المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 794 - بتاريخ: 20 - 09 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٩٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 794

- بتاريخ: 20 - 09 - 1948

ص: -1

‌صديقي الأستاذ توفيقالحكيم

مهما يكن من حرصي على ألا أدخل في حديث يدور لي أو علي، فإني لا أجيز لنفسي بعد ما قرأت في (أخبار اليوم) تحيتك الكريمة أن أدعها تمر دون أن أتقبلها بالغبطة وأردّها مع الشكر.

تفضلت فرشحتني لكرسي شوقي في كلية الآداب من جامعة فؤاد، وأيدت ترشيحك بحسن ظنك بي وجميل رأيك في. وليس الترشيح في ذاته هو الذي هيأ نفسي للكلام وحرك يدي بالكتابة؛ فإنك تعلم من نفسك ومن تجاربك أن الترشيح لمثل هذه المناصب تتنازعه عوامل مختلفة من المنصب إلى المال والمجد ومن لهما يستحق، ولا ينظرون فيه إلى الفضل والكفاية ومن بهما يتصف. وإني أعلم من نفسي ومن طبعي أنني لا أقبل هذا الكرسي وإن ذُللت عقابه وسهِّلت صعابه؛ لأني أفضل أن أظل بقية حياتي كما كنت جنديَّا متطوعاً في القوة الخفيفة من قوى الأدب العربي: أرود وأنتجع وأكتشف من غير نظام أتبعه ولا قائد أطيعه ولا جزاء أبتغيه. . . ولقد عرض علىَّ في العام الماضي عميد كلية الآداب السابق أن أكون أستاذاً زائراً في الكلية، فقلت له والأسى يهدج صوتي ويقطَّع كلامي: شكراً يا صديقي وعذراً! لقد تقدمت السن وتأخرت الصحة وأوشك الماخر في عباب الحياة أن يبلغ الساحل! وماذا تبتغى من عامل مكدود أدرك سن المعاش، أو من فرس مجهود قارب نهاية الشوط؟ إن من حق ذلك أن يسترقه، ومن حق هذا أن يستجم. وما على الجواد من بأس إذا أخطاءه الرهان بعد أن جرى مِلء فروجه وبذل غاية جهده حتى بلغ ما بلغ من غير سوط يحث ولا حقنة تثير ولا حيلة تساعد. ولكن صديقي ألح في العرض وألححت في الرفض ووقف الأمر بيني وبينه عند ذلك.

فالموضوع إذن يا صديقي أهون على من قطرة المداد التي تسيل بالحديث عنه، وإنما هيأ نفسي للكلام وحرك يدي بالكتابة تلك الروح الطيبة التي أملت عليك ما كتبت؛ فإن كلمة الخير من أديب في أديب، أو شهادة الحق من عالم في عالم، لم يسجلها تاريخ الأدب إلا في باب النوادر! ولعلك تذكر أننا تشاكينا مرة داء الضرائر بين الأدباء فقلت لك: لا أدرى لماذا يظن الكاتب أو الشاعر أو الفنان أن الأرض لا تتسع إلا له، وأن الناس لا يقبلون إلا منه، وهو يعلم علم اليقين أن الأدب ألوان وطعوم، وأن الذوق أشتات ودرجات، وأن مثل الأدباء والفنانين في العصر الواحد والبلد الواحد كمثل الجوقة الموسيقية تؤلف بأصواتها المتنوعة

ص: 1

وصورها المتعددة لحناً واحداً يطرب النفوس المختلفة، ويرضى الأذواق المتباينة، ونجد مع هذه الوحدة وذلك الانسجام لكل عازف مكاناً، ولكل صوت آذاناً، ولكل قطعة فناً، فلا تغنى آلة عن آلة، ولا يجزى صوت عن صوت.

وإني لأذكر أنك صوبت هذا الكلام وزدت عليه أن رجال الأدب والفن هم صفوة الناس في سمو النفس والحس، فلا ينبغي أن يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من أوزار الغيرة وأضرار الحسد. وإنهم باتحادهم وتوادّهم أحرياء أن يخففوا عن نفوسهم بعض ما يكابدون من عامية الخاصة وأمية العامة ومادية الحكومة.

والحمد لله والشكر لك! لقد رأيتك تعنى ماتقول، وتريد ما تَعني، وتفعل ما تريد!

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌لو أصبح لليهود دولة.

. .

للأستاذ نقولا الحداد

إنه إذا لم تمحق جماعة إسرائيل المزيفة - ولا تمحق إلا بالسلاح - كان أولى كوارثنا أن الجامعة العربية تفقد هيبتها وتسقط قيمتها وتنحل كما تنحل قطعة السكر حالا في الماء الساخن بعد أن كان متوقعاً أن تتحول إلى ممالك متحدة على حد الاتحاد السويسري أو الأمريكي، بحيث تتضاعف قوتها أضعافاً.

الثانية: متى انحلت الجامعة العربية ضعف جداً استقلال كل دولة بحيث تستطيع جماعة إسرائيل أن تستغل هذا الضعف بسهولة كلية، إذ يمكنها أن تلقى شباكها الاقتصادية، فتتصيد الدول العربية واحدة بعد واحدة، بأية حجة حتى بالقتال، ثم تتحكم فيها، إذ تأسرها باللطف الاقتصادي، وبالتخلف السياسي وبحنو الصرافة وإذا اقتضى الأمر فبدلال بنات إسرائيل، كرفقا وراحيل.

وثالثة الأثاقي: أن ما كنا نتبجح به من الإجماع على مقاطعة المنتجات اليهودية، والإعراض عن معاملة اليهود إلى أن يضيق بهم العيش، وينضب الرزق (ويطفشوا) من البلاد رويداً حتى تصبح جماعة إسرائيل بلا أهالي ولا رجال - إن هذا الظن يذهب حينئذ مع ريح الإغراءات الصهيونية المتنوعة.

الرابعة: لا نلبث أن نرى الصناعات الصهيونية قد ترعرعت وجعلت تزاحم صناعاتنا ومرافقنا، وتقتل أسباب عيشنا واحداً واحدا حتى نصبح حينئذ عالة على الإنتاج الصهيوني فلا نستطيع أن نعيش إلا تحت رحمة أبناء صهيون وهم خالون من الرحمة.

الخامسة: يتغلغل رأس المال اليهودي في جميع البلاد العربية وتصبح هذه البلاد مكبلة بالديون الإسرائيلية. ولا تلبث أن تصبح الأملاك والعقارات رهائن في بنوك إسرائيل وفروعها في جميع البلاد العربية - هكذا تنتقل ثروات البلاد إلى بنى صهيون، فيفتقر العرب، ويثرى اليهود. والنتيجة القصوى هي استبعاد هؤلاء لأولئك.

والسادسة: أن ما نستبشر به الآن من ازدياد الغلال المعدنية التي تبشرنا بها جيولوجية بلادنا: كالبترول والفحم والحديد حتى الأورانيوم وغير هذه من خيرات الأرض الدفينة سيكون لشركات اليهود كما هي الحال الآن في أملاح البحر الميت. ومهما تحوطنا حتى لا

ص: 3

تقع هذه الثروات في أيديهم، فلا بد أن تؤول إليهم بفضل حكامنا الذين تغريهم الشركات اليهودية بالرواتب الوافرة لكي يكونوا أعضاء في مجالس إدارتها ولكي يساهموا فيها إن أمكن، ولكي يقال أن الشركة وطنية - مصرية أو سورية أو لبنانية أو عراقية الخ. لأن وظيفة هؤلاء الحكام (الوطنيين) أن يمسكوا البقرة بقرنيها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) كما هو حادث الآن، وبعض من الوزراء السابقين، أو وجيه مصري ذي نفوذ، إلا وهو عضو في عدة مجالس إدارات لشركات يهودية بمكافأة بضع عشر مئين من الجنيهات، في مقابل أن يسهلوا لها وسائل الرواج والكسب. هل يصدق القارئ الكريم أن أحد هؤلاء (الوطنيين) هو عضو في 42 شركة، وإن وجيهاً عظيماً يتقاضى من بعض الشركات 22 ألف جنيه سنوياً. ولا يخجلون من أنهم بنفوذهم الوهمي يربّحون هذه الشركات اليهودية الملايين، ومن أين هذه الملايين؟ طبعاً هي من دماء هذه الأمة المنكوبة بغيرة حكامها.

السادسة: إن جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، لا يلبث أن يشعر بعد قليل من رسوخ قدم الإسرائيليين، أن الشركة الأمريكية التي تستغل بترول بلاده بقاء بضعة ملايين من الجنيهات قد أصبحت يهودية قلباً وقالباً من غير أن يعلم السوابق واللواحق. وحينئذ يعلم الماليون الأمريكيون أن هذا البترول الذين يقتتلون لأجله، أصبح يتسرب إلى موسكو؛ لأن تعاقداً سرياً بين موسكو وتل أبيب قد تم على نية أن تتبادل الصهيونية والشيوعية المنافع الضخمة. وحينئذ يعض ماليو أمريكا وساستها المغفلون أناملهم ندماً على تفريطهم بصداقة العرب، وعلى تأييدهم الصهيونية في الشرق العربي.

هذا المصير الذي يصير إليه بترول الحجاز، سيكون مصير بترول العراق أيضاً ومصير بترول مصر وبترول البحرين ومصير كل بترول جديد يظهر في الشرق العربي. ومتى صارت منابع البترول في أيدي اليهود فلا يعود نصيب جلالة الملك عبد العزيز السعود ونصيب حكومة العراق ونصيب أمير البحرين ونصيب أية حكومة عربية إلا قشر البيضة من ثروة البترول.

إن ثبتت قدم الصهيونيين (لا سمح الله) فسيكون كل هذا بعد عشرين أو ثلاثين سنة. وحينئذ سيقول من يبقون أحياء إلى ذلك الحين ممن قرءوا هذا المقال: (رحمة الله على

ص: 4

نقولا الحداد (قال وقوله صدق). وحينئذ لا تعود تنفع نهضة العرب ولا يقظتهم ولا غضبتهم، بل تفتر كل حماسة وطنية لهم، ويبقون كسالى تخدرهم الدعاية اليهودية، وبدر الأموال اليهودية وتقتل كل تحفز لانقلاب عربي لإنقاذ العروبة من بين براثن الصهيونية.

أتمنى أن أعلم ماذا يفهم أقطاب الساسة العرب من القول أن هذه الهدنة أبدية لا نهاية لها. إذن ماذا ينتظرون؟ أينتظرون أن يستمر اليهود ينقضون الهدنة، وأن يواظب برنادوت على القول أنه راض عن الحالة وأنه متفائل خيراً وأن الهدنة سائرة بانتظام - كذب وستين ألف كذب.

وهل يروق هذا القول لساستنا العظام؟ إذن كيف تكون الهدنة غير مرضية لبرنادوت. أيحسبها شؤماً إذا كان العرب يدافعون حينما اليهود ينقضون؟.

وإذا كان ساستنا العظام يصرون على القول لبرنادوت (ليس عندنا حل لهذه المشكلة العقيمة إلا أن لا تقوم قائمة للصهيونيين بتاتاً - إذا كان هذا هو قولهم الذي لا يحيدون عنه بتاتاً، فلماذا لا يسألون برنادوت ماذا في دماغه من مشروع تسوية يوافق قول العرب هذا.

وإذا كان الأمر كذلك فحتى يصبر ساستنا على هذه الهدنة الفاهية التي ليس من ورائها إلا استفحال اليهود وتثبيت أقدامهم وتوسيع فتحهم وزيادة تسليحهم، ثم بقاء عرب فلسطين مشردين في غير بلادهم يعيشون عيشة الطوى على إحسان الخيرين ويموتون ببطء. وأخيراً لا يبقى إلا فلسطين اليهودية - إلى هذا يرمي اليهود ويمالئهم برنادوت فيما هو يتنقل بين مصيفي رودس وفلسطين.

إلى الآن لا أفهم معنى لهذه الهدنة التي لا نهاية لها. إذا كانت بلا نهاية. فالمعنى أن الحرب انتهت. فإذا كانت قد انتهت عند برنادوت واليهود، فهل انتهت عند العرب على هذه الحال البليدة؟.

أليس عجباً غريباً أن غرباء أشباه الناس جاءوا من آخر الدنيا وطغوا بوحشيتهم وبإرهابهم الحيواني وطردوا أهل البلاد من بلادهم وأقاموا هم فيها ونهبوا كل ما فيها من قوت وأثاث ولباس وغلال ومال واستولوا على أبنيتها: وأغرب من هذا أن يقف العرب عند هذه الحال مترددين صابرين يتوقعون الكروبيم من السماء أن ينزلوا إلى الأرض ليحرسوا فلسطين لأهلها، كما كان الكروبيم يحرسون جنة عدن حين طرد الله منها آدم وحواء.

ص: 5

لا أفهم ماذا ينتظرون إذا كانوا يعلمون جيداً أنه يستحيل عمل برنادوت أن يتوفق إلى حل للمشكلة غير إلغاء ما يتمناه الصهيونيون أيصبرون إلى أن يضجر العرب كلهم من دوام هذه الحالة البليدة ويتركوا صهيون لليهود.

وإلى الآن لا أفهم ماذا يعني من يرتئون (حتى من ساسة العرب) أن يعود اللاجئون إلى بلادهم والمشكلة، لا تزال قائمة.

لماذا هرب اللاجئون من بلادهم؟ أليس لأن اليهود اعتدوا عليهم. فهل تغيرت طباعهم الحيوانية وصاروا بشراً يؤمن شرهم فما عادوا يفتكون بالأطفال والنساء والشيوخ؟ على أي أساس يعود العرب المشردون إلى بلادهم وأولئك لا يزالون وحوشاً يتوحدونهم للفتك بهم.

وإنه لغريب أن يقترح برنادوت عودتهم إلى بلادهم وهو لا يقترح الوسيلة الضامنة سلامتهم من فتك بهم. وأغرب من هذا وذاك أن بعض أقطابنا يقبلون هذا الرأي من غير أن يقدروا العواقب.

وأغرب وأعجب أن يقبل أقطابنا أن يعيش هؤلاء اللاجئون المنكوبون على إحسان الأجانب. وإلى متى يبقون عالة هكذا والهدنة لا نهاية لها - يا للعار. يا للشنار.

عجبت أن يهتم برنادوت وأعوانه (بالشحاتة) اللاجئين العرب ويستغيث بمجلس الأمن تارة وبالمؤسسات الخيرية أخرى كالصليب الأحمر وغيره - عجبت أن يهتم هذا الاهتمام الذي يشكر عليه قليلا، وأعجب من ألا يخطر بباله أن أشباه الناس اليهود هم كانوا سبب هذه الكارثة. وأعجب وأغرب أنه وهو يترك الحبل على الغارب لليهود لا يطلب من مجلس الأمن بكل شدة أن يرغم (إن كان عنده قوة للأرقام) جميع يهود العالم أن يدفعوا أثمان جميع الأرزاق والأموال والأملاك وكل ما كان في حوزة العرب - كل هذه التي نهبها اليهود من بيوت العرب وأملاكهم وحوانيتهم، وهي تقدر بنحو ثلاثمائة مليون جنيه إسترليني، هي الآن في ذمة اليهود إن كان لليهود ذمم.

عجبت أن يسكت برنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم وحاخامات اليهود عن المائة والاثنين والسبعين مليوناً من الدولارات الأمريكية التي تصدق بها نصارى أمريكا على منكوبي اليهود في أوربا، وما كانوا ملزمين لولا أن مسيحهم قال لهم: (احسنوا إلى من أساء

ص: 6

إليكم)! وإذا هؤلاء اليهود الأدنياء ينفقون تلك الملايين على محاربة العرب لأنهم لم يكن عندهم منكوبون يستحقون الإحسان، بل عندهم جميع أموال العالم!.

أنستغيث نحن بالأمم لكي نقوم بأود منكوبينا ويكون لنا عند اليهود 300 مليون جنيه.

