد حين إلى ابن نباتة يستجيزه رواية آثاره الأدبية، فأجازه ابن نباتة وكتب له (إجازة) بعبارة أدبية هي نموذج لنثر هذا العصر.

ومن يقرأ كتاب (الحان السواجع) للصفدي، يجد فيه نماذج عدة للإخوانيات الشعرية في عصره. ودواوين الشعراء فيه ملأى بهذا الضرب الشعري.

ومما يذكر أن الصحبة كانت قد عقدت أواصرها بين ناصر الدين بن البارزي أحد كتاب العصر البارزين، وابن حجة الحموي الشاعر الكاتب الناقد. وبوحي من ابن البارزي نظم ابن حجة بديعته في مدح الرسول عليه السلام. وأبرز في أبياتها ألواناً عدة من البديع، وعارض بها بديعيتي عز الدين الموصلي والصفي الحلي. وكان كلما نظم بيتاً قرأه على صديقه ابن البارزي حتى يصير صالحاً. ولما أنتي ابن حجة من نظم بديعيته، شرحها ووازن بينها وبين بديعيتي الموصلي والحلى، دارساً أنواع البديع مستشهداً عليها بكلام المتقدمين من نثر ونظم موازناً بينها أيضاً، مبيناً مذهب البعض في البديع، متكلما عن شعراء عصره وأدبائه ومذاهبهم فيه أيضاً، وهكذا ترى أن ابن حجة قد ألف كتاباً ممتعاً فيه علم وأدب وتاريخ ونقد، وهو (خزانة الأدب).

وبعد فلعلنا بهذا الحديث الموجز، وبهذه الحوادث المقتضبة ألمعنا إلى الدور الهام الذي أدته العلاقات الإخوانية على مسرح الأدب في العصر المملوكي.

(الإسكندرية)

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 36

‌يا بنت وايزمان.

. .

للأستاذ إبراهيم الوائلي

ماذا وراء يا رمال البيد

أعزيف جن أم زئير أسود؟

دوَّي الفضاء فأي حشد زاحف

غمر اليفاع، وأي خفق بنود!

دنيا من التاريخ ريع جلالها

فتنفست عن عدة وعديد

وتحفزت فإذا السرايا طلع

تطوى الجبال ليومها المشهود

هبت فأية أمة لم يثنها

ما كان من عسف ومن تهديد

وتفجرت حمما فذوقي بأسها

يا من عبثت بسلمها المنشود

وتفاءلي بالنحس يا مولودة

بين القبور فأنت شر وليد

في التيه كان أبوك يفترش الحصا

ويطوف بين الشوك والجلمود

ويعيش في دنيا الظلام، ولم يكن

كأبيك أجدر بالليالي السود

وأتيت أنت، وما ضحكت لحادث

إلا لطيف شبابك المؤود

يا بنت (وايزمان) أي براقش

أنت التي قوضت كل مشيد؟

هذا المشرد في المفاوز هل له

غير الصحارى الجرد والصيخود

قذفت به الآفاق شر مطارد

فأراح بعد الذل والتشريد

واستطعم البلد الكريم فما رأى

غير النعيم وظله الممدود

فإذا به يسعى ليصبح سيداً

من لم يعش في الأرض غير مسود!

يا بنت (وايزمان) لم أر طفلة

إلاك منذرة بشر وعيد

ولدتك في مهد الجحيم سياسة

شوهاء، ما أشقاك من مولود

هذى القنابل وهي تمطر ثرة

عن جانبيك وصرخة البارود

والمدفع الضخم المجلجل صوته

في جنب كل مجلجل عربيد

والزاحفون عليك في هبواتهم

من كل جبار الجنان عنيد

والطائرات تشق آفاق الدجى

وتئز صارخة أزيز رعود

وافتك أحنى من عواطف مرضع

تحميك بين سواعد وزنود

وأتتك من شتى الجهات أنامل

حمر تداعب منك حمر مهود

ص: 38

فترقبي سيل الكتائب عارماً

أوفى على تاريخك المهدود

واستقبلي زمر الجنود تلاحقت

غاراتها موصولة بجنود

من كل خواض الدماء إذا ننتخي

لبس الحديد على أمض حديد

أبناء يثرب والفرات وجلق

والنيل، يا للزاحفين الصيد

الذائدين عن الديار غزاتها

والحارسين تراث خير جدود

والقائلين إذا استثيرت عزمة

للأرض يا ذات الشوامخ ميدي

يا بنت (وايزمان) أية قصة

خطتك فوق الماء كف بليد!

وخرافة العصر الحديث أما رأوا

إلاك ضحكة (مجلس) محشود؟

هم قهقهوا فخرجت من أفواههم

زبداً تناثر فوق (تل) جليد

ماذا لإسرائيل يا لك نبأة

مكذوبة حتى على التلمود؟!

قد لفقتك عصابة منبوذة

ما بين مهزوم وبين شريد

وتعهدتك عصائب أمثالها

من (عابد) ذهباً ومن (معبود)

ألزمرة العجل المجوف يبتنى

ملك وقد عاشوا أذل عبيد؟

أم للذين تعاهدوا وتحالفوا

ألا يدينوا باحترام عهود؟!

الغادرين وتلك أم طباعهم

تصل الطريف بأوليات تليد

لكنه الغرب المدل برأيه

يملي على حنق وغل حقود

المستعز بقوة ما شوهت

غير السلام وطيفه المكدود

والحاكم العاتي، ورب مسلط

يقضي بحكم ليس بالمردود

فإذا العدالة قهقهات معربد

عبثت بجفنيه ابنة العنقود

وإذا الضمير العالي مطية

باتت تصرفها شراذم (هود)

يا حاقدين تذكروا تأريخكم

بالأمس إن الأمس غير بعيد

أيام كان الموت يجثم فوقكم

والنار في الآفاق ذات وقود

والأرعن المجنون يشعل زيتها

في الأرض، في الأجواء، فوق البيد

وجراحكم وهي العميقة لم تنل

لولاه من برء ولا تضميد

لكنه طبع القراصنة الألي

جبلوا على غدر وكذب وعود

ص: 39

هم أرهقونا غاصبين وكبلوا

أوطاننا بسلاسل وقيود

واستنزفوا منا الدماء فما شفوا

غلا ولا نقموا حشا المفئود

في كل يوم ألف حر ترتوي

منه الرمال دماً، وألف شهيد

فى مصر، في بغداد، في سورية

في المغرب الأقصى وكل صعيد

وعلى فلسطين استفزوا عصبة

ما بين آفاق وبين طريد

وتآمروا ألا يروها حرة

تحيا بلا كدر ولا تنكيد

فإذا الحثالة في الظلام يقودها

للخزي كل مذمم رعديد

وإذا الخناجر لم تجد غمداً سوى

أحشاء مرضعة ونحر وليد

وب (دير ياسين) وأي جريمة

كان الجزاء لها ب (دير سنيد)

