المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 796 - بتاريخ: 04 - 10 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٩٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 796

- بتاريخ: 04 - 10 - 1948

ص: -1

‌مصرع برنادوت.

. .

للأستاذ نقولا الحداد

لو كانت الرصاصة التي صرعت برنادوت عربية لقل العجب، لأنه كان مع اليهود على العرب. ولكن حاشا للعربي أن يغدر. حاشا للعربي أن يقتل من لا يهاجمه. حاشا للعربي أن يقتل أعزل أو شيخاً أو طفلا يهودياً!

كان العرب يحمون برنادوت وهو في ديارهم، ولقد كان النقراشي باشا يبث العيون من حوله لوقايته من غدر اليهود الخونة وهو في مصر.

برنادوت خدم اليهود: أيد التقسيم وغض النظر عن السلاح الذي كان يهرب إلى تل أبيب، وغض النظر عن المهاجرين اليهود الذين كانوا يتسربون إلى فلسطين، وغض النظر مائة مرة عن خرق اليهود للهدنة!

رحمه الله! حابي اليهود كثيراً! ولكن اليهود كانوا يريدون أن يكتب في تقريره بأن كل فلسطين وشرق الأردن هما حق حلال لليهود! فلم يكتب هكذا فقتلوه!.

كان يريد تجريد بيت القدس من السلاح، وهم يريدونه عاصمة دولة إسرائيل فقتلوه! كانوا يريدون مرفأ حيفا مفتوحاً على مصراعيه، وهو يريد أقفاله ريثما تسوي مسألة فلسطين فقتلوه! كانوا يحرمون عليه أن يبعث بتقرير عن نقضهم للهدنة إلى مجلس الأمن، فلم يستطيع أن يمتنع فقتلوه! كانوا يريدون أن يخرج من فلسطين على الإطلاق، فلم يجرؤ أن يترك المهمة التي أنتدب لها فاغتالوه! لماذا؟ لأنه لم يكن يستطيع أن يملكهم كل فلسطين! ما كان يجوز أن يفعله العرب ببرنادوت لأنه أوثقهم بالحبال والحديد فعله اليهود!

إن هؤلاء الأوغاد لم يعودوا يقنعون بحصة من فلسطين، بل صاروا يطمعون فيها كلها وبشرق الأردن معها وبسائر بلاد العرب كلها. فلما مرت طائرة عربية من لبنان إلى عمان تعقبوها وأسقطوها على الرغم من أن قائدها أبلغهم باللاسلكي أنه ينقل ركاباً مدنيين، وكان يظنهم من رجال هيئة الأمم الرقباء قد أخطئوا فحاول أن يصحح خطأهم، ولكنهم كانوا أرذالا يقصدون الشر مجاناً. فحطموا الطيارة وذهب ضحيتها صحفيان، ولا ندري ماذا يكون حكم الصحف التي يمتثلانها؟!.

لقد ثبت أن تقرير برنادوت كان أصلح لليهود من قرار التقسيم ولكن اليهود توقحوا فلم

ص: 1

يعودوا يقنعون بتقسيم فلسطين، وإنما يطمعون في كل موضع يحتلونه، وخاصة بعد أن ما رأوا أن الدولة الثعلبة العظمى قد انقلبت من الحياد الماكر إلى جانب التقسيم الصريح، فقوى ظهرهم حتى في مصر، فصار النعاج منهم ذئباً! ذلك أن إرهابيين تسللوا من صهيون إلى مصر وجعلوا يلقنون هؤلاء النعاج العزرائيين دروس الإرهاب والخطف والغدر والتحدي، فخطفوا ثلاثة من رجال البوليس وحبسوهم في معبدهم بحارة اليهود. وجرؤ بعضهم فأطلقوا المسدسات على الحكمدار!

هذه جراءة لم نعهدها من جبناء اليهود الأنذال قبل اليوم!

فماذا جد حتى صارت لهم هذه الجرأة والوقاحة؟!.

لعل وحياً جاءهم من قصر شايو في باريس أن دولة عزرائيل صارت سيدة دول الشرق فتنمروا وتنمردوا!

وإذا كانوا الآن - ولا دولة لهم - يستفحل أمرهم وشرهم هذا الاستفحال، فما عسى أن يكون إن مصر وقنصل وبنك، وصار اهم حاضرة أنيقة على ظهر جبل المقطم، وصارت موطن ملاه ولعب ورقص وشرب ونصب، وكان فيها حسان يلعبن بقلوب الكهول والفتيان، ويستخدمن نفوذ الأكابر والأعيان، فإذا بلغوا هذا المبلغ، فأي حال يكون حالهم، وعلى أي شكل يتغطرسون، وفي أي واد يهيمون، وفي أي سماء يسبحون، وقانا الله شر هذا الفجور!

ترى هل تقتص حكومتنا السنية من هؤلاء الأرذال المتحصنين في حارة اليهود القذرة؟ وتؤدب هؤلاء الأنذال وتقي المدينة شرهم وتقمع فتنتهم، فهم على قلتهم وضعفهم قد أنشأوا شبه حكومة لهم في حارتهم الحقيرة وأقاموا لهم فيها حرساً يمنع مرور الناس، وأن غلط أحد المارة ودخل معقلهم الحقير (بهدلوه) واعتقلوه وضربوه وربما قتلوه!!.

وهم على ضعتهم أشعلوه ثورة كادت تنتشر كالنار في الهشيم، وهم مسلحون بالأسلحة الحديثة وبالقنابل والمتفجرات لا يهابون قانوناً ولا يخشون بوليساً ولا يوقرون حكومة!

فإذا كانت الحكومة لا تحرم عليهم صنع المتفجرات حتى على الصبيانية منها، ولا تطرد الخطرين منهم، كانوا خطراً على الأمن ومبعثاً للقلاقل في البلاد!

نرجو ألا تغض الحكومة النظر عنهم كما غضت هيئة الأمم النظر عن قتلة برنادوت!

لقد قتل برنادوت ودفن جسمه وأسمه، ودفنت معه هيبة هيئة الأمم، وأصبح خذلان مجلس

ص: 2

الأمن أمراً واقعاً. وقد استمرأ اليهود سياسة الأمر الواقع، وعادوا يفعلون ما يروق لهم ولا يحسبون حساباً للعواقب، لأن الأمر الواقع ينفي كل عاقبة!

ولقد كان ذنبنا العظيم أننا لم نجنح إلى الأمر الواقع ولا عرفنا كيف نستفيد منه!

لو ألفنا حكومة عربية لفلسطين من أهل فلسطين منذ أعلنت إنكلترا الثعلبة أنها ستلغى انتدابها في أول مايو - لو ألفنا حينئذ الحكومة العربية، وجعلنا مكانها في مصر أو الشام أو بغداد كما فعلت بلجيكا وهولندا ونروج في الحرب الأخيرة من كان يمنعنا لو كان لفلسطين حكومة عربية - أينما كانت - من أن تحتل فلسطين فعلا حالما تركتها إنكلترا؟

أن اليهود فعلوا ما كان يجب أن نفعله، كانوا كلما ترك الإنجليز موضعاً احتلوه هم، ولو كانت حكومة فلسطين العربية الحرة قائمة لكانت أسبق إلى احتلال حيفا من اليهود.

نعتب على الإنكليز أنهم أخلوا حيفا لليهود، فهل كانت حكومة فلسطين على أستعداد لأحتلال حيفا ومنعها الإنكليز؟

أحتل اليهود كل مكان أخلاه الإنكليز، ونحن لم نستطع أن نحمي نساءنا واطفالنا، ففتك بهم أولئك الذئاب، وفر من أستطاع أن يظفر بالسلامة! فختام يا قوم نتبع سياسة التواني، ونعرض عن سياسة الفرصة السانحة، والضربة السابقة، والأمر الواقع؟!.

نقولا الحداد.

ص: 3

‌مصر والعالمفي القرن الثالث عشر الميلادي

للأستاذ عطية الشيخ

المفتش بوزارة المعارف

كنانة الله:

أيها المصري الكريم! إذا ادلهمت حولك الخطوب، واكتنفتك المحن، وطمع الإنجليز في جنوب واديك، وكشر الصهيونيون عن أنياب غدرهم في فلسطين، ومالأت هيئة الأمم ظلم أعدائك وأهملت حقك، فلا يهولنك الأمر ولا ترع، فمن قبل هذه الأقوام كانت أمتك تحتضن الدهر وهو غلام، وتعلم الشعوب وهم رعاع، وتحمل مشعل العلم والمدينة والناس جميعاً في ظلام، ثم قامت عروش، وتكونت دول، وبادت أمم، وتغيرت خرائط العالم مرات ومرات، ومصر هي مصر، كنانة الله في أرضه، وجامعة المبادئ الفاضلة، وملاذ المدنيات وقبلة العالمين. أقرأ إن شئت ما قلت به مصر في القرن الثالث عشر الميلادي وحده، لتعلم كم لبلادك العزيزة من أياد على الناس أجمعين، وأنها بحق كنانة الله في أرضه.

أمة تتحطم:

جاء القرن الثالث عشر الميلادي والخلافة العباسية في بغداد تحتضر، ويقوم بالحكم الفعلي في أرضها (الأتابكة) وهم أمراء سلاجقة، تقسموا الدولة بعد موت ملك شاه سنة 1092 ميلادية. هذا في المشرق، وأما في المغرب، فكانت مدن الأندلس تتساقط أوراق الخريف أمام هجمات الأسبان حتى سقطت (قرطبة) نفسها 1236م وكانت دولة الموحدين في الشمال الإفريقي قد آذنت بزوال، كما كانت سواحل بلاد الشام جميعها لا تزال في ايدي الصليبيين بعد أن أسترد صلاح الدين الأيوبي مدنهم الداخلية، أما في مصر فكان سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم المماليك يحكمون من القاهرة مملكة قوية، تضم في معظم أيامها مصر، والنوبة، واليمن، وبرقة، وأكثر بلاد الشام وفلسطين؛ ويمتد ملكها من الأناضول شمالاً إلى بلاد السودان جنوباً، ومن الفرات شرقاً إلى تونس غرباً. وتعاقب على العرش في هذا القرن الملك العادل أخو صلاح الدين (1198 - 1219) ثم الصالح أيوب بن الكامل (1238 - 1249) ثم شجرة الدر زوجة الصالح، وأبنه نوران شاه (1239 -

ص: 4

1250) ثم أنتهى سلطان الأيوبيين وورثهم المماليك (1250 - 1517) وكانت مصر في هذا القرن أقوى أقطار الإسلام لأتساع ملكها ووفرة خيراتها، وما انضوى تحت لوائها من ممالك وأمصار، ولما في عنصر هذه الأمة الكريمة من حيوية يشيب الدهر من حولها ولا تزال أبداً فتية، ولأن حكامها آنذاك، من أيوبيين ومماليك، كانوا قواداً عسكريين، قبل أن يكونوا ملوكاً حاكمين نبتوا في كنف المعارك ونشأوا تحت ظلال السيوف.

أخطار ثلاثة:

كان أعداء الإسلام في ذلك القرن ثلاثة: هم الصليبيون، والمغول، والحشاشون.

(1)

الصليبيون: قضى المسلمون القرن الثاني عشر كله في جلاد مرير مع الصليبيين، تزعمه عماد الدين زنكي، نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وأنتهى القرن الثاني عشر ومات صلاح الدين الأيوبي 1193، ولا يزال الصليبيون يملكون سواحل الشام من إنطاكية إلى غزة، وقد علمتهم حروب صلاح الدين أنهم لا يستطيعون الأستقرار في بلاد الشام ما دام في مصر دولة قوية، فوجهوا غزواتهم في القرن الثالث عشر إلى مصر ليفتحوها بعد القضاء عليها، وبذلك يؤمنون مملكة أورشليم. وكانت أول حملة صليبية على مصر في هذا القرن (1218) بقيادة (جان دي برين) واستولوا على دمياط، وأخذوا يزحفون على القاهرة، فمات الملك العادل حزناً، وترك أمر الدفاع لأبنه الملك الكامل الذي ورث البطولة عن أبيه وعمه (صلاح الدين)، فأقام الاستحكامات في المكان الذي سمى فيما بعد بالمنصورة، وجاءته النجدات من اليمن والشام، والمتطوعة من سائر البلاد الاسلامية، وأنتهز فرصة فيضان النيل، فقطع الجسور، وأحاطت المياه بالصليبيين، ورأوا استماتة المصريين في الدفاع، فطلبوا الصلح وانقلبوا خائبين سنة 1221م.

وفي سنة 1228م. استطاع فردريك (إمبراطور ألمانيا وملك جنوب إيطاليا وزوج ابنة قائد الحملة السابقة جان دي برين) بحسن حيلته وبما أشتهر عنه من حب الإسلام والمسلمين، أستطاع أن يعقد مع الملك الكامل اتفاقاً على أن يعطي بيت المقدس بشرط أن يحتفظ المسلمون فيها بأماكنهم المقدسة، وأن يساعد (فردريك)(الكامل) على أعدائه، وأن يمنع النجدات الأوربية عن الإمارات الصليبية الباقية في سواحل بلاد الشام، كطرابلس، وإنطاكية. وقد أنكر هذا الأنفاق المسلمون أشد الإنكار، لأنه أخرج بيت المقدس من أيديهم،

ص: 5

كما أنكره الصليبيون لأنه حرمهم سبل النجدات الأوربية، وتركهم فرادى في بلاد الشام، يحيط بهم المسلمون إحاطة السوار بالمعصم، وقد برهن الزمن على بعد نظر الملك الكامل إذ حفظ بهذه المعاهدة مصر من الغزو، وكانت أمل الإسلام والمسلمين في هذا القرن، واستطاع الصالح أيوب بن الكامل أن يسترد بيت المقدس سنة 1244م وأحرق أحياءها الصليبية.

ثارت أوربا لعودة القدس إلى كنف الإسلام فجاءت حملة صليبية بقيادة (لويس التاسع) ملك فرنسا، واحتلت دمياط سنة 1248م. فعسكر المصريون في قلعة المنصورة، وكان الملك الصالح يقود الجيش محمولا على محفة لمرضه، وأستنجد بالمسلمين فجاءوه من كل مكان، حتى اكتظت المنصورة بالعسكر، ورابط الأسطول المصري في النيل تجاهها، ولواؤه معقود (لبيبرس) ثم أشتد المرض على الملك فمات في نوفمبر سنة 1249، وأخفت زوجته شجرة الدر موته، وحملته في تابوت سراً إلى القاهرة في جنح الظلام، وإمعاناً منها في الإخفاء، كانت تمد سماط السلطان كالعادة، وتوقع باسم السلطان على ما تصدره من أوامر، توقيعاً مشابهاً خطه لمهارتها في الكتابة، وأخذت البيعة لأبنه (توران شاه) على الأمراء والقواد، وأرسلت تستدعيه من الشام سراً. مع كل هذه التحوطات من شجرة الدر؛ علم الإفرنج في دمياط بموت الملك، فزحفوا إلى الجنوب براً وبحراً، واستولوا على فارسكور، ووصلوا المنصورة في ديسمبر سنة 1240 يفصل بينهم وبين المصريين بحراً أشموم (البحر الصغير) وبدأت المناوشات وكان المسلمون ينفردون بمعرفة أسرار النار الإغريقية فأصلوا الفرنج بها براً وبحراً، ولم يستطع (لويس) بناء جسر على البحر الصغير، ولكنه وقف من خونة بلدة سلامون (غير المسلمين) على مخائض في البحر الصغير، فعبرته فرقة كبيرة من جيشه إلى بر المنصورة، وفاجأت المصريين على غير أستعداد منهم ولا علم، فقتل القائد المصري ووصل (الصليبيون) إلى أبواب (القصر السلطاني) وشجرة الدر تدير المعركة بجأش رابط فأصدرت أمرها لرجال الأسطول، فأسرعوا بقيادة بيبرس، وكانوا نحو ألف، وأطبقوا على الفرنج ومزقوهم شر ممزق، وقتلوا زهرة شبابهم، فلم يستطع الإفلات منهم الإ القليل. وكانت واقعة المنصورة هذه في فبراير سنة 1250، وبعد عشرة أيام منها وصل توران شاه إلى الصالحية، فأعلن وفاة الملك الصالح لأول مرة،

ص: 6

وسلمت إليه مقاليد الملك، بصفة رسمية، ثم جاء إلى المنصورة وتسلم من شجرة الدر القيادة ومقاليد الأمور. وكان الصليبيون لا يزالون معسكرين بجدبلة، في العدوة الأخرى من البحر الصغير، والمؤن تأتيهم من دمياط بطريق النهر، فصنع المصريون سفناً حملوا أجزاءها على ظهور الجمال، وأنزلوها في البحر بعد تركيبها قريباً من دمياط، لتقطع الطريق على جيشه الفرنجة، فقامت بعملها خير قيام، وأشتد الأمر على الصليبيين وساءت حالتهم، ودب إليهم الجوع والوهن، وكانت النيران التي تطلقها عليهم حراقات المسلمين تزيد كربهم. فطلب (لويس التاسع) المفاوضة، ولكن المصريين لم يقبلوا، فأخذ ينسحب بجيشه في جنح الظلام، ولم يدر أن عيون المصريين منه بالمرصاد، فطاردوه طيلة ليله، ولم يسفر الصباح حتى أحاطوا بجيشه براً وبحراً قرب فارسكو، وهزموه شر هزيمة، وقتل من جيشه ثلاثون ألفاً غير من غرق منه في النهر. ولجأ الملك هو وخمسون من خاصته إلى قرية (منية أبي عبد الله). (ميت الخولي عبد الله)، وطلب الأمان فمنحه، وأعتقل بالمنصورة في دار القاضي فخر الدين بن لقمان، وأرسلت البشائر إلى جميع الأنحاء نذكر منها على سبيل المثال رسالة توران شاه إلى نائبه بدمشق يبشر المسلمين كافة بما منّ الله به على المسلمين من الظفر بعدو الدين، فإنه كان قد أستفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا لا تيئسوا من رحمة الله وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان المطوعة، وخلقاً لا يعلمهم إلا الله.