نذكر الجامعة العربية بهذا الحق الضائع لكي تطالب به برنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم، فقبل أن يحكم مجلس الأمن بدولة إسرائيل يجب أن نستخلص من بني إسرائيل هذا الحق إن كانت تعرف الحق وتحترمه!.

وعلى إنكلترا أولا وأمريكا ثانياً حتى جميع الدول التي أقرت التقسيم أن تحصل هذا الدين من اليهود للعرب، وعليها أيضاً أن تطالب اليهود بغرامة مائة مليون جنيه على الأقل لأنهم هم الذين انتدبوا العرب للحرب، فعليهم أن يدفعوا ما وقع على العرب من خسارة بسبب الحرب.

ثم إن هذه الغرامة وجميع المنهوبات التي نهبها اليهود من العرب تخول جميع الحكومات العربية أن تحجز جميع أملاك اليهود وأموالهم في بلادها لكي تستوفي ما تستطيع استيفاءه من هذه الديون الملقاة على عاتق جميع يهود العالم بالتضامن، لأنهم كلهم كانوا يجمعون الأموال للصهيونيين، وهي أموال مبتزة من البلاد التي يقطنونها بطرق غير منتجة وغير قليل منها مبتز من العرب!.

إذا كان عند الدول العظمى ذرات من الشرف كما عندها ذرات للقنبلة، فتحصل هذه الحقوق من اليهود للعرب!.

نقولا الحداد

تصويب:

وقع في افتتاحية العدد الماضي من الرسالة خطآن مطبعيان نصححهما فيما يأتي:

(وبكينا حتى نضب الدم) وصوابه الدمع.

(بالمخادعة والغش)، وصوابه الفيش، وهو بمعنى (الفشر) و (المعر) في لغة العامة.

ص: 7

‌محاكمات

للدكتور جواد علي

كان امتحان (الحجاج بن يوسف الثقفي) لأهل العراق في إيمانهم أشد وقعاً عليهم من السيف الذي سلط عليهم في معركة (دير الجماجم) والمعارك التي تلتها.

دخل الحجاج الكوفة بعد انتصاره على ابن الأشعث فعقد مجلساً عظيما لامتحان الناس ولإذلال أهل الكوفة. فجلس هو في الصدر وأجلس (مصقلة بن كرب بن رقبة العبدي) إلى جنبه وكان خطيباً جهوري الصوت. وقد قال له:

إشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره ولؤم عهده، ومن علمت منه عيباً فعبه بما فيه وصغر إليه نفسه.

وقد أدى هذا الخطيب الشتام عمله على خير ما يكون. فجاء بأقبح الشتائموأخرج آخر ما عرف من إحداث في هذا الفن. فكان الشخص يعرض عليه وبعد أن ينال نصيبه من الشتم على وجه يرضى الحجاج، يتعرض إلى مقالة الوالي وتقريعه، وبعد أن يشبع (الثقفي) نفسه يطلب منه التوبة والإقرار بالكفر بخروجه عليه ونقضه البيعة لأمير المؤمنين وإلا فالقتل.

وكان حرّاس الحجاجيقدمون الناس إليه واحداً واحداً، وكل رجل ونصيبه. فإما الإهانة والذل والإقرار بالكفر، وإما الفصل بين الرأس والجسد دون كلام ولا مناقشة. هذا رجل من خثعم قد جاوز الثمانين وقد كان معتزلا للناس جميعاً فيما وراء الفرات جاء به الحظ إلى الحجاج فيسأله الحجاج عن حاله فيجيب:

ما زلت معتزلا وراء هذه المنطقة منتظراً أمر الناس حتى ظهرت فأتيت لأبايعك مع الناس.

الحجاج: أمتربص؟ أتشهد أنك كافر؟.

الرجل: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر!.

الحجاج: إذاً أقتلك.

الخثعمي. وإن قتلتني فو الله ما بقي من عمري إلا ظمئ حمار وإني لأنتظر الموت صباح مساء.

الحجاج أضربوا عنقه.

ص: 8

فضربت عنقه أمام الحجاج، وقريش وأهل الشام يترحمون سراً على هذا الشيخ المسكين.

وهذا كميل بن زياد النخعي ينال حصته من الشتم ثم يعرض على الحجاج فيبادره الثقفي بقوله:

أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلاً.

كميل: والله ما أدري على آينا أنت أشد غضباً عليه حين أقاد من نفسه أم عل حين عفوت عنه؟.

أيها الرجل من ثقيف: لا تصرف على أنيابك، ولا تهدم على تهدم الكئيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما يبقى من عمري إلا ظمئ الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة. أقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب.

الحجاج: فإن الحجة عليك.

كميل: إن كان القضاة عليك.

الحجاج: بلى كنت فيمن قتل عثمان وخلعت أمير المؤمنين. اقتلوه. فيحتضنة الجلاد أبو الجهم بن كنانة الكلبي ويذبحه أمام سيده الحجاج ذبح النهاج.

ويدخل الحرس برجل آخر من طراز جديد، من أصحاب الدنيا، ممن يعرفون كيف يهربون من عزرائيل.

الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر.

الرجل: أخادعي عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون ذي الأوتاد؟.

فيضحك الحجاج، ويشعر في نفسه بأن الرجل قد غلبه، وإنه ممن لا يستقرون على حال. ويأمر بإطلاق حريته.

ثم يأتي أهل الشام (بأعشى همدان) الشاعر الذي انضم إلى (ابن الأشعث) طمعاً في ماله والذي ينضم إلى كل أحد حتى إلى الشيطان إذا ما وجد عنده المال. الشاعر الذي كان يسير بين يدي (عبد الرحمن) في زحفه على العراق للقضاء على الحجاج وهو يقول:

شطت نوى من داره بالإيوان

إيوان كسرى ذي القِرى والريحان

من عاشق أمسى بزابلستان

إن ثقيفاً منهم الكذابان

كذابها الماضي وكذاب ثان

أمكن ربي من ثقيف همدان

ص: 9

يوماً إلى الليل يسلي ما كان

أنا سخونا للكفور الفتان

الحجاج: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: بين الأشج بين قيس. . . أنفذ بيتك.

أعشى همدان: بل أنشدك ما قلت لك.

الحجاج: بل أنشدني هذه.

أعشى همدان ينشده:

أبى الله إلا أن يتمم نوره

ويطفئ نور الفاسقين فنحمدا

ويظهر أهل الحق في كل موطن

ويعدل وقع السيف من كان أصيدا

إلى أن يقول:

فكيف رأيت الله فرق جمعهم

ومزقهم عرض البلاد وشردا

فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة

وحيهم أمسى ذليلاً مطردا

ولما زحفنا لابن يوسف غدوة

وأبرق منا العارضان وأرعدا

قطعنا إليه الخندقين وإنما

قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا

وهي قصيدة تزيد على الثلاثين بيتاً من شر ما تكلم في ذم أهل العراق وأحسن ما قيل في مدح الحجاج وأهل الشام حتى اهتز أهل الشام طرباً وصاحوا: أحسن، أصلح الله الأمير. وظن الشاعر أنه تغلب على غضب الحجاج بهذه القصيدة ونجا، وأنه سيعيش. ومن يدري فلعله كان يأمل هجاء الحجاج من جديد وقد تعود من قبل مدح الناس وهجاءهم في آن واحد.

الحجاج: لا، لم يحسن. إنكم لا تدرون ما أراد بها.

يا عدو الله! أنا لسنا نحمدك على هذا القول إنما قلت نأسف أن لا يكون ظهر وظفر. وتحريضاً لأصحابك علينا وليس عن هذا سألناك. أنفذ لنا قولك: بين الأشج وبين قيس قيس بأذلخ.

فينشد أعشى همدان إلى أن يصل إلى قوله:

بخ بخ لوالده وللمولود.

الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبداً. أضربوا عنقه. فتضرب عنقه. ويفصل رأسه عن جسده وينال جزاء تقلبه وتلوثه وهجاء الناس ومدحهم طمعاً في الدنيا والمال.

ص: 10

ويدخل الحاجب بالأسرى ممن أرسلهم يزيد بن المهلب.

الحجاج: جئني بسيدهم:

الحاجب: قم يا فيروز، وكان رجلا غنياً من أصحاب الملايين له ثروة عريضة لا تقدر بثمن:

الحجاج: أبا عثمان! ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم!.

فيروز: فتنة عمت الناس فكنت فيها.

الحجاج: اكتب لي أموالك.

فيروز: ثم ماذا؟

الحجاج: اكتبها أول.

فيروز: ثم أنا آمن على دمي؟

الحجاج: اكتبها ثم أنظر.

فيروز: اكتب يا غلام: ألف ألف ألفي ألف وذكر له مثلاً كثيراً، وهو يقصد من وراء ذلك إغراء الحجاج ودفع غائلة الموت عنه.

الحجاج: وقد استهوته هذه الأموال: أين هذه الأموال؟

فيروز: عندي.

الحجاج: أدها.

فيروز: وأنا آمن على دمي؟

الحجاج: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك.

فيروز: والله لا تجمع مالي ودمي.

الحجاج للحاجب: نحه.

الحجاج: ليدخل أسير آخر.

يدخل محمد بن سعد بن أبي وقاص:

الحجاج: أيها! باطل الشيطان أعظم الناس تيهاً وكبراً. تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتشبه بحسين وابن عمر ثم صرت مؤذناً لابن كناز عبد بني نصر (يعني عمر بن أبي الصلت).

ص: 11

وأخذ الحجاج عوداً وصار يضرب به رأس محمد حتى أدماه.

محمد: أيها الرجل ملكت فأسجح.

فكف الحجاج يده.

محمد: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكاً في ذلك وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت.

يطرق الحجاج ملياً كأنه يفكر في أمر هام ثم يتغلب عليه طبعه فيخاطب الجلاد:

- اضرب عنقه. فضربت عنقه.

الحجاج: يدعى آخر.

(يدخل عمر بن موسى)

الحجاج: يا عبد المراءاة! أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت؟.

لتضرب عنقه.

ثم أدخل (ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة) وكان علاماً حدثاً فدخل وهو مرتبك خائف:

أصلح الله الأمير! مالي ذنب، إنما كنت غلاماً صغيراً مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي وكنت معهما حيث كانا.

الحجاج: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟

الغلام: نعم.

الحجاج: على أبيك لعنة الله.

الحجاج: ليدخل الهلقام بن نعيم:

الحجاج يخاطب الهلقام:

اجعل ابن الأشعث طلب منك ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟.

الهلقام: أملت أنه يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك.

الحجاج: قم يا حوشب فاضرب عنقه. وليدخل عبد الله ابن عامر.

عبد الله: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن الملهب بما صنع.

ص: 12

الحجاج: وما صنع؟

ابن عامر:

لأنه كاس في إطلاق أسرته

وقاد نحوك في أغلالها مضراً

وفي بقومك ورد الموت أسرته

وكان قومك أدنى عنده خطرا

يطرق الحجاج ملياً وقد وقرت الكلمة في قلبه. ثم تتغلب عليه روح الانتقام فيقول: وما أنت وذاك؟.

اضرب عنقه، فتضرب عنقه.

ثم أمر الحجاج بتعذيب (فيروز) بعد أن يئس من الحصول على ثروته وأخذ أمواله. فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ثم يمر عليه حتى يخرق جسده ثم ينفضح عليه الخل والملح. فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي ودائع أموال عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج، فقال أظهروه فأخرج إلى باب المدينة. فيروز: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا فيروز حصين؛ إن لي عند أقوام أموالا فمن كان لي عنده شئ فهو له وهو منه في حل، فلا يؤدين منه أحد درهماً. ليبلغ الشاهد الغائب.

الحجاج: وقد اغتاظ وهاج لحرمانه من ثروة (فيروز) تضرب عنقه. تضرب عنقه.

وبينما الحجاج في مجلس من مجالسه إذ بعامر بن شراحيل الشعبي يدخل عليه، وكان ممن طلبهم الحجاج وأراد قتلهم لأنه كان ممن يحرضون القراء على حرب الحجاج، وهو القائل في وسط المعركة:

يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فو الله ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجود منهم في الحكم، فليكن بهم البدار.

الحجاج متعجباً: الشعبي!!؟

الشعبي: نعم أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم أقدم البلد وعطاؤك كذا وكذا فزدنك في عطائك ولا يزاد مثلك؟.

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم آمر أن تؤم قومك ولا يؤم مثلك؟

ص: 13

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم أعرفك على قومك ولا يعرف مثلك؟

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟

الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.

الحجاج: فما أخرجك مع عدو الرحمن؟

الشعبي: أصلح الله الأمير، خبطتنا فتنة فما كنا فيها بأبرار أتقياء، ولا فجار أقوياء، وقد كتبت إلى يزيد بن أبي مسلم أعلمه ندامتي على ما فرط مني ومعرفتي بالحق الذي خرجت منه وسألته أن يخبر بذلك الأمير ويأخذ لي منه أماناً فلم يفعل.

الحجاج إلى يزيد: أكذلك يا يزيد؟

يزيد: نعم أصلح الله الأمير.

الحجاج: فما منعك أن تخبرني بكتابه؟

يزيد: الشغل الذي كان فيه الأمير.

الحجاج للشعبي: أولا انصرف.

وانصرف الشعبي. وعاش عيشة راضية حتى وافاه أجله المحتوم.

وكان سعيد بن جبير (سيد التابعين) ممن انضم إلى حركة ابن الأشعث وحرض القراء والناس على الحجاج وشهد معركة (دير الجماجم) مثل سائر فقهاء العراق أمثال عبد الرحمن بن أبى ليلى وأبو البحتري والشعبي وغيرهم. وهو القائل مخاطباً جيش أهل العراق: (قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة).

وكان معروفاً بصلابته وصراحته وعدم مبالاته، وهو القائل (لا تقية في الإسلام). ولو استعمل بن جبير شيئاً من المرونة لكان من الناجين بأنفسهم من عقاب الحجاج حتما. غير أنه لم يكن من الراغبين في هذه الدنيا. وقد طلب منه حارسه الذي جاء به من مكة إلى الحجاج أن ينجو بنفسه وأن يهرب والحارس راض في ذلك شاكر، ولكن ابن جبير لم يقبل أن يكون من الهاربين ولا من الذين يكونون سبباً في نكبة الغير.

ص: 14

ولما مثل بين يدي الحجاج قال به الحجاج: ما اسمك؟

سعيد: اسمي سعيد بن جبير.

الحجاج: بل شقي بن كسير.

سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك!

الحجاج: لقد شقيت وشقي أبوك!

سعيد: الغيب إنما يعلمه غيرك!

الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.

سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك.

الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟

سعيد: لست عليهم بوكيل.

الحجاج: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك؟

سعيد: بل اختر يا شقي لنفسك! فو الله ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها!.

الحجاج: ليقتل، فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك! فأمر به فذبح! فلما كب لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله، اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي! فذبح واحتز رأسه!.

لقد قتل الحجاج ما يزيد على المائة والعشرين ألفاً. ولكنه لم يتأثر بمقتل أحد تأثره بمقتل سعيد بن جبير. لقد التبس عقل الحجاج كما يقال منذ اللحظة التي شاهد فيها رأس سعيد ينفصل عن جسمه. فلم يذق النوم بعد ذلك فكان يرى في منامه سعيد ابن جبير وهو يقول له: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فكان الحجاج يصرخ ويستغيث قائلا: يا قوم مالي ولسعيد بن جبير؟ كلما عزمت على النوم أخذ بحلقي. وصدقت نبوءة سعيد فلم يعش الحجاج بعده إلا خمس عشرة ليلة.

أراد الحجاج أن تستقيم الأمور عن طريق الضغط والإكراه وإجبار الشعب على التسليم، وأبت الأمور أن تستقيم عن هذا الطريق فأفلت الأمر بعد وفاة الحجاج.