وحشية لو أنها من مخلب

هانت ولكن من أكف قرود

يا مشرق التأريخ لست بمشرق

أضفى على التاريخ كل عتيد

إن لم تثر كالنار شب ضرامها

وتصاعدت حمراء بعد خمود

وتهب كالريح الغضوب تنفست

واستيقظت هوجاء بعد ركود

فالصمت طال بنا وخزي أن نرى

عبث السنين بمجدنا المفقود

عمرت ميادين النضال وحان أن

تهتز دنيا الشرق بعد همود

أرض السلام وما شجيت لموطن

إلاك أو ذوبت فيه نشيدي

إن طال ليلك عابساً فترقبي

بسمات فجر في الظلام جديد

(القاهرة)

إبراهيم الوائلي

ص: 40

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

كرسي شوقي:

كتب الأستاذ توفيق الحكيم في العدد الأخير من (أخبار اليوم) مقالاً بعنوان (كرسي شوقي) بين فيه أهمية إنشاء كرسي في الجامعة للمغفور له أحمد شوقي بك، واستحث أولى الأمر أن ينفذوا القرار القاضي بإنشاء هذا الكرسي في جامعة فؤاد والذي اتخذ من قبل ولم ينفذ إلى الآن. ثم تساءل عمن يصلح للتعين في هذا الكرسي، ورأي (أن الاختيار يجب أن يكون في نطاق أساتذة من خارج الجامعة، لما في هذا الكرسي من لون خاص يحتاج إلى أسلوب خاص في البحث والتدريس) ثم قال: (ما هداني البحث إلا إلى رجل واحد اجتمع له كل ما يراد من صفات، هو الأستاذ أحمد حسن الزيات، فهو قد اشتغل طويلا بتدريس الأدب العربي في مصر وخارجها، وله بشوقي معرفة، وهو أديب كبير ذواقة للشعر والنثر، حام وحارس للبلاغة، ومؤلف تاريخ الأدب العربي في مجلدات لا تخلو منها مدرسة ولا يستغني عنها مدرس، وله بعد من طول الباع ورسوخ القدم، والرغبة في البحث والدأب على الاستقصاء، ما يجعل لهذا الكرسي قدراً ويكفل له مقاماً في المحيط الفكري والأدبي في مصر والبلاد العربية).

وهذا الذي يشير به الأستاذ الحكيم من اختيار أستاذ من خارج الجامعة لم يحدث بعد عندنا، فلا تزال الجامعة قاصرة أمرها على أساتذتها، ولست ادري هل فكرت في الانتفاع بأعلام الأساتذة (غير الرسميين) أو لم تخطر لها هذه الفكرة بعد؟ والواقع أن هؤلاء الأعلام أساتذة في جامعة ليس لها مكان محدود ولا نظام موضوع.

وهي تضم طلبة من خريجي الجامعات الرسمية النظامية وغيرهم، وهم يبلغون فيها ما توجه إليه الجامعات والمعاهد. . . وسم هذه الجامعة إن شئت بما تشاء من الأسماء، وحسبي أن أقول إن أساتذتها هم هؤلاء الأعلام الذين يقرئهم الناس في الكتب والصحف والمجلات.

فهل تقبل الجامعة الرسمية أن تتعاون مع هذه الجامعة التي قدمت صفتها دون تسميتها، فتندب بعض أساتذتها ولو على سبيل (التطعيم) لكرسي شوقي ولغيره. . .؟

ص: 41

أما كرسي شوقي فالأليق به خاصة أستاذ من خارج الجامعة، لأن شوقي نفسه من خارجها، وقد كان من أساتذة (الجامعة العامة) إن راقك هذا الاسم. . . فمن التناسق أن يكون أستاذ كرسيه من لونه.

اللغة العربية في هيئة الأمم:

أذاعت وكالة الأنباء العربية من لندن أن الأوساط العربية هناك لم تقابل بالارتياح النبأ الوارد من القاهرة بأن الدول العربية ستطلب قبول اللغة العربية لغة رسمية في هيئة الأمم المتحدة، وأرجعت عدم الارتياح هذا إلى أمرين: الأول أن (مساومة الكتلات) لبلوغ هذه الغاية ستضعف من مقدرة العرب على المساومة في مسائل أهم من ذلك. والأمر الثاني أنه لو تركت جانباً مسألة الكبرياء والزهو القومي، فالمعروف أن مندوبي العرب يجيدون اللغات المتداولة في هيئة الأمم، فإذا تحدثوا بالعربية فلن يكون لسماع خطبهم مترجمة الأثر الذي تحدثه براعتهم في الإنجليزية أو الفرنسية.

والأمران كلاهما لغو وكلام فارغ. . . فادخار الجهد من مساومة لمساومة عجز وكسل، على أن ظفر العرب بقبول لغتهم رسمية في هيئة الأمم يقوى مركزهم الأدبي فيها، وليست مسألة الكبرياء والزهو القومي مما يترك جانباً، فإن لها أثراً نفسياً في استشعار العرب عزتهم وكرامتهم ومواصلة كفاحهم، ولها نفس الأثر في نظر مندوبي الغرب إلى العرب نظرة الند إلى الند، لا نظرة المتسلط إلى الضارع. ومن هنا ينعكس الأمر كما يقدره أولئك المقدرون، فتسهل المساومة في المسائل الأخرى.

وما دامت المسألة مساومات وكتلات فماذا تجدي البراعة في الإنجليزية أو الفرنسية التي يقال إنها ستفقد في الترجمة؟ إن مندوب روسيا - مثلا - يتحدث بالروسية في هيئة الأمم، وينام سائر المندوبين حتى ينتهي، ثم يترجم كلامه (فاقداً) البراعة. . . فهل تخسر روسيا بذلك شيئاً؟ وهل يفوتها غنم من غنائم أهل البراعة؟

إذن دعوا العربية تسير، فلن تعوق إن لم تبلغ، وإذا خسرنا الإنصاف من ذئاب الغرب وكسبنا الكبرياء والزهور القومي فلم نخسر شيئاً، لأن الشعور بالكبرياء والزهو سيعيننا على انتزاع الإنصاف منهم بغير الخطابة والبراعة.

