المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 795 - بتاريخ: 27 - 09 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٩٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 795

- بتاريخ: 27 - 09 - 1948

ص: -1

‌في الروتين الحكومي:

إرادة الصغير إدارة الكبير

من العجائب التي قلما يعجب لها أحد أن هذه الأداة الحكومية على ضخامتها وجلائها وخطرها، إنما يحركها صغار الموظفين حيناً بالعقل وأحياناً بالهوى؛ فإذا حدث في أسافلها الخطل أو الخلل - وكثيراً ما يحدث ذلك عن جهل أو عن علم - أصَّعَّد آلياً في أعاليها حتى يبلغ ذرى الرياسة فيدخل على المدير أو على الوزير، مزوداً بالتقارير الشارحة، مؤيداً بالتواقيع المختصة، فلا يسمعه إلا أن يصدق ما بين يديه، فيقبل الخطأ على أنه صواب، ويرد الحق على أنه باطل. وتلك إحدى سيئات الييرْر شية وهي النظام الإداري الذي يقضي بتدرج المناصب في العمال والأعمال والتبعات، فيبدأ الأمر بالأصغر فالصغير، ثم ينتهي إلى الكبير فالأكبر؛ وقلما انتقل الأمر من درجة إلى درجة أسرع النظر فيه، وقلت الرقابة عليه، وخفت المسؤولية عنه.

فالعهدة في هذا النظام كما ترى على الضمير، إذا سلم سلمت الإدارة وانتظم العمل، وإذا اعتل اعتلت الحكومة واضطرب الحكم. أما حياطة القانون (للأوراق الرسمية) بتشديد العقاب على من عبث بها أو زوّد فيها فذلك أمر لا طائل من ورائه إذا خفي العبث أو غفت الرقابة أو اشتركت المنفعة!

تعال أقص عليك بعض ما أعلم على هذه الييررْ شية من سوء عسى أن يكون في قصصه إنعاش لضميرك إن كنت عاملا في هذا النظام وعبثت به، أو تعزيه لنفسك إذا كنت معمولا به وتأذيت منه:

غضب مالك الأرض في قريتنا على شباب من شبابها الأخيار لأنه جرؤ عليه يوماً فطلب منه أن يردم بِرَكه التي تحيط بالقرية إحاطة الغُل بالعنق وأراه أن من الخير له أن يقي فلاحيه حمي الملريا ليظلوا قادرين على ري أراضيه بعرقهم وتغذية خزائنه بدمهم وكان لهذا المالك الغضبان قرابة ببعض أولي الأمر في وزارة الداخلية، فاستعداهم عليه، فألف الإداري الصغير تقريراً غيابياً عن هذا الرجل رماه فيه بتهديد حياة الناس بالإجرام، وتكدير أمن البلاد بالشغب، ووافق المأمور المعاون، وأيد المدير المأمور، وصدق الوزير المدير، وحُكم على البريء حكما عسكرياً بالاعتقال ستة أشهر تجدد لمثل ذلك، إذا لم يرض

ص: 1

عنه المالك! فلما علمت بالأمر طلبت الأذن على وزير الداخلية، وكان يومئذ فؤاد باشا سراج الدين، وعرضت عليه القضية، فقال في لغة أنيقة ولهجة رقيقة: إن هذا الرجل من الأشقياء (الخطرين)، ولا أحب أن يشفع مثلك في مثله. فقلت له: يا باشا، إن الرجل من كرام قريتي، وأنا أعرفه كما أعرف أبناء أسرتي. فقال: وماذا أصنع في تقرير رسمي حققه المركز وأيدته المديرية واعتمدته الوزارة؟ فانصرفت حردان أسِفاً على الحق يدمغه تقرير باطل فيزهقه، وعلى العدل يصيبه تقرير جائر فيهلك. ويبقى المسكين في سجنه يقاسي ألم الجور وذل الاعتقال، حتى سقطت الوزارة القائمة، وألغيت العسكرية الحاكمة، فزالت عن الرجل في التوِّ صفات الإجرام، وخرج من معتقله إلى أهله بسلام!

وفُصل من وظيفته محضر شاب كان يعمل في محكمة (عنيبة) من مركز الدر، لأنه غاب عن مكان عمله خمسة عشر يوماً من غير إذن. وسبب غيابه أن المرض أدركه في آخر يوم من أيام أجازته السنوية، وكان يقضيها مع أسرته بالمنصورة، فطلب إجازة مرضية، فأباها عليه مفتش صغير كانت بينه وبينه خصومة، وقرر للرياسة أن الرجل صحيح البدن ولكنه مريض النية، فهو يأبى العودة إلى بلاد النوبة ويتمارض ليسعى. وصدق الكبير فأمره بالعودة إلى العمل بعد انقضاء الأجل، وكانت العلة شديدة والشقة بعيدة، فلم يدخل عنيبة إلا ليقرأ فصله، ويرجع بالشقاء والبؤس إلى أهله!

وقضى المسكين في العطَل أشهراً يطعم أطفاله الأربعة وأمهم بالدين، ويدفع الضر عنه وعنهم بالأمل، حتى عرضت بنفسي ظلامته على صاحب المعالي إبراهيم باشا عبد الهادي وكان يومئذ يتولى وزارة العدل بالنيابة، فاقتنع ببطلان تهمته، وأعاده إلى وظيفته بمرتبه ودرجته ومدته.

وقضى المسكين في العمل أشهراً يجاهد نصب العيش ويكابد وصب الداء حتى أودى به السُّلال على سرير موحش ووساد قلق. وكان في إدارة المستخدمين بوزارة العدل عصبة من صغار الموظفين تتجر بمنح العلاوات والدرجات، فينقضون المبرم ويبرمون المنقوض، والكبار من غير فطنة ولا علم يحلون ما عقدوا ويعقدون ما حلوا، فقررت هذه العصبة أن إعادة الموظف المرحوم إلى عمله بعد فصله كانت تعيينا من جديد يجبُّ أربعة عشر عاماً قضاها في الخدمة! وانتظرت العصابة من ورثة الميت المساومة؛ ولكن اليتامى

ص: 2

الأربعة الضعاف، والأيم الصغيرة الفقيرة، كانوا لا يخرجون من مسكنهم النابي، ولا يفيقون من حزنهم الطويل، فأمضى الكبار ما قضى به الصغار، وقدرت المكافأة بجنيهين تقطع منهما الدمغة!!

وبلغتني المأساة فعرضتها على صاحب المعالي أحمد مرسي بدر وزير العدل - وكان قد كشف بفطنته ويقظته سر هذه العصابة - فنظر في هذه القضية بنفسه، وكتب إلى (المالية) كلمة العدل فيها بيده.

وشكوت إلى (مصلحة الطرق والكبارى) بالمنصورة أن ضيعتنا جزيرة في بحر الأمير طوسون لا يصلها بالشاطئ العام إلا طريق وعر غير سالك، وسألتها أن تمهده ولو على حسابي. لكن المهندس الصغير تلكأ لأسباب لا تغني غيره، فلجأت إلى الرياسة العليا فقررت الطريق وأمرت أن يمهد ويصان. فلما جاء الأمر بالتنفيذ ورم أنفه واستطار عناده وأقسم ليقفن دون هذا الطريق مهما يكن الأمر والآمر. وكتب تقريراً زعم فيه أن الطريق خمسة آلاف متر وهو لا يزيد على سبعين قصبة، وأن في بعضه عقبة كأداء وهو وحده هذه العقبة! فلما رأت الإدارة هذا الاختلاف بين ما قررت وقرر أرسلت إلى العزبة ثلاثة من مهندسي القاهرة فوافقوا أمامي على ما قررت، ورسموا الطريق على ما قدَّرت، ولكنهم حين خلوا إليه في مكتبه أصبح الخفيف ثقيلا والممكن مستحيلاً والكذب صدقاً والعام خاصاً والضرورة ترفاً والمنفعة مضرة! ومن هذا الزور الجريء ألف الموظفون الصغار التقرير، ورفعه كبيرهم إلى المدير، فلم يسعه إلا أن صدق الأوراق الرسمية ويعتمد التواقيع المختصة.

ورفعت أنا تقريري إلى صاحب المعالي أمير الأدباء ووزير المواصلات، فهو ينظر فيه نظر القاضي العالم والحاكم الحازم، وسيستشهد بالطريق الناطق على التقرير المكتوب، ويحتج بالواقع الصادق على التقدير المكذوب!

هذه أمثلة ثلاثة مما أعرف. ولعل أمثالها ألوف مما يعرف الناس، سردتها عليك في هذا الإيجاز لتصدق أن إرادة الصغير هي إدارة الكبير، وأن مراقبة الموظفين محال إذا لم تكن للشرف والضمير!

(المنصورة)

ص: 3

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌ما أشبه الليلة بالبارحة:

غدر يهود

للأستاذ عمر عودة الخطيب

(إن في الغار الذي يكال رؤوس العرب، وإن في العار الذي

يجلل رؤوس اليهود، لمادة ثرة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً

للقلم الخالق)

الأستاذ الزيات

أَذَّن بلال الفجر، وأرسل صوته الندي العذب بنداء الإسلام، وهرع المسلمون للمسجد لأداء الصلاة خلف رسول الله وعلى وجوههم سحابة حزن عميق، وفي عيونهم ذبول هم دفين، فلما التأم عقدهم، جلسوا في المسجد ينتظرون مقدم الرسول، وقد اشتد شوقهم لسماع حديثه الجميل الذي يُبرد غلة أفئدتهم، ويزيل غمة نفوسهم. . . ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى دخل المسجد، وسلم على من فيه، ثم تقدم للصلاة واصطف حوله الأصحاب، فركع الأولى، ثم قام من الثانية، ورفع يديه بالقنوت، ودعا على قبائل (رعل وذكوان وسليم) الذين قتلوا القراء في (بئر معونة) ونكلوا بهم شرَّ تنكيل. . . وأمَّن المسلمون على دعائه، وقد نال منهم مقتل إخوانهم كل منال، ونزلت عليهم بمقتلهم أفدح كارثة، وأنكى مصيبة. . . ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلي ما وجد على قتلي (بئر معونة) لأنه لم يرسلهم لقتال، وإنما أرسلهم ليبينوا شرعته، ويبلغوا رسالته. . . فلم يشهروا سلاحاً، ولم يثيروا حرباً. . .

وخرج الرسول من المسجد يسير مع صحبه في أزقة المدينة، وقد توسطت الشمس كبد السماء، حتى أشرف على الصحراء. وهناك وقف (حسان بن ثابت) بينهم ينشدهم قصيدته في رثاء قتلى (بئر معونة)، وبينما هو يقول:

على قتلي معونة فاستهلي

بدمع العين سحاً غير نزر

على خيل الرسول غداة لافوا

ولاقتهم مناياهم بقدر

ص: 5

وإذا بالقوم ينصرفون عن حسان، وتطلعون نحو الصحراء ويشيرون بأيديهم نحو خيال فارس بعيد يخب في هذه الرمال المحرقة، ويعدو قاصداً (المدينة) فيخيفه النقع الثائر تارة، ثم تظهره الآكام المرتفعة أخرى، حتى أصبح قريباً منهم، وتعلقت أبصارهم به. ولما أدنا أبطأ في سيره، وشدَّ لفرسه العنان، حتى وقف إزاءهم، فتصايح الجميع. . . عمرو. . . عمرو. . . والتفوا حوله، فترجل ثم تقدم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه، ثم انفتل إلى الأصحاب، فأدَّى لهم التحية. . .

وعرف الجميع أنه (عمر بن أمية الضميري) أحد القرَّاء الذين بعثهم الرسول إلى القبائل لتعليم القرآن. وعقدت الدهشة ألسنة الجميع فلبثوا ينظرون إلى عمرو دون أن ينطق أحدهم بحرف وكأنهم لا يصدقون ما رأوا، وقد أخبروا بأ القراء قتلوا عن آخرهم. . وقطع عليهم حبل الصمت الطويل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤال عمرو عن مصير القوم وعن صدق مقالة الناس. . .

قال (عمر بن أمية الضميري): وذهبنا يا رسول الله إلى حيث أمرتنا، وسرنا حيث أشرت علينا، حتى وصلنا (بئر معونة) فبعثنا (حرام بن ملحان) إلى (عامر بن الطفيل) برسالتك فلم ينظر في الكتاب، بل وثب على حرام فقتله. . . واستبطأنا حراماً، فأقبلنا في أثره، فلما شعر بنا (عامر) استصرخ علينا قبائل من بني (سليم ورعل وذكوان) فنفروا معه، فلما رأيناهم أخذنا سيوفهم، وقاتلنا حتى قتل إخواني عن آخرهم، وبقيت وحدي، أنتظر الموت. . . وقد أخذني القوم أسيراً، فلما مثلت بين يدي (ابن الطفيل) قال لي: كان على أمي نسمة فأنت حرٌّ عنها، وجز ناصيتي وأطلقني عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فلما خرجت إلى المدينة صادفت بمكان يسمى (القرقرة) رجلين نزلا معي في ظل كنت فيه، فقلت لهما: ومن أنتما؟. . . فذكرا لي أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما ثم قتلتهما ثأراً لإخواني الذين قتلوا في (بئر معونة). ثم عدوت بفرسي نحو المدينة. . حتى وجدتكم هنا. . . فغضب رسول الله حين سمع نبأ مقتل العامريين، ونظر إليه، وقد ظهر أثر الغضب في أسارير جبينه وقال له:

(بئس ما صنعت! قد كان لهما مني أمان وجوار سوف أدفع ديتهما. . .)

رأى رسول الله أن مصاب المسلمين في (بئر معونة) جعل المنافقين واليهود في المدينة

ص: 6

يتربصون بهم الدوائر، ويعملون على الكيد لهم، وقد ضعفت مكانتهم من نفوسهم، وقلتْ هيبتهم في قلوبهم. . ورجعوا بذاكرتهم إلى انتصار قريش على المسلمين بأحُد. . . ففكر طويلاً في أمر (يهود) وأراد امتحانهم، لتتضح له نياتهم، ويعلم ما تخفيه أفئدتهم، فذكر أن اليهود حلفاء بني عامر، وأن خير امتحان لهم أن يسألهم معاونته في دية العامريين اللذين قتلهما (عمرو بن أمية) خطأ، فعزم على الذهاب إلى (العالية) حيث يقيم (بنو النضير) من اليهود على بُعد أميال من المدينة. . .

ولما كان يوم السبت خرج رسول الله إلى مسجد قباء فصلى فيه ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، بينهم أبو بكر وعمر وعلي. . . ثم ذهب إلى (بني النضير) في العالية، فأظهروا الفرح بمقدمه. . . والسرور لزورته. . . ولما ذكر لهم ما جاء فيه تكلفوا الغبطة والبشر وقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت. . . وجلس إزاء بعضهم يتبسطون معه في الحديث، بينما انصرف سائرهم إلى ناحية أخرى يتشاورون فيما بينهم على الغدر بمحمد، والقضاء على صحبه، وذكروا آنئذ مقتل (كعب بن الأشرف) اليهودي. . . وأرادوا أن يثأروا له. . . ودخل أحدهم (عمرو بن جحاش) البيت الذي كان رسول الله يستند إلى جواره، وتبعه ناس آخرون، ولبثوا داخله طويلا، يدبرون المكيدة ثم خرجوا وقد عزموا على أن يظهر (عمرو بن جحاش) على البيت الذي يستند محمد إلى جداره فيطرح عليه صخرة يقتله بها. . . ورأى رسول الله إمارات الغدر في عيونهم، فارتاب في أمرهم، وخشي شرهم، ولذلك انسحب من المجلس تاركا وراءه أصحابه يظنون أنه قام لبعض أمره. . . وذهب تواً إلى المدينة، ولقيه في ظاهرها بعض اليهود، وكان قاصداً العالية. . . ورآه وهو يتجه نحو المسجد. ولما استبطأ المسلمون الرسول صلى الله عليه وسلم خافوا عليه، وقاموا في طلبه، فلقوا الرجل القادم من المدينة وعرفوا منه أن الرسول دخلها وذهب تواً إلى المسجد. . . فلحقوا به. . .

صعد (عمرو بن جحاش) إلى البيت ليلقى بالصخرة على محمد وهو يظن أنه ما زال مستنداً إلى الجدار فإذا بذلك اليهودي الذي رأى الرسول في المدينة يصل فيرى حركة قوامه واهتمامهم فاقترب منهم يسألهم عن الخبر، فأنبئوه بما عزموا عليه، وطلبوا إليه ألا يتكلم. . . فضحك منهم وقال: الآن رأيت (محمداً) في ظاهر المدينة. . . فماذا تصنعون؟!.

