الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 797
- بتاريخ: 11 - 10 - 1948
حكم من أحكام الله!
قضى القضاء العراقي العسكري العادل بالقتل شنقاً وبغرامة مقدارها خمسة ملايين دينار، على فقيدها الربا، وشهيد الخيانة، وعميد الصهيونية، وعهيد الشيوعية، وسليل شيلوك، وصهر شرتوك، ومالك القناطير المقنطرة من العروض والذهب في البصرة، وصاحب الملاين المصدرة من النار والحديد إلى تل أبيب، المأسوف على حياته، الخواجة شفيق عدس؛ لأنه فر بالعراق الذي نشأ ورباه، ثم أمنه ورعاه، ثم رفهه وأغناه فاشترى بما نال من كرمه وأدخر من نعمه ألوف الأطنان من مختلف السلاح والعتاد وأرسلها خفية إلى أوغاد اليهود في فلسطين ليقتلوا بها إخوانه في الوطن وأعوانه على الثراء؛ فكان هذا القضاء وحياً من قضاء الله، وكان هذا الحكم هدياً من ضياء العدل، صفق له الوطنية، واغتبطت به العروبة، وتمنى كل قطر من الأقطار التي منيت باليهودية الماكرة والصهيونية الغادرة أن يحكم كل قاض بمثله على كل يهودي يقف بين يديه وقفة المجرم. واليهودية هي الصهيونية محتجبة أو سافرة، والصهيونية هي الفوضوية محتشمة أو داعرة. إذا عنيت باليهودية أقبح ما تعلم من مساوئ الدناءة والنذالة والإباحية والعصبية، فإنك تعني بالصهيونية أسوأ ما تفهم من معاني للشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية.
أقسم بالله جهد اليمين ما شفى صدري وأرضي وجداني كهذا الحكم الحازم الحاسم. فلعله يوقظ في قضائنا الرءوف الرحيم شعور القسوة العادلة على مجرمي هذا الجنس العجيب الذي تحدى كرامة الإنسانية منذ تحملت اوزاره هذه الدار، وأعتقد أنه هو وحده شعب الله المختار.
لم يبق في مصر ضمير يهودي لم يخن مصر؛ ولم يبق في مصر قلب
يهودي لم يهو إلى إسرائيل؛ ولم يبق في مصر مال (يهودي) لم
يحارب في فلسطين؛ وتقبض حكومتنا القادرة اليقظى على الكفار
الفجار من سلالة يهوذا الذي باع المسيح بدوانق معدودة، وفي نفوسهم
نية الخيانة، وفي أيديهم أداة الجناية، وفي بيوتهم مادة العدوان، فتنزلهم
المعتقل على الرحب والسعة، وتكفل لأموالهم وأهليهم الأمان والدعة.
فإذاعجبت أن ترى اللئيم الممعن في لؤمه يكرم، والظلوم المفحش في
ظلمه يرحم، حاولوا أن يخففوا من عجبك بدعواهم أن لليهودي
المصري رعاية المواطن، ولليهودي الأجنبي حق الإنسان؛ كأنهم
يريدون أن يقولوا إن اليهودي يشارك المصري في وطن، أو يشارك
الآدمي في جنس!!.
لا، يا سادة! إن اليهودي لا يعرف وطناً غير صهيون، ولا يألف جنساً غير يهوذا، فمن يزعم غير ذلك فليسأل كل أمة في الأرض وكل عصر في التاريخ، ماذا جنت اليهودية على الإنسانية. ألم يكن لها في كل ثورة وقود من الدسائس والاضاليل؟ ألم يكن لها في كل عقيدة مفسدة من البدع والأباطيل؟ ألم يكن لها في كل دولة جاسوسية تؤرث العداء والحرب؟ ألم يكن لها في كل أمة أسواق تنشر الغلاء والكرب؟ ألم يكن لها في كل مدينة (حارة) تشيع الفحش والفجر؟ ألم يكن لها في كل صحافة لسان يذيع البذاء والهجر؟
قولوا بلى، كان لهم كل أولئك؛ ولكن الله أوعدهم ووعدنا أن يحبط أعمالهم، ويبطش آمالهم، ويديم إذلالهم، فحققوا وعيد الله ووعده بمثل هذا الحكم، واتقوا يوماً يجوز أن يتولى الشيطان فيه أمر الأرض، فيجعل لهم القضاء عليكم، فيقيموا لكم محاكم كمحاكم التفتيش، ويومئذ لا يجدر بالعربي الأبي أن يعيش!.
أحمد حسن الزيات
إميل لودفيج
للأستاذ عمر حليق
مات إميل لودفيج في 18 من هذا العام بعد أن ترك ثروة أدبية في نوع فريد. ولودفيج من الكتاب الألمان القلائل الذين احتفظوا بسمعة عالمية بالرغم من الويلات والمصائب التي ألمت بالحياة الأدبية في نصف القرن الحالي في تلك البلاد التعسة.
وثروة لودفيج خليط من المقالات السياسية في قالب التراجم وفي المسرحيات السياسية والتاريخية والاجتماعية، وله كتاب من نوع فريد أرخ فيه تاريخ ثقافة في حياة نهر، فكتابه (النيل) يجمع بين الطرافة الأدبية والدقة التاريخية ولمحات من التحليل العميق للحضارات العتيقة والحديقة التي أوحى بها هذا النهر الأزلي. وقد أختار لودفيج تراجمه من الشخصيات المعقدة التي تحتاج إلى تعمق في الدراسة، لا بسبب ما بها من عقد نفسية فحسب، بل للظروف والملابسات التي أحاطت بها، وبالأدوار التي لعبتها في تاريخ الحضارة والانسانية. فكتبه عن السيد المسيح، وعن جوته وبيتهوفن وبسمارك أثارت مناقشات في الأوساط السياسية والأدبية والدينية معاً، وهذه من مزايا الأعمال الخالدة التي لا تنفرد بطابع التفكير الذي لا يتقيد بالمألوف ولا يجاري الاتجاهات التقليدية. وليست هذه الكلمة تحليلا لأعمال لودفيج ولا هي تعريفاً بإنتاجه الأدبي، وإنما هي عرض لحياة رجل من المثقفين الذين تركوا لمكتبة الأدب والتاريخ ثروة حافلة بالإبداع الفني والتعمق الفلسفي ولمحات صادقة من تطورالسلوك الفردي وتباينه في مراحل نمو العظماء والبارزين الذين جعلهممواضيع لآثاره الفنية.
ولد إميل لودفيج في برسلو بألمانيا عام 1881 ثم رحل إلى سويسرا وأصبح في سن الثانية والثلاثين مواطناً سويسرياً وأعلن أنه أختار سويسرا منفى له طواعية بعد أن أثار بعض الجدل في المحافل الأدبية والسياسية بسبب كتاباته عن بسمارك والعقلية الألمانية.
وكان والد لودفيج أستاذاً في جامعة برسلو، وهو يهودي أسمه هرمان كوهين اختار لأبنه أميل كنية غير يهودية ليدفع عنه أذى المعادين لليهود في ألمانيا.
والواقع أن يهودية لودفيج التي كان يفخر بها قد أفادته في حياته الأدبية إلى أبعد حد، فإن سيطرة اليهود في كل دولة أوربية وفي أمريكا الشمالية على ألسنة الرأي العام ودور النشر
وتجارة الكتب كانت سبباً هاماً في توفير الإمكانات للودفيج ولعشرات الكتاب اليهود في ألمانيا وغير ألمانيا وتقديمهم إلى الأسواق العالمية ورعاية نموهم الأدبي كأحسن ما تكون الرعاية. وندر أن تجد في الأوساط الأدبية العالمية من يتعرف أو يتعرف بالأدباء والمثقفين الألمان من غير اليهود وندر أن تجد في مكاتب أوربا الغربية وأمريكا من المنتجات الألمانية إلا إذا كانت صادرة عن أدباء يهود أو يمتون إلى اليهودية بصلة - كما هي حال الكاتب الألماني الشهير توماس مان الذي ساعد زواجه من امرأة يهودية على كسب رعاية اليهودية العالمية التي تعمل في الحقل الأدبي والأوساط الثقافية الدولية. ومن الجدير ذكره بهذه المناسبة أن الأوساط الأدبيةوالفنية في أمريكا تشعر بهذا التكتل اليهودي وتنفر منه؛ فإن سيطرة اليهود في أمريكا على الحياة الأدبية في مصادر الإنتاج جعلت حظ الأمريكان من النجاح مقيداً بالنعرة اليهودية الضيقة التي تسهل الرقي والنجاح للأدباء والفنانين من اليهود الأوربيين الذين يستوطئون الولايات المتحدة على حساب الناشئة من الكتاب والشعراء والفنانين الأمريكان. إنفرد لودفيج من بين الكتاب المعاصرين بمعالجة أدب التراجم فكتب دراسات عميقة عن نابوليون، وهند نبرغ رجل ألمانيا العسكري، وعن مازاريك السياسي التشيكوسلوفاكي، وعن كليوباترا، وعن فرانكلين روزفلت، والرئيس بوليفار أحد كبار الشخصيات السياسية في أمريكا اللاتينية، وله مؤلفات عن ستالين وسيجموند فرويد - صاحب نظرية التحليل النفساني المعروف. ولم يقتصر لودفيج على التراجم فعالج القصة والرواية والموضوعات الأدبية البحت في النقد الأدبي ومشكلات السلوك الفردي، فمن قصصه (الفن والقدر)(هبات الحياة) و (ديانا) و (عطيل). وله أيضاً دراسة في (العبقرية والخلق). ودون تاريخ حياته في كتاب دعاه (نظرة إلى الوراء).
ومن بحوثه السياسية كتاب (أحاديث مع موسوليني)(والغزو الأخلاقي لألمانيا)(وكيف تعامل الألمان).
ومن مؤلفاته الأخيرة كتاب عن (البحر الأبيض المتوسط) ودراسته لنهر (النيل).
وكان لودفيج يشتغل في وضع كتاب عن الملك داود عندما وافته المنية. ولم يترجم إلى الإنجليزية إلا القليل من أشعار لودفيج ومسرحياته التي أستهل بها مطلع حياته الأدبية حتى سن الثلاثين.
وكان لودفيج من مناصري الحركة الصهيونية في سويسرا وإيطاليا لتسهيل النشاط الصهيوني عبر القارة الأوربية في تجنيد الرجال والعتاد للغزوة الفلسطينية ملتقى رؤساء حركة التهريب الصهيونية كما ذكرت بعض الصحف الإيطالية منذ بضعة أشهر.
(نيويورك)
عمر حليق.
انحراف المواهب
للأستاذ أنور المعداوي
قلت في عدد مضى وأنا في معرض الحديث عن الشخصية الأدبية إن من عناصر هذه الشخصية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر؛ عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابه القصة فلا يوفق، وهذا لقاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصهم هذا العنصر من عناصر الشخصية الأدبية، عنصر الدراسة لقيم المواهب والملكات!.
كلمات قلتها بالأمس وما أحوجها اليوم إلى شئ من الإفاضة والتطبيق، والخروج بها من دائرة انحراف المواهب في ميدان خاص إلى انحرافها في ميدان آخر يتسع فيه المدى، ويرحب الأفق، ويمتد مجال البحث والدراسة، وترد فيه الظواهر الملموسة إلى ما خفى من الدوافع والأسباب. . .
جورج ديهامل الكاتب الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمي فرانسيز، كان يعمل في الحرب العالمية الأولى كطبيب في المستشفيات الحربية، وهو من الذين درسوا الطب في بدء حياتهم واشتغلوا بهذه المهنة جرباً وراء الكسب المادي كما يفعل الكثيرون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها هجر ديهامل الطب إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً أهله لأن يكون عميداً من عمداء الأدب الفرنسي المعاصر. . . ظاهرة تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة، وأعني بها ظاهرة انحراف المواهب!.
ولقد كنت أبحث هذه الظاهرة عند عباقرة ثلاثة غير ديهامل يمثلون ثلاثة ألوان من الأدب العالمي الرفيع؛ جمع بينهم في مستهل حياتهم ميل إلى العلم وانصراف إليه، ثم تحولوا عنه إلى الأدب فتهيأ لهم من النبوغ في ميدانه ما لم يتهيأ لهم في ميدان العلم. . . . اول هؤلاء الثلاثة وهو الشاعر الألماني جيته، كان عالماً يبحث في الألوان، ويضع الأصول للرسم والنحت، ويعالج التأليف في الأزهار وفلاحة البساتين. وثانيهم وهو الكاتب النرويجي
إبسن، كان في شبابه عالماً في الكيمياء. وثالثهم وهو الكاتب الإنجليزي ويلز درس الكيمياء ايضاً في شبابه، ثم التحق بجامعة لندن ونال منها درجة في العلوم ثم عين بها استاذاً للباتولوجيا!.
ليس عجيباً أن يكون الرجل منوع المواهب فيكون عالماً وأديباً وفيلسوفاً في وقت واحد، ذلك لأن بعض المفكرين يمتازون بالجمع بين ألوان من العلم متعددة، وضروب من الفن مختلفة، لأنهم وهبوا من سعة الأفق وخصوبة الذهن وصدق الإحساس ووفرة التجارب ما يؤهلهم لأن يشقوا طريقهم في هذه الميادين جميعاً، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الموهبة الأصيلة تطبع ناحية من نواحي التفكير بطابعها القوي المتميز فتطفي على كل ما عداها من مواهب، ويتجلى فيها الإعجاز في أروع مظاهرة وأخص مزاياه. . . والدليل على ذلك أن يتحول رجل مثل جيته من العلم إلى الأدب، فيصل بنبوغه فيه إلى الحد الذي دفع كارلايل إلى وصفه بأنه أعظم أدباء العالم بلا أستثناء، وأن يهجر رجل مثل إبسن العلم إلى الأدب ويعالج كتابه الدرامة فيعده النقاد واضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث، وأن يشفف رجل كويلز بالدراسات الأدبية، فتكون مؤلفاته في ميدان هذه الدراسات سلمه الوحيد إلى معارج الشهرة والنبوغ!
إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: لماذا تهيأ لهؤلاء الأدباء من النبوغ وذيوع الأسم في رحاب الأدب ما لم يتهيأ لهم في رحاب العلم؟. . . ليس هناك غير جواب واحد هو أن مواهبهم الأصيلة كانت أدبية لا علمية، والدليل على ذلك أنهم انحرفوا بها في بادئ الأمر عن طريقها الطبيعي فلم تنتج الإنتاج المرتقب الذي يناسب ذكاءهم، وذلك في ميدان العلم. . . فلما عادوا بها إلى ميدانها الأصيل وهو ميدان الأدب، استطاعوا أن يشقوا طريقهم في قوة حتى وصلوا إلى مرتبة الخلق والإبداع! ومثلهم في رأيي كمثل البذور التي يلقى بها في تربة لا تلائم طبيعة نموها، فهي قد تنبت وتنمو ولكنها في الغالب لا تثمر. . . فإذا ما ألقى بها في التربة الصالحة نمت واشتدت أعوادها وأثمرت الثمر الشهي المرتقب في مثل حالتها هذه الجديدة، ومن الممكن أن نصف هؤلاء العباقرة الذين تمثلت فيهم ظاهرة انحراف المواهب في شبابهم، بأنهم كانوا بذوراً أدبية ألقى بها في العلم فلم تكتب لها الحياة.
وسؤال آخر يتبادر إلى الذهن في انتظار الجواب. . . لماذا ينحرف بعض أصحاب
المواهب من الأدباء والفنانين عن طريقهم الطبيعي ليسلكوا طرقاً أخرى لا يجنون من ورائها إلا بعد الشقة بين ميدان لم يخلقوا له وميدان ما كان أحوجهم إليه؟!.