نزهة إذاعية:

ص: 42

قرر مجلس الإذاعة الأعلى في اجتماعه المنعقد يوم الأربعاء الماضي، إيفاد كل من محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة، وكريم ثابت بك مستشارها، لحضور مؤتمر الإذاعة الذي سيعقد بإيطاليا فيما بين 14 و19 سبتمبر الحالي، وزيارة محطات الإذاعة في إنجلترا وفرنسا وسويسرا، لاقتباس النظم التي تلائم الإذاعة في مصر.

وفي هذا القرار مسألتان: الأولى حضور المدير والمستشار المؤتمر، وليست هذه المسألة بدعا، فما أكثر المؤتمرات، وما أكثر من يوفدون إليها من كبار الموظفين، وما أكثر ما تنفقه الحكومة في هذا السبيل! وليس يذهب كل ذلك سدى. . . فإن لم تظهر له نتائج عملية فيكفي أن يتمتع حضرات المندوبين بالرحلات، وأن يستجموا، كي يواصلوا بعد عودتهم جلائل الأعمال.

أما المسألة الثانية التي يشتمل عليها ذلك القرار، فهي زيارة المدير العام للإذاعة ومستشارها محطات الإذاعة بالبلاد المذكورة. وتستلزم هذه الزيارة طبعا السفر إلى تلك البلاد والتنقل بينها والإقامة في كل منها أياماً أو أسابيع. وسينفقان في كل ذلك مبلغاً من المال لا بد أن يكون كبيراً، تصرفه خزانة الإذاعة دون أن تصطنع في صفه ما تصطنعه في أجور الفنانين والمحدثين بها من التمهل والإبطاء.

والغاية من هذه الرحلة الطويلة الباهظة، اقتباس النظم التي تلائم الإذاعة في مصر، كما يقول القرار، فالغرض لا يتعلق بالناحية الهندسية الفنية الآلية، وإلا كان من يوفد غير المدير والمستشار، واستحق الأمر أن ينتقل الوفد من مصر إلى تلك البلاد؛ وإنما يتعلق الغرض بالبرامج، والبرامج يمكن سماعها في مصر واقتباس ما يلائم مصر منها، فلم إذن زيارة محطات الإذاعة؟ الوقوف على نظام الحجرات والمكاتب بها، أم للاطلاع على أصول ما يذاع. .؟

على أن الأستاذ محمد قاسم بك رجل كبير ممدود له في الخدمة بعد سن المعاش، أفلا ينبغي أن يستبدل به من يمكن أن يستفاد منه طويلا بعد أداء هذه (المهمة) إن صح أنها مهمة. . .؟

أو لست ترى في هذه الزيارة عدم اعتراف بالعمل الإذاعي من حيث أن الغرض منه أن ينقل إليك كل شئ في مكانك، ولا يجشمك أن تنتقل إلى مكانه؟!.

ص: 43

للدولة شخصيتان في الأدب والفن:

قال محدثي: أتعلم لم فازت قصة (البغل والإبريق) التي ذكرت شيئاً من أمرها، بالجائزة الأولى في مسابقة القصة بمهرجان الشباب؟

- أثمت شيء غير تقدير المحكمين لها؟

- هو تقدير المحكمين طبعاً، ولكن دخل في هذا التقدير عنصر آخر غير قيمة القصة الفنية، فلم تكن أحسن قصة قدمت على الإطلاق، وإنما رأتها اللجنة خير القصص الخالية من (فتاة الحب).

لم أكن في حاجة إلى المزيد لأدرك ما يرمي إليه محدثي، فمهرجان الشباب الأدبي نظمته وزارة المعارف، فهي أذن تحرص على الوقار والاحتشام في هذه المسابقات الأدبية، كما تحرص عليهما فيما يقدم إلى التلاميذ في المدارس من نصوص الأدب، فالمتبع في اختيار هذه النصوص أن تكون من أغراض غير الغزل كالمدح والرثاء والفخر والحكم والأمثال، وإن كان الحال قد تغير قليلا في السنوات الأخيرة إذ صار بعض الأساتذة لا يجد بأساً في قطع من الغزل (المعتدل) يجتذب بها التلاميذ ويحببهم في الأدب، ويسري عنهم عناء الحكم والأمثال والنصائح وما إليها.

جال هذا بخاطري على أثر ذلك الحديث. ثم قلت في نفسي: إن بعض المعاهد التي تشرف عليها وزارة المعارف، تقيم في بعض الأحيان حفلات عامة فيها تمثيل وغناء ورقص، وفي بعض هذه الفنون يختلط الفتيان والفتيات، وقد تقتضي الحال تمثيل الحب. ووزارة الشؤون الاجتماعية تشرف على المسرح والسينما والإذاعة وتكاد هذه الثلاثة تقوم على الحب من تمثيل وغناء ورقص، وكثيراً ما يكون فيها الحب الذي هو أكثر من الحب! والوزارتان تشتركان في استقدام الراقصات من أوربا كفتيات (الباليه) للتمثيل والرقص على مسرح الأوبرا.

ثم قلت في نفسي أيضاً: يا عجباً! للدولة شخصيتان، إحداهما متزمتة وقور والأخرى عصرية (اسبور)؟ ولم كانت الأولى من قسمة الأدب وظفر بالثانية سائر الفنون؟ قد يكون ذلك من طبيعة المشرفين على الأدب في الوزارة ومن طبيعة المشرفين على الفنون الأخرى في الحكومة وفي خارج الحكومة.

ص: 44

ولكن ألا ترى أن الأدب أولى بالشخصية الثانية، فهو كلام، وجوه أكثر أمناً من غيره، وقد كان بعض أسلافنا الذين لم يدركوا اختراع كلمة (الصدق الفني) يتغزلون ويصفون الحسان ويقولون في الخمر (غير ما قال مالك) ويصفون فعليها بالنفوس، ولم يذق أحد منهم طعماً للحب أو للخمر. ولم ينكر عليهم أحد ما يقولون، بل كان منهم من يعد من الفقهاء والصالحين. أما الفنون الأخرى غير الأدب وخاصة التمثيل فالحب فيها عملي. والأدب لا يفهمه إلا الكبار (العقلاء) أما المسرح والسينما والإذاعة فهي في متناول الجميع من صغار وكبار، وخاصة الإذاعة، فهي لا يمكن المنع منها، وهي تقتحم كل بيت بكل بذئ من الأغاني و (المنلوجات) لا بالتعبير عن العواطف المهذبة فقط، وفي جملة من يسمعها التلاميذ والتلميذات الذين تحرص وزارة المعارف على (وقايتهم) من الحب في الأدب.

