الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 798
- بتاريخ: 18 - 10 - 1948
تشبه. . . . وشفاعة!
للأستاذ نقولا الحداد
دهش العالم العربي في الشهر الماضي من حكم محكمة الجنايات العراقية على المليوني اليهودي شفيق عدس بالموت ثم بغرامة خمسة ملايين دينار (جنيه). كانت الجريمة أن هذا العراقي الذي اكتسب هذه الملايين من العراقيين بالأحابيل المالية المعروفة عند اليهود كان يشتري من مخلفات الجيش الآلات والأدوات الحربية من دبابات ومركبات ضخمة ومدافع وطائرات الخ، ثم يفككها ويشحنها إلى إيطاليا بوصفها حدايد (خردة) ومن هناك ترسل إلى تل أبيب، ثم يعيد الصهيونيون تركيبها كما كانت!
بهذه الحيلة الخبيثة اكتسب الصهيونيون في فلسطين قدرا كبيرا من السلاح الذي كانوا يحاربون به العرب، ومنهم العراقييون، فكأن المال كان يسفك الدم العراقي!
وكيف تكون الخيانة العظمى غير هذا؟
وقصاص الخيانة العظمى الموت!
ومنذ عهد موسى إلى اليوم كان اليهود يعتبرون كل عمل لا يقبله شعب الله المختار خيانة عظمى يستحق فاعله الموت بوضعه في الغائط المغلي. كذا ورد في التلمود الأصلي. أما حكومة العراق فاكتفت بالشنق!
ذلك ما فعلته لا حكومة العراق في أحد الخونة من رعاياها. . . فماذا فعلت سائر الحكومات العربية الأخرى؟ أليس عندها خونة من اليهود الذين جمعوا الثروات الطائلة في جميع البلاد العربية؟ لو تيسر لنا إحصاء ثروات البلاد العربية لوجدنا ثلاثة أرباعها لليهود، واليهود أقلية في البلاد قد يناهزون الواحد في الألف، ثم إذا تحققنا من مصير هذه الثروات وجدنا جانبا منها قد تسرب إلى تل أبيب لكي ينفق في محاربة أولاد ناوناسنا، أليست هذه خيانة عظمى؟ دعك من الحكم بالإعدام في مغلى الغائط.
لا نطلب حما بالإعدام على من يستحقون الإعدام فذلك شأن القانون، إنما نطلب تجريد اليهود من المقدار الأكبر من هذه الثروات التي استنزفت من البلاد، نطلبها لكي نعول بها إخواننا الفلسطينيين الذي شردتهم الأسلحة القتناة بأموال اليهود المختلسة من البلاد!
إن أكثر من نصف مليون عربي فلسطيني طردهم اليهود طرداً من بلادهم وشردوهم شرقا
وجنوبا وشمالا، ونهبوا أموالهم وغلالهم وحوانيتهم واحتلوا بيوتهم ونسفوا بعضها. . فكم يساوي هذا الذي اغتصبه اليهود؟ ألا يساوي على الأقل 50 مليون جنيه؟
أفيعد ظلما أن تسترد هذه الملايين من أغنياء اليهود المقيمين في البلاد العربية وهم يستنزفون أموالهم، قبل أن يقدموها هدايا سخية لدولة إزرائيل الملفقة؟ أليس حقا ان يمون بها هؤلاء المشردون ريثما تتيسر لهم العودة إلى بلادهم آمنين!
من مهازل بعض اللبنانيين أنهم يقترحون على المطران مبارك الذي نفى بسبب مهازله السياسية، ثم غفر له قداسة البابا فعاد إلى ميدانه، يقترحون عليه أن يشفع عند اليهود للعرب اللاجئين لكي يسمحوا لهم أن يعودوا إلى بلادهم. ذلك لأن مساعي المطران جورج الحكيم، مطران فلسطين، لإعانة للاجئين لا تعجبهم؛ فسألنا أحد هؤلاء المقترحين: ولماذا تطلبون شفاعة المطران مبارك؟ فأجاب لأن اللبنانيين أصدقاء اليهود فهم يقبلون شفاعتهم ويراعون خاطرهم!
ما شاء الله! إلى هنا وصلنا؟ نطلب وساطة مطران اليهود لدى اليهود لينعموا على العرب ببيوتهم!
من قال للمطران مبارك وللمقترحين الشفاعة عليه أن العرب يقبلون هذه الصدقة منهم؟!
سيعود العرب - بقوة الله - إلى بلادهم مرفوعة الرأس مرهوبي الجانب عندنا تنكسر شوكة الطغاة الأزاذل!
كنا نظن أن أصدقاء اليهود في لبنان يقترحون على المطران مبارك أن يجمع الإعانات للاجئين إذا كان له نفوذ بين شعبه. وإذا كانت له هذه المكانة عند اليهود، فلينقذ القرى اللبنانية التي غزاها اليهود وطردوا منها. أليست هذه القرى في دائرة إبرشيته؟!
وهل يستطيع المطران مبارك أن يدفع الذئاب من اليهود عن العرب لو أتيح له أن يعيدهم إلى بلادهم. لماذا (طفشوا)؟ أليس لأن أطفالهم ونساءهم العزل لا يستطيعون أن يقاوموا ذئاباً. فماذا أعد لحمايتهم من هؤلاء الذئاب؟!
إن من البلايا التي نزلت بفلسطين أن بعض أثرياء اللبنانيين كانوا سببها، لأنهم باعوا لليهود أملاكهم التي في فلسطين، فوجد الصهيونيون رحابا فسيحة يزرعون فيها مستعمراتهم، ويمدون منها أيديهم وأرجلهم إلى ما حولهم، حتى يطغوا في المستقبل على
لبنان، ويومئذ يصبح المطران مبارك حاخاما لا مطرانا - فليهنأ هو وقومه حينذاك!
فإذا ذكرت نكبة فلسطين، وذكرت إغاثة أهلها، فليخرس الجانب الصهيوني من اللبنانيين!
حسبهم خزيا أنهم لم يفعلوا شيئا في حرب اليهود، ولم يحموا بعض القرى اللبنانية منهم!
نقولا الحداد
معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:
الجامع الأزهر في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
الجامع الأزهر أول مساجد القاهرة، أنشأء جوهر الصقلي بأمر المعز لدين الله أول خلفاء الفاطميين في مصر وتم بناؤه سنة 361هـ، ومنذ ذلك الحين ظفر الأزهر بعناية الفاطميين جيلاً بعد جيل.
وكانت الغاية الأولى من تشييده إقامة الصلاة فيه، ولكن لم يمض على إنشائه وقت قصير حتى سأل الوزير يقعوب بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق؛ وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، كما كانوا موضع عطف الخليفة يخلع عليهم في عيد الفطر.
صار الأزهر منذ ذلك التاريخ من أهم مواطن الثقافة في مصر، ولكن التعليم قد اصطبغ فيه ولا ريب - بالصيفة المذهبية؛ فكان العفة يدرس فيه على مذهب الشيعة، وتقرأ فيه كتب هذا المذهب، من مثل كتاب الاقتصار الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله في فقه آل البيت، وكتاب دعائم الإسلام، وكتاب الأخبار في فضل الأئمة الأبرار له أيضا، كما كانت تقرأ فيه الرسالة الوزيرية، وهي كتاب الوزير ابن كلس في الفقة الشيعي على مذهب الإسماعيلية، وأفنى الناس بما فيه.
كانت الصبغة الدينية هي الغالبة على الأزهر، أما العلوم الفلسفية فقد نهضت بها دار الحكمة، وإن كان يبدو أن هذه العلوم أيضا كانت تدرس بالأزهر في حدود ضيقة؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة، وكان داعي الدعاة يدرس فيه درسا خاصا للنساء.
ولست ادري إن كان غير مذهب الشيعة الإسماعيلية في الفقة وغيره قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي كانت تضعف فيها حدة الدعوة الإسماعيلية كما حدث في عهد الأفضل الأمامي المتسامح وزير الآمر، والعادل بن السلاء السنى وزير الظافر.
غير أنه مما لا شك فيه أن مذهب الشيعة قد اختفى تدريسه من الأزهر يوم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية، وأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، ذلك أنه قلد وظيفة القضاء صدر الدين بن درباس، وهو شافعي، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد؛ فأبطل الخطبة من الجامعالأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه أوسع، والظاهر أن ذلك لم يكن إلا تبريراً لما أراده صلاح الدين من إهمال أمر الأزهر وصرف عناية الناس عنه، لأنه أقدم موطن لنشر دعوة الشيعة في البلاد، ولولا ذلك لأمكنه أن يجمع فيه مرة وفي الجامع الحاكمي أخرى، ولكن إهمال الأزهر كان خطه رسمها صلاح الدين وخلفاؤه من بعده، فأنشئوا المدارس المختلفة التي نافسته، وأقبل عليها المدرسون أكثر من إقبالهم على الأزهر، لكثرة ما تدره هذه المدارس وطلبتها، ولما كانت تظفر به من رعاية أولى الأمر؛ ولكن التدريس لم ينقطع من الجامع الأزهر برغم انقطاع خطبة الجمعة فيه، وإهمال السلاطين أمره، وها هو ذا عبد اللطيف البغدادي يأتي إليه في عصر العادل ويتردد عليه عشر سنين، مستمعا إلى الأساتذة المحاضرين حيناً، وقائما بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار وحينا آخر.
وظل الجامع مهملاً من سلاطين الدولة، والجمعة فيه معطلة زهاء مائة عام إلى أن سيكون بجواره الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في عهد بيبرس، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبة بيد جماعه، وتبرع له، وأصلحه وأقام فيه منبراً، وأذن القاضي الحنفي بإعادة الخطبة فيه، فأعيدت يوم الجمعة 18 ربيع الآخر سنة 665هـ، وعمل الأمير فيه مقصورة رتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع الحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن، ووقف على ذلك أوقافا دارة تكفيه، ولم يلتث الأوهر أ، ظفر بمكانة سامية يدل عليها أن الذي تولى أمر خطابته في عهد المنصور قلاوون وابنه هو عبد الرحمن ابن بنت الأعز، قاضي قضاة الشافعية، ومن بعده كذلك محمد بن إبراهيم بن جماعة، وذاع صيت الأزهر منذ ذلك الحين، وأصبح معهدا علمياً معهداً علميا يؤمه الناس من كل فج، ولقى الأزهر من العناية الشئ الكثير، وزاد في مجده أن عزوات المغول في المشرق فضت على معاهد العلم فيه، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهية.
وحفظ التاريخ من أسماء مدرسيه في عصر الحروب الصليبية محمد بن بركات بن هلال الصوفي، أحد فضلاء المصريين وأعيانهم أخذ النحو والأدب عن أبي الحسن بن بايشاذ فأتقنهمها، وله أيضا معرفة حسنة بالأخبار والأشعار، ولكنه كان منحطا في الشعر، يقول السيوطي عنه: ليس له احسن من هذين البيتين:
يا عنق الإبريق من فضة
…
ويا قوام الغصن الرطب
هبك تجافيت وأقصيتني
…
تقدر أن تخرج من قلبي؟!
والظاهر أنه كان مضيقا عليه في الرزق، يدلنا على ذلك ما روى من أنه وقف للأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، وهو راكب في الطريق فأنشده:
يا رحمة الله التي
…
واسعها لم يضق
لم يبق إلا رمقي
…
فاستبق مني رمقي
وعن قليل لا أرى
…
كأنني لم أخلق
فسأل الأفضل عنه، فقيل له هذا بحر العلم ابن بركات النحوي، فقال له الأفضل أنت شيخ معروف، وفضلك موصوف، وقد حملنا عنك الوقوف وأمر له بشيء. ويبدو أنه اتصل بالأفضل بعدئذ، وألف له كتاب الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ، ولعل هذا الكتاب وما ألفه في النحو من تصانيف من بين ما قرأه في الأزهر على طلبته، كما أنه وضع كتابا في خطط مصر أجاد فيه، وتوفى في ربيع الآخر سنة 520 وله مائة سنة وثلاثة أشهر.
ومنهم الحسن بن الخجطير أبو علي النعمان الفارسي المعروف بالظهير؛ وقد اشتغل زمنا طويلا بالتدريس في الأزهر، روى عنه ياقوت أنه قال: أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقربة تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز، فتفقهت بها، فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. قال ياقوت: وكان عاملا بفنون من العم، قارئا بالعشر والشواذ، عالما بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه والفقه والخلاف والكلام والمنطق والحساب والهيئة والطب، مبرزا في اللغة والنحو والعروض والقوافي ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم. ومما ساعده على معرفة ذلك كله أنه كان يحفظ في كل فن من هذه الفنون كتابا، فكان يحفظ في التفسير كتاب لباب التفسير
لتاج القراء، وفي فقه الشافعي كتاب الوجيز للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني، نظم النسفى، وفي الكلام كتاب نهاية الإقدام للشهر ستاني، وفي اللغة كتاب الجمهرة لابن دريد، وكان يسردها - كما قيل - كما يسرد القارئ الفاتحه، وكان يحفظ في النحو كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وفي العروض كتاب الصاحب بن عباد، وكان يحفظ المنطق أرجوزة أبي علي بن سينا، وكان قيما بمعرفة قانون الطب له، وكان عارفا باللغة العبرية ويناظر أهلها بها وقد ظل يحفظ متون هذه العلوم مدة أربعة عشرة سنة كان يكتبها الواحا، ويحفظها كما يحفظ القرآن.
وكان الغالب عليه الأدب واللغة يجلس بين يديه شيخ الديار المصرية عثمان بن عيسى النحوي، ويسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشي اللغة. وفي مرة سأله عن كلمة منحوتة، ففسرها له، وأملاه كلمات على مثالها في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسمى ماأملاه كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب. وكان ابن سناء الملك يسأله عن كلمات غريبة كلام العرب وهو يجيب عنها بشواهدها. وقد كانت معرفته باللغة سبا في انتصاره على المجير البغدادي عندما دخل خوزستان؛ فقد بدأ مناظرته إياه بألفاظ حوشية أحب المجير أن يستسفر عنها؛ رتبة الأمامية يجهل لغة العرب. . . والمناظرة إنما اشتقت من النظير، ليس هذا بنظيري، لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها. وكثر لغط أهل المجلس وانفض، (وشاع في الناس أنى قطعته).
وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فأغراء العزيز عثمان ابن صلاح الدين بالحضور معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كل شهر ستين ديناراً أو مائة رطل خبزا، وخروفا وشمعة كل يوم ومال أليه الناس والعلماء، وصار له سوق قائمة، إلى أن قرر العزيز المناظرة بينه وبين شهاب الدين الطوسي، ولكن الطوسي في يوم عيد انتهز كلمة مجامله قالها الظهير للعزيز في أثناء الكلام، ولم يبرر الطوسي النطق بها فأصماه، وانكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت القصة بين العوام، وانتهى أمره بأن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها تركون الأسدي يدرس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات سنة 598.
وكان قد أملى كتابا في تفسير القرآن وصل فيه إلى تفسير قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض. في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة. وله كتاب
في شرح الصحيحين، اختصره من كتاب الإقصاح في تفسير الصحاح للوزير ابن هبيرة، وزاد عليها أشياء وقع اختياره عليها، وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ولم يتمه، وله خطب وفصول وعظمية مشحونة بغريب اللغة وحواشها.
ومن أساتذة الأزهر يؤمئذ نصرين محمود المظفر الأديب النحوي اللغوي، قرأ الأدب على ابن الخشاب والكمال الأنباري، وسمع بمصر من البوصيري، ولعله قرأ بالأزهر رسالته في الضاد والظاء، ومات سنة 630.