إن الجواب الذي يقبله العقل على هذا السؤال هو أن المواهب تستغل في غير ميادينها جرياً وراء المادة. . . وهذه الحضارة التي نعيش فيها قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير طريق الأدب والفن في كثير من الأحيان، لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأول العواقب في ميدان النضال مع الحياة. ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكانهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان الموموق، والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا؛ وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟!.
إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول: (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شئ لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء، وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. . . وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء!
أن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة. . . وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي يعيشون للفن ويطربون له، ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج، وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادية على كل شئ طغيانها القوي الجارف انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق جرياً وراء المادة. . . وماذا تجدي الشهرة كما قلت في رأي الماديين مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟.
أنور المعداوي.
-
صلاة عصر في مسجد قرطبة عام
1368 هـ
للدكتور محمد موسى
منذ فرغت من عملي في (السوربون) وأنا أحلم بزيارة للأندلس أرضي بها العقل بالتنقيب في مكتبة (الأسكوريال) والروح بالعيش فترة من الزمن في الأرض التي ذللها أجدادنا وقامت فيها عواصم للعلم والسياسة في الإسلام. وكان كل ما شاهدت من مدريد إلى اشبيلية حيث أنا الآن يؤكد لي أن أسبانيا بلد ليس بالغربي ولا بالشرقي، بل هو بين بين. هو حقاً بين الشرق والغرب بما أحتفظ من تقاليد الأول وعادته، وبما تمكن فيها عن الآخر من المسيحية التي تتعصب لها تعصباً شديداً؛ والارض نفسها تمثل هذا ايضاً بما تنبت من الزيتون والنخيل وقصب السكر والموز، إلى جانب مزروعات الغرب التقليدية.
لكن قرطبة عاصمة الأمراء والخلفاء شئ غير هذا كله. لقد كان القطار يسير بي من مدريد وأنا في شغل عما حولي! كنت أعيش بخيالي وعاطفتي في قرطبة الإسلام، في قرطبة التي صارت مقبرة لعصر من اكبر العصور الإسلامية أزدهاراً، في قرطبة عبد الرحمن الداخل وأعقابه الاماجد، في قرطبة ابن رشد وكبار العلماء الاسلاميين. لقد أستبد بي الخيال، وأسرتني العاطفة حتى خلفني مقدماُ على بلد إسلامييموج بعلماء الإسلام موجاً؛ ولكني وصلت إليها فإذا الأهل غير الأهل، والوجوه غير الوجوه، وإذا العجمة والمسيحية هي الحاكمة المستبدة في كل شئ!
وأخيراً، هاأنذا في المسجد الذي يمثل الشيء الوحيد الحري بالزيارة في المدينة: هذا هو (صحن البرتقال) مجمع حلقات العلماء؛ وهذا هو (اللّوان) أو الدهليز اليميني حيث مجلس أبن رشد يشرح أرسطو ويقربه للناس؛ وهذا هو الدهليز الشمالي حيث كانت تقام العدالة وتفصل الخصومات؛ وبعد هذا ها هو ذا المسجد نفسه الذي يحس المرء فيه بقبس من الخلود، حيث كان العلماء من المسلمين واليهود والنصارى يتدارسون لغة واحدة هي العربية، ويتعلمون ويعلمون علماً واحداً هو العلم الإسلامي كما ينقل (رينان)! كل ذلك ذهب وصار تاريخاً بعد أن كان حقيقة تملأ الأذن والبصر!.
وفي وسط المسجد أقيمت الكاتدرائية! إلا أنها على ضخامتها لم تنل من الأثر الإسلامي
الخالد حتى كأنه لا يحس بها! ومنارة المسجد التي تذهب إلى السماء ناحية الأزلية والخلود، نحواً من خمسة وستين متراً جعلها التعصب برجاً للكنيسة بما أقيم في جناباتها من نواقيس وما علاها من الصليب. إلا أن كل هذه المظاهر لم تنزعني من الجو الذي أعيش فيه، حتى لقد صعدت المنارة وأذنت فيها بصوت سمعه من كان معي للعصر، ثم أديت الصلاة في داخل المحراب بعد أن فتح لي خاصة! وأظن أن رفيقي، وهو أستاذ فاضل مستعرب قرطبي، ظن بي الظنون! وعلى كل فقد أحترم عاطفتي ووقف هو وآخرون من المتفرجين على مبعدة!.
وبجوار المسجد مقر الخلافة والخلائف الذي صار الآن مقر كبير رجال الدين. وقد نفس عني قليلاً ما تذكرته من قول شارلكان وقد زار المسجد سنة 1526 حين رأى الكنيسة وسطه: لقد (بنيتم هنا أثراً كان يمكن أن يبني في أي مكان، وأفسدتم أثراً وحيداً في العالم!).
والمسجد ومقر الخلائق يطل كلاهما على (الوادي الكبير) التي لا تزال مياهه تجري في استحياء! وقد عبرت القنطرة على هذا النهر إلى الجهة المقابلة التي كان العرب يسمونها أو الريف في الجهة المقابلة. وبهذا النهر تنتهي المدينة القديمة.
بعد هذا خرجت من المسجد وزرت محلة اليهود على مقربة جداً منه؛ وبها منزل صغير يحمل الآن رقم 18 رأى أبن ميمون الفيلسوف اليهودي الأشهر فيه النور؛ وبها معبد من معابدهم بني بعد أبن ميمون، وإن كانت الحكومة أقامت في مدخله لوحة تذكارية لمرور 800 عام على ولادته (1135 - 1935م) لماذا لا تقام لوحة أخرى تذكارية لأبن رشد معلم وشيخ أبن ميمون!
حسبي من زيارة قرطبة هذا المسجد، وحسبي أني عشت فيها فترة لذيذة ومؤلمة في جو إسلامي خالص حتى كنت أؤدي فيها الصلاة في وقتها في أغلب الأحوال في الفندق الذي نزلت فيه.
انتهى الآن وأنا على سفر إلى الجزيرة، جزيرة طريف، لعلي أستطيع منها العبور إلى طنجة ومراكش، ثم أعود إلى الأندلس لرؤية غرناطة والله المستعان.
محمد موسى.
أعلام الفكر في عصر الحروب الصليبية:
عز الدين بن عبد السلام
577 -
660هـ
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
نشأ في شظف من العيش، ورفعته ثقافته إلى أن أصبح ينادي الملوك بأسمائهم، ولم يعمه المجد عن الحق، فنادى على رءوس الأشهاد بخطئه يوم بان خطؤه، ولم يدعه حب السيطرة والسلطان إلى النزول عن كرامته أو الرجوع عن معتقده، ولم تهيأ له وسائل الثقافة صغيراً، ولكنه جد حتى صار أستاذ عصره وأعلم أهل زمانه.
ولد بدمشق حيث تفقه على فخر الدين بن عساكر، وجمال الدين بن الحرستاني، وقرأ الأصول على سيف الدين الآمدي، وأخذ الحديث عن القاسم بن عساكر، ودرس النحو، ورحل إلى بغداد، فأقام بها أشهراً. ونبغ العز في أصول الفقه، وأصول الدين، والتفسير؛ وبرع في الفقه حتى صار أعلم أهل عصره فيه، قالوا: وأنتهى به الأمر إلى مرتبة الاجتهاد فصار يفتى بما يؤدي اليه اجتهاده؛ وكان موفقاً سديداً في فتاويه.
ولي في دمشق خطابه الجامع الأموي والإمامة فيه؛ قال أبو شامة أحد تلامذته: (وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة)؛ فأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، وفي طبقات الشافعية للسبكي (ج 5 ص 105) نص فتواه في تلك الصلاة، وبيان الأسباب التي حملته على القول بإبطالها. وما كان عز الدين يسجع في خطاباته، بل يقولها مترسلا، وأجتنب فيها الثناء على الملوك، واستعاض عن ذلك بالدعاء لهم.
ودرس عز الدين بالزاوية الغزالية بجامع دمشق، حيث قصده الطلبة من الآفاق، يقتبسون منه ويأخذون عنه، وارتفعت مكانته حتى راسله عيسى بعض ملوك عصره وأحبوا لقاءه؛ فهذا الناصر داود بن المعظم عيسى يرسل اليه قصيدة يحزن فيا على ما أصاب الإسلام عندما أغارت الإفرنج على نابلس ويقول له فيها:
أيا ليت أمي أيم طول عمرها
…
فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل
ويا ليتها لما قضاها لسيد
…
لبيب أديب طيب الفرع والأصل
قضاها من اللاتي خلقن عواقرا
…
فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل
ويا ليتها لما غدت بي حاملا
…
أصيبت بما ضمت عليه من الحمل
ويا ليتني لما ولدت وأصبحت
…
تشد اليّ الشدقميات بالرحل
لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم
…
ولم أر في الإسلام ما فيه من خل
وكان الأشرف موسى يلهج بذكره، ويؤثر الاجتماع به، وقد دار بينهما نقاش أنتهى باقتناع الأشرف برأي عز الدين وعقيدته، وغرامه بكتبه وتأليفه، ودعوة الناس إلى قراءتها والعمل بفتاويه، فلما مرض الأشرف مرض الموت أرسل إلى العز يستزيره فجاء اليه، فلما أستنصحه الأشرف نصحه العز بأن يولي وجهه إلى حرب التتار، لا إلى حرب أخيه الكامل، وكانت جفوة قد حدثت بينهما، فقبل الأشرف نصيحته وأستزاده، فطلب منه العز أن يرسل إلى نوابه يحرم عليهم شرب الخمر والفسق وفرض ضرائب على المسلمين، فأطاع أمره. ثم أمر له الأشرف بألف دينار، فردها قائلاً:(هذه اجتماعه الله لا أكدرها بشيء من أمور الدنيا)؛ وعندما ملك الكامل دمشق، وكانت بعدما أشترط عليه عز الدين شروطاً كثيرة قبلها الكامل. فلما ملك الصالح إسماعيل خوفاً منعه المنام والطعام والشراب، وصالح الإفرنج على أن ينجدوه على الصالح أيوب، ويسلم اليهم صيداً والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين. ودخل الإفرنج دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين، فشق ذلك على الشيخ مشقة عظيمة، وعلى المتدينين من بائعي السلاح، واستفتوا الشيخ في بيع الإفرنج السلاح؛ فقال:(يحرم عليكم البيع لهم؛ لأنكم متحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين)؛ ويظهر أن عز الدين قد أثاره هذا الأمر، فنال من الصالح إسماعيل على المنبر ولم يدع له، وجدد دعاءه على المنبر، وكان يدعو إذا فرغ من الخطبتين قبل نزوله من المنبر بقوله:(اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه عن معصيتك)؛ والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين، فعلم السلطان بذلك، فأصدر أمره بعزل الشيخ وأعتقاله، فبقى مدة معتقلاً، ثم أطلقه على أن يغادر بلاده، فخرج عبد العزيز من دمشق؛ ثم بدا للصالح إسماعيل أن يعيده، فأرسل خلفه رسولا أخذ يسوسه، ويلين له القول، وقال له: (بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا
غير)؛ فقال: والله يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده. يا قوم، أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي غافاني مما ابتلاكم به). وبينما هو في طريقه إلى مصر مر بالكرك؛ فسأله صاحبها الإقامة عنده، فرأى العز أن الانتفاع به سيكون محدوداً في مثل هذه المدينة، فقال له: بلدك صغير على علمي، ومضى إلى مصر فقدمها سنة 639، وأستقبله علماؤها بالإجلال والإكبار، وبالغ عبد العظيم المنذري حافظ مصر في الأدب معه، وأمتنع من الفتيا لأجله، وقال: كنا نفتي قبل حضوره، أما بعد مجيئه فمنصب الفتيا متعين فيه. وتلقاه الصالح أيوب عدو الصالح إسماعيل خير لقاء وأكرمه؛ وولاه خطابه جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلي، وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة، فقام بالمنصب أتم قيام، وتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. وكان يسلك في الإرشاد طريقاً عنيفاً. قال تلميذه الباجي:(طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته، وأخذ الأمراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: (يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: (هل جرى هذا؟) فقال: (نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة؟ ّ يناديه كذلك بأعلى صوته، والجند واقفون، فقال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي)، فقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة. فرسم السلطان بأبطال تلك الحانة. قال الباجي: سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر: يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه؛ فقلت: يا سيدي، كيف الحال؟ فقال:(والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان قدامي كالقط). وحدث أن أستاذ دار الصالح وهو فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ عمد إلى مسجد بمصر فعمل على ظهره بناء لطبل خانة، وظلت تضرب هنالك، فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين أمر بهدم ذلك البناء، ومضى بجماعته وهدمه، وأعلم أن السلطان والوزير يغضبان، فأسقط عدالة الوزير، وعزل نفسه عن القضاء. فعظم ذلك على السلطان، وقيل له: أعزله
عن الخطابة، وإلا شنع عليك على المنبر كما فعل في دمشق فعزله. وقد أمضى الخليفة المستعصم ببغداد حكم عز الدين في فخر الدين، فلم يقبل رسالة عن السلطان كان راويها للرسول أستاذ الدار.
أقام عز الدين في منزله يشتغل عليه الناس، ويدرس، وأخذ في التفسير في دروسه، حتى إذا بنى السلطان المدرسة الصالحية فوض أمر تدريس الشافعية بها إلى عز الدين.
وكان العز مع الفقهاء الذين قدموا على المعظم توارن شاه، وناظرهم السلطان، وشهد معركة المنصورة سنة 648 مجاهداً في سبيل الله، ولم يزل مرعى الكرامة في عصر السلاطين، يعتمدون عليه ويستشيرونه، ويأخذون برأيه، ومن ذلك أن التتر عندما هاجموا البلاد الإسلامية جمع المظفر قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه في أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، فحضروا في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين والقاضي بدر الدين السنجاري قاضي الديار المصرية، وغيرهما من العلماء وأفاضوا في الحديث، فكان الأعتماد على ما يقوله أبن عبد السلام. وخاصة ما قال أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الترعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شئ، وتبيعوا ما لكم من الأدوات المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر الجند على مركوبهم وسلاحهم، ويتساووا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في ايدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
وكان الظاهر بيبرس يعظمه، ويقف عند أقواله وفتاويه، وأقام الخليفة بعد استشارته، ومما يدل على منزلته الرفيعة أن الظاهر لم يبايع المستنصر والحاكم إلا بعد أن تقدمه عز الدين ثم تلاه السلطان ثم القضاة.
وفي عهد الظاهر بيبرس في 10 جمادي الأولى سنة 660 مات عز الدين بعد إن أكثر من عشرين عاماً قضاها في مصر يحيط به الإكبار والإجلال. ويقال: إن السلطان ارسل اليه لما مرض، وقال له: عين مناصبك لمن تريد من أولادك، فقال عز الدين: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين ففوضت اليه. وشهد الظاهر بيبرس جنازته، وصلى عليه، وحضر دفنه، كما شيعه الأمراء والخاصة والأجناد وطبقات
الشعب. ومما يدل على ما وصل اليه عز الدين من النفوذ ما يروي من أنه لما مرت جنازته تحت القلعة، وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصه: الآن أستقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو أمر الناس في بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره.
ولعز الدين بن عبد السلام مؤلفات في الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والتصوف.