(دمشق)

ص: 15

جواد علي

ص: 16

‌من ذكريات الطفولة:

ظننته يوم القيامة ولكن الله سلم

للأستاذ كاملكيلاني

لعل هذه أول صورة انطبعت في ذاكرتي منذكريات الحياة كلها. أذكر أنني وجدتني جالساً في مكتب (كتاب) قريب جداً من داري إلى جانب ابن أختي، ولست أدري لماذا أستصحبني إلى مكتب الفقيه وأنا في مستهل نشأتي وفجر طفولتي؟ وكان الأطفال في هرج ومرج لا أعرف لهما سبباً، بل لعلي عرفت السبب فيما بعد، فقد كان غياب الفقيه فيما أظن سبب ذلك الاضطراب، ولم يكن عريف المكتب على ضخامته وطول قامته بقادر على السيطرة على أولئك الأشقياء الخبثاء، ولعل الأطفال كانوا يسخرون به لأنه أشل (أعني أن إحدى يديه ولعلها اليسرى شلاه)، ولا أدري كيف حاول أن يثبت مسماراً في الحائط فلم يجد شيئاً يدقه به، فلما ضاقت به الحيل عمد إلى محبرة سميكة، وكأنما خيل إليه أن ضخامتها ستحميها من الكسر، ولعله نسي أنها من الزجاج المفرغ، وأنها لن تقوى على دق المسمار، على أنه لم يكد يبدأ الدقة الأولى حتى خرق المسمار المبحرة وسال مدادها الأسود على وجه العريف ويديه وثوبه!.

فهلل الأطفال وصيحوا وصفقوا من فرط سرورهم بما رأوا، ولا زالت صورة العريف ماثلة أمامي، منطبعة في ذاكرتي، وأنا أملى هذه السطور، كأنما رأيت منذ لحظاتيسيرة وهو يحاول جهده أن يهدئ من ثائرة الأولاد، فلا يزيدهم ذلك إلا تمرداً وصخباً، وقد زادتهم حيرته وارتباكه نشاطاً ومرحاً. وهنا يدخل الفقيه، وهو شيخ رائع السمت، فارع الطول، متجهم الوجه، قوى الشخصية، فيسود الصمت والفزع، ويستولي علينا الخوف والهلع، ويتبدل كل شئ في لحظة واحدة من الضد إلى الضد، فلا يكاد يجرؤ أحد على التنفس خشية أن تسمع نأمئه فتجلب عليه شراً مستطيراً، ويأمر الفقيه بإحضار (الفلقة)، ولا يكاد ينتهي من خامس الأولاد في الصف الأول، حتى تعتريني القشعريرة، فقد جاء الدور على، وإني لأترقب إشارة الفقيه بوضع رجلي في حبل الفلقة، وقد استولى الذعر على نفسي، إذا بجلجلة أشبه بقصف الرعود، وصيحات عالية مدوية تأخذنا من كل مكان وإذ بسقف المكتب يطير كل مطار، وقد تناثرت ألواحه وتطايرت أركان الجدران وقواعده، واختفى

ص: 17

الشيخ والعريف وصبية المكتب في لحظة واحدة عن عيني فلم أدر أين فروا!

وما أذكر بعد ذلك إلا أنني كنت أمشى مع ابن أختي في طريقنا إلى البيت والأحجار تتناثر من حولنا في كل مكان، فتقتل من تقتل ونحن لاهيان لا ندرى من أمرنا شيئاً. فلما بلغنا الدار - وهى قريبة من جبل المقطم - إذ بالهلع يستولي على كل من فيها، وإذ بزجاج النوافذ محطم. وأذكر أنني سألت ابن أختي عما حدث فقال لي: إن القيامة قد قامت! ولم أفهم حينئذ معنى هذه الحملة، ولا عرفت ما هي القيامة، ولا كيف تقوم، ولعلى لم أفهم معناها الغامض أكثر مما يفهم السامع الخالي الذهن حين يقال إن نائماً صحا، أو صاحياً نام، أو زائراً قدم، أو قاعداً قام. ولم أفهم حقيقة ما حدث إلا بعد سنوات عدة، فقد عرفت والعهدة على من حدثني، فلم أستق الخبر حينئذ إلا من حوذي كان عندنا، وقد كان رحمة الله عليه نصف أمي إذا وزنته بميزان الثقافة والإطلاع، ونصف فيلسوف إذا وزنته بميزان الفهم والإدراك. حدثني ذلك الفيلسوف الأمي قال: (كان يشتغل في مخزن الذخائر الحربية الملاصق لجبل المقطم أحد العمال، فألقى على غير انتباه بما تبقى من لفافة التبغ، فلم تلبث أن علقت بما حولها من البارود، فوقعت الكارثة وأطارت من حجارة المقطم ما أطارت، وقتلت من الأناس والحيوان من قتلت، ودمرت من الآثار ما دمرت. وكان الحوذي يشير بإصبعه إلى رؤوس المآذن التي طاحت بها وهى قريبة من دارنا. لقد كان هول القيامة يتمثل لي حينئذ في عصا الفقيه وقد فرحت بنجاتي منها، فلما كبرت تبين لي أنني فرحت بالنجاة من خطر موهوم، لأنني كنت أصغر من أن يعاقبني الفقيه أو يهم بضربي، فلم أتجاوز الثالثة من عمري حينئذ، ونسيت أنني نجوت من هلاك محقق بأعجوبة من الأعاجيب. وعلى ضوء هذا الحادث الهائل فهمت في قابل أيامي دقائق الصورة البيانية الرائعة التي أبدعها خيال المتنبي شاعرنا الأكبر حين قال لسيف الدولة:

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

كامل كيلانى

ص: 18

‌2 - طاغور وغاندي بين الشرق والغرب

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

إن آراء طاغور التي توحد بين الشرق والغرب، آراء مفكر مثالي، عاش بوجدانه يستلهمه الحكمة، ويستوحيه المعاني الإنسانية، فلم يتعثر بمفاسد الحياة الدولية، ولم يختبر سوء نية الحكومات الاستعمارية إلا عن بعد؛ فاستطاع أن يدرك ما في المدنية الغربية من مثالب، وما في عادات الهند القديمة من ضعف وأن يصور لنا أنموذجاً فكرياً خالياً من شوائب الماضي والحاضر ولكن هذا النموذج المثالي ينقصه الاتجاه التنفيذي والناحية الإلزامية، كما لم يضع وسائل عملية، يستعان بها في تحرير القرب من المادية والأثرة وحب السيطرة، ولم يسن أساليب جديدة، تخرج الهنود من عزلتهم، وتدمجهم في تيار الحياة الحديثة بخلاف غاندي الذي عرك الحياة السياسية، واحتك بخبث الحكومات الإنجليزية، فتكشف له خداعها وغدرها، وتبين له بجلاء أنها تهدد باسم الدفاع عن الحرية، وباسم الشرف والحق جميع الأنظمة الخلقية التي تحدد علاقات الأمم بعضها ببعض، وتلهي الشعوب الخاضعة لسيطرتها بالوعود الكاذبة، لتنال منها ما تريد. فاتضح لغاندي أن الروابط الدولية لا تستند على أي أساس خلقي، وإنما تخضع للأهواء والمصالح، وتستند على الغش والخيانة. وأن الدول الغربية لا تجعل للحياة إلا غرضاً واحداً، هو النفع المادي أو الإصلاح المادي أو الرقي المادي، ولا تعترف بالحياة الروحية أو بالقيم الإنسانية. فاستعبدتها المادة لدرجة أنها لا تحجم عن ارتكاب ذي جريمة تتنافى وكرامة الإنسانية في سبيل الحصول على هذه المادة الحقيرة. وأخذت تسترق الشعوب وتسلبها مواردها الطبيعية، وتتلف حيويتها وتفسد أخلاقها، حتى لا تنتبه للذي يسرقها.

فأدرك غاندي بثاقب بصيرته أن مدنية الغرب ليست بالمدنية المثالية، ومن الجرم أن تعتمد عليها الهند في نهضتها، لأنها لن تفوز بمجد، إلا إذا رجعت إلى تراث حضاراتها القديمة وبعثته من جديد في صورة تلائم روح الهنود العصرية؛ ورفضت أن تأخذ من الغرب شيئاً؛ وعملت على أن تتخلص تدريجياً من كل ما شاع بين أبنائها من الغرب، لتتحرر نهائياً من تأثير حضارته المادية الضار بحياة الهنود. فلم يدع غاندي إلى اتحاد الشرق والغرب، لأنه وجد الغرب يستعبد الشرق، ويستغل خيراته، ويستنزف أرزاق أهله. ولم

ص: 19

يثق في صدق نواياه في التعاون، لأن اصطدامه بالمستعمر البريطاني أظهر له عيوب الأخلاق الدول الغربية، وأراه الإنجليز الذين أخلص لهم الولاء حض شعبه على مساعدتهم أثناء الحرب العالمية الأولى، يحنثون في وعودهم المتنكرة، ويرفضون منح الهند استقلالها، ويكبلونها بأنظمة قاسية توطد سيادتهم عليها. ولذلك لم يفكر غاندي في تقريب وجهات النظر بين الشرق والغرب كما فعل طاغور وإنما لبى نداء الوطن، وهب يخط للهنود خططاً عملية مستمدة من تقاليد الديانات الهندوكية، لمحاربة المستعمر المادي الأناني الطاغي حتى يتبين له أن مقدماته العقلية والفنية والخلقية، لا يمكنها أن تسحر روح الهند وتخدرها، ثم تغريها بمجاراة الحياة الغربية، فتتنازل على ما جبلت عليه من تعاليم وعادات، وتقبل أن تهدم كيانها الروحي من أجل محاكاة ما توصلت إليه المدنية الحديثة من رقي مادي، فيسهل على الغرب فرض نفوذه على شتى نواحي الحياة الهندية.

فوقف غاندي كالصرح العتيد أمام الغرب، يحمي تراث الهند الروحي من الضياع والتلف، ويستنهض همم الهنود لمقاومة طغيان الإنجليز. ولجأ إلى طرق فذة ناضجة في مناضلة الاستعمار في الهند، هداه إليها مزاجه الهندي السليم، وطبيعته الروحية الشرقية التي تعشق السلام والخير، وتولع بالتسامح والحب، وتكره العنف والقسوة. فاستنجد بمقومات الروح الهندية الأصلية، واستغل كلف الهنود بالزهد والمجاهدة من أجل تخليص الروح من أدران الحياة، وإعدادها للتلاشي في روح الله الكبرى التي تشمل كل محتويات الكون. وأخرجه من كهف الزاهد إلى ساحة الجهاد السياسي، وتقل مقدرة الهنود النادرة على تحمل الآلام الجسمية ومقاساة تعذيب النفس، من نطاق القوانين الدينية إلى نطاق التضحية الوطنية. ولم يكلف ذلك غاندي كبير جهد، لأنه يعلم أن الزاهد الهندي تهود منذ القدم أن يحارب شهواته بأساليب سلبية هادئة، يقومها الحب والخير والسلام. فكان يعتزل الحياة التي تشغل الإنسان بالأرض والمادة، وتلهيه عن الاتحاد بالله الذي يتحمل الزاهد في سبيل الفناء فيه كل ألوان العذاب النفسي والجسمي. فاستنتج غاندي بعبقريته الروحية أن الهندي العادي في نضاله مع الإنجليز يمكنه أن يحاكي الزاهد القديم في محاربته الشهوات والأهواء وملاذ الحياة بوسائل سلبية سلمية قاسية. وعزم على أن يعلم الهندي أن يقاوم المستعمر بسلاح سلبي سلمي، قد يعرضه للاضطهاد والتنكيل، ويتطلب منه إيماناً بالحق الذي يدافع عنه،

ص: 20

وتضحيةً وعزماً وثباتاً في سبيل الفوز به. وهذا السلاح يتفق مع المزاج الهندي الروحي، لأنه لا يخرج على التسامح والحب والسلام، ولا يعتمد على العنف أو القسوة، ولا حتى يثير العداوة والبغضاء في النفوس وإنما ينشد إزالة قوانين جائرة، أو تحقيق استقلال شعب مستعبد عن طريق معاناة الألم والمشقة، كما كان يعاني الزاهد قديماً مثل هذه الآلام في سبيل فناء ذاته في الله. وبذلك استطاع غاندي أن يطلق الطاقات الروحية الكامنة في أعماق نفوس الشعب الهندي، ويفسح لها الطريق لتخوض مضمار الحياة السياسية، ويشهر في وجه الإنجليز سلاح (الستياجراها) أيْ سلاح (المقاومة السلبية) الذي ينقسم إلى قسمين أحدهما: العصيان المدني، والأخر: اللاتعاون.

أما عن العصيان المدني: فهو نوع من الإضراب العام السلمي، يمتنع الشعب أثناءه من أداء أي عمل خلاف الصلاة والصوم. ويستخدم كوسيلة لنيل حقوق مهضومة، أو لفوز باستقلال مسلوب، وكطريق لإلغاء مشاريع ظالمة أو لرفع ضرائب فادحة، مثل ضريبة الملح وقانون احتكار الإنجليز لصناعته. وقد يكون هذا العصيان كذلك نوعاً من المعارضة الدستورية، تبدو في صورة رفض طاعة قانون من القوانين الجائرة وعدم تنفيذه أو الخروج عليه، مثل صناعة أحد الهنود للملح المحذور صناعته على أهلي الهند. ويشترط غاندي في من يشترك في العصيان، أن يكون مالكا زمام نفسه مسيطراً على أهوائه، بحيث لا يضطر إلى أن يثير أي عنف أو يثيره أي عنف، حتى يخلو العصيان من الشغب، ويسير حسب الآداب المرعية، محافظاً على الأمن، محترماً للنظم المتبعة في البلاد. ولكي يضمن غاندي سلمية العصيان، حرص على إعداد الشعب له تدريجياً، علماً منه بأن الشعب حديث العهد به وغير تام الأهبة له، وليس من الحكمة أن يطلب منه مثل هذا العصيان، قبل أن يألف نظمه وأساليبه، وقبل أن يملك أمره النفس. فسن قواعد دقيقة لتنظيم حركات العصيان، وحصرها في ميادين يخصصها لهم غاندي، يشرف عليها منظمون مدربون على العصيان السلمي، وقادرون أن يمرنوا الشعب على تجنب العنف في عصيانهم وأن يحبطوا ما يمكن أن يحدثه الرعاع من شغب، قد يسبب اضطرابات وفتنا، تبيح النفوس، وتثير الفوضى، فتندلع نيران ثورية دموية، لا يعرف مدى نتائجها الوخيمة. ولا يكفي اجتناب الشعب الشغب ليضمن حسن سير العصيان وهدوئه، بل يتطلب كذلك قدرة نفسية على تحمل كل

ص: 21

ما يمكن أن يقع على الهندي من عذاب واضطهاد، نظير عصيانه هذا الذي لا يرضى عنه المستعمر، بل يغضبه. وكذلك يجب ألا يبالي الهندي بما قد ينزل به من ألم، بأن إهانة المستعمر أو سبه، يجب عليه أن يتحمل ذلك بصبر وأناة، ولا يثور أو يقابل الإهانة بالإهانة والسب بالسب، ويسامحه. وإن أرادت السلطات الحاكمة أن تقبض عليه وتدفع به إلى السجن، يجب أن يسلم نفسه من غير مقاومة، غير مهتم بما سوف يذوقه من تنكيل في الغد. وإن جلد بوحشية، وركل بالأرجل، وصفع بالأكف، يجب أن يظل ثابتاً على سكينته غير آبه بما يقع عليه من ضروب القسوة المهينة. وإن أرهب بالقتل، وهدد بالموت، يجب أن يتمسك برابطة اليأس، ولا يجزع من فقدان حياته، ويرحب بالتضحية بها في سبيل الغاية السامية، ولا يلجأ مطلقاً إلى العنف، بأن العفو أشرف من الانتقام فلا يجب أن يقابل عنف الخصم بالعنف وإنما يواجه بنور الحب الذي يسطع من إيمانه بحقه وتفانيه في الدفاع عنه، ويتبع من آلامه التي احتملها طواعية فإن عدم العنف لا يدل على ضعف أو خوف أو استسلام للمسيء وإنما يدل على رضاء النفس بالعذاب في سبيل الحق الوطني، ورغبتها في مقاومة المستعمر بقوة الروح للحصول على الاستقلال.