فهل ترضى الدولة بما ينطبق عليها من (تعدد الشخصية أو ترى تراجع نفسها لتتلافى هذا التعدد؟.

اللجنة الثقافية بلبنان:

بدأت اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية اجتماعاتها يوم 28 أغسطس الماضي في بحمدون بلبنان. وقد عقدت إلى وقت كتابة هذا أربع جلسات نظرت فيها في مسائل هامة وانتهت فيها إلى قرارات، ولا تزال توالي اجتماعاتها لنظر بقية المسائل.

ومما نظرت فيه شؤون الإذاعة والسينما الثقافية، فقررت توصية مجلس الجامعة بمشروع إنشاء محطة إذاعة عربية كبرى، وتقوية الإذاعات الحالية ريثما يتم تنفيذ المشروع، كما تقرر الدعوة إلى عقد مؤتمر لمديري محطات الإذاعة للبحث في أنجح الوسائل التي تكفل تنسيق البرامج الثقافية العربية المشتركة وتنظيمها. وتقرر أيضاً الدعوة إلى مؤتمر للخبراء الفنيين في السينما للبحث في ترقية السينما العربية وإنتاج أفلام دعاية للبلاد العربية في الخارج وقد اشتكى الأعضاء من أن الأفلام العربية ليست في المستوى الراقي الذي ينشد منها وأنها تنافي أحياناً الأخلاق العامة والمبادئ القومية ورجوا توصية الحكومات العربية لإصلاح هذا النقص.

وقررت اللجنة تنظيم مهرجان حافل يقام في أجدى العواصم العربية تخليداً لذكرى ابن سينا، ووضعت برنامجاً لتنظيم هذا المهرجان، وقررت تأليف لجنة لنشر آثار ابن سينا،

ص: 45

كما قررت إنشاء مؤسسة علمية تذكارية يطلق عليها اسم الفيلسوف العظيم لتخليد ذكراه.

ونظرت اللجنة قضية الأساتذة والطلاب ورجال الفكر الفلسطينيين، واتخذت فيها قرارات هامة ستعرض على الجهات المختصة لإقرارها. ومما تضمنته توصية الدول العربية لاستخدام الأساتذة الفلسطينيين الفنيين، وقبول الطلاب الفلسطينيين بالمجان في معاهد الحكومات العربية، وفتح مدارس في الأماكن التي يكثر فيها الفلسطينيون خارج فلسطين؛ وقررت أن تطلب إلى اللجنة السياسية العمل على تأمين النفقات للطلاب الفلسطينيين في أوربا وأمريكا.

عباس خضر

ص: 46

‌البَريُد الأدَبيَ

المفعول معه، وواو المعية:

كتب الأستاذ عبد الستار فراج كلمة حول (واو المعية، والمفعول معه) أورد فيها أموراً في حاجة إلى المناقشة.

1 -

قال في مقام الاستشهاد على إفادة الواو معنى مع. أن قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان) أنهم تبوءوا الدار مع الإيمان.

وقد أورد الصبان في حاشيته على الأشموني هذا الشاهد، لكن النسفي فسره بقوله و (أخلصوا) الإيمان يعني بتقدير فعل مناسب كقوله:

(علفتها تبناً وماء بارداً) يشير بهذا إلى أن ما بعد الواو لا يصح اشتراكه في الحكم (الحدث) مع ما قبلها لاختلاف المدلول.

وقد سار على ذلك التأويل الفراء والفارس، وأما المازني، والمبرد وأبو عبيدة، والأصمعي، واليزيدي؛ فقد قدروا فعلا يصح انصبابه عليهما وهو (أنلت).

وعلى القولين يمكن تخريج الآية بأن (الإيمان) إما أن يكون منصوباً (يلزموا)، أو (ألفوا وأخلصوا)؛ فسياق الأستاذ بعيد عن الدقة لأن الواو تقتضي معاني متعددة؛ فهي تفيد الاشتراك، أو المعية، أو الدلالة على العطف من دون تأويل، أو بقاءها مع حذف المعطوف عليه لاختصاصها هي والفاء العاطفة به.

2 -

غير أننا حين نفارق بين واو العطف، وواو المعية يلزمنا التقريب إلى إيضاح مرادنا في صورة بينة، ونحن نظاهره على نقده تعريف المفعول معه، لكن الأمثلة توضح القاعدة وتحدد معا هي الألفاظ الاصطلاحية. فنقول لتلاميذنا في (خرجت والأصيل، وسرت والشاطئ، واستذكرت والمصباح): إن ما بعد الواو لا يصح أن يقع منه الحدث، إذ الأصيل لا يخرج، والشاطئ لا يسير، والمصباح لا يستذكر، وإنما حصلت الأحداث مقارنة لهذه الأشياء، وبهذا الأسلوب الإفهامي نستدني القاعدة إلى الأفهام!.

3 -

قال: إنه يحيل قول الشاعر: (لا تنه عن خلق وتأتي مثله إلى الحال، وقد تجوز في رأيه تجوزاً بعيداً، فقد فرق (الرضى) بين واو الحال، واو العطف، واو المعية بما يفيد أنهم - أعني النحاة - لما قصدوا معنى المصاحبة نصبوا المضارع بعدها ليكون السياق مرشداً

ص: 47

في أول الأمر إلى أن الواو ليست للعطف، أما واو الحال - وأكثر دخولها على الاسمية -؛ فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، فمعنى (قم وأقوم): وقيامي ثابت.

على أن الطلب: (ما يتوقف تحقق مدلوله على النطق به)؛ فكأن بينه وبين ما بعده ارتباطاً فيه ترتب حكم؛ فالنهي عن الخلق مرتبط بملابسه فعله - أما جملة الحال؛ فيقصد منها الكشف أو بيان الهيئة فإذا قلت: (لا تقع في اللبس وأنت غلطان) كان المعنى النهي عن الوقوع في اللبس في حال الغلط؛ فقد يقع اللبس سهواً على خلاف (لا تقع في اللبس وتغلط)؛ فإنه يقتضي النهي عن وقوعهما أو وقوع اللبس وحده مع ملابسة الغلط.