فلما كانت ليلة الأربعاء، تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم وقصدوا دمياط هاربين، ومازال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، وقد حل بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى بنفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، والتجأ الفرنسيس (الملك) إلى المنية وطلب الأمان فأمناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته، وجلاله وعظمته.

وقد خلد أبن مطروح ما حل بهذه الحملة في قصيدته التي منها.

قل للفرنسيس إذا جئته

مقال نسح من قئول فصيح

آجرك الله على ما جرى

من قتل عباد يسوع المسيح

سبعون ألفاً لا يرى منهم

إلا قتيل أو أسير جريح

ص: 7

تخلصت مصر من هذه الحملة. . . ولكن مهمتها التاريخية لم تنته بعد، إذ كان الصليبيون لا يزالون ممتلكين سواحل بلاد الشام، فأخذ الظاهر بيبرس بعد أن تبوأ عرش مصر ينازلهم، حتى أستولى منهم على (صفد ويافا وأنطاكية) ثم جاء السلطان خليل بن قلاون من بعد، وحاصر (عكا) وضيق عليها الخناق ففتحها سنة 1291م ولم ينج من حاميتها أحد، وأحرق المدينة، فدب الخور في قلوب الباقين من الصليبيين ببلاد الشام، ولاذوا بالفرار، مخلفين وراءهم قلاعهم وحصونهم، وخلصت مصر المسلمين من شرور الصليبيين الذين دفعهم تعصب البابوات إلى هذه الحرب الطاحنة التي أستمرت قرابة قرنين من الزمان، وعاد السلطان خليل إلى القاهرة يسوق اسرى الفرنج مكبلين، وأعلامهم من خلفهم منكسة، ورءوس قتلاهم على ألسنة الحراب (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).

(ب) المغول: في أوائل القرن الثالث عشر خرج (جنكبر خان) من أواسط الصين على راس جيش من المغول، وهجم على بلاد الاسلام، فأستولى على التركستان، وخراسان، والهند وخرب مدنها سنة 1219، وعاد إلى بلاده بعد أن ترك البلاد التي فتحها في أواسط آسيا وجنوبها قفراً بلقعاً، ثم غزا خلفاؤه بلاد فارس والعراق، ولم تأت سنة 1258 حتى كان (هولاكو) عاهل المغول على فارس، قد استولى على بغداد، وأزال ملك العباسيين وقتل الخليفة المستعصم وأفراد أسرته وعشرات الألوف من البغداديين، في مناظر هائلة، ومشاهد مروعة، من التدمير والتخريب، وتابع سيره نحو الشام كالسيل الجارف، والريح العاصف، فأستولى عليها في سرعة البرق، وأرسل إلى مصر رسالة تهددها فيها بالغزو إن لم تخضع وتسلم؛ وكان على عرش مصر إذ ذاك المملوك (قطز) الذي قابل رسالة هولاكو بما تستحقه فمزقها، وقتل رسله، وكان هذا الرجل المجاهد قد أعلن للمصريين أنه لم يتبوأ العرش إلا لتخليص البلاد من المغول، وأنه سيترك الملك بمجرد الانتصار عليهم، فسار بجيشه لملاقاة التتار، وقابلهم على مقربة من بيسان في موقع يسمى (عين جالوت) ولأول مرة ذاق المغول على يد المصريين هزيمة منكرة فروا على اثرها هاربين إلى ما وراء نهر الفرات، واستطاعت مصر أن تؤدي رسالتها التاريخية في حماية المدنية الإسلامية.

ولما تولى عرش مصر (الظاهر بيبرس) بعد قطز أخذ يعمل على إعادة الخلافة العباسية، وإرجاع المغول إلى ديارهم.

ص: 8

ولتحقيق الغرض الأول، أستدعى أحد أبناء العباسيين إلى القاهرة، ونصبه خليفة، ولقبه (المستنصر بالله) وبقيت هذه الخلافة العباسية في مصر حتى فتحها العثمانيون.

ولتحقيق الغرض الثاني سار على رأس جيش كبير وعبر نهر الفرات على ظهور الخيل، وأوقع بالمغول هزيمة شنيعة، وطردهم من تلك الأصقاع.

يئس المغول من التغلب وحدهم على مصر، فأخذوا يراسلون (بابا) روما، وملوك أوربا، لإرسال حملة صليبية، تشاركهم في محاربة المصريين، وكان ذلك في أيام السلطان (قلاوون)(1277 - 1270) فسار إلى المغول وهزمهم هزيمة منكرة عند (حمص) لا تقل عن هزيمتهم في (عين جالوت) كما أن السلطان خليل بن قلاوون قد حارب المغول واستولى على كثير من قلاعهم، وبذلك قضى على الخطر المغولي المهدد لمصر قضاء تاماً.

(ج) الحشاشون أو الباطنيون: أسس مذهبهم الحسن الصباح في أوائل القرن الثاني عشر، وكانوا فرقة إرهابية في بلاد الشام، لها حصون ومعاقل منيعة، تمتد من خراسان إلى سواحل بلاد الشام، وتعيث في الأرض فساداً، وكانوا كما يقول أحد المؤرخين (أداة رائعة للقدر كالوباء والحرب، كارثة على الملوك الضعفاء والشعوب المنحلة).

وكم سفكوا من دماء بريئة، وعاثوا في الأرض فساداًن وتآمروا بملوك وسلاطين مع ترويج لعقيدتهم الزائفة التي يقول فيها الإمام الغزالي (مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتحه حصر مدارك العلوم، في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق، لما يعثريها من الشبهات، ويتطرق إليه النظار من الخلافات، وإيجاب طلب الحق بطريق التعليم والتعلم، وأن كل زمان فلا بد منه فيه من إمام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من الدين. والمنقول عنهم الإباحة المطلقة، ورفع الحجاب، واستباحة المحظورات واستحلالها، وإنكار الشرائع).

أتخذ هؤلاء الأشرار عاصمتهم (حصن مصياب) في بلاد الشام بالقرب من طرابلس، وحاولوا غير مرة قتل صلاح الدين وتحالفوا مع الصليبيين على المسلمين، وظلوا في شرورهم المادية والمعنوية، عوامل هدم للدنيا والدين، إلى أن سير الظاهر بيبرس حملة إلى بلادهم سنة 1269 حاصرت قلاعهم وأقتحمهما وفتحت (حصن مصياب) ومزقت

ص: 9

الباطنية كل ممزق، فأنهار نفوذهم، وأصبحوا شرازم لا أهمية لها، وأنتهى على يد المصريين أهرهم، وطهرت الدنيا من أرجاسهم.

أيها المصري الكريم! هذه أعمال بلادك في قرن واحد، سحقت جيوش المغول المدمرة، وحملات الصليبيين الجائرة، وخزعبلات الباطنية الفاجرة، منتصرة بذلك على كل ما في آسيا وأوربا، من جند وعدة وعتاد، فهل يخامرك بعد الآن شك فيما ينتظر بلادك من مجد، وما سيلاقيه الصهيونيون من هول وذل. أرجو أن تكون متفائلا بالمستقبل، عالماً أن مصر كالهرم والمقطم والنيل، تقوض العروش وتزول الدول، وهي هي تفنى الفناء وتعي العياء.

عطية الشيخ.

ص: 10

‌طاغور وغاندي بين الشرق والغرب

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

(تتمة)

لم يجد غاندي في مقاطعة الهند للغرب وعدم تعاونها معه ما ستوجب فزع طاغور وخوفه على الوحدة العالمية، لأن مساوئ الحضارة الغربية وضلالاتها، واستعمار الغربيين البغيض للشعوب الضغيفة، واستغلالهم الشره لمواردها الطبيعية، يزهد الهند من ناحية في أن تقيم أية علاقة تربط بهذا الغرب المادي الطاغي ما دام التعاون معه يعرضها لأخطار مدنية لا تعرف إلا صالحها، ويعطي فرصة للدول الاستعمارية لأن تستغل مواردها المتنوعة من دون الشعب صاحب الحق في الاستفادة منها، ويجبرها من ناحية أخرى على أن تعتزل العالم، وتقطع علاقتها بتلك الأمم التي تفسد عليها حياتها المادية والمعنوية، وعلى أن تستغني عن خدمات الغرب وتعتكف في نفسها تستجمع قواها وتجدد نشاطها وتبعث مواهبها وتشحذ ملكاتها، وتنهض بمستوى الشعب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية، وتخلصه من الجهل والبؤس والخوف، وتسمو بنزعاته الخلقية، فيقدر أن يقوم بواجبه نحو الهند والهنود. وحينئذ فقط يطلب من الهند أن تساهم في تأسيس الدولية العالمية، وأن تفنى في العالم، لأن الشعب المتحد القوي المثقف أقدر على تكوين هذه الوحدة من الشعب المفكك الجائع الجاهل الجائف. ومن صالح الهند والانسانية جميعاً أن تعيش الهند لنفسها اولا، حتى تتحد وتتقوى مادياً ومعنوياً، وتتطهر من كل نقص وضعف قبل أن تبذل أي جهد في خدمة الإنسانية، أو تسعى لأن تلاشى كيانها في العالم.

وكان غاندي مخلصاً لمبادئه، فشجع الهند على إن تعتمد على نفسها في رقيها، حتى لا تأخذ من الغرب شيئاً. وعمل على إن يتبع الهنود نفس الأساليب الاقتصادية الهندية القديمة لتدعيم الحياة الهندية المادية، واهتم بأن يستعينوا بالثقافات الأسيوية التي مرت بالهند في ابتكار حضارة روحية هندية فتية تصون مقومات الهند وتخلو من مفاسد المدنية الغربية. فرد أولاً على لوم طاغور في أتخاذ الهنود المغزل اليدوي وسيلة للتكسب بأن ملايين الهنود يوشكون أن يموتوا جوعاً لأنهم لا يجدون عملا يرتزقون منه. فالفقر هو الذي أرغم الهند على أن تستخدم المغزل العتيق كوسيلة تكفل العيش لشعب فقير. بينما كان ما ينادي به

ص: 11

طاغور من ضرورة تمسك الشعب بتعاليم الدين وسعيه في تحقيق ذاته حتى يتجلى الله في القلوب، لا يمكن أن يشبع جائعاً، وأن الله لن يتجلى لشعب يتضور جوعاً إلا في صورة العمل والطعام الذي يتقاضاه أجراً عن هذا العمل، فإن أناشيد طاغور الشاعرية الدينية لا يمكنها أن تسكن آلام الجائعين أو تغنيهم عن عمل يستطيعون به أن يجدوا ما يأكلون.

إن المغزل هو الذي ينقذ الهند من قسوة الفقر وآلام الجوع ويمهد لاستقلال حياة الهند الاقتصادية، ويغنى الهنود عن خدمات الغرب المادي الجشع، فعلى طاغور إن يغزل مثله في هذا مثل أي هندي، ولا يعارض، لأن الغزل والنسيج فريضة دينية يشرعها الواجب الوطني على الهنود.

ورد غاندي ثانياً على نعت طاغور الهنود بضيق الأفق وضعف المدارك لتحيزهم السقيم للثقافات الأسيوية بأنه لا يمانع في معرفة الشعب الهندي لأية ثقافة كانت، ويود لو تترك دراسة جميع الثقافات حرة في الهند سواء أكانت أسيوية ام غربية من غير أن تحاول ثقافة من الثقافات أن تفرض سيادتها على الثقافات المحلية، وتدعى الرقي والرفعة، وتقضي على كل ثقافة تنافيها، وتزعم أنها تحاول أن توجد ثقافة موحدة، وتتحكم في الحياة الثقافية في البلاد. فالمستعمر الإنجليزي يلزم الهنود تعلم برامج ثقافية جميع موادها العلوم الغربية وتغفل الثقافات الأسيوية وهي أحق بالأولية من دراسة أي ثقافة غربية، لأنها تلائم المزاج الهندي، وتعرف الهنود مواضع القوة في روحهم، وتساعدهم على تأسيس ثقافة جديدة حية تعبر بصدق عن التفكير الهندي. فما أمر غاندي بمقاطعة الثقافة الغربية إلا ليعطي فرصة للثقافات الاسيوية لأن تثبت وجودها في الحياة التعليمية في الهند ويحمي اللغات القومية والتراث الوطني من الضياع والنسيان.

لم اقصد من عرض مناقشات طاغور وغاندي حول تآزر الغرب والشرق أو عدمه أن أقف بينهما حكما أفضل عالمية طاغور على وطنية غاندي، أو أوازن بين واقعية غاندي ومثالية طاغور. وإنما قصدت أن يستفيد العالم العربي، وهو في ظروفه الحاضرة الملبدة بغيوم الشك وسحب الأرتياب، من غدر الغرب وسوء نيته، وأن أرجع للأذهان مجادلة بين شرقيين عرقيين في الروحية أحسا بما نشعر به من أنفعالات نحو الغرب، أحسب أنها تفيدنا في وضع خططنا العامة الدولية. فطاغور المفكر الإنساني قد بين للشرق ما يجب أن

ص: 12

يصبغه من روحية على ما يأخذه من الغرب من علوم وفنون وجد ونشاط، وما يجب أن ينبذه من مادية وأنانية وحب للسيطرة وإمعان في الإباحية واستهتار بالقيم الروحية. فلو سرنا على هديه لأخذنا من الغرب زبده، وتركنا أوساخه وأقذاره، ونهجنا السبل القديمة في تكوين حضارة جديدة طاهرة تؤسس على روحية الشرق ونبوغ الغرب في العلوم والفنون ومهارته في العمل.

أما غاندي الزعيم الوطني، فقد علم الشرق كيف يحارب أنانية الغرب وغروره بغير عنف أو إيذاء، ويتخلص من ضلالاته من غير حقد أو بغض، ويستعين بأبعد الأسلحة عن العنت وإثارة الحقد، ويتخذ من أقرب القوى إلى الحب والتسامح ذريعة فعالة لنيل المآرب القومية. فلو سرنا على هدى غاندي في مقاومته السلبية السليمة، وقاطعنا الدول الغربية، وحاولنا أن نلم شملنا، ونقوي من تعضدنا لأرغمنا الغرب على طلب التعاون معنا، ولتنازل عن غروره وكبريائه، وسلم بضرورة رد جميع حقوقنا التي سلبها منا عنوة وغصباً.

فكل من طاغور وغاندي قام بدور هام في حياة الإنسانية؛ فقد خدم طاغور الهند والشرق بل والعالم أجمع بسعيه في ضم أشتات الدول المتخاصمة، وتأسيس وحدة عالمية لها ثقافة واحدة لا حياة واحدة، كما خدم غاندي الهند والشرق، وعلمهما كيف يتسلحان بالطرق الروحية في مقاومة مادية الغرب، وجعله يشعر عملياً بأن تفيده شيئاً، بل تؤذيه وتضر بمصالحه، وأجبره على احترام الشعوب واحترام حقها في المساواة بالشعوب الغربية. وهذه السياسة الغاندية تجمع بين تقوية الهند وردع الغرب، وتمهد في نفس الوقت لإقامة وحدة عالمية بطرق عملية. فغاندي لا يختلف عن طاغور في هذه الناحية وإن بدا لنا وطنياً. وذلك لأنه آمن بأن إحياء وطنه أمر اساسي لاتحاد العالم، لأن الوحدة لن توجد لها قائمة ما دام هناك دولة تستبعد دولة أخرى.