وبالرغم من دقة هذا الاحتياطات، وجمال هذه التعليمات، فلم يخل عصيان من عنف، وذلك لأن الشرطة كانت كثيراً ما تتحرش بالشعب وتستفزه، وسريعاً ما تنقلب سلمية العصيان إلى همجية بربرية وفوضى بهيمية يطلق فيها الرصاص، وتراق الدماء، وتشعل الحرائق، وتنهب البيوت والمحال التجارية، وتتحطم المرافق العامة. وكل هذا كان يؤلم غاندي ويغضبه أشد الغضب، وحاول أول الأمر أن يمهد للعصيان المدني السلمي الشامل بتمرين الهنود على اللاتعاون مع الإنجليز، ومقاطعتهم سياسياً واقتصادياً وثقافياً، حتى يدركوا كنه العصيان السلمي، ويتشربوا بمبادئه. ولكنه وجد أن من العسير أن يتحقق عصيان بدون عنف، ولذلك فضل عليه اللاتعاون الذي لا يتخلله أي شغب أو اضطراب.

واللاتعاون هو سلاح المقاومة السلبية الثاني، قصد به غاندي مقاطعة الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً من ناحية، وتقوية روح الهنود المعنوية ورفع مستوى المعيشة وترقية الحياة العامة عن طريق استغلال مقدمات الهند القديمة لصالح البلاد من ناحية أخرى. ولجأ إليه بعد أن بلغت حماسة الهنود الوطنية حد الانفجار، فأراد أن يخفف من شدة هذه الحماسة

ص: 22

بحثهم على مقاطعة الإنجليز وعدم التعاون معهم، حتى لا ينقلب التذمر من سوء الحالة السياسية إلى ثورة دموية. واستطاع غاندي بذلك أن يشغل حماسة قومه بضرب من المقاومة السلمية، ألهتهم عن اتباع أى أسلوب عنيف يكرهه، وأن يعطى في الوقت نفسه فرصة لمبادئه في المقاومة السلبية لتتسرب إلى نفوس الهنود، وتستقر في قلوبهم، فيألفون روح النضال السلمى، ويؤمنون بقوة اللاعنف، وقدرة الحب على رفع ظلم الإنجليز واستعبادهم للبلاد.

وطلب غاندي من الهنود ألا يتعاونوا مع الإنجليز سياسياً وحربياً وقضائياً واقتصادياً وثقافياً. يقصد من اللاتعاون السياسي أن يتناول كل فرد عن الألقاب والرتب الشرفية التي منحتها له الحكومة الإنجليزية، وأن يمتنع عن الاكتتاب في فروض الحكومة، وأن يتجنب التوظف في الوظائف الحكومية، وأن يقاطع مجالس الإصلاحات الدستورية، حتى يقطع الهنود أية علاقة تربطهم بالحكومة، فيشل دولاب العمل ويتحرج مركزها، وتضطر في النهاية إلى مهادنة الهنود وتلبية مطالبهم.

كذلك يجب أن لا يتعاون الهنود والإنجليز حربياً، ويرفضون أي منصب عسكري، يكون مدعاة لتثبيت أركان الاستعمار في البلاد.

أما عن عدم التعاون القضائى، فينبغى أن يمتنع جميع القضاة عن الاشتغال بالمحاكم الحكومية، وأن يتوقف رجال القانون عن المرافعة بها، وأن ينقل الفصل في الخصومات بين المحاكم الأميرية إلى التحكيم الأهلي. ذلك لأن المحاكم في الهند آلة بيد السلطة البريطانية، تحاول أن توطد بها نفوذها في البلاد عن طريق إذكاء نار الشقاق بين الهنود، ونشر النزاع بين الطوائف وهى لا تعيش إلا على إيذاء الناس، بينما تجادل بلجاجة عند دفع الحقوق، وتسوف عند طلب الوفاء بالتعهدات. فأصبح تعطيل المحاكم الحكومية أمراً ضرورياً لضمان توحيد كلمة الهند وتعاون أفرادها.

وتتلخص المقاومة الاقتصادية في أن الهند بأجمعها، يجب أن تقاطع المنسوجات البريطانية، لأن الشركات الإنجليزية سيطرت على الحياة الاقتصادية في البلاد، وقضت على الصناعات الأهلية وامتصت موارد الثروة الهندية، فهي تسلب سنوياً قطن الهند، وتصدره لها بعد حين منسوجات، تفرض عليها شراءها بأثمان باهظة. ولكي تحمى الهند

ص: 23

اقتصادياتها من الإنجليز يجب أن تكفى نفسها بنفسها وتستغني عن خدمات الغرب، وتبادر إلى تنظيم مصانعها الأهلية، وتتخذ من الغزل اليدوي وسيلة لحل مشكلة الفقراء في الهند. إن ثمانين في المائة من سكان الهند فلاحون، لا عمل لهم خلال أربعة شهور من السنة، وعشر الأهلين صناع جياع، بينما الطبقة الوسطى لا تجد كفايتها من الغذاء، وإنجلترا لاهية عن كل ذلك، لا تعمل على معالجة هذه الحالة بل تزيدها سوءاً، فإن المغزل اليدوي هو المنقذ الوحيد للهند من الفقر، فإنه يشغل هؤلاء العاطلين الجائعين ويوفر لهم ملابسهم، ويضمن لهم قوتهم اليومي بتكاليف بسيطة. ولم يرض غاندي أن يدخل النظام الآتي في الهند، ويتلذذ منه وسيلة لحل مشكلة البطالة، لأنه لو يرد أن تصاب الهند بأمراض الغرب المادية، وحارب من مواطنيه من يحرض على إدخال النظام الآلي في الهند، حتى لا يسمح لأصحاب المال بتسخير فقراء الهنود في مصانعهم، التي تدر عليهم الربح الوفير، وخوفاً من أن يصبح قلب الهند من حديد يعبد الآلة التي تدير المصانع، وتجلب المال ذلك الوطن العظيم الذي يقدسه الغرب، بأن الآلة مطية فاحشة ووسيلة شيطانية تسترق الشعوب لحفنة من الناس يستعبدهم المال فيجب حماية الهند من شرها، وإبعاد خطرها عنها، حتى لا يزداد نفر الهنود على ما هو عليه.

ولكي يشمل عدم التعاون والغرب كل شئ، دعا غاندي إلى مقاطعة الطلبة والمعلمين المدارس الأميرية، والجامعات الحكومية، التي في صيانة الإنجليز وقت مراقبتهم مثل جامعة عليكرة الإسلامية، وجامعة خلصا السيخية، وجامعة بنارس الهندوكية، لأنها تهمل دراسة الثقافات الهندية واللغات القومية وتلقن الطلبة ثقافات عقلية، ولغات أوربية، تفسد مشاعرهم الوطنية، وتتلف مزاجهم الشرقي، وتبعدهم عن ثقافتهم الأصلية فشب الهنود يفضلون ثقافات الهند، مع أنها غرست في نفوس ميولا غربية عنهم، وعلمتهم الجدل واللجاجة، وحرمتهم من التربية الخلقية والروحية، التي تصفى القلب، وتطهر النفس. كما نشئوايتكلمون اللغة الإنجليزية، ويجهلون لغاتهم القومية، هذا فضلاً عن تجاهل المدارس الحكومية والجامعات الإنجليزية أهمية العمل اليدوي، وإغفال تدريسه في بلاد ثمانون في المائة من أهلها فلاحون وزراع، وعشرة في المائة منهم صياغ، وينشرون دراسات أدبية، لا تفيدهم في حياتهم، ولا تتفق ومصالحهم، ولا تساعدهم في أعمالهم. ولذلك يرى غاندي

ص: 24

أن تعتني شتى الهيئات التعليمية في البلاد، بتدريس جميع الثقافات الأسيوية التي دخلت الهند منذ القدم. لأن ضرورة معرفتها للشخص المثقف لا يقل عن ضرورة معرفة الثقافات الغربية التي تسيطر على الحياة العلمية في الهند، وتحتكر الأسواق الثقافية، وتفضي على رغبة الهند في تعلم ثقافات الهند الأصلية، مع أنها أصلح لهم من أية ثقافة أخرى، لأنها تتفق وميولهم الفكرية، وتهتم بالتربية الروحية والتثقيف الأخلاقي، فوق أن دراستها يحيى العزة القومية، وينمى روح الهنود المعنوية، فينبغي أن يبحث مفكرو الهند عما في السنسكريتية والعربية والفارسية والبالية والماجدية من مخلفات علمية، لعل بحثها يهدى إلى كشف ثقافات جديدة مبتكرة، تستمد أصولها من هذه الثقافات التي دخلت الهند، وأثرت فيها، وتأثرت بها، وتشييد حضارة حديثة من مختلف الحضارات التي فعلت في الهند وانفعلت بروح الإقليم. لتحرر العقلية الهندية من سيطرة الفكر الغربى، وتنقذ روح الهند من نفوذ الثقافة الغربية، وتظهر تفوق الهنود في الروحية، كما تهدى دراستها إلى أدراك أسرار السيادة الوطنية ومعرفة وسائل السؤدد القومي، التي تقودها إلى الحرية والاستقلال.

(للكلمة بقية)

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات

ص: 25

‌غناء الطيور بين العلم والأدب

للأستاذ ضياء الدخيلي

(بقية المنشور في العدد الماضي)

وظن بعض الشعراء غناء الحمامة نوحاً لفقد إلفها الذي فارقها فأخذ يطارحها الزفرات ويواسيها بنواحه قال الشبلي.

رب ورقاء هتوف في الضحى

ذات شجو صدحت في فنن

ذكرت إلفاً وعيشاً سالفا

فبكت حزناً فهاجت حزني

فبكائي ربما أرقها

وبكاها ربما أرقني

ولقد تشكو فما أفهمها

ولقد أشكو فما تفهمني

غير أنى بالجوى أعرفها

وهى أيضاً بالجوى تعرفني

أترها بالبكا مولعة

أم سقاها البين ما جرعني

وقال ابن عبد ربه.

فكيف ولى إذا هبت الصبا

أهاب بشوق في الضلوع دفين

ويهتاج منه كل ما كان ساكنا

دعاء حمام لم تبت بوكون

وإن ارتياحي من بكاء حمامة

كذي شجن داويته بشجون

كأن حمام الأيك لما تجاوبت

حزين بكى من رحمة لحزين

وقال ابن سنان الخفاجي.

وهاتفة في ألبان تملى غرامها

علينا وتتلو من صبابتها صحفا

عجبت لها تشكو الفراق جهالة

وقد جاوبت من كل ناحية إلفا

ويشجى قلوب العاشقين حنينها

وما فهموا مما تغنت به حرفا

ولو صدقت فيما تقول من الأسى

لما لبست طوقا ولا خضبت كفا

وقال مجنون ليلى.

ألا يا حمامات اللوى عدن

عودة فإني إلى أصواتكن حزين

فعدت فلما عدن كدن يمتنني

وكدت بأشجاني لهن أبين

فلم تر عيني مثلهن بواكياً

بكين ولم تذرف لهن عيون

ص: 26

وقال ابن عبد ربه.

ونائح في غصون الأيك أرقني

وما عنيت بشيء ظل يعنيه

مطوق بخضاب ما يزايله

حتى تزايله إحدى تراقيه

قد بات يشكو بشجو ما دريت به

وبت أشكو بشجو ليس يدريه

وقال شيباني وقد طالت غربته في الرأي.

وأرقني بالري نوح حمامة

فنحت وذو الشوق الغريب ينوح

على أنها ناحت ولم تذر دمعة

ونحت وأسراب الدموع سفوح

وناحت وفراخاها بحيث تراهما

ومن دون أفراخي مهامه فيح

ألا يا حمام الأيك الفك حاضر

وغصنك مياد ففيم تنوح؟

أفق لا تنح من غير شئ فإنني

بكيت زمانا والفؤاد صحيح

ولوعاً فشطت غربة دار زينب

فها أنا أبكى والفؤاد جريح

وقال ديك الجن.

حمائم ورق في حمى ورق خضر

لها مقل تجرى الدموع ولا تجرى

تكلفن إسعاد الغريبة أن بكت

وإن كن لا يدرين كيف جوى الصدر

وقال ابن دريد خرجنا من عمان في سفر لنا فنزلنا في أصل نخلة فنظرت فإذا فاختتان تزقوان في فرعها فقلت.

أقول لورقا وين في فرع نخلة

وقد طفل الأمساء أو جنح العصر

وقد بسطت هاتى لتلك جناحها

ومال على هاتيك من هذه النحر

ليهنكما أن لم تراعا بفرقة

ومادب في تشتيت شملكما الدهر

فلم أر مثلى قطع الشوق قلبه

على أنه يحكى قساوته الصخر

وقال عبد البر الغساني يخاطب طائراً مغرداً ضم أفراخه إليه.

أعدهن ألحاناً على سمع معرب

يطارح مرتاحا على القضب معجما

وطر غير مقصوص الجناح مرفها

مسوغ أشتات الحبوب منعما

مخلى وأفراخا بوكرك نوماً

ألا ليت أفراخي معي كن نوما

وقال حميد بن ثور الهلالي.

ص: 27

وما هاج هذا الشوق إلا حمامة

دعت (ساق حر) نزهة وترنما

تغنت على غصني عشاء فلم تدع

لنائحة من نوحها متألما

إذا حركته الريح أو مال ميلة

تغنت عليه مائلا ومقوما

قال الجوهري الحمام عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والقماري وساق حر والقطا والوراشين وأشباه ذلك وقال الأصمعي إن كل ذات طوق فهي حمام والمراد بالطوق الحمرة والخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها ونقل الأزهري أن الحمام كل ما عب وهدر وإن تفرقت أسماؤه والعب شدة جرع الماء من غير نفس.

وقال ابن سيده يقال في الطائر عب ولا يقال شرب والهدير ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له قال الدميري في (حياة الحيوان) الورشان هو ساق حر وهو ذكر القماري وسمي ساق حر حكاية لصوته.

وقال أمين المعلوف الحمام الكثير في مدن العراق والذي يألف المساجد يدعى الحمام الطوراني ويسمونه في مصر الحمام الأزرق.

وقال ابن سنان.

أتظن الورق في الأيك تغنى

إنها تضمر حزناً مثل حزني

لا أراك الله نجداً بعدها

أيها الحادي بها أن لم تجبني

هل تباريني إلى بث الجوى

في ديار الحي نشوى ذات غصن

هب لها السبق ولكن زادنا

أننا نبكي عليها وتغني

وقال الأرجاني.

ومما شجاني وقد ودعوا

بكاء الحمام على ساقها

تنوح على بعد ألافها

وتظهر مكنون أشواقها

لبسن حداداً ومزقته

فلم تدخر غير أزياقها

وضاقت صدوراُ بأنفاسها=فغضت مجامع أطواقها

وقد نزفت في الهوى دمعها

فلم يبق ماء بآماقها

وقال بعض الأعراب.

وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى

هتوف البواكي والديار البلاقع

ص: 28

وهي على الأطلال من كل جانب

نوائح ما تخضل منها المدامع

مزبرجة الأعناق غر ظهورها

محطمة بالدر خضر روائع

مزبرجة من الزبرج وهو الزخرف والزينة ومخطمة من الخطم وهو منقار الطائر أو من خطمه بالخطام أي جعله على أنفه وهو حبل يجعل في عنق البعير ويثنى في خطمه أي مقدم أنفه وفمه.

ترى طرراً بين الخوافي كأنها

حواشي برد زينتها الوشائع

الوشائع جمع وشيعة وهي الطرائق في الثوب والخوافي ريشات من الجناح إذا ضم الطائر جناحيه خفيت.

ومن قطع الياقوت صيغت عيونها

خواضب بالحناء منها الأصابع

وقال الشبيي من شعراء العراق اليوم.