وبعد؛ فهذا ما بدا لنا سقناه للعلم والحق - على قدر ما نعلم - (وفوق كل ذي علم عليم)!

أحمد عبد اللطيف بدر المدرس ببور سعيد

هاأنذا:

اشتهر بين المتأدبين أن الضمير المسبوق بها التنبيه يخبر عنه وجوباً باسم الإشارة الذي يناسبه، ومثاله قول الله تعالى:(هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) وقوله جل وعلا: (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم). وقول الشاعر:

إن الفتى من يقول هاأنذا

ليس الفتى من يقول: كان أبي

وقد غلا كثير منهم في تطبيق هذا الحكم غلواً كثيراً؛ مع تخلفه في مواطن شتى من كلام البلغاء والعلماء الذين يقتدي برأيهم؛ كالعلامة (ابن هشام) فإنه أورد هذه القاعدة في (المغنى) ولكنه جريا وراء فطرته فرقَّ بين ما يجب فيه ذلك وما لا يجب فقال في مقدمة الكتاب قوله (وهاأنا بائح بما أسررته) بدون أن يخبر باسم الإشارة؛ وقال (البحتري) وهو من هو في صفاء الأسلوب:

ها هو الشيب لائماً فأفيقي

واتركيه إن كان غير مفيق

ولا يمكن وقوع (البحتري) في هذا الخطأ إن كان الحكم السابق مطرداً في جميع الأحوال؛ والحق أن النحاة لم يوجبوه ولكن كثيراً من الواقفين على شاطئ العلوم لا يفرقون بين أسلوب وأسلوب، ولا يتعمقون المباحث العلمية حتى يقفوا على أسرارها، فيقضوا في الأمور على بينة، وإني - ولا أزكي نفسي - أستطيع أن أعرض على القارئ ما أراه سبباً

ص: 48

لتخلف هذه القاعدة في بعض الحالات؛ يبدو لي أن الأساليب المقرونة بالتحدي هي التي لا تخلو من أسماء الإشارة؛ فالآيتان الكريمتان فيهما إنكار شديد، وعتاب لاذع للمؤمنين الذين لا يزالون يجادلون عن المنافقين وأمثالهم، والذين لا يزالون يوادونهم ويحبونهم مع استبانة البغضاء في أفواههم، وتماديهم في معاندة الإسلام والكيد للمسلمين؛ ولما كان هذا اللوم شديداً على نفوس المؤمنين ومظنة لمحاولة التنصل منه حسن الإخبار باسم الإشارة زيادة في تصوير موجب اللوم حتى كأنه مصور محس لا يمكن التنصل منه؛ وكذلك الشأن في البيت فإن معنى التحدي واضح فيه كل الوضوح. (وزيادة في الفائدة يحسن الإشارة إلى أن بعض المفسرين يعتبر اسم الإشارة في الآيتين منادى مع حذف حرف النداء). ثم نرجع إلى صميم البحث فنقول: أما إذا خلا الكلام من معنى التحدي فقد حسن (أو جاز على الأقل) تجريد الكلام من اسم الإشارة؛ وبهذا يكون (البحتري) على العهد به في تفهم مقتضى الحال، والإتيان بما يطابقه من الكلام، فيكون كلامه جارياً على سجيته: من الجودة والرصانة، كما كانت الآيتان الكريمتان في الذروة من البلاغة لأنهما طابقتا كل المطابقة مقتضى الحال.

(الإسكندرية)

محمود البشبيشي

كتاب مفتوح إلى صاحب الفضيلة الشيخ أحمد محمد آل شاكر

كنا عند ظهور كتاب الأغلال لعبد الله القصيمي وتداول آراء بعض العلماء فيه ننتظر رأي فضيلة الشيخ أحمد بن محمد آل شاكر إلا أن فضيلته لأمر لا ندريه، تذرع بالصمت ولم ينبس ببنت شفه في أغلال القصيمي والآن بمناسبة ظهور رد جديد على الأغلال نفسها من الشيخ محمد بن عبد الرزاق آل حمزة ومقدمة من الأستاذ الغمراوي نرى أن الفراغ لا يزال موجوداً لم يسد ولا يصلح ولن يصلح لسد هذا الفراغ إلا كلمة فضيلة الشيخ الشاكر فيه إذ لا يدعى للجلي إلا أخوها. وعليه نرجو في إلحاح من فضيلة الشيخ الشاكر بيان رأيه الثاقب وكلمة العلم في الموضوع وله من الله الأجر والمثوبة، ومنا طلبة العلم الشكر الجزيل وإنا لكلمته منتظرون.

ص: 49

(الرياض)

عبد الرحمن بن سلوم

ص: 50

‌الكُتبُ

فنون الإسلام

نقد ودراسة

للدكتور أحمد موسى

تفضل الدكتور زكي محمد حسن وكيل كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول وأستاذ الآثار الإسلامية فيها، فأهدى إلى نسخة من كتابه (فنون الإسلام) وهو الكتاب الذي بدا لي عندما قلبت صفحاته أنه ليس من الكتب التي يسهل درسها ونقدها في وقت قصير، مما ألزمني التأني في قراءته بإمعان يتناسب مع قيمته وخطره!

والحق أشهد أنى وجدت في الكتاب كل ما تصبو إليه نفس القارئ من المتعة والتثقيف الفني، أما المتعة فلأنه تناول تاريخ فنون الإسلام ونشوئها وتطورها من أقدم عصورها حتى آخر عصر النهضة الأوربية، وهو موضوع يلذ لكل قارئ الاطلاع عليه، وأما التثقيف فلأنه حافل زاخر بدراسة محيطة لهذا الموضوع العظيم الشأن من جميع نواحيه، في أسلوب الأديب، فجاء بعيداً عن الجفاف العلمي الخالص، مع توافر أصوله في كل صفحة من صفحاته، مما جعل منه مرجعاً لكل باحث.

والأستاذ الدكتور زكى غنى عن التعريف إلا أنه يهم القارئ أن يعلم أن مؤلف الكتاب (الذي بين أيدينا) حائز على دبلوم الآثار الشرقية والإسلامية من مدرسة اللوفر، ودبلوم اللغة الفارسية من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، فضلاً عن أنه حائز على ليسانس الآداب من الجامعة المصرية ودكتوراه الآداب من السربون.