ص: 7

فأسقط في أيديهم، وحاروا في أمرهم ولم يدروا كيف يعملون، وأيقنوا أن محمداً سينتقم منهم ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم، وقد رجع كيدهم إلى نحورهم وعادت سهامهم إلى صدورهم. . . ودارت عليهم الدوائر. . .

وصل الرسول المسجد، ولبث ينتظر أصحابه فما عتم أن رآهم مقبلين من بابا المسجد وقد تشوفت نفوسهم لمعرفة الأمر الذي حدا به إلى مغادرة المجلس في العالية والقدوم سريعاً إلى المدينة. فلما أنباهم الخبر، وأفهمهم نوايا اليهود، احمرَّت منهم الأحداق وثارت منهم الحفائظ، وغلت صدورهم كالمراجل من الغيض. . . ولما رأى الرسول ما بنفوس أصحابه من الثورة والسخط نظر إلى (محمد بن مسلمة) قال له:(اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: رسول الله أرسلني إليكم، أن اخرجوا من بلادي فلا تساكنوني بها. . . لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم. . . بما هممتم به من الغدر بي. . . لقد أجلتكم عشراً فمن رأى بعد ذلك ضربت عنقه. . .)

وقع هذا الإنذار على اليهود موقع الصاعقة، فتحيروا في أمرهم، ولم يجدوا لإنذار (محمد) دفعاً، ومكثوا أياماً يتجهزون للرحيل حتى جاءهم رسول من عند (عبد الله بن أُبيّ) ينصحهم ألا يخرجوا من المدينة، وأن يقيموا في حصونهم، ويعدهم بأن يُعاونهم على قتال محمد. . . فآمن بهذا قوم، وكذَّب آخرون ، ولم يكن لهم بابن أبي ثقة. . . واختلط عليهم الأمر، وضاقت بهم أسباب الحيلة، وكادت تقع الفرقة لولا أن كبيرهم (حيى بن أخطب) وقف بينهم قائلا:(كلا، بل أنا مرسل إلى محمد أنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا. . . فليصنع ما بدا له. وما علينا إلا أن نرمَّ حصوننا، وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة) فأذعن القوم لمقالته، وانصرفوا لشؤونهم.

بلغت مقالة (ابن أخطب) رسول الله، وانقضت الأيام العشرة، دون أن يخرجوا من ديارهم، فاستعد المسلمون للحرب وساروا إلى فناء (بني النضير) يشقون أجواز الفضاء بالتكبير، وقام اليهود وراء حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، فحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم، واعتزلهم (قريظة) وخذلهم (ابن أبي) فأيأسوا من النصر بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، فاستلموا وأكل اليأس قلوبهم، وملك الرعب عليهم نفوسهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله

ص: 8

عليه وسلم أن يؤمنهم على أموالهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة، فصالحهم على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاءوا من الطعام والشراب والثياب، وأن يتركوا الدروع والسلاح، فرضوا بهذا. . . ولما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها بأيديهم (حتى إن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره وينطلق) وصاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب والأوتاد، وارتحلوا عن المدينة، وتعفروا بغبار الذلة، وتضرجوا بدم الصغار. . .

ورجع رسول الله إلى المدينة، يحمل ما تركوه من الدروع والأموال والسلاح، وإذا بوحي الله ينزل عليه بهذه الآيات:(سبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم. هُو الذي أخرَج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوَّل الحشر، ما ظننتم أن يخرجُوا، وظنوا أنهم مانعتهم حُصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يُخربون بُيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب. . .)

دمشق - المزة

عمر عودة الخطيب

فتى الفيحاء

ص: 9

‌العبقرية والحرمان

للأستاذ أنور المعداوي

خطر لي أأتعقب بعض العبقريات في أدب العالم لأرى إلى مدى يمكن أن ينتج العباقرة في ظلال الحرمان. . . ولعل شيخاً من شيوخ الأدب هو الذي دفعني إلى أن أقف من هذا الموضوع موقف الباحث المتأمل، حين ذهب في مجلس جمع بيني وبينه إلى أن الحرمان يلهب فيلهم، وأنه أكثر إثارة لمكامن الشعور في النفس الإنسانية مما عداه من أسباب الترف والنعيم. . . ولم يستعرض الأستاذ يومئذ بعض النماذج الإنسانية في الأدب العالمي ليدلك على مقدار ما في هذا الرأي من صواب، ومدى ما فيه من حقيقة؛ ذلك لأن الحديث كان حديثاً عابراً يأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك، ولا يكاد يستقر على ناحية بعينها ليناقشها في صبر وأناة.

وانفض المجلس، وخلوت إلى نفسي أقلب الرأي على وجوهه المختلفة. لقد كانت جذوره متأصلة في نفسي ولكنها كانت تترجح بين الشك واليقين. . أما اليقين فمرجعه إلى أني كنت أومن إيماناً عميقاً بأن الحرمان كما قال محدثي، أكثر إثارة لمكامن الشعور في النفس الإنسانية مما عداه من أسباب الترف والنعيم، وكنت أرى أن الفنان الذي يعيش في رحاب الحرمان يعيش متوثب الشعور دائماً، تلتهب أفكاره من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان ولا كذلك الفنان المترف، لأن الترف في أكثر حالاته أقرب إلى الدعة والخمول، منه إلى سبرغور أو بلوغ أعماق.

هذا ما كنت أراه، ولكن الشك الذي كان يلوح بين ثنايا اليقين مرجعه إلى أني حين رحت أستعرض بعض النماذج في أدب العالم، وجدت أن بعض هذه النماذج يهز جانباً من جوانب اليقين الذي كان متأصلا في نفسي. . . إن تولستوي في الأدب الروسي مثلا قد وصل إلى أرفع درجات المجد الأدبي وهو يعيش عيشة الأثرياء المترفين، وإن بيرون في الأدب الإنجليزي قد أبدع أعظم آثاره الفنية وهو يتقلب في بحبوحة من العيش لا تتهيأ إلا لمن كان في مثل مركزه الاجتماعي الرفيع، وتستطيع أن تضيف إليهما بلزاك في الأدب الفرنسي، فقد كان يحيا حياة مترفة أثقلت كاهله بالديون، إلا أنه لم يستطع أن يخرج للناس أروع آثاره القصصية إلا في تلك الساعات التي كان يقبل فيها على متع الحياة وتقبل عليه.

ص: 10

وقل مثل ذلك عن جيته في الأدب الألماني، وعن شوقي في الأدب المصري!

هذه بعض نماذج لعبقريات أغدقت عليها الحياة ففجر منها الإغداق ينابيع البيان المشرق، وعيون الحكمة الخالدة، وأنهار الفن الرفيع. . وتعال نستعرض بعد ذلك نماذج أخرى لعبقريات لم تلق من الحياة إلا صنوفاً من الفاقة وألوان من الحرمان، لنرى أن الأثر الذي خلفته هنا لا يقل عن الأثر الذي خلفته هناك. ولا نعني بالحرمان هنا ذلك الذي تعارف عليه الناس حين حصروه في معناه الضيق ولم يتعدوا به نطاق الماديات، كلا. وإنما نتعداه إلى شتى معانيه في نطاق الماديات والمعنويات. . . هناك حرمان يتمثل في ذلك الأعمى الذي لم تشأ له الحياة أن يرى ضوء النهار، وهناك حرمان يتمثل في ذلك الأصم الذي حالت المقادير بينه وبين الإنصات لموسيقي الطبيعة، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المصدور الذي ينفث دماً ولا يعرف طعم العافية إلا من أفواه الناس، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المجنون الذي قدر له أن يشرف على الوجود بإحساس الفكر التائه والوعي الذاهل!

نعم، هناك مِلتن يرسل أعذب أنغامه وأرق أغانيه وهو محروم من نعمة البصر، وهناك بيتهوفن يدفع إلى سمع الزمان بسحر موسيقاه وهو محروم من نعمة السمع، وهناك كيتس يبعث إلى الصدور بدفء أشعاره وهو صاحب الصدر المحطم الذي لون قصائده بلون دمائه، وهناك موباسان يخرج للدنيا من وراء العقل المفقود ومضات من العبقرية المبدعة قل أن تجد لها مثيلا عند فنان سواه. . .

وكم في رحاب الحرمان المادي من عبقريات أخرى لقيت من ضروب البؤس والشقاء ما يرفض منه الصبر وتخور معه العزائم ومع ذلك فقد كتب لآثارها كل بقاء وكل خلود. . . وما أشبهها بالمعادن الكريمة يصفو جوهرها تحت وهج النار في بوتقة الزمن!

تخرج من هذا كله بأن العبقريات معادن. . . بعضها يتوهج في ظلالها الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ فأديب مثل مكسيم جوركي كان يعاني أبشع ألوان البؤس الإنساني في أيام الحكم القيصري، ولكنه كان في تلك الأيام الحافلة بالشقاء مثلا رائعاً للفنان الملهم. . . ولقد بلغ من الفاقة حداً جعل الكاتب الإنجليزي ويلز يترك له كثيراً من ملابسه يوم كان يزور روسيا ليلقاه ويتحدث إليه؛ لقد ترك ملابسه للفنان الذي أعجب به كما لم يعجب بأحد سواه!

ص: 11

ولما قامت البلشفية على أنقاض الحكم القيصري خمدت الجذوة المتوهجة بلهيب الفن، لأن صاحبها قد انتقل من الجحيم إلى النعيم. ويقرر بعض النقاد المعاصرين وعلى رأسهم هربرت ريد أن كتابات مكسيم جوركي في أيام بؤسه وشقائه، لا يمكن أن ترقى إليها كتاباته في أيام الترف وإقبال الحياة. . .!

وهكذا كان حافظ إبراهيم في الأدب المصري. . . كان شعره يتدفق من أعماق الحرمان قوياً، صادقاً، معبراً، نابضاً بالحياة؛ فلما دفع به إلى دار الكتب وذاق جيبه طعم الذهب، واستمرأت نفسه حياة النعيم، نضب فيه معين الشعر وجف نبع الشعور. . ولما حاول بعض عشاق فنه أن ينطقوه كان قد أصفى!

إن العبقريات كما قلت معادن. . . بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ وتلك أمور نقررها على هدى الدليل وفي ضوء المثال.

أنور المعداوي

ص: 12

‌في ذمة الله

زعيم الباكستان

للشيخ محمد رجب البيومي

كانت وفاة القائد الأعظم محمد علي جنه مصيبة فادحة سالت لها الدموع، وقد تلقيت نبأها الفاجع في حيرة بالغة، ودهشة محزنة، وأخذت أتساءل عن مصير دولته الفتية بعد أن فقدت بطلها العظيم، وربانها الحاذق، كما استعرضت - في كآبة قاسية - صوراً من الآمال المشرقة التي يتلمس العالم الإسلامي تحقيقها على يد الباكستان، مذ أصبحت دولة مستقلة تسمى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، وتشعر بما يشعر به أبناء العقيدة المحمدية في جميع الآفاق.

ولقد أتيح لي أن أشاهد الفقيد الكبير أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة، فراقني منه هدوءه المطمئن، ووقفت على صورة كاملة من مزاياه الطيبة التي تنطق بها ملامحه وإشاراته، كما تتبعت في كثير من الاهتمام نشاطه السياسي، وقرأت عن كفاحه واستبساله ما زادني إجلالا له في حياته، وألهب قلبي حزناً عليه غب وفاته.

ولا يقدّر مصيبة الإسلام في زعيم الباكستان غير منْ ألم بتاريخه إلماماً دقيقاً، فقد وهب رحمه الله نفسه للدفاع عن حقوق طائفته المبعثرة المتناثرة، فجعل منها قوة متشابكة متساندة تصل إلى أهدافها في جرأة، وتفصح عن رأيها في قوة وإيمان، وكانت - منذ أمد بعيد - هدفا تتعاوره السهام الخاتلة من كل جانب، وطعمة تتزاحم عليها الأفواه الجشعة من كل صوب.

وتاريخ جنه يرتبط أشد الارتباط بتاريخ الأمة الإسلامية في الهند، فإذا كتب كاتب عن الزعيم الراحل فإنما يتحدث عن مائة مليون من المسلمين كانوا أباديد في مختلف الجهات فوهبهم الله قائداً قوياً يجمع الشمل ويسلم الشعث حتى توحدت الكلمة على يده، ودنت الغاية المأمولة بجهوده. وسنعرض بإيجاز للحركة الإسلامية في الهند وأثر جنه في نجاحها الباهر، وحسبه أن كان التعريف به مقروناً بسيرة أمته، فكفاحها كفاحه، وتاريخها تاريخه.

كان حزب المؤتمر الوطني في الهند ينظر إلى المسلمين بعين الازدراء والمقت فهم أقلية لا يحسب لها حساب في الأمة الهندية، ولئن اصطبغ الحزب بالصبغة السياسية فقد كان

ص: 13

أعضاؤه المتعصبون لا يتناسون ما يدب في صدورهم من البغض للمسلمين، فهضموا حقوقهم الأكيدة، وأشاعوا عنهم المفتريات الآفكة، فكانت الفتن الأهلية تندلع في كل وقت مستمدة وقودها المتأجج من الأقلية المهضومة، والحاكم الإنجليزي لا يتوانى عن إشعال الضرام ما استطاع، ليقيم دعائمه الاستعماري على الخلاف الديني والنزاع الطائفي، ولم يجد المسلمون بداً من تأسيس رابطة جامعة تفند مفتريات الهندوكيين، وتقوم بما تراه من الإرشاد والتوجيه

كانت الطائفة الإسلامية تضم نخبة ممتازة من الأحرار الأمناء، وكان الفقيدْ العظيم يبذل لها ما يملك من فكر ثاقب، وقلب جريء. ولا غرو فقد تثقف ثقافة عالية، ونال شهادة الحقوق من إنكلترا، ثم تقلد مناصب قضائية أبرزت جانباً كبيراً من مواهبه وكفايته، واشتغل بالمحاماة فطارت شهرته وذاع صيته. هذا إلى جانب خدماته السياسية المجيدة، تلك التي جعلته - فيما بعد - قائد أمة، وزعيم دولة، ورجل تاريخ، وصاحب خلود.

كانت نفس جنه غنية بكثير من التسامح والود فلم يشأ أن يقطع صلته بحزب المؤتمر بعد تكوين الرابطة الإسلامية، ولكنه ظل منتمياً إليه ليقوم بدور السفير في تسوية ما يجد من تعارض الآراه، واختلاف وجهات النظر. ولعله كان يطمع بتسامحه أن يكون مثلا ملموساً لأعضاء المؤتمر، كيلا يفرطوا كثيراً في المغالاة والتعصب، ولقد وفق بادئ الأمر في سفارته توفيقاً محموداً، حيث عقد اتفاق (لكنو) سنة 1916 وبمقتضاه قدمت من الحزبين مذكرة مشتركة إلى الحكومة البريطانية تطلب منح الهنود قسطاً من الحكم الذاتي.

ولقد ضاق الزعيم ذرعاً بتعصب الهندوكيين، ويئس من اقناعهم بالعدول عن التعسف الشنيع فاستقال من حزب المؤتمر وهيأ نفسه للعمل في طريق شاق تكتنفه المخاوف والمكاره، حيث كانت الطائفة الإسلامية تتلقى ضربات مختلفة من عدة جهات: فالمؤتمر - بأعضائه المتغطرسين - يؤلب عليها النفوس، وحزب (مهاسبها) الذي ألف لمحاربة الرابطة الإسلامية يزاول مهامه الإجرامية في بربرية وحشية، فكانت المذابح الهائلة تسيل بالدماء على أيدي جنوده المتوحشين، وقد أعلن في غير مبالاة أن المسلمين ليسوا من الهند، فهم دخلاء يجب أن يرحلوا إلى البلاد العربية التي تعترف بدينهم الإسلامي. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأرواح التي أزهقت في الهند كانت من جراء هذا الحزب البربري الهائج، ولولا

ص: 14

ثبات الرابطة الإسلامية وصمودها العجيب أمام أعدائها المتوحشين، لتقلص ظل الإسلام في هذه البلاد. ولعل من الأدلة القاطعة على بربرية حزب (مهاسبها) أن قاتل غاندي - وهو شاب مثقف راق - كان منتمياً إليه، فلم يرقه تسامح المهاتما وموافقته على تقسيم الهند إلى دولتين، فألف مع بعض أعوانه عصابة لاغتيال زعماء المؤتمر، واحداً بعد واحد. فأذا كان هذا شعورهم المجرم نحو إخوانم الهندوكيين، فمن يحصى النكبات الفادحة التي جرها هؤلاء على المسلمين!