يشكو الصبابة كل يوم مدع

وأحقنا دعوى بها من ذاقها

لو أنصفت تلك الحمائم لوعتي

نضت الخضاب ومزقت أطواقها

يا هذه حتى الغصون لما بها

نثرت على وجه الثرى أوراقها

مثل التي لزم الخفوق جناحها

أصبحت مرتكض الحشا خفاقها

وقال الشرقي وهو شاعر عراقي يخشى اليوم أن يطبع ديوانه لما في من ثورات فكرية على السياسة والاجتماع دفعه في تياراتها جموح الشباب ومال به عن تبعاتها حذر الشيخوخة وهواجسها.

أنا يا حمامات الأراك مغرد

لكن برغم حلاك لا أتطوق

طوباك خلصك الجناح فما استوى

روح مقيدة وروح مطلق

ضاعفت وجد الحائرين فليتهم

إذ لم يكونوا طائرين تعلقوا

وقال أيضاً.

حمام الدير هل في الدير رهط

يدل الظامئين على الزلال

وقال السيد حيدر الحلي وهو من شعراء العراق الذين توخوا الجزالة وروعة السبك وكان معجباً به شوقي (رحمهما الله) فيما تحدث الرواة وجل شعره في رثاء سيدنا الحسين وباقي شهداء كربلاء رضوان الله عليهم.

ص: 29

وادعت حولي الشجاذات طوق

مات منها على النياح الهجوع

شاطرتني بزعمها الداء حزنا

حين أنت وقلبي الموجوع

يا طروب العشي خلفك عني

ما حنيني صبابة وولوع

وقال الأخرس البغدادي.

يا ورق أين غرام قلبك من شج

جعل النواح لشجوه معتادا

أو تشبهين الصب عند نواحه؟

ولقد بخلت بمدمعيك وجادا

وقال محمد سعيد الحبوبي من المتأخرين وهو شاعر بلغ الغاية في رقة الغزل وقد جارى الأندلسيين في موشحاتهم فاتى بالبدائع وفي آخر حياته رحمه الله رفع لواء الجهاد المقدس ومات مسموماً في حروب العراق ضد العدوان.

أحمامة الوادي عداك هوى

لو حل فرعك أحرق الفرعا

أني اتخذتك لي منادمة

ولقد شربت فغردي سجعا

وقال:

يا حمام الدوح بالله أعد

سجعك اليوم لصب وأجد

إن تكن مثلي مهجوراً فزد

ربما يطفي غليلي ربما

سجعك اليوم بلحن مطرب

يا حماماُ أن في وادي العقيق

لا أرى لي غيرك اليوم صديق

فمتى من سكرة الحب تفيق؟

وإلى ما فيه تخشى اللوما؟

وتراعي نظرة المرتقب؟

يا حماما لم ترعه بالفراق

جيرة تعقد بالهجر النطاق

أنت والغصن بضم وعناق

وبأسر الريم أصبحت وما

دفعت عني سرايا العرب

وله من موشحه أخرى.

وحمام البشر غنى وتلا

سير اللهو ينادي الطرب

قد رقى منبر بان واعتلى

في مروج كمروج الذهب

فهو لا ينفك يملي للملا

أعنقت بالحزن عنقا مغرب

ص: 30

بغنا ناهيك فيه من غنا

خمرة اللهو به لم تمزج

أترى معبد القي المدنا

لحمام السقط والمنعرج

أعنق أسرع والعنق نوع من السير وعنقاء مغرب طائر معروف الاسم مجهول الجسم وقيل طائر يبعد في طيرانه وكنى بذلك عن عدم وجود الحزن والمدن خمس طرائق من الغناء اخترعها نفسه وسبب تسميتها بذلك أن قتيبة أحد الفاتحين في أخريات القرن الأول من الإسلام فتح خمس مدن في إحدى غزواته فقيل لمعبد المغنى ذلك. فقال وأنا اخترعت خمس طرق من الأغاني تعادل عندي تلك المدن الخمس راجع الكامل للمبرد تجد تفصيل ذلك والسقط معظم الرمل والمنعرج منعطف الوادي.

وقال محمد مهدي الجواهري شاعر العاطفة الفياضة والوصف الرائع ومتزعم الفكرة التقدمية في العراق:

وهاتفه راعها مقدمي

فلاذت بأغصانها الميل

أيا ورق لا تذعري إننا

شربنا العواطف من منهل

وقال ابن الدمينة:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟

لقد زادني مسراك وجداً على وجد

أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى

على فنن غصن النبات من الرند

بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن

جزوعا وأبديت الذي لم تكن تبدي

وقال الخباز البلدي:

ذرى شجر للطير فيها تشاجر

كأن صنوف النور فيها جواهر

كأن القماري والبلابل فوقها

قيان وأوراق الغصون ستائر

شربنا على ذاك الترنم قهوة

كأن على حافاتها الدر دائر

وقال محمد بن علي العاملي:

في ربوع كأنهن جنان

عطفت جورها على الولدان

ورياض كأنهن سماء

أطلعت أنجما من الأقحوان

بين ورق كأنهن قيان

ركبت في حلوقهن المثاني

وغصون كأنهن نشاوي

يترقصن عن قدود الغواني

ص: 31

وقال ابن خفاجة:

وإراكة سجع الهديل بفرعها

والصبح يسفر عن جبين نهار

هزت له أعطافها ولربما

خلعت عليه ملاءة الأنوار

وقال ابن وكيع:

غرد الطير فنبه من نعس

وأدر كأسك فالعيش خلس

سل سيف الفجر من غمد الدجى

وتعرى الصبح من ثوب الغلس

وقال أبو الحسن المجريطي:

ألا حبذا نوح الحمامة سحرة

وقد شق جيب الليل عن لبة الفجر

وسال نجيع الفجر من ثغرة الدجى

وخمش ثكل الليل من صفحة البدر

وقال السري الرفاء:

وصاحب يقدح لي

نار السرور بالدح

في روضة لبست

من لؤلؤ الطل سبح

يألفني حمامها

مغتبقاً ومصطبح

أوقظه بالعزف أو

يوقظني إذا صدح

والجو في ممسك

طرازه قوس قدح

يبكي بلا حزن كما

يضحك من غير فرح

غير أن المعري يتردد في شكوكه قائلا:

أبكت تلكم الحمامة أم غن - ت على فرع غصنها المياد؟

وقد أصاب في تشككه وعدم اعتباره غنائها نواحاً كما ظن كثير من الشعراء ولكنه فاته أن الغناء من الذكور وليس من الإناث كما أوضح ذلك دارون وعلماء الطبيعة الآخرون إلا إذا اعتبرنا التأنيث هنا لفظياً قال في المنجد الحمام طائر معروف والواحدة حمامة ويقال حمامة للذكر والأنثى لأن الهاء هنا ليس للتأنيث بل للدلالة على أنه واحد من جنس وربما قالوا حمام للواحد جمعه حمائم وحمامات.

وقال بعض الأندلسيين:

انظر إلى النهر فيها

ينساب كالأفعوان

ص: 32

والطير تخطب شكراً

على ذرا الأغصان

والقضب تلتف سكراً

بمائس القضبان

والروض يفتر زهواً

عن مبسم الأقحوان

والنرجس الغض يرنو

لو جنة النعمان

وقال الشرقي من قصيدة احتفال الطيور:

ما ترى أيها الحمام الكئيب؟

كل شئ حتى الحجارة باسم

كل آن هزيمة وهروب

أحياة الطيور ملأى هزائم

قال لي وهو خائف مستريب

الخوافي تهيب بى والقوادم

عجباً كيف يطمئن الأريب

لأناس تخاف منها البهائم؟

قال السيد علي خان في كتابه (أنوار الربيع في علم البديع) في فصل الاستعارة وكان شديد التهور كثير البطش ذاهباً بنفسه كل مذهب قال ابن سعيد صاحب القدح المعلى سمعته مرة وهو في محفل يقول يقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي، وفى عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه، فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال: يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك ما أضنك تعنى إلا نفسك. قال نعم ولم لا؟ وأنا الذي أقول ما لم يتنبه له متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر.

يا هل ترى أظرف من يومنا

قلّد جيد الأفق طوق العقيق

وأنطق الورق بعيدانها

مرقصة كل قضيب وريق

والشمس لا تشرب خمر الندى

في الروض إلا بكؤوس الشقيق

فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه من الغيظ إلى أضيق مكان. فقلت له ياسيدى هذا هو السحر الحلال فبالله إلا مازدتنى من هذا النمط فأنشد:

أدرها فالسماء بدت عروساً

مضمحة الملابس بالغوالي

وخد الروض أحمره صقيل

وجفن النهر كحل بالظلال

وجيد الغصن يشرق في لآل

تضئ بهن أكناف الليالي

فقلت زد وعد، فعاد والارتياح قد ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه، وأنشد:

لله نهر عندما زرته

عاين طرفي منه سحراً حلال

ص: 33

إذ أصبح الظل به ليلة

وجال فيه الغصن شبه الخيال

فقلت زد فأنشد:

فلما ماج بحر الليل بيني

وبينكم وقد جددت ذكرا

أراد لقاءكم إنسان عيني

فمد له المنام عليه جسرا

فقلت إيه! فقال:

ولما أن رأى إنسان عيني

بصحن الخد منه غريق ماء

أقام له العذار عليه جسراً

كما مد الظلام على الضياء

فقلت أعد، فأعاد وقال حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها ثم أنشد:

هات المدام إذا رأيت شبيهها

في الأفق يا فرداً بغير شبيه

فالصبح قد ذبح الظلام بنصله

فغدت تخاصمه الحمائم فيه

(بغداد)

ضياء الدخيلي

ص: 34

‌الشعر بين الوثنية والإيمان

للأستاذ عطية الشيخ

لاحظ نقاد الأدب العربي من قبل خمود الروح الشاعري بين العرب إثر ظهور الإسلام، وإن الضعف الذي طرأ على الشعر لا يقتصر على الشعراء الذين ظهروا إبان عصر النبوة والخلفاء الراشدين فحسب، بل أدرك الشعراء المخضرمين أنفسهم، فسكت أكثرهم وضعف قويهم.

واتخذ هؤلاء النقاد من الموازنة بين شعر لبيد وحسان في الجاهلية والإسلام برهاناً على صدق دعواهم، وعللوا ذلك بأسباب شتى منها: انبهار شعراء الجاهلية ببلاغة القرآن الذي أفحمتهم فصاحته، ومنها تغير الموضوعات التي اعتادوا النظم فيها بعد أن أصبحت منكرات يحرمها الإسلام: كالفخر بالنسب، وتمجيد العصبية، والحض على الثأر. . . الخ، ومنها اشتغال العرب بالحروب ضد الإسلام أولا، ولنشر سلطانه في الآفاق بعد أن آمنوا به ثانياً؛ ومنها أن الشعراء المخضرمين أدركوا الإسلام في شيخوختهم فشاخ شعرهم وخبت أرواحهم، كما شابت وضعفت جسومهم؛ ومنها أن القرآن العظيم نال من قدر الشعر والشعراء في مثل قوله تعالى:(والشعراء يتبعهم الغاوون. . . الآيات)، إلى غير ذلك من العلل المعروفة لطلاب الأدب.

وعندي أن هذه الأسباب مع وجاهتها إنما هى أعراض لعلة كبرى، وأن ما لاحظه نقاد الأدب العربي لا ينحصر في عصر صدر الإسلام وحده، ولا في شعراء العربية فحسب، وإنما هو حالة عالمية للشعر والشعراء في كل زمان ومكان، خلاصتها أن الوثنية والزندقة والإباحية من عوامل نمو الشعر، وأن الإيمان والاستقامة والفضيلة من عوامل ضعفه، وأن البيئات الوثنية أخصب للشعر من بيئة الإسلام والإيمان بمعناهما الأعم، وبذلك تستطيع أن تعلل فحولة الشعراء الوثنيين في الهند عن الشعراء المسلمين هناك مع اتحادهم في البيئة والجنس؛ وخلو أوربا في العصور الوسطى أيام تغلب سلطة الكنيسة من شعراء مجيدين كهوميروس قبل المسيحية وكهيجو وجوته بعد عهد الإحياء، وتغلب روح الشك وضعف الكنيسة، وعدم ظهور شاعر يهودي يؤبه له لعراقة هذا الشعب في الإيمان بتعاليم دينه، وجمال شعر الأندلس وقوة خياله في عصر ملوك الطوائف بعد ضعف الشعور الديني

ص: 35

وشيوع التحلل والإباحية، وظهور شعراء مجيدين في لغة الضاد بعد غزو الآداب والعقائد والعلوم والجيوش الأوربية للبلاد غزواً زعزع الإيمان بالقديم، وضعف الشعر العربي في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وقوته قبل ذلك العصر في الجاهلية، وبعده في أيام الأمويين والعباسيين عندما ضعف الوازع الديني ودخل في حمى الدولة الإٍسلامية كثير من الشعوب الأعجمية، وأشاعوا في العرب عاداتهم وعقائدهم وتقاليدهم وأمراضهم الاجتماعية؛ وعدم ظهور الشعراء الكبار في روسيا السوفيتية لإيمان الروس العميق بمبادئ الشيوعية واتخاذهم منها ديناً هم أحباره وحواريه؛ ويمكن تعليل ذلك بأسباب منها:

1 -

الشعر فن جميل يتأثر بالعاطفة وينبع منها، ويؤثر فيها، ويقف عندها؛ والإيمان مرتبة تتجاوز العاطفة إلى الفكر والإرادة، وهو نوع من المعرفة والتفكير محصور في نطاق العقيدة والناموس، ومتى تحكم العقل وأحيط بالفكر وقويت الإرادة وأخلد القلب إلى يقين العقيدة، فلا مجال لخيال ولا جموح لعاطفة، والجب جميعه موجه للمعبود المعلوم المجهول. . . ولذلك تزدهر الفنون الجميلة كلها - لا الشعر وحده - في الوثنيات أكثر من ازدهارها في ظلال الإيمان واليقين، وكنف الإسلام والتوحيد، فالنحت والتصوير والغناء والموسيقى والتمثيل والأناشيد أسس وأصول للديانات الوثنية وطقوسها، وليس الأمر كذلك في الإسلام واليهودية والنصرانية، وإذا رأيت في هذه الأديان شيئاً من ذلك، فهو أثر من آثار الوثنيات السابقة للأمم التي اعتنقت هذه الأديان.

2 -

يعلم الشادون في الأدب أن الاشتغال بالعلم والفلسفة يضعف الشاعرية، وأن شعر الفقهاء والفلاسفة والعلماء خال من الجمال الفني، يكاد يفوح منه ثقل الفقه، وجفاف العلم، وتعقيد الفلسفة، ذلك لأن الإنسان يعسر عليه أن يعيش في حياتين فكريتين مختلفتين: إحداهما يسودها التفكير المنطقي، وأخراهما يسيرها الوجدان والعاطفة، ولأن ألفاظ أية لغة من اللغات قسمان قسم محدود المعنى محصورة، وقسم يشتمل بجانب معناه الأساسي على معان فرعية يثيرها في النفس جرس حروفه، أو لفظ آخر متعاقب معه فيها، أو أصل المادة التي اشتق منها هذا اللفظ، أو دلالته على معنيين، فيراد أحدهما أصلا، ويبقى الآخر فرعاً.

والأصل في الأسلوب العلمي أن يستعمل الألفاظ المحدودة المعاني، كما أن الأصل في الأسلوب الأدبي أن يستعمل الألفاظ ذات المعاني الفرعية، وقد أشار علماء اللغة إلى

ص: 36

المعاني الفرعية حينما ذكروا أنه لا يوجد في المترادفات لفظان متحدي المعنى تماماً وإنما تكون بلاغة الشاعر في تجنب الألفاظ المحدودة الصلدة القاحلة، وتتبع الألفاظ ذات الظلال التي تضم إلى أصل معناها فروعاً وأغصاناً وأوراقاً وأزهاراً تكسب الشعر حياة وجمالاً وحركة وتصبغ عليه السمو، وقد لاحظ ذلك قديماً بعض أدباء الأندلس، وإن كان لم يعلل السبب ولم يزد عن ملاحظة أن بين الحروف أنساباً وقرابات تجعل لفظاً في الشعر أجمل من لفظ آخر متحد معه في معناه، ومثل لذلك بكلمة (خفاتا) في قول الشاعر:

لعمرك إني يوم بانوا - فلم أمت

خفاتا على آثارهم - لصبور فذكر أن كلمة (خفاتا) لها

من الجمال الفني، ما لا تصلح له كلمة (سريعاً).