وممن تصدر للاقراء فيه شيخ الإقراء بالديار المصرية ابن يوسف الشطنوفي المولود بالقاهرة سنة 647، وقد تكاثر عليه الطلبة وكان الناس يكرمونه، وينسبونه إلى الصلاح ويحمدون سيرته، وانتفع به جماعة في القراءة، كما كان معدودا من النحاة، وله اليد الطولى في علم التفسير، أملى فيه تعليقا على طلبته، وكان أستاذه الروحي عبد القادر الجيلي، جمع أخباره ومناقبه في ثلاثة مجلدات، وسمى كتابه البهجة، ولشدة إعجابه به دون كل ما سمعه عنه ولو كان الراوي غير أهل للثقة، فدخل في الكتاب حكايات كثيرة مكذوبة. وقد ولى الشطنوفي أيضا تدريس التفسير بالجامع الطولوني والإقراء بجامع الحاكم، ومات بالقاهرة سنة 713.
ومن أعلام الصوفية الذين جلسوا بالجامع الأزهر، وتحدثوا بمبادئهم فيه يومئذ تاج الدين بن عطاء الله السكندري المتوفي سنة 709، كما كان يقيم عمر بن الفارض الشاعر الصوفي المشهور.
(حلوان الحمامات)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول
3 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
القانون والمجتمع
للأستاذ هـ. ا. ر. رجب
. . . كانت هناك من الجهة الأخرى حق واحد - كان التشريع الاجتماعي في الإسلام حازما فيه، ومشدداً، هو حق العلاقات الشخصية التي تشتمل على الزواج والطلاق والإرث. وليس السبب في هذا الحزم أن هذه العلاقات عامة يمتد تأثيرها إلى كل فرد في المجتمع فقط، بل أيضا لأن تنظيماتها الأساسية واضحة في القرآن. وليس هناك - كما رأينا - مسلمون - إلا قليلا - يرغبون في الجدل في أن القرآن هو الكلام الحقيقي لله. ولئن كانت الثغرة التي بين الاعتقاد في ضرورة التغير، وبين التغيير الحقيقي في القانون، لا يمكن وصلها بسهولة وسرعة في أي نظام، فإنها ستتأثر قطعا بالثورة؛ كما قد حدث في تركيا. ولذلك نجد في كل دولة إسلامية - ما خلا تركيا - أن القانون الفردي للمسلمين لا تنفذه المحاكم الأهلية، وإنما تنفذه المحاكم الدينية أو الشرعية. بل كان لكل طائفة من الطوائف الدينية المختلفة محاكم تنفذ قوانينهم، طبقا لنظمهم المرعية في تقاليدهم الدينية.
وفي الحق أن ميدان العلاقات الشخصية هذا، هو الوحيد الذي طالب المجددون فيه بالإصلاح، وقد بلغ الخلاف أشده بين الأحرار والمحافظين. فليس من شك في أن الوعي الاجتماعي عند الطبقات المثقفة قد أيقظته المساوئ التي صبحت انتشار الطلاق وتعدد الزوجات، فهم قد تنبهوا إلى نتائج قانون الميراث في القرآن وقانون الأوقاف والصدقات. . . .
ويصف القرآن في تفصيل دقيق، الأنصبة والنسب التي توزعبمقتضاه التركة بين الورثة والمستحقين فأعطى لمن يرث من النساء بوجه عام - نصف ما يخص زملاءهن من الورثة المذكور. وليس من الصعب أن نلمس مدى عدالة هذه القاعدة، عندما تطبق على الملكية المنقولة (آلت يكانت الشكل البدائي للملكية في بلاد العرب) بيد أنه حينما تطبق على الملكية الزراعية، أو رأس المال في الصناعة، تكون النتائج وخيمة من الناحية الاقتصادية. فأوقاف الأسر المعوزة وهباتها كانت سببا في التدهور الأخلاقي والخسارة الاقتصادية. لزمن مضى كانت هناك حركة جامحة في مصر وبعض الأقطار الأخرى
لوضع حد لها.
ومن السهل أن نفهم المصلح المسلم الملخص ونواسيه في المأزق والذي قد يجد نفسه واقعا فيه؛ فليس هو معاديا لمجرد سلطان التراث الاجتماعي الذي مضى عليه اكثر من ألف عام من الحكم المطلق، بل هو معاد كذلك للمعارضة الطبيعية للرجل العادي، في التنازل عما يتمتع به من امتيازات. ثم إن عليه - بعد ذلك - أن يواجه الحقيقة، وهي ا، هذه التقاليد والعادات الاجتماعية في حاجة إلى أن تغذيها نصوص واضحة مباشرة من القرآن. وهذه الصعوبة ليس لها نفس الأهمية عند غير المتدين، على الرغم من أن المدنيين من غير رجال الدين يلقون نصبا في منعهم الجدل الديني، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع أن يتأكد دائما من أن كتابا أو مقالة عن (المسألة النسائية) في الإسلام، هي من وضع عالم دنيوي أو مصلح حديث!
وليس من شك في أن الأمثلة على الجدل الدنيوي يمكن أن نجدها في الأدب التركي الحديث، وفي الأدب الهندي ايضا؛ ولكن لاشك في مدى ما تظهره هذه الأمثلة من رأي إسلامي عام - إلا في تركيا. وإنه لعلي جانب كبير من الأهمية هنا أن ننظر في بعض السبل التي اتبعها المصلحون المسلمون لمواجهة المشكلات.
ففي قصيدة من أشهر القصائد التي نقلها إقبال نادي الشاعر الاجتماعي بالمساواة الشرعية للنساء:
هناك المرأة؛ أمي، وأختي، وابنتي.
إنها هي التي تناجي العواطف المقدسة من أعماق نفسي.
هنالك محبوبتي؛ شمسي وقمري ونجمي.
إنها هي التي تعلمني كيف أفهم شعر الحياة!
كيف استطاع القانون السماوي أن يحط من قدر هذه المخلوقات الجميلة؟
لعمري إن المتعلمين قد أخطئوا في تفسير القرآن:
أساس الأمة والدولة هو الأسرة.
وما دامت المرأة من غير اعتبار تبقى حياة الأمة ناقصة غير كاملة.
إن الأسرة يجب أن ترعاها العدالة.
لذلك كانت المساواة ضرورية في ثلاثة؛ في الطلاق والانفصال وفي الوراثة!
وربع الرجل في الزواج، فما أبعد الأسرة والأمة عن الرقى والعلا. . .!
على أن زيا جوك ألب لم يقنع باحتجاجاته الشعرية، فقد أخذ على عاتقه - كاجتماعي - أن يستنبط مبادئ تفسير القانون، من جديد. ولهذا الغرض نجده قد ميز بين العوامل (الآلهية) والعوامل (الاجتماعية) في الشريعة، فالعوامل (الاجتماعية) في رأيه، لم تكن مؤسسة على نصوص واضحة، بل كان أساسها (العرف). وهذه الكلمة - التي تعني القانون التقليدي في عرف العلماء - عرفها هو بأنها (القرارات القيمة للناس بأية وسيلة يطالببها (الرأي الجمعي) أو (الشعور الوطني) وعلى كل حال فمن الواضح أن هذه المحاولة لبسط الاختلافات ذاتية خالصة، وأن وضع القانون التقليدي على قدم المساواة مع القانون السائر - ولو اعتبر خلاصة للتجارب التاريخية - يتعاض مع أسس الفكر الإسلامي.
ولست أعرف في أية كتابات للمجددين العرب الذين نقلت عنهم، أسلوبا مشابها لهذا في المناقشة.
ولقد ألح ممثلوا الحركة النسائية العربية القديمة، في القضاء على نواحي الضعف الاجتماعي - أكثر من القانونية، وكان الشاعر العراقي: جميل صدقي الزهادي، أحد الأبطال الأوائل الذين نقدوا عزلة النساء الاجتماعية، وصرحوا مرارا وتكرارا بميوا أعظم نبلا نحوهن قال ما ترجمته:
إن المرأة والرجل سواسية في الجدارة.
فعلموا المرأة، لأن المرأة عنوان الحضارة!
وأعظم القصائد انتشارا قصيدته: (السفور):
اخلعي الحجاب يا ابنة العرب! لأن الحجاب داء يفتك بالمجتمع. كل شئ يسمو إلى التجديد، فلماذا تظل هذه الأعجوبة جامدة! لم يناد نبي بالحجاب بشكله هذا، لا، ولا فاهت به أية حكمة!
إنه جدير باللوم في نظر القانون السماوي والطبيعة، والذوق والعقل والضمير!
لقد ادعوا أن في الحجاب وقاية، بل كذبوا لأنه في الحق يجلب العار!
لقد أدعو ان في التبرج مخل بالآداب، بل كذبوا لأنه أفضل طهر ووقار!
ليس الحجاب هو الذي يرعى شرف الفتاة!
إنما تحرسها تربيتها ومشاركتها في الثقافة!
فهذبوا عقول العذارى، حتى تظل أجساد العذارى في مأمن من الشرور والآثام!
ومهما يكن من شئ، فإن الزهاوي لم يفعل أكثر من التلميح والإشارة إلى قوانين الزواج والطلاق. وأعظم من ذلك. الكاتب الاجتماعي التونسي طاهر الحداد الذي نشر في عام 1930 كتابا عن (نساؤنا في الشرع وفي المجتمع). وقد ذكر فيه أن قوانين القرآن وأصول التشريع الإسلامي لا ينبغي أن تعتبر نهائية، وثابتة لا تتغير، بل يجب أن ينظر إليها بعين التطور، ورأى أن روح الحضارة الإسلامية تتطلب عمليات مستمرة من هضم مميزاتها الخاصة للرقي الحضاري.
كما أن الأدب العربي في مصر - في تصويره وتحليله للمشكلات الاجتماعية - قد دخل فيهنقد مفهوم ضمنا للعقبات القانونية التي تقف في سبيل المساواة التامة للنساء. وكان من بين الاقتراحات الأولى التي حيرت وزارة الشئون الاجتماعية الجديدة - نشئت في مصر عام 1929 - تقييد تعدد الزوجات، وتحديد حالات الطلاق. ولكن على الرغم من أن الحلول التي وضعتها الوزارة لم تشتمل على أكثر من جزء معقول من الإصلاحات التي يرغب فيها الرأي العام المثقف، فإنها قد تسببت في ظهور شكوى ممثلي الرأي العام في الأزهر، من أنها كانت تناقض الشريعة، وأن الأجدر بالوزارة أن تنتبه إلى سباق الخيل والميسر وسائر المساوئ الاجتماعية الأخرى التي نهى عنها القرآن والسنة.
إن المجدد الحقيقي لا يمكنه أن يتخلص من مأزقه، بتشتيته الشمل بسهولة؛ إذ أ، القرآن ينبغي أن يكون حقيقيا ونهائيا. ومع ذلك فليس من السهل أن نشعر بوجود شئ من الخطأ في السلوك الاجتماعي السائد بين المسلمين. ثم إن مما يجرح شعوره كمسلم، أو يخدش كرامته كرجل، أن يرى أن الشيء الوحيد الذي يعرفه رجل الغرب العادي عن الإسلام، هو أن المسلم قد يكون له أربع زوجات! ويزيد آلامه استفادة إرساليات التبشير من مشكلاته. فليس لديه سوى مخرج واحد؛ فإن المثل العليا في الإسلام لا تقع في أي طريق من المستويات العليا، وعلى ذلك فلا بد أن علماء القرون الوسطى حادوا عن الروح الحقيقي للقرآن والإسلام.
وهذه الأخطاء يجب أن يقتفى آثارها إلى منابعها، ويشك فيها. وعندما تصبح واضحة فإن تعاليم القرآن والسنة، ستظهر عدالة هذه القواعد تجاه الرجال والنساء. وستعنى هذه التعاليم - قبل كل شئ - باتجاهات العامة، وتحدد ما يجب أن يكون عليه روح التفكير في القانون وتنفيذه. وهذه الروح - فيما يتعلق بالنساء - لا يمكن أن تكون سوى جزء من المواساة الإنسانية، واحترام الشخصية، واجتهاد لدفع المساوئ التي خلفتها طبيعة المجتمع القاسية الغاشمة.
وبعد فهم هذا الاتجاه ومعرفة قيمته وهضمه تماماً، فأن التشريع القرآني سيفهم على وجهه الصحيح. ويرى المحدد أنه عندما يحدث كل هذا، فإن موقف المسلمين تجاه المرأة، ونظرتهم إلى شخصيتهم ومركزهم الاجتماعي، والتشريعات الخاصة بحمايتهم، كل هذه ستكون أعظم وأكثر سماحة في نوعها، بل إنها تفوق مثيلاتها في سائر الأديان.
إذن فهذا هو العمل أمام المجدد. أن تكون القول بأن أول أعمال المجدد المعارض هو إعادة مجد العقيدة في الإسلام، بين المسلمين الجاحدين؛ وذلك بإثبات أبهى محاسن دينهم بجلاء. ثم إقناع المسلمين المتأخرين (الطراز القديم) بأنهم بمحافظتهم الاجتماعية، وتمسكهم بنصوص القانون الحرفية، إنما يطفئون النور! وإلى جانب ذلك لا يستطيع المجدد أن يقاوم الفرصة للقضاء على الابتسام الكاذب في وجه المبشر، بمهاجمة التقاليد الجنسية في المسيحية. وعلى ذلك ففي مناقشة المسائل الدينية قلما يختلف المعارضون والمخالفون. وليس عجيبا أن المسلمين الذين يعرفون الغرب عن طريق الحياة في المدن الكبرى، والأفلام والقصص والمجلات؛ إن هؤلاء المسلمين ينظرون بازدراء إلى المستويات والتقاليد الجنسية في المجتمع الغربي.
(يتبع)
محمد محمد علي
من صميم القلب:
لك الله أيها العربي!. . .
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
لك الله أيها العربي! كم ثارت في وجهك الشدائد فصمدت لها في بطولة، واعتراضت طريقك العقبات فذللتها برجولة! وكم أتى الدهر بنيانك من القواعد فاستأنفت البناء، وداهمت حياتك النائبات فصبرت على القضاء!
لك الله ما أفقر دنياك وأغنى قناعتك، وما أقسى عيشك وأسمى غايتك، وما أبخل زمانك واسخي راحتك!
أنت للفقر تدافعه، وللبؤس تصارعه!
أنت للضعف تغالبه، وللذل تحاره!
أنت للعدو تجاهده، وللدهر تعانده!
أنت لوزرائك تدينهم على التكاسل، ولزعمائك تحاسبهم على التخاذل، ولعلمائك تشكو ما هم فيه من تجاهل!
أنت لأغنيائك تألم من بخلهم، ولفقرائك تبكي على ذلهم، ولنفسك تتوجع على ماأصابهم من حرمان، وما تجرعت من كؤوس الهوان!
بل أنت للمصائب كلها، وللخطوب جمعها. . . فما أعظم ما تلقاه، وما أقل حظك في الحياة!
كأني بفتن الدنيا تبحث عن محتمل لها فلا تظاهر إلا عليك، وبمحن الزمان تنشد صابرا عليها فلا تداعي إلا إليك، فإذا عسف القوى يلقى الأشواك في دربك، وإذا ضعف الموروث يدفن الاستغاثة في قلبك!
فلك الله من شاك كظيم لا يجد سميعاً!
ولك الله من مجاهد عظيم لا يلقى تشجيعاً!
أين رجالك الذين وعدوك الكرامة فأذلوك، وزعماؤك الذين لبسوا مسوح الرهبان فأضلوك، وأغنياؤك الذين شربوا دمك ثم استأكلوك، وعلماؤك الذين اتخذوا آلهتهم هواهم ثم أهملوك؟
أين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ليقاتلن صفا كالبنيان المرصوص أو يحرروا فلسطين ولينهض نهضة واحدة للغاصبين الغادرين، وليعاقبن بالطرد أنذال الشعوب، جرائم الفساد،
لصوص العالمين؟
أين الذين أشعلوا بنارهم حماستنا ثم أطفئوها بمائهم، وفتحوا بهتافهم عيوننا ثم أطبقوا برقادهم، وما زالوا يعالجوننا بالعاطفة ونحن إلى العقل أحوج، ويأخذوننا بالارتجال ونحن نروم النظام، ويرقدوننا بالمسكنات ونحن نلتمس الشفاه!