ولقد انتهز حزب المؤتمر نجاحه في الانتخابات التي تلت دستور سنة 1935 فأعلن أنه يمثل الأمة أتم تمثيل وتغاضى عن مائة مليون من المسلمين أقبح تغاض، وراح يروج لنفسه بدعاية براقة خادعة، مدعياً أن الزمام السياسي قد أصبح في يده وحده، ولكن الزعيم الأعظم محمد علي جنه وقف في وجهه باسم الرابطة الإسلامية، وطاف على قدميه في أنحاء المدن الإسلامية بالهند، فنبه العيون وأسمع الآذان، ودعا إلى توحيد الكلمة بين المسلمين ورسم أمامهم ما يتهددهم من المخاطر، وخاصة أن الحكومة الجديدة قد رفضت رفضاً باتاً أن يشترك فيها عضو واحد من المسلمين! وكثرت الفتن الداخلية كثرة أشعلت الأفئدة وألهبت النفوس، فعرف المسلمون تمام المعرفة ما يدبر لهم من الكيد والبلاء، بينما أخذ أعداء جنه يتهمونه بمساعدة الإنجليز، كما أسرفوا في التشهير بزعماء المسلمين إسرافاً لا حد له. ولم تمض مدة يسيرة حتى كان القائد الأعظم قد وفق في مهمته أكبرَ توفيق، فوافق حزب الرابطة سنة 1940 على اقتراحه بصدد مشروع الباكستان، وأخذ يعمل على الوصول إليه من كافة الطرق، وقد تحسن موقف الرابطة كثيراً حين جاءت الانتخابات الجديدة سنة 1946 ففاز المسلمون بجميع المقاعد المخصصة لهم في المجلس التشريعي، وأسقط في يد المؤتمر الهندوكي حيث بان للعالم أجمع أنه ليس وحده الذي يمثل الهند، وأصبح مركز الرابطة يسمح لها أن تستقل بالبلاد الإسلامية مما ترتب عليه شطر الهند إلى دولتين مستقلتين، فارتفع العلم الإسلامي في مملكة وليدة وتحقق أمل بعيد كان يظنه الجميع سراباً يلوح في الصحراء.

لقد كان محمد علي جنه زعيما من طراز فريد، لأن جميع الزعماء ينشئون في أمم مهيأة معروفة فيوجهونها إلى الطريق السوي، ولكن القائد الأعظم قد أوجد أمة من العدم، وسهر

ص: 15

على نموها السريع فترعرعت في حقبة وجيزة، ولا وقت من الأعاصير السياسية ما كاد يزعزعها من مستقرها لولا حكمة القائد ونظره البعيد.

أما أخلاق الزعيم الباكستاني فقد كانت موضع الإجلال من أعدائه ومعارضيه إذ كان يعمل في وضح النهار، ولم تسمح له مروءته ودينه أن يحيك الدسائس في الظلام لمناوئيه، وقد رزق من المحاماة مالا طائلا، فلم يضن به في سبيل غايته السياسية، كما كان يعتني اعتناء تاماً بمظهره، فصارت أناقته مضرب المثل، واقتدى به المترفون في إنجلترا والهند، ثقة بذوقه الأنيق. ولقد كان شديد الثقة بنفسه فذهب إلى إنجلترا واحترف المحاماة فيها أربع سنوات كاملة بين أساطين القانون وأعلام التشريع، فكانت قضاياه العديدة تكلل بالنجاح.

أي زعيم الباكستان!! لقد أديت رسالتك في الحياة خير أداء، وقطفت بيدك الثمرة المشتهاة، فنم قرير العين بما قدمت لنفسك من أجر عند الله، وخلود في صحائف التاريخ.

سلام وريحان وروح ورحمة

عليك وممدود من الظل سجسج

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي

ص: 16

‌الشعر في السودان

للأستاذ علي العماري

قلت في مقالي السابق إن التدين ظاهرة واضحة كل الوضوح في الشعب السوداني، وأن الشعراء قد استجابوا لهذه البيئة المتدنية فكانت صورتها فيما نظموا من شعر.

ولكن لا يمكن أن تخلو جماعة من الجماعات البشرية من الطيب والخبيث، والفث والسمين، وفي الشعب السوداني كما في كل شعب نقائص ومثالب دينية واجتماعية، فهل استجاب الشعراء أيضاً لهذا المظهر؟ وهل صوروا العيوب التي تقع عليها أعينهم كما صوروا المحاسن؟

نستطيع أن نلتمس الجواب فيما كتبه الشاعر حمزة الملك في مقدمة ديوانه (الطبيعة) قال: (إننا نجهل أنفسنا فلا أستبعد ألا يرضى بعضنا عن بعض أوصاف صادقة لبعض الأفراد والجماعات وفي هذا كل الخطر.

نحن مرضى، ولا خطر علينا من تشخيص الداء، ووصف للحصول على الشفاء، إنما الخطر كل الخطر في المكابرة والإدعاء، والزعم بأننا أصحاء أشداء. وإنه لمن أجدى الأمور لنا أن نعرف أنفسنا كما هي فنصلح ما فيها من عيوب، وهي وأن كانت عيوباً تمت إلى أسباب بعضها طبيعي، وبعض طارئ استوجبه اضطراب أحوال البلد في السنين الماضية، فإنها كالأمراض التي لا يستعصي علاجها.

ومع ذلك فإنني لا أنسى إن أذكر لهذه المناسبة اننا من أكثر الشعوب تهيؤاً للإصلاح بعد الهنود).

فهو - إذن - يرى عيوباً، وهو يعتقد أن من الصالح له ولقومه أن ينبه على هذه العيوب، وأن يصورها، ويدعو قومه إلى مجافاتها؛ وهو يشعرنا في كلمته بأنه يعتذر عن هذا الذي أقدم عليه من ذكر هذه النفائض، فلا شك أنه كان يشعر بحكم الوسط الذي يعيش فيه - بأنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن رذائل قومه، ولكنه يرى الشعر رسول الإصلاح، ويرى الشاعر طبيباً اجتماعياً من واجبه أن يقف من المجتمع - ولا سيما المجتمع المتدين - موقف الناصح الأمين. غير أننا لا نجد الشاعر نفسه عالج بشعره شيئاً مما تراه عيناه، ونجد من الشعراء الآخرين إجفالا عن الخوض في مثل هذا الحديث. نعم نرى من الشعراء

ص: 17

من يصيح بقومه أن الدين قد وهى سلكه، وأنتثر عقده، وضعف سلطانه على النفوس، كأن يقول الشاعر الشيخ عبد الله عبد الرحمن صاحب ديوان (الفجر الصادق):

بعدنا عن الدين الحنيف وهديه

فيا ويلنا إن دام هذا التباعد

أو يقول:

من أين يرجى للبلاد تقدم

والدين لم ترفع له أعلام

أو يقول:

خذوا بيد الفضيلة وانشروها

فإن من المعرة أن تهونا

وهنا قد يبدو سؤال لا بد منه، فإننا ذكرنا في مقالنا السابق أن من أظهر صفات السودانيين التدين، فكيف يتفق هذا مع ما يردده شعراؤهم في الحين بعد الحين من الشكوى المريرة والرثاء للفضيلة والبكاء على الدين؟

وليس من الصعب الجواب عن مثل هذا التساؤل، فإننا إذا قسنا حياة الناس اليوم بما كان عليه الشعب السوداني منذ خمسين سنة لوجدنا البون شاسعاً، والفرق بعيداً، فقد كانت أجواء السودان معطرة بأنفاس الزهاد والصالحين، وكانت لهم السطوة الروحية، والهيبة الدينية؛ أما الآن فإذا وجدنا فإنما نجد أفراداً يعدون على الأصابع، فإذا أضفنا إلى هذا أن بعض وسائل المدينة قد دخلت السودان، وأن المحافظين غير راضين عن هذه الوسائل، فالسينما والقهوة، وتعليم البنت، والألعاب الرياضية الكثيرة، كل هذه مما يرى فيه المتدينون المحافظون إبعاداً عن الدين، مع الفوارق - بطبيعة الحال - بين هذه المبعدات.

يبدو أن تعليم الفتاة في السودان كان يلقى جدلا طويلا عريضاً، وأن كثرة كاثرة كانت ترى فيه هدما للدين، فجعلت تجاربه، وتبدى مخاوفها من السفور المنتظر، وأن قوماً كانوا يؤيدون فكرة تعليم الفتاة. وأنا وإن لم أجد صورة واضحة في الشعر لهذا الجدل ألا إني قرأت هذه الأبيات للشاعر الشيخ حسيب علي حسيب في قصيدة عنوانها (دعوها) يقول فيها:

دعو في خدرها ذات الدلال

فقد أرهقتموها بالجدال

تذوب وقد تناظرتم حياء

بفحش اللفظ أو هجر المقال

ويعلو خدها خفر ينادي

ألا ما للنساء من الرجال

ص: 18

أحبا في مناجاة الغواني

ترى أم ذاك زهد في المعالي

عجبت لحلمهم في كل خطب

وإن ذكر البنات دعوا نزال

وتأخذ الموالد صورتها المعروفة في كل قطر من الأقطار الإسلامية، ويعيا الوعاظ والمصلحون برد القائمين بها عن هذه المخازي التي تكون فيها، فلا نعدم الشاعر السودان الذي يدلي بدلوه في هذا المضمار، فهذا الشاعر محمد القرشي يقول:

أرى بدعا تشيب لها النواصي

إذا ما جاء ميلاد الرسول

ويتحدث عن مظاهر الاحتفال بهذا المولد من رايات وطبول وأنوار كثيرة، ثم يتحدث عن ساحات اللهو ويمضي فيذكر (ربات القلائد والحجول) ثم يقول:

تجر ذيولها متبرجات

لتفتك بالتبرج والذيول

بمجتمع القمار مقامرات

مع الشبان في الجمع الوبيل

مسار للظباء خرجن فيها

مراسح للخلاعة والخمول

ثم يستطرد في وصف تمسك عنه حتى يقول:

مصائب في بني الإسلام حلت

وفاجعة تجل عن المثيل

وحديث الشعراء السودانيين عن النفاق مستفيض، والنفاق - في ظني - أبعد الصفات عن الخلق السوداني الذي طبع على الصراحة والشجاعة، ولكن هكذا يقول الشعراء.

وأكثر ما اشكو النفاق فإننا

لبسناه من دون النفوس ثياباً

تأصل وأستشرى وأمعن مفسداً

ورد البيوت العامرات خراباً

وأنشب في روح الشباب مخالباً

وأعمل في روح الشيبة نابا

ويقول الشاعر حمزة الملك:

أمة في غيها غارقة

بعد أن جرعها الله الشقاء

قسمت أعمالها بين هوى

ونفاق وخمول وإدعاء

تلك أدواء دهت أخطارها

أمم الشرق سواء بسواء

ضاع شرع الله فيما بينهم

مثلما ضاع وفاء وإخاء

أما أنا فأزعم أن هذا الشاعر كان ثائراً حين نظم قصيدته (الدويم) فطاش من يده القلم فقال ما قال مما يعف كاتب عن ذكره:

ص: 19

ويحدثنا الشاعر الكبير الشيخ محمد سعيد العباسي عن بعض العيوب التي يراها:

وكائن رأينا من أخ قل خيره

بطئ عن الجلى كأن به سقما

ضعيف كليل الفهم أكبر همه

وأكثره ألا يجوع ولا يظما

وإن خف قوم للمعالي رأيته

يجوس خلال الدور للشادن الألمي

وقد عابني من لا يقوم بمشهدي

وليس له مثلي الغداة حمى يحمي

وجاء بأموال التعاويذ والرقي

وأشياء أخرى لا أرى ذكرها حزماً

ونكتفي بهذا القدر في هذه الغرض، وموعدنا بالحديث عن الشعر الاجتماعي، والشعر الغزلي، والشعر الفكاهي، والحديث عن شعر المدرسة الحديثة، أحاديث تالية إن شاء الله.

(للحديث بقايا)

علي العماري

ص: 20

‌دراسات تحليلية:

جلال الدين الرومي

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

في بيت العلم والدين، وبين مظاهر الورع والتقوى، ولد أعظم الشعراء الصوفيين، جلال الدين الرومي بن بهاء الدين سنة 604 بعد الهجرة النبوية في بلخ من بلاد الفرس. وكان أبوه من أكابر علماء الدين في بلاط خوارزم شاه حاكم المدينة، ودرج الصبي في حجر والديه يشهد حلقات الدرس ويرى مظاهر الإجلال والإكبار تحف بوالده، فنشأ مشغوفاً بالعلوم وخاصة ما كان متصلا بذات الله تعالى.

ورأى الحاكم ما عليه من مظاهر الورع والتقي وانصياع الناس له وإطاعتهم لأمره، فداخله منه حسد وحقد وأضمر له السوء، وبلغ ذلك بهاء الدين، فعزم على الرحيل. وفي جوف الليل وقد آوى الناس إلى مضاجعهم يطلبون الراحة من عناء العمل، ويبتغون الهدوء من نصب النهار، خرج بهاء الدين بأسرته خائفاً يترقب. ورأى أن أول شيء يفعله، أن يحج بيت الله الحرام ويزور القبر الشريف يستمد العون من صاحب البيت وساكن القبر، وبينما الركب في الطريق التقى بالشاعر فريد الدين العطار، فلما رأى جلال الدين توسم فيه خيراً، ولمح في عينيه بريق الذكاء، فدعا له بالبركة وأهدى إليه نسخة من كتابه (أسرار نامه).

وفي البيت العتيق مكثت الأسرة ما شاء لها الله أن تمكث، ثم خرجت تطوف بأرض الله، حتى ألقت عصا التسيار في قونية ببلاد الأناضول وكانت تسمى إذ ذاك بلاد الروم، وهذا سبب تسميته الرومي. وفي المقر الجديد جلس والده يعلم الناس كما كان في بلخ.

وكان لمقام الصبي في مكة ولمن لقى هناك من رجال الدين وهيامهم بحب الله أثر كبير في نفسه، فظهرت عليه علامات الورع ولما يزل صبياً لم يبلغ مبلغ الفتيان.

وفي قونية سمع بالشيخ برهان الدين الترمزي، فذهب إليه وتلقى عليه مبادئ التصوف وبدأت نفسه تتفتح إلى الآفاق العليا، تفتح الزهرة تخللتها أشعة الشمس، فقد صادف علم التصوف وكلام المتصوفين هوى من نفسه فأنكب على دراسته. ولما قبض والده، رحل إلى حلب ودمشق وغيرها من بلدان الشرق، ليتزود من العلم ما تتوق إليه نفسه ويهواه

ص: 21

قلبه، وطاف بهذه البلاد يزور علماءها ويسمع من نساكها، ثم عاد إلى قونية مرة أخرى، ليجلس مجلس والده في حلقات العلم.

وسمع شمس تبريز الصوفي المعروف، أن في قونية صوفياً مبتدئاً يتألق بالحب الإلهي، فوصل إليه ليدله على الطريق الصحيح ويمهد له سبيل الوصول. وأتصل بجلال الدين، فأتخذه جلال الدين مرشده الروحي، وما زال شمس تبريز ينفخ في هذه الجمرات المتقدة من الحب ويزكي ضرامها حتى جعلها شعلة نيرة، ولازم كل منهما الآخر وقتاً طويلاً، وشغل جلال الدين بمرشده، فنقم تلاميذه على شمس تبريز لأنه حرمهم أستاذهم فأجبروه على قونية ليخلو لهم جلال الدين، ولكن هيهات فقد أستأثر به شمس تبريز وقت وجوده وسحرته تعاليمه بعد فراقه، فزم داره وخلا إلى نفسه يبحث عن طريق الوصول إلى الذات العلية.

وشرح جلال الدين مذهبه الصوفي وأوضحه فيما ألف من شعر غنائي بالغ في الرقة والعذوبة. ويتميز شعره بسمو الفكرة وجمال الأسلوب وإشراق الديباجة ووضوح الخيال مما أكسبه روعة وجمالا.

وجمع ما نظمه في دواوين سمى أحدهما (ديوان شمس تبريز) لأن معظمه كان مما أوحى به إليه مرشده الروحي فسماه بأسمه؛ والآخر (المنثوى) وهو قصيدة واحدة كبيرة، قيل إن نظمها أستغرق أكثر من أربعين سنة، وأنها جمعت في ستة كتب، وفي هذه القصيدة صور مبتكرة متعددة تجمع بين رشاقة الأسلوب ودقة الصنعة.

وحب الروح، والعمل على الأتحاد بذات الله تعالى، والتخلص من شوائب النفس وأدراتها هو بيت القصيد في تعاليمه. فالحب يخلص أصحابه من الغرور والصلف، ويرى فيه الدواء الماجع والطبيب المداوي لأمراض النفس وعلاتها، والإيمان الخالص مصدره الحب، لأن المحب إذا أتحدث روحه بمحبوبة أغفل نفسه وأهمل شأنها وشغل بمن أحب، ولا يضيره أن يتحمل المكاره ويستعذب الآلام ويصبر الإجن لإرضاء محبوبه، ولا يزال هذا حاله من السعي والجهاد حتى تفنى نفسه في محبوبه ويصبح جزءا منه.

فإذا وصل إلى درجة الفناء فقد وصل إلى الكمال، وبذلك يبعث بعثاً روحياً جديداً فيحيا الحياة الخالدة، ويصبر جزءاً من المحبوب فيبقى إلى الأبد. وفي ذلك يقول (فأختر حب

ص: 22

الذي يبقى أبداً والذي يسقيك من الخمر التي تنمي الحياة وتهب الخلود).

بالحب تتبدل الأشياء، فيصير الظلام نوراً والألم لذة، ويتحول الحديد ذهباً، ويتغير طعم المر فيصبح حلواً. وبالحب يحيا الإنسان حياة سماوية وهو لا يزال فوق سطح الأرض فيقول:(العاشق) المخلص هو الذي يقول له الله: (أنا لك وأنت لي).

فالعشق الإلهي هو التسامي عن كل أعراض الحياة، والطيران إلى الآفاق العليا، وتمزيق الحجب التي تحول بين العاشق والمعشوق وتحطيم ما يقف سداً بين الإنسان ومن أحب. والعشاق المخلصون في حبهم كالظلال إذا أشرقت عليهم شمس المعرفة تلاشت ظلالهم وأختفت، لأنها لا تقوى على البقاء في النور القوي الذي هو النور الإلهي وفي ذلك يقول:(يا حياة العشاق في الموت، ولن تجد قلباً إلا بعد أن يحطم قلبك).

والغرض من الحب والتضحية بالحياة الفردية وإفناء النفس، هو نشدان حياة أسمى وأرفع، ومن أ {اد إدراك الحقيقة فعليه أن ينكر ذاته ويعتبر نفسه غير موجود. وهو يقول:(أولاً، تنزع النفس من النفس، ثم تفصل قدم عن قدم، وأن تعتبر هذه الدنيا غير مرئية، ولا ترى منظر نفسك).

أما الحياة الدنيا وزخرفها ومتاعها، والنفس ومشاغلها ولهوها، فهي حجب كثيفة تحجب المحب عن بلوغ مأموله؛ فعليه أن يجتاز هذه الموانع ليصل إلى النشوة الروحية حيث ينسى نفسه ويرتفع إلى جلال الحقيقة الخالدة في بهائها وروعتها. وإذا وصل المحب إلى هدفه المنشود وأتحد بالذات الإلهية فقد حصل على الخلود وأنفلق له صبح السعادة وشع نور رب الأرباب في روحه وملأ جوانب نفسه. وفي ذلك يقول (ذلك الذي حصل على مقام ومكان في ملكوت السموات ونورها، لا يزال يغرق في النور دائماً).

والمحب الذي يصل إلى هذا النوع من التوله بحب الله والهيام بجلاله يكون قد حصل على الحياة المتحدة، والإنسان إذا بلغ هذه المنزلة صار عارفاً بالله، ولم تعد به حاجة إلى الوساطات والشفاعات. لذلك يرى جلال الدين أن الأنبياء المرسلين لا يحتاج إليهم إلا الأشخاص العاديون، وأما من أتحد بالواحد وأصبح يسمع الصوت الباطني فقد استغنى عن الكلمات الخارجية لأنه صار من أولياء الله الذين أسكرهم حبه فثملوا بخمره وغرقوا في جلال عظمته، واتحدوا مع البحر اللانهائي للذات الربانية فيقول جلال الدين في ذلك (لقد

ص: 23

طردت الاثنين من نفسي ورأيت العالمين عالماً واحداً، وبحثت عن الواحد وعرفت الواحد ورأيت الواحد ودعوت الواحد. هو الأول، وهو الآخر، هو الظاهر، هو الباطن. ولست أعرف آخر سوى (ياهو) أو (يا من هو).

ويتصور جلال الدين الذات الإلهية داخله في جوهر الكون وحالة في مخلوقاته، وأن المتأمل يرى ذات الله في كل الأشياء لأن الكون ما هو إلا مرآة تظهر فيها آثار صفاته وبديع حكمته تعالى فيقول (رأيت الأبد مرآة عامة لك، وفي عينيك رأيت صورة نفسي).

والله تعالى جلت قدرته محيط بالكون مطلع على أسرار خلقه يعلم السر والنجوى وإن كانت لا تدركه الأبصار، ففي نعمة الكثيرة وعطاياه المتعددة أكبر دليل على عظمته وسلطانه القاهر وحكمته السامية، فيقول جلال الدين في إحدى قصائده:

يا خفياً قد ملأت الخافقين، قد علوت فوق نور المشرقين،

أنت سر كاشف أسرارنا، أنت فجر مفجر أنهارنا،

يا خفي الذات محسوس العطا، أنت كالماء ونحن كالرحى،

أنت كالريح ونحن كالغبار

تختفي الريح وغبراها جهار

ويعتقد أن الروح كانت في البدء إلهية متحدة مع الحقيقة العظمى، ولكن القدرة الربانية انفصلت عن الإنسان لتظهر، ويتجلى الموجود في المعدوم والباقي في الفاني، فبضدها تتميز الأشياء فالمداد لا يظهر إلا في الصحيفة البيضاء، والنور لا يتجلى ألا في الظلام، فيقول جلال الدين:(كنا جوهراً واحداً مثل الشمس، كنا بلا عيب وكنا في صفاء الماء).

والروح مرآة صافية تعكس نفس صاحبها، واحتكاكها بما هو مادي وانغماسها في حب الحياة ولهوها قد عكر صفاءها وشاب رونقها. والنفس أمارة بالسوء ميالة للهوى والمعاصي، فعلى من أراد أن يحظى بالمنزلة عند الله وينال رضاه، أن يتقرب إليه. ولن يبلغ هواه من التقرب إلا إذا كان نظيف الثوب طاهر الذيل خالياً من الأقذار، فليغسل ثوبه من المعاصي ويجل روحه من صدأ الهوى، وليتجمل بالصبر وتأديب النفس ومواصلة جهادها حتى تصفو المرآة فتعكس الصورة واضحة جلية، فإن لم يفعل ذلك فهو الشقي البعيد. (إذا أنت أنفت من كل مسحة فأنى لك أن تصير مرآة مصقولة؟).

وكان جلال الدين كثيراً ما يذكر في هذا المجال ما وقع بين الصينيين واليونانيين ليبين

ص: 24

كيف أن الروح إذا صفت أظهرت الشيء في أجمل صورة وأحسن اشكاله.

فيحكي (أن جماعة من الصينيين واليونانيين تخاصما أيهما أجود فناً؛ ولجاً في الخصومة، ثم تحاكما إلى السلطان فحكم بينهما، بأن أعطى كل فريق حجرة ليظهر فيها براعة فنه، وجعل باب كل منهما مواجهاً للآخر وقدم لهما ما يحتاجان إليه من ألوان وأدوات فأخذ الصينيون منها عدداً عظيماً، وأما اليونانيون فعمدوا إلى حجرتهم فصقلوا جدرانها وأزالوا ما بها من صدأ. وأخبراً ذهب السلطان إلى حجرة الصينيين فبهره بديع فنهم، ثم ذهب إلى اليونانيين فإذا بصورة مما نقشه الصينيون قد انعكست على الجدار فأزداد منظرها رونقاً وجمالا فشهد لهم بعظيم فنهم).

فاليونان بعملهم هذا يمثلون العارفين الذين طهروا قلوبهم وصقلوا نفوسهم فوصلوا إلى عين اليقين، فليس الأمر أمر زخارف وألوان وصور وأشكال، بل أمر صفاء وتطهير.

والذين يطهرون قلوبهم ويهذبون نفوسهم ويتخلصون من الأكدار ينجون من مجرد العطر واللون، فيرون الجمال في كل شيء وكل لحظة. وفي ذلك يقول: (إن روح الإنسان كالهواء المختلط بالتراب يحجب نور السماء فلا تستطيع العين أن ترى الشمس، وحين يصفوا الجو وينقشع التراب يصبح صافياً طاهراً.

ومن أغواه الشيطان وأضله الهوى، ثم أراد العودة إلى ملكوت الله وتاب عن ذنوبه، فالطريق أمامه واضح جلي جلاء الصبح، فعليه بتأديب نفسه وزجرها عن الماضي وإمارتها في نشدان المثوبة والغفران فالله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، وفي ذلك يقول جلال الدين:

(ما معنى تعظيم الله؟ اعتبار المرء نفسه حقارة خاوية).

(ما معنى توحيد الله؟ حرق المرء نفسه بين أيدي الواحد ذي الجلال).

فإحياء الروح وخلودها لا يتأنى إلا بإماتة النفس وإفنائها في ذات الله فيقول (إذا لم يسقط الزهر لا يبدو الثمر، وإذا لم يفن الجسم لا تسمو الروح، وإذا لم يكسر الخبر لا يمدنا بالقوة والحياة، وإذا لم تعصر الأعناب لا تعطينا خمراً).

وطريق التوبة طويل الدروب وعر المسالك كثير الأشواك، فإذا لم يكن الساعي إلى الوصل ذا صبر وجلد، سقط في الطريق صريعاً قبل أن يبلغ الهدف ويحظى بنعمة الوصل. فيقول

ص: 25

جلال الدين في الحث على مواصلة الجهاد، والاستمرار في السعي إلى كعبة الوصل:(في كل صباح يأتيك صوت من السماء ينادي، إذا أنت نفضت غبار الطريق، فستنطلق إلى هدفك المقصود) ويقول: و (في الطريق إلى كعبة الوصل أنظر تجد في كل ايكة من الشوك ألوفاً من قتلى الشوق ضحوا بحياتهم ببسالة) ويقول: (ألوف سقطوا صرعى على هذا الطريق دون أن يصل إليهم نسيم من عطر الوصل كدليل من جوار الصديق).

هؤلاء هم الذين أضجرهم طول الطريق، ولم يصبروا على مكارهها فذهبت حياتهم قبل أن يبلغوا الهدف الأسمى من كعبة الوصل ونعمة القربى من ملكوت ذي الجلال.

فجلال الدين الرومي صوفي حلولي، وفوق ذلك هو من أعظم الفنانين بإشراق ديباجته، ووضوح خياله، وإبراز معانيه. وهو أول من أنشأ الذكر الصوفي الذي يؤدي على نغمات الناي، والذي نظم له من الشعر الشيء الكثير، وتسمى طريقته (المولوية) وأساسها الحب الإلهي ومبدأها التفاني في حب الله.

وتوفى جلال الدين سنة 673 بعد الهجرة بقونية ودفن بها. ولم يقتصر مشيعو رفاته وأرثوه على المسلمين بل كان من بينهم المسيحيون وغيرهم.

(أسيوط)

عبد الموجود عبد الحافظ

ص: 26

‌3 - طاغور وغاندي بين الشرق والغرب

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى، أراد طاغور أن يقوم بعمل إيجابي يحقق به آماله غي وحدة العالم، فذهب إلى أوربا ليجول بين بلدانها ويدعو شعوبها إلى التفاهم والتآلف والتآزر، ويحضها على إقامة وحدة دولية تضم مختلف شعوب العالم، وتريح البشر مما يعانيه من قلق وإضطراب وخوف، ولكن هاله أن يسمع عن الهند، وهو في أوربا التي يدعوها إلى التعاون، أنها تنادي باللاتعاون مع الغرب، وفزع لما رجع إلى بلاده ووجد غاندي يعلم الهنود محاربة الاستعمار الإنجليزي بالعصيان المدني، وعدم طاعة القوانين الضارة بالبلاد، وتحاشى التوظف في المناصب الحكومية سواء أكانت قضائية أو عسكرية، ويشجع الهنود على استعمال المغزل اليدوي ومقاطعة المنسوجات الأجنبية وحرقها حتى لا تحتاج الهند لمساعدات خارجية، ويطالب التلاميذ بهجرة المدارس الحكومية، ويناشد رجال العلم بتدريس تراث الهند الروحي القديم في المدارس والجماعات وإهمال تدريس الثقافات الغربية. فلم يرض طاغور عن اسلوب غاندي في المقاومة السلبية وأقلقه ذلك التغيير الذي أحدثه في أفكار الهنود، وأخذ يتفقد طرق نضاله مع الإنجليز بالرغم من تقديره لسمو نزعاته الروحية، واحترامه لنبل مقاصده الوطنية، وإدراكه لمغزى جهاده السلبي.

ولقد بدأ طاغور نقده لغاندي بإعلان استيائه من اشتغاله بالسياسة، وأسفه على استغلاله الدين في أمور الدنيا، واستعانته بالقوى الروحية في حل القضايا السياسية، والمشاكل الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية؛ وكان يود أن يظل غاندي - ذلك النموذج الكامل للقوة المعنوية، والبطل المقدس التي تضرب سيرته مثلا أعلى للحياة الروحية الفاضلة - بعيداً عن الألاعيب السياسية، محافظاً على رفعة حياته الروحية من قذارة الأساليب السياسية الخبيثة، غير معرض نفسه لتقلب أهواء السياسيين الدهاة، حتى لا يؤذي مقوماته النفسية، أو يضعف قواه الروحية. وكذلك عاب طاغور على غاندي تفريطه في ثروة الهنود الروحية وبذلها رخيصة في سوق الحياة العملية، واستخدامها استخداماً خطراً على نزعات الهنود في مقاومة الإنجليز، وحزن لجناية غاندي على روحية الهنود، وتألم، لأنه حول القوة المعنوية التي تفتخر الهند بحوزتها من قديم الزمن إلى قوة عمياء تسخرها العواطف

ص: 27

الوطنية في تحقيق المآرب القومية دون الغايات الإنسانية التي يفرضها الدين الهندوكي على الهنود، وتوصلهم إلى أرفع مراتب الكمال الروحي. . .

ولم يقف نقد طاغور لغاندي عند حد خوضه السياسة وإقحامه الدين في مشاكل الأرض، بل تعداه إلى ذم اساليبه السياسية وطعنه فكرة اللاتعاون مع الغرب، لأنه يؤمن بالأتحاد الحقيقي بين الشرق والغرب، ولم يستسغ مطالبة غاندي الهنود بمقاطعة الإنجليز اقتصادياً، وتضايق من فرضه على كل هندي أن يغزل يومياً وينسج ويحرق ملابسه الأجنبية، ولا يلبس إلا ما غزل بالمغزل اليدوي. ويرى أن خطر هذه الآلات الصغيرة على الهند لا يقل عن خطر الآلات الكبيرة على الغرب، فهي تجمد حيوية الهند وتعرقل تقدمها، فلا يجب أن تتخذ منها الهند وسيلة لمعالجة الفقر والجوع. كما لم يرقه كره قومه الرذيل للثقافة الغربية، وأعتبر مقاطعة المدارس والجامعات التي تدرس هذه الثقافات مظهراً من مظاهر ضيق الأفق وفقر المدارك، ولوناً من ألوان التعصب الإقليمي المنحط.

إن إهمال الهنود بحث الثقافات الهندية خطأ يعيبهم يجب أن يتداركوه، ولا يستحق منهم الإغضاء عن دراسة العلوم الغربية ولا يجب أن يتحرجوا من أن تستفيد الهند من خيرات الغرب الثقافية. ولئن كان غاندي لم يرد بسياسته إلى محو آثار المدنية الغربية من الهند، إلا أن ثورة الأهواء القومية تجعل لمبادئه في اللاتعاون هذه المقاصد الفاسدة. ويخاف طاغور على طهارة الهند من غائلة بربرية أتباع غاندي الروحية.

لا ينكر طاغور أن تحقيق أستقلال الهند أمر خطير ويحتاج إلى نوع من الحماسة والعاطفة أكثر احتياجاً إلى روية الأختصاصيين وتدبر الاقتصاديين وبحث العلماء؛ فان الحماسة وحدها لا تكفي لحل المشاكل الهندية، وإنما يتطلب حلها كذلك الأستعانة بالعلم والكياسة والسياسة والاقتصاد، فإن اتئثار فرد - ولو كان زعيم الحب والحق - من دون الهنود جميعاً في رسم خطى السياسة العليا الهندية من اقتصادية وسياسية وثقافية لثقل تنوء بحمله قوى رجل واحد مهما تعددت مواهبه، ويجب أن يسمح لجميع الكفايات في الهند بأن تساهم بجهودها في خدمة الهند، فيعطى للاقتصادي فرصة لتدبير المال اللازم لرفاهية الشعب، وللصانع فرصة لأن يشتغل بالصناعات التي يمهر فيها، ويطلب من علماء التربية وضع الأسس الصالحة لتربية أبناء الأمة، ومن رجال العلم تعيين البرامج الثقافية الملائمة للطالب

ص: 28

الهندي، ويشجع السياسي على أستخدام دهائه وفكره في الحصول على أستقلال الهند. وبغير ذلك لا يمكن أن تنال الهند الحرية وتنجي من العبودية. أما أن ينفرد شخص بمعالجة قضية الوطن، ثم ينادي بقطع كل أتصال بين الهند والغرب، فيلبي الشعب الضعيف دعوته بغير تبصر، ويطيع أوامره في مقاطعة الغرب والقضاء على سبل التعاون معه طاعة عمياء ليدل على نوع من الاستبداد الروحي بشعب هزيل الروح قابل لعوارض غضب هستيري قد يعصف بكيان الهندية.

ربما تكون مقاصد غاندي من وراء المقاومة السلبية شريفة، ولو طبق جميع الهنود مبادئه في اللاتعاون بنفس الروح التي يفهمها غاندي لما تعرضت الهند لأخطار العواطف القومية والثورات والفتن ولكن الخوف من المكلفين بتنفيذ آراء غاندي، فقد يتوهمون أو يوهمون أن اللاتعاون هو الغاية النهائية من حركة غاندي السياسية، وليس وسيلة وقتية، ويؤمنون به كدين قويم في أتباع حرفيته خلاص الهند من الاستعباد.

بينما خلاص الهند من الاستعباد لن يأتي إلا عن طريق التعاون مع بقية الشعوب والاندماج فيها وتكوين أمة عالمية تشمل جميع الشعوب على اختلاف أجناسها وألوانها وثقافتها وعاداتها، لأن مشاكل العالم المتعددة لن يعرف لها حل نهائي ما دامت الأمم متفرقة بعضها عن بعض، تعيش كل منها في نفسها، تود لو تقضي على كل رابطة تربطها بباقي الأمم، لا تثق في جدوى التعاون، وتقبل أن تظل حبيسة حدود الوطن الضيقة خلف حواجز مصطنعة تفصلها عن سائر الشعوب، وترضى أن تحيا على الدوام في حرب مع كل أمة تريد أن توجد بينها وبينها علاقة وطيدة، أو تتدخل في شئونها. ولذلك سيظل العالم على ما هو عليه من قلق واضطراب وخوف طالما لا ترغب الدول في الاتحاد التام، فيجب على الهند أن تلعب دوراً هاماً في سبيل توحيد العالم وتسبق جميع الشعوب في الدعوة إلى التفاهم والتآخي، وتضرب مثلا حياً لدول العالم يسعد بسعيها الصادق في إنجاز وحدة الدنيا، لأن الدين الهندوكي يقوم على حقيقة وحدة الوجود، ويطالب الهنود بتحقيق هذه الوحدة من مشاعرهم وأفعالهم وفي داخل نفوسهم وخارجها، ويحثهم على فناء ذاتهم الفردية في الذات اللامتناهية، حتى لا يشعر أحد إلا بالروح الكلية التي تضم كل شيء في الوجود، ولن يصل هندي إلى هذه المرتبة الروحية العالية إلا عن طريق الحب والوئام والتعاون، فإذا

ص: 29

سعت الهند إلى وحدة العالم، فإنها تطيع أوامر الدين، وتلبي في نفس الوقت نداء الإنسانية وتنقذ أهلها من رق التعصب الأناني، وتطلقه من اسر النعرة القومية الهوجاء، وتبرئه من مبادئ اللاتعاون التي تثير الحقد والكراهية في النفوس، وتسلم العالم من أشرار الانفصال، وتوصله إلى بر الاتحاد، لأن الانفصال باطل يدعو إلى التعصب، ويثير الشقاق، ويحض على تهجم الروح الفردية على الروح الكلية فلا تتمتع أمة بسعادة أو تنعم بسلام.

ولا يحقق هندي ذاته، أو يفوز بغايته الدينية، وتصبح أمم العالم في تنابذ وتشاحن، فيضطرب النظام الطبيعي في المجتمع الدولي، ويخلق الظلم والاستبداد، وتشرع القسوة والاستعباد فتعاون قوى العالم ونسيان ما بينها من أحقاد وأضغان ضروري لتفادي كل ما يعرقل وحدة الدول أو يعوق تعاونها، واستمرار الهند في التفكير في الانتقام، والسعي في الانفصال عن الغرب، لن يخلصها من الجوع والفقر، واتخاذها اللاتعاون سبيلاً لطرد المستعمر من البلاد لن ينيلها الحرية الحقيقية، لأن مشاكل الهند مرتبطة بمشاكل الغرب، وحلها يتطلب مقدماً تعاون العالم، فلا مفر من التعاون، لأن واقع الحياة العالمية يميله على الأمم لينقذها من وهدة الظلام التي تعيش فيها. فوق أن الدين الهندوكي يجبر كل هندي على تحقيق الذات اللا متناهية التي تتلاشى فيها ذات الأفراد، ولا يوجد بها إلا الحياة الكلية، والتي تزول فيها القيم الظالمة القاسية، ويبقى بها الحب والوئام والتعاون.

إن انتقادات طاغور لغاندي تدل على أن طاغور ثابت الفكر لا تتلون نزعاته الروحية بتغيير الظروف، فهو رجل يؤمن بقوة الروح، ويعتقد في الحياة الفاضلة، ويثق في الوحدة سواء أكان مجالها حياة الفرد أو حياة السرة أو حياة الأمة أو حياة العالم. ويود أن يحافظ الفرد والأسرة والأمة والعالم بأجمعه على هذه الأصول، فلا تتحول القوة الروحية إلى قوة مادية حسب الأهواء القومية، أو يستغني عن الفضائل المعنوية في سبيل الفوائد النفعية إذا اقتضى مصلحة الأمة ذلك، أو تفضل الوطنية على الإنسانية والانفصال على الاتحاد لعلة من العلل المادية الوقتية. وعلى هذا الأساس وجه طاغور انتقاداته لغاندي، ذلك الزعيم الروحي الذي تنم سيرته السياسية عن خلاف ذلك، فهو يقحم الدين الروحي في السياسة المادية، ويغلب تعصبه القومي على ميوله الإنسانية، ويستبدل التعاون باللا تعاون في محاربة الإنجليز، ويدعو لأنفصال الهند عن الغرب بدلا من الاتحاد معه، فعارضت أساليبه

ص: 30

السياسية حياته الخاصة، وخرجت على تعاليم الدين الهندوكي التي تقوم على حقيقة وحدة الوجود. وكان على غاندي أن يرد هذه التهم ويفسر أساليبه ويدفع عن نفسه هذه الشكوك التي أثارها طاغور حول نزعاته الروحية والإنسانية، ويبين أن سيرته الخاصة لا تناقض سيرته السياسية.

فقام غاندي يفند أقوال طاغور ويبرر راءه وطرقه ويوضح أنها تستند على اسس من الدين وتتمشى والمبادئ الإنسانية، فزعم أن حبه للهند أو تعصبه لقومه لا يشهد بأنه خرج على الدين أو نبذ القيم الإنسانية وتعلق بوطنية حمقاء، لأن الوطنية في ذاتها لا تتعارض والانسانية ما دامت لا تضر بالشعوب المادية.

إن وطنية غاندي طاهرة لا تشوبها نقائض الأنانية الاستقلالية، فهي وإن كانت تحثه على خدمة الهند وإصلاح شئون الهنود الخاصة والعامة بمقومات الحضارات القديمة إلا أنها لا تدفعه إلى أن يكسب شيئاً للهند، ويسئ في نفس الوقت إلى إنجليز، أو تغريه على تنمية عواطف حب السيطرة في نفوس الهنود، حتى يقويهم على الاعتداء على الشعوب المجاورة. فوطنية غاندي لا تقوم على الكراهية، إنما تقوم على الحب، ولا تخالف الدين أو تهمل القيم المعنوية، وغنما تستوجبها جميعاً وتعززها.

أما عن اشتغال غاندي بالسياسة، فيقول إن السياسة تلتف حول كل هندي التفاف الأفعى، ولا سبيل للتخلص منها. ولكي يقضي غاندي على سموم هذه الأفعى، أضطر إلى أن يقحم الدين في السياسة. ويقصد بذلك أن حالة الهند وما هي عليه من تفكك وتصدع وذل واستعمار، وظروف الهنود وما هم عليه من بؤس وشقاء وانحطاط، وتطور الحوادث السياسية والاجتماعية في الهند، يلزم أي هندي محب لترقية وطنه، بأن يساهم في تحرير بلاده وإصلاح حياة أهله. وبتأثير هذه العواطف الشريفة، خاض غاندي معترك الحياة السياسية الخبيثة السامة مرغماً. ونظراً لأنه ديني بالفطرة، سياسي بالضرورة، شرع في تطهير السياسة من طرقها الملتوية الحقيرة بإدخال الدين فيها، حتى يسمو بالسياسة إلى سماء الدين. وعلم الهنود الاضطراب الديني السلمي، الذي يعلن بقوة ووضوح، الاحتجاج على الظلم بدون إحداث شغب أو تلف أو إراقة دماء. كما علمهم الارتكان إلى اللا تعاون، كلما نزل بهم جور. فحارب الهنود الإنجليز بأسلحة سلبية لا تعتمد على العنف السياسي

ص: 31

على روح تعاليم الدين الهندوكي السلمية التي تكره العنف وتنادي بضرورة التذرع بسلاح الحب.

(البقية في العدد القادم)

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات

ص: 32

‌13 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

النهضة التعليمية في النوبة

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

لعلك تعجب إذا علمت أن منطقة النوبة الآن من المناطق المصرية، التي ارتفعت فيها نسبة المتعلمين إلى درجة عظيمة، لم تصل إليها كثير من بلدان الوجه البحري، وأن الجيل الحديث من النوبيين كله متعلم مائة في المائة تقريباً.!!

ومن النادر أن تجد صبياً لا يذهب إلى المدرسة، يتلقى العالم في شغف وتواضع وطاعة محببة إلى النفوس. وبخاصة نفوس الآباء والمدرسين. . . وإذا كنا نرى كثيراً من الصبية يهربون من المدارس في مدننا وريفنا، وأن كثيراً من الآباء وأولياء الأمور يعلمون الحيلة للتخلص من إرسال أولادهم إلى المدارس في الريف، ليساعدهم في الحقل، ويعاونهم في الحرث والري والحصاد. . وقدينا لهم من جراء ذلك كثير من الغرامات المادية فلا يبالون بها، ولا تردعهم عن مخالفهم وتهربهم من العلم، وفرارهم من التعليم، وعزوفهم عن المدارس مع ما فيها من خير كثير. . إذ كنا نرى هذا، فلن نجد لهذه الظاهرة أثراً في النوبة على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، نرى التزاحم الشديد، والإقبال العجيب، والتنافس في الالتحاق بالمدارس على اختلاف أنواعها. وشتى ضروبها، مما يثير في النفس عوامل الدهش والارتياح، والفرح والاغتباط، ولعل هذا راجع إلى أن أولياء الأمور في النوبة أدركوا الآن قيمة العلم، وأثر التعليم في تهذيب النفوس، والحصول على المراكز السامية، والمناصب الرفيعة، وأنه الطريق الوحيد لسعادة أبنائهم وذرايتهم، وأنهم لا يحتاجون إلى مجهود أبنائهم الضئيل، كما يحتاج إلى ذلك المجهود أولياء الأمور في الريف المصري في غير منطقة النوبة. . .

والمدارس في النوبة أنواع كثيرة، تدعوا اليها الحاجة، وتتطلبها البيئة القاسية، مما لا تتوفر في كثير من المناطق المصرية، فمنها:

1 -

قسم ثانوي في عنيبة لم يكمل بعد، ويأمل النوبيون في وزير العلم، أن ينمو هذا القسم نمواً مطرداً يناسب نهضة البلاد، وإقبال أهلها على التعليم الثانوي خاصة، ولتكن مدرسة فاروق الأول الثانوية، قائمة في عنيبة بجانب أختها مدرسة فؤاد الأول الأبتدائية، وهذه

ص: 33

أمنية غالية، يعتز بها كل نوبي، ويبني عليها قصوراً من الآمال، ويتمنى أن تتحقق لتكفيهم مشقة الجهد، والانتقال من بلادهم إلى مختلف البلدان وعواصم الأقاليم المصرية، حيث توجد المدارس الثانوية التي تتطلب ثيراً من النفقات وتبعد هذا الجيل الجديد عن موطنه الأصلي. وهو لا يزال في حاجة ماسة إلى الرقابة الشديدة في هذه السن، سن المراهقة، وتطلق له الحرية في بيئة يسهل فيها الفساد واللهو، ولهذا ينحدر كثير منهم إلى هوة الفساد والضلال، مما يبعد به عن الغاية التي يهدف إليها، وينصرف به عن البحث والدرس والتحصيل. . .

2 -

مدارس ابتدائية: واحدة في عينبة تضم خمسمائة تلميذ تقريباً، ويشترك فيها البنون والبنات بلا تفرقة، وأخرى في الدكة، وثالثة في قورته. وقد جاهد الأهلون جهاداً عظيماً في سبيل إنشاء هاتين المدرستين الأخيرتين، وقد أنشأت الوزارة مدرسة الدكة سنة 1974، وسرعان ما قامت قيامة أهل قورته فبذلوا مجهوداً مشكوراً عن دل على شيء. فعلى روح التنافس، وتوج أخيرا بإنشاء مدرسة قورته في العام نفسه على إن يكون ذلك بمثابة تجربة، ولتبقى في النهاية على المدرسة التي تثبت وجودها بكثرة ما فيها من التلاميذ، وذلك لأن المسافة بين قورته والدكة حوالي سبعة أميال فحسب. ومن الغريب إن اقبل الاهلون على كلتيهما، بحيث اصبح كل منهما ثمانون ومائة تلميذ تقريباً، ولهذا ستضطر الوزارة دون ريب للإبقاء على المدرستين كلتيهما. .

ويأمل النبيون أن يتم إنشاء مدرستين أخريين، أولاهما في المركز الأصلي، وهو الدر، احتفاظاً بما كان له من مكانة، وأحياء للمدرسة التي كانت به، وهي أول مدرسة في النوبة بأسرها. . . والأخرى في بلانة، لما لهذه من مكانة زراعية ولما فيها من مشروعات كثيرة، أدت إلى ازدحامها بالسكان، مما يعطيهم هذا الحق، ويجعل إنشاء مدرسة ابتدائية في بلدتهم من أوجب الواجبات، وبخاصة وأنها ليست أقل شأناً من الدكة أو قورته، بل أعظم منهما شأناً، وأرفع قدراً. . .!

ولقد بذل الأهلون في سبيل ذلك جهوداً موفقة طوال هذا العام، وإذا تم لهم أصبح في منطقة النوبة مدرستان ابتدائيتان في القسم الشمالي، هما قورتة والدكة. ومدرستان ابتدائيتان في القسم الجنوبي هما الدر وبلانة، ومدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية في عنيبة، وبهذا تضمن

ص: 34

النوبة تعليم أبنائها في المحيط الذي تحبه وتؤثره وترتضيه، إلى سن تؤهلهم بعد هذا للتعليم الجامعي والعالي، ولا تخشى عليهم انحرافاً عن الغاية، ولا بعداً عن المقصد. . .

3 -

مدارس أولية: يشترك فيها البنون والبنات، والتعليم فيها الابتدائي، نظام كامل طول اليوم، أي قبل الظهر وبعده بيد أنه ليس في مواده لغة أجنبية. وهذه المدارس بعضها تابع لوزارة المعارف، وهما مدرستا، عنيبة، وبلانة الجديدة. والبعض الآخر وعدده تسع وعشرون مدرسة، تابع لمجلس مديرية أسوان، وهي مدارس:(قسطل، بلانة، توشكي شرق والجنينة، عنيبة بحري، إبريم، عافية، توماس قبلي، الدر، الديوان، كرسكو، شاترمه، وادي العرب بحري، السيالة، قورته، العلاقي، الدكة، تشتمنة غرب، وتشتمنة شرق، جرف حسين، مارية، مرواو شرق، مرواو غرب، أبو هور، كلابشه، الأمباركاب، دهميت شرق، دهميت غرب، دابود).

4 -

مدارس إلزامية: يتعلم فيها بعض التلاميذ نصف اليوم وبعضهم في النصف الأخر، وكل هذه المدارس تابعة لمجلس مديرية أسوان، وليس فيها واحدة تابعة للوزارة، وهي أثنتا عشرة مدرسة في البلاد الآتية: أدندان، أبو سمبل، أرمنا، توشكي غرب، مصمص، توماس بحري، أبو حنضل، المالكي، وادي العرب قبلي، المضيق، المحرقة، قرشة.

5 -

ملحقتان، أحدهما في كوسكو، والآخر في مراواو غرب. . .

6 -

أقسام تحفيظ للقرآن الكريم: وهي تابعة لمجلس مديرية أسوان كذلك، وهي ثلاثة أقسام، أولها تابع لمدرسة أدندان، والثاني تابع لمدرسة المالكي، والثالث تابع لمدرسة توشكي غرب.

وما أحوج بلاد النوبة إلى افكثار من هذه الأقسام، لإقبالهم عليها إقبالا كبيراً، فهم يقدسون كتاب الله تقديساً، ويرتلونه ترتيلاً يبعث الخشية في القلوب، والرهبة في الصدور، ويملك على الإنسان مشاعره وحواسه، ولهم في تلاوته روحانية تسمو بالسامع إلى مراتب نورانية نمن الإيمان والخشوع والطاعة والخضوع.

7 -

مكاتب إعانة: تعينها الوزارة، فتعطى المدارس عن التلميذ الواحد عشرين قرشاً، أو ثلاثين، أو أربعين، وهي سبعة مكاتب: القصيري بأبي سنبل، نجع تميدي بأبي سنبل، نجع الجلاب، نجع الخفير، الزيداب، البقعة، وادي السيالة. وهذه المكاتب تؤتي أكلها في كثير

ص: 35

من البلدان، وذلك لأن المدرسين يبذلون جهداً مشكوراً في جلب التلاميذ من كل حدب وصوب، لما ينالهم من نفع عاجل، وخير قريب، فهذا النوع بالنسبة لمدرسي المدارس الابتدائية والثانوية، فهو إذن نوع من التعاون بين المدرسين وتلاميذهم. . .!!

8 -

مكافحة الأمية، وهي نوعان (أ) أقسام مسائية مقرها المدارس، وتقبل التلاميذ ابتداء من سن الثانية عشرة فما فوقها ويتقاضى المدرس جنيهين في الشهر، ويتقاضى الرئيس جنيهين ونصف جنيه في الشهر، والإقبال عليها منقطع النظير، فإذا جن الليل تقاطر الرجال والشبان والشيوخ إلى هذه الأقسام فرحين مغتبطين يتلقون العلم، ويتعلمون مبادئ القراءة والكتابة، وفي النهار تجدهم منكبين على كتبهم وكراساتهم، يعيدون ما درسوا، ويتفهمون ما أخذوا، وقليل من إخلاص المدرسين ونشاطهم، يجعل أهل هذه المنطقة في درجة عظيمة من العلم والمعرفة. . .

وهذه الأقسام في البلاد الآتية: أدندان؛ بلانة القبلية، بلانة الجديدة، أبو سنبل، أرمنا، توشكي غرب، عنيبة الأولية إبريم عافية، توماس قبلي، توماس بحري، الديوان، شاترمه، وادي العرب قبلي، قورته، العلاقي، جرف حسين.

(ب) مكاتب إعانة لمكافحة الأمية، وليس مقرها المدارس بل أي مكان في المسجد أو البيت أو الشارع، ومدرسوها من الفقهاء، ولهم مكافأة سنوية عن التلميذ بعد نجاحه قدرها خمسة وسبعون قرشاً، يصرف لهم خمسة وعشرون قرشاً اولاً، وخمسون قرشاً بعد النجاح. .!!

وهي بالأماكن الآتية: جده بالديوان بلانة. كساب بأبي سنبل، فرقنيت أورجه بأرمنا. أبو راسيا بأرمنا، مرواو بتوشكي غرب، زيدات بتوشكي غرب. وادي السبيل بأبي حنضل. الريجة بكرسكو، النوبات بالسيالة، الشيمة بقورتة. دبنود بدابود.

ومفتش المعارف يلاقي كثيراً من الصعوبات في سبيل القيام بعمله في هذه الجهات كلها، وذلك لتناثر هذه النجوع وتفرقها وبعد المسافة بينها، وكثرة المرتفعات والمنخفضات، فلا بد والحالة هذه من الاستعانة بالباخرة البطيئة، والمراكب الشراعية والمطايا، ولا شيء غير هذا.

وقد يكون هذا الكلام غريباً على بعض الناس، من الذين لا يعلمون شيئاً عن طبيعة هذه المنطقة، أما الذين يعرفون هذه المنطقة، وخدموا فيها فإنهم يدركون تمام الإدراك ما يعانيه

ص: 36

المفتشون هناك من جهد وما يقاسونه من نصب وتعب شديدين. .

وإذا أرادت وزارة المعارف خدمة العلم ومصلحة القائمين به وحرصت على نشر المعارف مخلصة في ذلك، فعليها أن تخصص لمفتش المعارف باخرة صغيرة (رفاص) اسوة بما تعمله غيرها من الوزارات، كوزارة الصحة، والأشغال، أما إذا ظل الحال على ما هو عليه، فلن تؤني هذه المدارس أكلها كما يجب، ولن تعظم استفادة الأهلين منها، فعلة ولاة الأمور أن يعطوا هذا الرجاء حقه من العناية والاهتمام. .!!

عبد الحفيظ أبو السعود.

ص: 37

‌الجامعة والأساتذة

للأستاذ وديع فلسطين

أثار الصديق الأستاذ عباس خضر - في تعليقه على كلمة للأستاذ توفيق الحكيم - موضوع اختيار الجامعة المصرية (ونعني جامعتي فؤاد وفاروق) لأساتذتها، فقال إن الجامعة لا تزال تقصر أمرها على أساتذتنا (ولست أدري هل فكرت في الارتفاع بأعلام الأساتذة غير الرسميين أو لم تخطر لها هذه الفكرة بعد؟ والواقع أن هؤلاء الأعلام اساتذة في جامعة ليس لها مكان محدود ولا نظام موضوع).

وللتفكهة أذكر أن معهد التحرير والترجمة والصحافة في جامعة فؤاد فكر من بضع سنين في الأستعانة ببعض كبار الصحفيين المصريين للاشتراك في موسم محاضرات معهدية فيلقى كل منهم محاضرة عن اختباراته وتجاريبه في الصحافة العملية ليكون للطلاب إلى جانب دراستهم النظرية إلمام عملي بالمهنة التي تهيئهم الجامعة لها بعد التخرج.

وأعدت قائمة بأسماء الأعلام من الصحفيين فذكرت فيها أسماء الأساتذة: مريم ثابت بك، وعباس محمود العقاد، وفؤاد صروف، وطائفة أخرى. فأعترض المسؤولون في المعهد على هاته الأسماء الثلاثة قائلين: إن أصحابها لا يحملون مؤهلات جامعية، ولا تقرن أسماؤهم بألقاب مما تسبغه الجامعة على طلابها. وقد أستبعد هؤلاء الثلاثة فعلاً، ولم يدعوا للاشتراك في هذا البرنامج الموسمي!

وبعد ذلك، هل للمرء أن يسأل: كم من الصحفيين اللامعين الناجحين اخرجهم هذا المعهد الذي اقتصرت تبعة التدريس فيه على الأساتذة الجامعيين.

وبهذه المناسبة أذكر أن جامعة أمريكية سمعت أن صياداً بارعاً قريب من دارها، وأنه تضلع في صيد الحيوان البري والحيوان المفترس، حتى سجل في هذا المضمار أرقاماً قياسية غير مسبوقة. فما كان من إدارة الجامعة إلا أن تعاقدت مع هذا الصائد الأمي ليلقى على طلاب علم الحيوان سلسلة من المحاضرات بلغة مفككة متخاذلة وركيكة يبسط عليهم فيها عادات الحيوان ومغامراته في صيده ومقابلات بين القوى البدنية لكل من هذه الكائنات الحية؛ ولم تجد الجامعة ولا مجلس إدارتها ولا أساتذتها في هذا التصرف عيباً ينتقص من قدرها، وإنما عدته سبقاً وكسباً لم يتح مثلهما لجامعة أخرى.

ص: 38

ومن يدري، فقد يقوم بين رجال الجامعة من يسأل: وما هي مؤهلات شوقي الجامعية حتى ينشأ له كرسي باسمه في كلية الآداب؟ هل تخرج في كلية الآداب؟ أو هل منح درجات علمية معترفاً بها؟.

إن الحياة كثيراً ما تكون أقدر على إعداد المرء ثقافياً وعلمياً من الجامعة. وقد أعترف جورج برنادشو بأنه لم يدخل جامعة ولا معهداً عالياً، وأنه كان خامل الذكر في دراسته الابتدائية. وعندنا في مصر الأستاذ سلامة موسى، فقد اعترف بأنه لم يهيئ لنفسه دراسة عالية نظامية في جامعة أو في سواها من معاهد الثقافة الرفيعة، وإنما غرف ثقافية من العلم المشاع في المكتبات مرتكناً على قوة ذاتيته وصدق عزيمته.

وأمامنا الأستاذ عباس محمود العقاد، الذي يكفي أن يقدم كتاباً من كتبه - بغير اختيار - إلى الجامعة لينال عليه درجة الدكتوراه. ولكن هذا لن يحدث في مصر، لأن على الأستاذ قبل ذلك إن ينال درجة الليسانس، تتلوها درجة الأستاذية، ثم مرتبة الدكتوراه!

وعندنا كذلك الأستاذ فؤاد صروف الذي كان اول من كتب في مصر عن تحطيم الذرة، وفلق نواتها، وإطلاق الطاقة الذرية من عقالها واستخدامها في شؤون السلم وامور الحرب. وكان من اقدر الذين تعمقوا في درس علوم الطبيعة وسائر العلوم، وله في ذلك مؤلفات تنم عن تأصل وتثبيت واقتدار. وكان من الذين ابتدعوا مصطلحات علمية لمترادفات لها اعجمية، فقال عن الكلوروفيل (اليخضور)، وعن الهيموجلوبين (اليحمور)، وعن الأسمنت المسلح (الأبرق)، وعن الإيستوب (النظير) وما إلى ذلك. . . وكل سفر من مصنفاته يعده بدون أدنى شك للظفر بدرجة الدكتوراه من أكبر جامعات العالم، أما في مصر فلا.

وقد يذكر قراء الرسالة أنني اقترحت من نحو عام على جامعة فؤاد أن تمنح درجة الدكتوراه الفخرية لرواد الحركة الفكرية الحديثة في مصر ولأقطاب السياسة وفقائها المعاصرين. وذكرت يومها أسماء الأساتذة: فؤاد صروف، وأحمد أمين بك، وأحمد حسن الزيات، وأنطون الجميل باشا، وخليل ثابت باشا، وخليل مطران بك، ومحمود تيمور بك، وسابا حبشي باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وعبد العزيز فهمي باشا، وقلت يومئذ: إن هؤلاء جميعاً يستحقون الدكتوراه الفخرية اعترافا من جامعات مصر بالخدمات الجليلة التي أسداها كل منهم في ناحية من نواحي الحياة العامة. ولكن الجامعة لم تأخذ بهذا الرأي، وإن

ص: 39

كانت قد منحت الأستاذ أحمد أمين بك هذه الدرجة في ما بعد في غير احتفال ولا احتفاء.

وصفوة القول إن الجامعة في حاجة إلى شيء من سعة الأفق في التفكير، فالشهادة لا تقوم صاحبها ولا ترفع من قدره الثقافي الفكري. ومهمة القائمين على هذه المؤسسة العلمية الكبيرة أن ينقبوا عن ذوي الكفاءات ليستغلوها خير استغلال، وليكن هذا التنقيب في مصر اولاً، ثم في الخارج، لأن الفقهاء المصريين كثيراً ما يتميزون على أقرانهم من الذين (يستوردون) من الخارج. ولو ترك الأمر لي، لعينت مثل الأستاذ نقولا الحداد استاذاً لنظرية التطور في ذلك المعهد، وعينت الأستاذ فؤاد صروف أستاذا للعلوم الذرية، وعينت الأستاذ توفيق الحكيم أستاذا للسيكوباتية. . . . وهكذا. . . . فهذه الكفايات المهملة لا ينبغي إن تظل مبعدة عن النطاق الجامعي، ولا يصح إن تظل أما معطلة أو غير مستثمرة استثماراً ينفع الجيل الجديد.

ولقد قال لي الصديق الدكتور إبراهيم ناجي مرة: كان ينبغي إن تأسرني الحكومة مع الأستاذ سلامة موسى والدكتور سعيد عبده في مكتبة علمية وتطلب منا إن نصدر لها دائرة معارف طبية ومصنفات علمية طبية. فحرام أن تشتت الجهود أو توزع القوى هكذا.

إن مهمة الجامعة هي مهمة مزدوجة: التوجيه والإعداد. وفي مصر من ذوي الكفاية من يرفعون قدر البلاد و (يطيلون نحرها). وما على إدارة الجامعة إلا أن تضع هؤلاء في موضعهم ليتمكنوا من إعداد الطلاب إعداداً طيباً.

وحينذاك لن تجد من يختلف على هل يعين الأستاذ الزيات في كرسي شوقي بك استجابة لاقتراح الأستاذ توفيق الحكيم، أم هل يكون شاغله من نطاق الجامعة الحالي؟

وديع فلسطين.

ص: 40

‌رسالة الفن

الزهريات

للدكتور أحمد موسى

هي أوعية وألوان تسمى مشكاة يقابلها باللاتينية ليست لها فائدة عملية تذكر بالقياس إلى قيمتها الفنية لطالبي الفن واللغوية لطالبي اللغة الإغريقية وتطورها. ومع ضآلة فائدتها العملية فإنها من أهم ما عنيت بصنعة الشعوب المتحضرة بغية تجميل الحجرات أو الحدائق، سواء وضعت فيها الأزاهير أو لم توضع.

وعملت كحليات للأعمدة وحيناً آخر وضعت إلى جانب القبور، وكانت من الطين المحروق أو الصيني أو الزجاج، كما أنها صنعت من الرخام أو المرمر أو من حجر الألباستر أو من المعدن.

ولا يعنينا من أنواع الزهريات في هذا المقال سوى النوع الإغريقي الكلاسيكي بالنظر إلى المستوى الفني العظيم الذي بلغه الأغارقة في كل ما تناولوه.

ولا تعرف الدراسات الفنية هذه الزهريات إلا في فجر القرن الثامن عشر عندما بدأ ظهورها بين المخلفات الأثرية بكثرة لفتت النظر اليها والعناية بها، فكانت منذ ذلك الوقت موضع الدرس والتأريخ، لما حوته من مصورات عجيبة فائقة في الدقة والجمال، فضلا عما تناولته هذه المصورات من إيضاح النواحي القصصية والاجتماعية والمدنية والتاريخية إلى حد مثير لكل إعجاب وتقدير، وكانت بذلك أشبه شيء بسجل حافل لكل راغب متأمل.

وتنوعت أشكالها تنوعاً كبيراً ولكنها لم تخرج ابداً على رشاقة التكوين الكلي، على أن العناية بفحصها من الناحية الفنية كانت متأخرة عن فائدتها من الناحية التوضيحية للقصة وللحياة الإغريقية كما سبق التنويه.

وإذا كان تاريخ الفن لم يعرف هذه الزهريات إلا منذ فجر القرن الثامن عشر؛ فإن دراستها وتبويبها من حيث التكوين الكلي والشكل ولون أرضيتها ولون المصورات التي رسمت عليها، والمدارس الفنية التي عملت فيها لم يبدأ بصفة حاسمة إلا منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما توافرت أسباب الدرس والفحص بتوافر العدد الموجود من كل نوع منها

ص: 41

وأقدم الزهريات الكلاسيكية جميعاً عثر عليه في طبقات أرض ترويا وهي المدينة القديمة في آسيا الصغرى (منطقة الدردنيل) حيث قامت الحرب سجالا بين الأمير مينيلاوس لأستيراد زوجته وبين باريس الذي اختطفها لنفسه، كما تتضح أخبارها في إلياذة هورميروس.

وكانت هذه الزهريات معمولة بيد الإغريقي دون الأستعانة بقرص الإدارة الذي يستعملونه حتى اليوم في صناعة الأواني الفخارية، كما أنها كانت من الطين المحروق دون تلوين، ذات شكل كروي أو أقرب ما يكون إليه، يعلوه عنق أو رقبة أسطوانية غالباً، كما برز من جانبين منها إصبعان مثقوبان للاستعانة بهما في رفعهما وفي تثبيتها إلى المكان الذي تعلق فيه من حبل مار بالثقبين المذكورين بدلا من المقبضين الذين جاءا في الزهريات المتأخرة (ش1).

وكانت زخارفها في أول الأمر بسيطة لا تخرج عن خطوط حفرت حفراً على سطحها حيناً، أو لصقت بها قطع من الفخار صغيرة للغرض نفسه حيناً آخر (ش1).

وأبسط أشكالها على هيئة كرة ذات عنق غاية في القصر بالقياس إلى أرتفاع البدن الكروي، زودت برسوم بارزة لحيوان أو إنسان أو زخرف من نبات (أنظر الستة الأشكال التالية).

وكان هذا النوع الجدير بالدراسة كثير الصنع في قبرص وله أشباه في سوريا وتبريز في أرجوليس التي تخربت في عام 468 ق. م.

ووجدت منها أنواع قديمة يرجع تاريخها إلى نحو عام 2000 ق. م، ومن العجيب أن هذه مع قدمها صنعت بواسطة القرص الدائر، علاوة على أنها كانت مزودة بنقوش ملونة بألوان غير لامعة، وهي بهذه الصفة تشبه نظائرها مما وجد في ميكينا

وللتفرقة بين هذه الأنواع (الكلاسيكية) قديمها والجديد، نجد أن أبرز الفوارق يتلخص في أن القديمة كانت رسومها غير لامعة أما الجديدة منها (1500 ق. م) فإنها قد تميزت بما ظل مميزاً لكل الزهريات ومصنوعات الفخار الإغريقية بصفة عامة، ألا وهو استخدام الألوان المشتملة على الورنيش في تركيبها -

وكانت الأوان رقيقة صافية نقية على سطح أملس ذي لون مائل إلى الصفرة، بحيث يصبح

ص: 42

اللون الزاهي والأسود الداكن على أكمل وجه من الانسجام.

والأشكال الخارجية للزهريات الكلاسيكية الإغريقية عديدة، لم يميز مرحلتها الأولى عن سواها إلا الشكل المقوس على مقبضين جانبيين مقوسين.

وأخذت الزخارف شكل خطوط متوازنة في أتجاهات مختلفة ومتقاطعة، وشغلت جزءاً محدوداً من سطحها حيناً، وحيناً آخر شغلت معظم ذلك السطح، إلى جانب الوحدة الزخرفية المكونة من (الحلزونية) المحببة إلى نفوس الإغريق.

وكذلك وحدات خيالية بديعة للزهر الملتف حول سيقانه، وزهور الماء، والخطوط التي تسير في شكل موجات وأشكال أسماك ونجوم بحرية وأشكال مرجانية وصدفية من مختلف الأنواع.

وأنتشر هذا الطراز من الزهريات في مناطق عديدة نذكر منها على وجه التخصيص منطقة ميكينا والساحل الشرقي لبلاد الإغريق والجزر الإيجية وجزيرة رودس كريت. وهذه كلها يرجع تاريخ الزهريات فيها إلى نحو عام 1500 ق. م كما سبق التنويه

وهناك نوع أشتهر بأسم الزهريات الديبلونية نسبة إلى المكان الذي وجدت فيه عند اثينا وكانت هذه أقل قيمة من ناحية الصنعة والزخرفة الفنية بالقياس إلى تلك التي وجدت في ميكينا، ذلك لأن الفخار الذي صنعت منه كان أكثر خشونة وسطحه أكثر احمراراً، وعملت الوحدات الزخرفية بألوان حمراء بنية مضافة إلى الورنيش المخفف، كما أنها بلغت حجماً كبيراً في كثير من الأحيان، وقد أحاطت بها الزخارف أشبه شيء بحزام التف حولها، وتكونت من خطوط متقطعة أو متصلة وخطوط متكسرة ومجموعات من النقط ودوائر داخل بعضها في البعض أو حلزونية التصميم، أما صور الحيوان أو الطير فقد رسمت في المناطق المربعة الشكل الخالية من الزخارف. وكانت الصور في مجموعها غاية في الباسطة؛ فجاءت الزهريات جافة المظهر لا حياة فيها، على أنها من ناحية تاريخ الفن ذات قيمة لا تنكر لأنها استغرقت المرحلة الزمنية بين الزحف الدوري (1104 ق. م) وبين القرن السابع قبل الميلاد، وهي بهذا تعتبر الأساس الأول الذي أقيم عليه فن عظيم خالد.

وجاءت الزهريات القبرصية متميزة على الأثُينية بنعومة الطين المصنوعة منه، سطحها ذو لون أصفر فاتح، سمت عليها المصورات بألوان الأسود البني والأبيض والأحمر، لبيان

ص: 43

الزهور الخيالية والورود الابتكارية التي تعتبر أسلوباً زخرفياً جديداً يسجل الأثر الشرقي والاقتباس من الشرق!

وإذا كانت الزهريات القبرصية قد حملت الأثر في وضوح، المهارة التي تجلت من خلال رسوم الأجسام المختلفة والتي تبين الاتجاه الفني عند الإغريق، وذلك بتأمل الطريقة التي اتبعوها في ملء الفراغ بما لا يتنافى مع إظهار الصور في أروع أسلوب ممكن برغم قيود الشكل التكويني؛ فنجد أن بدن الزهرية قد قسم في مهارة إلى أقسام تفصل بينها خطوط، وتشغل مساحاتها مجموعات من صور حيوانات منها على وجه التخصيص الوعل والماعز الوحشي والأسد واقفاً أو رابضاً كأبي الهول وملئت الفراغات بزخارف وحداتها من براعم الزهر أو من أشكال هندسية كالدوائر الحلزونية وغيرها مما يشابه إلى حد كبير الزخارف التي كانت عند الميكينيين.

وتطور النشاط الفني إلى اقتباس المعاني من الياذة هوميروس والتعبير عنها بالصور التي رسموها على الزهريات، وقد وجدت أسماء المصورين في ركن منها، وأصبحت كتابة الأسماء هي القاعدة فيما بعد، فلا ترى زهرية دون أسم مصدرها إلا فيما ندر.

وكان من الطبيعي أن يصبح أسم المصور لازماً للمؤرخ الذي يريد تبويب الزهريات تمهيداً لدرسها، فضلا عن أنها أظهرت من ناحية لأخرى تطور الحروف الأبجدية الإغريقية.

وصادفت الزهريات الرودسية بالمقارنة بغيرها من الأنواع ذيوعاً وانتشاراً في القرنين السابع والسادس ق. م. في بلدان ساحل آسيا الصغرى وفي الجزر المجاورة، فازدهرت صناعتها وذاع صيتها وامتد سلطانها نحو الغرب حتى بلغ وسط إيطاليا (أثروريا أو توسكانا)، وهذا دليل قوي على ما بلغته من المستوى الفني، سواء من حيث أحجامها أو من حيث مادة صناعتها أو التفنن في زخرفتها، مما سيكون أكثر وضوحاً وأسهل تناولا في المقال التالي.

أحمد موسى

ص: 44

‌موعد.

. . .

للأديب محمد محمد علي السوداني.

إذا ما الروض ناجاني

بأنفاس العبير ضحى

وغناني ربيب الرو

ض صوتاً ناعماً فرحاً

وهلل خاطري للطير

يقفز فاتناً مرحاً

بكى جفني بكى قلبي

بكى روحي لرؤياك

إذا ما الغيم رف على

شعاع البدر ثم جرى

سريع الخطو لا يدري

إلام يواصل السفرا

وفاض النور من أبها

ئه في الأرض وانتشرا

مشت أحلامي الولهى

تطوف حول مثواك

تعالي ها هو المقعد

لهيف يرقب الموعد

تذكر فيك عهد الرو

ح بين غصونه الميد

لهيف ضارع من نفسي

وأرحمه لذكراك

أغار عليك من نفسي

وأرحمه لذكراك

سمعتك في خرير الما

ء جاز الصخر مندفعا

وفي أنشودة الطير

على هام الربى سجعا

وفي إطراقه الكون

إذا ما الكون قد هجعا

فإنك في دمي لحن

يهدهد قلبي الشاكي

رأيتك في طيوف الفجر

في أندائه السكرى

ترفرف حولك الآما

ل والأفراح والبشرى

وفي خطراتي المشبوبة

المذعورة الحيرى

فهل في ليلتي هذى

ترى عيني محياك

محمد محمد علي السوداني

ص: 45

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

حب الرافعي:

تلقيت في هذا الأسبوع خمسة أعداد من مجلة (الإحسان) التي أصدرتها في هذا العام الجمعية الخيرية الإسلامية بحلب وهي زاخرة بالموضوعات الأدبية والاجتماعية، يشرف على تحريرها الأستاذ حسنين حسن مخلوف المفتش بوزارة المعارف المصرية والمنتدب استاذاً بالكلية الإسلامية بحلب، وهو من الأدباء الذين يستهلكهم التعليم، وقد رأيت له بالعدد الثاني فصلا عنوانه (في مجلس الرافعي) أتى فيه على محادثة جرت بينه وبين الرافعي، افضى - أي الرافعي - اليه فيها أنه يحب الآنسة (مي) وأنها هي التي أوحت اليه ما كتب في فلسفة الحب والجمال. وذكر الأستاذ أنه قال للرافعي في هذه المحادثة:(أكبر ظني أنك قرأت كثيراً من الأدب الأوربي المترجم في الحب، وعرفت أنه كان سبباً في شهرة الأدب في العالم تصوير العواطف الإنسانية ممثلاً في المرأة، ولقد استفاض هذا الفن ممزوجاً بالفلسفة الاجتماعية التي سرها إيحاء المرأة؛ فأردت أن تحدث في اللغة العربية حدثاً جديراً لم يبرع فيه أحد في اللسان العربي على هذا النحو الأوربي العميق؛ فتعلقت بأذيال هذه الكاتبة الأدبية وكان بيتها منتدى يجتمع فيه العلماء والأدباء في مصر. حضرت مجلسها ثم شغلت بها نفسك لتكتب هذا النوع من أفانين العشق، وكتبت إليها وما بها بأس أن تكتب إليك، فطرت فرحاً بهذا الحب حتى تخيلته حباً خالصاً إليك وتفلسفت ما شئت في تصوير العواطف منها واليها) وقال الأستاذ مخلوف تعقيباً على ذلك: (وعز علي الرافعي أن أصور حبه على هذا النحو وأدور به في هذا المنحني، فلم يحدثني عن حبه بعد ذلك وكان يحدث به الناس).

ويظهر من ذلك أن الأستاذ مخلوف، وهو من تلاميذ الرافعي يرمي إلى إبداء رأى في حب الرافعي، فيقول بأنه حب مصنوع يقصد منه إلى إحداث لون من الإنتاج الأدبي.

وكان على مقربة مني وأنا أقرأ مقال الأستاذ مخلوف، صديقي الأستاذ كامل محمود حبيب، وهو ايضاً من تلاميذ الرافعي، فدفعت اليه المجلة، وقرأ المقال، ثم نظر إلى ونظرت اليه وأنا أتوقع معارضته لرأي الأستاذ مخلوف، وإذا هو يضيف شيئاً آخر، قال: لقد كان

ص: 46

الرافعي متديناً شديد التمسك بالدين، وكان يشعر من هذا بجفاف قلبه، فأراد أن يرقق قلبه بالحب، وأن يرقق أسلوبه بقراءة القصة الحديثة (الطويلة والقصيرة) وأراد أن يشعر الناس بهذه الرقة بالكتابة في الحب على أسلوب فحسب، بل كذلك في اللغة، إذ كانت تظهر على أسلوبه المسحة الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والحديث الشريف.

هذان رأيان في حب الرافعي لتلميذين من تلاميذه، والرأيان - كما يرى - يتجهان إلى غاية واحدة، هي أن الرافعي لم يكن صادق الحب. ولمن شاء بعد ذلك أن يقول إن ما كتب الرافعي في تصوير العواطف وفلسفة الحب والجمال، ينقصه (الصدق الفني).

فهل عند أحد من سائر تلاميذ الرافعي شيء في هذا الموضوع؟. . .

مجلة الإذاعة:

قالت مجلة الإذاعة المصرية: (يدور البحث في دور الإذاعة العالمية وفي الإذاعة المصرية في هذه الأيام حول سؤال على طرافته خطير نطرحه على مستمعينا ليشتركوا معنا في دراسته وتبين وجه الحق فيه: هل تكون مهمة الإذاعة مجاراة ميول الجمهور أم رفع مستوى الذوق العام؟) ثم قالت إن قسم الرغبات بدار الإذاعة المصرية مفتوح الباب لما يقول المستمعون في هذا الشأن.

وأقول إن هذا البحث لا يحل مشكلة إذاعتنا، لأنها ليست ناشئة من مجاراة الإذاعة لميول الجمهور أو من عملها على رفع مستوى الذوق العام، ولو كان الأمر كذلك لرضى عنها الجمهور إن كانت تجارية، أو رضى عنها المثقفون إن كانت مرتفعة عن ذوق الجمهور. والواقع أنها لا ترضى عامة الجمهور فيما تزعم أنها تقدمه ملائماً لهم، ولا تنال رضا الخاصة بما تزعم أيضا أنه للخواص.

إن القائمين بأمر الإذاعة ليسوا من ذوي الأختصاص، وأكثرهم محمول عليها من المهن الأخرى، ويلي مناصب هامة فيها من وصل إليها بغير الكفاية، والعناصر القليلة الصالحة فيها هم بعض الشباب الذين ليس بيدهم شيء من القيادة وأكثرهم الذين تقدمهم الإذاعة يعرفون الطريق إلى توثيق صلاتهم بأولئك المشرفين؛ ومثال هذا العلاقة بين مؤلفي التمثيليات والبرامج الخاصة وبين المخرجين، فالأولون من خارج الإذاعة، والآخرون من موظفيها. ويعرف المؤلف أن (جواز) مؤلفه أن يخرجه فلان أو يقال إنه أخرجه. وينشأ من

ص: 47

كل ذلك تقديم غير الصالح على الصالح والتكرير الذي يمل من الحسن ويزيد السخيف سخفاً.

تلك هي العلة الحقيقية في إذاعتنا المصرية، وهي ما يجب أن يعالج اولاً. أما مسألة النزول إلى مستوى الجمهور أو رفع الذوق العام، فتأتي في المرتبة الثانية. على أن هذه المسألة إن كانت تبحثها إذاعات البلاد المتقدمة في الثقافة والتعليم فلأن لها عندهم موضوعاً، لأنهم يتجاذبون الرأي بين مسايرة الجمهور في ثقافته العادية وبين الارتفاع إلى مستوى ذوي الثقافات العليا، أما عندنا فالجمهور عامي والغالبية أمية، فهل تكون مهمة الإذاعة (الدردشة) مع العامة والإبقاء على انخفاض الذوق العام. . .؟

ذكرى سيد درويش:

كان يوم الأربعاء 15 سبتمبر الحالي يوم ذكرى الموسيقى المصري الخالد سيد درويش، وقد مضى على وفاته ربع قرن فأحتفى بهذه الذكرى معهد الموسيقى الشرقي بالإسكندرية إذ أقام في مساء الأربعاء حفلة نقلتها الإذاعة إلى المستمعين. وذد كان من حسنات هذه الحفلة ما تضمنته من قطع غنائية وموسيقية من فن سيد درويش، فكانت خير تحية لذكراه وأفصح دليل على استحقاقه الخلود، وإن قصر القائلون في ذكراه فقد وفى نفسه بنفسه.

لقد جعل سيد درويش الموسيقى والغناء فناً معبراً مصوراً له موضوع، بعد أن كان مجرد أصوات للتطريب، واستوحى الببئة وعبر عنها وارتفع بذوقها. وأحس إحساس الفرد الممتاز بالآم الجماعة وآمالها فجمع في الهتاف بها بين القوة والجمال، وأثبت بعبقريته الفذة أن الفن الحقيقي هو الذي يحيي النفوس وهو يمتعها.

لقد ردد القائلون والكاتبون في ذكرى سيد درويش مآثره وأعماله فقالوا إنه أذكى الثورة سنة 1919 بأناشيده وألحانه، وإنه أدى على المسرح تمثيليات موسيقية كان لها أثر في الوعي القومي والتوجيه الوطني. ونحن الآن نسمع ذلك ونتلمس في حاضرنا ما يشبهه، فنأسى للرجوع إلى مجرد التسلية والتلهية، وانحصار التجديد في تصوير المشاعر المترفة.

ثلاثة عبروا عن الشعب وخاطبوه فأثروا فيه: سيد درويش في الموسيقى، وحافظ إبراهيم في الشعر، والمنفلوطي في الكتابة، وقد عاشوا جميعاً في الربع الأول من هذا القرن، أوائل في منحاهم ولم يتكرروا.

ص: 48

عاشوا بأدبهم وفنهم مع الشعب، أخذوا منه موضوعاتهم، ولم يبعدوا عنه بالأداء، بل جذبوه بالطلاوة والسهولة، والروح التي يشعر بها ويجدها فيهم. لم يترفعوا عليه، ولم يبتذلوا بالنزول إليه.

وحظ الوطن بأولئك الثلاثة وإن كان كبير القيمة إلا أنه قليل العدد، لأنهم ثلاثة من عشرات الأدباء والفنانين البارزين، وهذا مع حاجة الوطن إلى ما يلائم العصر من لون إنتاجهم الديمقراطي في الأدب والفن.

شهر اليونسكو:

أشرت في الأسبوع الماضي إلى الخطة التي وضعتها اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية لتنظيم مظاهر النشاط الثقافي والعلمي والأدبي والفني في خلال المدة التي يجتمع فيها مؤتمر اليونسكو ببيروت والتي يطلق عليها (شهر اليونسكو).

وأذكر اليوم أهم مقترحات اللجنة التي ألفت لتنظيم شهر اليونسكو، وقد تمت الموافقة عليها:

تدعو اللجنة الثقافية جميع الحكومات العربية لمشاركة لبنان في تنظيم المعارض والحفلات الفنية وسواها من المظاهر الفكرية والثقافية التي ستقام في بيروت أثناء أنعقاد مؤتمر اليونسكو بها. وتعد الحكومة اللبنانية معرضاً علمياً يمكن نقله بعد أنتهاء المؤتمر إلى أي بلد عربي يرغب في ذلك. ويقام معرض تشترك فيه جميع الدول العربية يقسم إلى ثلاثة أجنحة، جناح للتربية، وجناح للفنون، وجناح للمطبوعات والمخطوطات والصحافة العربية.

وتنظم الحكومة اللبنانية سلسلة من ثماني محاضرات تلقى بالفرنسية أو الإنجليزية؛ وتختار - إذا أمكن - محاضرين عن كل قطر عربي بالاتفاق بينها وبين الحكومات لموضوعي الحضارة العربية، والنهضة الحديثة في الشرق العربي.

وتقرر إحياء ليلتين عربيتين بالموسيقى والغناء والرقص، تحيي لبنان واحدة، وتشترك البلدان العربية في إحياء الثانية. وتنظم الحكومة المصرية حفلة مسرحية، وتعرض بعض الأفلام العربية الجيدة التي تصور مظاهر الحياة العامة في الشرق العربي. وطلبت الحكومة اللبنانية بوساطة اليونسكو بعض الأفلام العلمية والتربوية والثقافية من أوربا وأمريكا.

ص: 49

ذكرى ابن سينا:

وقد تقر أيضاً في أجتماع اللجنة الثقافية بلبنان، أن يحتفل بمرور ألف سنة على مولد ابن سينا. وتتخذ لذلك الوسائل الآتية:

1 -

حصر مؤلفات ابن سينا ورسائله الموجودة في مكتبات مصر والأقطار العربية الأخرى وتركيا وإيران وبلاد الغرب. ثم تقوم الإدارة الثقافية للجامعة العربية بأخذ صور فوتوغرافية لها، فإن تعددت النسخ أخذت صورة أحسنها، فإذا أجتمع للإدارة الثقافية صور المخطوطات غير المطبوعة من مؤلفات ابن سينا، استخرجت منها نسخاً بعدد الأقطار العربية والتركية والإيرانية وأهدت إلى كل قطر مجموعة منها تودع خزائن خاصة في دور كتبه تخليداً لذكر ابن سينا وإظهار لعظمته.

2 -

تعهد الإدارة الثقافية إلى لجنة من المختصين، بنشر آثار ابن سينا نشراً علمياً.

3 -

تعهد الإدارة الثقافية إلى لجنة مختارة، بفحص خير الأبحاث التي كتبت عن ابن سينا في اللغات العربية والفارسية والتركية واللغات الغربية، وترجمة ما لبس بعربي منها إلى العربية وجمعها في كتاب تنشره الإدارة الثقافية.

4 -

إعداد مهرجان عربي يقام في إحدى عواصم الدول العربية، ويعد له باستكتاب المختصين أبحاثاً عن حياة ابن سينا وآثاره، ويلقى بعض هذه الأبحاث في المهرجان ثم تجمع وتطبع وقد رؤى أن أليق العواصم لهذا المهرجان بغداد، فاستقر الرأي على إقامته فيها.

5 -

إنشاء مؤسسة تذكارية علمية تخلد ذكرى ابن سينا في الطب والفلك وغيرهما من العلوم وتنشط الحركة العلمية العربية المعاصرة.

6 -

إقامة معرض في المهرجان تعرض فيه آثار ابن سينا المطبوعة والمخطوطة لهذه المناسبة.

من طرف المجالس:

نحن اليوم في جلسة نسائية بين مطربة بيرة وسيدة أخرى قالت الأولى للثانية وقد خلا المجلس إلا منهما:

ص: 50

- من هذه الست المكتئبة المتشحة بالسواد؟

- هذه الست فلانة. مسكينة. . . . كانت متزوجة أحد القضاة ومات، وتزوجت فلان بك ومات، تزوجت. . . فقاطعتها مكملة: مات! ثم تمصصت شفتيها وقالت: كل من عليها فان.

عباس خضر.

ص: 51

‌البريد الأدبي

مساواة ضيزى:

في مقال الأستاذ الكاتب الغيور نقولا الحداد (فصيلة المخلوفات الخبيثة) في العدد (791) من الرسالة، الغراء جاء قوله: هل يعلم القراء أنه مكتوب على أبواب بعض الفنادق الأمريكية (ممنوع دخول اليهود والكلاب إلى هذا الفندق)؟

وجوابي الصريح أن هذه العبارة الأمريكية إنما تحمل من المدح أضعاف ما تحمله من القدح لأولئك الذين سماهم الأستاذ بحق - فصيلة المخلوقات الخبيثة. . . ذلك بأنها تسوى - خطأ - بين اليهود والكلاب وتفض الطرف عن أمور كان يجمل أن تأخذ محلها من الاعتبار في سياق المساواة، واليك البيان:

1 -

قال الشاعر:

وما يك فيّ من عيبِ فإني

جبان (الكلب) مهزول (الفصيل)

2 -

وقال الآخر:

ألا ليتنا يا عز من غير ريية

(بعيران) نرعى في الخلاء ونعزب

وددت - وبيت الله - أنك (بكرة)

هجان، وأنى (مُصْعَب) ثم نهرب!

3 -

وقال غيرهما:

يغشون حتى ما تهر (كلابهم)

لا يسألون عن السواد المقبل

4 -

وقال الضليل:

وجيد كجيد (الرئم) ليس بفاحش

إذا هي نصته، ولا بمعطل

5 -

وقال:

نظرت إليك بعين (جازئة)

حوراء حانية على طفل

6 -

وأخيراً قيل في الطير دع النعم:

لو أطلع (الغراب) على [يهود]

وما فيها من السوءات شابا!. . . الخ

وبعد: فمن محصل أقوال القائلين أو بالصح أبيات الشاعرين يستفاد أن بعض الحيوان الأعجم - وصفاً وحالا - أعظم قدراً وأنفع للناس من فصيلة المخلوقات الخبيثة. . . أولئك الذين بدت سواءتهم للعيان في مجازر دير ياسين وطبرية وحيفا ويافا وغيرها من رقاع

ص: 52

فلسطين. . . وشتان بين كلب يحرسك وخبيث منهم يفطم الولد، ويبقر البطن، ويقتل الجنين!!

ثم ماذا؟ ثم يبقى أن نقول إن مساواة العبارة الأمريكية اليهود بالكلاب، وتشبيه الأستاذ صاحب المقال هؤلاء بفصائل الحيوان الأعجم هو مساواة ضيزى وتشبيه مع الفارق. هذا الذي ببنت بعضه أبيات الشاعرين، والبعض قد يغنى عن كل وبخاصة في مثل مقامنا، والسلام.

(الزيتون)

عدنان

إلى أبناء العروبة.

لم يعرف تاريخ مصر الحديث قائداً عبقرياً ولا مجاهداً عربياً ولا فاتحاً مصرياً دامت له عديد الأمصار ورفع علم العروبة خفافاً في العالين كما عرف ساكن الجنان إبراهيم باشا - فلقد استطاع الفاتح المصري العظيم أن يلقى على الدنيا درساً لن ننساه حتى ذهبت سيرته مثلا أعلى في التاريخ تقرأ في الجامعات وتدرس في الكليات التي تخصصت في تفهم سير الأبطال التي غيرت فتوحاتهم مجرى التاريخ. . . وها نحن أولاء على أبواب (المائة عام) التي مضت على انتقاله إلى جوار ربه راضياً مرضياً ونحن اشد ما نكون حاجة إلى إعادة مجده واستذكار فتوحاته وأعماله - فهل للعروبة في مشارق الأرض ومغاربها، وهل للقادة من رجال الفكر ألا يعلموا على إذاعة هذه الذكرى التي تعبق بتاريخ العزة والنصر، وتفعل في النفوس فعل السحر وتدفع بالأمة العربية الباسلة إلى أن تترسم خطاه حتى تكون من تحقيق أمله قاب قوسين أو أدنى.

محمد عبد الوارث الصوفي.

الأمجاد ليست جمعاً للمجد:

طالعت في العدد الأخير من الرسالة الغراء ما دبجه يراع الأستاذ الكبير محمود رزق سليم المدرس بكلية اللغة العربية تحت عنوان: من وحي حماة: وقد أفتتح الأستاذ كلامه بقوله (لا

ص: 53

أدري لماذا يهزني شوقي إلى حماة ويهفو قلبي إليها كلما ذكرت ويردد لساني اسمها في كثير من التقدير. وأقف عند ترديده وقفة المتأمل المستلهم. مستعرضاً على ذاكرتي لمحات تاريخها الفياض فتشرق منه في سماه ومضات من أمجادها الماضية) والذي نأخذه على الأستاذ الجليل قوله (امجادها الماضية) وذلك لأن الأمجاد لم ترد جمعاً للمجد ولم نر المجد مجموعاً وقياس جمعه في القلة أمجد مثل سهم وأسهم. نعم قد جاء جمع فعل على أفعال ولكن في كلمات شاذة يجب أن نقف عندها ولا نتعداها. من ذلك فرخ وأفراخ: وزند وأزناد: وفرد وأفراد: اما أمجاد جمعاً للمجد فلم تذكر في كتب اللغة وإنما جاء أمجاد جمعاً لما جد أو مجيد. وفي الحديث (أما بنو هاشم فأنجاد أمجاد).

(الزقازيق)

محمد عبد المقصود هيكل

هاأنذا:

في العدد 793 كتب الأستاذ البشبيشي بجواز مثل هاأنا بائح ولكني هاأنذا أدعوك أن تتبع كل ضمير سبق بهاء التنبيه نجد خبره أسم إشارة بطابقه، والقرآن الكريم لم يخرج عن هذه القاعدة وكفى به شاهد صدق.

وعبارة أبن هشام لغة تأليف لا عبارة تحقيق، ولم لا تكون مما تؤخذ عليه؟ فلا تنهض لنهدم بها قاعدة.

ويبت البحتري لو أن الشعر وسعه أن يقول ها هو ذا لكان اشد تقريعاً لمخاطبته، فلا زالت القضية من وجوب الإتيان باسم الإشارة مطابقاً الضمير المسبوق بهاء التنبيه كما يقوله من يسميهم (المتأدبين) صحيحة.

وإليك عبارة المختار: يقال أين أنت؟ فتقول هاأنذا. والمرأة تقول هاأنذاه. ويقال أين فلان؟ فتقول. إن كان قريباً - ها هو ذا - وإن كان بعيداً ها هو ذاك.

وللمرأة إن كانت قريبة ها هي ذه - وإن كانت بعيدة ها هي تلك أه.

عبد الفتاح عبد الصادق الملامسي

مدرسة الإسماعيلية الأميرية للبنات

ص: 54

سودنة:

ليست هي تلك السودنة التي تقشعر منها الأبدان كلما ذكرت، بل هي سودنة خفيفة لطيفة، لم تفرضها السياسة وأساليبها الملتوية، وغايتها المظلمة، وإنما فرضها أمر يدل على وحدة التقاليد بين شطري الوادي، جنوبه وشماله، وخاصة ذات الطابع الديني منها، كتلك التي تحرص على أن تشرك الابن في جزء من أسم أبيه، لينال كل منهما شرف إطلاق (محمد) عليه.

نشرت (الرسالة) الغراء في عددها 792 قصيدة بعنوان (الدوحة الذاوية) وهي قصيدة كان على إن أسودنها قبل أن أدفع بها إليها فاضع بجانب اسمي (السوداني)، ذلك لأن الأستاذ (محمد محمد علي) يشاركني أو أشاركه في الاسم الكريم وقد سبقني إلى الرسالة شاعراً وكاتباً، وإلا لوجب عليه هو أن (يمصر) اسمه وأعفى أنا من هذه السودنة الخفيفة اللطيفة برغم اعترافي له بالسبق في ميدان العلم والأدب.

محمد محمد علي السوداني.

ص: 55

‌من الأقاصيص القصيرة:

الخوخ

للكاتب الروسي تولستوي

لما فرغ القروي (تيكو كوزميت) من جولته في المدينة، قفل راجعاً إلى منزله يحمل في إحدى يديه صرة صغيرة. فلما بلغ إلى صحن الدار نادى أولاده ثم قال لهم:

- انظروا يا أطفال ماذا بعث العم (إفريم) إليكم.!

فهرول الصغار إليه ثم توسطوه، بينما كان - هو - منصرفاً إلى فض الصرة لإخراج محتوياتها؛ فلما تم له ذلك، صاح (فانياُ) - وهو طفل صغير في نحو السادسة من عمره:

- تأملي يا أمي التفاح الجميل، كم هو رائع في احمراره!

فعقب (سيرج) - الابن الأكبر - على الفور:

-. . . بعيد عن الظن أن يكون هذا تفاحاً يا (فانيا)؛ جرب أن تتحسس ملمسه. . . ألا ترى له أثر ملمس زغب الدجاج في يدك! عندئذ قال الأب:

- إنه ليس تفاحاً يا ولدي. . . إنه فاكهة تسمى (الخوخ) أعتقد أنه لم يسبق لكم أن رأيتموها من قبل! إليك يا امرأة أكبر الخوخات؛ أما هذه الأربع، فأنها لكم يا أولادي!

وفي المساء، سأل (تيكو) أبناءه جميعاً كيف وجدوا الفاكهة الجديدة فأجاب (سيرج)، الابن الأكبر:

- لقد وجدتها سائغة المذاق جداً يا أبت، حتى لقد أزمعت غرس نواتها في آنية، لعلها أن تنمو وتثمر يوماً. . . وتصبح شجرة خوخ جميلة، تدر علي - في سخاء - مثل هذه الخوخات المستحبات! فتبسم الأب ثم قال:

- ربما كنت (يا سيرج) في قابل أيامك زرعاً كبيراً!

وقال الصغير (فانيا): أما أنا يا أبت، فقد وجدتها بالغة اللذة، فارطة الحلاوة، حتى لقد طلبت إلى أمي أن تعطيني نصف خوختها! أما النواة، فقد ألقيت بها! فهز الوالد رأسه ثم قال:

- إنك ما زلت بعد غريرا يا صغيري!

وقال الأبن الثاني فازيلي):

-. . . لما ألقى (فانيا) بالنواة. . . سارعت فالتقطتها، وقد وجدتها شديدة الصلابة، ولكنني

ص: 56

لم أيأس. . . وعالجت كسرها حتى أفلحت في ذلك أخيراً، وكم كان اغتباطي عظيماً يا والدي، إذ ألقيت داخلها لوزة لها مذاق البندقة! أما خوختي، فقد تدبرت أمرها برهة، ثم اخترت أن أبيعها على أن آكلها، مجتزءاً باللوزة الظريفة. . . . مأكولاً لذيذاً!

فضحك الأب ملياً لمقالة (فازيلي) ثم قال:

- إن الوقت لم يحن بعد لتبدأ أعمال التجارة يا فازيلي!

- أتراك تستعجل امتهان الحرفة التي تؤثر يا صديقي!؟

خيم الصمت برهة، ألفت بعدها (تيكو) إلى (فولوديا) - أبنه الثالث - ثم قال مستغرباً:

-. . . وأنت يا (فولوديا). . . لم تحدثنا كيف وجدت مذاق خوختك!؟

-. . . لا أدري يا والدي!

- لا تدري! كيف؟ إنك لم تأكل واحدتك إذن؟ فأجاب (فولوديا): لقد حملتها إلى (جوشا) إذ علمت أنه مريض طريح الفراش؛ فلما دخلت عليه، وجلست إلى جواره، لم يفعل سوى أن ظل يتأمل الخوخة معجباً، فعرضت عليه أن يأخذها، لعلها أن تعجل شفاءه، بيد أنه رفض. . . ورفض في إصرار؛ فلم أجد حيلة لفسره على أخذها، إلا أن أتركها، وأنا - منصرف من عيادته - على نضد صغير متاخم لوسادة الرأس في فراشه. وقد وضعتها ثمة. . . في رفق، ودون أن يشعر؛ ثم حييته انصرفت. .!

عندئذ جاش صدر الأب تأثراً لهذه العاطفة الكريمة، وقال في نبرة ناعمة حانية وهو يربت على كتف أبنه:

- إنك يا (فولوديا) كملك رقيق الحس. . . . نبيل المشاعر.!

عبد العزيز الكرداني.

ص: 57