يجب أن تتحرر شعوب العالم جميعاً اولاً، ثم نعمل بعدئذ على توحيد العالم.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات

ص: 13

‌أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية

للأستاذ حسني كنعان

كان ذلك منذ خمس وتسعين حجة على وجه التقريب، وفي أمسية الربيع الضاحك الزاهي جلس (محمد أغا أقبيق) والد النابغ الدمشقي احمد ابو خليل القباني في حقوة داره الكبيرة ذات البحرة الدفاقة المعروفة في حي الشاغور، يستقبل وفود المهنئين من وجوه الحي وأعيان الشام بمناسبة احتفائه بختم ولده القرآن من فاتحته إلى خاتمته.

وكان في صدر الدار من الوافدين مفتى الديار الشامية الشيخ محمود حمزة وعالمها الأوحد الشيخ بكري العطار، وكلهم مغتبط مسرور بحفاوة رب الدار بهم وإكرام وفادتهم. وكان من عادة السامرين في هذه المجالس أن تكون الأحاديث فيما بينهم جميعاً تدور حول امتداح المحتفى به على سبيل المجاملة، وإدخال السرور على فؤاد والده، وإيناسه وإثلاج صدره، فشرع الكل يطرى ذكاء أحمد ويمتدح نشاطه وشدة ميله إلى الدراسة والتعلم. فقال مفتى الشام فيما قال:

إني لأعجب يا حضرة الأغا العجب كله لشدة ذكاء ولدك هذا؛ إنه إلى حداثة سنه وصغر مداركه أراه لا يترك حلقة من حلقات التدريس التي يعقدها علماء الشام في المسجد الأموي إلا قصدها وكان من روادها. إنه لا يترك المسجد ساعة من نهار إلا في أويقات الطعام؛ فرواد الحلقات عل كثرتهم وميلهم لطلب العلم لم أر بينهم من يفضله في ذكائه واجتهاده ونشاطه. إنه لا يحل حبوته أمام شيوخ الحلقات، فلا يكاد ينتهي شيخ من درس حتى يزحف إلى شيخ غيره، وهكذا يظل سحابة يومه كالطائر الغرد ينتقل من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، يجتني من الأغصان والأدواح الباسقة أطيب الثمار واشهى الفواكه، حتى ينصرف شيوخ الحلقات وروادها ويقفز المسجد، وتتعطل لغة التدريس فيه. ولما سكت المفتي عقب الشيخ العطار على حديثه قائلاً:

أضف إلى هذا أنك تراه في الحلقات دائماً يكثر من تحريك أصابع يديه ورجليه ويكثر من التنغيم والترنيم همساً في فمه، وكثيراً ما يسترسل في عمله إسترسالا يجلب إليه النظر، فيبادر من بجانبه من صحبه وهو ساهم غائب عن الدنيا والعالم يفكر في شئ غير الدرس، فينبهه ويفهمه أنه في المسجد وفي الدرس، ولا في الملهى والمسرح فينتبه فوراً ويصغي.

ص: 14

ولعل لهذا الفتى ميلاً خاصاً لاشياء أخرى غير ميله للدروس العلمية والفقهية، وإن صدقتني فراستي فولدك هذا لا بد أن يتردد على مجالس الموسيقى ويعاشر الموسيقيين. فهل يسمع أحداً من أرباب هذه الصناعة، أم أن هناك ميولاً فطرية في طبعه أثرت عليه، فولدت فيه هذه الناحية؟

وكان الأب مغتبطاً مسروراً بما يسمعه عن ولده من مدح وثناء، وقد طال سكوته وإصغائه لمثل هذه الأحاديث السارة البهجة دون أن ينبس.

وبعد تفكير عميق قطع حبل صمته قائلاً: ولهذا أراكتكثر يا أحمد من ارتيادك مقهى العمارة الكبيرة، فبحقي عليك هلا أخبرتني عما تفعله هناك. وأستحي الفتى وأصطبغ لون وجهه بالحمرة وكلل العرق جبينه وغدا كأنه صنم من الأصنام لم يحر جواباً ولم يتحرك. . .

وكان هناك في الحفلة خال له يعطف عليه ويحبه حباً جماً ويعرف روحاته وجياته، وهو واقف على أسراره الوقوف كله. فألتفت إلى أبيه قائلَا:

أجل إنه يؤم حي العمارة كل ليلة ويسمر هناك في المقهى الكبير مصغياً إلى أهازيج (الكركوزاتي) على حبيب، ويشهد محاوراته مع الصور الخيالية المؤلفة من رسوم عنترة وعبلة والمهلهل والزبر والزناتي خليفة والملك الظاهر، وغيرهم من أبطال القصص التاريخية الموضوعة لإلهاء الدهماء عن البحث في أمور لا تعنيهم في عهد الفاطميين.

وأزيدك يا عم علماً أنه يذهب في كل اسبوع مرة أو مرتين إلى مكان خصصه اين السفر جلاني وأبن الغبرة والأدلي وغيرهم ممن لهم ميل خاص في الموسيقى والأهازيج، ليتمرنوا هناك على الغناء والتمثيل.

ولقد فاجأته أكثر من مرة وهو منفرد في حجرته يقلد السيد علي حبيب في مخاطبته عبلة بإشعار عنترة، ويمثل دلال عبلة على أبن عمها عنترة كما يفعل (الكوكرزاتي) على حبيب خلف الشاشة البيضاء التي أخفى الصور الخيالية خلفها ونثرها على ضوء المصباح الضئيل، وأصغيت إلى صوته الشجي عندما كان ينشد قول الفارس العبسي المدنف في حبيبة قلبه وفاتنة عقله يخاطبها بقوله:

هلا شهدت الخيل يا أبنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

ينبك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

ص: 15

ولما شعر بوقع أقدامي صمت بمقدار ما أنضح صوته في القاعة بدوي؛ وكان يشير بيديه كالمعتوه الذي خولط في عقله صائحاً:

وسيقي كان في الهيجا طبيباً

يداوي رأس من يشكو الصداعا

ولو أرسلت رمحي مع جبان

لكان بهيبتي يلقى السباعا

أنا العبد الذي خبرت عنه الخ. . .

فلم أستطع الصبر على تركه وحده في القاعة هكذا يخاطب نفسه كالمجانين، وإنما فتحت عليه الباب الموصد ودخلت فجأة فأسقط في يده وسكت. فصحت به ما هذا يا أبن أختي؟ ما الذي تفعله؟ تقلد (الكركوزاتي)!! أين (كراريسك) ودفاترك وأين كتبك وهنواتك الدراسية؟ أهذه هي الدروس التي تعلمتها في المسجد على مشيخة الشام ونخبة علمائها؟ تلهو بالقشور وتترك اللباب إنك والله لمن الخاسرين الذين يضيعون مواهبهم وذكاءهم في أمور مخزية. ماذا يقول الأغا والدك غداً إذا علم بنزعتك هذه؟ فما كان منه إلا أن جبهني بقوله: أناحر في تصرفاتي، وليس لأحد علي سلطان. فأنا إنما أبني لأهلي وبني قومي مجداً مؤثلا في ارتيادي هذه الناحية. وسترون مني ما يدهشكم من الأعمال الباهرة التي سأقوم بها خدمة للفن أنا وصحبي.

وكان المفتي يصغي مطرقاً إلى حديث الخال المحترم، وعند ما سمع هذا الحديث عن تلميذه الذي كان مكيراً فيه ذكاءه النادر ومواهبه الفذة، فلمس فيه هذه الناحية التي تخالف مبدأه الديني ونزعته الصوفية، لم يطلب المقام له في تلك الحفلة النادرة بعد الذي سمعه، فخف من المجلس على الأثر وهو يتمتم: أعوذ بالله! تمثيل. . . موسيقى. . . غناء، على حبيب! إن هذا المنكر لا نطيق سماعه، ولا نطيق السكوت عنه، أنت يا أحمد مطرود من الدرس منذ الليلة.

قال الشيخ قوله هذا وزحف على قدميه وقد كور جبته وراء ظهره وعقد يديه فوق الجبة وأستلم باب الدار دون أن يودع الحاضرين استنكاراً للأمر وتظاهراً بالورع والتقوى. . .

فتبعه الشيخ العطار وقفى على أثرهما بقية من في الدار من الوجوه والأعيان، وتفوض المجلس وخلا من سماره. وكانت هذه الهنة حافزاً للأب على الأيفاع بولده وغضبه عليه وهجراته إياه.

ص: 16

بقى الفتى يقاسي في نزعته الفنية ألم الحرمان والغضب وانقطاع الوشيجة بينه وبين والده وأفراد اسرته مدة حتى توفى الله الوالد وانعتق الفتى من اسر الرقابة وأصبح مالك نفسه وحاكم أمره، وكان قد بلغ سن الرشد فأنقطع لخدمة الفن وتفتحت براعم عبقريته وأمسى يصل ليله بنهاره ونهاره بليله دأباً على التلحين ونظم القصائد والموشحات. وقد ساعده على الإجادة في النظم ما كان قد أخذه عن شيوخه من قواعد اللغة والنحو والصرف حتى قال فيه أحد شيوخه لو ظل هذا الفتى مثابراً على الدرس لتحدثت الشام عن علمه زمناً طويلاً، كما قال أحد الخلفاء العباسيين في أسحق الموصلي: لولا نزعته الموسيقى لوليته القضاء.

(للبحث تتمة)

حسني كنعان.

ص: 17

‌في موسم الحج:

أبو نواس يحج!

للشيخ محمد رجب البيومي.

شغل الحسن بن هانئ اذهان معاصريه، فقد كانت سيرته ذائعة شائعة يتناولها الظرفاء متندرين معجبين، ويتناقلها الزهاد لائمين ناقمين، وهو لا يفتأ يضرم النار ويشعل الوقود بما ينظم من شعر ما جن يتردد صداه في كل ناحية، ويترنم به الحداة في كل ركب. وكثيراً ما يشفع القول بالعمل فيلجأ إلى الديارات الخليعة ويتصدر الأندية الداعرة، يعب الخمر وينادم المرد، ويقود الأسراب الطائرة إلى منابع السكر، حيث تتجاوب الأوتار، وتدور الكؤوس، ويترأس إبليس الحفل، فيفتح باب الغواية على مصراعيه، ويوسوس لكل ما جن بما يسئ المروءة، ويغضب الخلق الكريم.

وشاعر هذه نشأته وسيرته لا يمكن أن يفكر يوماً من الأيام في الحج، بل ربما نفر منه ودعا إلى حربه، حيث لا يعود عليه بفائدة مما يبتغيه. وإذا كان شعراء الغزل في الدولة الأموية قد وجدوا في هذا الموسم الحافل معرضاً فسيحاً للجمال الفائق، فخفوا إلى التمتع ببدائعه الفاتنة، فإن الحسن لا يجد به مآربه المشتهاة، فهو يناغي المرد الحسان ويهيم بالخمر المعتقة؛ أما أسراب الغيد الطائرة حول البيت العتيق فلم تتمكن شباكها الخاتلة - بعد - من اصطياده، ففيم السير إلى مكة؟ وعلام يتحمل الشاعر في سفره المشاق؟ بل إنه سئل عن موعد حجة فقال مستهتراً كعادته (إذا نفذت لذات بغداد) وهيهات أن تنضب موارده اللهو في دار السلام!

ولكن الثابت في التاريخ - على رغم ما تقدم - أن أبا نؤاس قد حج البيت المكرم فطاف مع الطائفين، ولى مع الملبين، وقد غمره شعور سماوي هيمن على عواطفه فأنطقه بتسابيح خالدة، تستمد نغمها الحلو من قيثارة فاتنة، فكيف تسنى ذلك لأبي نواس؟ وكيف ينبع في الصحراء الموحشة نهر دفاق ملئ؟ سؤال يتطلب رداً مقنعاً. ولعل الإجابة تظهر في تاريخ الرجل، فقد شاء له حظه العاثر أن يهيم بجارية تمقته وتزدريه، وترسل قذائفها المحرقة فوق رأسه، وهو سليب العقل، طائر الفؤاد، يسير ورائها أني سارت، ويبعث خلفها الرسل يستعطفون منها قلباً جامحاً، لا ينبض برحمة لهالك، ولا يستشعر حناناً لمدنف. ولقد كان

ص: 18

هذا عجيباً منه أي عجيب، فقد أشتهر طيلة حياته بمجانية الغيد، فكيف يتورط إذن في هذا الحب الجديد؟

كانت (جنان) جارية عبد الوهاب الثقفي ساحرة فاتنة، ذات وجه أزهر صبيح، إذا تأملته تعاظمك الإقرار أنه من البشر - كما يقول الحسن - تجمع إلى دل الحديث وسحر الملامح ذكاء وفاداً، وفهما عميقاً للشعر الرفيع، ورواية واسعة للأدب، وقد خطرت ذات عشية أمام الحسن فأخذت عقله من مكمنه، ونقشت صورتها في مهجته، فترك عصابته الماجنة، وسار يتعقبها في كل مكان تحل به، فإذا كان في البصرة عرس واجتمعت النساء، خرج يتلمس صاحبته في اهتمام بالغ، فإذا وقعت عينه عليها لم يطق أن يسارقها النظر بعض الوقت، فيخفض رأسه حزيناً باكياً إلى الأرض، ويهيم في آفاق خياله فيعقد موازنة شعرية بين (جنان) وعروس الحفل، وطبيعي أن يحكم بتفوق صاحبته في مضمار الحسن والملاحة، ثم هو لا يكتم ذلك، بل يلعنه على الناس إذ يقول:

شهدت جلوة العروس جنان

فاستمالت بحبها النظارة

حسبوها العروس حين رأوها

فإليها دون العروس الإشارة

وإذا قام في البصرة مأتم حزين وهرعت العذاري إليه كعادتهن ترك الشاعر ما يملأ سمعه من النواح والعويل، وأخذ يتلمس صاحبته في موقفها الدامع، ويسبح في آفاق تفكيره، فلا يوازن بينها وبين عذراء ممن شاهدهن كما فعل يوم العرس، بل يجب الموازنة بينه وبين الميت الفقيد. ولا غرو فقد قتله الحب فهو جدير بأن تبكي عليه صاحبته كما تبكي الآن على الراحل النازح، ثم هو يبلغها ذلك في شعر رقيق هادئ. اسمعه إذ يقول.

يا قمراً أبرزه مأتم

يندب شجوا بين أتراب

يبكي فيذرى الدر من نرجس

ويلطم الورد بعناب

لا تبكي ميتاً حل في حفرة

وأبك قتيلاً لك بالباب

وكانت (جنان) تعتقد خاطئة أن أبا نواس غير صادق في حبه لأنها تعرف عنه خلاصته وادعاءه، فكانت تسبه وتؤذيه وتطعنه في رجولته، وتنال من كرامته كل منال، ولم تصف له غير حقبة يسيرة مرت في حياة العاشق مرور الطيف، وتركت وراءها طوفاناً جارفاً من السهد والدمع. وكأن الله عز وجل قد أراد أن يؤدب الحسن بهذا الحب، فقد خلع كبرياءه

ص: 19

وغروره وترك وقاحته وهجره، ثم هام كالمشدوه على وجهه، فإذا سأل عن (جنان) قوبل بما يكره من الأنباء الصاعقة، والأخبار الفاجعة وهو في كل دقيقة يتجلد ويتصبر. وقد يدق شعوره فيتصور سبابها المقذع تكريماً جليلا لشخصه، لأنها تذكر أسمه لا محالة، وفي هذا غنم كبير يساق إليه بلا حساب، اسمعه يقول:

أتاني عنك سببك لي فسبي

أليس جرى بفيك أسمي، فحسبي

تشابهت الظنون عليك في ذا

وعلم الغيب منه عند ربي

وليت شعري لم يذكر أسم ربه في هذا الموضوع وقد نسيه قبل ذلك؟ أيكون الحب قد جذبه قليلاً إلى روضة الإيمان، أم أنه الضعف البشري يتسلط على المرء فيلجئه إلى الاستعانة بربه، وإن تقطعت السبل، واستبهم الطريق.