إن هؤلاء سواء عليهم أدللتهم أم لم تدلهم لا يكترثون، وسواء عليهم أذكرتهم بتقصير أم لم تذكرهم لا يأبهون، وسواء عليهم أصرحت لهم أم عرضت بهم لا يبالون.
ولو أنك أكثرت الصراخ المختنق، ومزقت الصدر الحرج، وقطعت الحنجرة المكروبة، وأطلقت الحشرجة المكبوتة، فلن تسمع منهم إلا ألسنة بليلة، وأصواتا ندية، ربما أرضت البيان الرفيق، ولكنها لا ترضى الحق الصريح!
ولكن. . . هون على نفسك، فلا تريض باليأس قلبك، ولا تعصر بالقنوط فؤادك، بل اصرخ أيها العربي في النفوس الراقدة علها تفيق، وفي الأروح الهامدة علها تتحرك، وفي الضمائر الميتة علها تحيا، وفي المشاعر الساكتة علها تنطق، فقد اقتربت النار وقضى الأمر، وقد داهمك اللصوص بالخيانة والغدر، وقد سرقوا متاعك بالخداع وبالمكر. على أنك إذا وثبت وثبك، وأطعت قلبك، أطفأت النار قبل أن تلتهم الديار، ولحقت باللصوص الجبناء قبل أن يولوا الأدبار، واسترجعت متاعك قبل أن يتواروا عن الأبصار!
وإنى لأحذرك أيها العربي قوما كالثعالب، أنت تعرفهم بلحنهم الكاذب، فقد لدغت من جحرهم مرات (والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ولقيت من مكرهم وبلات، والمكر لا يخفى على ذي عنين. . .
حذار من أولئك الثعالب لا تبذل لهم مقادتك، فإنهم لا أيمان لهم، ولا عهود عندهم، ول مواثيق لديهم (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).
فثق بنفسك، وتوكل على ربك، واستعنبإخوانك العرب في مصر التي تعلم سهولها الكرامة، وفي سوريا التي تلقى بطاحها دروس الشهامة، وفي لبنان الذي تعود جباله الشم على الصبر، وفي الحجاز الذي يهدى صعيده الطيب إلى الطهر، وفي العراق التي تلهم واحاتهم الشجاعة، وفي الأردن الذي توحي وديانه البسالة، وفي اليمن التي تحبب رياضها بالإيمان،
وفي الجزائر التي تزين رمالها الكفاح، وفي كل قطر عربي لا ينام عن حقه، ولا يفقد ثقته بنفسه، ولا يزيد - إذا ما بهرته الشدائد، وعصفت به الأهوال - على أن يهتف بملء صوته، ومن أعماق قلبه، هتاف فخر العرب وسيد الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله عليه يوم قال لعمه أبي طالب:(والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
فلتأس جراحك بهذه الكلمة النبوية الطاهرة فإنها خير بلسم؛ ولتمسح بها الدموع عن وجنتيك ولا تضرب بكفك ولا تلطم. ثم إذا بقى الدهر وظل العدو يجالدك، فلك الله أيها العربي وهو خير الناصرين.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح
الفتوة عند الصوفيين
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أما المنزلة الثالثة فهي تختص بما يكون من الفتى نحو خالقه، وهذه المنزلة تشتمل على أمور ثلاثة:
أما الأمر الأول: فهو أن الفتى يجب ألا يتعلق في السير للوصول إلى الحضرة الربانية بدليل، فالسائر في طريق الوصول إلى هذا المقصد بسير على قدم اليقين ويستدل في طريقه بالبصيرة والمشاهدة، ويسترشد بما تقععليه من آيات باهرة تدل على قدرة ألله وكمال ذاته، فاسترشاده بغيره هذا وسيره مع الدليل آية على عدم نفاذ بصيرته وسلامتها، ودليل على أنه لم يخلص في طلبه ولم يشتم رائحة اليقين؛ وفي هذا قال بعضهم (من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم تحل له الفتوة أبدا). والمعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية، لأن الرسل عليهم السلام لما أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى عباده دعوهم إلى عبادته وتوحيد ذاته ولم يدعوهم إلى الإقرار بالله سبحانه، بل دعواهم دعوة من لا يشك في وجود القدرة الإلهية، وأن الله هو الصانع الحكيم، وخاطبوهم خطاب من ليس عنده أدنى شبهة في الإقرار به، وأن وجوده ليس في حاجة إلى الاستدلال عليه، ولا مرشد للسير في طريق الوصول إليه، فخاطبوهم قائلين:(أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟)
وكيف يدعى الفتوة من يطلب الاستدلال على من هو أظهر من دليله بل هو الدليل والمدلول؛ فالقاصد له من نوره ودلائل قدرته وآثار حكمته أكبر دليل، ومن خلص قلبه وكمل إيمانه وتفتحت بصيرته وضح أمامه الطريق وظهرت له معالم الشهود فيرى المشهود بغير دليل، ولا ينال هذه المرتبة إلا من أفنى نفسه في ذات مشهوده وترك ما سواه؛ وهذا هو معنى الأثر الإلهي (إذا أحببت عبدي كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، فبي يسمع وبي يبصر).
أما توقف طالب الوصول وتقيده بالدليل الذي يهديه الطريق، دليل على الشك في إخلاصه. ومن يطلب الاستدلال على الوحدانية ومشيئته وقدرته - فليس له أدنى درجة من الفتوة بل يكون مخالفاااا لها من كل أوجهها.
سئل أحدهم عن ذلك فقال: لو أن رجلا بعث لك رسولا يدعوك إلى داره فقلت للرسول: لا أقوم معك حتى تقيم الدليل على وجود من بعثك، وأنه مطاع في أهله وأنه أهل لأن يقصد ويغشى بابه، لكنت في الفتوة دعيا) فكيف تطلب الدليل على ن وجوده ووحدانيته وقدرته وربوبيته أظهر من كل دليل تطلبه، وأقوى من كل برهان تستدل به، فما من دليل يطلب للاستدلال عليه إلا ووحدانيته وكماله وعفوه وإحسانه اظهر من كل دليل. فأبعد الناس عن الفتوة من طلب الدليل على من هو دليل على نفسه.
وليس يصح في الأذهان شئ
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
فالسالك الصادق صاحب اليقين الذي وهبه الله نور البصيرة وكشفه له عن جوهر الحقيقة لا يحتاج إلى دليل، لأن تقيده بالدليل يفرق عزمة قلبه، وهذا انقطاع وخروج عن الفتوة، وفي هذا قالوا: إن الدليل يفرق والمدلول يجمع، فالسالك يقصد الجمعية على المدلول، فما له ولتفرقة الدليل. وشبهوا المتقيد في سلوكه بالدليل بالمتكلم الذي يغنى حياته بحثا في الزمان والمكان والجوهر والأعراض، ويقصر همه على هذه الأشياء لا يتجاوزها للوصول منها إلى خالق الكون وعبوديته وتقرير وحدانيته بمقتضى أسمائه وصفاته، لا يشتغل قلبه بسواه ولا يطلب دليلا على من هو أقوى دليل، قال الحلاج:(إن المتكلم مستغرق في معرفة حقيقة الزمان والمكان، والعارف قد ضن بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان).
والأمر الثاني: أن تكون وجهة الفتى صادقة، وإجابته لداعي الحق خالصة، لا يشوب محبته يعوض، ولا يطلب من الحظوظ غير الاستغراق في محبة معبوده والفناء في ذاته؛ فإن فعل ذلك فقد نال كل حظ وفاز بكل عوض كما في الأثر الإلهي:
(ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شئ، وإن فتك فاتك كل شئ. أنا أحب إليك من كل شئ).
فالفتى من يعبد ربه حق العبودية لا يطلب منه أحرا على إخلاصه، فإذا طلب العبد من سيده أجرا على قيامه بخدمته له سقط من عين سيده وصار عنده أحمق يستوجب العقوبة؛ إذا أن عبوديته تقتضي خدمته، والذي يخدم بالأجر لا عبودية للمخدوم عليه، ولا بمكان لسيده عنده؛ وهذا إما أن يكون حرا سيده انسه أو مملوكا لسواه.
والخلق جمعا عبيد الله المتصرف فيه، فهم يخدمونه بحق عبوديته لهم وملكيته إياهم، فطلبهم للأجر خروجعن محض العبودية وخلاف لناموس الخضوع؛ فالعبد الذي لا يشوب خدمته بطلب العوض هو المقرب من مولاه الأثير عنده.
سئل أحدهم عن معنى هذا فقال: (إذا كان لك من العبيد أربعة، أولهم لا يريدك ولا يريد منك، بل قلبه متعلق ببعض عبيدك فله يريد ومنه يريد، والثاني يريد منك ولا يريدك، فهذا إرادته مقصورة على نيل حظوظه منك، والثالث يريدك ويريد منك، فهدا يخدمك ويتقرب إليك لنيل ما يبغي فإرادته لك وسيلة. والرابع يرد ولا يريد منك، فإرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك، فهو لا شك آثر الجميع وأقربهم منزلة منك وأحبهم إلى قبلك والمخصوص من إكرامك وعطاياك).
ويظهر إخلاص العبد لسيده في القيام بواجب الشكر على ما أولاه من نعم ووهبه من عطايا؛ لأن حقيقة الشكر عبادة الشكر والشكر مبنى على قواعد خمس.
خضوع الشاكر للمشكور، والفناء في حبه، والاعتراف بنعمه ظاهرها وباطنها والثناء عليه بهذه النعم - أي الإحسان منها إلى عباده واتفاقها في أوجه الخير، وهذا هو الثناء بالنعم على المنعم - وألا يستعملها العبد فيما يكره سيده، والأعراف بأن هذه النعم قد تفضل بها السيد على عبده وهو ليس أهلالها. قال الجنيد:(الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة) ومن أنواع الشكر أن يفنى العبد نفسه في ذات المنعم عن رؤية النعمة فلا تحجبه رؤيتها عن مشاهد المتفضل عليه والمنعم بها. قال الشبلي: (الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة).
والشكر درجتان: شكر العامة ويكون على المأكل والمشرب والملبس وقوة الأبدان وأعراض الدنيا، وهذا ليس من الفتوة في شئ؛ وشكر الخاصة، ويكون على التوحيد والإيمان وقوة القلب وصفاء النفس. ومعنى هذا أن يكون بالقلب خضوع واستكانة، وباللسان اعترافا وثناء، وبالجوارح طاعة وانقيادا، وهذا من خصائص الفتوة، وكلما ازداد العبد شكرا ازداد المنعم عليه تفضلا ومنه تقريبا؛ ففي الأثر الإلهي:(أهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي) ويزيد بعضهم نوعا ثالثا من الشكر وهو أن يكون على ابتلاء الله الذي ينزله بعبده، فيعتبرون هذا البلاء نعمة يذكرهم الله بها فهم دائما في حضرته.
سال رجل جعفر الصادق رضى الله عنه عن الفتوة، فقال له ما تقول أنت؟ فقال الرجل إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال جعفر: الكلاب عندنا كذلك. فقال له السائل: يا ابن رسول الله فما الفتوة عندكم؟ قال له: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا أو ابتلينا صبرنا) وقال آخر:(الفتوة هي إظهار النعمة وإسرار المحنة).
أما الأمر الثالث من هذه المنزلة: فهو إعراض الفتى عن نفسه وعدم انشغاله بها، وإهماله مطالبها، وإذلالها في سبيل الوصول إلى مقصودة الأسمى وغرضه الأعلى وأن يتهمها دائما بالتقصير وبأنها العائق في طريق وصوله، فيخاصمها في الله فيكون كما قال محمد بن علي الترمذي:(أن تكون خصمك لربك على نفسك) فيضعها دائما موضع التهم ليطامن من كبريائها ويحطن هذا الصنم الذي بينه وبين ربه ليصفو قلبه ولا ينشغل بسوى حبه والفناء في حضرته. قال الجنيد: (الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى، وهو نفسك) كما قال عمرو بن عثمان المكي (حرون خداعة رواغة فاحذرها وسقها بتهديد وخوف يتم لك ما تريد).
وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه كسر الأصنام لله إذ جعلهم جذاذا، فانفتى من كسر صنماواحداً في الله. وقد قيل (الفتوة ألا تكون خصما لأحد) وذلك فيما يتعلق بحقوق العباد، أما في حقوق الله وابتغاء مرضاته، فالفتوة أن تكون خصما لكل ما سواه وإن كان الحبيب المصافي، فالسائر إلى المحبوب لا يقف مع حظوظ النفس، بل يفنى ذاته في ذات من أحب لأن طريق السالكين والفتوة السائرين على دروب الغناء، الخروج عن نفسهم فضلا عن حظوظها، لأن الفتوة، العمل على أن يكون الفتى بالله لا بنفسه، والرضى بأحكامه ساءته أم سرته. والخروج عن النفس، هو حبسها على مراد الله وبذلها في أقامه دينه وتنفيذه بين أهل المعارضة والبغي والعتاد، يصيح فيهم بالنصائح جهارا لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لأئم؛ وهذا تعذيب للنفس في حب اله وإفنائها في ذاته، وهذا عند الفتى الصادق أعظم العيش وأغر الحظ.
ولو ذهبنا نتقصى أقوال القوم في الفتوة ونحللها لطال المقام وتشعب بنا الأمر فنكتفي بهذا القدر. ونسأل الله التوفيق، وللأستاذ ضياء الدخيلي من الله حسن الجزاء ومنا وافر الشكر.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ
مراجعه.
1 -
الأعلام الذين ذكروا في هذا المقال سنفرد لكل منهم بإذن الله بحثا خاصا به.
2 -
المراجع التي استقينا منها هذا المقال
1 -
مدارج السالكين.
2 -
الرعاية لحقوق الله.
3 -
مكارم الأخلاق.
4 -
التعرف لمذهب أهل التصوف.
5 -
صيد الخاطر.
6 -
المواقف.
7 -
التصوف الإسلامي.
شعوب القوقاز
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
(مهداة إلى الأستاذ محمد أسامة عليية تعقيبا على ما نشره في العدد 784 ص797 من الرسالة الغراء).
سيدي الأستاذ: قرأت - وأنا على أهبة السفر إلى الإسكندرية في طريقي إلى دمشق، ما كتبته تحت عنوان:(نصوص تاريخية في الرد على تعقيب) فلم يكن في الوقت متسع، ولا في البال فراغ، فلم أستع الكتابة يومئذ، ثم تلاحقت المشاغل، وتواردت الموانع، واتصلت حتى استطعت أخيرا أن أختلس بعض الفراغ لأبعث إليكم بهذه الملاحظات التي أرجو أن تلقى لديكم بعض العناية والرعاية والصدر الرحب.
إنكم نقلتم عن تاريخ الجراكسة للأستاذ محمد بك فكري ما نقله عن المؤرخ الفرنسي (س لامار) من أن الكرج، والجركس، وللزكي والحجبي فروع أصل واحد، ثم نقلتم عنه أيضا قوله: دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على ان الجركس والكرج ينتميان إلى (حد) مشترك.
وأحب أن أوجه نظركم الكريم إلى أن موضع النزاع بيني وبينكم - إن كان هناك نزاع - هو أن يكون الكرج، والجركس، واللزكي، والحجب شعبا واحداً، لا أن يكونوا (فروع) أصل واحد، أو منتمين إلى (جد) مشترك! كيف ونحن - معشر المؤمنين بوحى السماء - مازلنا نعتقد أن الشعوب كلها تنتمي إلى جد مشترك؟ أما من هو هذا الجد المشترك، أو الأصل الذي تفرعت عنه هذه الفروع وفي أي عصر كان؟ فهذا مالا أحب أن أعلق عليه أو ألقى إليه بالا!. ويبدو لي أنك شعرت بينك وبين نفسك أن ما نقلته عن (س لامار) لا يجدي عليك في دهوك فتيلا، ول يغني عنك شيئا، فنقلتما جاء في كتاب الجراكسة عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقازية، فيكون الجركس يؤدى مؤدى القوقاس) فمن أين للأستاذ محمد بك فكري هذا، وما سنده من التاريخ القديم؟.