ففي الفقه له كتاب القواعد الكبرى الذي قال عنه تاج التراجم: ليس لأحد مثله. وقال عنه السبكي: هذا الكتاب وكتاب مجاز القرآن شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة. وأختصر القواعد الكبرى في قواعد صغرى. وله في الفقه ايضاً كتاب الغاية في أختصار النهاية. وكتاب الإمام في أدلة الأحكام، والفتاوي الموصلية، والفتاوي المصرية، وهي مجموع مشتمل على فنون من المسائل والفوائد.
وله في التفسير كتاب سماه بحار القرآن (بدار الكتب رقم 32 تفسير) ورسالة تسمى فوائد العز بن عبد السلام وهي اسئلة وأجوبة متعلقة بالقرآن الكريم (مخطوطة بدار الكتب رقم 77م تفسير) وأخرى دعاها كشف الاشكالات عن بعض الآيات، وهي أجوبة عن أسئلة مشكلة في آيات من القرآن الكريم (مخطوطة بدار الكتب رقم 836 تفسير).
وأختصر في الحديث صحيح مسلم.
ووضع في علوم الكلام كتاب الفرق بين الإيمان والاسلام، وكتاب بداية السول في تفضيل الرسول.
وفي التصوف - وكانت له يد طولي فيه - ألف بيان أحوال الناس يوم القيامة، وفوائد البلوى والمحن، وكتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز تكلم فيه عن بعض أحاديث وألفاظ من كلام القوم، وكتاب مسائل الطريقة في علم الحقيقة.
ولم يترك عز الدين كتباً فحسب، ولكنه ترك تلاميذ صاروا من أعلام الأئمة، ومن نوابغ العلماء، نذكر منهم أبن دقيق العيد، وهو الذي لقب استاذه بسلطان العلماء، وعلاء الدين الباجي، والحافظ الدمياطي والدشناوي، وهبة الله القفطي.
أما أخلاقه فأظهرها الصلابة في الحق والجهر به، يحاسب غيره عليه ويحاسب نفسه، ولا يمنعه من الرجوع إلى الحق الخوف من أن يقال أخطأ؛ فقد أفتى مرة يشئ، ثم ظهر أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: من أفتى له أبن عبد السلام بكذا، فلا يعمل به
فإنه خطأ. قالوا: وكان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنادرة والشعر يستشهد به، وإن كان لم يقل من الشعر سوى بيت واحد هو:
لو كان فيهم من عراه غرام
…
ما عنفوني في هواه ولاموا
قالوا: إنه أنشده لطلبته، قال لهم: أجيزوه فقال عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسواني:
لكنهم جهلوا لذاذة حسنه
…
وعلمتها لما سهرت وناموا
وأنشد قصيدة طويلة منها:
مولاي عز الدين عزّ بك العلا
…
فخراً فدون حذاك فيه الهام
لما رأينا منك علماً لم يكن
…
في الدرس قلنا: إنه إلهام
وآخرها:
جاوزت حدّ المدح حتى لم يطق
…
نظماً لفضلك في الورى نظّام
فعليك يا عبد العزيز تحية
…
وعليك يا عبد العزيز سلام
كما مدحه الجزار بقصيدة أولها:
سار عبد العزيز في الحكم سيراً
…
لم يسره سوى أبن عبد العزيز
عمّنا حكمه بعدل بسيط
…
شامل للورى ولفظ وجيز
وكان معاصروه من العلماء يضمرون له أعظم الإجلال فكان شديد الإعجاب به، متفقاً معه في لوم الصالح إسماعيل الذي أخرجهما معاً من دمشق، وكان أبن الحاجب يرى العز أفقه من الغزالي. وكان عز الدين وأبو الحسن الشاذلي يعجب كل منهما بصاحبه، يحضر العز عند الشيخ ويسمع كلامه في الحقيقة ويعظمه، وقال أبو الحسن الشاذلي: قيل لي: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلسك. ووضع القاضي عز الدين الهكاري مصنفاً في سيرته. كما ترجم له السبكي ترجمة كلها إعجاب به بدأها بقوله: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، وإمام عصره بلا مدافعة، والقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، والعارف بمقاصدها، ولم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علماً وورعاً وقياماً في الحق وشجاعة
وقوة جنان.
(حلوان الحمامات)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول
رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر
(الميلادي):
النحلة النرصية في الرحلة المصرية لمصطفى البكري
الصديقي
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
في يوم السبت سابع جمادي الثانية، ودع القرافة وتوجه لزيارة سلطان الرجال أحمد المكني البدوي العلوي، صحبة الشيخ محمد الحفناوي وأخيه الشيخ يوسف، والشيخ حسن، والسيد عبد الله السلفيتي نجل المرحوم السيد حسن، والأخ إبراهيم الحرستاني المعروف بالبلاصي، وما زال يسير إلى أن عدى في المعدية إلى القرية المرحوم وبات ليلة، وجاء السراق في الليل، يسطون على الخيل فخيب الله مسعاهم، وسار في الصباح مع إخوانه إلى القرية (مليج) وزار سيدي علي المليجي صاحب المقام وتملى بالجامع الذي عمره إسماعيل بك أبن إيواز ونزل دار صديقه الحاج عمر، ثم استمر في السير إلى أن لاحت قبة السيد المزور، فنزل في البلد جوار سيدي أحمد، وقرأ الفاتحة، وكان معه الشيخ محمد الأحمل الحفني، وبقية الرفاق، وورد عليه المحب الشيخ محمد الأسقاطي وأخبره أن والده قام للزيارة مع جماعة، وأستفسر عن نية الشيخ للتوجه إلى دمياط وطلب أن يرافقه. وفي الصباح سار لزيارة سيدي عبد الوهاب الجوهري، صاحب المقام وأخبر أن جناب الشيخ محمد البديري بن الميت في قريته فتوحه اليه وأجتمع عليه وطلب أن يرفقه الشيخ في المعدية إلى دمياط، فقال له إنه وعد بذلك الشيخ محمد الشناوي، فأجابه لذلك. وعاد إلى المنزل فوفد عليه العالم والد الشيخ محمد جناب الشيخ أحمد الأسقاطي، وأكد كلام ولده، ثم ودعه، وعاد عند الظهر إلى الجامع الأحمدي، وبعد العصر، حضر لعنده فاضل، يدرس في الجامع قريباً من الإمام، وهو شريك الأخ الشيخ محمد علي المرحوم جناب الشيخ أحمد الخليفي فدعاه لداره. وودع الداعي بعد قيامه بأمر الضيافة فلما وصل فناء مسجد الشيخ،
رأى شاباً ممسكاً للشباك، وهو يبكي والناس حوله يهدون الفواتح للسيد، فإذا هو ليده ممسك مقيد، فسأل الشيخ عن قصته، فأخبر أنه سرق حمارة، ففطن به، فأنكر، فأتى به إلى الشيخ لعله يتوب، فوضع يده على الشباك ليحلف، فأمسك الشيخ بيده فتاب وبكى، فلم يطلق إلا بعد ساعتين أو أكثر حتى شفع فيه جميع من حضر. وبات ليلته وجاءه الأخ محمد بما تيسر من المزاد، وحضر الشيخ محمد الأسقاطي بالدواب فتوجه معه إلى أن لحقوا بالشيخ محمد البديري، ونزل قريباً من زاوية الشناوي، وما زالوا يسيرون حتى وصولوا المحلة الكبرى، ونزل الشيخ في وكالة الحرير، وكان الشيخ احمد الأسقاطي نزل عند محب قديم يقال له الحاج إبراهيم رضوان فأرسل ولده يستدعي الشيخ، فذهب وبات عنده. وفي الصباح توجه يوم الخميس إلى قرية (سمنود) وركب والشيخ أحمد في قياسه حتى وصل (المنصورة) وقصد زيارة الشيخ عبد الله الرفاعي، وبعد صلاة العشاء أقلع والريح غير مريح، فوصل قبل دخول صلاة الجمعة إلى (سربين) وبعد الصلاة زار مقام سيدي شمس الدين محمد الشربيني. وسأله الشيخ يوسف الزين شقيق الشيخ محمد الحفناوي تخميس بيتين ففعل.
ولما وصل (فارس كور) توجه إلى زيارة الشيخ أبي مدين الحدادي، وكانت ليلة مولده يسعون إليه من كل نادي، فقرأ له الفاتحة وزار على أثره الشيخ إبراهيم الأحمدي، فقدم له رز حليب فأكل منه لقيمات وصلى الصبح في جامعها الكبير، وتوجه إلى مدينة دمياط ودخلها مع الظهر يوم السبت. وزار أبا علي الصياد، ونزل في خلوة شيخه الشيخ محمد البديري التي في جامع البحر للعدة للوارد على الدوام، وصار الشيخ يتردد عليه، ودعاه لداره وأكرمه. وكذلك أضافه عنده الشيخ احمد الأسقاطي، وأوقفه على بعض ما له من الحواشي. وجاءه بعض الإخوان برسالة للسيوطي وطلب نظمها، فنظمها في مائة بيت. وسماها النظام (البسط التام، في نظم رسالة السيوطي الهمام) وأخبره الشيخ أحمد الأسقاطي أن عنده على الرسالة شرحاً، وأوقفه شيخه البديري على قصيدة أمتدحه بها الشيخ عبد الغني النابلسي وطلب منه أن ينسج على منوالها فتردد ثم فعل. وكان الشيخ البديري لا يفطر إلا لديه، ويصحب معه الفطور والقهوة، ويجلس في مؤانسته إلى الضحوة. ثم توجه به إلى زيارة الشيخ ضرغام، فذهب في قياسه وصحبه السيد احمد الطرابلسي، وخاله
الحاج مصطفى وبعض الأحباب، وبعد الزيارة دعاه لداره وأراه سبحة الشيخ المزطاوي، وقال أن الشيخ أعطاه إياها غب الإجازة وأخبره بما سطره عنه في (السيوف الحداد في ترجمة سيدي محمد مراد النقشبندي) وسأله الإجازة فأجاب وذلك في غرة رجب سنة 1133، وقد ذيلها بإمضائه ونسبه وهو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البديري الدمياطي الشافعي الأشعري الشاذلي النقشبندي.
وقصد زيارة الشيخ علي السقا، ثم زار سيدي الشيخ فتح، ومر على الشيخ جمال الدين العجمي، فقرأ له الفاتحة، وحضر عند الشيخ فتح مجلس ذكر، ثم ذهب إلى بستان السيد كمال النقيب سابقاً ومكث فيه إلى قبيل الغروب، ثم رأى أنه ذكر سيدي إبراهيم المتبولي، فأخبر بذلك الشيخ قاسم نجل الشيخ يوسف، وقال له عن مراده في زيارة السادة المتبولية، وبعض المقامات، فزار جناب الشيخ محمد العصيفراتي وجناب سيدي أبي العباس الحريثي، والشيخ الضيروطي وسيدي حسن الطويل، وسيدي محمد المواجه له، وزار سيدي محمد العياشي وأبا الطيب والشيخمحمد هارون والشيخ يوسف المغربي. وكان يخدم شيخه البديري رجلاً اسمه صبح وكان بعض الناس يمازحه بقوله: بالله يا صبح لا تزرني، يا صبح الله أنا دخيلك، وهذا موشح قديم فقال الشيخ:
حبي جفاني، فطال ليلي، وقد كواني، وهد حيلي، ومذ سباني، بفرط ميل، ناديت يا ليل بالمثاني أدخل فإني دخيلك. . الخ. وممن دعا الشيخ وكرر الدعوة صديقاه الحاج محمد والحاج مصطفى وهما خالا السيد أحمد الأدهمي، وكان بصحبه في البعض شيخه الشيخ البديري. ثم إن الشيخ المذكور عزم أوائل رجب على التوجه إلى مصر لأن له عادة في النزول لأوائل الأشهر الثلاثة وأقرأ الحديث الشريف فتوجه فتألم الشيخ لفراقه.
وكان قبل هذا التاريخ أجتمع بالعالم الشيخ حسن المفتي الحنفي، وجاءه للخلوة، ودعاه لداره، فسر بالاجتماع به، وممن أصطحب معه في الخلوة الشيخ محمد الهنيدي.
كان الشيخ قد سمع وهو في الديار الشامية أن دمياط فيها سلطان الناموس فلا ينام فيها إلا بناموسية فقال لما لم يجد ذلك:
وقد قيل للناموس فيها سلاطة
…
ولم أر ما قد قيل في جامع البحر
ويمكن أن البحر لما به ثوى
…
وذاك ذكي الدين فر من البحر
وكان لحقه إلى القاهرة أخ أسمه عثمان، وجاء من غير إذن من الشيخ، فخالف المشورة، وأمره الشيخ أن يركب من المغفر في شيطية، فركب في قياسة فأسرت دون غيرها وأخذ إلى ملطية، فحزن قلب الشيخ عليه، ولم يطق رد ما أوصله مولاه اليه، ولم يسعه أهله إلى شراته من الأسر، ولكان اشتراه الشيخ بالنقود، ولكن لم يتم له ذلك.
وأنشد صديقه السيد أحمد بن صالح الطرابلسي الأدهمي مصراع مواليا وطلب من الشيخ أن يضيف اليه وهو: بالله يا بدر خذ لي في طرف عينك فقال الشيخ:
فإن مضناك يشكو سيدي بينك
ما فيك من شين غير الهجر يا حينك
لا أبعد الله ما بيني وما بينك
وأنشد شطراً آخر وقال له أجز فأنشد الشيخ:
بالله منيتي أرفق بهذا الصب
رشأ بحبك لقد صب المدامع صب
يهواك طفلاً رضيعاً يافعاً بل شب
وكلما شاخ حبك في حشاه شب
وأرسل الشيخ حسن إلى الشيخ زوادة لطيفة لما بلغه قرب سفره وكان ينتظر قدوم (البليك) فتعذر ذلك.
وجاء المشار اليه مصاحباً معه سنده في حديث المصافحة وقال له: أردت أن أتحفك بهذه التحفة، وصافحه وقال (صافحتك كما صافحني شيخنا الشيخ أحمد البنا، كما صافحه شيخه سيدي أحمد بن عجيل اليمني في منزله، كما صافحه شيخه تاج الدين النقشبندي، كما صافحه الشيخ عبد الرحمن المشتهر بحاجي رمزي، كما صافحه الشيخ محمود أسقرازي، كما صافحه أبو سعيد الحبشي الصحابي، كما صافحه سيد الأولين. وهذا سند شيخنا البديري، كما هو مسطر في ثبته مع زيادات فانتبه) وودعه مسروراً.
وكان قد وفد رجل طرابلسي أستأجر (شطية) مغفرة إلى البلاد فأجتمع به أصحابه السيد أحمد وأخواله وكلموه في نزول الشيخ معه فأظهر القبول. ثم عزم الشيخ على التوجه إلى العزبة مع الرفاق وحضر لوداعه الشيخ أحمد الأسقاطي، فاستجازه بمروياته فأجازه، وبعد
أن ودع الإخوان توجه إلى العزبة، وبات بها ليلة.