أما من حيث الناحية العملية فقد كلن مساعداً علمياً بمتحف برلين كما كان أميناً لدار الآثار العربية بالقاهرة، وهو بهذا وبما سبق له تأليفه من كتب في الفن الإسلامي يدفع بالقارئ لكتابه إلى الاطمئنان الكامل.

ولا أبالغ في القول بأنه لولا مؤلفه المذكور وما سبقه من مؤلفاته لكان ما أخرج للناس في لغتنا العربية خاصاً بالفن الإسلامي قليلا ضئيل النفع، ولعل مما يؤيد هذا، المراجع التي ذكرها في ذيل كتابه والتي بلغت 270 مرجعاً بالألمانية والإنجليزية والفرنسية، اللهم إلا

ص: 51

تسعة عشر مرجعاً جاءت باللغة العربية معظمها في موضوعين اثنين هما العمارة والخزف، أما ما تبقى بعد ذلك من الموضوعات فلا توجد له مراجع معتبرة في اللغة العربية.

ولسنا في مجال البحث عن الأسباب التي أدت إلى الركود العجيب في الدراسات الفنية بالبلاد الشرقية عموماً وبمصر على وجه الخصوص.

على أن هذا لا يمنع من أن أذكر أنه قد ظهرت بضعة مؤلفات باللغة العربية عدا تلك التي جاء ذكرها ضمن مراجع الدكتور زكى، كان مؤلفوها من غير المتخصصين، فكانت كتاباتهم لا تخرج عن محاولات، فضلاً عن ظهورها في عالم المطبوعات، في وقت كان إقبال الناس فيه على دراسة الفن ومعرفة أسراره ضئيلاً يكاد يكون معدوماً.

ولما كانت مهمة تاريخ الفن هي الاستعراض العلمي لنشوئه وتطوره وارتقائه وأثره، على أساس التاريخ العام مع تطبيق أصول علوم أخرى، ولما كان الأسلوب العلمي في التاريخ العام هو تقسيمه إلى الأقسام الثلاثة المعروفة بالقديم والمتوسط والحديث، فإن تاريخ الفن مع كونه استعراضاً لنشوء الفن وتطوره وأثره كما ذكرت، يخضع لنفس القاعدة بغية التبسيط، ولإيجاد الرابطة الوثيقة بين التاريخ العام وتاريخ الفن، على اعتبار الإنتاج الفني مقياس الحضارات الصادق.

هذا بيان يدفع بى إلى الخروج عن موضوع الكتاب؛ فأذكر شيئاً عن تاريخ العلوم والفنون الإسلامية عند الغربيين وعن الدوافع التي حفزتهم إلى العمل في هذا المجال الفسيح.

فعندما قصد رجال كنيسة روما نشر الديانة المسيحية بين شعوب آسيا وأوربا وشمال أفريقية رأوا أنه لامناص من معرفة لغات هذه الشعوب لأنها المفتاح الأوحد إلى قلوبهم، فتجد أنه لم ينتصف القرن الثالث عشر الميلادي حتى كان البابا (اينوسنس) قد أصدر أمره بإنشاء كراسي (جامعية) لتعليم اللغة العربية، وهو الأمر الذي حافظ على تنفيذه (كليمنس) الرابع و (هونوريوس) الرابع. أما في عهد (كليمنس) الخامس، فقد تقرر في المؤتمر الكنسي بمدينة فيينا إعداد معلمين لتدريس اللغة العربية في كل من روما وباريس وأكسفورد وبولونا وسلامنكا كطريق إلى غزو الشرق بما فيه من الكنوز العلمية والأدبية والفنية وغيرها، وتطور الحال فلم تقتصر هذه العناية على معرفة اللغة العربية لذاتها، بل

ص: 52

ازداد الاهتمام بمعرفة أسسها وإدراك ما كتب بها من مؤلفات في مختلف العلوم والفنون، لا للدرس والمعرفة فحسب؛ بل كذلك للاستيلاء على تلك المؤلفات نفسها كلما سنحت الفرصة؛ وهى المؤلفات التي ترجمها العرب عن الأغارقة وغيرهم عدا ما ألفوه، لكي يتمكن العقل الأوربي من الوقوف على مصدر حضارة العرب، وعلى ما تركه أرسطو وغيره من رجال المدرسة الأثينية والسكندرية من المؤلفات الزاخرة بالمادة العلمية للإفادة منها جميعاً.

وهكذا انتهى الأمر بظهور الكثير من الكتب القيمة باللغة اللاتينية أصلها عربي من تأليف علماء المسلمين ومن اشتغل إلى جانبهم من الشرقيين خلال القرون الوسطى الزاهرة في تاريخ الإسلام.

وجاء دور الانقلاب الديني في أوربا، وأهم ما يعنينا من آثاره انتشار الدراسات الشرقية وزيادة العناية بمعرفة اللغة العربية عندما كان (علم التفسير) من العلوم التي ترجع في أصولها إلى المصادر الشرقية لإيضاح نصوص الكتاب المقدس.

هذا إلى جانب الدور الخطير الذي لعبته البعثات التبشيرية الكاثوليكية لنشر المبادئ المسيحية في الشرق، فخصص البابا (أربان) الثامن في عام 1627 لبعثة الدعاية الدينية فريقاً من رجال اللاهوت لدراسة اللغات الشرقية وفى مقدمتها اللغة العربية.

وصفوة القول أن الدراسة العلمية السليمة لهذه اللغات وعلى رأسها لغة الضاد لم تبدأ إلا منذ منتصف القرن الثامن عشر بعدما خرجت عن نطاق الكنيسة ودخلت في نطاق الاستعمار المنظم، فنذكر وليم جونز الإنجليزي الذي وجه نظر بلاده (بلغة السياسة) إلى الدراسات الشرقية وما ينتظر من ورائها من فوائد، وذلك في مقاله الافتتاحي بمناسبة إنشاء الجمعية الأسيوية في عام 1784، كما نذكر سلفستر دي ساسي صاحب المجهودات البارزة للانتفاع بالمؤلفات العربية وكتاب العرب!

وإذا كانت الدراسات الشرقية في مختلف العلوم قد سارت على غير نشاط متشابه نتيجة الاهتمام بفروع منها دون الأخرى؛ فإن فجر القرن التاسع عشر قد عرف بأنه فجر النشاط الشامل لمختلف نواحي تلك الدراسات، فبدأ التخصص يظهر في أفق العلم ولا سيما بعد تأسيس الجمعيات العلمية في كل دولة من الدول العظمى التي اهتمت بالشرق، فنجد جمعية

ص: 53

العلوم الشرقية الألمانية تأسست في سنة 1845 بمدينة ليبزج، ومعهد اللغات الشرقية ومدرستها في سنة 1887 ببرلين، على حين تأسست جمعية فيينا قبل ذلك باسم الأكاديمية الشرقية، أما في باريس فقد عرفت باسم وعدا هذه جمعيات لندن وبطرسبرج وغيرهما.