وكيف اتسحتم نقل مثل هذه الدعوى الخيالية من أي سند في معرض التدليل؟.
وهل هذه إلا المصادر المعروفة عند الجدليين؟!.
على أن من الطريف أن محمد بك فكري ادعى في تاريخ الجراكسة (ج1ص6) (أن لفظ
الجركس عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقازية) ثم رتب على هذه الدعوى هذه النتيجة: (فيكون الجركس يؤدى مؤدى القوقاس) قبل أن يدلل عليها، ثم نقل في (حـ1ص12) عن (س لامار) أن الكرج، والجركس، واللزكي، والحجب، (فروع) أصل واحد، وفي (حـ1ص22) قال:(دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على أن الجركس والكرج ينتميان إلى جد مشترك).
فهل هذا الذي نقله في (حـ1ص12، وحـ1ص22) يتفق مع ادعاه وقرره في (جـ1ص6)؟.
ويظهر أنكم شعرتم باضطراب موقف صاحب تاريخ الجراكسة، فغيرتم ترتيبه، فنقلتم ما كتبه في (حـ1ص12، وحص22) أولا، ثم نقلتم ما كتبه في (حـ1ص6) أخيرا. ولكن هل هذا التقديم، وذلك التأخير غيرا من أصل الموضوع شيئا؟. والظاهر أنك شعرت بهذا الاضطراب في نصوص كتاب تاريخ الجراكسة وأنها لا تؤدى إلى ما قصدت فأوردت أسطورة - إن شئت سمها احجية - (أركس، وآس، وتركس، وكسا) نقلا عن (عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان) للبدر العيني.
ولهذه الأسطورة عندي تاريخ قديم، وحديث عجيب، ما كنت أحب أن اعرض له ولولا أنكم أوردتموها واثقين بها معتمدين عليها، فرحين بها، مغتبطينين لها، فقد حدثني بها من عهد بعيد أستاذ جليل القدر، كريم المنزلة، أعزه وأحترمه وأحفظ له في نفسي تقديرا واحتراما، وإكبارا وإجلالا، ولا حاجة الآن إلى ذكر اسمه الكريم، وإن كنت اعتقدأنه هو الذي أخبركم بأسطورة البدر العيني أيضا، فصارحته برأيي في قمية هذه الرواية التي لم يعرفها أحد قبل عصر البدر العيني، والتي لم تظهر إلا في ظل سلطان المماليك وفي مقر دولتهم، ومركز عزهم في مصر، وأذكر أني قلت له يومئذ: إنها أشبه بأسطورة أو أحجية وضعت وضعاً لإرضاء السلطان وتزلفا إلى أصحاب النفوذ. وألا فكيف لم يطلع على هذه الرواية - إن كان لها أصل - أحد من المؤرخين قبل البدر العيني، وخفيت عليهم جميعا حتى أوحى بها إلى البدر العيني في الزمن الأخير في عهد صولة المماليك - وجعلهم أو كلهم من الجراكسة المنتشرين في القوقاز الشمالي الغربي - وسلطانهم المبسوط في مصر والشرق؟
كان هذا رأيي في رواية البدر العيني هذه من عدة أعوام، وأن الأيام لم تزدني إلا إيماناً،
واستمساكا بهذا الرأي، فهي رواية ولدت وترعرعت في ظل حكم المماليك الجراكسة من غير أن يكون لها سند من تاريخ، أو مرجع تعتمد عليه.
ومن هذا القبيل ما شاع في كتب بعض المؤرخين الذين عاشوا في عهد المماليك واتصلوا بهم مثل ابن خلدون من إطلاقهم اسم جبال الشركس على جبال القوقاز أو تسميتهم شعوب القوقاز جميعا شراكسة فإنه اصطلاح حديث نشأ في ظل سلطان المماليك الشراكسة، وانتشر في عهدهم.
وفي ظني أن هذه الرواية التي أوردها البدر العيني، وهذا الاصطلاح على تعميم اسم الجركس على جميع القوقازيين ما هو إلا من قبيل التقرب إلى السلطان الجركسي والتزلف إليه، لأن معظم هؤلاء المماليك - أو كلهم - كان من أتى بهم من سواحل البحر الأسود حيث مساكن قبائل الجراكسة. ومن هذا القبيل أيضا تلك الدعوى الطويلة العريضة التي كانت تزعم أن الجراكسة من قريش! وألفت في يوم من الأيام لاثباتها الرسائل؟!
على أن البدر العيني - حسب رواية الأستاذ - يبدأ كلامه بدءاً غير موفق إذ يقول: ومن الترك الجركس الخ. فهل يسلم الأستاذ مع البدر العيني أن الجركس من قبائل الترك؟
ثم إنك - يا سيدي الأستاذ - بعد أن تفرغ من رواية أسطورة البدر العيني وشرحها وتوجيهها كما تشتهي قلت:
(واتبع البدر العيني المصطلح القديم، وهو إطلاق الجركس على القبائل الأربع التي في جوانب جبل القوقاز).
فأي مصطلح قديم هذا الذي تشير إليه؟ ومن الذي ذكره وقال به قبل البدر العيني؟
وأما تفسير كلمة (جركس) وادعاء أن اصلها الكريم جهاركس. ومعناها في لغة الفرس الرجال الأربعة فإنه لا يهمنا في الموضوع الذي نحن بصدده قليلا أو كثيراً؛ لأن هذه الدعوى وهذا التخرج مهما قيل فيهما لا يزيدان ولا يرجحان على محاولة سابقة لشرحه كلمة (الجركس) فقد زعم زاعمون من قبل أن أصلها مركب من كلمتي (جرا)، (كسا) وأن المرحوم (كسا) كان من أشراف قريش، فجنى جناية وهرب إلى القوقاز، وأقام بها، وعلى هذا يكون أصل الجراكسة من قريش!
هذا تعليق حاولت أن أجعله وجيزاً جهد الطاقة على ما دعوته نصوصا تاريخية، وما هي
من التاريخ في شئ.
وبعد هذا أضع بين يديكم بعض الأسماء التي كانت معروفة في التاريخ القديم لسكان جبل القوقاز، والتي أطلقها عليهم قدماء المؤرخين، وأبدأ ذلك بأن المؤرخين العرب الأقدمين كالسعودي وغيره كانوا يسمون جبال القوقاز بلاد القبج أو جبال القبج لا جبال الجركس أو بلاد الجركس كما نص على ذلك المرحوم شيخ العروبة أحمد زكي باشا في قاموس الجغرافيا القديمة. هذا بالنسبة إلى منطقة القوقاز جملة.
وأما أسماء سكان البلاد تفصيلا، فإن سكان الجهات الشرقية الشمالية من القوقاز - حيث مساكن الداغستان، والحجب، وشروان الآن - كانوا يسمون في بعض الكتب القديمة ألبانيين وكانت بلادهم تدعى ألبانيا. كما ذكر ذلك أيضا المرحوم زكي باشا في كتابه السابق.
وإن اسم الحجب كان معروفا قديما، وكان يطلق على الشعب الساكن في الشمال من بلاد الداغستان حيث مساكن الحجب إلى يومنا هذا.
كما أن اسم الأورا - وهم أسلاف اللوزكيين الحاليين من الداغستان - كان معروفاً حول القرن الرابع الميلادي، وقد أطلق على شعوب القوقاز الضربين في الجانب الشرقي للقوقاز أسماء مختلفة منثل الخزر، قوميق، ألان. وهذا الاسم الأخير يظهر لي أنه اسم اللزكيين القديم، فهو يطلق في الكتب القديمة على شعب مقيم في مساكن اللزكيين الحاليين، وأن ظن بعض الكتاب أنه اسم الأوسيت. ذلك أن الأوسيت معروفون باسم الأوسيت من قديم، ويسكنون في جهة تقع في الشمال في قلب منطقة الجبال على الشمال الغربي من واقع اللزكيين.
هذا في القسم الشرقي من القوقاز، أما في القسم الغربي منه فإن اسم الأديفة كان معروفا من قديم، وما زال يطلق على سكان الجزء الشمالي الغربي من القوقاز، ويمكن اعتباره اسما جامعا لشتات قبائل الجركس المنتشرة في تلك الجهة مثل: أبهاسو، الأوبنج، الشبوغ، الأبزاخ، القبرطاس، الأبازة. مع ما بين قبيلة الأبازة وبين بقية قبائل الجركس من اختلاف في اللغة يتعذر معه التفاهم بين هؤلاء وأولئك.
هذه هي الأسماء التي كانت تطلق قديما على سكان القوقاز الشمالي شرقيه وغربية، ثم
ظهر فجأة اسم الجركس في العصور المتأخرة، وصار يطلق على بعض - وأحيانا على كل - القبائل الساكنة في القوقاز الشمالي الغربي، ثم انتشر هذا الاسم وصار يطلق - من غير تحقيق أو تدقيق - على جميع سكان القوقاز في عصر المماليك كما فعل البدر العيني، ومال إليه ابن خلدون، ثم شاع هذا الاستعمال في الشرق الأدنى في فترة أخرى من التاريخ على أثر تلك الهجرة الواسعة النطاق التي قام بها الجركس إلى الممالك العثمانية على أثر تغلب الروس عليهم واحتلالهم لبلادهم.
ولكن هذا كله لا يجعل هذا الإطلاق صحيحا أو دقيقا، بل لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب التساهل من الكتاب أو عدم وقوف على حقيقة الحال من تنوع الشعوب في تلك الأقطار الشاسعة، واختلاف أصولها وتنوع أجناسها،
وإن الحديث عن شعوب القوقاز، وكثرتهم واختلاف السنتهم وألوانهم حديث قديم طويل، حتى كان المؤرخون القدماء من العرب يسمعون القوقاز بلاد الشعوب والجبال، وكان زاعمهم يزعم أن في تلك البلاد نيفا وسبعين شعبا لكل شعب لغته الخاصة به!. كذلك كان صنيع مؤرخي الرومان واليونان، فاسترابون يؤيد نيف وسبعين شعبا، وهكذا بقيت هذه الأسطورة عالقة بالأذهان إلى عصور متأخرة جدا حتى جاء علم اللغات المعاصر، وأعار هذه القضية أهمية هاصة، وبحث مسألة تعدد لغات القوقازين بحثا علميا دقيقا، واستطاع أن يهدم تلك النظريات، والآراء الشائعة المبنية على معلومات غير دقيقة، ففي أواخر القرن السابع عشر الميلادي ابتدأ العالمان الألمانيان:(تليدن أسناد) و (بالاس) الأبحاث العلمية عن أصول اللغات القوقازية، واستطاعا إرجاعها إلى الأصول الآتية:
1 -
اللغة التتارية: وهي لغة الشعوب التركية الأصل.
2 -
(اللزكية: وهي لغة الداغستان.
3 -
(الكستينية: وهي لغة الحجانيين.
4 -
(السركسيانية: وهي لغة الأديفة.
5 -
(الأوستينية: وهي لغة الأوسيت من الشعوب الإيرانية القديمة.
6 -
اللغة الكرتفليانية: وهي لغة الكرجيين.
وأصبح هذا التقسيم للغات القوقازيين أساس علم اللغات القوقازية فيما بعد استند عليه
علماء القرن التاسع عشر واعتمده.
وفي القرن العشرين أكد العلمان (الفونس دير) و (نقولامار) نتائج أبحاث أسلافهما في تقسيم اللغات القوقازية ويرى عالم آخر من علماء القرن العشرين أن اللغات القوقازية يجب أن تقسم إلى فصائل أربع وهي:
1 -
اللغة اللزكية: وهي لغة الداغستان
2 -
(الججانية.
3 -
(الكرتفليانية: وهي لغة الكرج.
4 -
(الإبهاسية: وهي لغة قبائل الجركس.
ويعد بعضهم لغة الداغستان ولغة الججان من فصيلة واحدة وبناء على نتائج هذه الأبحاث العلمية يمكن تقسيم شعوب القوقاز الشمالي إلى قسيمين أساسيين:
1 -
سكان القسم الغربي من القوقاز وهم: الأبهاسو، والأوبنج، والشيوغ، الأبزاخ، القبرطاس، الأبازرة. وهي جميعا قبائل جركسية.
2 -
سكان القسم الشرقي من القوقاز الشمالي وهم: الداغستان والججان. وإلى هذين القسمين الرئيسين يمكن إرجاع بقية الشعوب والقبائل المتتشرة في القوقاز مثل: قره جاي، بالكار، قوميق، نوغاس، وهذه كلها من الفصيلة التركية، وأوستين. وهي من الفصيلة الإيرانية، التي منها الفرس والكرد والأفغان.
هذا وقد سلك العلامة الدين سامي بك في قاموس الأعلام مسلكا آخر في تقسيم شعوب القوقاز، فهو يقسمهم أولا إلى سكان أصليين وأقوام طورانيين، وأمم آريه، ثم يقسم السكان الأصليين فيقول:
أما سكان القوقاز الأصليين، فهم أقوام وأجناس وشعوب كثيرة، ويكن إرجاعهم إلى هذه الأقسام الرئيسية:
1 -
الجركس الذين يسكنون حوض نهر قوبان وبالقرب من منابع نهر ترك الغربية في القسم الغربي الشمالي من القوقاز، ويكن أن يضم إليهم الأبازة الساكنون في منحدرات سلسلة الجبال الغربية الجنوبية على القرب من سواحل البحر الأسود. والججن الساكنون إلى الشمال من بلاد الداغستان.
2 -
سكان بلاد الداغستان الأصليين، وهم اللزكيون الساكنون في المناطق الشمالية من جبال القوقاز، وهؤلاء اللزكيون من سكان القوقاز الأصليين، كانوا يسكنون هذه البقعة من أقدم العصور حتى إن (هردوت) ذكرهم بهذا الاسم في تارخه الذي كتب في حدود 450 قبل الميلاد. ويحتمل أن يكون لهؤلاء اللزكيين صلات نسب وقرابة مع الكرج والجركس واللاز وغيرهم من أمم القوقاز الأصليين، غير أن إثبات هذه الصلة بين هؤلاء الأقوام يفتقر إلى ما يثبته، فهو مجرد احتمال لا دليل عليه.
3 -
سكان المنطقة الجنوبية من سلسلة الجبال أمثال الكرج والإيمرت والمنكرلي. وإذا كان بعض المحققين من العلماء حاول عد الكرج من الأمم الطوارنية أو الآرية إلا أن الأدلة التي ساقوها إثبات ذلك لا تعد كافيه.
على أن بعض الأبحاث التي أجريت حول لغة الكرج تدل على أن الكرج مثل بقية أمم القوقاز لا يمتون بصلة إلى الآربين أو الطورانيين او الساميين، بل يغلب على الظن أنهم بقايا أمم قديمة منقرضةكانت اجتازت هذه المناطق في أثناء هجراتها من آسيا إلى أوربا، ومن أوربا إلى آسيا.
4 -
أمة الأوسيت، وسوآنت الساكنون بالقرب من منابع نهر ترك.
هذه خلاصة وافية لما ذكره العلامة شمس الدين بك سامي في قاموس الأعلامعن شعوب القوقاز، ومنه ومما قبله من بينات وآراء للعلماء والمؤرخين الموثوق بآرائهم يتبين أن الداغستانيين والكرج، والججان، والأوسيت، والجركس أمم قائمة بذاتها لك واحدة منها لغتها أو لغاتها الخاصة بها، ولها كيانها المستقل. وعلى ذلك أرى أني حين قلت في الرسالة (العدد 783 ص770): إن اللاز يمتون بصلة النسب أو القرابة إلى الكرج، وأن الكرج غير الجركس لم أكن مجانبا الحقيقة، ولم أكن أحاول تسيير التاريخ حسب الهوى والغرض كما أردت أن تصوني أمام قرائك، بل كنت اقرر حقيقة علمية ثابتة لا سبيل إلى إنكارها، أو التحايل على طمسها.
وبعد: فإني أشكرك - يا سيدي الأستاذ - جزيل الشكر على أن أتحت لي هذه الفرصة للتحدث عن شعوب القوقاز بشيء من الإفلضة والتفصيل. والسلمام عليك ورحمة الله.
(دمشق)
برهان الدين الداغستان
رحلات في ديار الشام في القرن (الثامن عشر
الهجري)
اردان حلة الاحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1163هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
لا شك أن الدافع لرحلة الشيخ هذه وغيرها من الرحلات، ولتنقلاته المستمرة في المدن والقرى، إنما كان حرصه على نشر الطريقة الخلوتية والاتصال بأعوانه ومريديه. ولقد كان الشيخ مكثارا في النظم والنثر، بل إنه أؤلف الكتاب أو الرسالة في أية مناسبة. ولا شك أن نظمه ونثره يمثلان عصره أصدق التمثيل فقد امتاز هذا القرن بالسجع، والركاكة في الأسلوب، كما تبين من دراسة رجال هذا القرن في كتاب أعيان القرن الثامن عشر للمرادي.
ولقد انتقل الشيخ من دمشق إلى القدس وتزوج فيها وتتلمذ على شيوخها وامتد نفوذه فيما بعد إلى جمع أنحاء فلسطين، وإلى سوريا بل وحتى إلى مصر والعراق.
وقد ساهم في الحياة العامة في فلسطين فعمر الحرم القدسي خلوة، وبئراً، وحاول أن يصلح البراغتة شيوخ بني زيد وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم، كما شوق الحاج حسن بن مقلد الجيوش لزراعة الأشجار المثمرة، حول قبة الصحابي سراقة في (كور) من أعمال قضاء بني صعب.
ويستدل من رحلته هذه أن حالة الأمن لم تكن مرضية في زمنه، فقد جاء ذكر تعدى الأعراب على القوافل بين الخليل وعسقلان، كما تعدوا على الشيخ القاقلاني مفتي الديار القدسية، فسلبوه بعض ثيابه وما كان يحمل من الكتب.
ويلاحظ أيضا أن الشيخ كان يغير طرق سيره، فبدلا من أن يسلك الجادة السلطانية بين القدس والخليل ماراً بيرك سليمان، غير طريقه إلى بني حسن وهي ناحية إلى الجنوب
الغربي من القدس مخافة قطاع الطريق.
ويستدل من وصف الشيخ لبعض المدن التي اجتازها أن (حاصبية) كانت حينذاك قرية يقطنها الدروز وهي الآن مئة وخمسون ألفا، لم تكن سوى قلعة حصينة على ساحل البحر المتوسط. ووصفه هذا لحيفا ينطبق على وصف معجم البلدان، بعض الشيء. فقد جاء في معجم البلدان (ج2 - ص382):(حيفا غير ممدود، حصن على ساحل بحر الشام قرب يافا، لم يزل في أيدي المسلمين إلى أن تغلب عليه كندفري الذي ملك بيت المقدس سنة (494هـ) وبقى في أيديهم إلى أن فتحه صلاح الدين في سنة (573هـ) وخربه).
ويصف لنا الشيخ زيارته أكثر من مرة للخليل، ويذكر كرومها، ويستدل من هذا أنها كانت محاطة بكروم العنب وهو حالها اليوم.
ويذكر الشيخ فيما يذكر أن الأمر السلطاني صدر باسم والدته لتعير قناة الماء إلى الحرم القدسي. وهذه القناة ليست حديثة فقد جاء في الأنس الجليل ج2 - ص387 عند ذكر الأمير تنكر الناصري نائب دولة المماليك في الشام (وهو الذي عمر قناة الماء الواصلة إلى القدس، وكان ابتداء عمارتها في شوال سنة (727هـ) ووصلت إلى القدس ودخلت إلى وسط المسجد الأقصى في أواخر ربيع الأول سنة (728هـ) وعمل البركة الرخام بين الصخرة والأقصى) وتعرف هذه الآن بالكأس، ويظهر ان هذه القناة خربت، فعمرت مدة ثانية كما يذكر الشيخ. وهذه القناة تمتد من برك سليمان إلى الحرم وتسيل بالانسياق لعلو برك سليمان عن الحرم القدسي، وهي من حجر.
والظاهر أن الشيخ كان أباً عطوفاً، فقد سر كثيراً بابنته (علما) وحزن حزنا عميقا عند وفاتها وهي لا تزال طفلة، فقد سر وقد رزق ولده محمد كمال الدين في القدس. ولقد كان الشيخ يزور مقام (علي بن عليل) وهو من نسل عمر بن الخطاب، ويعرف بسيدنا علي بن عليم عند العامة، وله موسم يقصده الزوار كل عام.
ويسجل الشيخ بألم ظاهر في هذه الرحلة وفاة فطبين عظيمين تتلمذ عليهما، وكان يحترمهما أبلغ احترام أولهما الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي القطب الكبير وصاحب الرحلة إلى القدس سنة (1101هـ) ويعتبر الشيخ من أخلص تلاميذه، والثاني العمراني، والمؤلف القطب، وهو من أبرز رجال القرن الثاني عشر في فلسطين.
وفي الرحلة فوائد أخرى على رغم ركاكة الأسلوب، وتكرار السجع الممل، وانصراف الشيخ إلى نزعته التصوفية القوية، وفيها بعض معلومات عن أصل سكان (الطيبة) من أعمال طولكرم، ونسب البراغثة في جبل القدس، وعن وقف قرية (عابور) في بني زيد للحرمين الشريفين، وما إلى ذلك.
ومن لطائف المصادفات أن يحضر إلى الديار القدسية الرحالة المصري الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي، سنة (1143هـ) وينزل عند الشيخ، ويأخذ عنه الطريق ثم يصف لنا لقاءه الشيخ في رحلته المخطوطة، (سوانح الأنس في رحلتي لوادي القدس) وقد أثبتنا رأى اللقيمي في الشيخ البكري.
وخلاصة القول أن هذه الرحلة المخطوطة التي لم تزد معلوماتنا كثيراً عن لبنان الجنوبي، شيقة برغم جميع مآخذها، فإنها تمثل القرن الثاني عشر، وهو قرن تنقصنا عنه المعلومات والمصادر الوافية، فتصف لنا بعض نواحي الحياة الفكرية، وبعض أحوال البلاد القدسية وعمرانها، ورجالها ولو كان أكثر من اجتمع به الشيخ من رجال التصوف والزهد.
ويظهر أن الملاريا (الحمى الربيعية) أصابت الشيخ لردده على مقام سيدنا علي، وهي منطقة موبوءة بهذا المرض إلى عهد قريب، فضايقته وأنهكته، وحاول أن يتلخص منها بالدعاء والالتجاء إلى مقام سيدي داود!
ونحن بعد ذلك نترك الشيخ أن يتكلم، إذ أنه بعد أن ختم الرحلة الرومية وبدأ في العراقية أراد أن يبتدئ برحلة بقاعية لبنانية فأسماها (ارادن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان) فيقول:(اعلم أيها الأخ الواقف على هذه المواقف أن هذا الجبل المعظم المبجل المقصود بالزيارة، جبل مبارك له خواص عند الخواص أهل الإشارة، إذ من المعلوم، لدى أرباب الفهوم والاختصاص، إن الله تعالى اختص بعض الأمكنة والأزمنة والأشخاص، وقد طرق السمع، من أهل المعرفة والسمع، أن لهذا الجبل، الذي ينفي الخبل، حلا ظاهر الرجحان، وإنسا باهر الميزان، وأن كل من حوله ممن له قدم في الولاية يأتيه زائرا ولو بالروحانية وهذه على فضيلته آية)
وكان كثيرا ما يجول في الخاطر، ويتكرر وروده على الضمير المخاطر، أن يشد الشيخ الرحل على عيسى السري إليه، لعله يحظى من بر أهله ومما لديه، ولكن الأقدار كانت
تمنع. ولما آن الأوان، قصد البقاع العزيز ملتجئا لحمى المهيمن الملك العزيز، وبعد ما ودع الخلان والأصحاب والإخوان والأخدان يقول:
(وتوجهت مستعينا بالديان، نحو الديماس، مع رفقة حسان يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة عا أربعين ومائة ألف (1717م) وقصدت حمى الصالحية. وقرأت الفاتحة لسكانها أهل الرتب الفلاحية، ثم صعدت إلى جبل قاسيون، وحصلت نفحة إقبال من هداة فتحه وتجاوزت فيه السيارة الشائقة، التي تحت قبة المصر الشاهقة وممن رافقنا لهذه الزيارة والقدس الفياح، الصديق الشيخ عبد القادر الموصلي ثم البغدادي السياح، المنتمي للعصابة السهروردية المتصلة أنسابهم بالأسرة الصديقة، والأخ السيد محمد السليفتي العباسي، المحب الآسى والصديق المواسي، أول آخذ للطريق في الخطرة الأولى، وقد ذكرته في الخمرة المحسية في الرحلة القدسية، وفي غيرها من الرحلات الأنسية، وكان الأخأكبر مساعد ومعين على إظهار الطريق في الديار المقدسة، وكنت قبل هذا التوجه الطويل المسافة أدنت له بلبس الكسوة والإرشاد لطلاب الإضافة. وممن صحبني أيضا زوج الوالدة، لا برحت في الجنان خالدة، والأخ من الرضاع، الحاج إبراهيم جميل الأوضاع، المستقيم على قدم الحب من الصغر، كأنما نقش على فؤاده نقش الججر، فلم يتغير بتوالي الزمان، لأنه ذوباع فيه طويل، قد عرف بابن الطويل في النسب. وممن صحبني أيضا الأخ الواعي، الشيخ محمد البقاعي، خفيف الحركة، ثقيل البركة، فجعلته للنسبة الوطنية دليل الركاب، وسرنا نتملى بشهود وجوه أولئك الأحباب، ولما أظلنا وادي برذ (بردى) الظليل، قابلنا بعده أول قتيل هابيل النبيل، فقرأنا له الفاتحة. وأفسدت الدليل قرب الديماس. مرتجلا بقصيدة مفيد الإيناس:
قد أتينا لقربة الديماس
…
نرتجي رشف حمرة الإقباس
ونزلنا بها مع الرفاق (زاوية بني تغلب) وبعد أداء الصلاة الوسطى وختام ورد العصر البسام، ورد كتاب من الصهر الهمام الشيخ إسماعيل العالم النبيل المقدام، مصدراً له بأبيات جسام وهي:
فرقة للحبيب يوم الخميس
…
أورثت في الجنان رعب الخميس
أهل ودي زاد التلهف مني
…
حيث فارقتكم لدى التفليس
وتوجهنا للبقاع وهو جمع بقعة موضع له يقال له بقاع كلب قريب من دمشق. قال في المراصد: وبهذا البقاع قبر إلياس ولما وصلنا باب وادي القرن أنشدت مواليا:
لقد قرنا الصفا بالبسط أيا قرن
…
لما أتينا صباحاً باب وادي القرن
ومذ عذول الحشا قد غاب ذاك القرن
…
دام التصافي لي ما بعد نفح القرن
وجاءني الأخ البقاعي، بشيخ نشره عابق للبشر داعي، فكتبت وأنا على الدابة أسمعه ما يجري على القرطاس
يا خليليَّللبقاع فسيحا
…
تزيا مربعاً هناك فسيحا
واسقياني كأس المدام لديه
…
وانشقاني فيه خزاماً وشيحا
ولما أشرفت على الجبل، إذ زال الخبل قلت:
يا ساكنين السفح من لبنان
…
هيجتمو بسناكم أشجاني
حولتمو قلباً أحب وقالباً
…
فأبيتكم أسمى على أجفاني
وقد اقتفينا من الدليل العزيز الجليل الإبر، الأثر، لأنه أسلم وما زال يصعد بنا العقاب التي هي صعود للجوزاء بلا سلم، لكن راقيها بإمداد من حل فيها للعناية والرعاية والحماية والكفيةاية يسلم، حتى أتينا قرية نبي الله زريق فقلت:
يا نديميّ من منام أفيقا
…
علَّ أن تلتقيا لوصل طريقا
وانهجا منهج الحماة وسيرا
…
للمعالي كي تنشقوني عبيقا
ثم زرنا في القرية مقاما للخضر أبي العباس، وسب تعدد مقاماته، شهوده فيها لكثرة تطوراته، وهذه علامة على حياته، خلافا لمن دندن بوفاته، وللدليل قريب في القرية ثغره بسام، أنزلنا لديه فقدم ما قدر عليه من من إكرم، وعزمنا في الصباح أن ينزل سهل البقاع، فرأيت مناماً دل على توديع السكان، من ذلك المنزل لعارض حر وعدم أركان، فأتيت مع الرفاق إلى تل مشرف، وأهديت النازلين من عمد وأركان الفواتح، وقلت:
يا سراة نحو العزيز الخفير
…
بلغوه سلام سب حقير
خبروه بأنني مستهام
…
في هواه بحرقة وزفير الخ
وبعد أن ودعنا المضيف بالأمس، جزنا إلى الشيخ يعقوب المنصوري، وهذا الدى صنع البركة الإبريزية للملك الرشيد نور الدين الشهيد فعمل منها أوقافا على عد عين تورا
ويزيد، ومنها قاعة الفقراء في الربوة بين ثورا ويزيد، وزرنا أولاد شيخنا الجيلاني، ثم تقدم بي الدليل بعد الزيارة إلى قرية (كوكب) قاصدا فيها صلة رحم وقرب أحباب، فأنشدته مرتجلا لما غيم الكدر اتجلى:
إنني في سفرتي هذى التي
…
فاق محياها سراجاً كوكبا
لم أزل أرقى العلا مع رفقتي
…
ولهذا قد رقينا كوكبا
وسرنا إلى (الذنبة)، بهمة طيبة الحضور والغيبة، ولما امتلأت بالسرور العيبة، فتقت بالحبور الموفورة الجيبة، قصدنا بجمعنا قرية (حاصبية) فإذا هي قرية كبيرة مملوءة الأكتافبالطائف الدرزية، ومضينا للخان ونزلنا لديه، وعنه جدينا السري حتى أتينا قرية (ميس)، الحاملة أهلها لواء ربيعة لا قيس، الشعة المائسين بحب الآل أي ميس. وهذه القرية من بلاد بشارة فأنشدت:
جاء ممن أحب ليلا بشارة
…
مذ حللنا يوماً بأرض بشارة الخ
وصعدنا محلها العالي ذو الامتناع، ونزلنا عند صديقنا الغالي على بقاع، وأمسكنا لديه معاملا باكرام، وسرنا للدير والقاسي بأنس تام، ونزلنا عند أحبابنا في القاسي، وحبب لي أن أمدح أهل الدير والقاسي، لأنهم أهل قرب وقرابة كل منهم لا يرى تشفيعا فقلت:
إذا رمت أن بسقيك سمعان في الدير
…
أنخ جمل الترحالي في القاسي والدير الخ
وأشرت بصالحها صالح أكبر أولاد مراد فإنه صالح.
(لها بقية)
أحمد سامح الخالدي
أذلاء صهيون.
. .
للأستاذ حامد بدر
أذلاء صهيون يريدونها غصبا
…
فهل قنصوا العنقاء أم خطبوا الخطبا؟
أما طوا عن الغدر اللئام فأيقظوا
…
أسوداً تصب الموت فوق العدا صبا
(فلسطين) أرض لا ترام لغاصب
…
وهل يطعم الرئبال من لحمه الكلبا
ومن يبتغ يعلن غباءه
…
وإن أخا (صهيون) في بغيه أغبى
وما وعد (بلفور) سوى وهم واهم
…
به قومه أغرى فأضرمها حربا
وما الحرب إلا مصرع البغى وحده
…
ونصر لمن لله والحق قد لبى
ولست أرى في مجلس الأمن منفذا
…
لأمن ولكني أرى الخوف والرعبا
ولم أر يوماً دولة ذات صولة
…
تنيل الضعيف الحق أو تضمر الحيا
ومن تخذ الخصم الألد مواليا
…
كمن تخذ الشيطان من جهله ربا
ومن سالم الطاغين يوماً فإنه
…
هو الحمل المسكين قد صادق الذئبا
وليس يرد البغى إلا بمثله
…
فويل لأهل البغى من فانك هبا
وويل لهم من كل ظمآن زاحف
…
يعب دم الأعداء يوم الوغى عبا
وويل لهم من غضبه عربية
…
إذا التهمت نيرانها الرطب والصلبا
وويل لهم من ثورة لا ينيمها
…
سوى قعطعم طعنا وتمزيقهم ضربا
وهل نسى الباغون حرباً غنيفة
…
وقد ركب الباغون مركبها الصعبا!؟
فلم يتقوا سخط الحليم إذا انتضى
…
من الغمد صمصاما وجرده عضبا
وكل جبان يحسن القفز آمنا
…
وعند وثوب الليث لا يملك القلبا
وما حظهم من هدنة يخرقونها
…
سوى أنهم يبغون في ظلها الوثبا!؟
وقد أمنوا الآساد لما تفيدت
…
يعهد عليها وحدها حرم الحربا
كأنهم الأطفال هاموا بلهوهم
…
فلم نلم الأطفال أن عشقوا اللعبا
ألا أيها الصنديد في حومة الوغى
…
عدوك رعديد على الذل قدشبا
يهيم بجمع المال طول حياته
…
فيعشقه عشقاً ويعبده ربا
ومن يعبد الدينار لم يك باسلا
…
ولم يعل رأساً من على النشب انكبا
أذلاء صهيون يبيعون ما به
…
يضن الجواد السمح تبا لهم تبا
ولا نقص فيم بيع يزعج بالهم
…
إذا العرض النامي على العرض قد أربى
همو يحسبون المال من أي مورد
…
غنى ومن الخسران قد طلبوا الكسبا
وقد زعموا في الشرق نهبة ناهب
…
وضاقوا بيأس الشرق فاستظهروا الغربا
وأنصارهم في الغدر من يعتصم بهم
…
فقد ثكل الأنصار والآل والصحبا
يريدون إطفاء الشموس جهالة
…
بأفواههم والله سبحانه يأبى!
حامد بدر
الأدب والفن في اسبوع
للأستاذ عباس خضر
حب الرافعي:
عزيزي الأستاذ عباس خضر:
قرأت كلماتك في العدد 795 من (حب الرافعي) وما كتبه في إحى المجلات السورية حول هذا الموضوع صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف (الأديب الذي استهلكه التعليم)، وما عقب به صديقنا أيضا. . . الأستاذ كامل محمود حبيب (الأديب الذي استهلكته الوظيفة) وما علقت على ذينك الرأيين، أو ذلك الرأي الواحد المعروض على القراء في صورتين؛ ثم سؤالك من بعد:(هل عند أحد من سائر تلاميذ الرافعي شئ في هذا الموضوع)؟.
وقد فهمت من سؤالك هذا يا صديقي أنك تعتبني، ولعل هذا ما فهمه أكثر قرائك أيضا. . . فلولا أنني مشغول الآن بما يكاد (يستهلكني) أنا أيضا من أسباب الدفاع عن حريتي في الفن، وعما ينالني به بعض أهل الأدب من أسباب الكيد - لرأيتني سريعاً إلى جوابك، ولكنه موضوع لم يفت أوانه على كل حال. . .
أما أن الرافعي كان يحب (مى) صدرا من كهولته وإلى آخر عمره، فشئ لا أنكره ولا شك فيه، وليس ينكره أو يوشك فيه الصديقان الأدبيان مخلوف وحبيب، ولكن الذي ينكرانه أو يشكان فيه هو (ما هية هذا الحب) هل كان حباعقلياً، أو حبا فنياً، أو حباً إنسانياً، أو حب كل رجل لكل امرأة. . .!
هذه هي القضية كما عرضها الصديقان فيما رويت عنهما؛ وليس أمرا ذا بال - والمسألة بهذا الوضع - أن أخالفها أو أوافقها؛ فإن المخالفة أو الموافقة في (الرأي) لا تمحو حقا ولا تثبت باطلا، وإنما يمحو ويثبت أن تختلف (الرواية) وأنا قد (رويت) أن الرافعي كان يحب (مي) وقد (رويا) مثلي هذه الرواية، ولكنها بعد ذلك تناولا الأمر على نحو فلسفي، فراح كل منهما يصف هذا الحب في رأيه ويحاول استكناه حقيقته، فزعما أن حب الرافعي لمي لم يكن حباً انفعالياً، بل كان حبا إراديا يقصد إلى هدف وغاية. . . وهو نحو من التعليل قد يكون موفقا، وقد يكون التعليل الصحيح غيره؛ فهذه قضية سيكولوجية وفنيه يحتاج بحثها والفصل فيها إلى مقدمات، وإلى دراسة نفسية مقعدة تستند إلى أسانيد من (الرواية) وإلى
خبرة عملية في الحب. . . واسمح لي أن استخدم هذا التعبير. . .
وأنا قد حرصت منذ أول يوم حاولت فيه تأريخ الرافعي أن أكون (راوية). . . رواية فحسب، لا فراراً من تبعة الرأي، بل مبالغة في التجرد عند تأريخ حياة لم يزل صداها يرن في أذني وأنفاسها تعبق في جوى؛ ولكني مع هذا الحرص على التجرد الخالص لم أدع شاردة ولا واردة من ذكرياتي، أو من مذكراتي، عن حياة الرافعي، إلا ذكرتها؛ لتكون مقدمات الحكم ماثلة تحت عيون الباحثين من أهل الأدب حين تتقادم السنون ويصير الرافعي تاريخا خالصاً لا تخلتط به أصداء الذكريات الحية في نفوس بعض الذين عاصروه أو استمعوا إلى حديثه أو اتصلوا بحياته من قريب أو من بعيد، وستجد يا صديقي في الفصل الطويل الذي تحدثت فيه عن (حب الرافعي) من كتاب (حياة الرافعي) من أسباب العلم بهذه (الحادثة) ما يهئ لك أن تحكم وأن تكون في هذه القضية صاحب رأي.
أما (رأيي) أنا؛ فأني حتى اليوم - وقد مضى على وفاة الرافعي - أحد عشر عاماً وأشهر - ما أزال أشعر أني منه قريب قريب بحيث لا يتهيأ لي أن أكون في قضية من قضاياه صاحب رأي مجرد. . .
ولكن ما أزال مع ذلك أصر على أن الرافعي رحمه الله كان يحب مي صدراً من كهولته وإلى آخر عمره، حبا ما. . . وأنها أحبته ذات يوم. . . حباً ما؛ ولكن حبها إياه قد انتهى قبل أن ينتهي حبه، أعني قبل أن ينتهي عمره!
والسلام عليك.
محمد سعيد العريان
هذا ما تفضل بكتابته إلى صديقي الكبير الأستاذ محمد سعيد العريان، وحقا كنت أعنيه، فهو مؤلف (حياة الرافعي) ولكني كنت أطمع أن يبدي رأيه من حيث كتابة الرافعي في الحب ودلالتها على صدق العاطفة أو عدم صدقها، مع الملابسات الواقعية التي يعرف دقائقها، ولكنه آثر التجرد. . . وأود أن تتاح الفرصة ليتجرد من هذا التجرد ويكتب (أدب الرافعي) الذي لا بد أن يتضمن فصلا في حب الرافعي، وعندئذ لا يستطيع أن يتجرد من الخبرة العملية في الحب. . .
أبن الأديب الحر؟:
أثار الأستاذ إبراهيم على أبو الخشب، مسألة الأديب الموظف والأديب الحر، فعبر عن الأول بأنه (يتحتم عليه أن يكون أدبه في حدود اللون الذي تتلون به الوزارة القائمة) واتخذ الأستاذ الزيات مثلا للكاتب الذي يستشعر الحرية فيما يكتب.
وأقول أولا إن المثل لابد له من أمثال، وأستاذنا الزيات له ظروف خاصة ليس لأحد مثلها، هياها وبلغها بجهده وقلمه، وأصبح قلمه بهذه الظروف محررا مما يقيد الأقلام، فهو لذلك لا يصلح مثالا. وإذا تجازناه فإننا نبحث عن الأديب الحر بمصباح ديوجين. . . سواء أكان موظفا في الحكومة أم غير موظف، فإين هو. .؟
إن الأدباء غير الموظفين - إي اللذين كان ينبغي أن يكونوا أحرارا - تتقاسمهم شتى القيود، فمنهم المقيد بالسياسة الحزبية، ومنهم من يؤثر المنافع التي يملكها أصحاب السلطة فيكتب لهم ويغضي عنهم، ومنهم من يحكمه لوه من الصحافة يدر عليه الرزق الوفير. . . وهذا هو فلان الأديب الكبير الذي ترك الحكومة ليكون حرا في عالم الكتابة. . . هل صار حراً؟ كان الله في عونه، ويسر له الرجوع إلى الوظيفة، ليخرج في ظلها الفن المصفى الذي كان يخرجه.
ثم انظر في انتاج الأدباء غير الموظفين وفيما يكتب الكتاب الأحرار. . أترى فيه شيئا - فيما عدا السياسة الحزبية - كان يمكن أن تمنع وظيفة حكومية من حيث التحرر التقيد، وأين هو الأديب الذي أدى رسالة لا تتفق مع قيود الوظيفة الحكومية؟ قد يكون هناك من آثر الصحافة مثلا على العمل الحكومي، استجابة لميل شديد إلى الصحافة أو رغبة في ريح مادي منها، أو للعمل مع حزب من الأحزاب، أو إباء تحكم الرؤساء؛ ولكن من هو الذي رغب عن الوظيفة للحرية الأدبية فكان أدبيا حراً؟ ولعلنا نخلص من كل ذلك إلى قضية جديرة بالنظر، وهي: هل فيما وراء أدبنا مجال وقف الأدباء عند شاطئه متهيبيين أو عاجزين، أو إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؟
من أخطاء الإذاعة:
أخطاء المذيعين في اللغة وفي غير اللغة، لاأول لها ولا آخر، وهذا مما يؤسف له أشد الأسف، لأن الإذاعة لسان مصر الناطق حقا لا مجاز فيه، فلايليق أن يلحن هذا اللسان في
نطقه ويهلهل لغة البلاد، ولا يليق أن يكون مدى علم المذيعين بشئون الأدب والثقافة ما يدل عليه خبطهم في هذه الشئون خبط عشواء. . . ولكن أي شئ لائق في الإذاعة؟
وكثيرا ما أتذرع بالصبر حيال تلك الأخطاء، ولكن الذي لم استطع الصبر عليه حذلقة بعض المذيعين والمذيعات بقولهم بعد انتهاء جزء من البرنامج:(سمعتم في هذه الربع ساعة كذا) ويظهر أنهم مفتنونون بهذا التعبير افتنانهم بإعلان أسمائهم مقرونة بإخراج البرامج والتمثيليات. . يظهر أنهم يستلحون ذلك التعبير فيكررونه ويتناقلونه مزهوين به كأنه (ذيل الذئب) الذي تنسب البطولة إلى من يأتي به. . ولا يدرون أنهم يصكون به أسماع أهل الذوق العربي السليم. وآخر ما سمعته كانت تنطق به مذيعة تجتهد أن تعرب في أكثر الأحيان، وتلحن أحيانا. . قالت:(سمعتم في هذه الربع ساعة تقاسيم على الكمان من حضرة صاحب العزة مصطفى بك رضا) وقد أوقعها التقليد في هذا الخطأ وإن كانت تحرص على الصواب، ولذلك أصححه لها هكذا:(سمعتم في هذا الربع الساعة) أو (سمعتم في ربع الساعة الماضية) والأحسن أن تدع هذه الحذلقة كلها وتقول: (سمعتم كذا) وتخلص نفسها نن هذه الوطة، وتخلص صوتها الرقيق من تلك الشائبة. أما المذيعون (الخناشير) فليخطبوا كما يخطبون. .
ومن أخطاء المذيعين التي لا حصر لها، نسبة الأغنيات إلى غير قائلها، فما لعلي طه ينسب إلى محمود حسن إسماعيل، وتصور ما لإيليا أبو ماضي مثلا ينسب إلى محمد الأسمر!
وأشنع ما سمعت من هذا القبيل أن قدم أحد المذيعين أغنية لأم كلثوم من شعر شوقي فقال إنها من تأليف (محمد شوقي بك)! ولا أظن هذا المذيع يخطئ في اسم (محمود شكوكو) كما يخطئ في اسم أمير الشعراء.
ومن أخطاء الإذاعة في تنظيم البرنامج، هذه الأناشيد الحماسية التي تلقيها الأصوات المزعجة في منتصف الليل أو قبيله، فهل يطلب من المستمعين أن يأخذوا قسطهم من الحماس قبل النوم؟! وعلى من بكر منهم في النوم أن يهب مذعورا على صوت راديوا الجيران او القهوة المجاورة، ليأخذ نصيبه من ذلك الحماس! وعلى هؤلاء وأولئك أن يكونوا جميعا وطنين متحمسين في أحلامهم طول الليل. .
افتتاح دورة المجمع اللغوي:
افتتح مجمع فؤاد الأول للغة العربية، الدورة الحالية يوم الاثنين الماضي، فانعقد مجلس المجمع برياسة الأستاذ أحمد حافظ عوض بك باعتباره أكبر الأعضاء الحاضرين سنا، وذلك لمرض صاحب المعالي لطفي السيد باشا رئيس المجمع.
ومما أقره المجمع في هذه الجلسة التوسع في تعزيز اللجان بالخبراء الفنيين الذين يندبون للعمل بلجان المجمع لقاء مكافآت، فيعملون مع الأعضاء إنجاز الأعمال الفنية.
وعرض على المجلس موضوع اختيار أعضاء مراسلين للمجمع من لبنان والجزيرة العربية، فأجل النظري فيه؛ والمقصود من هذا الموضوع استكمال تمثيل البلاد العربية في المجمع من حيث عضوية المراسلة، فقد سبق أن اختير أعضاء مراسلون من سائر أقطار العروبة ما عدا هذين القطرين الشقيقين. والرأي متفق على هذا الاستكمال، أما موضع النظر فهو تعيين الأشخاص.
اليهود دائما:
جاء في تقرير كتبه عن اجتماع مؤتمر المستشرقين في باريس، الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ممثل المجمع في المؤتمر - ما يلي:(لقد حاولنا أن نظفر بتقرير عقد الاجتماع المقبل للمؤتمر في القاهرة، وكان لنا بين الأعضاء أنصار كثيرون، ولكن الأمر انتهى للأسف عقد الاجتماع المقبل في استنبول، ومرد هذه النتيجة إلى أسباب أهمها):
(1 - التأخر في وصول الدعوة الرسمية بحيث لم تبلغ إلا قبيل انعقاد الجلسة الأخيرة.
(2 - تأثير مشكلة فلسطين على العلاقة بين الشرق والغرب عامة وبين مصر والدول الأوربية والأمريكية بوجه خاص، والجهود الكبيرة التي بذلها المستشرقون اليهود وأنصارهم في سبيل حمل المؤتمر على عدم تقرير اجتماع المقبل في القاهرة.)
وهكذا يحارب اليهود الجهود العربية في كل محال، حتى في الهيئات العلمية، وهكذا يستجيب لهم الغربيون حتى ذوو (الأرواب) العلمية.
عباس خضر
البريد الأدبي
الجوييم:
وردت هذه الكلمة في محاضر المؤتمر السري الذي عقده شيوخ اليهود في القرن الماضي، وهو الذي لخصته في مقالات في الرسالة وعلقت عليه. وقد ذكرت اللفظة مراراً بنصها هذا كما ذكرها مترجم تلك المحاضر عن الروسية إلى الإنكليزية وفسرها بقوله أنهم يطقونها على جميع الأمم غير اليهودية، وعلى النصارى على الخصوص. وفي أثناء نشر مقالات في الرسالة علمت من خبير أن كلمة جوييم تعني (الأنجاس) والجوى (نجس) وهم يعنون أن جميع الأمم غيرهم (أنجاس).