3 -

ذكر علماء النفس أن النمو في أية ناحية من نواحي العقل الثلاث (الفكر والإرادة والعاطفة) يضعف الناحيتين الأخريين، بمعنى أن التفكير الكثير يضعف العاطفة والإرادة، وضربوا لذلك مثلا: الفيلسوف الذي حضر في أخريات أيامه حفلة موسيقية فلم يفقه لها معنى، ولم تتحرك مشاعره، ولم تتأثر بها عواطفه، فنذر أن لو عادت حياته كرة أخرى لخصص جزءاً من وقته لممارسة الفنون الجميلة، كما ذكروا أن الإرادة تضعف العاطفة، واستنبطوا أن قواد الجيوش لا شفقة عندهم، وأن المرأة تطغى عاطفتها على التفكير فيكون ضعيفاً فيها.

والإيمان فلسفة يقينية معها شك، ولا ينبت في مرعاها مستحيل، ولها منطق خاص يسيطر على ملكات النفس وقواها، فلا يبقى لغيره مجال، ولا يزحمه شعر ولا فن إلا ما يتصل بمنطق العقيدة ويوائمه، ويكون إذ ذاك شعراً محلياً لا يسيغه إلا من شارك الشاعر في عقيدته فيفقد الجمال العبقري للفنون الجميلة الذي يجعلها لغة عامة مفهومة للناس كافة، إذ لا يخفى أن النفوس البشرية تتحد في إدراك الجمال الرائع، بحيث ترى أن التماثيل والقصائد والتصاوير والمقطوعات الموسيقية العالية مقدرة عند جميع الشعوب، محترمة في كافة الأقطار والأعصار.

ومثال الشعر المحلي الجمال قصائد البوصيري في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، فهي عند المسلمين من أروع الشعر، مع أن غيرهم لا يحس لها بجمال.

4 -

من شأن الإيمان غرس الطمأنينة والرضا في النفوس فترويض العواطف الجنسية

ص: 37

الجامحة، ومطاردة ما يساور النفس من وساوس وألم وحيرة، وإنما ينبع الشعر من الحب والألم، وما أحفل حياة الوثنيين والزنادقة بألم منبعه الحيرة، والفوارق بين الطبقات والتقاليد البالية التي لا يقبلها الأديب إذا قبلها البليد، وما أكثر دواعي الحب والهيام في حياة زمامها بيد العاطفة والوجدان، ولا قيود لها من فكر أو شريعة، ولا مجال للذة عندها إلا في الحياة الدنيا، ولا أمل لها في آخره، فراحت تستوفي حظها من النعيم، وتستمتع ما وسعها الاستمتاع بما في الدنيا من جمال وبهاء، منشدة قول الشاعر:

تمتع من شميم غرار نجد

فما بعد العشية من غرار

أما المؤمن، فقد اشترى أخرته بدنياه، وجعل حياته الأولى مجازاً لحياته الثانية، ورأى في جمال الدنيا مفاتن يستدرج بها الشيطان الغاوين إلى مهاوي الجحيم، وهو مطمئن إلى السعادة في الأخرى إن فقد السعادة في الدنيا. وقد لاحظ هيرودوت من قبل عدم نبوغ الشعراء في مصر لخلو بيئتهم من الحب والألم.

5 -

أضف إلى ذلك أن الوثنيات إذ كانت لا تؤمن إلا بمتاع الدنيا، فتحت الباب على مصراعيه للاستمتاع بها، وتركت للإنسان إشباع شهواته منها، واستعانت على التمكن من القلوب بالتأثير على العاطفة، إذ كانت عاجزة عن البقاء باستعمال الفكر والمنطق، فأصبحت تربة خصبة لنمو الفنون الجميلة التي منها الشعر.

أما أديان التوحيد، فقد استعانت في انتشارها بالدليل والبرهان إذا كانت قادرة على ذلك، بل إن روح الإسلام يدعو إلى النظر والتفكير ويجافي الفنون الجميلة كلها من شعر وتصوير وتمثيل وغناء وموسيقى ونحت، وكان أتقياء المسلمين ينظرون إلى محترفيها نظرة استنكار قد تصل إلى المقاومة والمحاربة.

6 -

معلوم أن العواطف تنشأ في الفرد قبل نشوء الفكر، وأن عبادة آلهة متعددة تنشأ قبل عقيدة التوحيد، وأن الإنسان كلما تقدم خرج من حكم العاطفة إلى حكم الفكر، ومن عبادة الآلهة الكثيرة إلى عبادة الإله الواحد؛ ومثل ذلك تماماً في الأمم إذ يسبق عصرها الوثني عصر التوحيد فيكون مسايراً للعاطفة لا للفكر، حتى تصل الأمة إلى طور التفكير والإيمان، ولهذا يكون العهد الوثني معاصراً العهد العاطفي في الأمم، ولهذا أيضاً تجد شعر الشاعر الواحد في شبابه - أيام تأجج العاطفة - أقوى من شعره في شيخوخته عندما ينضج

ص: 38

تفكيره.

عطية الشيخ

ص: 39

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

اقتراح للإذاعة:

عادت الإذاعة أخيراً إلى برنامج (أعلام الأدب العربي) الذي كانت قد بدأته ثم قطعته منذ شهور. وهى تجرى في هذا البرنامج على تقديم البارزين في تاريخ الأدب العربي ابتداء من العصر الجاهلي، كامرئ القيس والأعشى وعنترة والمهلهل والنابغة الذبياني، وتختار للتحدث عنهم كبار الأساتذة، تعين لكل منهم من يتحدث عنه. وقد لوحظ أن الأساتذة المتحدثين يسلكون في تقديم تلك الشخصيات المسلك التقليدي المعروف في كتب تاريخ أدب اللغة العربية المتداولة في المدارس وغيرها، وقد وفى مؤلفو هذه الكتب تلك الشخصيات من الدراسة ما يربو على المطلوب للإذاعة، فلا يحتاج تقديمها للمستمعين إلى كبير عناء.

وفى الإذاعة برنامج آخر يشبه هذا البرنامج في شهرة أعلامه وقرب منالهم، هو برنامج (أعلام الإسلام) ويقدمه أيضاً كبار الأساتذة.

وأضم إلى ذينك البرنامجين أحاديث الصباح الدينية التي يقدمها الأعلام من علماء الأزهر، وهى مثلهما في سهولة الإعداد ووفرة المصادر، فقد جرى هؤلاء الأساتذة على أن يشغل متحدثهم خمس دقائق بشرح حديث من الأحاديث النبوية الشريفة، المختارة من كتب الحديث المعروفة وهى مخدومة في شروح وافية.

تلك البرامج الثلاثة لها قيمتها الأدبية والعلمية والدينية، ولها أثرها في التثقيف والتقويم والتهذيب، فلا يتبادرن إلى ذهنك أني أهون من أمرها بذلك الوصف، إنما أقصد إلى الاقتراح التالي:

أرى أن تطلب الإذاعة إلى كليات الجامعة وكليات الأزهر، أن تختار لها من طلبتها من يصلحون لتقديم تلك البرامج؛ ولا شك أن الطلبة الذين يختارون لن يجدوا أية صعوبة في القيام بهذا العمل لتوافر المصادر وخاصة المؤلفات الحديثة المنظمة السهلة الأسلوب.

ولهذا الاقتراح ثلاث فوائد: الأولى تدريب الشباب وإفساح المجال أمامهم، ولا بد أن تظهر من بينهم (وجوه جديدة) فمن العدالة إتاحة الفرص لمواهب الناشئين. الثانية مساعدة الطلبة على مواجهة أعباء المعيشة وخاصة في هذه الآونة التي استشرى فيها الغلاء. الفائدة الثالثة

ص: 40

لخزانة الإذاعة، فإن الطالب يكتفي بجنيه واحد تدفعه إلى بدلا من عشرة لأحد الكبار الذين لن يغضبهم أن ينتفع أبناؤهم مهما كانت تضحيتهم.

وهذا الاقتراح أقدمه بالمجان لإدارة الإذاعة، فلا أكلفها ما يتقاضاه منها عضو بالمجلس الأعلى لقاء جلسة يقترح فيها مثل هذا الاقتراح، وهذه فائدة مادية ثانية للإذاعة. ومن الله الأجر والثواب.

ارسمي شجرة الزقوم:

نشرت جريدة (الأساس) مقالا بتوقيع (أمين صفوت) حمل فيه على صعوبة الامتحانات، وأورد أمثلة من الأسئلة الصعبة، منها سؤال في الرسم لطالبات السنة الثانية بالمدرسة السنية، نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم. أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين. إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رءوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون. ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم. ثم إن مرجعهم لا إلى الجحيم. . .

(ارسمي ما تتخيلينه بعد قراءة الآيات السابقة عن الجحيم وشجرة الزقوم وعذاب المجرمين في الآخرة).

فماذا يتخيل هؤلاء الطالبات المسكينات عن الجحيم وشجرة الزقوم وما عليها من رءوس الشياطين؟ إنه لخيال لو قرأناه في (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، أو في (الكوميديا الإلهية) لدانتي اللاجيري - لعددناه من الإعجاز الأدبي، فما بالك بطالبات في أول المرحلة الثانوية يطالبن بهذا الخيال وبرسمه؟.

ويدافع بعض أساتذة الرسم عن مثل هذه الأسئلة بما هو أعجب منها، فيقولون إنهم لا يريدون أن يقفوا بفن الرسم عند (القلة والزير) وإنما يريدون أن يرضوا الطلاب على التعبير عن العواطف وتصوير الانفعالات، أو هم يريدون على الحقيقة أن يأتي الناشئون بالخوارق والمعجزات فيصورون عالم الغيب غير مكتفين بعالم الشهادة. . .

ولو أن هذا النمط من الأسئلة أو من تعليم الرسم، يؤخذ به طلاب تحققت لديهم الميول الفنية، لهان الأمر؛ ولكنهم في تعليم عام يحتشد فيه الجميع من ذوي الميول والاستعدادات المختلفة، وليس يطلب من جميعهم أن يكونوا فنانين في الرسم مقتدرين على التعبير

ص: 41

والتصوير، بل يكفي في هذا التعليم العام أن تفرض الأصول والخطوط الأولى في الرسم. وليس تكليف الناشئ العادي أن يكون فناناً معبراً في الرسم، إلا كمطالبته بإنشاء قصيدة من الشعر أو كتابة موضوع من الأدب الرفيع أو قصة من القصص الإنساني، وليس كل ذلك إلا كمطالبته بإضافة أو وضع نظرية في في العلوم الطبيعية، وقل مثل ذلك في سائر ما يتلقاه من العلوم والفنون.

أما بعد فقد سمعنا أن مشيخة الأزهر ستنشئ معهداً للبنات، وإني أشير عليها أن تستعير من المدرسة السنية الأستاذ الفاضل الذي وضع سؤال (شجرة الزقوم) وتسند إليه تدريس (رسم مشاهد القيامة) لبنات المعهد الأزهري لأنهن سيكن، بمشيئة الله، أقدر من تلميذات السنية على الخيال المستمد من آيات القرآن الكريم.

وهذه الصحافة:

ذكرت في الأسبوع الماضي أن أعضاء اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، اشتكوا في أثناء الاجتماع الذي نظروا فيه مسألة ترقية السينما العربية من أن الأفلام العربية ليست في المستوى الراقي الذي ينشد منها وأنها تنافى أحياناً الأخلاق العامة والمبادئ القويمة، ورجوا توصية الحكومات العربية لإصلاح هذا النقص.

ولست أرى تدخل الحكومات في ذلك مجدياً أو ناجعاً إلا أن يكون (تأميما) وأن يكون لدى الحكومة فنيون قادرون مخلصون للعمل، يستطيعون أن يقوموا بتنفيذ هذا التأميم على الوجه المنشود. أما بغير ذلك فإن عمل الحكومة المباشر لا يتعدى حذف ما ينافي الأخلاق والآداب العامة وهاهي وزارة الشؤون الاجتماعية تؤلف اللجان للنهوض بالسينما، فتجتمع وتنفض، وتنظر وتقرر، وكل شئ في السينما كما هو: أفلام بلا موضوع، وقصص تجرد من قبعاتها، وتسلية فارغة، ومجون مسف. . الخ.

ولست أدعو إلى تأميم السينما، فلست الحال ملائمة له، وإنما أريد أن أقول إن الجمهور - من حيث إقباله أو إعراضه - هو أهم عامل في ترقية السينما أو استمرار تفاهتها وسخفها. وقد ثار الرأي العام المستنير على هذه الأفلام، وبدأ الجمهور يعرض عنها إعراضاً يدخل فيه الوعي والملل من تكرر الحوادث المتشابهة، إلى جانب سوء المعيشة. وأحس السينمائيون بكل ذلك إحساساً يرجى أن يؤدى إلى الأخذ في التحسن.

ص: 42

ثم لأنتقل بعد ذلك إلى شئ آخر غير الأفلام التي شكا منها أعضاء اللجنة الثقافية كما يشكو منها الجميع، ذلك الشيء هو نوع من الصحافة عندنا، أقرنه بتلك الأفلام لأنه يماثلها في أن كلا منها (دون المستوى الراقي الذي ينشد منه، وأنه ينافى أحياناً الأخلاق العامة والمبادئ القويمة) وأقصد هذه المجلات التي لا ترمي إلا إلى كسب القراء عن طريق التسلية الفارغة والمجون المسف كالأفلام حذواً. . . فكل شئ يكتب للترفيه الخاوي والإضحاك الهابط، ولا شئ وراء هذا أو ذاك من متعة فنية أو ثقافة نافعة، وفتيات هذه المجلات لا تقل إغراء ولا فتنة عن كواكب تلك الأفلام، وكثيراً ما تكون هذه هي تلك. . .

وإني أسأل بعد ذلك، وأنا أنظر إلى من خلف هذه الصحف من المخرجين والمشرفين عليها: ما هي رسالتهم؟ ويقف السؤال مشفقاً من استخذاء الجواب. . . فكل ما يبغون هو الربح المادي، أي أنه ليس لهم رسالة ثقافية أو فنية أو إصلاحية. وننظر إلى الوراء فنعبر السنين الماضية لنرى ما كانت عليه الصحافة من قبل، كان كل من يصدر صحيفة أو مجلة لا بد أن يرمي إلى غاية من تلك الغايات ولو مكرها بدافع الحياء من الناس. . . وحتى المجلات الفكاهية كانت ذات موضوع، فلم يكن هزلها خالياً من الأهداف الجدية.

وقد تقدمت الصحافة اليوم تقدما كبيراً يغتبط له وإن كان فيه ما يؤسف، وهو ما يشغل بعض الصفحات من الهذيان الذي يقدم منسوباً إلى الآداب والفنون، ثم ذلك اللون التافه المسف من المجلات التي لا غاية لها تحمد عليها.

وقد ثار المستنيرون على هذه الأفلام وازور الجمهور عنها. وهذه الصحافة لا تقل عن تلك الأفلام جدارة بالشكوى منها. . . فمتى تنال من الاستنكار والإعراض ما يجعلها تحس إحساساً يؤدي إلى الأخذ في التحسن؟.

اللجنة الثقافية واليونسكو:

ختمت اللجنة الثقافية للجامعة العربية اجتماعاتها بلبنان يوم الأربعاء الماضي، وتوجه على أثر ذلك إلى دمش أعضاء الوفد المصري في اللجنة برياسة الأستاذ محمد شفيق غربال بك، تلبية لدعوة وزارة المعارف السورية، وعاد الوفد بعد ذلك إلى مصر.

وقد أتيت في الأسبوع الماضي بأهم قرارات اللجنة في الشؤون الثقافية العربية، وكنت ذكرت قبل أن ستعرض على اللجنة في اجتماعها بلبنان مسألة موقف الدول العربية من

ص: 43

مؤتمر اليونسكو وما يلابسه من طلب تأجيله وسعى اليهود للاشتراك فيه. وأذكر اليوم أن اللجنة رأت أن تسير في طريق الإعداد للمؤتمر، فدرست المسائل التي تتعلق باجتماعه في بيروت وأقرت خطة المساهمة فيه وتنظيم مظاهر النشاط الثقافي والعلمي والأدبي والفني الذي سيصحب المؤتمر طوال مدة اجتماعه، ويطلق على هذه المدة (شهر اليونسكو).

ثم اتخذت اللجة قراراً يقضي بتأييد الحكومة اللبنانية في تمسكها بعقد المؤتمر ببيروت في موعده المحدد في أكتوبر القادم. ومن مصر كتب معالي السنهوري باشا وزير المعارف إلى سفير مصر في فرنسا أن يطلب باسم الحكومة المصرية مؤازرة الحكومة اللبنانية في خطتها بشأن عدم تأخير عقد مؤتمر اليونسكو عن موعده الأصلي وعدم تغيير بيروت كمقر للمؤتمر.

ولا يسع المتتبع للظروف المحيطة بهذا الموضوع إلا أن يتساءل: هل يجتمع مؤتمر اليونسكو حقاً بلبنان في موعده الأصلي؟ ويبعث على هذا التساؤل ما قرره المجلس التنفيذي لليونسكو بباريس من قبول إسرائيل المزعومة في مؤتمر لبنان بصفة عضو مراقب إذا طلبت ذلك. . . وهي لا بد ستطلب. ولن يقبل العرب الاشتراك في المؤتمر وفيه الصهيونيون بأي صفة من الصفات؟ لذلك يبدي بعض أعضاء اللجنة الثقافية شكه في أن يتم اجتماع اليونسكو في لبنان ما دامت المشكلة الفلسطينية قائمة.

طلائع الأدب في الحجاز:

وقع في يدي أخيراً كتاب (أريد أن أرى الله) فسررت به، لأنه كتاب واحد من إخواننا أدباء الشباب بالحجاز، وما أخال أدباء الحجاز إلا شباباً. أولئك الذين وجدت البذور الكامنة في تلك البلاد منافذ في ثقافتهم الحديثة، فنبتت وترعرعت، وجعلت تبهر الأنظار بما تؤتي من الثمرات الطيبات.

ومن أولئك الشباب الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار صاحب كتاب (أريد أن أرى الله) وهو مجموعة أقاصيص يفتح بها باباً جديداً في الأدب الحجازي الحديث. وتحتوي هذه المجموعة على قصتين اختار أولاهما وهي (أريد أن أرى الله) من قصص تولستوي، والثانية من تاجوو. ثم خمس قصص مؤلفة بدت فيها موهبته وقدرته على العرض والتحليل، وتبدو في هذه القصص صور ظريفة من البيئة المحلية، رسمها المؤلف بدقة،

ص: 44

وأشاع فيها كثيراً من الظرف والدعابة.

ليس المقام للاسترسال في الحديث عن تلك القصص، وإنما أريد أن أعبر عن اغتباطي بنفحة من نفحات الحجاز.

من طرف المجالس:

أقبل صاحبنا فاتراً، وأخذ مجلسه متهالكا، ثم أرسل الصعداء. . .

- مالك؟

- محاضرة!

- ألست قد فرغت من إعدادها؟

- أتظن أني أعد محاضرة لألقيها؟ كلا، لقد ألقيت علىّ محاضرة. . . صبت علىّ. . . إنني أعلم وقع هذه المحاضرات التي يحسب أصحابها أن ما يقولونه لا يعلمه إلا هم، فيبدءون ويعيدون، ويطيلون ويثقلون، ولا يحسبون حساباً لما يشعر به السامعون من ملل وأسف لضياع الوقت. ولا أطيل عليكم كما يطيلون، فقد رأيت بالأهرام أن الدكتور فلان سيلقي محاضرة بنادي كذا. ولست سريعاً إلى تلبية الدعوات إلى المحاضرات. ولكن الدكتور فلان محدث طلي صاحب فكرة، وهو صديقنا، فذهبت لألقاه هناك وأستمع إليه ساعة. فما راعني إلا اعتذاره من عدم الحضور وقيام أحد الحاضرين ليحل محله. وانهال علينا المحاضر (المتطوع) فأطال وأمل، وأنا أتململ. . . ومنعني الحياء أن أغادر المكان. وهكذا وقعت في الفخ، ومن مأمني أتيت. . .

قال له أحد الجلساء: تعيش وتسمع غيرها!

وقال آخر: لقد كانت إذن محاضرة (مبرحة)!

عباس خضر

ص: 45

‌البَريدُ الأدَبيَ

خواطر مسجوعة:

(مهداه إلى الأستاذ حامد بدر)

في الناس قوم لا يرون إلا الذهب، ولا يسمعون إلا رنينه، لا يبالي أحدهم أن يئد الأدب، ويبيع في سبيل العار وطنه ودينه. همه أن يقال شجاع جرئ، وهو - في الحق - صغير بذئ، أو ينال الزلفى والجاه، وإن عفر على الأعتاب الجباه.

يتظاهرون بأنهم مصريون، ومصر عليهم براء، ويتماجدون بأنهم ألمعيون، وهم - في الحق - رقعاء. المال أعمى أبصارهم، وأخمد نارهم، فأنكروا دارهم، وتجاهلوا جارهم، ولجئوا إلى المغالطة والكذب، وما ألجأهم إلا الذهب.

كم ظهر الفرح على وجوههم حين تنال مصر بشر! وكم بدت الشماتة على ألسنتهم حين يمسها الضر! في القلوب حقد دفين، يخفيه الطمع في برها، ويظهره الطمع في غيرها. وفي الأخلاق داء مكين، يجعل المنفعة أساسها، ويجعل النفاق رأسها. مسكينة مصر، تلقى منهم كل ضر، يأكلون من خيراتها، وينسبون إليها، وهم ألد عداتها، بل أقسى من عداتها عليها.

ومن عجب أن مصر تعرف كل ذلك، ولكنها تغض الطرف عما هنالك. في الصحف طعن عليها وسباب، وفي المجالس نيل منها واغتياب، ولكن الكرم الحاتمي أخص صفاتها، والحلم الأحنفي رفيق حياتها،

والنفس تأكلها الحسرة، وتخنقها العبرة، حين ترى المحسن يساء، والمسيء يأخذ ما يشاء، هل جاءكم نبأ موظف مصري لا يعجبه في مصر شئ، ويعجبه في غيرها كل شئ؟ وهل سمعتم برجل من رجال العلم هو أداة طيعة في يد المال يصرَّفه كيف شاء، ولا يبالي أحسن أم أساء؛؟.

نحن نعيش بين العبر، ولا نعرف المبتدأ من الخبر، وعلى ألسنتنا القول ولا نقول، وما غناء القول إذا تغابت العقول. . .

علي العماري

ص: 46

مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان

حول شعراء وأدباء في جيش الفاروق:

قرأت في عدد الرسالة الأخير (892) كلمة للأستاذ محمد خليفة التونسي عن كتابي (شعراء وأدباء في جيش الفاروق) فرأيت من (العدل) أن أعقب عليها بغية تبيان الحقيقة.

1 -

قال الناقد في صدر حديثه (إنني ضابط، ويعلم الله أنني لم أحظ بشرف الجندية. . .

2 -

قال الأستاذ خليفة - نقلا محرفاً عن تعريف الناشر بي - (ينأى بنفسه عن إغراء المرأة حتى استأثرت به أخيراً (قديسة) تراه يفنى في تقديسها، فهو تعريف (تقديري) للقراء أن يفهموا منه ما يفهمون كما يفهمون) ولو تحرى حضرته الدقة لأدرك أن الناشر يعني (والدة) المؤلف!.

3 -

وصم الناقد المقدمة التي تصدرت كتابي والتي قررت في خلالها أن الأدب والجندية لا يتنافران بأنها (صرخات في الهواء) وكان أولى به بدلاً من أن يلقى القول (جزافاً) أن يقدم الأدلة والبراهين. . .

4 -

حين وضعت هذا المؤلف عن الشعراء والأدباء في جيش الفاروق المعظم لم أبتغ إلا تقديمهم خارج النطاق العسكري. وكان مثلى مثل (التاجر) الذي يقدم (بضاعته) و (يروج) لها بشتى السبل. . .

5 -

في حديث الناقد عن (ذوق) الكاتب في أخبار (النماذج) كان مسرفاً في التعبير. . . ولو تحقق الناقد لأدرك أننا لم نقدم نماذج لليوزباشي سيد فرج، والبكباشي محمد عبد الفتاح إبراهيم.

6 -

وكلمتنا الأخيرة تعنى بأنه ينبغي أن يعرف (الناقد) رسالته على حقيقتها فيكون على حد تعبيرنا أشبه ب (جندي المرور) الذي يوجه الحركة ولا يكون ك (الكونستابل) الذي يحرر (المخالفات) فحسب!!

محمود عيسى

سكرتير تحرير مجلة الجيش

ص: 47

ليس في اللغة (شغوف):

كان بيميني العدد 784 من الرسالة الغراء وكنت أقرأ فيه مقالا ممتعاً للشاعر الناثر الأستاذ الجليل محمود رزق سليم مدرس الأدب بكلية اللغة العربية، فما إن بلغت ممن القراءة إلى لفظة (شغوف) في قوله في صحيفة 779 (جلس في ظلالها جلوس الواله (الشغوف) حتى أمسكت لساني عن متابعة القراءة، ووقفت حيالها هنيهة أستذكر بقايا ما أحفظه من أبيات فيها ألفاظ تؤدى نفس هذا المعنى، ليس من بينها هذه اللفظة غير العربية التي نحن بصدد الكلام حولها. وهذه الأبيات ليست في كثرة وهى - قال البحتري:

ولمة كنت (مشغوفاً) بجدتها

فما عفا الشيب لي عنها ولا صفحا

وقال المتنبي:

كأن الحزن (مشغوف) بقلبي

فساعة هجرها يجد الوصالا

وقال الشاعر:

قوم ترى أرماحهم يوم الوغى

(مشغوفة) بمواطن الكتمان

وقال الشاعر:

(مشغوفة) بك قد شغفت وإنما

حم الفراق فما إليك سبيل

وتقصياً من الشك وسداً لثغرة الاحتمال بعد هذه الأبيات على رغم قلتها، وإن كان فيها غنية أي غنية فكنت قد اقترأت فريقاً من معاجم اللغة في اهتمام تام، وفى تيقظ وتحفظ فلم أعثر للفظة (شغوف) هذه على أثر البته، وإنما الذي ألفيت هو (المشغوف) بالغين المعجمة (والمشعوف) بالعين المهملة أيضاً ليس غير، فيتضح إلى ذلك أن هذه اللفظة الغربية ليست من اللغة العربية، وإنما تسربت إلى أقلام بعض الكتاب من سبيل الصحف التي لا سلطان لأدب اللغة عليها.

فالويل كل الويل للصحف من هذه اللغة الرائعة البارعة فإنها لا تحفل في أكثر الأحايين إلا بالمعنى فقط؛ وأما اللفظ - ولا معنى بغير لفظه - فإنها ترسله على عواهنه إرسالا من غير احترام للأدب اللغوي.

(طرابلس الغرب)

ص: 48

محمد مهدى أبو حامد

كلية أحمد باشا

لا أزال:

قرأت في العدد 790 ص 967 مقالاً للأستاذ أحمد أحمد العجمى اعترض فيه على دخول (لا) على (أزال) المضارع إلا في الدعاء واستشهد بشعر ذى الرمة. وقد وهم الأستاذ في اعتراضه فإن القاعدة قاصرة على الماضي فقط (زال) تدخل عليه (لا) في الدعاء فقط وفى غيره تدخل ما.

قال الله تعالى: (فما زالت تلك دعواهم) سورة الأنبياء - وأيضاً: (فما زلتم في شك) سورة غافر - وأما المضارع فالأصل فيه دخول (لا) قال الله تعالى: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) سورة المائدة - وقال: (لا يزال بنيانهم). في التوبة - وقال (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم). في سورة الرعد - وقال: (ولا يزال الذين كفروا في مرية). في الحج - وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم) في البقرة - وقال: (ولا يزالون مختلفين) في هود - وليس في القرآن الكريم غير ذلك.

ومن هذا ترون أن الأستاذ العجمي لم يوفق في اعتراضه وأن الصواب أن يقال (مازال، ولا يزال) في الماضي والمضارع.

عبد السلام النجار

تعقيبان:

1 -

أحب أن تعلم الآنسة الأدبية سعاد كامل أنى لازلت عند وعدى، فسأتكلم قريباً عن الشاعرين الكبيرين محرم والكاشف على صفحات الرسالة، وأظن الآنسة الفاضلة تعرف أنى بعيد عن القاهرة الآن، فلا سبيل إلى دار الكتب المصرية في الريف، وهى بما تحتويه من جرائد ومجلات أدبية، مرجع الباحث عن قريض شاعرين عظيمين، لم يقدر - بعد - لديوانيهما الظهور في سفر شامل محيط، فإلى الغد القريب أن شاء الله.

2 -

وقع في قصيدتي (المجاهدة الشهيدة) المنشورة بالرسالة تطبيع أدى إلى اختلاف

ص: 49

الوزن وغموض المعنى. وفيما يلي تصحيح الأبيات المحرفة.

كعصافير ظنت الأيك يخلو

من شريك فبوغتت بالصقور

كل ليث يهيج في صدره البأ - س كنار تشب في تنور

سمعت في الدجى البهيم أنينا

لجريح يئن تحت الصخور

محمد رجب البيومي

ص: 50

‌القَصَصُ

صفقة!. .

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

بقلم الأستاذ مصطفى جميلمرسى

مثل المتهمان (سزار أزيدور برومنت) و (بروسبر نابليون كورنى) أمام محكمة جنايات (السين) لشروعهما عن عمد في قتل امرأة (برومنت) المتهم الأول!. . .

وزُجّ بهما في (قفص الاتهام) فراحاً يقلبان نظرات حائرة، ويرددان أنفاساً مضطربة. . . وكان كلاهما من أهل الريف.

وبدا (برومنت) ربعة قصير الذراعين والساقين. . . قاني الوجه مرصع الديباجتين بالبثور. . . وقد التصق رأسه الأكبس بجسده القميء الكروي. . . وما بينهما من عنق. . . وكان يقطن مدينة (كاشفيل - لا - جوبل) في ولاية (كريكتوت) ويقتات رزقه من رعاية (الخنازير) وإنمائها!. . .

أما (كورني) فرجل ضاوي الجسم غير فارغ القوام. . . يتدلى من كتفيه ذراعان مفرطان في الطوف. . . أشوه الوجه، أضجم الشدقين، أحول العينين. . . يرفل في كساء أزرق كالقميص، يطويه حتى الركبتين. . . وينسدل على جبينه العريض بعض شعيرات مصفرة اللون، تخلع على وجهه سمات بغيضة تعافها النفس ويمجها البصر. . .

وكان القوم يدعونه بالقس لما أوتيه من براعة في ترتيل الأناشيد بين جنبات الكنيسة. . . حتى هام به بعض الناس. . . في (كريكتوت)، وذابوا إعجاباً به وشغفاً بتسابيحه إلى الله! واستقرت في (منصة الشهادة) زوجة (برومنت) وهي فلاحة عجفاء بادية الهزال. . . تكاد أن تخر من الوهن، وتوشك أن تغرق في النوم. . . كانت واجفة واجمة لا تحرك ساكناً، وقد عقدت راحتيها في حجرها وراحت حدقتاها تدوران في بلاهة واضطراب. . . وتجلت في صفحة وجهها آيات من الجمود ودلائل من الخمود!. . . .

ابتدرها القاضي في صوت رفيق رقيق مستأنفاً مسعاه في التحقيق: -

(لقد أدركت - أيتها السيدة الفاضلة - أنهما اقتحما دارك. ثم ألقيا بك في (البرميل) المترع

ص: 51

بالماء. . . فدعينا نلم بجلية الأمر في إسهاب. . . تكرمي بالوقوف). . .

فما إن همت قائمة، حتى لاحت في قبعتها كعمود شاهق، وطفقت تجأر بقصتها في صوت ترسله على مهل:

بينما كنت أقشر الفول. . . دلفا من الباب معاً. . . فحدثت نفسي (إن الشر يزمهر في عيونها. . . ما أقبلا إلا لسوء، وما أضمرا سوى الغدر. . . سأمسك حذري منهما) ومكثا يختلسان إلى نظرات شذراء. . . وعلى الأخص (كورني) الذي لا يفتأ يشوب الحول عينيه. . . فأحسست لمرآهما معاً بالكمد يخذني والحسرة تمضني فما كان أحدهما ممن يشرف المرء ويثير زهوه!.

ولم ألبث أن قلت لهما (ماذا وراءكما؟!) فما نبس أحدهما ببنت شفه، بل ظل سادراً في صمته. . . مما دفع الريبة إلى قلبي،

وهاج الظنون في نفسي!. . .)

فصاح (برومنت) المتهم في حرد وجفاء:

- (لقد كنت أترنح وأنا سليب الوعي!. . .) فألقى (كورني) بطرفه إلى شريكه في الإثم، وقال له فس صوت عميق كأنه عزيف الأرغن:

- (ما كنت مجانفاً للحق. . . لو قلت كلانا كان مترنحاً سليب الوعي!. . .)

فانتهره القاضي في عنف ودهشة:

- (أو تقولان أنكما كنتما ثملين مخمورين؟!. . .)

برومنت - (وهل في ذلك من حرج؟!. . .)

كورني - (إنه يقع لكل البشر!.)

فكظم القاضي غيظه، وهو يروم الشاهدة:

- (ناشدتك الله. . . صلي ما انقطع من روايتك. . . أيتها السيدة الفضلى!.) فعادت المرأة تقول في صوتها الأجش وهي ترسله في تؤدة وعلى مهل:

- (ثم سألني برومنت (هل لك في خمسة فرنكات؟!) فوافقته على سؤله. . . لأنك لم تعثر على خمسة فرنكات تحت كل أيكة تصادفها. . . فما لبث أن قال لي (هلمي معي. . . وسوف أريك ما تفعلين!. . .) ثم مضى حيناً. . . وعاد يدفع أمامه (البرميل) الضخم الذي

ص: 52

نتلقى فيه ماء المطر. . . ثم أقامه في وسط المطبخ. . . وهو يقول (هلا تملئينه حتى الشفا بالماء).

فشمرت عن ساعد الجد، ولم آل جهداً ساعة، وأنا أسعى بالدلوين بينه وبين البحيرة أحمل مزيداً ومزيداً من الماء. . . فقد كان من الضخامة، حتى لكأنه بئر بعيد الغور. . .

أما هذان الزنيمان (برومنت) و (كورني) فقد مكثا طيلة الوقت يعبان في الخمر. . . ويملان الكأس تلو الكأس. . حتى لم أتمالك أن صحت فيهما (لكأنكما أكثر امتلاء بالخمر من هذا البرميل. .) فأجابني برومنت: لا تبالي بما نحن فيه. . وثابري على عملك أنت. . فلسوف يحين دورك. .) فلم أعره سمعاً. . لأني أعلم بما للخمر من عقبى تسل العقل من إدراكه، وتمنع النفس صوابها.

حتى إذا فاض (البرميل) بالماء. قلت (يا هذا. لقد فرغت من عملي) فناولني (كورني) خمسة فرنكات - كورني وليس برومنت يا صاحب السعادة. . إنه كورني الذي منحني أجري. . ولكن لم يلبث (برومنت) أن قال: (هل لك في خمس فرنكات أخرى!.) فقلت على الفور (نعم. .) حتى لا تفلت من أناملي هذه الفرصة الذهبية. . . فانثنى يقول (هيا انزعي ثيابك!. . .) فصحت فيه وفد أخذتني الدهشة والعجب (أنزع ثيابي؟!.) فأجابني (أجل) فسألته منكرة (أأفّضها كلها؟!) فقال (إن كان هذا يثير انزعاجك. . . فامسكي عليك قميصك. . . إنا لا نبغي نزاعاً. . .)

حسن. . . خمسة فرنكات قدر لا يستهان به. . فما على من بأس لو فادعت هذين السفيهين. فرفعت قبعتي من فوق رأسي. ثم خلعت دثاري. . وسللت قدمي من النعلين!. وحينئذ قال برومنت (ليس ثم داعي للخلاص من جواربك. . نحن قوم ورعون أولو تقي!.) فهتف كورني مرجفاً (أجل. . نحن قوم ورعون أولو تقي!.).

وهكذا قمت أمامهما على شبه من أمنا (حواء)!. فنهضا من جلستهما ترنحهما الخمر. وهما لا يكادان يثبتان على إقدامهما. عفواً يا صاحب السعادة. . قلت لهما (وماذا بعد؟!) فصاح برومنت (أو مستعد أنت؟!) فأجابه كورني (مستعد!).

ثم لم يلبث (برومت) إن امسكني من رأسي، وقبض كورني على قدمي. . . كالشاة التي تهيأ لغسلها!. فما أن هممت بالصياح، حتى زجرني (برومنت) في قسوة قائلاً (امسكي

ص: 53

لسانك. . . أيتها المرأة الوقحة!.) ثم رفعاني في الهواء، وقذفا بي في (البرميل). . . فسرت في كياني قشعريرة جعلت الدم يضطرب في عروقي ويتصاعد دافقاً إلى رأسي. . . فتصطك أسناني وأحس الجمد يعتريني من ناصيتي حتى أخمصي!. .

وسمعت برومنت يقول (ولكن رأسها ما برح لا يغمره الماء. إن هذا يدخل في الحساب!.) فرد عليه كورنى (ضع رأسها إذن تحت الماء!.) فلم يلبث أن دفع رأسي في البرميل كمن يعمد إلى إغراقي. . . فاستشعرت الماء يتسرب إلى أنفى. . . وتراءى كأني أوشك أن اتخذ سبيلي إلى السماء!. .

وما أنفك يدفعني. . . حتى غمرني الماء. . . ثم خالجه الخوف فجأة، وساوره الندم، وراودته الرحمة. . . فعاد يرفعني قائلاً: - (هيا جففي جسدك، واخصفي عليك ثيابك. . . يا حقيبة من العظام. . .)

فلم أكد أثوب إلى نفسي وأتمالك مشاعري. . . حتى أطلقت لساقي الريح، وهرعت إلى (راعى الكنيسة) ذلك الرجل الطيب القلب الكريم النفس الوفي الخلق. . . فأعارني دثاراً من ثياب خادمه. . . وطفق يسرى عنى حتى أفرخ روعي!. . ثم انطلق يدعو صاحب الشرطة والسيد (شيكوت) النائب!. .

وعدنا أدراجنا جميعاً إلى الدار. . . فألقينا برومنت وكورنى يتقاتلان كزوج من الكباش!. . وكان برومنت يزمجر والغضب يتقد في عينيه (إن هذا وكس. . . لقد أخبرتك أنها ليست دون (المتر المكعب) لقد أسأنا العمل وأخطأنا الوسيلة!.)

فضج كورنى في حنق (بل أربعة من الدلاء الممتلئة. . . لا تبلغ نصف المتر المكعب. . . إنها حقيقة. . . لا تملك لها إنكاراً ولا تجد منها خلاصاً!. .) فدنا منهما صاحب الشرطة، وحال بينهما في صرامة. . . وما كنت أحير شيئاً!. .)

وتهالكت السيدة على مقعدها. . . فانفجرت في قاعة المحكمة عاصفة من الضحك. . . وتناظر المحلفون، وقد رفت على ثغورهم ابتسامات تحفها الرزانة. . . حتى إذا رانت السكينة وخيم الهدوء خاطب القاضي (كورنى) المتهم:

(يبدو أنك المحرض على هذه المكيدة التي تفيض شناعة وتدر خزياً. أو عندك من الدفاع ما تقدمه بين يدينا جلاء لما قارفته!)

ص: 54

فهم (كورنى) على قدميه قائلا: (لقد كنا ثملين تبعث برأسينا الخمر!) فأجابه القاضي في رصانة وهدوء (إنى أعلم هذا صل حديثك!) - (مهلا!. . . سيواتيك ملا تعلم. . . حسن! لقد جاءني (برومنت) في تلك الصبيحة، ودعانى إلى كأس من شراب (البراندي). . . فجلست إليه وأفرغته في جوفي. . . وحفزني الأدب إلى أن أقابل فضله بمثله. . . فدعوت له بكأس آخر. . . فأجابني بكأس ثالث، فرددت عليه برابع. ودالت بيننا الخمر ودارت منا الرؤوس. . حتى انتصف ميزان النهار. . فإذا بنا مخموران نترنح من النشوة!. .

وطفق برومنت يجأر بالصياح. . فخالجني الأسف له وأحسست إشفاقاً عليه!. . . فسألته عن جلية أمره!. . . فقال (لابد لي من ألف فرنك قبل الثلاثاء!.) فانطويت على نفسي. بالطبع. بيد أنه شك غير طويل، ثم قال في مثل هدوئك وشبه وقارك يا سيدي:(سأبيعك زوجتي!.)

حسن. . . كنت ذاهب الوعي عاطل الرشد. . . وكانت زوجتي قد لبت داعي المنون. . فدار بخلدي - وهو مضطرب - أن من الخير أن استحوذ على آمراته. . ما كنت أدرى عنها شيئاً. . . ولكن الزوجة دائماً هى الزوجة. . . فأثنيت أسأله (وكيف تبيعها لي؟!) فتطمئن رأسه وهو يفكر، أو لعله خلع على ذاته سمات التفكير ومظاهر التدبير. . فالمرء إذا عانق الصهباء. . تبلبلت في ذهنه الآراء، وعاثت في جسده الأدواء.

ثم لم يلبث أن أشرق وجهه وانبسط جبينه وهو يقول: (سأبيعها لك بالمتر المكعب!.) فلم يأخذني الدهش، فما برحت نشوة الخمر تعربد بين جوانحي. . كما أنى استخدم المتر المكعب في تجارتي!. . . إن المتر المكعب يقدر بألف لتر. . . فوافقت هواه، بيد أن العقبة التي تنهض في سبيلنا. . هي الثمن، وهو رهين بما يتمخض عنه عديد الأمتار. . وعن لي أن أسأله:

- (وكم تود في المتر المكعب؟!.)

- (ألفى فرنك!. .)

فوثبت من مجلسي كأرنب مروع. . ولكن جال بخاطري أن ليس ثم في الوجود امرأة تجاوز في الكيل ثلاثمائة لتر!. .

قلت له:

ص: 55

- (إنك على شطط فيما عرضت!.) فأجابني وهو يهز رأسه:

- (لا آخذ دون ذلك. . فإنها لخسارة تفدحني!.)

كان يساومني كأنه يبيعني إحدى خنازيره، وإنه لبارع قدير على بضاعته. . هه. . هه. . قلت له (: إن كانت شابة فتية فلسوف أغضى ولا أبالي. . أما إن كانت أخت عجز لطول ما أبليتها وأخلقت جدتها. . فما أدفع فيها سوى ألفاً وخمسمائة للمتر المكعب ولن تمس دانقاً مزيداً عليها أو ترضى؟) فارتفع صوته هادئاً رضيت!. هيا نتصافح. .)

فهززت يده شداً على العهد. . وانطلقت متأبطاً ذراعه. . لا بد للإنسان في زحمة الحياة الشقية وموكبها الصاخب أن يمد يد العون لأخيه الإنسان!. . بيد أني ما لبثت أن أغرقت في الحيرة وفاض بي الدهش!!. فانقلبت أسأله: (كيف تسعى لكيلها؟. وما هي بسائل!. . لسوف يعييننا أمرها!.).

فإبان لي عن خاطر ما كان يتجلى من عقل ثقلت عليه وطأة الخمر. وشاعت في صفائه شوائب الثمل. قال: (سآتي ببرميل. ونملأه حتى يطفح منه الماء. . ثم نضعها فيه. . ونقدر ما ينسكب من الماء. . فهو جرمها.) فهتفت في إعجاب: (إنه رأي سديد. وفكرة صائبة!. . ولكن كيف نقدر ما ينسكب من الماء، وما يتناثر من الرشاش؟. ولسنا له بحاصرين!).

فرماني بالغباء، ودعاني بالسخف. وأخبرني أن كل ما نفعله هو أن نملأ (البرميل) تارة أخرى. . بعد أن ننتشل امرأته، ثم نقدر ما نضيفه من الماء بعد ذلك!. إن كان عشرة دلاء فإن نظيرها متر مكعب!. أه. ليس ثم في الوجود أمرؤ أحدّ ذكاء وأمضي فطنة من هذا اللئيم، والخمر ناشبة في رأسه، جاثمة على عقله!. .

وصفوة القول. . . اتخذنا سبيلنا إلى بيته. . . فلما وقع طرفي على المرأة. . . رحت أحدق فيها وأنقضها ببصري في نظرات فاحصة. . . لم تكن على مسحة من الجمال. . . وهاهي ذي أمامكم. . . فنظروها. . وحدثت نفسي. . (لا عليك)!. . . سواء تفيض ملاحة وتسيل قبحاً. فإنهن يؤدين جميعاً الغاية المنشودة!. . .) أليس كذلك يا صاحب السعادة؟!. . . كما أنها كانت عجفاء ضامرة الجسد كأنها العصا اليابسة. . . فساورني خاطر (أنها لن تجاوز أربع لترات!. . .) إني خبير بهذه الأمور. . . فهي سر مهنتي!. . .

وقدمت لكم ما حدث. . لم نجردها من قميصها وجوربها، لما تعمر به قلوبنا من الورع، وما

ص: 56

تزخر به نفوسنا من الحياء. . مع ما في ذلك من خسارة لي. . . فلما بارحت (البرميل). . . مرقت من بين أيدينا، وأطلقت لساقيها العنان تسابق الريح. . . فصحت مشدوهاً (وي؟. . . برومنت. . . إنها تفر منا؟. . .) فأجابني في صوت هادئ:(لا تحفل بأمرها. . . فلسوف تنكص على عقبيها سريعاً. . فأمسك بها لك في هوادة. . . دعنا نحسب النقص!. . .)

فلم تتجاوز الدلاء أربعاً. . ها. . ها. . ها. .!. .)

وانطلق السجين في ضحك يهزه هزاً عنيفاً. . حتى ربث على ظهره جنديه الحارس في رفق. . . فثاب إلى هدوئه وفاء إلى سكينته، ثم استأنف حديثه:

(وصفوة القول. . لم تأت الأمور على ما يشتهي برومنت، فصايحنا، ودوي صراخنا!. . ثم تعطلت لغة العلام، فأمسك كل من بتلابيب الآخر يروم ضربه، وطرحه على الأرض. . كنا سكارى. . . فحسبنا أن عراكنا سيدوم إلى يوم الحشد!. . . حتى فرق بيننا صاحب الشرطة. . وقبض على كل منا وزج به السجن. . وإني لأطالب بالتعويض عما لحقني!. .)

وارتد (كورني) إلى مقعده. . . فتهاوى عليه. . . وكان (برومنت) يومئ برأسه بين الفينة والفينة مؤيداً شريكه. . . معززاً لما جرى على لسانه.

وغاب المحلفون ساعة يقلبون الرأي في روية، ويهيئون الحكم عن سداد. . . وقد اكتنفتهم الحيرة. . . ثم أعلنوا للملأ براءة كلا السجينين. . . ولكنهم قرنوا ذلك بحد. . . هو أن الزواج رباط مقدس لا يبيح صفقات التجارة، ولا يحل فيه البيع والشراء!.

وانطلق (برومنت) إلى عش الزوجية، وزوجته في رفقته! وعاد (كورني) طليقاً إلى حانوته!. . .

(طنطا)

مصطفى جميل مرسي

ص: 57