كل هذا من أجل الشرق بما حواه، ولم تكن هناك وسيلة لغزوه أفعل من وسيلة العلم، فلن تجد في أوربا من ينكر الخير العميم الذي جاء كالغيث على أهل أوربا نتيجة لتأسيس تلك الجمعيات التي هب الكثيرون من أعضائها للرحيل إلى الشرق للدرس الجامع الشامل والقيام بأعمال الحفر الأثرى استكمالاً لما شاهدوه منها ظاهراً يسحر الألباب!

ولهذا فلا عجب عند ما نجد كل المراجع الحديثة ذات القيمة العلمية في البحوث الشرقية والإسلامية باللغات الأوربية.

ولكن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، إذ اتضح بعد وضع المؤلفات عن الشرق وما فيه افتقارها إلى الأسلوب العلمي الذي لا يكون إلا بالتخصص، ولما كانت هذه المؤلفات قد اشتملت ضمناً على التراث الفني المجيد، وفيه مجال فسيح الأفق لا يصل إلا الدارس، رأينا هؤلاء الأوربيين يعطون القوس باريها!

وهنا أراني مضطراً مرة أخرى إلى التعريج على قصة تاريخ الفن مادمنا في معرض الكلام عن (فنون الإسلام):

فقد بدأ الكاتب الروماني بلينيوس كتابه عن الفن وتاريخه (في العصر القديم) في القرن الأول المسيحي، ووضع الكاتب الإغريقي بوزانياس في النصف الثاني من القرن الثاني المسيحي كتابه الشامل لبيانات وأوصاف وإيضاحات فنية نافعة كانت بأسلوب أقرب إلى السرد منه إلى النقد.

ولم يكن الأسلوب مختلفاً عن ذلك كثيراً في القرون الوسطى فلم يكن ما كتب يزيد عن وصف عام للعمائر، وإيضاح لما استنفد في إنشائها من مجهود.

وقد ظهرت بعدئذ كتب في تاريخ الفن العام في ثوب علمي نتيجة لإقبال الناس على مؤلفات الأقدمين ودراسة آثارهم والنقل عنهم، فقام فريق من أهل العلم بتفسير ما حرره فيتروفيوس، على حين اشتغل فرق آخر بتسجيل الكتابات والنقوش التي وجدت على كثير

ص: 54

من الآثار مع تفسيرات وشروح.

ومهما يكن نوع هذه المجهودات والطريقة التي سار عليها أصحابها، فإنه لا يمكننا أن نرجع المحاولات الصائبة في مضمار تاريخ الفن إلى أبعد من القرن السادس عشر، عندما كتب لأول مرة المؤرخ اللاتيني (فاسارى) الذي تتلمذ في الفن على ميكلانجلو؛ والذى يعد بحق إمام مؤرخي الفن، كتابه القيم الذي حوى تراجم مفيدة لرجال الفن في إيطاليا.

وهناك مؤلفات جديرة بالذكر، منها كتاب (المشاهدات) لكارل فان ماندر، وكتاب أكاديمية العمارة والنحت والتصوير ليواخيم فينكلمان مؤسس علم الأركيولوجيا سنة 1745 وجاء بعد هؤلاء كثيرون لا يتسع المقام لذكرهم.

إلى هذا الحين كانت كل المجهودات فردية، كلما كان اتجاه كل مؤلف اتجاهاً خاصاً ولفن بعينه، فكان الراغب في المعرفة الفنية العامة لا يستطيع الوصول إلى بغيته، حتى آن الأوان وتكاتف فريق من علماء الألمان كسابق تكاتفهم في مضمار تاريخ الفلسفة وغيرها - على إخراج مؤلف شامل، فظهر في الأفق كتاب (شنازه) وبعده بقليل كتاب (لوبكة) وبعده كتاب عظيم الشأن هو (تاريخ الفن العام) لمؤلفه أنطوان شبرنجر، والذي يطبع حتى اليوم بإضافات مستمرة في مجلدات ستة تعتبر مرجعاً طيباً لكل مؤرخ فني.

وقسموا كتبهم التي أخرجوها في مجلدات إلى عصور، والعصور إلى مراحل، ووزعت المراحل على الشعوب توزيعاً جغرافياً حرصاً على استبقاء آثار التجاور وتشابه الأجواء والبيئات على الإنتاج الفني فضلا عن سهولة التناول، فجاءت المؤلفات ومنها ما يخص الفن القديم من شرقي وغربي، فمصر وبابل وآشور والعراق والفرس والهند والصين في كفة، والإغريق والرومان في كفة أخرى.

وهكذا كان التقسيم لفن العصر المتوسط ولفن العصر الحديث من حيث المنهج والأسلوب الدراسي.

هذا إلى جانب تقسيم الإنتاج الفني نفسه إلى عمارة ونحت وتصوير وفنون رفيعة الخ.

وظل البحث الفني في تقدم مستمر بتقدم أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار إلى جانب ترميم وإصلاح العمائر والمباني من كنائس وقصور ومساجد الخ، فوجدنا كتباً عن فن قائم بذاته كالفن الإغريقي وحده، كما وجدنا مجلدات تخص فن النحت دون سواه. ولم تقف الحال عند

ص: 55

هذا، بل ترى فريقاً من عشاق الفن وقد اشتغل بتأريخ حياة مثال بعينه؛ فتجد بحثاً قائماً بذاته عن فيدياس مثلا.

أما التقدم في إخراج هذه الكتب فكان من ثلاث نواح، الأولى أن تأليفها كان مبنياً على أصول البحث العلمي وما يحتاج إليه هذا من الإفاضة في الموازنة والمقارنة، وفي ذكر المراجع والمصادر عند عرض رأي من الآراء الفنية أو مناقشته، والثانية تزويدها بالصور الفوتوغرافية القيمة التي أماطت اللثام عن كثير من الدقائق التي لا يمكن فحصها في مكانها الأصلي، إلى جانب تكاليف السفر ومشقته وما يستنفده من وقت ومجهود، والثالثة تقدم فن الطباعة تقدماً عجيباً جعل في الإمكان الجمع بين لوازم العلم من ناحية تنويع حروف الطباعة لملاءمة البحث وتمييز فصوله وأبوابه، وتلوين الأشكال والصور بألوان تحاكي الأصل - وبين الدقة والعناية، بل والأناقة في الإخراج، فأصبحت كتب الفن في كل من أوربا وأمريكا أنموذجاً للكمال.

هذا إلى جانب ما أخرج للراغبين من معاجم ودوائر معارف وموسوعات ومجلات ونشرات وتقارير سنوية وغير سنوية للدراسات والاكتشافات الفنية والأثرية وأصول النقد الفني والتقدم في النقد المقارن.

كانت كل هذه المجهودات تسير قدماً ونحن في نوم عميق! على أن هذا النوم العميق لم يمنع من ظهور بعض الكتب المترجمة عن الفن المصري حيناً وعن الفن في القرون الوسطى. وفي عصر النهضة وما بعده حيناً آخر، وهي كتب أكثر ما يمكن أن يقال فيها أنها محاولات وترجمات لكتب فنية لا تتفق أصلا مع حاجة المصريين ولا مع سابق دراساتهم إلى ذلك الحين على الأقل، كما كان بعضها أقرب إلى (كتالوجات) الصور منه إلى الكتب الدراسية ذات الأسلوب النافع. ولهذا جاءت ضعيفة الإخراج قليلة المادة ضئيلة النفع، لا لشيء سوى عدم تخصص مترجميها أو مؤلفيها من ناحية وعدم وجود القارئ للكتب الفنية القيمة التي تدفع بالمتخصصين إلى العمل من ناحية أخرى.

ولقد ظهرت بعد الثورة المصرية بعض كتب قيمة إلى جانب مقالات وبحوث ظهرت في مجلات محترمة عن الفن واتجاهاته ومدارسه. فإذا ما ظهر اليوم كتاب (فنون الإسلام) لتنوير الأذهان نحو موضوع من أخطر موضوعات الثقافة الفنية الإسلامية؛ فإنه لا يسعنا

ص: 56

إلا تهنئة القراء الشرقيين عموماً والمصريين على وجه الخصوص بهذا الكتاب الجامع الشامل!.

والحق أشهد أنه من أشق الموضوعات التي تحتاج إلى التريث وطول الأناة وسعة الاطلاع، فعندما يتصدى الكاتب لفنون الإسلام جميعاً إنما يجابه موضوعاً عسيراً، لا يتغلب عليه إلا القادرون.

جاء الكتاب في نحو 750 صفحة من القطع المتوسط شاملا للعمارة والنحت والتصوير وأعمال النجارة والقاشاني والفنون الزخرفية بأوسع معاني الكلمة، وذلك في الأقطار الإسلامية مرتبة ومبوبة تبويباً خاضعاً للأسلوب العلمي.

وإذا علمت بأن فنون الإسلام في مجموعها تقف أمام الفنون الوثنية الكلاسيكية موقف المناهض، وأنها قامت على أكتاف الفنون المسيحية في أول أمرها ثم أخذت تستقل رويداً رويدا حتى تم لها الوجود والكيان القائم بنفسه؛ استطعت تقدير المشقة والمجهود المبذولين لبيان هذا الاتجاه بقلم كاتب مصري مسلم!.

ولعل من الخير أن نذكر أن المحور الذي تدور حوله الفنون المسيحية المبكرة وما بعدها كان دينياً خالصاً؛ فأقيمت الكنائس مزودة بالتماثيل الآدمية وغير الآدمية ومحلاة بالتصاوير الدينية وما إليها، على حين كان المحور الذي تدور حوله الفنون الإسلامية هو إنشاء المساجد والجوامع مجردة من النحت الآدمي والصور الدينية، وهذا موضوع تناوله المؤلف بالبيان في كتابه.

وقد اختص الدكتور زكي موضوع التصوير الإسلامي بأكبر عدد من الصفحات (78 صفحة) تناول المؤلف فيها ضمناً ما قيل من الأسباب التي جعلت منه فناً جامداً - وأخذ يناقش مختلف الآراء بأسلوبه الممتع. كما اختص الفنون المعدنية بعناية تجلت في نحو 73 صفحة، أما المنسوجات فقد جاءت في 53 صفحة، والحفر على الخشب في 51 صفحة، ثم بلى ذلك الخزف والسجاد والزجاج والبلور الخ. وهي أبواب كما ترى تصلح لأن تكون كتباً مستقلة، ولكن المؤلف شاء أن يكون كتابه مرجعاً لكل باحث ومثقفاً لكل مريد.

نعم جاءت بعض الصور التي بلغ عددها جميعاً 750 صورة على غير الدرجة المرجوة من الدقة والظهور وهي المرقومة 152 و208، 216، 219، 225، 239، 250، 288،

ص: 57

289، و295، 298، 299، 380، 451، 506، 513، 524، و534، 539، 564، إلا أن هذا لا يمنع من تسجيل النجاح فهذه كلها لا تزيد عن 4 في المائة من مجموع صور الكتاب التي جاءت شرحاً وإيضاحاً للموضوع.

أما الأساليب الفنية الإسلامية فقد تناولها المؤلف منذ نشأتها في القرن الأول الهجري حتى غزته الأساليب الفنية الأوربية في القرن الثامن عشر الميلادي بإفاضة وبيان شامل.

وربما كان من أوجه الكمال لو أن الدكتور ذكر أمام كل مرجع المكان الموجود فيه، ذلك لأن عدد المراجع وقد بلغ 270 يعد في ذاته مفتاحاً لكل باحث، فإذا علم ما يوجد منها بدار الكتب المصرية، وما بالجمعية الجغرافية وما تضمن منها مجموعة المعهد المصري، ومكتبة الجامعة ومكتبة كلية الآداب؛ فإنه ولا شك يختصر الطريق ويصل إلى ما يبتغيه.

وقد حرص المؤلف على تذييل كتابه بكشاف في نحو 23 صفحة وبخريطتين تخطيطيتين أولاهما لإيران، وثانيهما للشرق الأدنى وبلاد المغرب.

فلعلي ألمس في القريب إقبال الناس على قراءة هذا الكتاب الذي أعده باقة زهر يانعة قدمها المؤلف إلى أبناء اللغة العربية، في أنسب الأوقات.

أحمد موسى

كبير المفتشين بمصلحة المساحة المصرية

ص: 58