وفي الصباح تعوقت (القياسة) حتى طلع الريح، فلما يمكن للمعدية أن تقطع العتبة فأحتاج أن ينام عند برج الشيخ محمد،
وكان قد قصده للتنزه والتفرج مع شيخه البديري، ويقول الشيخ (وهذا البرج فيه بعض مدافع، ترهب العدو، إذ الأمر الإلهي ما له مدافع، ولقد تمنيت أن لو مكنت فبنيت أبراجاً عدة، على سواحل البحر، يكون فيها للتغور نجده وعدة وعدة، وليست إلا حماية الله هي الواقية، وكفاية الله هي اللاقية، وجماعة العزبة صندهم رهبة للعدو وفي الفرار رغبة، فلا يستعمل على المراكب، إلا كل مغربي متين السيوف راكب، فإن لهم معرفة بالحرب، وحب في الطعن والضرب، وبغض في الكفرة اللئام، واقتحام في ميدان الأهوال العظام (كذا) فصعدنا البرج نهاراً، وثبنا لديه إلى أن زاد الفجر إسفاراً، وقطعنا العتبة أول النهار، والبحر ساكن، والقلب بعون الرب راكن، ووصلنا (الشيطية)، وأجلست في القمرة التحتية، وأعددت نزولي فيها من الذنوب السوالف، حتى جرى الدمع على الخدود والسوالف، ولقد كنت أتطير من النزول في المغفر، لما أسمع من تعاطيهم المنكسر، ولما عرف مستأجر المركب قبطانه فينا، أخذ يلاطفنا ويصافينا، حتى أنه أذاب ماء وسكراً ممزوجاً بماء الليمون، وأتاني به فلم أقبله خوفاً من نجاسة الماعون، فنادى المستأجر وأخبره بطهارته، فأعلمه بعدم شربه، ومن مهارته أمره أن يغسل آنية، وأن يتعاطى تذويب السكر بيده علانية، ففعل كما أمر وجاءني بها الريس، وأظن أسمه عمر، فشربت بعض شربي، حيث طاب قلبي، وصار يتلطف بي، ويدعى ودي وحبي، وأنا برئ منه ومن وداده، وفي غنية عن حبه وانقياده).
ونام أول ليلة وهو يتأمل سرعة الوصول إلى يافا، فتراءى له في المنام أحد شيوخ دمشق الشام وأسمه أحمد سراج، ونشر أصابعه الخمس، فاستفاق الشيخ مذعوراً، وبان أن المراد الإقامة في البحر خمسة أيام، ومكث الريح المريح أربعة أيام يهب ويستريح وقابل هو وإبراهيم البلاصي الحريشي الرسالة المرسومة (بالمنهل العذب السائغ لوارده، في ذكر صلوات الطريق وأوراده) وقابل (الألفية في طريق السادة الصوفية). وضاق الشيخ ذرعاً لطول الإقامة في البحر، من أمر النجاسة، فإنهم أي أهل المركب كانوا غارقين فيها حساً
ومعنى ولأنهم لا يعرفون أنها من الخساسة.
وفي ليلة الخميس ويومه، طالت كربة الشيخ ومن معه، فتوسل بسيدي أحمد البدوي أن يسوق له صبيحة الجمعة (الريح الملثم ليخلص من القبطان وجنوده، جنود الشيطان، وجاءه القبطان يشكو قلة الماء، وأقسم بدينه أن الماء لا يكفيه غير اليوم مع التدبير، ولم يبق عنده إلا أواني الخمر. فأغتاظ الشيخ من كلامه وتأثر، وقال للمستأجر وكان هو الترجمان بينه وبين القبطان: إن الله سيسهل بالفرج ويزول الضيق، فقال له قل له بأمر الركاب يجتمعوا ويدعوا الله عسى يجيب. فأجابه الشيخ قائلاً للترجمان قل له أن في هذا اليوم المبارك بعد الظهر بيسير، يأتي الريح وندخل يافا قبل الغروب ولا أبات الليلة الداخلة إلا في يافا ذات الوجه النضير). ففهم القبطان ذلك وسر ولم يقطع بقول الشيخ. ولما زالت الشمس هب النسيم، ثم زاد على المعتاد حتى خال الشيخ (الشيطية) تطير في المسير، وخاف له فوق قمرته للتفرج على البحر، وكشف البر عقيب العصر وزال الضيق، وألقى المرياة ونزل الشيخ في (قياسة) صغيرة وبات في جامع البحر ليلة السبت وقد سر سروراً عظيماً. ورأى القافلة متوجهة إلى الديار، فحمد الله على تسهيل قرب المزار. وبلغ الوطن. ولما أستقر به المقام ورد عليه كتاب من الشيخ محمد البديري فلم يجب عليه إلا في بلاد الروم وأودعه في الرحلة الرومية، وبعد ذلك أرسل كتاباً إلى مفتي ثغر دمياط الشيخ حسن، وآخر إلى الشيخ محمد الحفناوي، ثم مرض الشيخ وأمتد أمر سقامه نحو سبعة أشهر وأيام، وفي هذه الأثناء جاءه كتاب من الشيخ محمد المذكور. وكانت والدة الشيخ وردت عليه للزيارة.
ثم اقتضى أمر أوجب سفر الشيخ إلى حلب الشهباء ذات الخفر، ولم ير بداً من التوجه لأمر اقتضاه الحال فعزم على المسير بعدما استخار الله، وكان قبل ذلك بشهر، قال له الدرويش يعقوب الهندي إن في نيته الذهاب إلى حلب فنفى الشيخ ذلك، فقال له الهندي بل بعد ذهابك اليها ستتوجه إلى بلاد الروم، فأجابه الشيخ ما الذي يصنع في بلاد الروم ولا غرض له فيها؟ فقال له إنها بلدته، ولما أراد السفر توجه معه إلى حلب ومنها فارقه إلى بغداد.
وتوجه بعد مدة إلى بلاد الروم وسطر ذلك في رحلة سماها (تفريق الهموم وتغريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم) وأبقى الوالدة في داره في بيت المقدس، وقد حزن على فراقها ولكنه رضخ لحكم الأقدار (أنتهى).
أحمد سامح الخالدي.
حب المنطق
للأستاذ ثروت أباظه
صاحبي شاب تواتيه الحياة بأبهى ما يرجو شاب من الحياة. مال وافر، وسمت جميل. وهو بعد ذو روح فنانة عذبة. لم تمل به كل هذه المقومات إلى ما ينزلق إليه الشباب، بل كان منذ مطلع شبابه كبيراً على اللهو، يرى فيه طفولة غير جديرة به. وما زال كذلك حتى بلغ سنا يفاخر فيها الشباب بآثامهم؛ فكان يجلس إلى أترابه، يقص كل منهم عليه ما أرتكب في زهو. بل كان منهم من يخلق لنفسه جرائم كان يعلم صاحبي أن محدثه براء منها. ولكنه كان يسعده بتصديقها فيسعد. ثم يقبل هؤلاء الأتراب على صاحبهم يسألونه ما فعل وما يفعل، ظانين أنه سيقص عليهم ما يعجزون هم منه. . . وهو ذو السمت الجميل والمال الوافر. وكم تفيد هاتان الخلتان إذا شاء صاحبهما منهما إفادة! ولكن صاحبي كان دائماً يخيب ظنهم، ويعلمهم أن أمره غير أمرهم، فيعتقدون أنه كاذب في ادعائه، ويظن بعضهم أنه شديد الدرجة والمران. ومن تمام المران ألا يخبرهم بما فعل. ويحاول بعضهم أن يظن بصاحبي سذاجة؛ ولكن سرعان ما يرده عن تفكيره بديهة فيه متوثبة، وسخرية لاذعة كان يقابل بها كل من يحاول من أمره عبثاً.
كنت وحدي أعلم السر في ذلك، وما كان لي أن أدعي بهذا معرفة لولا أنني عرفت الصديق طفلا حين كنت أنا طفلاً، ثم درج ودرجت معه متلازمين لا نفترق إلا الفترة الوجيزة، فهو في غير حاجة إلى أن يطلعني على سر استقامته. لقد نشأ الطفل في بيئة تجعل من الطفل صبياً، ومن الصبي شاباً، ومن الشاب كهلا. فتراه في طفولته يجلس إلى قوم يكبرونه في السن. ولم تكن الطبيعة قد هيأت له إذ ذاك أن ينظر نظرة منحرفة. . فإذا مال بهم الحديث رأى في كلامهم وجهاً غير الذي يجرونه عليه حتى إذا كبر قليلاً وفهم ما كان يقال على وجهه، كان رفاق ندوته قد ملوا هذا الحديث وشبوا عنه، فسار معهم حايسا كلاما، كابتاً شعوراً. . . لا يفضي إذا أفضى إلا لنفسه.
هكذا كانت الحياة ترتفع به عن مكان سنه؛ وهكذا اضطرته أن يرتفع عما يفعله أترابه. فكان في شبابه كهلا واسع الأفق، يجيد كلام الرجال، ويحس ما يحسنون. ولكن أمراً واحداً كان يحيرني فيه. . . قد يستطيع الشاب أن يستقيم فلا يلتوي به الطريق، ولكن هل يطيق
قلبه هذا الخمود؟ ألم يحب؟ ألم يجمح؟ إن صديقي على استقامته واقعي يفهم الحياة كما هي، ولا يحب أن يخدع نفسه عن نفسه. فهو يعلم أن لا حياة له إذا لم تقم بينه وبين الجنس الآخر صلة.
أقبل علي ذات يوم ضاحكاً كعادته، وكنت أفكر في أمره فسألته في مجابهة.
- ألم تحب؟
فأربد منه ما كان ضاحكاً، وغامت عيناه، وأطرق يخفي ما ألم به، ثم تماسك قليلا ورفع إليّ وجهاً باهتاً وقال:
- حتىأنت تسألني؟ ومن أحب؟ النساء يا أخي نوعان. . . شريفة أرهب مفاتحها بحبي، وساقطة أرغب عن حبها الميسور لأنني أخشى.
- وهل يعرف الحب هذه الحدود؟ أو لك علىقلبك كل هذا السلطان؟
- إسمع. . . أنا أعلم الناس بنفسي. . . إنني شاب تخطيت سن البدء في اللهو، وأعرف في قلبي رقة وإجدابا، وهذان أمران إن وجدا في قلب وأحب، فهو بين أمرين: إما أن ينتهي بصاحبه إلى السعادة كل السعادة، أو إلى موت لا قيامة له منه. فإذا أحببت من لا أعرف وأثق أنها تحبني - معتمداً على نظرة أو بسمة يثبت لي بعدها أنها قد منحت عن غير قصد - فأنا إلى فناء. فتراني أمنع قلبي كلما أوشك أن يبدأ. . . أمنعه بإرادة تظن أنت أنها قوية، وهي في الواقع مع القلب خائرة. . . لأن كل ما تفعله هو أن تمنع هذا الحب قبل أن يبدأ. . . أما إذا بدأ، فلا إرادتي ولا منطقي بمستطيعين له ردا. . . إنني إذا أحببت فسأحب بقلبي وإرادتي ومنطقي جميعاً. . ولن يكون هذا حتى أسألها وحتى تجيب.
- وأين لك مثل هذا ما دمت ترهب الشريفة وتنفر عن الساقطة؟
- أنا لا أحتم الإجابة الصريحة.
- أنا الآن أسألك كيف تستطيع أن تسأل، لا كيف تجيب هي.
- إن اعتمادي يا صاحبي على الظروف.
- إنني لم أر في حياتي رجلا يحكم منطقه في قلبه كل هذا التحكم. . . ويرجو بعد هذا أن يحب. . . إن الحب يا صديقي قلب يتأجج وتتضرم به النار. . . لا يعرف العقل ولا يسأله، ولا يطيق العقل أن يقحم نفسه في أمر لم يخلق له. . . الحب يا صديقي هو
السعادة. . . شقاؤه سعادة، والحرمان فيه سعادة. . والوصل فيه سعادة. . والهجر فيه سعادة. . الحب. . .
- كفى كفى. أمحاضرة هي؟ أنت تعلم مقدرتي على رواية الشعر. إنك في كل قولك هذا لم تأت بجديد. . . كل هذا كلام قرأناه وحفظناه حتى مللناه. . إنني شخصياً أحب الحب. . ولكني حتى الآن لم أجد من أحول إليها عاطفتي، وأخشى أن تنحرف العاطفة فتنحرف معها حياتي أجمع. . وثق أنني يوم أحب سوف يكون حبي أعمق من كل حب قرأت عنه أو سمعت به، لأنني سوف أحب يوم ذاك بمنطقي كله، وقلبي كله، ولا أظن واحداً ممن خلد الحب أسمهم قد حكم المنطق في حبه؛ ولذا ترى معظمهم قد فجعوا في حياتهم، وأنتهى بهم الحب إلى ما لم يريدوا لأنفسهم، ولم يخطر بمنطقهم يوم بدأ القلب يقوم بمهمته. وثق أنهم لو فكروا كما أفكر، لكان الحب لهم نعيما كما سيكون لي إذا شاء الله. . . أقسم أنك لم تفهم شيئاً مما قلت، لأنك لا تحاول ذلك. . . قم الآن فانثر ما قلت أو انظمه على من يطيب لك أن يسمعه. أما أنا فغنى عنه. . . هيا.
- حسبك حسبك. . تزعم أن حبك سيكون أقوى حب في التاريخ. . لقد والله انتهزت فرصة صداقتي وأسمعتني هذرا لا يسمع لك به إلا مجنون مثلك.
- ألم أقل إنك لم تفهم ما أقصد إليه. لم يكذب ظني بك.
ومرت على هذا الحديث فترة لم ألقه فيها، عاد بعدها تنضر وجهه ابتسامة لم أرها من قبل.
- ماذا؟ أحدثت المعجزة؟
فلم يزد على قوله.
- نعم.
- كيف؟ ومتى؟ وماذا قلت؟ وماذا قيل لك؟ وماذا تم؟ وماذا تنوي أن تفعله؟ وماذا تحس؟ أجب أجب.
- لا جواب. . كل هذا مضى، ولا شأن لك به. ولكن أعلم أن للعقل كما للقلب عاطفة، وإن العقل بهذه الآصرة يتحكم في القلب، وإن الحب الصحيح هو حب القلب والمنطق جميعاً.
- والله لن أصدق حتى أجرب أو تقص.
- أما أن أقص فلست بذاك وأنت تعلم. وأما أن تجرب فهاأنذا أدعو الله أن يهيئ لك هذا الحب. . حب القلب، وحب المنطق.
ثروت أباظه.
رسالة الفن
الزهريات الكلاسيكية
للدكتور أحمد موسى
- 3 -
مما يبعث السرور في النفس وسط ما يحيط بنا في هذه الأيام من مصاعب ومنازعات أنم نرجع إلى محكمة جاءت على لسان ماتيو آرنولد الفني العظيم حيث يقول:
مثل الرجل الذي يميل الى الفن ثم يبتغي لهذا الفن غذاء في غير مخلفات الإغريق، وكذلك الذي يميل إلى الشعر من غير أن يستعين في تنمية هذا الميل بهوميروس وأبي العلاء وشكسبير وجوته، كمثل من يلتمس التهذيب والخلق القويم في غير الكتب السماوية!
وعلى ذلك يقرر آرنولد أن من الكتب السماوية ومن هوميروس وأبي العلاء وشكسبير وجوته، ومن الفن الإغريقي، مجموعة تلك المخلفات القديمة العظيمة الخالدة، هي التي ستبقى أبداً الباعث القوي والمثال الحي والمعين الذي لا ينضب لأعمال الإنسان!.
أكتب هذا بمناسبة خطاب وصلني من (قارئ) يعتب على الكتابة في فن الإغريق، في وقت ظهرت فيه القنبلة الذرية - ويقول أنه يرى من الخير معاصرة باحث الفن وناقده ومؤرخه للوقت الذي يعيش فيه؛ فيكتب في الفن الحديث وفي اتجاهاته ومدارسه.
وهذا قول لا غبار عليه لو أردنا الكتابة لمجرد الترفيه عن القارئ بكتابة ما يلذ له أن يقرأ، ولكن (مجلة الرسالة) التي كافحت ستة عشر عاماً في خدمة الأدب والعلم والفن الرفيع ولم يزل صاحبها مرة إلى السوق ليعرف مطالبه، بل ظل رابضاً كالأسد يرفع من مستوى الناس ولا يهبط هو إليهم، حتى ولو عاد عليه هذا الهبوط بالرواج العظيم - ليست المجلة التجارية التي تريد اكتساح السوق!