وفي العبارة التي نقلتها مجلة الأزهر عن الرسالة، ونصها:(لأن وظيفة هؤلاء الحكام الوطنين (أعني باشاواتنا) أن يمسكوا البقرة (اقتصاديات مصر) بقرينها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) قصدت بأن (الجوييم) نعت لشعب الله المختار (كما يسمون أنفسهم) أعنى أني نعتهم بما ينعتون به سائر الأمم لأن تصرفاتهم وسلوكهم وأخلاقهم تثبت أنهم أنجس الأنجاس كما يعلم كل إنسان على وجه الأرض.
نقولا الحداد
عقيدة جلال الدين الرومي:
اتهم الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ في مقالة (جلال الدين الرومي) المنشور في العدد الأخير من مجلة الرسالة الزاهرة بأنه (حلولي) وذلك بدن إبداء أسباب مقبولة أو إيراد أقوال صريحة عنه تؤيد أن هذا الاتهام.
ومع الأسف الشديد أؤكد أنه ما من باحث إلا ويلقى الكلام في الصوفية جزافا ويرميهم بأحد المذاهب المضلة الباطلة التي لا يقرها عقل ولا يؤمن بها قلب ولا يعتنقها إلا كافر بالله أو ملحد لم يشم رائحة الإسلام الذي هو في روحه ومعانية بقدر موضع العبد من خالقه الذي ليس كمثله شئ.
ونعيذ المتصوفة أن تكون من الفئة المارقة الخارجة على الدين الإسلامي الحنيف. وإنى أسأل: هل شققناعن قلوب هولاء المتصوفة فرأينا أنهم كانوا على الباطل في حياتهم وأنهم
تركوا الدين وراء ظهورهم فلم يؤدوا ما أمر الله به ولم ينتهوا عما انهى الله عنه أو انسلخوا عن الدين فاعتقدوا أن الرب عبد والعبد رب. إن هذا قول لا يقره عقل ولا دين. وإني إذ أبرئ المتصوفة من مذهب الحلول تطيب نفسي أن تشهد بأن جلال الدين الرومي من هؤلاء الصفوة المختارة الذين كان لهم أثر محمود في إظهار نور الشريعة قولا وفعلا واعتقاداً. فلله هؤلاء الصوفية البؤساء الذين لم يسلموا من ألسنة الناس في حياتهم وبعد مماتهم، ورحمهم الله.
(شطافوف)
محمد منصور خضر
المفعول معه وواو المعية:
تعرض الأستاذ أحمد عبد اللطيف لمناقشة ما كتبته حول المفعول معه وواو المعية، فأورد أمورا رأى إنها تحتاج إلى المناقشة فقال:
1 -
إن سياق الآية (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) بعيد عن الدقة لأني قلت إن الإيمان منصوب على أنه مفعول معه. والرد على هذا من وجوده.
(أ) لست في كتابتي للموضوع أبحث عن ترجيح إعراب للآية دون إعراب، ولم أمنع أن فيها أوجها أخر، والأستاذ متفق معي على أن الصبان في حاشيته على الأشموني اوردها على الرأي الذي ذكرته، وأزيده أن السيوطي في كتابه همع الهوامع أوردها كذلك فقال (وجاز النصب على المعية وعلى إضمار الفعل الصالح نحو فأجمعوا أمركم وشركاءكم ومثله تبوءوا الدار والإيمان. فالإيمان مفعول معه أو مفعول به باتعقدوا مقدراً) فإذا كان للآية أو للشاهد عدة أوجه - وكل وجه منها صحيح - كما في الآية واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، بجر الأرحام عطفا أو مقسما بها، وبنصبها عطفا به، ألا يجوز للكاتب أن يذكره في معرض الاستدلال وبخاصة إذا كان سليما من التأويل والتقدير؟
(ب) الآية وردت في الأنصار. فمن قال بتقدير فعل مناسب احتاج إلى أن يقول: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان من قبل المهاجرين. ثم احتاج إلى أن يقول تبوءوا الدار من قبل هجرة المهاجرين. وذلك لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين وإنما بعدهم وإن كانوا
آمنوا قبل هجرتهم. ومن قال بتقدير فعل انصبابه على الاسمين احتاج إلى أن يقول: لزموا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ثم لزموا. . . من قبل هجرة المهاجرين. أو قالوا في الحالين تبوءوا الدار من قبل المهاجرينوأخلصوا الإيمان. أو لزموا الدار من قبل المهاجرين ولزمو الإيمان. أوعلى كليهما اضطررنا إلى تأويل وتقدير أو تقديم أو تقديم مع أن هناك قاعدة مشهورة وهي أن ما سلم من التقدير أولى مما احتاج إلى تقدير.
(ج) أما من يرى أن الإيمان مفعول معه فقد تجنب أكثر هذا التكلف، فال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط: قال ابن عطية والمعنى تبوءوا الدار مع الإيمان وبهذا الاقتران يصح معنى قوله - من قبلهم - فتأمله. . . اهـ
(د) يوهم ما كتبه الأستاذ أن الفراء والفارسي والمازني إلى آخر من ذكرهم قد تعرضوا للآية عند المتكلم على التوضيح إذا امتنع العطف والمفعول معه كقوله:
علقتها تبناً وماء بارداً
…
حتى غدت همالة عيناها
وكقوله:
إذا ما الغانيات برزن يوماً
…
وزججن الحواجب والعيونا
أضمر فعل ناصب للاسم الواقع بعد الواو وهذا قول الفراء والفارس ومن تبعهما. وذهب الجرمي والمازني والمبرد وأبو عبيدة والأصمعي واليزيدي إلى أنه لا حذف وأن ما بعد الواو في (البيتين) معطوف على ما قبله، وذلك على تأويل العامل المذكور قبلهما بعامل يصح انصبابه عليهما معا فهو من باب التضمين (ومثل ذلك ذكره السيوطي في الهمع. فالشاهد الذي يعارضني به الأستاذ وقد استمده من النسفي - وأزيده أنه قد ذكره غيره - إنما هو فيما لا يحسن أن توضع فيه واو المعية ولا يجسن فيه العطف فاضطروا إلى التأويل والتقدير أما الآية فهي فيما يجوز فيه النصب على واو المعية واضمار الفعل الصالح. فالتنظير غير تام بين الآية والبيت. ومن كل هذا نخلص إلى أنني لم اكن بعيدا عن الدقة وإنما كنت أقرب إليها منه، هذا في الوقت الذي لم أكن أقصد في بحثي الأسبق إلى ترجيح إعراب على إعراب وإنما كنت أقصد إلى أن الواو في المفعول معه نص في المعية بدون تجوز أو تأويل، وشواهدي التي سقتها صريحة في هذا ومنها الآية الكريمة. ولا يكفي في الرد أن يقال هذا بعيد كل البعد او أن هذا ضعيف من غير تبيان وجه البعد
أو الضعف، فإذا ذكر بعض المفسرين أن المفعول معه في الآية ضعيف بدون حجة يبديها، لا يكفي في الإبعاد والإضعاف ما دام التعبير سليما واضح المعنى.
2 -
يظاهرني الأستاذ على نقدي تعريف المفعول معه ومن العجب أنه مع ذلك يريد أن يعتبر - بدون قصد - استذكرت والمصباح وأمثاله صحيح مع أنني قد بينت أنها أمثلة خاطئة إذ أنك لا تقول في كلام عربي استذكرت مع المصباح وإنما تقول استذكرت على ضوء المصباح، ولعل الأستاذ لم يتنبه إلى مرادي في بحثي الأسبق فكان منه ما اعترض به.
3 -
إن أسلوب الأستاذ الإفهامي 0الذي ذكره - ليستدني القاعدة إلى إفهام تلاميذه إنما هو الواقع أسلوب يستبعدها. ألا ترى أن التلميذ وهو في الرابعة الابتدائية لا يتابعك حين تقول: (استذكرت والمصباح، إن ما بعد الواو لا يصح أن يقع منه الحديث إذ أن المصباح لا يستذكر. وإن المصباح مفعول معه وليس معناها استذكرت مع المصباح أي مصاحبا المصباح وإنما حصل (الحدث) مقالنا للمصباح) ولكن يفهمك من أول الأمر إذا قلت خرجت والأصيل، اي مع الأصيل. وهذا ما قلته سابقا وما جعلني أخطئ مؤلفي كتب القواعد التي ابتدعوا فيها أمثلتهم فلجئوا إلى تعريف يوضح ابتداعهم العجيب.
4 -
قال الأستاذ إني أحلت قول الشاعر (لا تنه عن خلق وثاني مثله إلى الحال وأنني قد تجوزت في رأيي تجوزاً بعيداً. وأنا من جهتي أعجب للأستاذ ألا يتنبه إلى أن قولي إنما كان (تهميشاً) وضعته ليكون ضابطا لمعرفة واو المعية السببية، ولن تجد شاهداً صحيحا يخرج عن رأيي، فالآية: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، معناها والله أعلم أنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا مع حالة كونهم غير مكذبيين بالله ومع حالة كونهم من المؤمنين، ومثل هذا يقال في الأمثلة والشواهد التي ذكرتها في بحثي الأسبق. وإني لشاكر للأستاذ أن أتاح لي فرصة الإيضاح، ولعله تنبه إلى ما أردت وذلك على قدر ما أعلم وأختم بما ختم به وفوق كل ذي علم عليم.
عبد الستار فراج
محرر المجمع اللغوي
شجرة الزقوم في امتحان الرسم:
نشرت (الرسالة) مقالا للأستاذ عباس خضر، انتقد فيه السؤال الخاص برسم الجحيم وشجرة الزقوم ورءوس الشياطين. إلى آخر ما ترمز إليه الآيات الشريفة. وأرى أنه من الواجب قبل النقد أن يقف حضرته على الأسس التي بنى عليها هذا التطور المفاجئ في طرق تدريس هذه المادة والغاية التي تسمى إلى تحقيقها، هناك أمران مهمان:
أولا: يجب أن تخاطب الصورة المطلوب التعبير عنها (قلب) الطفل ونفسه فيمتلئ بها شعوره وإحساسه، بصورة خاصة أدركها فكره الخاص، فإذا ملأت الصورة قلبه وفاضت بها روحه واستحوذت على مشاعره، كان لها عليه سلطان شديد. فإذا أعطى الفرصة للتعبير عنها، جاء تبعيره ترجمة صادقة لما يجول في عوالم نفسه، وما دام قد فاض الينبوع من صدره وتفجر من أعماق نفسه. ففي تعبيره هذا تأكيد لنفسه ولشخصيته، وفيه شفاء لغليله وريا لظمأه. وهذا يختلف عما إذا خاطيت الصورة المطلوب التعبير عنها (عين) الطفل، فهو في هذه الحالة يحاول أن ينقلها لنا نقلا جيداً فيصبح ذلك المقلد الماهر لما يراه لا المعبر الصادق لما يجول في نفسه. . وشتان بين هذا وذاك، كما أن الصورة المنقولة عن العينتخاطب (العقل) شأنها في ذلك شأن المواد الدراسية الأخرى التي يحيا فيها الطفل طول الأسبوع. أما الصورة المنقولة عن القلب فتخاطب (العاطفة) ويجب أن نذكر أن في هذا التنويع ضرورة لحياة الطفل فهو عقل وروح.
ثانيا: الصورة التي تخاطب العين تكون واضحة في ذهن الطفل فهي دائما أمام عينيه واضحة كل الوضوح، مما يجعل الدافع النفسي عند الطفل إلى التعبير عنها ضعيفا أو معدوماً، فلا حاجة به إذا، ولا دافع كذلك في نفسه يدفعه إلى التعبير عنها حتى يراها أمام عينيه على ورقة الرسم. على العكس من الصورة التي تخاطب القلب فهي غامضة في ذهن الطفل، شديدة التأثير في نفسه كما يبدو ذلك جليا في الأحلام مثلا فيكون الدافع النفسي عند الطفل للتعبير عنها قويا شديداً، محاولا في ذلك أن يزيح النقاب عن وجه الصورة التي يحسها - فغموضها في ذهنه يدفعه إلى محاولة إيضاحها في الرسم، وقوة تأثيرها في قلبه تدفعه إلى التعبير عنا بالرسم - ليرى في النهاية ما أحسه بنفسه غامضا قد أصبح واضحا
أمام عينيه على الورق. . كالحاجة الملحة التي تدفعنا إلى تذكر الحلم في الصباح.
ولست أوافق الأستاذ عباس خضر في أن يقصر (مقدرة التخيل) على العباقرة كأبي العلاء ودانتي ولكنها عامة عند الجميع.
ولعل في ذكر الجحيم وشجرة الزقوم ورءوس الشياطين صوراً غامضة تثير نفس الطفل نحو التعبير عنها.
ولسنا نبغي من وراء هذه الخطة أن نكلف الناشئ العادي أن يكون فنانا كما ذهب حضرته في ذلك، وإنما رائدنا تكوين شخصية نامية مستقلة عند الطفل، يحس بها إحساسا ذاتيا معتمداً عليها في كل ما يعترضه في الحياة. إذ يجب ألا يكون العالم الخارجي هو النماذج الأعلى عند الطفل يقلده فيحس بصغر شأنه إزاءه، ولكن يجب أن يحس الطفل عمليا بقيمة نفسه، وبأنه النموذج الأعلى في هذا الوجود.
كامل بطرس عصفور
مدرس الرسم بمدرسة المنصورة الثانوية للبنات
وحدة الأسماء:
كتب الشاعر الرقيق - أحد من تشرفت بمشاركته في الإسم الكريم - الأستاذ محمد محمد علي (السوداني) كلمة في العدد الماضي من الرسالة، عن اشتراك أكثر من واحد في اسم واحد! وقد عرفت من مطالعتي المستمرة للرسالة، أن هناك - في محيط الرسالة على الأقل - ثلاثة يحملون اسمه الكريم، أما الأول فهو مترجم السادهانا (كنه الحياة) لطاغور (وهناك مترجم آخر لها وهو الأستاذ طاهر الجبلاوي (تحقيق الحياة). وأما الثاني فهو الشاعر (السوداني). وأما لثالث فهو العبد الضعيف كاتب هذه السطور، الذي نال شرفا عظيما باشتراكه في الإسم مع كرام أفاضل، وقد نشر له في الرسالة الغراء فصول في التاريخ والاجتماع، مترجمة عن هاتزكوهن والأستاذ جب وهو طالب بليسانس الجغرافية بكلية الآداب.
لقد كان الصديق الشاعر على حق في سودنة اسمه (سودنة) خفيفة لطيفة) ليس اخف من قصيدته ولا الطف. .
محمد محمد علي
قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد
الكتب
الاسكندر الأكبر
تأليف الأستاذ أرثر ومجال
نحن اليوم نستقبل الصبح من نهضة فنية مباركة، تسرع شمسها نحو الشرق لتملأ الدنيا نوراً ودفئا، ونحن اليوم أشد ما نكون رغبة في دراسة سير الأبطال ممن جاد بهم التاريخ - والإسكندر رسيفااتتشخصية دائمة الدوي في أسماع الزمن، فلا يكاد التاريخ يحدثنا عن ملك اجتمعت له كل أسباب الشهرة كما اجتمعت للإسكندر، فلقد شغل الكتاب والمؤرخين، والباحثين، والعلماء في كل زمان ومكان، ومن هؤلاء من رافقه من المهد إلى اللحد، ومنهم من كان في ركابه لما خرج من مقدونيا غازيا فلم تعظم عليه أشد البلاد بأسا وعنادا، ومهم من اضطلع معه بشئون السياسة والإدارة فخبر أساليبه وما قدر لها من نجاح أو فشل، ومنهم من عنى بتدوين يومياته ومذكراته الخاصة وأقواله، فكان منهم المقسط وكان منهم المتحامل المتعصب الذي يرى فيه شابا حالفته الشهرة ولم يسمع لها سعيها وهو مؤمن على أنه يكد ينتصف القرن الأول الميلادي حتى نشر الاسكندر أربعة بحوث هامة كتبها ديودور الصقلي ويومي وأرفوس ولكن أرفاها كتبه بلوتارخ.
والمؤلف الذي بين أيدينا كتبه أستاذ كان مفتشا عاما للآثار بمصر وهو ممن تخصصوا في دراسة تاريخ حياة شخصيات التاريخ اللامعة، فنحن نعرف من مؤلفاته حياة أخناتون، الخاصة) وهو أمام الموحدين في العالم القديم، (وحياة كليوباترا الخاصة) فاتنة الأجيال، ونيرون ومارك أنطونيو. . . وهو يتناول سيرة الاسكندر يعنى بنسبه وموطنه، ويصاحبه طفلا غريراً، وفتى يافعا، وشابا طموحا، ومحاربا بطلا، وسياسيا فذا، وعاشقا متزنا، لا يصرفه الغرام عن الواجب وقائدا منصورا لا يدفع به الظفر إلى الإسراف في البطش.
ويشير المؤلف إلى النقطة التي بدأ عندها بحثه فيقول: بدأت بحثي من النقطة التي ظل يعتريها الغموض أجيالا طوالا فلم أرها واضحة كل الوضوح فيما قرأت من مؤلفات، تلكهي المشكلة ولادته. فلقد ظل يعتقد بأنه ابن للإله الإغريقي المصري (زيوس آمون). ولعل هذا الاعتقاد قد أضفى على شخصه لونا من القدسية ظلت عالقة في أذهان الناس قرونا بعد وفاته، ففي بعض بلدان العالم كان ينظر إليه كاله حق مبين. . . وفي بلاد
الإغريق والرومان كانوا يعتقدون أنه الإله الثالث عشر لأسرة الأولميب، وتروى عنه أحاديث اليهودأنه كان خادما ليهوه المبشر بالمسيح، وصاحب عرش سليمان، والمسلمون يرون فيه بطلا وفقه الله ليحق الحق ويمحق الضلال، وفي بعض كنائس المسيحيين كانوا يعتقدون أنه واحد من قديسيهم متجاهلين بذلك السبق التاريخي.
وينتقل بنا المؤلف إلى صبا الاسكندر، ويوضح لنا كيف كان في صباه فارسا مشغوفا بالركوب والرياضة، مليئا بالثقة بنفسه، كثير النقد لكبار رجال الدولة، يطعن في تصرفاتهم، ويثبت اخطاءهم، وهي صفات يقول عنها رجال التربية اليوم إنها من صفات النجباء المبرزين.
ويوضح لنا المؤلف ناحية دقيقة من حياة الاسكندر وأبيه، والمجتمع الذي نشأ فيه، فيقول:(ويلحظ الأب على ابنه الصبي إمارات الأنوثة) - لا يخطئها الناظر إلى تمثال الاسكندر الشاب المحفوظ بالمتحف البريطاني - (فهو مليح المحبا، وضاح الجبن، تجري في وجهه الأبيض حمرة خفيفة رائعة كالتي يراها المرء على وجوه فتيات الإغريق) أعتاد أن يميل برأسه بلطف ورقة له عينان ناعستان جذابتان، يحب أشعار هوميروس حتى أطلقوا عليه (عاشق هوميروس). . . يهوى الموسيقى ويلعب بأنامله الرقيقة على أوتار القيثارة فيخرج بها أنغاما لينة ناعمة.
كان كل هذا مما يقض مضجع الأب، فقد كان أشد ما يخشاه أن يمس ابنه واحد من غلمان مقدونيا ممن يتسرى بهم رجال الدولة، ولو أنه هو نفسه كان أحد هؤلاء الرجال. ففكر ودبر، وهداه طول التفكير والتدبير إلى أن يدفع به إلى أيدي أرسطو ليؤدبه ويعلمه الفلسفة والحكمة والعلوم المعاشية.
ويصاحبنا المؤلف إلى جلسات التلميذ من أستاذه الفيلسوف ويبين لنا جانبا من تعاليم أرسطو للاسكندر، وكيف هضم الاسكندر هذه التعاليم وتشبث بها واستخدمها وصار يفضي بها للناس كلما حانت ساعة الإفاضة.
وفي سنة 335ق م كان الاسكندر قد بلغ الحادية والعشرين من عمره، وكان قد خلص من توحيد ممالك شبه الجزيرة تحت التاج المقدوني، وكان قد فرغ من حشد حملته التاريخية التي خلدت اسمه، وانطلق بها بغزو إمبراطورية الفرس في شرق الأرض.
ومن ادق ما صوره لنا الأستاذ ويجال في كلامه عن الاسكندر السنة الأخيرة من حكمه، فقد أحصى المؤلف على الاسكندر حركاته وسكناته، وساعاته ولحظاته، وأورد لنا نصوصا من خطبه في جنده المتمرد، وكيف تمكن بلباقته وحسن أدائه وسرعة خاطره من كبح جماحهم دون أن يذلهم، وكيف كان الرجل صاحب فكرة، فسلم يكن فاتحا تدفعه شهوة الفتح، ولم يكن ملكا يبغي الملك ويعشق السلطان، بل كان هذا وكان بدين بمبدأ الأخوة العالية والاندماج العنصري بين الشرق والغرب فاعد لجنوده حفلا كبيرا لتزويجهم من الفارسيات بالجملة، واتخذ له بطانة من قادة السيف والعلم من الفرس وقربهم إلى نفس فقرب إلى نفوسهم، واحبهم فعظم إخلاصهم له مما احقد عليه أجناده المقدونيون.
ويحدثنا المؤلف عن بناء الاسكندر لأسطوله العظيم في ثغور المشرق ليدور به حول أفريقيا ويعود من بوغار جبل طارق إلى الإسكندرية، فيكون قد كشف ما خفي من أقاليم العالم، ويتم له توحيدها تحت تاجه. وكان الأسطول يرقب يوم السفر حينما أصيب الاسكندر بالحمى - لعلها الملاريا - وألحت عليه العلة وهو يصارعها بما جبل عليه من حب الصراع. إلا أن الاسكندر قد رقد ولم يطل رقاده اكثر من ثلاثة أيام ودع بعدها الدنيا وهو اكثر ما يكون شبابا وحيوية وأملا في إقرار عدل عالمي، ما أحوجنا اليوم قبس منه. . .
والكتاب بحث من البحوث العلمية الدسمة، فهو لا يترك شاردة ولا واردة من حياة الاسكندر إلا أحصاها، وينقد المراجع القديمة والحديثة نقدا علميا منزها ويخرج بالقارئ برأي المؤلف واضحا لا غموض فيه، وهو كتاب تاريخ لمن يحب التاريخ، وكتاب أدب لمن يعشق الأدب، وصفحة بطولة ومجد وفخار تهوى إليها كل الأفئدة.
القصص
وحيدة
للكاتب الإنجليزي دوق آفنيل
ترجمة الأديب حسن فتحي خليل
كانت الحجرة الطويلة تلمع فيها الأضواء المنعكسة من زجاج النوافذ العالية، وضوء شمس الربيع الزاهية يلامس رؤوس المدعوين إلى حفل الزواج وقد انتشروا جماعات في اركان الحجرة.
وابتسمت السيدة تريل وهي واقفة وحدها على السلم الذي يفضى إلى تلك الحجرة. . . وتذكرت فجأة أشياء غريبة. . . فها هي حلقة جديدة من حياتها تبدأ اليوم.
لقد كان أول ما بدأت تلك الحياة تزوجت من ريتشارد، ثم لحقها تغير آخر حين مات زوجها بعد عشرين عاما. . والآن. ها هي ابنتها قد تزوجت، وقذفت الحياة أمها نحو مستقبل مجهول ولأول مرة ستغدو وحيدة.
ولقد حدثتها نان في ذلك قبل هذا بيومين وهي تحيطها بذراعيها وقالت: (أرجو أن تكوني بخير في وحدتك يا أماه. . لقد كنا معا دائما لمدة طويلة، أنا أعرف أنك ستفقدينني) فاتسمت السيدة تريل وقالت (لا تنزعجي يا نان، سأتغلب على هذا).
فقالت ابنتها: (في استطاعتك دائما الإقامة معنا أنا وتوم يا أماه) فاجابتها (سنرى ذلك)
ووقفت تراقب زوج ابنتها وهو ينتقل بين المدعوين.
ستغدو وحيدة، لا تطهي طعاما لأحد، ولا ترتب حجراتها لشخص ما، ستعود إلى منزلها في الغروب وتتناول عشاءها بمفردها. . وسيبقى الباب مغلقا حتى الصباح.
منذ عشر سنوات وهي لم تشعر بانفرادها ابدا، لقد كانت تحس بوجود نان بجانبها دائما، حتى وهي تحتسي القهوة مع صديقاتها أو وهي جالسة في ظلام دار السينما. لقد كانت فتاة طيبة، فحين توفي والدها أصرت على أن تبحث عن عمل، وكانت حينئذ في الثانية عشرة من عمرها. وباجتهادها وتوفرها على عملها امكنها بعدسنتين ان تغدو سكرتيرة لرئيس العمل.
وبعد خمس سنوات تغيرت حال عائلة تريل فإذا هم يذهبون لقضاء أيام العطلات في وركواي وينزلون في الفنادق الفخمة ويقيمون حفلات الشاي والكوكتيل الأنيقة.
ولقد قالت السيدة تريل يوما لابنتها ثان (أليس من الأوفق يا عزيزتي أن نقيم في أماكن أقل تكاليف، فأنا أعتقد أن نقودك لن تحتمل كل هذا، وأنا لا أرغب في كل هذه الكماليات كما تعرفين).
ولكن نان ابتسمت وهو تقول (يجب أن نتمتع قليلا يا أماه. أني أوفر لك السعادة وما عليك إلا أن تستريحي وتتركي لي أنا التصرف في أمورنا المالية).
ولم تتناول السيدة تريل هذا الموضوع بالحديث ثانية. إن نان فتاة طيبة. إنها تتذكر حين كانت تصحبها وهي طفلة إلى شاطئ البحر. كان زوجها ريتشارد ما يزال على قيد الحياة حينئذ، كانتا تتمشيان على الشاطئ فتهمس إليهما الأمواج ويداعب الماء أقدامها، ويستمتعان بتلك الأنوار السحرية التي تلمع في أركان السماء الداكنة، ثم يقفان خلف المقاعد يستمعان إلى الموسيقى النحاسية تعزفها الفرقة العسكرية. . وكانا يحرصان خلال هذه الأيام على كل بنس يمتلكه.
ولكن نان بدلت من كل هذا، فلقد اصبح منزلهما أنيقا. وهي تذكر دائما كلما وضعت قبعتها ومعطفها صوت نان تسألها:
- (أخارجة أنت يا أماه)؟
- (نعم يا عزيزتي)
- (أتقصدين مكانا معينا)؟
- (كلا. . . سأتمشى قليلا في الحديقة).
- (سأصحبك. . فلا يجب أن تذهبي وحدك أبدا، وسنحتسي القهوة معا حين نعود).
وهكذا. . كانا يذهبان إلى كل مكاناً معا، وكانت تحرص نان على ألا تكون والدتها وحيدة.
وسار الحال على هذا المنوال حتى العام الماضي، حينئذ ظهر اسم توم بيرنز في أحاديث نان، كان رئيسها، وهو شاب طويل أنيق ذو ابتسامة جذابة.
وأصبحت نان ترتدي ملابسها في أوقات الغروب وهي تقول لوالدتها:
- (أتسمحين لي بالخروج)؟
- (طبعاً). . .
- (أقصد أنك ستبقين بمفردك هذا المساء).
فتبتسم السيدة تريل لابنتها وهي تقول - (أنت فتاة طيبة يا نان. . اخرجي وتمتعي).
وحتى في هذه الأوقات وبالرغم من وجودها في المنزل بمفردها، كانت تشعر بوجود نان معها دائما، وكنت تعرف بأأن المفتاح سرعان ما يدور في ثقب الباب بعد الحادية عشرة بقليل. . وعليها أن تقوم بتحضير القهوة وترتيب البهو فربما جاء توم مع ابنتها.
ولقد كان توم فتى لطيفاً، وحينما طلب يد نان ابتسم في خجل وهو يقول:
- (أنا أعرف أنكما متلازمتان. . وأنا لا أرغب في أن تشعري بالوحدة حين تتزوج نان، وأرجو أن تعتقدي أننا نرحب
بك للإقامة معنا دائما).
ولكن السيدة تريل كانت تخشى دائما التدخل في حياة أي فرد. إن الشابين الصغيرين سيرغبان في الانفراد، وعليهما أن ينعما بحياتهما الخاصة، لذلك قالت (سنرى ذلك يا توم).
والآن قد بدأت الحلقة الجديدة، وسيظهر أفق حديث في حياة السيدة بريل. وكانت ما زالت واقفة في مكانها على السلم وهي تبتسم لهذا الطوفان من الذكريات.
وتجمع الضيوف ولاحظت توم هو يشير إليها ويصيح بكلماته التي لا تسمعها وسط الضجيج، وبدأت تهبط السلم، ثم سلكت طريقها بين المزدحمين. كان شعورها يبعد بها عن الضجة والمرح إن سعادتها يشوبها الجد وإحساس دقيق من الأسى لمرور الوقت وانتظاراً للحظة - الفاصلة -.
وأخذت ثان بيدها وهي تنظر إليها بعينين لا معتين ثم قالت:
- (الوداع يا أماه).
- (باركك الله يا ثان).
- (آه. . . يا أماه. . . أرجو ألا تشعري بالوحشة، بل يجب ألا تستسلمي لذلك الشعور).
- (الوداع يا عزيزتي ثان).
وفتح الباب فانتشر ضوء الشمس وتعالت الأصوات المرحة حول السيدة تريل الواقفة في هدوء على عتبة المكان وأشارت إليها نان بيدها وهي جالسة داخل السيارة. وضحك توم. .
ثم تحركت السيارة. . وزادت سرعتها حتى اختفت في منعطف الشارع.
وظلت السيدة تريل واقفة وقد غمرها شعور من الأسى ولم يقطع خيط تأملاتها سوى صوت يقول:
- (يا عزيزتي السيدة تريل. . كم ستفتقدين ثان!)
كانت جارتها في المنزل، فابتسمت قليلا ثم قالت في هدوء:
- (سيبدو الأمر غريبا بدونها)
- ستغدين وحيدة، لقد قضيت معها أوقاتا طيبة. أيام العطلات في توركواي. . مآدب العشاء في المنزل، كل هذه أشياء ستثيرك. . ومع هذا. . هل ستقيمين بمفردك؟)
فهزت السيدة تريل رأسها وهي تقول (أعتقد أنه يجب أن أسافر لبضعة أيام أولا. .)
وكانت ما زالت تبتسم في هدوء والسيارة تنقلها خلال الشوارع المزدحمة إلى منزلها.
هبت نسمة دافئة حين وصلت السيدة تريل إلى تلك البلدة على شاطئ البحر التي اعتادت أن تزورها وابنتها وزوجها حينما كان على قيد الحياة، وسارت السيدة تريل في بطء بمحاذاة الشاطئ، كانت الأضواء تتلاعب فوق رأسها، وجعلت تراقب الصيادين وهم يقومون بعملهم. . وتمشت على الرمال. . . وكانت معالم الناس تختفي في ظلال الظلمة الهابطة. . وأحست بانفرادها لا يواجهها سوى البحر، وسرحت نظرها في الشاطئ من أوله إلى آخر ما يحده بصرها. .
كانت غارقة في ذكرياتها. . لطالما مرت بها كل هذه المناظر من قبل، وإذا بالماء يداعب قدميها، فتشعر بإحساس من الغبطة يملأ نفسها بالرغم من وحدتها).
حسن فتحي خليل