ولقد تطايرت الأنباء إلى العاشق المدنف أن (جنان) ستحج مع مولاها إلى مكة وذهب الحسن يتأكد من النبأ ويستوثق من مصادره العلمية، فعرف أنه حق لا مرية فيه، ومن ثم فقد أعد العدة، وأعلن لأصحابه أنه سيخف إلى مكة في قافلة صاحبته. ولم يدهش البصريون لحج الشاعر، فهم يعلمون أنه يقصد به غير وجه الله. ولقد كان يتتبع صاحبته في كل مكان له تتزك بالبصرة، فلا عليه إذا واصل مراقبته الدقيقة في مكة، مهما كلفه ذلك من صحته وماله، والطريف أنه لا يقبل أن يترك الناس في حيرة من حجه المفاجئ، بل يكشف اللثام عن باطن سره إذ يقول:

ألم تر أنني أفنيت عمري

بمطلبها ومطلبها عسير

فلما لم أجد سبباً إليها

يوصلني وأعيتني الأمور

حججت وقلت قد حجت جنان

فيجمعني وإياها المسير

وأنت لو قارنت بينه وبين أبن برد لأدركك العجب من ثبات بشار وخفة الحسن، فقد خدع الأعمى قومه حين زعم أنه سيحج تائباً إلى ربه وأتجه في أيام الحج إلى (زرارة) وأقام بها مع أحد أصحابه، ثم رجع مع العائدين من مكة في يوم واحد، وجلس يتقبل التهاني، ويقص الأحاديث المسهبة عن زمزم والحطيم، دون أن يفضح نفسه بكلمة واحدة، حتى أماط صديقه القناع، فكشف أمره أمام الناس في أبيات فاضحة، أما أبو نواس فهو لا يريد أن يلبس على القوم حقيقته، فيتستر بالورع والنسك، ويدجل بالطواف والتلبية، بل يذيع شعره

ص: 20

الصريح على الناس في جرأة واستخفاف. ومتى أهتم الحسن بالجمهور، وقد جانب المحجة، وخلع العذار!!.

ولقد ظهرت براعته العجيبة في مكة حيث عرف فتاته في لجج طاغية من الزحام الحاشد، فجعل يتبعها خطوة خطوة، ويتعقبها في طوافها تعقباً يدعو إلى الغرابة والدهشة. ومن حيله الماكرة أنه التمس تقبيلها للحجر الأسود فقبله معها في وقت واحد، وطاف بخده على صفحة وجهها الفاتن، وقد شاهده في هذا الوضع المريب محمد بن عمر الجماز فصاح به:(ويحك! في هذا الموضع لا يزجرك زاجر، ولا يمنعك خوف الله، ولا يردك حياء من الناس؟) فقال له الحسن (يا أحمق، وهل حسبت قطع المهامة والسباسب إلا للذي حججت له، وإليه قصدت)، ثم شاد شيطانه الداعر أن يكشف حيلته للناس، فقال هذه الأبيات

وعاشقين التف خداهما

عند استلام الحجر الأسود

فاشتفيا من غير أن يأثماً

كأنما كانا على موعد

لولا دفاع الناس إياهما

لما استفاقا آخر المسند

ظلنا كلانا ساترا وجهه

مما يلي جانبه باليد

نفعل بالمسجد ما لم يكن

يفعله الأبرار بالمسجد

ولقد كانت مشاعر الحسن - وهو الشاعر المطبوع - متيقظة منتبهة في طوافه وتلبيته، فلم يكد يسمع الترانيم الشجية يصدح بها الملبون طوائف تتلاحق وتتتابع، حتى حركت أوتار قلبه وأخذ النغم الساحر يسكب في سمعه نشوة راقصة فنسى جنان بضع لحظات وسحره الجمع الحاشد يصيح ويستصرخ، قلبي مع الملبين تلبية هي في الواقع تغريدة عذبة صدح بها فنان موهوب، فهو يقول في رنة حلوة وتوقيع جميل:

إلهنا ما أعدلك

مليك كل من ملك

لبيك قد لبيت لك

وكل من أهل لك

لبيك إن الحمد لك

والملك لا شريك لك

والليل لما أن حلك

والسابحات في الفلك

على مجارى المنسلك

ما خاب عبد أمّلك

أنت له حيث سلك

لولاك يا رب هلك

ص: 21

يا مخطئاً ما أغفلك

عجل وبادر أجلك

وأختم بخير عملك

لبيك إن العز لك

والملك لا شريك لك

والحمد والنعمة لك

ولله ما أبدع الحسن! فقد كان شاعراً قبل أن يكون عاشقاً؛ فهو يتأثر بالمنظر الرائع فيبرز صورته الجميلة في مرآة شعره، وإن شغله بعض الوقت عن فاتنته، ولا يعقل أن ينقص هذا من حبه في قليل أو كثير، لأن الشاعر حساس مرهف يتأثر بكل ما يرى ويسمع فيتغنى به في سهولة ويسر. ولئن كان المجنون قد طاف مع الطائفين، وشاهد ما شاهده الحسن، فلم يخض كصاحبه فيما خاض فيه الملبون، ومضي يتساءل عن ليلاه ويرسل زفراته الشعرية المحرقة، فلأن قيساً كان عاشقاً قبل أن يكون شاعراً؛ فهو على النقيض من أبي تواس، ولا تثريب عليه إذا اشتغل بليلى عن كل شاغل، ونسى موسيقى التلبية الفاتنة. وليت شعري كيف يصيخ إليها تأته مجنون!

وكثيراً ما يقف الأدباء أمام مقطوعة الحسن في التلبية وما يشاكلها من أشعاره في الزهد والتوبة حائرين مرتبكين، حيث يستغربون صدور هذه النفثات الصادقة من خليع مستهتر بالشرع الحنيف. لقد فات هؤلاء جميعاً أن لكل نفس مهما غرقت في الخلاعة والفسق سبحات خاطفة تصلها بالسماء فتندم على ما فرطت في جنب الله، وتتجه إلى الخالق مستغفرة باكية، فلا عجب إذا أدركت الشاعر هذه اللحظات الخاطفة فقال أبياته الزاهدة، ولا سيما والحسن برغم مجونه الزائد متصل السبب بالآثار الدينية والمواعظ الروحية؛ فقد صحب في صباه أئمة الدين، وروي الحديث النبوي، حتى عده الجاحظ الذهبي في ميزان الاعتدال من رواته، وإن هجنه ووصمه بما يسقطه ويرديه، كل ذلك يدعوه إلى الندم والحسرة على ما ترتكبه ويأتيه. وأعتقد أن شهرة الشاعر بالخلاعة قد جنت عليه أكبر جناية، فقد طاب له أن يتناقل الناس نوادره وأشعاره وكلها طريف ممتع في بابه - وخيل إليه أنه إذا أنقطع عن غيه، سكت الناس عنه فلم يلهج بذكره ذاكراً. وصاحبنا - كجميع الشعراء كلف بالشهرة مولع بالظهور، بل إنه صرح بذلك لأبي العتاهية حين لامه في تهتكه. وإذا كان الصيت الذائع في رأيه لا يكون بغير الخلاعة الزائدة، فليتطلبه من طريقها الشائن. . . وهذا ما كان!

ص: 22

وكيفما كان الحال، فقد رجع الشاعر من مكة كما ذهب إليها، لم يتقرب إلى الله بتوية ترفع عنه سيئاته، وحسبه أن وجد في البيت العتيق طريقاً يوصله إلى جنان بدل أن يوصله إلى الله!! وليته ظفر بما يريد، فإن صاحبته ما زالت برغم جنونه بها تمقته وتزدريه، وعذرها في ذلك أنها لم تصدقه فيما يدعيه، ولا جرم فقد جنت عليه شهرته السالفة بالمرد الحسان، فحق لجنان الماكرة أن تعذبه بالحرمان.

وقد يئس الشاعر من صاحبته في النهاية، فأركب على الشراب وحالف السكر محالفة تنسيه شواغل الوجد ولواعج الهيام، ثم ترك البصرة بما فيها من معارف وأصدقاء وأتجه إلى مدينة السلام، فرأى البصرة لا تقاس بها في الترف والمجون، فقد حوت من المتع والملاذ ما ستخف الوقور ويصبي الحليم، فغرق في الخلاعة إلى أذنه، ونهز بدلوه مع الغواة، وبلغ ما يبلغ المرء بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام!

عفا الله عن الحسن بن هانئ فقد حج إلى البيت العتيق حجاً غير ميرور، ونظم في الزهد والتوبة مالا يحب إزاء آثامه ومخازيه، ولكنه خدع من كتب عنه من المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية، فزعم أنه تنسك وزهد، وما كان الشاعر طيلة حياته من الزاهدين، ولكنه قال قول الزهاد، وفعل أفعال المجان، فكان كصاحبه جميل تذبح العصافير في قسوة، وتدمع عليها في رحمة.

فلا تنظري يابثن للدمع وانظري

إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي.

ص: 23

‌رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر

(الميلادي):

النحلة النصرية في الرحلة المصرية

لمصطفى البكري الصديقي

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

لما دخل شهر جمادى الآخرة من سنة (1132هـ 1719م) أراد الشيخ مصطفى البكري زيارة الخليل ومنها إلى القاهرة، ذات الربوع الزاهرة، وأقام في الخليل أياماً، جاءه فيها الشيخ موهوب مجذوب يكنى بأبي جاعد، فسأله الشيخ بالإشارة عن التوجه إلى مصر، فأومأ بيده نحو السماء، مشيراً بأن العلم لله. وخرج مسرعاً ثم عاد، فكرر الشيخ السؤال فأعاد المجذوب الجواب. وأخبر عن رجل صالح أنه يقول إنه تراءى له سيدي اسحق وقال له قل لفلان يرجع إلى وطنه، فعدل الشيخ عن السفر. ودعاه الأخ الشيخ عبد الرحمن الخطيب بن الشيخ أحمد التميمي إلى كرمه خارج الخليل، وكان قد أتصل بطريقة الشيخ مثل ذلك، فأجابه وكان الوقت قيظاً، فحصل للشيخ من ذلك مشقة.

وعاد الشيخ مصطفى إلى القدس، وأقام إلى أن مضى شهر الصيام. وفي شوال توالت الأخبار بأن جناب الدستور المكرم والمشير المفخم الحاج رجب باشا تولى الديار المصرية، ومراده زيارة الاراضي القدسية والخليلية، ومنها ينزل إلى العريش، وكان له مع الشيخ صحبة ومودة، من مدة طويلة. وتحقق حلول ركابه في مدينة نابلس، فسار الشيخ لاستقباله مع شيخه الشيخ محمد الخليلي، ودخلا عليه، وكان الباشا ينزل عند نقيب أشراف نابلس السيد محب الدين، فدعا الشيخ لصحبته إلى أرض الكنانة، فأحاله على الشيخ محمد الخليلي فوجه إليه الخطاب فتعطل، ولكن الباشا ألح وأبرم فقبلا الدعوة.

وبعد زيارة الخليل، والمعاهد والمشاهد فيها، سارا صحبة الباشا إلى بيت جبريل، ونصب لهما خيمة، وعين لهما ما يحتاجان ' ليه من كثير وقليل، ولم يكن للشيخ في هذا المسير رغبة، لما فيه من المخاطر، وما كان قد استعد لمثل هذه السفرة الشاقة، وودع الذين صحبوه، وشرع لفوره في كتابة رحلته وسماها [النحلة النصرية في الرحلة المصرية]

ص: 24

وسار في الصباح لغزة وقال فيها من قصيدة:

وأردُ الشوق غز في القلب غزّة

عندما جئت أبتغي أرض غزة

ثم سار إلى خان يونس، وبات فيها وقال فيها موالياً:

يا فرحتي مذ بدا المحبوب لي يونس

مسامري بين ندماتي لخان يونس

سألت ما الإسم بدري قال لي يونس

وقلت والأصل حبي قال لي يونس

وأستأنس باصحابه وبكر نحو العريش وقال من قصيدة:

عرش الحب في الحشا تعريشا

حين حل الملتاع فيه العريشا

وأقام ثاني يوم ينتظر ذخائر القوم، ثم توجه نحو (بير العبد) ذي الماء الملح، فلم يطق فيه مقاماً، وجهد حتى وصل (قطية) ومال لسهلها ونزل عليه، ورحل إلى (الصالحية) وتلقاه هناك نذر من جند مصر المحمية. وكان رافقة من غزة هاشم الشيخ صالح مفتيها، فتمرض في الطريق ودفن في الصالحية. ونحا بعد ذلك جهة (القرين) والوزير يرمقه والشيخ محمد الخليلي بعين، ويتفقد أحوالهما فيزول عنهما الغين.

ونزل بعد ذلك نخيل (بلبيس) وأرتحل للخانكه وأتاها ليلاً، وأمر الوزير بعض من عول عليه من جند مصر، بإنزالهما داخل المدينة في مكان مناسب، وأرسلهما مع خادمه إلى دار محمد بك المكني بأبي الشوارب، ووعد عليهما للسلام أعيان البلد، وهي دار واسعة الأكناف، ممتدة الجوانب والأطراف، مقسمة إلى بيوت أربعة، كل بيت يسع الصنجق والذين معه. ويقول الشيخ في وصف الدار (وكنا في ربعها نتيه، ونكاد إذا درنا في جنباته أن نتيه).

ولما دخل مصر القاهرة، شهد مدينة بالمباني الفاخرة، ورأى فيها اشياء كثيرة، لم يرها في غيرها من المدن الشهيرة، فتحقق أنها بلدة جمعت محاسن خطيرة، ولم يقل كما قال البعض أنها قرية كبيرة، بل قال كما قال الإمام الشافعي عنها (كنت أظن أن مصر في الدنيا، فرأيت الدنيا في مصر).

وكان الوزير الكبير، سأل الشيخ قبل دخول مصر، عن محل نزوله، فأجابه في محل يكون شيخه الشيخ محمد الخليلي فيه، فسأله (ولم لا تنزل في بيت البكري الوسيع؟) فأجابه (رغبة في صحبة الشيخ الرفيع، وإن دعانا شيخ السجادة إليه أجبناه). ويقول الشيخ (وأقمنا

ص: 25

في هذا البيت مدة، وأظهر لنا كبير بيتنا صده، وجعلنا حرفاً منسياً، كمن جاء شيئاً فرياً، فنفرت النفس). وأرتحل إلى دار في الخرنفش صغيرة الدائرة، تحت تصرف صديقه إبراهيم أفندي، القاضي، وهي لصقة قاعة التجلي التي للسادة الوفائية، وكان يتردد عليها، وربما أقام ليلا ونهاراً لديها. ويقول الشيخ إن هذه القاعة نظير قاعة الجلال التي في بيتهم، وقد دخلها شيخه الشيخ عبد الغني النابلسي.

وأول ما أبتدأ به من الزيارات زيارة الحسيبة النسيبة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال المناوي في ترجمتها: ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة وتزوجت اسحق المؤتمن بن جعفر الصادق، فولدت منه القاسم وأم كلثوم، قدمت مصر ونزلت بها ببيت عمتها سكينة المدفونة بقرب دار الخليفة بمصر، ولها بها الشهرة التامة بالولاية. ماتت بمصر سنة (208هـ) وكانت قد حفرت قبرها بيدها وصارت تنزل فيه وتصلي، ودفنت في قبرها ببيتها بدرب السباع بالمراغة، محل معروف بينه وبين مشهدها الآن مسافة بعيدة. ثم ظهرت في هذا المكان الذي يزار الآن وكان الشافعي يعتقدها ويزورها. قال الذهبي، وكان والدها من سراة العلويين، ولي المدينة للمنصور ثم حبسه حتى مات، فأخرجه المهدي وأكرمه ولم يزل معه حتى مات المنصور في طريق الحج. ولها كرامات كثيرة. ثم توجه للقرافة، فزار مقاماتها. ومنها إلى زيارة مقام الإمام محمد بن إدريس (الشافعي) ولد بغزة أو عسقلان سنة (150هـ) وهي السنة التي مات بها أبو حنيفة، وأجيز بالإفتاء وعمره خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى الإمام مالك فأقام عنده مدة، ثم لبغداد، ولقب بناصر السنة ثم عاد لمكة، ثم لبغداد، ثم لمصر، فاقام بها حتى مات سنة (204هـ) عن أربع وخمسين سنة.

ثم عطف بعد ذلك على زيارة شيخ الإسلام زكريا بن احمد زين الدين الأنصاري السنيكي، ثم القاهري الأزهري ولد سنة (826هـ) وتوفي سنة (921هـ). ثم زار أسلافه الكرام السادة البكرية، ووقف قبالة القطب الكبير سيدي محمد، وقرأ له فاتحة الكتاب.

وتقدم بعد ذلك لزيارة عم والده، جناب العالم أحمد أفندي نجل والد جده الشيخ كمال الدين البكري نزيل دمشق الشام والقاطن بها هو ووالده وجده، وكان وفد الجد المذكور من مصر إليها، ثم إنه أستحسنها وعول في السكنى عليها. وعم والد الشيخ ورد على مصر من

ص: 26

الحجاز معزولا عن قضاء مكة، وتوفي ثاني يوم دخوله وذلك سنة (1118هـ).

ثم سار لزيارة أبي الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبن أبي الثنا الفهمي القرقشندي وهو من تابعي التابعين، القائل رأيت نيفاً وخمسين رجى من التابعين. وقال في حقه يحيى بن بكير، الليث أفقه من مالك. وهو شيخ البخاري ومسلم؛ ولد سنة أربع وتسعين وتوفي عام خمس وسبعين ومائة. وزار بعد ذلك جملة صالحة من سكان القرافة لا يمكن عدهم، ولم يزد على التمثيل في العتبات الرفيعة إلا لدى سلطان العشاق سيدي عمر بن الفارض مولده (556هـ أو 560هـ) ووفاته (632هـ).

ثم قصد زيارة سيدي محمد الحنفي نجل علي شمس الدين الشاذلي (ولد سنة 747هـ - وتوفى سنة 847هـ). ثم توجه لزيارة السند الجليل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، ولد سنة أربع أو ست أو سبع وأستشهد يوم عاشوراء يوم الجمعة سنة إحدى وستين (بكربلا). وأعلم أنهم اختلفوا في رأس الحسين بعد مصيره إلى الشام أين صار، وفي أي موضع أستقر، فذهبت طائفة إلى انه، طيف به في البلاد حتى أنتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها فلما غلب الإفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلايع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى إلى لقائه من عدة مراحل، ثم بنى عليه المشهد المعروف بالقاهرة، والى ذلك أشار القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح طلايع. وصار آخرون ومنهم الزبير بن بكار والعلاء الهمداني إلى أنه حمل إلى المدينة مع أهله فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه وأخيه الحسن. وذهبت الأمامية إلى أنه أعيد إلى الجثة ودفن بكربلا بعد أربعين يوماً من القتل. ورجح القرطبي، الثاني قائلا ما ذكر من أن في عسقلان مشهدا هناك أو بالقاهرة باطل لا أصل له. أنتهى. والذي عليه طائفة من الصوفية أنه بالمشهد القاهري.

ثم زار الشيخ، علم هذه الديار، وأحد أركان مصر، سيدي عبد الوهاب بن أحمد الشعراني يتصل نسبه بسيدي محمد بن الحنيفة نجل علي رابع خلفاء المختار، ولد تقريباً سنة (899هـ) وتوفي سنة 973هـ وقد ترجمه المناوي وغيره وترجم هو نفسه في سننه، وقد طالع الشيخ جملة من مؤلفاته، وكرر له الزيارة فهو أحد أشياخه ثم زار سيدي محمد الكردي الكائن بعد باب الفتوح، ثم مال لرورة الخواص، وضريحه بزاوية الشيخ بركات خارج باب الفتوح تجاه خوص، توفي سنة (939هـ).

ص: 27

ولقد دعاه جناب الشيخ علي نجل الحنفي الولي، إلى مكان نزيه ذي أبنية وثيقة، في مصر العتيقة، وكان بحر النيل في ازدياد على المعتاد، فأركبه والشيخ محمد الخليلي، قياسة له صغيرة، وأرسلهما للتفرج على المقياس فسارا ورأيا العمود فيه مغطى بمياه فاقت (علي) الأسفنطا؛ ورأيا الماء نازلا عما عليه كان، لأنه فاض من الدرج الخارج وعم ساحة المكان؛ ثم عادا إلى محل الضيافة، فإن أمواجه كانت كبيرة، واختلاف أهويته كثيرة، وكان كبير ذلك المحفل الجامع والداعي لبيته وضيافته جناب الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، وقطعا ذلك النهار، والداعي الصفي نجل الحنفي والوفي يلاطفهما.

وبعد أيام دعي الشيخ للإصلاح بين الشيخ محمد شنن والشيخ أحمد (اللقدوسي؟) وأقام معهم صفا ووفا، على بركة الرطلي التي تمتلئ إذا النيل وفا، وكان يوماً مشهوداً بالأفاضل المعتبرين ممدوداً بمكارم الكريمي المستقى هو وأخوه قد دعا الشيخ بعد أيام للحضور في داره، وقصد بعد أيام لزيارة مقام زين العابدين.

ثم توجه صحبة الشيخ محمد الخليلي إلى جامع سيدي عمرو بن العاص بن وائل السهمي فاتح مصر، وقد لقب أبوه بالعاصي على أحد الأقوال لأنه كان يتقلد بالعصا عوضاً عن السيف فسمى بالعاص. وكانت زيارته وزيارة سيدي عقبة بن عامر الجهني تقدمت، ورأى الشيخ في الجامع مصحفين ينسبان للأماميين سيدي عثمان وسيدي علي رضي الله عنهما، ويقول (إنه بالبعد عن المدينة، اضمحلت بعض رسومه المتينة)، وصعد المنبر، فوعظ وسار بعد ذلك إلى مصر العتيقة وكر ثانياً إلى المقياس. ويقول الشيخ ومن المترددين عليه الشيخ محمد الحفناوي. وممن دعا الشيخ إلى داره الشيخ محمد العناني ذو النسب العمري والحسب الشمسي القمري، وأغدق عليه المبرات.

ويقول الشيخ (وكنا نستعمل القصب بكثرة غير مختصرة، حتى اتخذنا له من الخشب صغير معصرة، ويقال إن الإمام المطلبي صاحب المذهب، ابن عم النبي كان سبب نزوله القاهرة، حبه في القصب السكري، وفي ذلك يقول الإمام السيوطي:

نزلتُ على القصب السكري

نزول رجال يريدون نهبه

يجز كجزء رؤوس العدا

ومص كمص شفاه الأحبة

وكان يتردد كثيراً مع الشيخ الخليلي إلى بولاق لأجل الإطلاق لا من الإملاق، وكذلك

ص: 28

لزيارة الشيخ فرج، وصعد طبقة فرأى على جدرانها أبياتاً أثبتها منها:

ومن عجب الأيام أنك جالس

على الأرض في الدنيا وانت تسير

وسيرك يا هذا كسير سفينة

بقوم جلوس والقلاع تطير

وكان الشيخ قد زار في أوائل قدومه الولي الشيخ محمد الدمرداش، ودعاه أولاده الشيخ محمد صاحب السجادة والشيخ عثمان، ودخل خلوة الشيخ.

(البقية في العدد القادم)

أحمد سامح الخالدي.

ص: 29

‌رسالة الفن

الزهريات الإغريقية

للدكتور أحمد موسى

- 2 -

كان أول مصنع أقيم لصناعة الزهريات في بلاد الإغريق بمدينة كورينثيا القرن السادس ق. م. وأنتشرت هذه الصناعة حتى بلغت جنوب ووسط إيطاليا وراجت منهما.

وكانت أول الزهريات الكورنثية صغيرة الحجم رقيقة التكوين، صنعت من طين ناعم الملمس، مزودة برسومات بنية حمراء رسمت على أرضية صفراء باهتة، أما نقوشها فكانت عبارة عن خطوط أفقية متجاورة، ألتفت حول البدن، وبين كل مجموعة من هذه الخطوط، وبين ما علاها تركت مسافة ملئت برسوم للحيوان والانسان في أوضاع مختلفة ولكنها بسيطة بالقياس إلى ما سيليها.

وتتلخص الصفة الظاهرة لهذا النوع في أنها مشابهة في مجموعها لتلك التي عملت برودس، من حيث الإخراج واختيار الألوان وأسلوب التصوير؛ فترى غصن شجرة وقد بدا بالقرب من قاعدة الزهرية متجهاً إلى أعلى، تفرعت منه أغصان أدق وأرفع، وزعت في نظام يدل على الخضوع لحظة مرسومة، بحيث جاءت بينها مسافات أو مساحات أستخدمها الفنان لتصوير الإنسان والحيوان كالسد والثور وأبي الهول، وما تبقى من المساحات زوده الرسام بزخارف من بينها الورود الصغيرة التي كانت محببة إلى الأغارقة بصفة خاصة.

على أن المستعرض للزهريات الكورنثية بصفة عامة يخرج بنتيجة صريحة هي أنها ذات احجام صغيرة كما سبق التنويه، وذات شكل كروي غالباً لها غطاء يوضع فوق العنق في بعض الأحيان.

وقد طرأ تغيير ظاهري في صناعتها في اواخر القرن السادس ق. م. فدت اكبر حجما وذات مقبضين ويسمونها (أمفورا) وأصبح لون الأرضية أكثر احمرارا نتيجة لزيادة الحريق في الأفران، ورأى الفنان نفسه مضطراً إلى استخدام نوع داكن من الورنيش

ص: 30

يتناسب مع لون الأرضية، فتكون ألوانه أكثر وضوحاً، كما أنه أستخدم اللون الأبيض والأحمر البنفسجي.

وبدأ الفنان يعني بتقسيم مساحة الزهرية كلها إلى اٌسام معينة، بعدما كانت لا تشتمل إلا على فواصل جاءت دون قيد ودون خطة موضوعة. وكان أهم هذه الأقسام مخصصاً لتصوير قصص الأبطال في أغلب الحالات. أما الأقسام الأقل أهمية فكانت مجالا لتصوير الحيوان أو الفرسان على ظهور الجياد أو ما شابه ذلك.

ولعل من أحسن الأمثلة على هذا الاتجاه زهرية مشهورة محفوظة بمتحف برلين تبين فرسان (أمفياراوس) والى جانب المشكاوات الكورنثية وجدت في نفس المرحلة الزمنية مصانع للفخار وعمل الزهريات في إيطاليا، فظهرت في الأفق مجموعة خالكيس تتميز بصور الرجال من الزخارف النباتية التي وجدت بالزهريات الكورنثية.

وشاع ظهور المشكاوات المسماة (أمفورا) ذات المقبضين والتكوين الكروي القائم على قاعدة مستديرة. وقد التف حول وسطها حزام عريض ملئ بصور تمثل سير الأبطال وأحوالهم كعراك هرقليس مع جريونيوس والعراك حول حثة أخيل، والوداع بين هكتور وبين باريس الخ، مما لا تتسع له إلا الكتب.

ولم يدع الحال طويلا على هذا المنوال، فلم يكد يبدأ القرن الخامس قبل الميلاد إلا وكانت أثينا قد بدأت تتغلب شيئاً فشيئاً على المشكاوات التي أنتشرت في إيطاليا وانفردت بالرواج طوال القرن الخامس والنصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد.

أنظر إلى المشكاة رقم (1) وهي المسماة (أمفورا) وتأمل بساطة الزخرفة ثم أنظر إلى مجموعة الرجال وقد أتجه ثلاثة منهم نحو اليسار واثنان نحو اليمين كأنهم في حديث هام، والعجيب أن الفنان استطاع التعبير عما يريد في هذه الرقعة الضيقة بكل إتقان، أما رقم (3) وهي يسمونها (هيلدا) ذات مقبضين أفقيين اشتملت مصوراتها الألوان الثلاثة: الأسود والأحمر والأبيض وقسمت مساحتها إلى ثلاثة اقسام أفقية أوسطها لرجال ونساء وأعلاها لحيوانات وطيور، أما الأمفورا رقم (6) فهي ولا شك أكبر حجماً وأرشق تكويناً - والصور الزخرفية هندسية الطابع إغريقية المزاج، ولعلك تذكر أن الوحدة الزخرفية الموجودة أسفل الصورة مباشرة هي ما يسمونها مياندر نسبة إلى نهر ذي تعاريج يأتي

ص: 31

ذكره فيما بعد.

وقد سارت المشكاوات الأتيكية في أول أمرها متأثرة بنظائرها اليونية ثم بالكورنثية حتى أوائل القرن السادس قبل الميلاد حيث استقلت بنوع من التصوير يسمونه (التصوير السود اللون).

وتمتاز الأتيكية المذكورة بجمال اللون الأحمر ورقته ودفئه وكذلك ببريق الورنيش الذي يراه المشاهد لأول وهلة.

هذا من حيث (الصنعة) أما من حيث الإخراج الفني فقد فامتازت المصورات بعناية المصور ومقدرته على تنفيذ الفكرة بأسلوب يدل على المران والتمكن.

كما أنه تفنن في نوع الزخارف فضلا عن عنايته بضبط خطوطها وانحناءاتها وحسن اقتباسه لوحداتها مع التقليل منها ووضعها في أماكن خصصت لها، لا تطغى على المصورات، بل تساعد على توجيه النظر إليها لوجودها في النهايات كأنها إطار يحيط بالمشكاة.

وكان الموضوع المثير لأهتمام الفنان المصور ينحصر في سير الأبطال يستلهم منها مادة فنه، ويلي ذلك مناظر الحياة الاجتماعية والاحداث اليومية يعيش فيها ويتأثر بها ويسجلها في سجله الخالد على الزمن.

ولعل الاتجاه الذي كانت له قيمته الخاصة ذلك الاتجاه نحو تسجيل المناظر الجنائزية في مجموعة عرفت بأسم شكلها على هيئة (الأمفورا) إلا أنها أكثر منها ارتفاعا وأكبر حجماً، وكان الغرض منها تحلية المقابر والجبانات.

والملاحظ أن في هذه المرحلة الزمنية بدأ الفنان يشعر بكيانه وبقيمة عمله فأخذ يسجل أسمه على كل مشكاة يصورها، فجاءت مجموعة (بان أثينا أمفورا) ولا تخلو واحدة منها عن أسم المصور، وهذه المشكاواة كانت تملأ عادة بالزيت لتقدم إلى أوائل المتسابقين اعترافاً لهم بالتفوق والتقدير، في أعياد بن أثينا آلهة المدينة. وبمناسبة كتابة اسماء المصورين أراه لزاما أن اذكر (كليتياس) مصور زهرية فرنسوا المشهورة، وأرجو تيموس وسوفيلوس ونيآرخوس وأولاده الخمسة.

ويتلخص الفارق البارز بين الزهريات (ذات الأجسام الحمر) من (ذات الأجسام السود) في

ص: 32

أن الأخيرة رسمت عليها الأجسام بهذا اللون وأحيطت بلون أرضية الزهرية، على حين كانت ذات الأجسام الحمر عبارة عن خطوط تحديدية غطى ما يحيط بها باللون الأسود الدخيل على الزهرية.

وببلوغ الصنعة هذه الدرجة من التجديد، كان فن تصوير المشكاة قد تقدم من حيث السلوب؛ فأصبح التعبير أكثر قوة عن ذي قبل، كما بدت التفاصيل أكثر دقة وأكمل أداء بالقياس إلى سابقتها التي انفردت باللون الأسود وظلت حافظة على مستوى محدود من الإتقان وقفت عنده.

وبعدما كانت الأجسام البشرية اشبه شئ بوسيلة من وسائل التعبير عن فكرة معينة، أصبحت قوية من حيث إنشائها والأسلوب الفني الذي تم به تصويرها، فكانت العنصر إلهام الواضح الأثر.

وتقدم فن تصوير المشكاة تقدماً مستمراً من ذلك الحين أي منذ حكم بيزستراتس حيث ظهرت الأجسام باللون الأحمر، حتى منتصف القرن الخامس ق. م. عندما ظهرت اسماء لامعة في عالم تصوير المشكاوات أمثال أويفورونيوس وزميله إبيكتيت وغيرهما من المحدثين نسبياً أمثال دوريس وبريجوس وهيرون ، ، ، ورسمت بعض المشكاوات مزودة بأسماء وتفسيرات لبعض مناظرها، كما كتبت بعض المعاني الرمزية للتعبير عن مشاعر خاصة. ومن هذا نرى أن تصوير المشكاة كان فناً له خطره وأثره البالغ؛ إذ تكونت منها مجموعة هي سجل حافل بما يميط اللثام عن حياة الأغارقة بين الواقع وبين الخيال.

وبالنظر إلى الزهرية رقم (2)(أمفورا) نجدها تشتمل على أجسام باللون الأحمر رسمت في عناية ودقة ملحوظة تمثل مناظر رياضية رائعة، بدت فيها أجسام اللاعبين رشيقة التكوين.

ولا نستطيع أن نتناول بالوصف كل واحدة منها على حدة، وإنما الذي نستطيعه هو أن نوجه نظر القارئ إلى ناحية هامة وهي أن الأشكال 2، 4، 5، 7، 8، 9 رسمت كلها على أرضية سوداء أي بتحديدها ثم طلاء الارضية بهذا اللون وترك الأشكال دون تلوين؛ فتبدو حمراء بلون الأرضية.

ورقم (4) تبين إبريقاً، و (5) هيدريا و (7) ليكيتوس و (8) كراتر و (9) وكلها تبين

ص: 33

مرحلة عظيمة من مراحل تصوير المشكاوات الإغريقية.

بقي بيان عن كلمة ميآندر تعبيراً عن وحدة زخرفية تمثل خطوط متكسرة في زوايا قوائم يدخل بعضها في البعض الآخر [الزهرية رقم (6) أسفل أرجل الحصان مباشرة] سموها كذلك تشبيهاً لها بنهر بهذا الأسم كثيرا التعاريج يصب في بحر أيجة قبالة جزيرة ساموس. أما الزخارف الأخرى فقد اقتبست وحداتها من نباتات ونخيل يسهل فهمهما دون مشقة.

(له بقية)

أحمد موسى

ملحوظة: لأسباب فنية تعذر نشر الزهريات المقول عنها،

فنشرنا هذه بدلا منها، فهي وإن اختلفت في الموضوع، فهي لا

تختلف في الجوهر.

ص: 34

‌بعد خمسة وعشرين عاماً:

سيد درويش

للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا

دارت الكأس، وألتقى الندماء

وأعادت أيامها الصهباء

وصفا مجلس الشراب، وطابت

وصحا في عبيرها الإغراء

وبدت حولها المزاهر تشدو

ودعا الشرب سامر وغناء

وأستوى الضاربون فيها أفان

ين، وباتت على الغدير الظماء

الليالي والصفوة الندماء

وسقاة الملاحن القدماء

باكرتهم في موسم الفن فانثا

لوا كما يجمع الفراش الضياء

يا نداماي: هذه حان باخو

س، وهذي أنغامه العذراء

نبضات الأوتار فيها تراني

ل، وهمس الأعواد فيها دعاء

عصر الشعر كرمها من معاني

هـ، ودارت بها النغوم الوضاء

فإذا القوم بعد خمس وعشر

ين نشاوى - كعهدهم - أنضاء

رقصت في أعصابهم نشوة الفن

وللفن سورة وانتشاء

نغم عاجت، ولحن رَواء

وهوى ساكب، وطبع رخاء

وتصاوير للوجود كما لو

شفه الرسم، أو نحاه الشعراء

وتعابير عن معان دقاق

لم تحوم في جوها الشعراء

أنكرت عالم الفناء وضجت

في صداها الحياة والأحياء

صانع الخلد لا يموت وإن مد

ت عليه سجوفها الغبراء

هو في فنه مقيم كما ته

زأ بالريح القمة الشماء

شاعر ترجم الأحاسيس ألحا

ناً روتها الطبيعة الخرساء

ساخر يضحك اللحون، غضوب

تتلظى أنغامه الحمراء

علمته الأنسام كيف البكاء

وهدير الأمواج كيف الإباء

وعويل الرياح كيف التشكي

وعبير الورود كيف الغناء

رب لحن كأنه موكب الرع

د عتياً كأنه الكبرياء

ص: 35

ولحون كأنها رقصة النا

ر تغنيها الزعرع النكباء

ولحون كأنها لحظة الوص

ل زهتها ملاوة ولقاء

ولحون تصور الناس ألوا

ناً ففيها الطيوف والأصداء

نغمات ترّدد البدع فيها

وسققتها البديهة الوطفاء

غال خلاقها الردى فتبنا

ها خلود، وذاد عنها وفاء

يخفض الدهر عندنا من جنا

حيه، ويردى البِلى، ويعيا الفناء

هي الخمر كلما شيّخ الده

ر تناهى بها الصبا والفتاء

ينبض الحب في سناها وتدعو

ك إلى الله روحها الحسناء

ومن الفن ما يعلمك الحق

إذا موه الوجود الرياء

ومن الفن ما يبشر بالرحم

ة دنيا طغا عليها الشقاء

ليس في جوهر الحقيقة إلا أل

فن شئ. . . وغيره أسماء

والذي صور العوالم فنا

ن تظّني في فهمه الفهماء

والليالي قصائد عصماء

وأولو الفن وحدهم أنبياء

ربما استغنت الحياة عن الع

لم على رغم ما أتى العلماء

وعلى الفن وحده عاش أجدا

دك دهراً وهم به سعداء

إن من أطقلوا العقول علينا

لست تدري: أأحسنوا أم أساءوا

والذي ظها تراباً وماء

هو في نفسه تراب وماء

شدا ما تجنح الحياة إلى الرو

ح وإن كان في الطريق التواء

طاهر محمد أبو فاشا

ص: 36

‌الأدب والفن في اسبوع

للأستاذ عباس خضر

صانع البؤس:

نشر أن لجنة ألفت لإحياء ذكرى عبد الحميد الديب، فقررت جمع ما قيل في حفلة تأبينه وطبعه في كتاب، وطبع ديوانه، وإقامة حفلة للاحتفاء بذكراه. ونشرت بعض الصحف أخيراً كلمات حث فيها اصحابها على الأهتمام بهذه الذكرى. وفي كل ذلك، وفي كل مناسبة يذكر فيها عبد الحميد الديب، يصفه القائلون والكاتبون بالشاعر البائس، وينحون باللائمة على مصر لإهمالها إياه، وذهب بعضهم إلى أنه أهمل حياً وميتاً، وهم لذلك يمون هذه الأمة بالقسوة والجحود لعدم عرفانها أقدار النابغين من أبنائها!.

قيل كل ذلك، وقيل مثله في حفلة التأبين الماضية، وسيدور حوله المحتفون بالذكرى في الحفلة المزمعة. . . فهل كان عبد الحميد الديب بائساً حقاً؟ أو بتعبير آخر: هل ظلمه المجتمع وحرمه نعمة العيش الرخي؟

إنما يأتي البؤس والحرمان من التعفف مع عدم القدرة على الارتزاق، وقد كان الديب على عكس من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. . . . إذ كان من العفاة السائلين، وكان ذا حيلة في هذا المضمار تدر عليه الكثير من العطاء، وكان يعاونه على ذلك اصدقاء، منهم من هو معجب بشعره، ومنهم من يتفكه بتصرفاته ومفارقته، وكان بعض هؤلاء لا يبخلون عليه بما يملكون.

وكثيراً ما هيئت له اسباب العمل، فقد وظف عدة مرات في التدريس بمجالس المديريات، وطالما دعى إلى التحرير بالصحف والمجلات؛ فكان يبدأ العمل وينقطع عنه بعد قليل، وفي بعض الأحيان كان يحتال لأخذ المرتب مقدماً، ثم يذهب ولا يعود!

وكان له زملاء في أول العهد قاسموه التسكع في الحي الحسيني، وكانوا يسمونه (الحي اللاتيني)، ولكنهم أخذوا بأسباب العمل، ومنهم الآن صحفيون ناجحون ذوو دخل كبير. ومما يروي من نوادرهم معه في عهد البؤس أن أحدهم - وهو الآن صحفي معروف يكسب حوالي مائة جنيه في الشهر - نازع الديب عدداً قديماً من جريدة الأهرام، إذ أراد كل منهما أن يهيئ به فراشاً على (الرصيف) في حرم المسجد الحسيني، فاقتسماه، ولكن

ص: 37

القسمة لم تحسم الخلاف، فقد تمسك كل منهما بأن يأخذ الجزء الذي فيه (افتتاحية) العدد. . . . وكانت موقعة أسمها (معركة الافتتاحية)، ويظهر أن الذي ظفر بهذا القسم غريم الديب، فقد كان له فالا حسناً، إذ صار بعد ذلك يكتب الأفتتاحيات!

وكان الديب يقضي حياته الخاصة في الظلام، يعاشر فيها أنواعاً منحرفة من أخس الآدميين، وكان ينفق على هؤلاء ومعهم ما يجمعه من هنا وهناك. فهو يبدأ الجولة بقصد إحدى القهوات الكبيرة، حيث يلقى بعض الأدباء والمياسير ممن يعطفون عليه، فيسمعهم من شعره، وقد يطرفهم بنوادر من شئونه الخاصة معرضاً القدم من الحذاء، وقد ينشد مدحته لأحد الجالسين؛ ثم يخرج عامر الجيب إلى حيث يفرغه في تلك البيئات المنحطة. . . ثم تنتهي الدورة بفترة البؤس الذي صنعه بتلك المقدمات!.

ولم يكن وفياً للمغدقين عليه، بل كان ينثني عليهم بالهجاء، بعد أن قدم المح على العطاء. . . . ومن غريب أمره أنه كان يهجو على قدر العطية. . وكان يعرف ذلك منه المرحوم أنطون الجميل باشا فكان لا يعطيه في المرة إلا (شلناً) ويقول: لا أريد أن أستكثر من الشتم! ولعل هذا هو الذي أوحى إليه نوعاً طفيفاً من المدح: بضعة أبيات لا يغالي بها في مدح الممدوح، وكان يسمى هذه المدائح (الشلنيات) نسبة إلى ما يرجوه من ورائها. وكان يطلق لسانه - حديثاً وشعراً - على كل من يحسن إليه، قيل له: أهج فلاناً. فقال: ولماذا أهجوه وهو لم يحسن إلي ولم يعطني شيئاً؟ ورآه اصحابه مرة مقبلا عليهم في تيه وكبرياء، فقالوا إنه لا بد أن يكون في جيبه - على الأقل - عشرة قروش. . . فلما سألوه في ذلك، قال: أني لي. . . وهل يترك معي كامل الشناوي شيئاً يا أستاذ!؟ والأستاذ كامل الشناوي معروف بعطفه عليه وأهتمامه بأمره. . . وشاهد بعض أصحابه في ثياب رثة، فقال أحدهم، وهو الأستاذ محمد مصطفى حمام: يعز علينا أن يكون الديب عاري الخلف، لا من (بنطلون) بل من (جلباب)، وتطل أصابع قدميه لا من (جزمة) بل من (بلغة)، فهلموا نواري سوأته. . . وأحضروا له ثياباً نظيفة وحذاء جيداً، فأخذها وذهب، وبعد برهة عاد إليهم مزهواً فيها، ونظر إليهم شزراً. . . ثم قال: ألا ترونني وجيهاً يا كلاب! ولم يكن يليق بهذا السؤال في هذه الحال إلا جواب واحد: بلى يا ذئب!

ولم يشذ الديب عن الجزاء الوفاق بهجاء من يحسن إليه، إلا مع معالي الأستاذ إبراهيم

ص: 38

دسوقي أباظة باشا. قال لي الأستاذ محمد مصطفى حمام: مدح الديب دسوقي باشا بقصيدة جيدة منها:

ولو هيأ نمو للديب رزقاً

لكان بحمدكم صلى وصاما

ومالي لا أرود حمى رحيباً

تكنف حافظاً ورعى حماما

وصحبته إلى معاليه، فأنشده إياها، فأعطاه خمسة جنيهات (من جنيهات ما قبل الحرب)، وحقيبة كبيرة ملأى بالملابس، وأحاله إلى (الترزي) ليصنعها على قده. . . فكاد يجن من الفرح وراح يقارن بين حاتم الطائي وبين دسوقي باشا مقارنة أنتهى فيها إلى أن الأول أسطورة كاذبة والثاني حقيقة ماثلة. ووالى إنشاء المدائح فيه. ولكن (الذئبية) أدركته مرة، فقال أبياتاً أولها:

أبلغ أباظة عني أنهم ورثوا

مالا ولم يرثوا ديناً ولا خلقا

وبلغت الأبيات دسوقي باشا، فأبتسم ثم استدعاه، ونفحه نفحة أخرى، وقال: إن يكن قد هجانا، فإني أكافئه على الشعر الجيد. فأستمر يمدحه بعد ذلك حتى كان آخر ما قاله من الشعر في مدحه، ولم يجازه الجزاء (الوفاق)!.

هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد الديب كما يعرفها خلطاؤه لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها؛ فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان هو يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال بتلك الوسائل ويبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وفي أقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى بصنعه. . . وكانت تعوزه الكرامة والأباء والعفة ليكون بائساً حقيقياً. وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أية شتيمة، ولم ينج من هجوه أحد ممن عرف سواء أعطاه أم منعه. وقد صب جام هجائه على جميع الأدباء بقوله:

يا رجال الشعر والقول الرصين

لعن الله أباكم أجمعين

أما الناعون على هذا الوطن جحدوه وإهماله النابغين من أبنائه فليلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف.

وأما الذين يحبون أن يصوروا الأديب أو الفنان إنساناً منحى منفكا متحللا تائهاً شارداً. . . فليعفو الأدب والفن مما يحبون.

ص: 39

أسبوع شوقي:

اقتربت ذكرى المغفور له أحمد شوقي بك أمير الشعراء، فقد توفى في الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة 1932. وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي ثارت عجاجه حول برنامج حفلة وضع إحياء ذكرى شاعر مصر الكبير، لأن البرنامج كان فيه أنحراف عما يليق بهذه الذكرى الكريمة، وكان لنا بلاء في مقاومة هذا الانحراف، انتهى إلى نتيجة مرضية مؤسفة معاً، إذ كان القائمون بالمشروع ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فعدلوا عما كان موضع المؤاخذة، فكان ذلك عملا مرضياً؛ أما المؤسف فهو أن الحفلة أجلت أشهراً ثم أقيمت متأخرة هزيلة.

ويظهر أن ذكرى شوقي كانت في العام الماضي - على ما كان فيه - أحسن حظاً منها في هذا العام. . . . فقد كان في الأول كلام (والسلام)، أما اليوم فلا نسمع لهذه الذكرى أي حديث مع السف الشديد!

أقول هذا وبنفسي فكرة أوحت إليّ بها كيفية الاحتفال بذكرى سيد درويش، فقد رأينا أن الرجل أحتفى بذكرى نفسه إذ كان أكثر البرنامج من موسيقاه وأغانيه وأناشيده. فأقترح أن يخصص اسبوع لذكرى شوقي (ولا أقل من اسبوع) تشغل لياليه، أو أكثرها، بتمثيل مسرحياته وغناء شعره، ويسمى هذا الاسبوع (أسبوع شوقي)، ويمكن تنفيذه في هذا العام وإن كان الوقت ضيقاً، فمسرحياته لدى الفرقة المصرية للتمثيل، والممثلون مدربون عليها وحافظون أدوارهم فيها. وهذا ديوان شوقي، وهذا عبد الوهاب، وهذه أم كلثوم، فإن لم يستطيعا تلحين جديد، فلديهما ما أخذاه من الديوان من قبل.

ولكن من يقوم بالتنفيذ؟ تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية فهي المشرفة على الفنون والمسارح، وأذكر لها أعضاء اللجنة التي ألفت في العام الماضي لهذه الذكرى، ومنهم الدكتور إبراهيم ناجي الذي ثبت في الميدان بعد أن تخلوا عنه وأصر على الاحتفاء بالذكرى، على قدر ما أستطاع. . . .

وممن تنفق الوزارة على هذا الاسبوع؟ أظن ذلك لا يعجزها. ولو كان الأمر بيدي لأخذت المبلغ الكبير المخصص لاستيراد الفرق الأجنبية وأنفقته على هذا الاسبوع ويسرت على الناس مشاهدة حفلاته، ليزيطوا ويذكروا شوقي. . . .

ص: 40

الشعر المعاصر:

صدر أخيراً كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي، وقد بين فيه مذاهب النقد الأدبي ومقاييسه والمذاهب الأدبية وعناصر الشعر وما ينتمي إلى ذلك من أبحاث النقد الحديث؛ وعرض عليها الشعر العربي المعاصر، مستقصياً ببيئاته وألوانه، مبيناً طرائقه وسماته.

ولا يسع متتبع الحركة الأدبية إلا أن يلتفت إلى هذا الكتاب ويهتم به، لأنه كتاب جديد في المكتبة العربية، فهو أول مؤلف عربي - على ما أعرف - في موضوعه بشقية: الكلام في النقد الحديث، وتطبيقه على الشعر المعاصر. ومما يدعو ايضاً إلى الألتفات إليه والأهتمام به، ظهوره في هذا الوقت الذي كاد ينعدم فيه النقد الأدبي، فلم نعد نرى إلا هذه العجالات التي تكتب عن الكتب هنا وهناك، بدافع المجاملات الشخصية، والتي يكتفي كاتبوها - في أكثرها - بإلقاء نظرة عاجلة على الفهرس والمقدمة إن كانت قصيرة. . . وما أسوأ حظ النقد في أدبنا الحديث، فقد أنقلب إلى هذه الحال من الضد، إذ كان فيما مضى شتائم وتجريحات، فصار الآن مجاملات ومبادلة تحيات. . .

وأعود إلى كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) فأقول: إنه يبدو فيه ما بذله مؤلفه من جهد شاق مثمر، ومن مميزاته الاتزان واستقامة النهج، ولا أخال المؤلف قصد إلى التطفيف والارجاح في ميزانه، بما لاحظته في الكتاب منها ولا أرجع ذلك إلا إلى ما أرتاه وأكتفي بهذه الإشارة، لأن المقام لا يسمح بالتفصيل والتمثيل. وحسب الأستاذ السحرتي أنه وضع بكتابه هذا لبنة في بناء الأدب العربي الحديث.

التأليف المسرحي:

أتجهت الرغبة منذ أوائل هذا العام إلى النهوض بالمسرح، ولما كانت الفرقة المصرية هي الوحيدة التي تواصل العمل المسرحي الراقي في مصر، فقد كانت هي محور الأهتمام، فضم إليها بعض الممثلين والممثلات وعلى رأسهم الأستاذ يوسف وهبي بك الذي أسندت إليه إدارتها، مع بقاء الأستاذ زكي طليمات مديراً فنياً لها.

وكان أول شئ أستدعى الأهتمام في الأستعداد للموسم القادم هو أزمة التأليف المسرحي

ص: 41

التي كانت تضطر الفرقة إلى تكرار المسرحيات الآتية: -

1 -

قررت اللجنة العليا لترقية التمثيل إجراء مسابقة عامة للتأليف المسرحي يدخلها المسابقون من مصر وسائر الأقطار العربية، وجعل لها ثلاث جوائز: للمسرحية الأولى 250 جنيهاً، وللثانية مائتان، وللثالثة مائة وخمسون.

2 -

وقلت للأستاذ زكي طليمات: لوحظ أن المعتدين بأنفسهم لا يدخلون المسابقات، وأن الإنتاج الذي يقدم فيها ضعيف، فهل تتوقع مع هذا أن تنتج المسابقة نتاجاً يكفي الفرقة؟ فقال: هذا صحيح، ولذلك جعلنا مبلغاً مساوياً لمجموع الجوائز - وهو ستمائة جنيه - لتكليف كبار الكتاب المعروفين بالقدرة على التأليف للمسرح، ومنهم الأستاذ توفيق الحكيم، وهو الآن يعمل في مسرحية بناء على طلب الفرقة، ويوسف بك وهبي يؤلف الآن مسرحية، والأستاذ محمود تيمور بك ألف مسرحية أسمها (الملك الحائر)، وهي تتناول شخصية امرئ القيس، وقد نحا فيها نحو روايته الماضية (حواء الخالدة).

3 -

هناك مسرحيات كانت قد قبلتها قديماً لجنة القراءة ودفع ثمنها، وأخرى فازت بجوائز في مسابقة كانت أجرتها وزارة الشئون الاجتماعية، ولم يمثل من هذه ولا تلك شئ، فأختار بعضها يوسف وهبي بك لمواجهة أول الموسم ريثما يفرغ المؤلفون من تأليفهم، ومن هذه الروايات (سر الحاكم بأمر الله) للأستاذ أحمد علي بأكثير، وسيبدأ بها الموسم في منتصف أكتوبر وتجري الآن تجاربها في مسرح حديقة الأزبكية.

عباس خضر.

ص: 42

‌الكتب

في قافلة الزمان

تأليف الأستاذ عبد الحميد جودة السحار

لقد عرفنا الأستاذ عبد الحميد جودة السحار فيما أصدر من مؤلفات

قاصداً مؤرخاً، يكتب التاريخ بأسلوب قصصي شيق ويرسم لنا أبطاله

رسوماً تنبض بالحياة. وقد أخرج لنا (بلال مؤذن الرسول) و (أبا ذر

الغفاري) و (سعد بن أبي وقاص) و (ابناء أبي بكر الصديق) وقال فيها

قسطاً مرفوراً من النجاح وعالج الأقصوصة الحديثة في كتابه (همزات

الشياطين) لكن طابع السرعة وعدم الإتقان، بدأ واضحاً في معظم

أقاصيصه. ثم عالج نقد المجتمع والجهاز الحكومي بكتابه صور فكهة

تصور معايبه في الكتاب الذي أصدره بعنوان (في الوظيفة) فكان

أنموذجاً عالياً في طرافة الأسلوب وروعة التهكم وجمال الأداء.

ولكن الكتاب الذي نتحدث عنه الآن يسلك سبيلاً آخر لنقد المجتمع وعاداته هو سبيل الرواية. فكتاب (في قافلة الزمان) إذن رواية طويلة انتزعت شخصياتها من صميم المجتمع المصري. ولكي يدرك القارئ ما بذل المؤلف من مجهود في تصوير عادات عدة أجيال من أمته ينبغي أن يعلم أنه بدأ الرواية في بداية القرن العشرين وأنتهى بها في أواخر سنيه الحالية. أي أن الرواية سجل لحياة مجتمع في نصف قرن. ولم يكن هذا السجل لحسن الحظ مشوشاً مرتبكاً ناقص المعلومات، بل كان مرتباً منظماً يلم بالشاردة والواربدة، قد دونته يد كاتب ماهر رمى إلى تقديمه بين يدي كل من يتوق إلى معرفة مجتمعه في فترة لم يكتب له فيها الوجود، وبذلك يوفر عليه الإطلاع وإن لم يوفر له الوجود!.

فنجاح المؤلف من هذه الجهة لا ريب فيه. إذ أنه وفق كل التوفيق في نقل عادات الناس، ورسمهما بدقة وأمانة وإخلاص.

ص: 43

أما أهيكل الرواية ففيه طرافة وتجديد. ونستطيع أن نلخصه في عبارة قصيرة؛ إنه عبارة عن تاريخ حياة أسرة وأحفادها. فقد بدأت الرواية في التحدث عن الحاج أسعد وهو أبو الأسرة الأكبر ومن حوله أبناؤه الأربعة ولكل منهم زوجة وأطفال. ويظل هؤلاء جميعاً سقف واحد في البيت الكبير الذي يمتلكه الحاج أسعد. ثم نستطرد الرواية في استعراض حياة هذه الاسرة التي تتفرع وتتشعب وتتشابك شؤونها وتتعقد مشاكلها بأزدياد أفرادها وأتصال أعمالهم بأعمال الناس، وبما يواجههم ما يواجه الإنسان في خضم الحياة من مشاغل تستولى على عمره. فهنا بيع وهناك شراء، وهنا زواج وهناك طلاق، وهنا مرض وهناك موت، والى أخر ما يتعلق بالحياة من أمور. على الرغم من أن السيطرة على دفة رواية تعالج نفسيات الناس وعاداتهم وتبسطها على خير الوجوه من الصعوبة بمكان، فإن الأستاذ السحار أمسك بالدفة شأن الربان الماهر، وعالج حياة هذه الأسرة وما تفرعت منها من أسر بدقة وإتقان. حتى أن القارئ ليخرج من الرواية وهو على أتم ثقة أن المؤلف لم يفتعل حادثة من الحوادث ليصور إحدى العادات، وأن الرواية سارت في مجراها الطبيعي دون أن تتعثر بما في طريقها من صخور.

ومع أن الرواية ليست من ذلك النوع الذي يعنى المؤلف برسم مشكلة لها هي العقدة؛ تتشابك الحوادث حولها وتتكاثر الشخوص، ومع أنها ايضاً لا تشتمل على حوادث غريبة مشوقة وإنما هي قطعة من الحياة مليئة بما يقع للمرء وما يشاهده في مجتمعه من الحوادث والعادات على مدار الأيام فإنها مع ذلك تجري في أسلوب لين شيق يأخذ بانتباه القارئ فيستغرق في تلاوتها بلذة وإعجاب. وهذا ولا شك هو المقصود بنجاح الروائي وبراعته.

بيد أن كثرة شخصيات الرواية لم يفسح للمؤلف مجالا كي يرسمها جميعاً بالدقة المطلوبة - كما رسم شخصية مصطفى ونفيسة مثلا - فجاءت صور قسم منها باهتة لا تتسم بميزات وملامح واضحة برغم أهميتها. ومن ذلك القسم جاءت شخصيات سليم وأسعد وماري. ولعل المؤلف في تحليل شخصية مصطفى بنجاحه في تحليل شخصية سليم. مع العلم أن الشخصيتين تتكافأن في الأهمية والدور. حقاً إن الفرق يبدو شاسعاً بين النجاحين. والواقع أن براعة المؤلف كما يتضح لي متجهة إلى غرضين يمكن القول أنهما شغلاه نوعاً عن الأغراض الأخرى: الأول والأهم هو تصوير حالة المجتمع المصري في نصف القرن

ص: 44

الأخير وتسجيل عاداته وتقاليده. وقد سبق لي أن ذكرت أن المؤلف توفق في هذا كل التوفيق. فأستطاع أن يكون صورة في أذهاننا عن الزواج - مثلا - في جميع مراحله: كيف تتم الخطبة، ويعد (الجهاز) ويقدم (النيشان) ثم تقام الزفة التي يعقبها بناء الخطيب بخطيبته.

ولكي أكون لدى القارئ فكرة عن دقة المؤلف في تصوير هذه العادات أورد الآن مقطعاً يتعلق بأحد مراحل الزواج الذي يسمى (النيشان). فقد جاء في صفحة (205) من الكتاب ما يلي: -

(وخرجت أمينة وعصمت وسكينة لشراء (النيشان) وهو هدايا يقدمها الخطيب قبل الزفاف، ويتكون (النيشان) عادة من حذاء فضي، وقماش من القصب العنابي، وقفاز أبيض، ومروحة كبيرة من ريش أبيض فاخر، وطرحة بيضاء، وحافظة بيضاء وجورب أبيض من الحرير الغالي، ويطلق على هذه الأشياء (الطقم الأبيض، وهو ما ترتديه العروس ليلة الزفاف. ويحتوي (النيشان) كذلك على شباشب حمراء وصفراء وخضراء وجوارب ومناديل وروائح وصابون ممسك، وصندوق تواليت فاخر، وأقمشة متعددة وثياب داخلية).

هذا عن الزواج، وما يقال عن الزواج، يقال عن كيفية علاج الناس للمرض والعقم واستغنائهم عن الأطباء بأولياء الله من أمثال سيدي البيدق، وأولاد عنان، وسيدي الشعراوي، والسيدة نفيسة، والمندورة. وهم شأن الأطباء، لكل منهم اختصاصه: فسيدي البيدق يشفى من الصداع ويزوره المرضى بعد صلاة العصر، وأولاد عنان يشفون المرضى المهازيل، وسيدي الشعراوي يشفى مرضى النفس والحسد، ولا بد من زيارة ضريحة مريدة في اليوم في الفجر وعند الغروب، أما السيدة نفيسة فيزورها مرضى العيون ولم يحدد لزيارتها وقتما، والمندورة تشفي النساء من العقم.

هذه العادات، إلى غيرها من نظم المجتمع وما يتصل به، حظيت من المؤلف بأكبر قسط من الأهتمام. ولذلك جاءت صادقة دقيقة تنساب في سلالة وبساطة محببة. وبذلك حقق المؤلف هدفه الأول.

أما الهدف الثاني فهو على ما أعتقد دراسة شخصية مصطفى، التي تمثل شخصية المؤلف. وقد نجح الكاتب في هذا الغرض ايضاً، حتى أن القارئ يظن أنه عرف مصطفى هذا قبل

ص: 45

أن يقرأ عنه في الروانة، وهو قد عرفه في الحق؛ ولكنه عرفه في خضم الحياة المليئة بأشخاص من طراز مصطفى. وقد أبدع المؤلف خاصة في تحليل حب مصطفى وعواطفه، وعندي أنه إن لم يكن قد بلغ القمة فيه فقد قاربها.

وهناك بعض المؤاخذات على المؤلف أهمها كثرة أبطال روايته. صحيح أن مجال الرواية واسع، وأنها تشمل الحياة بكليتها، ولكن هذا لا يعني أن نعالج نفوس الناس بأجمعهم، بل علينا أن ننتقي منها ما يمثل منها مجموعة بعينها. وحيث أن المؤلف عالج في روايته أسرة معينة تفرعت منها أسر أخرى، فإنه تعرض لجميع أفراد هذه الأسر.

ولكنني لا أتفق معه على طريقته هذه، وأقل ما يقال عنها أنها توقع القارئ في الارتباك فلا يستطيع معرفة الشخصيات معرفة دقيقة وهي على تلك الكثرة. وبالإضافة إلى ما قد ينجم عنها من أرتباك، فأنها دفعت المؤلف إلى تسجيل بعض الحوادث التافهة التي لا تستحق أن يفرد لها مكان في رواية جيدة كروايته. وابسط مثال على ذلك شخصيات أصدقاء سليم وأسعد التي لم يكن لها لزوم في الرواية إطلاقاً، والتي تشعر القارئ دوماً أنها كل على الرواية، قد أقحمت فيها إقحاماً، ومهما حاول القارئ أن يتعرف على لون لها أصطدم بالحقيقة الواضحة وهي أنها عديمة اللون والطعم والرائحة!.

وقد كاد المؤلف من الجهة الأخرى أن يشرك عنصر الفساد في الرواية، لا لذنب جنتة إلا لكونها قد طالت. والظاهر أن ذلك الطول قد أقلق المؤلف، لأنه عمد إلى استغلال قانون السرعة استغلالا مضراً بمصلحة الرواية كل الضرر. ولعل القارئ يستطيع أن يلاحظ ذلك منذ بداية الصفحة الثلاثمائة.

إذ أتجه المؤلف إلى رواية الحوادث بأسلوب بسيط ساذج لا تميزه إلا السرعة، وليس له أية علاقة بأسلوب الروائي الفنان، ثم ما تكاد تأتي النهاية حتى يصطدم القارئ بحقيقة أخرى، تتمثل بيتر الرواية. صحيح أن نهايتها موفقة، ولكن القارئ يشعر شعوراً أكيداً أن المؤلف لم يقل كل ما عنده، وأن عليه الأستمرار فيها لأنها لم تنته بعد.

وفيما عدا ذلك فإن الرواية على نصيب موفور من الروعة في فنها وأسلوبها وأغراضها.

(القاهرة)

شاكر خصباك.

ص: 46

من نور القرآن الكريم

تأليف الأستاذ عبد الوهاب خلاف

القرآن ثروة الإنسانية الروحية؛ وذخيرتها التي تعتز بها في اجتماعها واقتصادها وسياستها وخلقها؛ وهو موضع الحفاوة؛ وهدف الدراسة؛ ومثار النشاط العقلي بين ذوي القرائح الخلافة؛ غير أنه لم ينل في البيئة الإسلامية كل ما يتطلبه في هذه المرحلة الفكرية الجديدة، كتحديد أهداف سوره؛ والمحور الذي تدور حوله. مما يعين على تمثل أغراضه؛ والنفاذ إلى مراميه. ولعل أول محاولة يراها - النور - في هذا الميدان هي ما أضطلع بها الأستاذ الجليل في النهج الذي أنتهجه في تفسير الربع الأول من سورة البقرة وآل عمران والنساء. وهذا المنهج يتمثل في أنه يبتدئ بكلمة عامة عن السورة يقدم فيها بين يدي - القارئ - العناصر الأساسية التي يتكون منها هيكل السورة؛ ويهيئ الجو الذي يظله من السورة بظلاله. وهذه خطوة لها أثرها القيم في فهم أسرار القرآن واستلهام روحه صافية غير مشوبة، حتى إذا وصل إلى الربع الذي هو بصدده أخذ يكشف لك عما يتناوله من أغراض. فإذا ما وضع تحت بصرك هذه الأصول فقد أجتاز بك المنطقة الشائكة؛ ثم يأخذ بعد ذلك يصور لك بأسلوبه الفكري وبقلمه البياني، المعنى العام للربع وإذا بك تجدك وقد وصلت إلى أهدافك من أيسر السبل؛ دون أن يجشمك متاعب السفر ولا وعثاء الطريق؛ فها هو ذا يستهل بحثه بكلمة عامة عن سورة - البقرة - ويعلل طولها باشتمالها على تشريع الأحكام العملية. وقد بدأها الله ببيان فرق الناس بازاء الاهتداء بالقرآن، وبين فيها البر وأحكام القصاص؛ والوصية. والصيام. والحج. والنفقة. والخمر. والميسر. والزواج والطلاق. والعدة. والإيلاء. والربا. والمداينة، والتوثيق بالكتابة؛ والاستشهاد؛ والرهن الخ، حتى إذا أستوفى هذا البيان العام وأعطاك الصورة الإجمالية للسورة، أنتقل بك من العام إلى الخاص، وقدم إليك صورة صحيحة دقيقة لفهم روح القرآن وبيان أسراره. وعرض تفسير الربع الأول من سورة البقرة أبدع عرض؛ وعلى هذه السنة أستن عمله في آل عمران والنساء. فيا حبذا لو أخذ علماؤنا يعالجون القرآن تحت هذا الضوء، ويقدمونه على هذا الأسلوب، لقربنا إذن الشقة بينه وبين الأذهان التي بعدت بها ظروفها عن الدراسات

ص: 47

الدينية؛ ولظهرت أثاره قوية في أخلاقهم وأفكارهم وحياتهم. فمتى تنتفع بهذه الثروة التي تكلفت بسعادة العالم. متى!.