ولما كنت أعتقد أن الخير كل الخير هو تثقيف القارئ تثقيفاً فنياً يعود عليه بإدراك معنى الفن إدراكا سليما فيرى ويسمع ويفرق بين الجيد وغير الجيد؛ رأيت أن أكتب عن الإغريق غير مهتم بتسلية القارئ والترفيه عنه.
ولا أنكر أن معظم الناس يعتقد في هذه الأيام بعد ظهور الاختراعات الحديثة كالقنبلة الذرية
والرادار والتليفزيون والبنسلين أنهم أحسن بكثير من السلف، وإنه لا داع بعد اليوم للتعلق بأهداب أعمالهم، وهذا راجع ولا شك إلى ما أحدثته الحرب الأخيرة - وكذلك الحرب التي قبلها - من قلق واضطراب وتعلق بالماديات لم يعهد له مثيل في سابق العصور، حتى في بلاد الشرق التي لم تدر فيها المعارك الحاسمة!.
وأراه مناسباً في هذا المقام أن أبين في كل اقتضاب السباب التي من أجلها لا يزال الفن الإغريقي سيد الفنون جميعاً. فنحن معشر المصريين لم يبلغ تقديرنا للفن مبلغ تقديرنا للشعر والأدب والفلسفة، ذلك لأن لنا في مجال الشعر والأدب والفلسفة إنتاجا قومياً عرف قدره في الشرق كله وفي معظم البلاد الأوربية، أما في الفن، فإن جهودنا ضئيلة تكاد لا تذكر، ولعل المقارنة بين الفن المصري القديم وبين ما ننتجه الآن يحقق هذا القول.
ومهما يكن من شئ؛ فإن المقرر أنه لولا ما للفن الإغريقي من التأثير المتواصل لما ارتفع الفن كثيراً في كل أنحاء الأرض عن مستوى الفن الهندي أو الصيني أو الفارسي.
ففي المائة السنة السابقة على حروب الفرس التي وقعت بين عامي 500، 480 ق. م. كانت بلاد الإغريق بقسميها الأيوني والدوري أشبه شئ بشجرة أنبتت أغصاناً ناضرة انبعثت في نواحيها المتباينة، وما أنبثق فجر القرن التالي لتلك الحروب، حتى جاء هذا الغرس بأطيب الثمرات، وأخرج لنا الأغارقة الآيات البينات، التي ظلت حتى اليوم المثال الذي يحتذى به الإنسان، والأفق العظيم الذي يمكن للعقلالبشري الوصول اليه!
والميزة الكبرى في الفن الإغريقي أنه فن بسيط متوازن في تناسق، يحاكي الطبيعة ويستلهمها في طموح مستمر نحو الكمال، فهو فن إنساني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.
وإذا كنت قد كتبت على صفحات الرسالة منذ عشر سنوات عن نواح مختلفة في الفن الإغريقي؛ فإني أكتب اليوم ولا زلت مصراً على ألا أبدأ إلا به.
نعم كان في مصر فن وفي بابل وآشور فن، وكذلك في كريت، ولكنه لم يكن إنسانياً بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة؛ ذلك لأن فناني مصر وبابل وآشور وكريت أنصرف اهتمامهم نحو تصوير عبادة الآلهة وتصوير الحروبوالحياة البيتية والزراعية، أما الصور الإنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان كما قلت، فإنها لم تأت فيما ذكرت إلا رموزاً
متواضعاً عليها خالية مما يثير الشعور، بل إنها كانت خالية مما يبعث في النفس حب الجمال أو ما يسمو بالمشاهد فوق المستوى العادي.
عرف الإغريق آثار الفن الأولى، ولكنهم أبوا أن يجتذبهم ما أجتذب الفينيقيين والإنرسكانيين الذين اقتصروا على تقاليدها والنسج على منوالها. ذلك لأنه قد قامت في نفوس الإغريق عقيدة هي في طبيعتها أقرب إلى الوجدان منها إلى العقل وهي استحداث فن إنساني كامل!!.
وللبيئة الطبيعية والأجتماعية آثار ظاهرة في نهضة الإغريقي، وسواحلهم الممتدة وكذلك مرافئهم ونهضتهم التجارية، كل هذا مما زاد في جدهم لا سيما في منطقة الشواطئ الشرقية حيث كانت فينيقية ومصر وغيرها من الشعوب الشرقية ذات المدنية واقعة بالقرب منهم.
وهكذا كانت طبيعة البلاد وأحوال الأجتماع مما مهد السبيل إلى إيقاظ الفكر الإغريقي النابت في أرض أوربية ذات جو (شرقي) معتدل.
هذا بيان لم يكن منه بد - وفي اعتقادي أن مرسل الخطاب لم يستمع الراديو إلى حديث حضرة الأستاذ الكبير شفيق غربال بك في معرض الكلام عن الكتب الأوربية الحديثة، فلو أنه أستمع إليه عندما أشاد بذكر الإغريقوالعقلية الإغريقيةوفضلها الدائم على العمل البشري لما وجه اليّ خطابه.
والآن أقول إن مصانع الفخار في أثينا انتهت فجأة عقبة الحروب الفارسية التي ألهبت العقل الإغريقي وأيقضت أحاسيسه الدفينة مما عاد على الفن الإغريقي بالخير العميم!
وإذن لم يكن غلق مصانع الفخار في أثينا نتيجة لاستحالة تصدير المشكاوات إلى وسط - يتبادر إلى الذهن، بل نتيجة لأتجاه المصور إلى المساحات الفسيحة على الحيطان بدل المساحات المحدودة على الزهريات، فعلى حيطان المعابد الأثينية وردهات المباني العامة صورت المناظر العظيمة (سيكون للتصوير الإغريقي بحث خاص) وأخذ موضوع الإنشاء الفني يظهر كامى في الأفق، والأنسجام بين أجزاء القصة الواحدة متوافراً.
ولكن هذا - مع الاعتراف بأثره الانقلابي العظيم - لم يكن قضاء مبرماً على فن المشكاوات، ولكنه قضى على مبدأ تسجيل أسماء الفنانين عليها كما لو كان الفنان يترفع عن كتابة أسمه على مساحة بسيطة محدودة بالقياس إلى الصور الحائطية الهائلة.
والذي يهمنا على وجه التخصيص أنه قد نشأ عن انتشار التصوير الحائطي الاقتصار في صور المشكاوات على المناظر العاطفية الحية، فترى ما يسجل الوداع بين حبيبين أو لقاء بين عاشقين أو ممرضة تضمد جراح محارب تحنو عليه، وغير هذه وما يمت اليها بصلة، هذا إلى جانب تصوير الورود والأزاهير والفاكهة.
أما إذا سجل الفنان مناظر قصصية فإنه يقتطف أحد مواقفها ويكتفي به للتسجيل، فظهرت المصورات بسيطة الموضوع ظاهرة الغاية على نقيض المراحل الأولى، وطبيعي أنه كلما كانت الفكرة محدودة وكان المعنى ظاهراً؛ كلما أمكن الحكم على مقدرة الفنان وتقدير مدى نجاحه، لأن المساحة وإن تكن محدودة إلا أنها تسمح عندئذ بإظهار قوة الفنان من خلال رقة الخطوط التحديدية وقوة تعبيرها فضلا عن بيان الأجسام في مرتبة من الإتقان تفصح عن رشاقتها وقوة تأثيرها على المشاهد المتأمل.
واستخدم في هذه المرحلة لون الذهب واللون الأزرق والأبيض، وخصصت لأجزاء معينة من صور الجسم الإنساني على الزهريات الصغيرة التي كانت تستعمل في تجميل الحجرات.
ولم يبق من نماذج المشكاوات الملونة شيئاً حفظ مستواه الفني حتى القرن الرابع ق. م إلا النوع المسمى وهي التي كانت توضع في الجبايات والى جانب المقابر.
ومنذ منتصف القرن الرابع وبعده بقليل أخذت زهريات أتيكا تختفي، وحلت محلها مشكاوات جلبتها أثينا بغية تصديرها إلى الخارج لا سيما إلى الجزء الجنوبي الغربي من روسيا، وأهم المدن مثل ياستوم وأبوليا وكانوزا وكايو ، ، ، وقد تشابه الإنتاج الفني للزهريات التي عملت بهذه المدن مع نظائره التي عملت في اتيكا - ولكن هناك فوارق فنية جديرة بالتنويه، إلا وهي خشونة الطين المعمولة منه، وظهور المصورات ضعيفة الخطوط مع الإكثار من الزخرفة لتغطية الضعف، مثلها في ذلك مثل المغني الذي يلتزم الاختفاء بصوته وسط الدربكة الموسيقية! وظهرت الزخارف الخطية والخيالية التي تذكرنا بالمشكاوات المبكرة، على حين ظلت الأتيكية على جانب كبير من الذوق الفني، ولعل زهريات أبوليا كانت أبدع ما نذكره، فمن بينها ما لا يزال مشهوراً بجماله وحسن تكوينه وطول عنقه في انثناء كعنق البجع.
ومهما يكن من شيء فإنه لم ينته القرن الثالث الميلادي إلا وكانت الآثار الباقية من هذا الفن ضئيلة، وحلت محلها الزهريات المعدنية، وعليها رسومات بارزة ذات بريق ولمعان، انتقلت إلى بلاد الرومان وظلت فيها حتى اندثار دولتهم.
وتباهى روما ونابولي وفلورنسا مدائن باريس ولندن وبرلين وميونيخ وكارلزروه وفينا وكبنهاجن وبطرسبرج بمجموعتها الفريدة التي تكون سلسلة متصلة الحلقات لمن يريد مواصلة الدرس.
أحمد موسى
الفتوة عند الصوفيين
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(مهداة إلى الأستاذ ضياء الدخيلي، لمناسبة ما كتبه من أبحاث قيمة عن الفتوة في الإسلام وفي كتب اللغة والأدب وحياة الفتيان في الجاهلية والاسلام؛ أوحت إلى كتابة هذا المقال) ع. ع
الفتوة: فعولة من لفظ فتى، كالإنسانية من الإنسان والمروءة من المرء، والفتى هو الشاب حدث السن، قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام (ودخل معه السجن (فتيان) - وقال (لفتيانه)) وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام إنهم (قالوا سمعنا (فتى) يذكرهم يقال له إبراهيم) وقال عن أهل الكهف (إنهم (فتية) آمنوا بربهم) من هذا نرى أن الفتى أسم لا يشعر بمدح أو ذم كالشاب والحدث.
وللصوفيين رأيهم في الفتوة كما لغيرهم من اللغويين والأدباء والشعراء آراؤهم، وكل يستعملها حسب هواه، ويلبسها الثوب الذي يعجبه ويهواه، فهم يستعملونها فيما يوافق تعاليمهم ويساير مذاهبهم، في معاملة العبد لنفسه وصلته بغيره من الناس وصلته بخالقه جل شأنه، وقد اصطلحوا على أنها منزلة من منازل الإحسان إلى الخلق، وكف الأذى عن الغير، والصير على ما يصدر منهم من أذى وسوء فعل، وأنها الطريق الموصل إلى الذات العلية والحضرة الربانية، وأنها نوع من أنواع المروءة: والمروءة ترك العبد ما يشين أخلاقه أو يعود بالضرر على سواه، والتحلي بمحاسن الأخلاق وحميد الصفات وكريم السجايا. فالفتوة عندهم كما قال قائلهم (الفتوة أن يكون المرء أيدا في أمر غيره) وهم يجعلونها منازل ودرجات كالأكثرية من تعاليمهم، فهي عندهم ثلاث منازل أو ثلاث درجات.
المنزلة الأولى، وتخص معاملة المرء لنفسه دون غيرها، فيلزم من يتجلى بصفة الفتوة، أن يترك الخصومة فلا يخاصم أحداً من عباد الله، ولا يجعل نفسه خصماً لأحد سواها، فهي خصمه الذي يجب عليه أن يخصمه بالمخاصمة ويقف منه موقف الحذر والترقب ولا يجعل لها سلطاناً عليه ولا يتبع هواها، لينجو من سوء ما تأمر به وعاقبه ما تسول له. وفي ذلك قال بعضهم: (الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك، وأن لا تتخذ لك عدواً
سواها). وقال الشبلي: (الفتوة أن لا تكون خصماً لأحد سوى نفسك والشيطان).
والفتى لا يخاصم بلسانه ولا ينوي الخصومة بقلبه - كما يفعل البعض الآن وما عليه الغالبية العظمى اليوم - ألسنتهم رطاب، وبطائنهم أكباد صوادي - ولا يخطرها بباله وإن خاصم أو حاكم، فيجب أن يكون خصامه أو تحاكمه في الله والى الله، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد كان يقول في دعاء الاستفتاح:(وبك خاصمت، واليك حاكمت).
- وأن يتغاضى عن هفوات غيره، ويتغافل عن زلاتهم. وإذا رأى من أحدهم هفوة، او أخذ عليه زلة توجب الأخذ بها، أظهر أنه لم يلحظ منه شيئاً حتى لا يعرضه للوحشة والخجل، ليفيه من تحمل مشقة العذر.
حكى أبو عثمان الدقاق رحمه الله قال: إن امرأة أتت حاتما فسألته عن مسألة، وفي أثناء وجودها خرج منها صوت، فظهر الخجل عليها وبان في وجهها، فلما رأى ذلك منها قال لها ارفعي صوتك، ليوهمها أنه أصم لم يسمع ما تقول، فسرت المرأة وسرى ذلك عنها وقالت إنه لم يسمع الصوت، فلقبوه من ذلك الوقت بحاتم الأصم.
وحكى غيره أن رجلا بني بامرأة، فلما دخل بها رأى بها الجدري فقال، اشتكيت عيني، وتصنعت العمى، وبعد عشرين سنة ماتت زوجه ولم تعلم أنه بصير، فقيل له لم فعلت ذلك؟ قال كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها، فقيل له: سبقت الفتيان.
- وأن ينسى إيذاء الناس له، ويجاهد نفسه في نيسان ما ناله من الضرر وينظر إلى من ناله بأذى نظر الصديق المتسامح واسع الصدر كريم النفس، إلى صديق له زل أو هفا، حتى لا يستوحش الناس وينفروا منه. قال عمر بن عثمان:(الفتوة حسن الخلق) وقال الجنيد: (الفتوة كف الأذى وبذل الندى).
ولا يبلغ درجة الفتيان ويدخل في زمرتهم من نسى إساءة الناس له وتغاضى عن هفواتهم، إلا إذا نسى كذلك إحسانه إلى من أحسن إليه وأسدى إليه معروفاً حتى يعتقد أنه لم يحسن إليه ولم يصدر منه ما يستوجب الشكر، لأن ما أحسن به هو عند الله. فالواجب أن يشكر هذا المحسن إليه لأنه جعله يشكر الله الذي وهبه هذه النعم وأفاض عليه من خيرة وبره. وهذا النوع من النسيان أعظم درجة وأرفع منزلة من السابق، وفيه قال بعضهم:
ينسى صناعه والله يظهرها
…
إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
المنزلة الثانية هي منزلة الإحسان إلى الغير، وهي أعلى مرتبة من الأولى، لأنها تلزم المتحلي بها أن يقرب من أقصاه عن مجلسه وطرده من حضرته، وأن يحسن إلى من أساء إليه ويكرم من أهانه ويعتذر إلى من أعتدى عليه، ولا يتصف صاحب هذه الفعال بصفة الفتوة إلا إذا كانت فعالة هذه عن تواد وسماحة لا عن مصابرة وكظم، وعن قوة وقدرة لا عن جبن وضعف، وفضلوا هذه المنزلة علىسابقتها، لأنها تتضمن التغلب على عدوين، النفس ومقابلة الشيء بضده، فيكون خلق الفتى الإحسان والعفو، وخلق غيره الإساءة والإيذاء، وفي هذا قال قائلهم.
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
…
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
حكي أن رجلاً من حجاج بيت الله ذهب لزيارة القبر الشريف ونام في المدينة ففقد مالا له، فلما صحا من نومه فزع لضياعه، ووجد جعفر بن محمد قريباً منه فعلق به وقال به: أخذت مالي! فقال: كم هو؟ قال: ألف دينار. فأخذه جعفر حتى أدخله داره ووزن له قدر ماله. ثم إن الرجل عثر على ماله، فعاد إلى جعفر يرد له المال ويعتذر عما صدر منه، فأبى جعفر أن يقبله منه، وقال: من هذا؟ فأخبره أنه جعفر بن محمد رضى الله عنه فقال: إنه خير الفتيان. ثم قيل لجعفر: كيف تعتذر لمن جنى عليك، وتحسن إلى من أساء إليك، ولم يصدر منك ما يوجب الاعتذار. ألم يكن كافياً أنك لم تؤاخذه؟ ألست باعتذارك إليه أنزلت نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر. فقال لهم:(وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
فهو يعزو ما أصابه إلى ذنب منه وأن هذا هو الانتقام الإلهي الذي يجب أن يناله كل مذنب. ومن كانت هذه حاله فهو بالاعتذار أولي وأحق اليّ من جني عليه، وشكره والإحسان اليه. فمن كانت هذه حالة مع من أساء إليه عفا عنه وأحسن إليه مع ضعفه وفقره وحاجته إلى سواه، فبأعظم من هذا يكافئه الفتى الذي وسع ملكه السموات والارض وشمل إحسانه المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فيعفو عن إساءته كما عفا عن إساءة عبده، فالجزاء من جنس العمل.
وقال أبن عياض رحمه الله (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان) وقال غيره (من أحوج
عدوه الى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفتوة) ومعنى هذا القول أن من أساء إليك ونالك ضرره، إذا علم أنك متألم مما وقع منه، أحتاج إلى أن يتقدم إليك معتذراً، أو يلجأ إلى شفيع يشفع له عندك ليزيل ما في قلبك من كدر، ويغسل ما علق به من زعل. فالفتوة كل الفتوة أن لا تظهر له العتب. ولا تغير ما كان منك له قبل الذي صدر منه، ولا تحول عنه وجهك حتى لا تحوجه إلى طلب الصفح والشفاعة؛ وأن لم تفعل ذلك وتخجل من قيامه بين يديك مقام الذلة والاعتذار لم يكن لك من الفتوة أوفي نصيب.
فالفتى الحق من تغاضى عن عثرة غيره ولم يأخذه بذنب أتاه أو جرم أقترفه، بل يجب أن يكون معه سمحا كريما يعامله معاملة صادرة عن سماحة خلق وطيبة نفس وانشراح صدر، ولا عن ضيق وكظم غيظ ومصايرة، لأن هذا يعتبر تكلفاً وتصنيعاً يوشك أن يزول وتبدو الأخلاق واضحة، وتظهر الصفات جلية فيفتضح أمره بين الناس، فإن التخلق يأتي دونه الخلق.
والمقصود من هذا أن يصلح الفتى باطنه كما يجمل ظاهره، وأن ينفي نفسه من الشوائب كما ينظف ثوبه من الأقذار. كان بعض أصحاب شيخ الإسلام أبن تيمية رضى الله عنه يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، ما رأيته يحمل حقداً لأحد منهم قط، وما سمعته يدعو على أحدهم، بل كان يدعو لهم ويطلب لهم من الله العفو والغفران. ثم قال: جئته يوماً أبشره بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأكثرهم إيذاء له، فنهرني وتنكر لي وأشاح عني واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت الميت فعزى أهله وقال لهم: أنا لكم مكانة، لا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة أو عون إلا ساعدتكم فيه وعاونتكم عليه، ونحو هذا الكلام، فسروا به ودعوا له وأعظموا هذه الحال منه. ولما سمع أحد المتصوفين بخبر هذه الواقعة قال:(خير الفتيان من كانت له في هذا أسوة وبه قدوة).
(للكلام بقية)
عبد الموجود عبد الحافظ
أوراق مطبوعة:
عندما يأتي الربيع!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
قلت لليأس الذي خيم في قلبي العليل
فكساه وحشة الليل، وأحزان الأصيل
أيها اليأس تمهل، يا ضباب المستحيل
وترفق بشبابي، وتأهب للرحيل
وكفى أزهار عمري ما عراها من ذبول
فتمطت ظلمة اليأس، وقالت في ذهول:
عندما يأتي الربيع!
قلت للأحزان. . . أحزاني! وقد جاء الصباح
وترامى الضوء نشوان على صدر الأقاح:
أنت يا أحزان في قلبي دماء وجراح!
أنت في عمري دموع وأنين ونواح
فمتى تمضين عن قلبي الحزين المستباح؟
فأجابت في سكون: سوف أمضي كالرياح
عندما يأتي الربيع!
قلت للآمال إذ لاحت بآفاق الخيال
كعذارى عاريات، أو كأطياف الجمال:
عانقي قلبي؛ فقد رانت على قلبي الظلال
عانقي روحي؛ فقد خيم في روحي الملال
فمضت ترقص من حولي: وقالت في دلال:
عندما يأتي الربيع!
قلت للأفراح، والأفراح أزهار الحياه
أنت في عمري تسابيح، وفي روحي صلاه
وأنا عمري عباب قد تناءى شاطئاه
وأنا روحي شراع ضلل الموج خطاه
فتعالى إنما قلبي غريق في أساه
فأجابت وهي تنأى: سوف آتى في الغداه
عندما يأتي الربيع!
وتحدثت إلى نفسي، وقد جاء المساء
قلت: يا نفسي غداً تمضي كآبات الشتاء
وغداً يأتي الربيع السمح نشوان الضياء
ويرف الزهر في عمري، ويشدو بالغناء
فإذا صوت عميق شق أجواز الفضاء
لست أدرى كيف وافى، لا، ولا من أين جاء
قال: يا شاعر يا مستلهما روح الخفاء
يا صدى الآلام في الدنيا، ويا رجع الشقاء
إنما تحيى على الدنيا حياة الشهداء
لا تؤمل في سراب هو من وهم الظماء
كل ما قيل خداع، فاستمع صوت القضاء:
لن يغيب اليأس والحزن، ولن تلقي الرجاء
عندما يأتي الربيع!
من جحيم الواقع
البدر العاشق
للشيخ محمد رجب البيومي
(قصة عاشقين فرقت بينهما عوامل البيئة، وقسوة المجتمع،
ونكد الطالع)
أبصر البدرُ سناها يترامى
…
فغدا بالشمس صبّا مستهاما
عاشق ألقى الهوى في نفسه
…
ذلة أعرفها عند اليتامى
جن بالشمس ومن هذا الذي
…
لمح الشمس ولم يفتن هياما
ذو حياء لم يشاهد مثله
…
عند خود تلزم الخدر احتشاما
يتوارى إن بدت مستخذيا
…
فإذا ما أدبرت ألقى اللثاما
كم خطا بين الثريا ساهما
…
كمريض يشتكي داءُ عقاما
زحل يبكي له من رحمة
…
وسهيل يطلق الدمع سجاما
عجبي للبدر، أمسى وجهه
…
شاحب الطلعة لا يمحو الظلاما
نظرة يا ويلها من نظرة
…
ذاق من جرائها الموت الزؤاما
كم شكا للشمس ما قد شفه
…
من سقام، قاتل الله السقاما
وأنبرى يسألها في ذلة
…
كيف ترضين لمثلي أن يضاما
تاه ظني فيك يا شمس الضحى
…
أدلالاً غبت عنيّ أمْ خصاما
زهرتي أودى بها لفح النوى
…
فإلامَ الهجر يا شمس إلاما؟
آه لو تدرين نجوى مهجة
…
ترك البعد بقاياها حُطاما
كبدي تصرخ من أعماقها
…
إذ مضى العمر ولم تطفئ أواما
أي عيب ضائر تخشينَه
…
لوْ تفضّلت بإتياتي لماما
أحسد الزهر إذا طفت به
…
ساجي الطرف فداعبت الكماما
أحسد اليّم وقد غطيته
…
بسناً كان على الماء وساما
سرت في الأرض فأضحى وجهها
…
كثنايا الغيد نوراً وابتساماً
كل ما في الكون لاقى حظه
…
منك لكن أنا لم أبلغ مراما
لي رجاء فيك إن خيبته
…
حبذا بعدك أن ألقى الحماما
قالت الشمس له في رعدة
…
قدك، قد أشعلت في قلبي الضراما
صير الحب كياني هدفا
…
يتلقى طيلة العمر السهاما
أرسل الرفرة حراً لافحا
…
كجحيم موقد يشوى الأناما
أنظر الأفق إذا ولى الدجى
…
أترى للجمر في صدري اضطراما
أنظر الأفق إذا حان الدجى
…
شفقاً تلقى عليه أم كلاما
قلب الطرف أصيلا كي ترى
…
لاصفرار الوجد في وجهي ارتساما
مقلتي لاذقت يوماً دارها
…
حرم الشوق عليها أن تناما
أنظر الغيث تجده أدمعا
…
فارقتها لم تطق فيها مقاما
هأنا الأخرى تفانيت أسى
…
فعلام العتب يا بدر علاما؟
أنت في الأفق مكين ثابت
…
وأنا أحبو على الأرض دواما
حولك الأنجم في أفلاكها
…
تتفانى فيك حباً واحتراما
كيف ترجو زورة مني إذن
…
أيزور البدر من يغشى الرغاما
هاك عرف الناس، من لم يرضه
…
تركوا أعظمه فيهم رماما
كلما أرقب وصلا قيل لي
…
جعل الرحمن لقيانا حراما
ما صنيعي في آله قادر
…
صير اليأس لقلبينا لزاما
ليته إذ مد أحبال النوى
…
صير الاشواق برداً وسلاما
هذه قصة حب ثائر
…
كشف الشعر لنا عنها اللثاما
أنت أنت الشمس ما أحظى بها
…
رغم وجدي وأنا البدر تماما
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الدكتور طه حسين في المغرب:
نشرت الصحف أخيراً أن الدكتور طه حسين بك سيسافر من فرنسا إلىإسبانيا تلبية لدعوة إلى إلقاء محاضرات بجامعاتها. وقد علمت أن الدكتور بعد أن يفرغ من مهمته في إسبانيا سيسافر منها إلى شمال إفريقية لإلقاء محاضرات ببعض المعاهد المغربية.
ولا شك أنك ستدهش لذلك كما دهشت أنا له. . . فبلاد المغرب التي يحكمها الفرنسيون، والتي سيتجه إليهاالدكتور طه حسين بطبيعته الحال - تعد مغلقة أمام الثقافة العربية المشرقية الحديثة، فلا يكاد يدخلها من مصر وما يليها من الأقطار العربية صحيفة ولا كتاب! فكيف يدخلها طه حسين ويحاضر فيها وهو في الصف الأول من منتجي هذه الثقافة؟ ولكن ماذا أصنع وقد استقيت الخبر من مصدر عليم أثق به، كما يقول زملاؤنا الصحفيون، ولم يبعث على التصديق.
ثم قرأت في العدد الأخير من مجلة (الاثنين) ما يلي:
(قال لنا أحد الحجاج المغاربة الذين مروا بمصر في طريقهم إلى الحجاز: إن الكتاب المصري أصبحت له سوق سوداء في شمال أفريقيا لندرة الحصول عليه، وأن هنالك مجاعة ذهنية بسبب خلو المكتبات من آثار مصر الفكرية).
قرأت هذا فازدادت دهشتي من السماح للدكتور طه بدخول تلك البلاد، وخطر لي خاطر أستبعدته، لأنه لا يمكن إن يعاهد على التحدث عن الثقافة الفرنسية دون العربية!
إنها لمعجزة حقاً أن ينجحالدكتور طه حسين في (تهريب) الثقافة العربية إلى مناطق النفوذ الفرنسي في شمال إفريقية. . .
كرسي شوقي أيضاً:
أفضى الأستاذ مصطفى عامر بك وكيل جامعة فؤاد الأول إلى مجلة (البشير) بتصريح في مسألةكرسي شوقي، فقال: (يسر الجامعة ملء هذا الكرسي بدون توان، وإنما الذي لا بد منه هو اختيار الشخص الذي يتذوق الأدب الحديث عامة، المتشبع بشعر شوقي وروح
شوقي وفلسفة شوقي خاصة، حتى يتمكن من ملء الكرسي وإعطاء شوقي حقه ومكانه من أدباء العصر الحديث. وإذا تيسر الحصول على هذا الشخص، فكلية الآداب لا تترد في اختياره) إلى أن قال:(أولى بنا أن نترك الكرسي شاغراً حتى يتيسر لنا الشخص المطلوب). ولم يتعرض لنقطة اختيار الأستاذ من الجامعة أو من خارجها.
ويفهم من تصريحه نصاً أن الجامعة لم تقع عينها إلى الآن على شخص يصلح لهذه الأستاذية، ولكن هل يفهم منه - عن طريق الاستنتاج - أن الجامعة لا تجد في أساتذتها - وهم تحت عينها - من يصلح؟ أما غير أساتذتها من الأدباء، فهل بحثت عمن يصلح منهم؟ على أن هذا السؤال يجب أن يسبقه إقرار المبدأ وهو الاستعانة بأساتذة من خارج الجامعة.
والسؤال الأخير: هل صحيح أنه لا يوجد - في الجامعة أو في غيرها - من يتذوق الأدب الحديث ويلم بدقائق شوقي؟
وما كان يصح أن يتكون هذا السؤال لولا تلك المقدمات، فليس شوقي وشعره معضلة إلى هذا الحد!.
اجتماع بجوار (كشك الموسيقى):
شاء صديقي الأستاذ وديع فلسطين أن يفرع الحديث في موضوع اختيار الجامعة أساتذتها، فأرسل الكلام في شعب هذا الموضوع، دائراً حول المحور الذي يظهر من قوله:(إن الحياة كثيراً ما تكون أقدر على إعداد المرء ثقافياً وعلمياً من الجامعة. وقد أعترف جورج برناردشو بأنه لم يدخل جامعة ولا معهداً عالياً، وأنه كان خامل الذكر في دراسته الابتدائية).
وأذكر - لهذا - ما رأيته بعدد من جريدة (المؤيد) يقع تاريخه قبيل سنة 1908، فقد كنت أتصفح أعدادها منذ سنوات بدار الكتب المصرية، فلمحت هذا التوقيع (عباس محمود العقاد) تحت أسطر تتضمن دعوة الراسبين في الشهادة الابتدائية إلى الاجتماع بجوار (كشك الموسيقى) بحديقة الأزبكية. . ولعل التلميذ عباس محمود العقاد كان يريد بهذا الاجتماع أن يتزعم زملاءه للمطالبة بعقد امتحان (ملحق) لهم، وقد يكون الأمر غير ذلك. ولكن المعروف في تاريخ الأستاذ الكبير أنه لم يستمر في دراسة مدرسية بعد التعليم الابتدائي، لحسن حظه! فقد كسب بذلك وقتاً طويلاً من عمره كان يضيع في تعلم ما لا يرد ولا يفيد،
فأستغل وقته ووجه همه إلى ما أراد. وهو يعبر عن ذلك في مقال بالعدد الأخير من مجلة الهلال بقوله: (ومما أحمد الله عليه أن أساتذتي جميعاً قد اخترتهم بنفسي، ولم يفرضهم علي أحد يملك سلطة التعيين والفصل دون غيره، لأنهم كانوا جميعاً مؤلفين مشهوداً لهم برسوخ القدم في صناعة التأليف أقرأ منهم من أشاء وأعرض عمن أشاء، وأطلبهم حين أريد وحيث أريد).