محمد عبد الحليم أبو زيد.

ص: 48

‌البريد الأدبي

الأديب المدرس:

قرأت في الرسالة الغراء تلك الكلمة القيمة التي يشكر فيها الأستاذ الزيات للاستاذ توفيق الحكيم ترشيحه إياه لكرسي (شوقي) واعتذاره عن هذا المركز الذي يحد من سلطانه. ويقلل من نشاطه. . . وقد أتاحت لي هذه الفرصة الطيبة أن أقارن - في ذهني - بين الأديب المدرس، والأديب الحر، وربما بدا لكثيرين أن يقولوا إنه لا معنى لهذه المقابلة، لأن الأديب في الحالين أديب من غير شك، وأدبه مقيداً بأغلال الوظيفة، أدبه طليقاً حراً. . . وهو كلام إنما يصح إذا تصورنا أن الأدب ألفاظ وجمل، يتنوق صاحبها في رصفها، ويتأنق في صياغتها ويتعمل في تدربيجها. أما إذا تصورنا أنه إلى جانب ذلك أفكار تتسامى ومعان تخلب وتروع، وأن العبارات إذا لم تكن مع الغرض النبيل، اشبه بالمرأة الحسناء في المنبت السوء. . . خصوصاً في عصرنا الذي نعيش فيه، حيث صار الموظف موظف حكومة، لا موظف (مصلحة) أعني أنه يتحتم عليه أن يكون أدبه في حدود اللون الذي تتلون به (الوزارة القائمة) وكم رأينا أدباء قيد (حب العيش) أدبهم بهذا القيد فسقطوا من الأنظار، ولم يكن أدبهم محل أعتبار. . . على أن المدرس إذا لم يكن في (الفصل) كالممثل الذي يستجلب رضا الجمهور، ويستدر إعجاب المتفرجين، لا تقوم له قائمة، وفي سبيل ذلك لا يبالي بسخط الفن، ولا بإغضاب الحقيقة (المرة) وهذا التهريج إنما يروج بمقدار ثم لا يلبث القوم أن يمجوه تمشياً مع قاعدة البقاء للأصلح (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) والاستاذ الزيات في الرعيل الأول من شيوخ الأدب، لا لأنه كاتب فحل، أديب ممتاز، ولكن لأنه يستشعر الحرية فيما يملي عليه لسانه، ويهجس به وجدانه، والشباب يحفظ له الآيات البينات في النقد، والتعليق على الحوادث والأخبار. . . وافتتاحية في (الرسالة) كفاتحة الكتاب نقرؤها للحفظ والتيمن، وإن كان في ذلك كله مقلا فعذره أننا في عهد التموين بالبطاقة ولكل شئ غاية، ولكل بداية نهاية.

إبراهيم علي أبو الخشب.

(الجوييم) بين الأزهر والرسالة:

ص: 49

نشرت مجلة الأزهر مقالا تحت عنوان (أسباب تأخر المسلمين) بعدد ذي القعدة سنة 1367هـ لفضيلة الأستاذ الشيخ - عبد الحميد عنتر - المدرس بكلية اللغة العربية. قال صاحب الفضيلة (ولم يحركهم للشر إلا أطماع (الجوييم) يقصد بكلمة (الجوييم) اليهود، وكتب معقباً (الجوييم: أسم رمزي لليهود الصهيونيين الذين يريدون الاستيلاء على العالم كله ويعتبرون كل من سواهم من الناس بهائم. أنظر مقالات الأستاذ نقولا الحداد عن اليهود في أعداد الرسالة: مارس وإبريل ومايو سنة 1948).

والذي قرأناه في الرسالة وفهمناه من مقالات الأستاذ نقولا وأفدناه من مواثيق الصهيونيين، مخالف لما أرتاه الشيخ، بل الذي بمجلة الرسالة أن اليهود أطلقوا هذه الكلمة على غير اليهود من جميع الأمم.

وبعد كتابه ما سلف، قرأت في الرسالة للأستاذ الحداد ص1058 عدد: 79 (لأن وظيفة هؤلاء الحكام (الوطنيين) أن يمسكوا البقرة بقرنيها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) فهذا الرأي الأخير للأستاذ الحداد فيه تأييد لما أرته الشيخ ومخالفة صريحة لمقالاته السابقة وتخطئة لفهمي. فما رأى الأستاذ الكبير (الحداد) بعد هذا؟ فهل كلمة (الجوييم) تطلق تارة على اليهود، وأخرى على غير اليهود من العالم. أم ماذا ترى؟

(كيمان المطاعنة)

محمد أمين الشحات

تحقيق تاريخي:

أتابع ما يكتبه الأستاذ أحمد حافظ عوض بكثير من الأهتمام والحرص، ولقد قرأت المقال النفيس الذي نشره عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مجلة المصور العدد (1232) ص22 فوجدته يقول فيه (ولقد كان شاعر النيل المرحوم حافظ بك من المقربين إليه، وهو الذي ألحقه بالعمل في دار الكتب المصرية وكان يسر كثيراً من فكاهته) فوقفت طويلا عند هذا الكلام لأن المرحوم الشيخ محمد عبده قد توفى في 9 يوليه سنة 1905 مع أن شاعر النيل قد عين في دار الكتب في 14 مارس سنة 1911 بواسطة المغفور له أحمد حشمت باشا ناظر المعارف حينئذ؛ وعليه يقول الأستاذ الإمام بعيداً عن هذه المسألة كل البعد كما

ص: 50

ينطق التاريخ الرسمي.

هذا وقد حفظ الشاعر الكبير لحشمت باشا صنيعه الجميل فأشار إليه في رثائه الحزين حيث قال من قصيدة ممتعة لم تنشر في ديوان حافظ وإنما بقيت محفوظة في الجرائد لا يلتفت إليها أحد، قال:

لك سنة قد طوقت عنقي

ما إن أريغ لطوقها ترعا

مات الإمام وكان لي كنفاً

وقضيت أنت وكنت لي درعا

فليشمت الحساد في رجل

أمست مناه وأصبحت صرعى

قد كان في الدنيا أبو الحسن

يولي الجميل ويحسن الصنعا

سلني فإني من صنائعه

وسل المعارف كم جنت نفعا

تالله لولا أن يقال أتى

بدعاً لطفت بقبره سبعا

قد ضقت ذرعاً بالحياة ومن

يفقد أحبته يضق ذرعا

رحم الله الإمام والشاعر والوزير وأمدّ في حياة الكاتب الكبير

(الزقازيق)

إبراهيم عبد المجيد الترزي

تصحيح تصحيح:

جاء في مقال الأستاذ المحقق اللغوي الفاضل أحمد يوسف نجاتي (تصحيح تصحيف وتحرير تحريف) وذلك في العدد (793) من الرسالة الغراء ص 2039 قوله (ومن التحريف أو التصحيف أو خطأ الطبع في ذلك الكتاب القيم (ظهر الإسلام) ما في بيتي أبن المعتز صفحة 26:

أما ترى ملك بني هاشم

عاد عزيزاً بعد ما ذلا

يا طالباً للملك كن مثله

تستوجب الملك وإلا فلا

(ولعل وصاب القافية في البيت الأول (بعد ما ذلا) لأن القصيدة من بحر السريع من عروضه الأولى المطوية المكسوفة التي ضربها مثلها على وزن فاعلن، وعلى ضبط آخر لهذه العروض لا يجمع بينهما).

ص: 51

وأقول: إن أبن المعتز حين قال أبياته ما كان ينظر أو يلتفت إلى (العروض) بقدر التفاته إلى المعنى المراد تأديته على الوجه المطلوب. فهو حين أورد (عزيزاً) في شطره الثاني أعقبه وقابله بضده الذي هو الذل (ذلا) وبه تمام المعنى، وإن خانه المبنى. وفي المأثور (ارحموا (عزيز) قوم (ذل)).

ولو افترضنا صحة تصويب الأستاذ (بعد ما ذللا) معنى، لما كان ثمة موجب للتشبيه بالمثل في البيت الثاني حتى يستوجب الملك طالبه. أو يستأهل الدر حالبه!

وفي موضع آخر يقول. . . وفي صفحة 184 البيت:

أنت إذا جدت ضاحك أبداً

وهو إذ جاد باكي العين

(لعل الصواب (دامع العين) برفع دامع خبر المبتدأ هو).

وأقول: البيت صحيح بصورته وزناً ومعنى، وظهور حركة الفتح على الياء من (باكي) لا يفيد الحال وإنما الرفع مكانها على أنها خبر المبتدأ هو، والاستثناء الشعري يجيز إظهار حركة في غير موضع حركة، كما يجيز حذف حركة من موضع جوازها، كقول من قال:

يا باري القوس برياً لست تحسنه

لا تفسدنها وأعط القوس باريها

هذا، والأستاذ - في البيت السابق - لم يلتفت إلى المقابلة اللطيفة بين (ضاحك وباكي) واستعاض عن البكاء بالدمع، وإن كان الدمع من دلائل البكاء.

وبعد فالذي رأيناه أثبتناه، والله الموفق إلى الصواب والسلام.

(الزيتون)

عدنان.

ص: 52

‌القصص

التاريخ العالمي

للكاتب الفرنسي أناتول فرانس

ترجمة الأستاذ عبد العزيز الكرداني

عندما خلف الأمير الشاب (سمير) أباه على عرش العجم، أستدعى جل علماء مملكته، ثم قال لهم في نبرة جادة مؤثرة:

- إن أستاذي - الدكتور سعيد - علمني أن السلطان يتورط في أقل ما يمكن من الخطأ، وإذا ما توخى في تصريف شئونه وإبرام أموره، أن يستهدي مثَل الماضي وأن يستلهم عبر التاريخ؛ ولهذا. . . فإني قد أرتأريت - بعد تدبر - أن أكلفكم بمهمة جليلة الشأن خطير، هي أن تتوفروا على إعداد دراسة شاملة في تاريخ الشعوب. . . وبخاصة روادها وقادتها. . . . فما قولكم أيها السادة الأماثل في هذا التكليف الخطير؟!.

فتبادل العلماء النظر، ثم أنهى واحد منهم إلى الأمير - بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن زملائه - أستعدادهم للاضطلاع بهذا العمل الجليل.!

فما إن آبوا إلى دورهم، حتى شرع كل منهم يكتل جهوده ويشحذ ملكاته توطئة للقيام بإخراج هذا (التاريخ العالمي) الجامع. وبعد عشرين سنة انقضت في كد متلاحق وكفاح موصول، عاد أعضاء (الأكاديمية) إلى الملك في قافلة تتألف من أثني عشرة جملاً مثقلة ظهورها بأجزاء هذا السفر العظيم!

وتقدم (سكرتير الأكاديمية) من الملك، ثم أنشأ يتحدث في هذه الكلمات:

- إن أعضاء (الأكاديمية) الموقرين، ليشرفهم أن يضعوا عند درجات عرشكم المكين، هذا المؤلف الفذ، الذي يضم تاريخ الشعوب والرجال، والذي لم يكن ليخرج إلى نور الوجود، لولا التفات جلالتكم إلى ضرورة التأليف في موضوعه؛ ولقد خرج هذا التاريخ العالمي - يا مولاي - مستم الحلقات، مستكمل الفصول، فليس من المغالاة أن نقول: إنه سفر - في بابه - فريد!

- إنني لعاجز - بحق - عن التنويه بالجهد الذي استنفذتموه يا سادة! ولكن. . . ألا ترون

ص: 53

معي أن رعاية شئون حكومتي، تقتضيني ألا أتشاغل عنها بالانقطاع لاستظهار مثل هذا التاريخ الكبير؟!.

ومن ناحية أخرى. . . ألا ترون معي أنني - بعد انسلاخ هذه السنوات الطويلات التي كنتم اثناءها تعلمون - قد بلغت (منتصف طريق الحياة) على حد تعبير أحد الشعراء الفارسيين!

وبافتراض أنني كنت من المعمرين، فإن ذلك لا ينفي استحالة قراءة سفر بالغ الضخامة كهذا السفر الجليل!

ولا احسبني قد جانبت الصواب، حين قدرت - للوهلة الأولى التي استعرضت فيها عيناي أجزاء هذا الكتاب - أن مصيره القبوع كالجثة الهامدة في خزانة كتبي!

لهذه الأسباب متآزرة - وددت لو تكرمتم بمحاولة اختصاره، مستهدفين أن تجعلوه في مقداره في مضاهاة الحياة البشرية القصيرة!

فأشتغل العلماء - عشرين سنة أخرى - بالتضييق - قدر الطاقة - من مشتملات الكتاب الضخم. . . الهائل الحجم، نزولاً منهم على رغبة الملك؛ واذ حققوا ما أراد، توجهوا إليه - للمرة الثانية - في قافلة صغيرة من ثلاثة جمال، محملة أسنمتها بألف وخمسمائة جزء من السفر العظيم!

وقال (سكرتير الأكاديمية):

هذا هو يا مولاي عملنا الجديد، نقدمه بين يديكم الساعة، ونحن على بينة من أن هذا الاختصار، لم يمس قط جوهر الكتاب، ولم يهبط قط بمستواه.

فأجاب الملك:

- هذا بديع. . . ولكن، يؤسفني، ويحز في نفسي أن أصارحكم القول باستحالة قراءة هذا التاريخ الجامع بالرغم من هذا الاقتضاب. . . ذلك أنني قد هرمت، وغدا مما يهبط شيخوختي ويوهن من أنسجة بدني، أن يفرغ ذهني الكيل للجهود الكبيرة، فعسى ألا أكون قد كلفتكم شططاً لو رجوتكم - للمرة الثانية - أن توجزوا. . . وتمعنوا في الإيجاز، وأن تجعلوا بالكم إلى تركيز المباحث وحذف العقول!

لم يسع هؤلاء الرجال المثابرين إلا الإذعان، فاشتغلوا - للمرة الثالثة - بإخراج السفر

ص: 54

الكبير، إخراجاً جديداً، وسلخوا في ذلك عشر سنوات، هبط بعدها عدد أجزائه إلى الخمسمائة.

وقال (السكرتير مبتهجاً):

- أعتقد يا مولاي أننا قد نجحنا - هذه المرة - في مهمتنا فقال الملك مبتسماً:

- لا يبتعثن في قلبك اليأس أيها السيد أعتقادي عكس ما تظن - إنني اليوم في خريف العمر أبهذا العالم الجليل، فإذا، رغبت إليك - للمرة الأخيرة - أن تنصرف وزملائك إلى معاونتي في تحقيق أمنيتي في مراجعة تاريخ عظماء الرجال قبل أن يداهمني الموت، فعسى أن تنهضوا بتكرار المحاولة غير آسفين ولا قانطين! وإني لفي الانتظار.!

تجرمت خمس سنوات، عاد بعدها (سكرتير الأكاديمية) إلى قصر الملك. كان قد هده الكبر وقوست ظهره السنون؛ وكان - وهو يرقى سلاليم القصر - يضم إلى صدره - بذراعين معروقتين واهنتين - سفراً كبيراً ضخماً!

ولقيه أمين الملك، فصاح به في نبرة لهيفة. . . حزينة:

حث الخطى أيها الشيخ؛ إن الملك يحتضر. .!

كان الملك يرقد على فراش الموت، في رعاية أملاكه، يعالج آخر سكراته؛ فسيستدار في إعياء، ونظر بعينين خبأ فيهما بريق الحياة. . . إلى العالم وسفره الضخم، ثم غمغم في تثاقل وصدره يموج بالتنهدات: هأنذا أموت، دون أن ألم بتاريخ الرجال!

فسكت العالم برهة، إجلالاً لرهبة الموت، ثم رفع رأسه في بطء وعيناه مخلتان بالدمع، ليقول للملك المحتضر. . . آخر ما صك أذنيه من كلمات:

- ايها الملك لقد ناشدتنا - غير مرة - أن نجمل لك تاريخ الرجال الأبطال الذي قضوا كما تقضي أنمت الساعة. ألا فأعلم - أيها الملك العظيم - أن تاريخ هؤلاء الأبطال ليوجزون في هذه الكلمات: لقد ولدوا، وتألموا، ثم ماتوا!

عبد العزيز الكرداني

ص: 55