وقد بلغ العقاد في الأدب والفكر ما بلغ، ولست أقول كما قال الأستاذ وديع إنه يكفي أن يقدم كتاباً من كتبه - بغير اختيار - إلى الجامعة لينال عليه درجة الدكتوراه. ولا أذهب إلى ما ذهب اليه من المطالبة بالدكتوراه لرواد الحركة الفكرية الحديثة في مصر. فالدكتوراه لا تزيدهم شيئاً، إلا أن يكون المطلوب مساواتهم بعشرات الدكاترة من الخريجين العاديين.
إنما تمنح الشهادة أو الدرجة الجامعية لتدل على قيمة صاحبها العلمية أو الفنية، فإذا ما ظهرت هذه القيمة وأصبحت معروفة بين الناس فما الحاجة الالدليل عليها؟.
مؤسسة الثقافة الشعبية:
تلقينا من مؤسسة الثقافة الشعبية التي كان أسمها الجامعة الشعبية، بياناً ضمنته خلاصة ما قامت به منذ إنشائها سنة 1946، جاء فيه أن من أغراض المؤسسة (تنظيم دراسات عقلية وفنية لتكوين الشخصية، وترقية الملكات، ورفع المستوى الثقافي، والعمل علنشر الثقافة العامة بين طبقات الشعب على أساس من الرغبة الشخصية دون اشتراط مؤهلات معينة).
ويبدو أن الكبار أحسن من الصغار حظاً بهذه المؤسسة، ففي هذا الوقت الذي يواجه فيه الآباء مشقات إلحاق أبنائهم بالمدارس، الناجمة من عدم وجود محل، أو عدم توافر الشروط، أو العجز عن أداء (المصروفات) وما يصحب ذلك في الغالب من الوساطات والشفاعات - في هذا الوقت يستطيع الكبير الذي لا تقل سنه عن 16 سنة، والذي أتقن القراءة والكتابة، وقد حرم من الزود بما يميل إليه من ألوان الثقافة وأنواع الفنون أن يستدرك ما فاته ويحقق رغباته في وقت فراغه، لا يتكلف غير رسم زهيد مائتي مليم في السنة.
وبالمؤسسة عشر شعب، نذكر منها شعبة الدراسات الأدبية، وشعبة الدراسات الاجتماعية، وشعبة الفنون الجميلة وتشمل الرسم والتصوير والزخرفة والموسيقى والأغاني والتمثيل،
وقد أنشئ للعام القادم شعبة اللغات الحية. وللمؤسسة فروع في الأقاليم يشمل كل فرع منها جميع الشعب، وقد بلغ عدد الطلاب في العام الماضي بالقاهرة والأقاليم 10504 منهم 4828 سيدات وآنسات أكثرهن في شعب الثقافة النسوية.
نظرة في منهج الشعبة الأدبية:
وفي زيارتي المركز العام للمؤسسة أطلعني سكرتيرها الأستاذ محمود الغزاوي على منهجالشعبة الأدبية، وأذكر اولا ما جاء في آخر هذا المنهج من أن هدفها هو (أن تجعل من طالبها إنساناً متذوقاً للجمال الأدبي، وقارئاً يقرأ عن فطنة ويدرك عن وعي، وكاتباً يحسن التعبير عما في نفسه، ومتحدثاً يزن الكلام إذا نطق، وأن تقضي على العامية اللغوية والفكرية وأن تحبب الشعب في القراءة المجدية التي هي أهم وسائل المعرفة، وأن تساهم في الإعلام من قدر الأدب الرفيع ومحاربة الأدب الهزيل الرخيص).
وهذا كلام طيب، وهو الهدف الذي يجب أن يرمي اليه. ولكن هل المنهج المرسوم يؤدي اليه؟ يحتوي المنهج إجمالا على: تعريف وتحليل للكتاب العربي، تراجم وتحليل للشخصيات الأدبية، ودراسة علمية للأسلوب مع التفرقة بين الأساليب المختلفة، تحليل وعرض لنصوص من جيد النثر على أن تكون تطبيقاً على ما في الدروس العلمية.
وأنا أعتقد أن دراسة هذه الموضوعات لا تسير في الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف، بل إنها تصد الناشئ في الأدب عنه، وكان يعد الموضوع الأخير، وهو عرض النصوص، من الاتجاه الصحيح، لولا ما أفسده من أن المقصود به أن يكون تطبيقاً على الدروس العلمية.
إن هذه الموضوعات تدرس في المدارس الثانوية وما يماثلها، وتسخر أذهان الطلاب في حفظ التعريفات وإحصاء الخصائص والفروق والصفات، وليس وراء شئ من ذلك أي طائل، فمثلا يحفظ الطالب في السنة الثانية سبب تأليف أبي الفرج كتاب الأغاني ويحفظ وصف الطريقة التي أتبعها في تأليفه وغير ذلك، ولكن ليس في ذهنه فكرة واضحة عن الكتاب، ولو رآه ما عرف أنه المقصود بذلك الدرس الذي حفظه. . .
يخيل الىّ أن الذين يضعون هذه المناهج إنما يريدون أن يدلوا على علو كعبهم في فنون الدراسات الأدبية، كما تدل على علو كعبهم ايضاً تلك الكتب المدرسية التي يؤلفونها وفق هذه المناهج، ولكنك إذا نظرت إلى هذا كله من جهة أخرى هي تعريفهم أنفسهم للبلاغة
بأنها مطابقة لمقتضى الحال، وتأملت الفرق الكبير بين حال الطلبة الناشئين وبين اسلوب هذه المؤلفات ومستوى تلك المناهج، علمت ما في عملهم هذا من مجانبة للبلاغة ودلالة على ضد (علو كعبهم) فيها. . .
كنت وما زلت أود أن تخرج المؤسسة الشعبية على تلك المناهج الرسمية الجامدة، فتقدم لطلابها الأدب نفسه خالصاً من تلك الدراسات، تعرض نماذج سهلة منه وتيسر لهم قراءة الكتب الدانية من إفهامهم، مع شرح من الاساتذة، وتحليل طفيف يقصد منه إلى الإساغة والتذوق، لا إلى معرفة الخصائص والاصطلاحات العلمية والبحث عن أسباب الصعود والهبوط في (بورصة) الأدب!
إن الذين يطلبون الأدب في مؤسسة الثقافة الشعبية ينبغي أن يكون أهم ما يقدم لهم رحيق الآداب المصفى، لأنه هو الذي يستجيب لميولهم التي دفعتهم إلى طلبه، وهو الذي يلائم شهيتهم البادئة. وهم بعد أحرار في إقبالهم وإعراضهم، لا تملك المؤسسة من أمرهم كما تملك المدارس من أمر تلاميذها. . . وأخشى إن دأبت على هذا المنهج أن تضطر إلىإلغاء الشعبة الأدبية بعد أن تدل (التجربة) على عدم نجاح الدراسة فيها. . . .
عزيزتي السيدة بديعة مصابني:
قرأت في إحدى الصحف أنك تفكرين في إحضار فرقة (باليه) راقصة من باريس للعمل في مسرح (كازينو أوبرا) في الشتاء القادم. فسررت لهذا الخبر، ولا يسعني إلا أن أشكرك بالنيابة عن الحكومة المصرية وعن دار الأوبرا الملكية لأن استقدامك فرقة الباليه من شأنه أن يعفى الدولة من الجهود والأموال التي تبذلها لاستقدام هذه الفرقة وأمثالها، من شأن عملك هذا يا سيدتي أنيعفى مدير الأوبرا من الترحال والأسفار والتنقل بين البلدان الأوربية للبحث عن هذه الفرق والتعاقد معها، ومن شأن هذا العمل الجليل ايضاً أن يعفى خزانة الأمة المسكينة من تلك الأموال التي تدفعها إلى تلك الفرق والتي ينفقها المدير في رحلاته.
ومما يضاعف الشكر لك (يا ست بديعة) أن تكوني قد أردت معاونة الدولة في أعبائها الكثيرة المرهقة، إذ رأيتها تعمل جاهدة على استكمال ما ينقص هذا الشعب المسكين فتجلب الفرق الراقصة لعلاج أمراضه ومحاربة أعدائه الثلاثة المشهورة المعروفة بالفقر والجهل والمرض!
ورأيت من جهة ثانية أن الدولة مرهقة بأعباء أخرى جدية. . . كتدبير الخطط السياسية الخارجية وإيفاد الوفود إلى الهيئات الدولية، فأردت - مشكورة - أن تقولي لها: خل عنك عبء الترفيه عن ذوي الهموم المترفة! وتفرغي لغيره مما يليق بك. . .
وسواء أصح ذلك الخبر أم كان من خيال زميل بارع، فهو على كل حال يلقى ضوءاً على جهة الاختصاص فيتبين (باري القوس) ليعطاها. . . وه أيضا فرصة طيبة لأكتب لك هذا وأحييك تحية فائقة. . .
عباس خضر
البريد الأدبي
اصطلاحات فنية:
في افتتاحية الرسالة (ع 795)، عبر الأستاذالجليل الزيات عن ألـ بـ (اليبرْشية)؛ ولقد كنا نؤثر لو أن الأستاذ الكبير أصطفى لفظ (الرئاسية) ترجمة لهذا الاصطلاح الفني، متمشياً في ذلك مع فقهاء القانون المصرين الأعلام. .
وفي اعتقادنا أنه لفظ مناسب تماماً لمفهوم الـ أجمله الأستاذ في هذه الكلمات: (النظام الإداري الذي يقضي بتدرج المناصب في العمال والأعمال والتبعات، فيبدأ الأمر بالأصغر فالصغير، ثم ينتهي إلى الكبير فالأكبر).
ولقد يكون من المفيد - في هذا المجال - أن نشير إلى أن هذه (الرئاسية) هي اسلوب النظام الإداري الموسوم بالمركزية وهو نظام بمقتضاه تنعقد السلطة الإدارية بيد الحكومة المركزية، بينما لا يصير لما عداها من الهيئات والشخوص المعنوية الإقليمية أو المصلحية، سلطة جوهرية محسوسة الأثر بالقياس إلى سلطانها الواسع الكبير.
وعلى العكس من ذلك نظام (اللامركزية) الذي يتضمن أقتطاع (بعض) من هذه السلطة - بداءة -، وفي حدود رقابة خاصة - بمباشرة وظيفتها الإدارية الإقليمية أو المصلحية.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر - كما يقولون - فقد يجمل بنا التنبيه إلى (لَبْسِ) تقع فيه الصحف هذه الايام، حين تعبر عن النظام الإداري القائم الآن بوزارة المعارف المصرية - وأعني به (اللا وزارية) بـ (اللامركزية)
وهو (لْبسُ) أدى إليه الأعتقاد - خطأ - بأن ترك المراقبين والمفتشين ونظار المدارس ومن إليهم من الرؤساء الإداريين بالأقاليم، يبتون نهائياً - في بعض أحوال خاصة - في شئون وظيفتهم الإدارية، دون الرجوع في ذلك إلى مكاتب وزارتهم القائمة بالعاصمة. . . يعني أن الأسلوب المختار في الإدارة في وزارة المعارف المصرية هو الأسلوب اللا مركزي
وقد فات هذه الصحف، أن الشرط الأساسي والجوهري لقيام (اللامركزية)، هو أن تستمد الهيئات الإقليمية سلطاتها المحلية من طريق الانتخاب لا التعيين، وأن يكون الانتخاب - غالباً على الأقل - في تكوين الهيئات. فأين هذا من النظام القائم الآن في هذه الوزارة،
والذي لا يعدو أن يكون (صورة مخففة) من المركزية المطلقة (الوزارية يطلق عليها - أي على هذه الصورة المخففة - في الاصطلاح الفني لفظ: (اللا
وهكذا يتضح من هذا البيان أن النظام المعمول به اليوم في وزارة المعارف المصرية، هو نظام مركزي في صورة مخففة (لا وزارية)؛ وعلى ذلك. . . فمن الخطأ - فنياً - إدماجه في دائرة اللامركزية.
عبد العزيز الكرداني
(الرسالة) آثرنا كلمة الييررشية كما آثر من قبلنا كلمات
الديمقراطية والأرستقراطية والتيوقراطية الخ. . لأن كلمة
الرياسة وأشباهها لا يؤدي المعنى الكامل الرفيق للفظ الأجنبي
إلا بقوة الوضع وكثرة الاستعمال وطول الزمن.
يدعو إلى الإسلام
ورد لي خطاب عن يد مجلة الرسالة من الأديب أحمد عادل يثني فيه عليّ لما أكتبه في الرسالة عن الصهيونية وفلسطين ثم يدعوني إلى الاسلام، فأشكر له هذه الدعوة لأنه طبعاً يريد بها لي الخير. ولكنني عجبت من أنه يختصني بهذه الدعوة، وفي البشر نحو 1500 مليون نسمة ليسوا مسلمين فهم ايضاً خليقون بدعوته. فهل يظنني حضرته ملحداً أو وثنياً؟ لا. يا عزيزي. إن لي ديناً لا يقل عن الإسلام في فضائله. دع ما يلابسه في بعض الأحوال والأزمان من ترهات رجاله، كما يلابس كثيراً من عقائد البشر. في أمريكا طائفة نصرانية يقال لذويها (الموحدون) فهي تنبذ من المسيحية كل ما هو غير معقول كالتثليث والمعمودية الخ. . ويعتنقها جلة أهل العلم والفضل وتتمسك بتعاليم المسيح التي تصلح لكل امة من ملل العالم كقوله: أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من اساء إليكم. أغفروا للمذنبين إليكم الخ. ربما قابلها في القرآن الشريف ما في سورة (فصّلت).
فإنا إلى حد ما، من هذه الطائفة. وقد جمعت عقيدتي في مطلع قصيدة للشيخ نصيف البازجي في كتابه مجمع البحرين:
الحمد لله الصمد
…
حال السرور والكمد
الله لا إله إلا
…
الله مولاك الأحد
لا أمّ للهِ ولا
…
والدُ له ولا ولد
أول كل أول
…
أصل الأصول والعمد
الحول والطول له
…
لا درع إلا ما سرد
إلى آخرها كلها من هذا الطراز العاطل (لا نقط في حروفه) والاستاذ أحمد عادل بارك الله فبه يحثني على قراءة القرآن الكريم. فليعلم أن عندي مصحفين. وقد قرأت القرآن كله وقرأت بعض سوره مراراً. وأومن بكل فضائله ومحامده، ولكنني لا أرى لماذا أنادي باعتناقي الإسلام ولي من العقيدة الدينية العالمة ما أتمنى أن يكون لملايين غيري حتى لجانب من المسلمين أنفسهم. وربما كنت أقرب إلى الإسلام من كثيرين من المسلمين. فليطمئن أخونا أحمد أني لست بعيداً عنه لا كثيراً ولا قليلا. اللهم إذا كان أعتقاده نظيفاً من الخرافات والترهات
بقيت بعض نقط أخرى في كتابه لا محل لها في الرسالة فإذا أنبأني بعنوانه كاتيته بها.
نقولا الحداد
حول حب الرافعي:
قرأت في العدد من (الرسالة) كلمة بسط قائلها فيها رأيي الأستاذتين حسنين مخلوف وكامل محمود حبيب في حب الرافعي.
والرأيان يرميان إلى أن حب الرافعي لم يكن صادقاً - كما قال صاحب الكلمة - وليس في هذين الرأيين جديد، فقد قرأنا من قبل رأي تلميذ من تلاميذ الرافعي لعله أقربهم إليه وهو الأستاذ محمد سعيد العريان، وقد أورد رأيه هذا في كتابه عن الرافعي فقال:(إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع. ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول. . . هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان. . . كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب). . .
ويقول بعد هذا بقليل. (وبلغ الرافعي (بعصفورة) إلى غايته وأشتهر شاعر الحسن) وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها، ثم مضى كل منهما إلى طريق، وأتم الرافعي طبع ديوانه، وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع إلى الزواج أو الغاية الأخرى، ثم يبدأ في تاريخ جديد، كذلك أنتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية، ثم كان تاريخ جديد. . .
وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات، وكم أنجبت ثمرات، وإنه ليخيل إلي أن الرافعي كان كلما أحس حاجة إلى الحب راح يفتش عن (واحدة) يقول لها: تعالي نتحاب لأن في نفسي شعراً أود أن أنظمه أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها! ولقد سمعته مرة يقول لإحداهن. . . وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في (ورقة ورد)؟.
ويتضح من هذا أن الرافعي رحمه الله كان يبحث عن الشعر والفن في الحب، فالحب عنده وسيلة إلى تصوير عواطفه، وتسجيل خواطره، فلم يكن الرافعي يبحث عن الحب نفسه، وإنما لغاية فيه.
على أن هذا لا يمنع أن يكون الرافعي قد أحب حباً صادقاً إحدى هؤلاء اللائي كتب عنهن، فلا نحكم حينئذ جملة بأن حب الرافعي كان مصنوعاً كله. ويؤيد هذا كلمة قالها الأستاذ العريان في (حياة الرافعي):(. . . وسعي إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقاً بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب دونه، فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب).
وإذن فقد أحب الرافعي، وظل يرسف فلال الحب سنين طويلة. . فلا يمكن بعد هذا أن يقال إن كل ما كتبه الرافعي في فلسفة الحب والجمال شعراً أم نثراً غير صادر عن عاطفة صادقة وحب خالص.
ولا حاجة بنا ايضاً إلى سؤال تلاميذ الرافعي أو غيرهم عن توفر (الصدق الفني) فيما كتب أم عدم توفره.
حسن صادق حميدان
القصص
الأنموذج
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
ترجمة الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
كانت بلدة (أترات) الهلالية الشكل ذات الجرف الأبيض، والبحر الأزرق والرمل الذهبي، تنام في هدوء تحت شمس شهر يوليو المشرقة، وقد برز على طرفي الهلال قوسان من الصخور مدليان على الماء السكن، أصغرهما واقع إلى الشمال كأنه قدم قزم، وأكبرهما إلىالجنوب كأنه ساق عملاق.
واحتشد الناس على طول الساحل راقدين على الرمل يتأملون المستحمين، وازدحمت شرفة (الكازينو) بالقاعدين أو السائرين المتنزهين، فبدت ملابس السيدات المزركشة ومظلاتهن الحريرية الموشاة كأنها حقل منسق الزهور. وأبتعد البعض عند آخر الشرفة يتجول هنا وهناك ويتمتع بالطقس الهادئ اللطيف بعيداً عن ثرثرة البعض الآخر.
ومشى جان سمر الرسام الشاب المعروف بجانب مقعد متحرك يدفعه الخادم، جلست عليه زوجه المقعدة تحدق في حزن إلى صفاء السماء تارة، والى الحشد المبتهج الجالس تحت الشمس الزاهية تارة أخرى. كانا صامتين لا ينظر أحدهما إلى الآخر.
وأخيراً قالت السيدة إلى زوجها - دعنا نقف هنا لحظة. كان كل من مر عليهما ويراهما صامتين ينظر اليهما نظرة إشفاق. كانوا يعرفون قصة غرامهما، تلك التي أصبحت أسطورة البلدة. لقد عقد عليها الرسام على الرغم من عاهتها.
وجلس على مسافة غير بعيدة منهما رجلان يتحدثان ويتطلعان إلى البحر، وتابع أحدهما حديثه قائلاً كلا، هذا غير صحيح. إني أعرف جان سمر جيداً.
- إذا لماذا تزوجها؟ لقد كانت مقعدة عندما عقد عليها أليس كذلك؟
- أجل، أنها الحقيقة. لقد تزوجها. . . حسناً. . . تزوجها كأي رجل يتزوج، لأنه كان مجنوناً.
- ولكن لا بد وأن هناك سبباً آخر.
- سبب آخر يا صديقي؟! لا يوجد هناك سبب آخر. إن الرجل مجنون لأنه مجنون. أنت تعرف أن الرسامين مشهورين بالغريب من الزواج. إنهم غالباً ما يتزوجون الفتيات اللاتي يرسمونهم، وقد كن قبل الزواج خليلات لغيرهم من الرجال. أنهن سلع قديمة بمعنى الكلمة!.
لماذا يتزوجونهن؟ سؤال لا يستطيع أحد أن يجيب عليه إجابة شافية. وقد يظن المرء أن الاختلاط الدائم بهن يجعلهم يعافون مثل هذا النوع من النساء. ولكنه ظن غير صحيح. فانهم بعد أن يرسمونهن يتزوجونهن. حبذا لو قرأت كتاب (زوجات الفنانين) لألفونس دوديه إنه كتاب ثمين واقعي قاسي النقد
ان زواج هذين الاثنين قد حدث بطريقة محزنة غير مألوفة. وفي الحق، لقد مثلت الفتاة مهزلة أو قل مأساة، وقامرت بكل شئ في ضربة واحدة. هل كانت تحب جان؟ لا يستطيع أحد أن يتكهن بذلك في مثل هذه الحالات. من ذا الذي يستطيع أن يتحدث عن مقدار عنصر القسوة، ومدى عنصر الإخلاص اللذين يدخلان في أعمال المرأة؟ إنهن دائماً لغز لا يستطيع الرجل حله. فنحن طالما نسأل أنفسنا. هل هن مخلصات، أم هن يغلبن علينا دوراً؟ يا رفيقي العزيز، إنهن مخلصات وغير مخلصات لأن ذلك جزء من طبيعتهن. فكر في الوسائل التي يتخذها أمهرهن للحصول على كل ما يرغبنه منا. أنها وسائل نستنتجها، وبسيطة لأننا بعد ما نقع في الشرك لا نملك إلا أن نتعجب دهشة ونسأل أنفسنا (حسناً. . . هل هن حقيقة خدعتنا بمثل هذه السهولة؟ وهن دائماً يسلكن الطريق الذي رسمنه لأنفسهن. خصوصاً عندما يرغبن في الزواج. على أية حال إليك قصة سمر).
(كانت الفتاة أنموذجاً عنده. وكانت حسناء ساحرة ذات جمال فتان. ووقع الرسام في شراك حبها كأي رجل يقع في حب فتاة جذابة كثيرة التردد عليه. وخيل إليه أنه يحبها حقيقة. إن تلك ظاهرة عجيبة. فإنه حالماً يرغب رجل في امرأة يقتنع في قرارة نفسه اقتناعا تاماً أنه لا يستطيع من بعدها عيشاً. ولكن الرسام كان يدرك تمام الادراك أن ما حدث قد حدث له من قبل، وأنه عندما تشبع الرغبة يعقبها التقزز. وكان يعرف أنه لكي يقضي سني حياته مع مخلوق بشري آخر، فإنها ليست العاطفة الحيوانية البدائية الزائلة هي ما يحتاج اليه، وإنما التشابه الروحي والتآلف في الشعور والطباع، وأنه يجب عليه أن يكون قادراً على
التمييز - وسط الجاذبية التي تؤثر عليه - فيما إذا كان ذلك الانجذاب نتيجة عوامل طبيعية محصنة، أو هو نوع من الخيال، أو نتيجة اتحاد روحي متين.
ومع ذلك فقد ظن الرسام أنه يحبها، وتعهد مئات المرات وأقسم على الاخلاص لها وألا ينظر إلى امرأة غيرها وكانت في الحق رشيقة؛ رشاقة فتيات باريس. وكانت تثرثر وتتحدث بعبارات جنونية في صور مسلية. وتومئ إليه بحركات جذابة؛ وتف أمامه وقفات فاتنة تسر كل فنان.
ولم يدرك جان مدة ثلاثة أشهر بأنها في قرارة نفسها لا تختلف عن أية فتاة أخرى من طرازها. بل أستأجر لها داراً في (أندرس) لقضاء فصل الصيف. وكنت هناك ذات مساء عندما ابتدأت أولى الشكوك تفرض نفسها فرضاً على نفس صديقي. كانت ليلة بديعة، فقررنا التنزه على ضفة النهر. وكان القمر يرقص على صفحة الماء المتألق، فتلألأ صورته بتأثير تيار الماء الجاري.
كنا نسير على طول الضفة، وقد تملكنا شعور مبهم من السعادة، تلك السعادة التي كثيراً ما تغمرنا في مثل ذلك المساء الكامل. وشعرنا بأننا نستعرض منظراً ساحراً، وبأننا وقعنا في حب سماوي مع ما صورته لنا مخيلتنا الشاعرية. كنا ندرك في عجب هذه الأحاسيس الغريبة المثيرة. وسرنا صامتين متأثرين من هذا الهدوء وبهجة هذه الليلة. وظهر القمر كأن ضوءه يخترق ذاتنا؛ يخترق الجسد فيغرق الروح في حمام شذي من الرضا. وفجأة انفلتت من جوزفين - وكان هذا أسم الفتاة - صيحة وهب تقول - هل رأيت السمكة الكبيرة وهي تقفز هناك؟
فأجاب الرسام دون أن ينظر إليها أو يعي كلماتها - نعم يا عزيزتي.
ففقدت هدوءها وقالت: كلا إنك لم ترها؛ فأنت تستدبرها
فأبتسم وقال: إنك على حق. إن المساء من الجمال حتى لا أستطيع أن أفكر إلا فيه.
فلم تفه بكلمة فترة من الزمن، ثم قالت أخيراً وكأنها شعرت بأنها في حاجة إلى الكلام - ألن نذهب غداً إلى باريس؟
- لست أدري.
فقطبت قائلة - هل تعتبر ذهابك إلى نزهة دون أن نتحدث نوعاً من التسلية؟ حتى الأغبياء
يتحدثون!
فلم يجبها. ثم أدركت ببديهة المرأة المتمردة أنها أثارته، فطفقت تغني أغنية شائعة. فتمتم قائلاً - أصمتي أرجوك.
فردت في حنق - ولماذا أصمت؟
فأجاب - إنك تفسدين علينا لذة التمتع بجمال الليلة.
ثم حدث ما لا يستطيع تجنبه في مثل هذه الظروف، ذلك المنظر الكريه. ابتداء بتوبيخات أعقبتها اتهامات ثم بكاء. وأخيراً عادا إلى الدار وتركها تصيح دون أن يقاطعها.
وظل ثلاثة اشهر يناضل في يأس في سبيل الفكاك من الأغلال التي كانت تقيده بها. وكانت قد استغلت عاطفتها المسيطرة عليه لتجعل من حياته بؤساً وجحيماً. . ولذلك كانا يتشاجران ليل نهار. . وأخيراً قرر أن يضع حداً لكل ذلك ويهرب. . . فباع لوحاته وأقترض مالاً وتركه وخطاب وداع على حافة المدفأه، ثم التجأ إلى منزلي.
وقبيل الساعة السادسة بعد الظهر قرع الجرس فذهبت وفتحت الباب. . . فبدأ لي وجه امرأة نحتني جانباً ثم اقتحمت طريقها إلى مرسمي. كانت جوزفين. وهب الرسام واقفاً عند ما دلفت إلى الغرفة وألقت برسالته والنقود تحت قدميه في اشمئزاز ظاهر، ثم صاحت في جفاء - إليك نقودك -. لست في حاجة إليها.
كانت ترتجف وقد شحب لونها وهي في حالة تدفعها إلىارتكاب أي شئ. أما الرسام فكان منفعلا شاحب الوجه غيظاً وكمدا. فسألها - ما الذي تريدينه؟
فأجابت - إني لا أود أن تعاملني كعاهرة. لقد أردتني فاستجبت لرغبتك. ولم أطلب منك شيئاً. إنك لا تستطيع أن تندبني.
فضرب الأرض بقدمه وقال - كلا. . إن هذا لكثير. إذا كنت تعتقدين أن. . .
فأمسكت بذراعه وقلت له - لا تقل شيئاً يا جان. دع الأمر لي.
وجعلت أتحدث معها في لباقة، واستعملت كل ما وعاه عقلي من مناقشة خليقة بهذا الموقف، فاصغت إليّ دون أن تتحرك وهي تحدق أمامها صامتة عنيدة. أخيراً بعد أن قلت كل ما استطعت قوله، وبعد أن أيقنت أنه لا توجد ذرة من الأمل في السلام، فكرت في إطلاق آخر سهم من جعبتي فقلت:
- إنه لا يزال يحبك يا عزيزتي. ولكن عائلته ترغب أن تزوجه. أنت تعرفين ما أعني.
فاضطربت وقالت - آه. . . لقد بدأت أدرك الآن.
ثم التفتت إليه وقالت - إنك. . انك ستتزوج؟ فأجاب قس شراسة - نعم.
وتقدمت خطوة نحوه ثم قالت - إذا تزوجت سأقتل نفسي. أتفهم ذلك؟
فهز كتفيه وقال - حسناً. . . اقتلي نفسك.
أتقول. . . أتقول. . أعد ذلك مرة أخرى.
فردد قائلا - حسناً. . . أقتلي نفسك إن أردت.
فقالت وقد أزداد شحوب وجهها - لا تعتقد أني لا أعني ما أقوله. سألقي بنفسي من هذه النافذة. فجعل يضحك، ثم ذهب إلى النافذة، وفتحها. وأخيراً انحنى لها في احترام قائلاً في أدب ساخر - من هذا الطريق. . . بعدك يا سيدتي.
فنظرت إليه هنيهه وقد ظهر وميض من الجنون في عينيها. ثم. . . ثم اسرعت كأنها في سبيل اجتيازها سياج حقل، وانطلقت أمامنا، ثم تخطت حاجز الشرفة، واختفت عن أنظارنا.
لن أنسى ما حييت تأثير تلك النافذة المفتوحة، عندما شاهدت الفتاة تسقط أمامي. وتراجعت بدون وعي إلى الخلف خشية أن أنظر إلى أسفل، كأني سأسقط أنا الآخر. ووقف جان دون حراك ينظر في ذهول.
وحملت الفتاة مكسورة الساقين، وأصبحت عاجزة عن السير بعد ذلك. وجن عشيقها تحت تأنيب ضميره. وكأنه شعر بأنه مسئول عما حدث، فعاد إليها وتزوجها.
. . . هذه هي القصة بحذافيرها يا صديقي)
كانت الشمس على وشك المغيب، وشعرت الفتاة ببرودة الجو، فرغبت في العودة إلى الدار. وأبتدأ الخادم يدفع المقعد صوب البلدة. وسار الرسام بجانب زوجه بعد أن مكثا ساعتين دون أن يفوه أحدهم بكلمة.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب.