المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 799 - بتاريخ: 25 - 10 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٩٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 799

- بتاريخ: 25 - 10 - 1948

ص: -1

‌أول ما عرفت شوقي

(بمناسبة ذكراه السادسة عشرة)

عرفت شوقي عن عيان سنة 1927 في المهرجان الذي أقيم لتكريمه في القاهرة. عرفني به صديقي الأستاذ محمد كرد علي، وكان قد وفد فيمن وفدوا من أقطاب الأدب وأعيان العرب ليشاركوا مصر في تكريم شاعر العربية العظيم؛ فذهبت إليه في فندق الكنتنتال أزوره، فوجدته بالشرفة جالساً في قلادة من أولى الفضل يتوسطها شوقي، فلما رآني مقبلا هش لي ورف على، وقال لشوقي وهو يبتسم ويتهلل: هذا هو الرجل الذي أنصفك! فلما استسماني الشاعر النابه عجب الأستاذ كرد على ألا يكون بيننا تعارف ونحن نعيش في بلد واحد ونسير في طريق واحد. وسماني له، فتلقاني ببشره وشكره وأنسه، ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة سنتين كاملتين رحلت بعدهما إلى العراق. وفي أثناء مقامي ببغداد اصطفاه الله لجواره، فلم أره بعد ذلك إلا رؤيا، ولم أتمثله إلا ذكرى!

كان الأستاذ كرد علي يشير بإنصافي إلى مقال نشرته يومئذ في العدد الخاص بتكريمه من (السياسة الأسبوعية) عنوانه (ما لشوقي وما عليه)؛ وكن كثر ما كتب في هذا العدد عن شوقي أقرب إلى النكير وأدنى إلى الجراح، فداخل شوقي ظنون من إخراج هذا العدد، وحك في صدره أشياء من جهة هيكل؛ وأرهج بعض الناس بين الصديقين بالفساد حتى كاد أن تقع بينهما جفوة.

قال لي شوقي وقد أخذ بذراعي والقوم منصرفون: إني أشكرك على نقدك وتقريظك على حد سواء، فان الحق فيما أخذت لي ظاهر، والعدل فيما أخذت علي صريح. وإني أسلم لك ما عددت من هفواتي وأرده إلى اختلاف الأثر بين عصرين وثقافتين وذوقين. وليس من السهل أن يتجرد الشاعر أو الكاتب جملة أو فجأة من عوامل الوارثة والدراسة والبيئة ولكن ما رأيك فيما كتب فلان وفلان؟ وهل كان من مقتضيات الحال أن تنشر مجلة صديقي هيكل آراء خصومي في عدد تكرمي؟ فقلت له: إن رئيس تحرير السياسة كاتب يعرف قيمة النقد. ويرعى حرمة الرأي؛ وقد طلب إلى طائفة من أعلام الأدب أن يدلوا بآرائهم في الشاعر من غير تحديد لجهة، ولا تعين لقصد، ليكون العدد الخاص على ما أعتقد دراسة فنية شاملة لنواحي الشاعر تتعارض فيها الآراء، وتتقارع فيها الحجج، فتتألف من هنا ومن

ص: 1

هناك صورة تامة لفن الأمير تكون في وسط هذا المهرجان تمثالا فيه الجمال والجلال، ولكن فيه كذلك الصفات الطبيعية الأخرى التي يريدها الخالق الكامل للمخلوق الناقص. فقال شوقي بصوته الخفيض وابتسامته الوديعة: يظهر أنك لا تقرأ ما بين السطور ولا تعرف ما وراء الستور. فقلت له: ربما!

ووقفت بنا سيارته على (كرمة ابن هانئ)، وكانت ليلتئذ تتلألأ بالنور والسرور، وتزدان بالزهور والحضور. فأصاب القوم ما شاءوا من مرئ الطعام وهنئ الشراب، ثم تجمعوا زمرا فوق أرائك وكراسي الردهة، يستمعون إلى الملحن الناشئ والمغني الحدث محمد عبد الوهاب وهو يغني بصوته الرخيم الخافت (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا). وكان شوقي آنس الله وحشته يؤثرني بالرعاية ويخصني بالحديث، شأنك مع الصديق الجديد والزائر المحتشم.

وفي أصيل اليوم التالي بعث إلى بسيارته الفخمة تحملني إلى داره؛ وكانت الدار حين دخلتها ساكنة كالصومعة، رهيبة كالمعبد؛ فمن رآها ليلة الأمس ثم رآها عصرية اليوم تذكر حال السكران الطافح ترنحه الخمر فيعربد، ثم يهوده الخمار فينام.

كان شوقي جالسا في ركن من الشرفة ومعه على المائدة الصغيرة حافظ وعبد المطلب وحنفي محمود، فلما أخذت موضعي من المجلس قال شوقي إنما دعانا هذا الوضع من اختلاف السن والذوق والثقافة لنقرأ تونيته التي نظمها للمهرجان. وأخذ حافظ يقرأ القصيدة فنقف عند كل بيت، ننظر في سياقه وموسيقاه، ثم نروي في معانيه وألفاظه، فربما استبدلنا لفظا بلفظ، وآثرنا عبارة على عبارة، وذوق الشاعر العبقري من وراء أذواقنا جميعا، ينقد ويوازن ويفاضل ويختار، حتى استوى القصيدة على فنه الرفيع منضد اللفظ نقي المستشف. وأردنا بعد ذلك أن نسمع حافظا، يرد الله بالرحمة ثراه، فاعتل بعلة لا أذكرها؛ ولكنه رأى من خلال المناقشة تجانسا بين ذوقي وذوقه فسألني أن أصحبه في العودة. وفي قهوة بميدان الأبرا كانت موضع ملهى (بديعة) اليوم، جلست أنا وحافظ رأسا إلى رأس، يقول في شوقي وأسمع، رويفتن في النكات وأضحك، حتى قال: سأنشدك قصيدتي لترى فيها رأيك. وأخذ شاعر النيل يقرأ لي عينيته المشهورة بصوته الفخم وإلقائه المعبر حتى فرغ منها؛ ثم نظر إلى نظر المستفهم المطمئن المعجب، فقلت له: هنيئا لك التصفيق الحاد

ص: 2

والاستعادة المتكررة يا حافظ! قصيدة شوقي للقراءة وقصيدتك للسماع، ومعانيه للخاصة ومعانيك للجمهور! فقال في لهجته الساخرة الفكهة: وهي يعنيني غير الجمهور؟

توالى اللقاء بيني وبين شوقي بعد ذلك اليوم، مرة في داره، ومرارا في (صولت). وكان كلما أنشأ عبقرية من عبقرياته أقرأني إياها؛ وذلك في جميع أطوار عمره: يعرض ما يقرض على الآذان المتباينة والأذهان المتفاوتة ليعلم موقعه من كل ذوق، وأثره في كل نفس. وكان أشد ما مكن الألفة بيني وبينه مشابه في الطبع من فرط الحياء، وحب العزلة، وقلة الكلام، والانقباض في الندى الحافل، والابتعاد عن الحفل الجامع؛ فكأني كلا منا كان يرى في الآخر عزاء عن نقصه وعوضا من حرماته.

كان شوقي يرى كأكثر الناس أن الرجل إذا لم يعمل في الحكومة كان أشبه بالمتشرد. لذلك كان قلقا على من هذه الناحية، فهو يستكبرني على العمل الحر، ويعجب ألا يكون لي مكان في وزارة المعارف. ثم أخذ يسعى من وراء علمي لدى وزير المعارف علي الشمسي باشا ويمهد لي السبيل للقائه. وفي ذات ليلة من لياليه قال لي ونحن في ركن من أركان صولت: سأنتظرك غداً هنا في الساعة الحادية عشرة، فتعال ومعك مجموعة من كتبك لنزور وزير المعارف: فقلت له: وما شأني بوزير المعارف؟ فقال إنه يود أن يراك، ولعل من الخير أن تراه. فلما دخلنا على الوزير في الموعد الموقوت قدمني وكتبي إليه، فسلم الرجل تسليم البشاشة، وشكر شكران الغبطة. وجرى في حضرته حديث عني استجاز شوقي فيه ما لا يجوز إلا للشاعر من المبالغة في المدح والمجاملة في الثناء. ولما خرجنا من عنده ربت على كتفي وقال وهو مبتهج: لقدوعدني الوزير أن يضمك إلى الوزارة! فقلت له ولم أدهش لأني حزرت ذلك من قبل: ألهذا جشمت نفسك يا سيدي ونفسي؟ حد الله ما بيني وبين الحكومة! لقد حاول هذه المحاولة منذ أربع سنين طاهر باشا نور وعبد الفتاح باشا صبري فجذبت عناني من يديهما ومضيت. وأراد صديقي طه حسين وأستاذي لطفي السيد أن يدخلاني الجامعة منذ سنتين فلذت بالفرار بعد صدور القرار. أنا يا سيدي أستاذ في الجامعة الأمريكية، مرتبي ضخم ومكاني مرفوع ورأي مسموع وحريتي مطلقة. فهل نافعي ان أدع الطريق الذي قطعت أكثره إلى طريق أبدأ من جديد، وأن أعمد إلى رجلي الطليقتين فأضعهما في قيد من حديد؟

ص: 3

ولكن شوقي الصديق الشفيق لم يرضه هذا المنطق، فظل مشفقاً على من الحر حتى رحلت عن هذا البلد، فودعني راضيا وما كنت أدري وا أسفاه أنه وداع الأبد!

(القاهرة)

احمد حسن الزيات

ص: 4

‌اليهودية=الصهيونية=الشيوعية

للأستاذ نقولا الحداد

سألني الأستاذ حكمت على من بغداد عما إذا كان ثمة فرق بين اليهودية والصهيونية. . . اجل يا سيدي، الصهيونية يهودي واليهودي صهيوني ولا فرق، وإنما استنبطوا كلمة صهيونية لقوم أفاقين جاءوا من الآفاق إلى فلسطين لكي ينشئوا دولة صهيونية، أي يهودية، أي إسرائيلية. وكلمة صهيونية في الأصل كانت اسما لجبل أو تل في الجنوب الغربي من مدينة أورشليم (القدس) ثم أطلقت على كل أورشليم عاصمة فلسطين.

وإنشاء مملكة يهودية أو إسرائيلية هو أمنية كل يهودي سواء كان ساميا أم آريا. . . لما حكم فلسطين الولاة الرومانيون وخربوا هيكلها العظيم سنة 70 ميلادية تشتت اليهود في العالم. والآن يحل محل ذلك الهيكل الذي لم يبق منه طل، جامع قبة الصخرة. ولم يبق لليهود في أورشليم إلا جدار يبكون أمامه هيكلهم وماضيهم.

من ذلك الزمان إلى اليوم يتوق اليهود إلى مملكة فلسطين وإلى بناء هيكلهم فيها من جديد. أينما يكن اليهود يتمنوا هذه الأمنية ويبذلوا كل غال ورخيص في سبيلها. ولا يغرنك قول اليهودي إنه ليس صهيونيا؛ فإنما يقوله للتمويه فقط، إذ يخشى أن يتهم بأنه يخالف قوانين البلاد العربية في تحريم إرسال مال إلى الصهيونية في تل أبيب. وهم يرسلون الأموال من أمريكا جهارا ومن البلاد العربية سرا لهذا الغرض. وشفيق عدس الذي شنق في بغداد مثل من أمثلة الخونة الذين يهربون الأموال والعتاد إلى يهود فلسطين. فأينما رأيت يهوديا فقل إنه صهيوني، وإنه يتحين الفرص لكي يعمل للصهيونية.

بقي على العرب أن يعلموا - إذا كان الإنكليز والأمريكان لا يعلمون - أن الصهيونية أخت الشيوعية بل أمها، لأن اليهود الذين قبلوا الحكم القيصري كانوا كلهم يهوذا ما عدا لينين. ولما أنشئوا دولة البلشفية جحدوا الدين وطردوا الأكليروس النصارى واليهود والمسلمين من كنائسهم وجوامعهم وصاروا كلهم يدينون بدين كارل ماركس الاشتراكي، فلم تعد تفرق بين اليهودي وغير اليهودي، ولم تع د تعرف من هو اليهودي ومن هو المسلم. ولكن الذي كان في القلب بقى في القلب. وبقى اليهود يتحينون الفرصة لكي يملكوا روسيا ولو بصفة كونها اشتراكية. ولكن ستالين فطن لمؤامرتهم التي كانوا يدبرونها لكي يقلبوا سلطته فأباد

ص: 5

كثيرين منهم. ومن يعرفهم فلعل جروميكو وفنشنسكي منهم.

قد يظن بعض الناس أن اليهود لا يمكن أن يكونوا اشتراكيين أو شيوعيين لأنهم رأسماليون، والشيوعية نقيض الرأسمالية؛ ولكن فليعلم من لم يعلم أن اليهود كالحرباء يتلونون بكل لون لكي يصلوا إلى أغراضهم. فيكن اليهودي أن يكون أرستقراطيا أو ديمقراطيا ويهوديا أو مسلما أو نصرانيا. يمكن أن يكون أي شئ إذا كان يظفر بالسيطرة؛ فإذا كان اليهود اشتراكيين ثم قبضوا على زمام الحكم الاشتراكي أو الشيوعي العالمي، أفلا تصبح أموال العالم كلها في أيديهم؟ - هذا ما يسعون إليه الآن، وسيرى ستالين أو خلف ستالين أطال الله بقاءه أن الشيوعية صارت في قبضة الصهيونية. وحينئذ تصبح موسكو تحت سيطرة تل أبيب تتلقى أوامرها منها؛ وحينئذ تصبح أوربا كلها وبعدها أمريكا شيوعية، وكلها واقعة تحت سيطرة موسكو، وبالتالي تحت سيطرة تل أبيب. وكل آت قريب.

فهل يعلم الأمريكان أنهم هم يناهضون الشيوعية يخدمونها في تأييد دولة إسرائيل المزعومة؟

ص: 6

‌صديقي الأستاذ توفيق الحكيم

للأستاذ أنور المعداوي

أشكر الظروف الطيبة التي هيأت لنا أسباب اللقاء، وتلك اللحظات الممتعة التي جمعت بيني وبينك حول مائدة الأدب والفن تحدثني وأحدثك، وتصغي إلى وأصغي إليك، ونغترف معا من شتى الطعوم والألوان. . .

ولقيتني لقاء الصديق، وكأننا كنا على ميعاد، وأشهد لقد أكبرت فيك كثيرا من نواحي الشخصية الإنسانية، تلك التي كنت أجهلها قبل أن ألقاك. ولقد قلت لنفسي بعد أول لقاء: ليتني قد عرفتك من قبل، لتستقيم لي النظرة إلى فنك على هدى الخصائص الأصيلة في شخصيتك. . . ومع ذلك قد هيا لي هذا اللقاء أن أبلغ منتصف الطريق إلى الغابة، وأن أكشف الغطاء عن كثير!

وكان لقاء آخر طويت فيه الطريق كله حتى بلغت منتهاه، والفضل في ذلك منسوب إليك؛ لأنك حدثتني عن نفسك وعن فنك حديثا طويلا لمست فيه حرارة الصدق المنزه عن الأغراض.

لقد هاجمتك في الأيام الأخيرة مرة هنا ومرات هناك، وعلى الرغم من هذا كله فقد أدبك أن تشد على يدي، وأن تثني على قلمي، وأن تلقني لقاء الصديق. . . ويشهد الله أنني ما هاجمتك إلا لأنني أقدرككل التقدير، وأحمل لك في نفسي رصيدا مذخورا من الذكريات الغالية. أنت في عالم معدن نفيس، ومن حقي أن أزيل بيد الناقد ما علق بالمعدن النفيس من غبار الحياة. . .

هذا ما كنت أقوله لك من يلقاني معاتبا على موقفي منك، وكنت أزيد على ذلك قولي: لقد عودني توفيق الحكيم أن ألقاه في القمم، فإذا ما هبط مره عن مستواه، فمن حقي أن أثور عليه لأرده بهذه الثورة إلى مكانه الطبيعي!

قلت لك هذا فقدرت الدافع وشكرت القصد، وملأت نفسي إعجابا برحابة صدرك وسماحة طبعك، وتقبلك النقد بروح مثالية هي روح الفنان.

وخضنا أيها الصديق الكريم في حديث طويل خرج منه الأدب والفن بنصيب كبير، وخرجت منه (أخبار اليوم) بتلك الكلمة القيمة التي كتبتها على أثر لقائنا وبوحي من نقاشنا

ص: 7

حول طبيعة الفن ورسالة الفنان. . .

أما حديثنا، فقد التقينا فيه حول الكثير، وافترقنا حول القليل، والفضل في ذلك أيضاً منسوب إليك؛ لأنك حين رحت تقص على كثيراً من المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، تلك التي يستجيب لها قلمك ويخضع لها فنك، وضعت بين يدي كثرا من الوثائق التي يحتاج إليها الناقد، إذا ما أراد أن يقيم الميزان للعمل الفني مرتبطا بشخصية صاحبه، ومتصلا بأسباب النفس والحياة. . . ومن هنا حلت نظرة جديدة إلى فنك محل النظرة القديمة، تلك التي لم يكن أمامها لنتظر إليك غير طريق واحد، كل معالمه سطور وكلمات!

ما قصدت من وراء هذا المقال إلى أن أسجل ما دار بيني وبينك من نقاش حول طبيعة الفن ورسالة الفنان، وحول أمور أخرى تطرق إليها الحديث، لأنها تتصل بنقاش من قريب أو من بعيد، إن لذلك كله مناسبة أخرى أرجو أن أعرض فيها لكثير مما اتفقنا أو اختلفنا عليه. . .

كل ما أقصد إليه هو أن أكشف لقراء الرسالة عن ناحية من نواحي شخصيتك الأدبية والإنسانية تركت أثرها البعيد في نفسي؛ ومن حقك على أن أشير إليها في كثير من التقدير والإعجاب، وهي دعوتك المخلصة إلى توثيق عرى الصداقة في الأدب، وإيمانك العميق بجدوى الصفاء بين الأدباء. . .

واذكر أنك كتبت في هذا الموضوع مرة في (الرسالة)، وتعرضت في سبيل تلك الغاية الكريمة لهجوم بعض أصحاب الظنون ممن لم يؤمنوا بصدق دعوتك!

أما أنا، فقد لمست حرارة إخلاصك ونبل مقصدك في موفقين لن أنساهما لك: أولهما موقفك من الصديق النبيل صاحب (الرسالة) حين قلت فيه كلمة حق لا أدري لم غصت بهاحلوق فلم تنطق بها شفاه! وثانيهما موقفك من الدكتور طه حسين، حين لم يجد كلمة عزاء تنسيه وحشة الطريق وتنكر الصديق؛ لقد وفقت وحدك لتصافحه بروحك من وراء الآماد والأبعاد. . .

إنك بكلمتيك هاتين قد أقمت الدليل على أن الدنيا ما زالت بخير، وأن أصحاب الفضل لن يعدموا من يقول فيهم كلمة الحق، ولو حال بينها وبين الجهر بها كثير من الدوافع والأغراض!

ص: 8

لقد كان حديثنا في آخر لقاء يدور حول هذا الموضوع لا يكاد ينأى عنه حتى يعود إليه. . . ولقد قالت لك فيما قلت: ليتنا يا صديقي نملك كثيرا من أمثالك؛ أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون وجه الحق، ولكن أين هم؟ أين من يطلق رأيا كرأيك بكلمة صدق تقال في الزيات؟ وأين من يرفع صوتا كصوتك بكلمة عزاء توجه إلى طه؟! لقد انتظرت رجع الصدى لما كتبت، فضاع الأمل وخاب الرجاء! أما أنت فقد أخجلتني حين قلت لي: يا أخي، حسبي أنك تقف إلى جانبي. . .

وحين رحت أقص عليك بعض ما أعلم وتعلم من جدوى الصداقة على الأدب، متمثلا ببعض النماذج الإنسانية في أدب العالم، عقبت على ذلك بقولك: يا أخي، إن الأدب الرفيع حق كله، وخير كله، وجمال كله. . . فلم نشوه الحق بالضغائن، ونطمس الخير بالسخائم، ونفرش طرق الجمال بالأحقاد؟! إننا نقبل هذا في دنيا السياسة، لأن رجالها قوم مشدودون إلى الأرض، ينظرون إلى يومهم وما فيه من أسلاب، ولا يتطلعون إلى غدهم وما فيه من أمجاد!

أما في دنيا الأدب، فما أوسع الشقة وأبعد الفارق، إن رجال الأدب قوم تربطهم بالسماء خيوط إلهية غير منظورة، وما أحرى المتصلين بالسماء أن يكونوا قدوة حسنة لهذا الجيل الصاعد في صفاء النفس ونقاء السريرة وشرف الغاية. . . .

ترى لو فقد الجيل الصاعد إيمانه بنا، نحن الذين أقمنا من أنفسنا هداة ندله على مواطن الخير ونرشده إلى معالم الطريق، فماذا يبقى له ليؤمن به؟!

لو تحقق الصفاء في الأدب لما أنكر حق من الحقوق، ولما ضاع قدر من الأقدار، ولما اختل في تحديد القيم ميزان!

يا صديقي توفيق، مرة أخرى أعود فأقول لك: ليتنا نملك كثيرا من أمثالك، أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون فيما يقولون وجه الحق.

أنور المعداوي

ص: 9

‌مسألة تاريخية

للدكتور جواد علي

بهذا العنوان حرر الأستاذ ساطع بك الحصري مقالة نشرها في مجلة الثقافة كانت بمثابة رد على ما كتبه (شمس الدين كون التاي) أحد الأتراك في مجلة (مجمع التاريخ التركي) التركية بمناسبة الاحتفال التذكاري الذي أقيم في سنة 1937 في كابل وطهران واستانبول لمناسبة مرور تسعمائة عام على وفاة الفيلسوف الحكيم (ابن سينا) وقد تنازع على أصله الإيرانيون والأتراك والأفغان وكتبوا في ذلك الكتب والمقالات. كل يدعي أنه منهم. ولم يتنازع النا عليه يوم كان حياً؛ ولكنها الدنيا لا تعرف قيم الأشخاص إلا بعد الوفاة

وقد تعرض الأستاذ (أبو خلدون) في جملة ما تعرض له من نقاط إلى موضوع (الأتراك) وأثرهم الثقافي في البصرة و (معبد الجهني) وأثره في (الجبر والاختيار) وعلم الكلام. فقد زعم (شمس الدين كون التاي) في جملة ما زعمه أن (عبيد الله بن زياد الذي كان قد ولى على خراسان مأموراً للاستيلاء على ما وراء النهر في عهد الخليفة معاوية كان قد أعجب إعجابا شديدا بالثقافة العالية والمهارة العسكرية التي يتحلى بها أهل بخارى فانتخب من بينهم ألفي شاب من المهذبين المثقفين، وأرسلهم إلى العراق بغية جعلهم معلمين للعرب وأسكنهم البصرة. وإن هذه المعلومات التي ينقلها لنا أقدم مؤرخي الإسلام البلاذري تحل اللغز الذي كان يكتنف مسألة منشأ الحركة الفكرية الأولى في الإسلام).

وقد تساءل الكاتب التركي: لماذا نشأت هذه الحركة في مدينة البصرة أولا؟ فأجاب (لأن الذين أثاروا هذه الحركة الفرية الأولى كانوا هؤلاء الشباب المنقولين من بخارى هم وأولادهم، وإن الشخصين اللذين كانا وضعا الحجر الأساسي في بناء المذهبين المتعارضين في اللاهوت كان كلاهما من أهل ذلك القطر. إن معبد الجهني الذي أسس المذهب القائل بحرية الإرادة البشرية كان قد ولد في بلدة جهينة الكائنة في نواحي جرجان وطبرستان، كما أن جهم بن صفوان الذي أسس المذهب المعارض لذلك هو أيضا كان تركيا من أهل بلخ وكان قد تقدم بآرائه هذه لأول مرة في مدينة (ترمذ) من ديار الأتراك).

ولقد لفتت هذه الدعاوى نظر الأستاذ (ساطع الحصري) - وهو من المحامين عن الثقافة العربية الذابين عنها - فراجع المصادر التي استند عليها (شمس الدين) فلم يجد فيها ما

ص: 10

يشير إلى ما ذهب إليه هذا الكاتب من نقل المثقفين والعلماء الأتراك من طبرستان إلى البصرة لا تصريحا ولا تلميحا وإنما تحدث عن سبى من السبايا الذين نقلوا كالعادة من طبرستان إلى جنوب العراق. وبهذا دل المؤرخ التركي على أنه لم يكن يستند في قوله هذا على أي سند أو دليل.

ثم عرج (ساطع الحصري) على قضية (معبد الجهني) ونسبته إلى الأتراك فاستعرض الآراء في (جهينة) وفي نسبة (معبد) فيها ثم خرج من كل ذلك إلى أن (الجهني) من (جهينة) القبيلة العربية المعروفة؛ وقد استند في نهاية حديثه إلى ما رواه السمعاني في كتابه (الأنساب) حيث قال: الجهني - هذه النسبة إلى جهينة وهي من قضاعة: نزلت الكوة ومنها محلة ينسب إليها جماعة. . . منهممعبد بن خالد الجهني كان يجالس الحسن البصري، وهو أول من تكلم بالبصرة في القدر. فسلك أهل البصرة بعده مسلكه فيها).

وما كان الأستاذ - في نظري - بحاجة إلى إثبات أو نفي نسب (معبد) وتعيين منزلته في العرب أو الأتراك. وفي القرآن الكريم والحديث النبوي، وفي خطب الصحابة مثل خطب الإمام علي المدونة في نهج البلاغة، وفي أسئلة الصحابة للرسول، وفي الأسئلة الكثيرة التي كان يوجهها العراقيون إلى زعيمهم الإمام عن الحرب والفتنة، أكان ذلك بعلم الله وقضائه وفي بحث التابعين في هذه المواضيع قبل نشوء (معبد) وقبل تفوه (جهنم ابن صفوان) زعيم (الجهمية). نعم في كل ذلك ما يغنى عن الرد على صاحب هذه المقالة. اللهم إذا زعم (شمس الدين) أن القرآن تركي وأن الرسول تركي وأن (الحديث النبوي) تركي بلغة التاي).

وقد أعادت هذه المقالة إلى ذهني ذكريات (المؤتمر اللغوي الثاني) الذي عقده الأتراك في الأستانة بين 18 - 23 آب والذي رأسه المرحوم (أتاتورك) وحضرة ما يزيد على (600) شخص من أرقى طبقات الأتراك كان منبينهم فخامة الرئيس الحالي (عصمت إينونو) وكاظم باشا رئيس المجلس الوطني الكبير ورجب بك السكرتير العام لحزب الشعب.

وقد افتتح المؤتمر معالي وزير المعارف في ذلك العهد فذكر أن الأمة التركية أقدم الأمم تمدناوحضارة، وأنها هي التي نقلت الحضارة من أواسط آسيا إلى أوربا الشرقية والشرق الأدنى، فأصبحت سببا في تحضر الأمم الأخرى وتمدنها. وادعى أحمد جواد بك أ؛ د

ص: 11

أعضاء المؤتمر أن اللغات الهندية والجرمانية والسلافبة واليونانية واللاتينية والقفقاسية والفنية (لغة فنلندة) هي من أصل يرجع إلى اللغة التركية القديمة المسماة لغة (التاي) وهي لغة الأتراك القديمة.

وتكلم عضو آخر هو (نعيم حازم بك) عن (علاقة اللغة السامية) فزعم أن المدينة التركية كانت بمثابة خميرة للمدنيات العالمية، وأن اللغة التركية كانت الأصل لجميع اللغات، وأن الأقوام السامية إنما أصبحت ذوات لغات واسعة غنية باحتكاكها بالأتراك. وضرب مثلا على ذلك اللغة العربية فقال إن العرب كانوا قد استمدوا كثيرا من الكلمات من اللغة التركية تصرفوا بها وعربوها وصقلوها في جاهليتهم وفي أيام إسلامهم، وجاء بأحد عشر قاعدة في كيفية أخذ العرب قديما للكلمات التركية وتعريبها لها. وذكر أمثلة على هذه القواعد.

وأيد هذه النظرية لغوي آخر هو (يوسف ضياء بك) نائب اسكيشهر إذ بحث عن الكلمات التي انتقلت من لغة (التاي) أي اللغة التركية القديمة إلى اللغات السامية ولغة العرب على الأخص.

وساقت العاطفة بعضهم إلى الإدعاء بوجود علاقات قوية بين لهجة (مايا) في المكسيك ولغة الأتراك وطلبوا لذلك الاهتمام بدراسة هذه اللغة ودراسة لغة أخرى تشبهها هي لغة (تولنك) لمعرفة أنساب الأتراك والحصول على كلمات تركية منسية من جهة أخرى.

وبعد فإني أعتقد أنك بعد أن وقفت على هذه الآراء الرسمية المجملة التي أخذتها من المحضر الرسمي للمؤتمر سوف لا ترى في مزاعم (شمس الدين) شيئا كثيرا بالنسبة إلى تلك المزاعم.

ظن أولئك الذين أرادوا إحياء الأمة التركية أن الإحياء يكون عن طريق التبجح بالماضي والتباهي بالأجداد والترفع عن الشعوب الشرقية التي ساهمت في تكوين التاريخ التركي، وطرد الكلمات العربية والفارسية التي تمثل التفاعل العقلي بين الأتراك وبين العرب والفرس، والاستعاضة عن تلك الكلمات بكلمات فرنسية، فلم يزدهم ذلك في نظر الغربيين منزلة، ولم تخرجهم تلك المقالات الطويلة العريضة من عالم التفكير الشرقي، ولم يجعلهم التاريخ الذي ادعوه لهم أمة من الأمم المعظمة التي لها ي مجلس الأمن وفي المجالس الدولية كرسي ثابت وصوت مسموع. لا زالت تركية الحديثة التي ظن زعماؤها أنها

ص: 12

ستأخذ مكانها تحت الشمس بابتعادها عن العرب والشرق الأدنى، لا زالت في نظر الغربيين تركية القديمة لا يحسب لها حساب إلا عند النظر في كفة الميزان وفي أهميتها من حيث أنها بقرة حلوب يستفاد منها؛ لأن المنزلة لا تأتي عن طريق التبجحبالأجداد وبأجداد الأجداد وبالابتعاد الناس والانضمام إلى السباع إذا لم تكن لديه قوة السباع. والذي يتكل على الماضي ويترك الحاضر ولا يعمل له، يهمله الزمان ويتركه يعيش في عالم الماضي. فلنعمل بعقلية الحاضر ولنجعل أنفسنا أقوياء حقا، أقوياؤ في تفكيرنا وفي صناعتنا وفي معاملنا ولنقدم على علوم الطبيعة التي استبدلت بالحديد الذرة، حينئذ يقول العالم انهم عقلاء وأنهم ناس وأن لهم شأنا بين الناس، وحينئذ يقول العالم إن تاريخهم كان خير تاريخ وأنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.

(دمشق)

جواد علي

ص: 13

‌مرصد مراغة ومكتبتها

اللذان شيدهما نصير الدين الطوسي في بداية العصر المغولي

(صور لدنيا العرب والإسلام في ذلك العهد الرهيب)

للأستاذ ضياء الدخيلي

يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان في كتابه (تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك) الذي نشرته مجلة (المقتطف): إن نصير الدين الطوسي أحد الأفذاذ القليلين الذين ظهروا في القرن السادس للهجرة، وأحد حكماء الإسلام المشار إليهم بالبنان وهو من الذين اشتهروا بلقب (علامة). ولد في بلدة طوس سنة 597هـ الموافقة 1201م ودرس العلم علي كمال الدين بن يونس الموصلي وعين المعين سالم بن بدران المعتزلي الرافضي، وكان ينتقل بين قهستان وبغداد وتوفي سنة 682هـ ببغداد حيث دفن في مشهد الكاظم.

ويقال إن الطوسي نظم قصيدة مدح فيها الخليفة العباسي، وإن أحد الوزراء رأى فيها ما ينافي مصلحته الخاصة فأرسل إلى حاكم فهستان بخبره بضرورة مراقبته - وهكذا كان - فإنه لم يمضي زمن إلا والطوسي في قلعة الموت، حيث بقى فيها إلى مجيء هولاكو في منتصف القرن السابع للهجرة. وفي هذه القلعة أنجز أكثر تأليفه في العلوم الرياضية التي خلدته وجعلته علما بين العلماء. (وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو وكان يطيعه فيما يشير به عليه والأموال في تصريفه. . .) وقد عهد إليه هولاكو مراقبة أوقات جميعالممالك التي استولى عليها.

عرف الطوسي كيف يستغل الفرص فقد انفق معظم الأموال التي كانت تحت تصرفه في شراء الكتب النادرة وبناء مرصد مراغة الذي بدئ في تأسيسه سنة 657هـ. وقد اشتهر هذا المرصد بآلاته وبمقدرة راصديه. أما آلاته فمنها (ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض، ودائرة معدل النهار، ودائرة منطقة البروج، ودائرة العرض، ودائرة الميل. والدائرة الشمسية التي يعرف بها سمت الكواكب) وأما عن راصديه فقد قال الطوسي: (. . . أني جمعت لبناء المرصد جماعة من الحكماء منهم المؤيد العرضي من دمشق والفخر المراغي كان بالموصل والفخر

ص: 14

الخلاطي الذي كان يتفليس والنجم دبيران القزويني وقد ابتدأ في بنائه سنة 657 بمراغة. . .) ويروى كتاب آثار باقية أن محي الدين المغربي كان أيضاً أحد أعضاء لجنة المرصد، وكيفية مجيئه هي ان هولاكو لما استولى على حلب مقر حكومة الملك الناصر سمع رجلا يصيح أنا منجم، فأمر بالإبقاء عليه وبإرساله إلى مراغة حيث يقيم نصر الدين.

أما المكتبة التي أنشأها في المرصد فقد كانت عظيمة جدا أكثرها منهوب من بغداد والشام ولجزيرة، ويقدر ما كان فيها بـ400000 مجلد مكتوبة باليد. ونصير الدين من الذين كتبوا في المثلثات والهيئة والجبر وإنشاء الاسطرلابات وكيفية استعمالها

ومراغة التي أقام بها الطوسي المرصد والمكتبة يحدثنا عنها ياقوات الحموي (المتوفى سنة 626هـ) في المعجم أنها بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان طولها 13 73 درجة وعرضها 13 37 درجة؛ قالوا وكانت المراغة تدعى (افرازهروذ) فعسكر مروان بن محمد بن الحكم وهو وجيلان بالقرب منها وكان فيها سرجين (زبل) كثير، فكانت دوابه ودواب أصحابه تتمرغ فيها، فجعلوا يقولون ابنوا قرية المراغة، وهذه قرية المراغة فحذف الناس القرية وقالوا مراغة، وكان أهلها قد لجأوا إلى مروان فابتناها وتألف وكلاؤه أهلها فكثروا فيها وعمروها. ثم إنها صودرت مع ما صودر من ضياع بني أمية وصارت لبعض بنات الرشيد. فلما عاث الوجناء بن رواد الأزدي وافسد وولى خزيمة بن أرمينية وأذربيجان في خلافة الرشيد بني سورها وحصنها ومصرها وأنزل بها جندا كثيفا. فلا ظهر بابك الخزمي لجأ الناس إليها فنزلوها فسكنوها وتحصنوا فيها، ورم سورها في أيام المأمون عدة من عماله، ثم نزل الناس بربضها (في المنجد الربض على وزن الذهب هو ما حول المدينة من بيوت ومساكن وهو ايضا سور المدينة). وينسب إلى المراغة جماعة من المحدثين والفقهاء وبها آثار ومدارس وخانقاوات حسنة، وقد كان فيها أدباء ومحدثين وفقهاء وقد ابتنى الطوسي (كما يحدثنا ابن شاكر في فوات الوفيات، وقد توفى عام 764هـ أي بعد وفاة الطوسي باثنين وتسعين عاما) بمراغة قبة ورصداً عظيما (واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء وملأها من الكتب التي نبهت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على اربعمائة ألف مجلد وقرر بالرصد المنجمين والفلاسفة وجعل له الأوقاف.

ص: 15

وكما يحدثنا ابن الفوطي في كتابه (الحوادثالجامعة) أن الطوسي استمر مدى حياته يجمع لمكتبة المراغة الكتب، فقد نقل أن الطوسي ورد بغداد عام 662هـ وجمع من العراق كتبا كثيرة لأجل المرصد الذي وضعه بمراغة عام 657 هـ وعين فيه جماعة يتولون عمله إلى أن أنجز سنة 672 (راجع حوادث سنة 675 من كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابقة لابن الفوطي)

وابن الفوطي هذا هو أمين مكتبة مراغة. قال العزاوي في كتابه (العراق بين احتلالين) نقلا عن شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي: إن ابن الفوطي صاحب الكتاب المعروف (الحوادث الجامعة) أسر في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف وزير الملاحدة فلازمه واخذ عنه علوم الأوائل وبرع في الفلسفة وغيرها وأمده بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم واشتغل على غيره في اللغة والأدب حتى برع ومهر في التاريخ والشعر وأيام الناس، وأقام بمراغة مدة ولى بها كتب الرصد بضع عشرة سنة وظفر بها بكتب نفيسة وحصل من التواريخ ما لا يزيد عليه. وفي الوقت الذي يثني فيه بعض المؤرخين على جهود الطوسي في جمع تلك الكتب من التلف ولم شتاتها في مكتبة مراغة كما ترى العزاوي يقول في ترجمة الطوسي ص278 وهنا تقول إن أعمال هذا الرجل مصروفه إلى مناصرة العلماء والحكماء وأنه حينما ورد بغداد عام 662هـ تصفح أحوال بغداد ونظر أمر الوقوف والبحث عن الإجناد والمماليك، وفي هذه المرة جمع من العراق كتبا كثيرة لأجل المرصد الذي وضعه بمراغة فها أنت تراه يشايع ابن الفوطي في أن تكوين مكتبة مراغة ورفع قواعدها وجمع الكتب لها كان من عمل الطوسي وأن الأستاذ محمد كرد علي في كتابه (الإسلام والحضارة العربية) ج1ص302 بعد أن يعرض مأساة سقوط بغداد بصورة مؤلمة ويستعرض نهب نفائس دار الخلافة العباسية يذكر من ذلك نهب مكتبات بغداد وغيرها قال: (وبينما كانت في هذا الشرق القريب كتلة صغيرة تدافع الصليبيين عن سرة بلاد الإسلام مصر والشام فتخرب مدن وحصون وتندك معالم كان جنكيز يخرب في أواسط آسيا بلاد المسلمين. ولم تكد تدفع الشام عنها عادية الحروب الصليبية حتى جاء هولاكو بغداد يخربها ويقتل الخليفة المستعصم ويقضي على جلة الفقهاء ورجال الدولة بضع السيف في دار السلام أربعين يوما ويستخرج الأموال والتحف بأنواع

ص: 16

العذب ويحرق معظم تلك المدينة الساحرة وزادت عدة القتلى عن ثمانمائة ألف عدا الأطفال ومن هلكوا في السراديب والقنى والآبار وأحرق قبور الخلفاء ونبش عظامهم وبنى بكتب العلماء إسطبلات الخيول وطوالات المعالف عوضا عن اللبن. وقيل إن ماء دجلة تغير لونه لكثرة ما ألقى فيه التتر من الكتب والأوراق، وقيل إنه أقام بكتب العلم ثلاثة جسور على دجلة هذا عدا ما نهب من البلاد التي احتلها فملافي (مراغة) خزانة عظيمة من الأسفار نهبها من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد.

أما عن المرصد فإن محمد باقر الخونساري في كتابه (روضات الجنات) يحدث نقلا عن كتاب (محبوب القلوب) لقطب الدين الأشكوري وعن صاحب (مجالس المؤمنين) إن هولاكو خانبعد أن قضى على الخلافة العباسية ببغداد أمر بالرصد واختار محروسة مراغة في أعمال تبريز لبناء المرصد فرصد فيه، واستنبط الطوسي عدة من الآلات الرصدية، وكان من أعوانه على الرصد من العلماء وتلاميذه جماعة أرسل إليهم الملك هولاكو خان، منهم العلامة قطب الدين محمود الشيرازي صاحب شرف الأشراف والكليات وهو فاضل حسن الخلق، ولسيرة مبرز في جميع أجزاء الحكمة محقق مدقق مفيد ومستقبله في صحبة الطوسي، ومنهم مؤيد الدين العرضي الدمشقي وكان متبحرا في الهندسة وآلات الرصد توفي بمراغة فجأة سنة 604، وفخر الدين كان طبيبا فاضلا، حاذقا ونجم الدين القزويني وكان فاضلا في الحكمة والكلام، ومحي الدين الحلاطي وكان فاضلا مهندسا في العلوم الرياضية، ومحي الدين المغربي وكان مهندسا فاضلا في العلوم، وضبطوا حركات الكواكب، ومات المحقق الخواجه نصير الدين وبان النقص في كتاب الزيج ولنقصهم عن ذلك لم يتموه وقد أضاف إليهم عباس بن محمد رضا القمي في كتابه (الكني والألقاب) نجم الدين الكاتب البغدادي قال وكان فاضلا في أجزاء الرياضي والهندسة وعلم الرصد.

ونقل ابنشاكر في فوات الوفيات وصلاح الدين خليل ابن أيبك الصفدي في الوافي بالوفيات (ج 1ص112) قلا شمس الدين الحريري (وفي الوافي أنه الجزري) قال حسن ابن أحمد الحكيم صاحبنا سافرت إلى مراغة وتفرجت في الرصد ومتوليه صدر الدين على بن الخواجة نصير الدين الطوسي وكان شابا فاضلا في المنجم والشعر بالفارسية، وصادفت شمس الدين ابن المؤيد العرضي وشمس الدين الشرواني والشيخ كمال الدين الأيكي وحسام

ص: 17

الدين الشامي فرأيت فيه آلات الرصد شيئا كثيرا منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض ودائرة معدل النهار ودوائر منطقة البروج ودائرة العرض ودائرة الميل ورأيت الدائرة الشمسية التي يعرف بها سمت الكواكب وإسطرلابا تكون سعة فطره ذراعا وإسطرلابات كثيرة وكتبا كثيرة.

وأخبرني شمس الدين العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا الله تعالى خارجا عن الجوامك (المرتبات) والرواتب التي للحكماء والقومة (يقصد القائمين على الأمر والقيم على الأمر هو متوليه كقيم الوقف ونحوه).

وإن هذه الزيارة التي قام بها حسن بن احمد الحكيم لا شك في أنها كانت بعد وفاة الطوسي وتولى شئون لرصد ابنه صدر الدين وكذلك بعد وفاة مؤيد الدين العرضي وأخذ مكانه من قبل ابنه شمس الدين كما سنبين ذلك عند نقل ما ترجمته أنا من كتاب جورج سارتون (المقدمة إلى تاريخ العلوم) ولنصغ إلى الطوسي نفسه يحدثنا عن المرصد فقد قال في كتابه (الزيج الا يلخان) إنني جمعت لبناء المرصد جماعة من الحكماء منهم المؤيد العرضي من دمشق والفخر المراغي كان بالموصل والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس والنجم دييران القزويني وقد أتبدأ في بنائه سنة 657 بمراغة والأرصاه التي بقيت قبلي وعليها كان الاعتماد دون غيرها هي رصد أبرخس وله مذ بني (1400) سنة وبعده رصد بطليموس بـ (285) سنة وبعده في ملة الإسلام رصد المأمون ببغداد وله (430) سنة والرصد البتاني في حدود الشام والرصد الحاكمي بمصر ورصد بني الأعلم ببغداد ولهما (250) سنة.

وقال الأستاذون إن أرصاد الكواكب لا تتم في أقل من ثلاثين سنة لأن فيها تتم دورة هذه السبعة (الكواكب) فقال هولاكو أجهد في أن رصد هذه السبعة يتم في اثنتي عشرة سنة قلت اجتهدت في ذلك.

قال ابن شاكر وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه كثير من تلامذتهوأصحابه فأقام ببغداد ومات وخلف ثلاثة أولاد.

وقد نقل العزاوي في كتابه (تاريخ العراق بين احتلالين) في الملحق ناقلا عن كتاب تركي (إسلامده تاريخ ومؤرخلر) إن الطوسي حين ورود هلاكو إيران اتصل بعلماء الصين وأنه

ص: 18

يأمر من هولاكو اقتبس الزيج الايلخاني من عالم صيني جاء إلى ايران يدعى (توميجي) وكان قد استفاد منه كثيرا مما يتعلق بقواعد النجوم فكان بينهما تبادل علمي واتصال وثيق

(البقية في العدد القادم)

ضياء الدخيلي

ص: 19

‌طرائف من العصر المملوكي:

البردة وأثرها في الأدب العربي

للأستاذ محمود رزق سليم

البردة هي القصيدة البارعة المشهورة التي نظمها شرف الدين البوصيري المتوفى عام 695 هـ في مدح النبي عليه الصلاة والسلام. وقد ولد البوصيري عام 608هـ في (دلاص)، ونزح منها صغيرا مع أمه إلى (بوصير) وكلتا القريتين من بني سويف. وقد نسب البوصيري وأهل الإسكندرية الآن يقولون:(الأباصيري).

وقد عاش البوصيري متكسبا بالكتابة في دواوين الدولة، متنقلا فيها من مدينة إلى أخرى وعاني في هذه الدواوين كثيرا من عنت كتابها ورؤسائها. وقد سجل ألوانا من فسادهم في إحدى قصائده، فأصبحت بذلك ذات قيمة تاريخية ثمينة.

وكان بالبوصيري ميل إلى النسك والزهد، ويبدو أن هذا الميل هو الذي أغرى به رؤساءه فمنعوه أحيانا مرتبه. وقد كانت خاتمة مطافه بالإسكندرية حيث مات ودفن وبها قبره ومسجده الشهير.

والبوصيري من أصل مغربي، يمت إلى صنهاجة إحدى القبائل البربريه بالمغرب الأقصى ولكنه مصري المولد والإقامة. وقد قرض الشعر حتى عد من مشهوري شعراء مصر في القرن السابع الهجري ولم يكسب هذه الشهرة من لفظ رائع أو أسلوب بارع أو معان يلفتك جمال صورتها، ويأسرك رونق جدتها؛ ولكنه كسبها من خصوصيات ومزايا ندرت نظائرها في غيره من الشعراء. . . كتسجيلاته الشعرية لبعض حوادث عصره، وصورة الاجتماعية.

والبردة أحد هذه الخصوصيات. فإن تلك الصوفية التي بدت فيها وفي غيرها من مدائحه النبوية، أثر من آثار الحياة الروحية التي نزع إليها بعض الناس في هذا العصر امتدادا لنظيرتها في العصر الأيوبي الذي عاش فيه ابن الرفارض الشاعر المتصوف المشهور. وقد كانت تلك الحياة بمثابة رد فعل لما انتشر بين المسلمين من مفاسد كثيرة. غير أن ابن الفارض اتجه بشعره إلى الغزل الإلهي، بينما انصرف البوصيري إلى الغزل النبوي. فبردته بما فيها من وجد وحنين ولهفة وشوق، ودموع وذكر ديار، أقرب إلى باب الغزل

ص: 20

منها إلى باب المديح أو الشعر الذهبي. وهذا هو الفن الشعري الجديد الذي ولده البوصيري في الشعر العربي، فكان بذلك فذا بين شعراء المديح النبوي من لدن الأعشى وكعب وحسان ومن بعدهم.

ونزعة الحب التي نلمسها في نفس البوصيري تفسر لنا في يسر وسهولة تلك الأوصاف التي تشهدها في ثنايا البردة وغيرها، يقدس بها الرسول، ويضفي عليههالات من السمو، وبخاصة إذا قرن اسم الكريم باسم غيره من أنبياء وملائكة، وقد يعيبها عليه بعض النقاد ويعتبرونها مبالغات لا داعي إليها، بينما هي في قرارة نفس الشاعر، أضيق الألفاظ وأيسر الأساليب التي تعبر عما فيها من إحساس صادق وشعور دافق، هو وليد الحب الخالص الصراح الذي لا شائبة فيه. فقدسه المحبوب والتسامي به. أبسط مظاهر الحب الصادق.

لم يكن البوصيري - فيما اعتقد - شاعراً طماحاً إلى الشهرة يسعى إليها عن طريق شعره، ولذلك لم يتكسب به، ولم يسع إلى باب من أبواب الرؤساء. وكذلك لم يكن يعنيه أن يكون شعره جيداً بديع النظم رائع الأسلوب، بقدر ما كان يعنيه أن يكون صدى لما في نفسه، ورجعا لهجسات فؤاده. فأغلب شعره شعر شخصي يسجل خواطره الشاعر وأحاسيسه النفسية. وقد خرج البوصيري مرة عن طبيعته، فنظم قصيدة غزلية وروى حكاية له مع جارية حسناء، فدل ما فيها من الغزل الساذج وحيله البدائية، على أن الرجل مقلد في غزله، أن الغزل ليس أصيلا في نفسه. - أما غزله النبوي وبخاصة في البردة، فإن شخصيته تبدو فيه ناطقة وثابة في كل بيت. فالبردة منظومة نفسية حاشت بها نفس الشاعر في الباطن، وعلق عليها آمالا، قبل أن يتحرك بها لسانه ويجنح إليها في الظاهر - وهذا أيضاً يفسر لنا الرؤى التي رآها البوصيري وأصحابه، متصلة بها هذا الرجل أن يعالج نفسه من فالجه الذي أصابه. فإنه لما حار في علاجه فكر في نظم قصيدة نبوية، يستشفع بها الله أن يعافيه. فنظمها وكرر إنشادها ثم بكى ودعا وتوسل ونام، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام في نومه فمسح بيده المباركة على مكان دائه، وألقى عليه (بردة) فانتبه من نومه وفيه نهضة وأحس بالشفاء.

ونحن لا نرتاب في صحة الأحاديث النبوية المتصلة برؤيته الشريفة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، ومن رآني في

ص: 21

المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وبعد فهل كان البوصيري كاذبا في دعوى الرؤيا؟ هذه مسألة يخشى من ينصف نفسه أن يجازف بالحكم فيها على غير ظاهرها، وبخاصة أن البوصيري يعلم أن من كذب على النبي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.

ليس هناك ما يمنع البوصيري من أن يرى النبي في نومه، وليس هناك كذلك ما يمنع من أن يشفى من فالجه بسبب قصيدته؛ وقصيدة البردة - وبعضهم يسميها البرءة - لا تشفى ولا تبرئ من سقم. فالله سبحانه وحده واهب البرء والشفاء. ولكن إذا اخلص مريض النية، واتجه إلى الله بقلب مؤمن ودعاه واستشفع بالنبي عليه السلام، أو بتلاوة القرآن، أو قراءة البردة او نحوها، فليس هناك ما يمنع أن الله يستجيب الدعاء. والمريض في حاجة قصوى إلى مثل هذه المعنوية يعين بها طبيبه على علاجه.

وأطلق لفظ (البردة) على قصيدة البوصيري، لما لابس نظمها والاستشفاع بها من ذكر بردة النبي عليه السلام. وقد روى أن الصاحب بهاء الدين بن حنا - وكان صديقا للبوصيري - أحتفظ نسخة من القصيدة لديه. ثم أصيب سعد الدين الفراارقي برمد اشرف منه على العمى، فرآى في المنام هاتفا يدعوه إلى الصاحب بهاء الدين ليأخذ منه (البردة) ويضعها على عينيه فيشفى بإذن الله، فذهب إلى الصاحب وطلب منه (البردة)، فقال له الصاحب (ما أعرف عندي من أثر النبي صلى الله عليه وسلم بردة). ثم تذكر قصيدة البوصيري، فقال لعلها المراد بالبردة، وأعطاه إياه. ومن ثم سميت القصيدة بالبردة.

وبعد، فأبيات البردة نحو مائة وستين بيتاً. وهي أجود مدائح البوصيري وأسلسلها أسلوبا وأرقاها عبارة وأكثرها رونقا، وأجمعها أغراضاً وأروعها أمثالاً وأوفرها معاني تنشدها العامة وتكرر إنشاءها في مناسبات كثيرة تيمنا بذكر ممدوحها، ومن شأن التكرار في مثل هذه المناسبات أن يعقب الملل، ويورث النفور، ويبعث على الإبتذال، ومع ذلك لا تزال القصيدة محبوبة أثيرة عند العارفين.

وقد تناول الشاعر فيها - فضلا عن ذكر الديار والأحبة ووصف الشوق والحنين، والنزع الصوفي والدعوة إلى الزهد والتحذير من الهوى إلى غير ذلك - موضوعات السيرة النبوية وما امتاز به الرسول الكريم من عظيم الصفات، وهذه الموضوعات منثورة في

ص: 22

كتب السيرة، فليس الشاعر هنا فضل ابتكار، وإنما فضله في نظمها هذا النظم السائغ حتى انحدرت إلى الأسماع جميلة الإيقاع، ورددها اللسان رائعة الألحان. وقد زودها الشاعر ببعض الحلي البديعة التي لا يمل وسواسها ولا يثقل جرسها.

قال في المطلع:

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من أضم

فما لعينيك إن قلت اكففا هتما

وما لقلبك إن قلت استفق يهم

وقال في التحذير من هو النفس:

وخالف النفس والشيطان واعصهما

وإن هما محضاك النصح فاتهم

ولا تطع منهما خصما ولا حكما

فأنت تعرف كيد الخصم والحكم

وقد تناول الحديث عن (النفس) في عدة أبيات تصلح للدراسة النفسية، يتناول فيها الدارس مسألة الغرائز وتربيتها، والعادات وتكوينها، بما لا يقل في جملته عن الدراسات النفسية الحديثة. ومن هذه الأبيات قوله عن النفس بعد أبيات عن المشيب:

من لي برد جماح من غوايتها

كما يرد جماح الخيل باللجم

فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها

إن الطعام يقوى شهوة النهم

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

ومن أبياته في وصف الرسول عليه السلام قوله:

ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى

أن اشتكت قدماه الضر من ورم

وشد من سغب أحشاءه وطوى

تحت الحجارة كشحاً مترف الأدم

وراودته الجبال الشم من ذهب

عن نفسه فأراها أيما شمم

وبعد، فإن الحديث لا يتسع لإيراد أبيات هذه القصيدة الفريدة، التي كان نظمها فتحا مبينا في الأدب العربي، أفاء عليه ثروة لولا هـ ما فتحت مغالق كنوزها. لا تغلو في ذلك ولا نبالغ. والحق أ، البردة بحاجة إلى رسالة مستقلة تتحدث عنها وعن أثرها، وقد تناولها الدكتور النابه زكي مبارك بالحديث في كتابه الممتع (المدائح النبوية)؛ ولكن إذا علمنا أن البردة قد وضعت لها شروح عدة، وعورضت، وشطرت، وخمست، وسبعت، ووضعت

ص: 23

شروح أخرى لكثير من هذه المنظومات الناشئة عنها، علمنا أي ولوع ذلك انتاب الشعراء والكتاب بالبردة من لدن عهد البوصيري إلى عهد أمير الشعراء شوقي بك، وعملنا أي إيجاز مخل ذلك الذي نتوخاه هنا في هذه العجالة ونحن نتصدى للحديث عن أثر البردة في الأدب العربي.

وفي دار الكتب المصرية، ودور الكتب في الأقليم، وفي كشف الظنون وكتب التراجم وتاريخ آداب العربية لجورجي زيدان، وفي غير ذلك من المظان إشارات إلى مؤلفات شعرية ونثرية، كانت البردة سماء وحيها ومتنزل إلهامها. وهي في انتظار البحث وترقب التمحيص. ولا تضاهي البردة في هذا الفتح قصيدة أخرى.

وفي الحق أن بعض القصائد العربية حظيت بنصيب من مثل هذه العناية فشرحت أو عورضت أو نحو ذلك، مثل (بانت سعاد) ولامية العجم، ولامية ابن الوردي. ولكن لم تبلغ إحداها شأو البردة، ولا شقت غبارها. - وتذكر هنا بعض هذه المؤلفات على سبيل المثال والاستدلال. منوهين قبل ذكرها، بان هذا الفن الشعري الجديد - وهو الغزل النبوي - قد سرت روحه في كثير من شعراء المديح النبوي بعد البوصيري، بل في جميع الشعراء، وقد قضى نهجه الجديد على نهج من تقدمه من شعراء هذا المديح، وتأثر به - بلا ريب - ابن نباته وابن حجر وغيرهما في نبوياتهم. هذا وممن شرح البردة: الشيخ الباجوري المتوفى (1198هـ) وحاشيته مشهورة، والشيخ خالد الأزهري المتوفى (905هـ)، ومن شراحها الجلال المحلي المتوفى (814هـ) وشمس الدين بن الصائغ (776هـ) وزين الدين زكريا الأنصاري (926هـ) شهاب الدين الأقفهي المعروف بابن العماد (808هـ) وعلاء الدين مصنفك (775هـ) وشهاب الدين القسطلاني (923هـ) وأبو عبد الله المرزوقي المغربي (781هـ).

وقد عارض البردة كثيرون، ومن أبرزهم في العصر الحديث: البلوودي في قصيدته (كشف الغمة) وهي نحو 450 بيتا، وشوقي في قصيدته (نهج البردة). - ومن أبرزهم في العصر المملوكي وما بعده ايضا، أصحاب البديعيات. والقصيدة البديعية - كما نعتقد - منظومة عارض بها ناظمها بردة البوصيري، فالتزم بحرها ورويها وعرضها، على أن هذا الغرض - وهو المديح النبوي - ليس الهدف الأول من المعارضة، وإنما إيراد الأنواع البديعية هو

ص: 24

الهدف الأول المقصود.

أما المديح فقد كان من أهم المشهيات التي جذبت أصحاب البديعيات إلى النهج البوصيري والنظم على نمط البردة. وقد التزموا أن يضمنوا كل بيت من أبيات البديعية ضربا من ضروب البديع، وزاد عز الدين الموصلي هذا الالتزام بأن التزم التوربة بكلمة ما عن اسم الضرب البديعي المضمن. فأصبحت قيود البديعية خمسة، غير أن القيد الخامس لم يلتزمه كثير من البديعيين. وفي الوقت نفسه ترى أبياتا في بديعية عز الدين اقتصر فيها على التورية باسم النوع البديعي دون ذكر مثاله.

وقد نظم بعض الأدباء فيما بعد، بديعيات لم يلتزموا فيها بحر البردة ورويها وغرضها، وهذا في رأينا انحراف عن الشروط الأولى للبديعية، وخروج بها عن جادتها الأصلية.

ومن أصحاب البديعيات: صفي الدين الحلي (750هـ)، وابن جابر الأندلسي الضرير (780هـ) وعز الدين الموصلي (789هـ) وتقي الدين حجة الحموي (837هـ) وشرف الدين بن المقري اليمني (837هـ) وتاج الدين بن عربشاه (901هـ) والجلال السيوطي (911هـ) وعائشة الباعونية (930هـ) ولها بديعيتان وعبد الغني النابلسي (1143هـ) وله بديعيتان ايضا.

ومبتكر فن البديعيات، صفي الدين الحلي، وقد صرح بذلك في مقدمة بديعيته، وروى رؤيا ذات شبه برؤيا البوصيري، وذلك أنه عرته علة طالت مدتها واشتدت شدتها، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام في نومه، يتقاضاه المدح ويعده البرء. فنظم على إثر ذلك بديعيته. ومن يقرأ ديوان الحلي يشعر أن الرجل قد طاع له من البديع ذهبه، ولان حديده، فاستطاع أن يبتدع في صوغه حلى قل أن يجاريه في صوغها شاعر.

وهذا مما يؤكد دعواه في ابتكار فن البديعيات._على أن الدكتور زكي مبارك في كتابه (المدائح النبوية) رأى أن مبتكر هذا الفن هو ابن جابر الأندلسي، ولم يقم وزنا لهذه النزعة البديعية الجارفة التي طغت على نفس صفي الدين ودعنه إلى التجديد في البديع، ولا لسبقه ابن جابر في الوفاة بنحو ثلاثين عاما. وقد عقب على ما ذهب إليه الدكتور، زميلنا الفاضل الأستاذ أحمد موسى المدرس في كلية اللغة العربية، فكتب فصلا ممتعا عن البديعيات، في رسالته الشائقة (الصبغ البديعي). وقد كشف كشفا في هذا الموضوع له خطره؛ إذ وجد أن

ص: 25

الشاعر أمين الدين السليماني الأربيلي المتوفى عام 670هـ، قد نظم قصيدة غزلية في ستة وثلاثين بيتا، في كل بيت منها نوع بديعي، وعزز الأستاذ كشفه بما رواه ابن معصوم المتوفى عام1120هـ شرحا على بديعيته من (أنه كان يظن أن صفي الدين أول من نظم أنواع البديع على هذا الأسلوب حتى وقف على قصيدة أمين الدين السليماني).

ورأى الأستاذ أن أمين الدين المذكور هو مبتكر فن البديعيات. - على أني أعتقد أن المسألة لا تزال عند موقفها الأول، وأن كفة صفي الدين لا تزال الراجحة. وأن الفارق بين أمين الدين وصفي الدين في ابتكار فن البديعيات، كالفارق بين زهير وأبي تمام أو المتنبي في أبتكار الحكمة، وأنتترى صفي الدين في مقدمة بديعيته يقول إنها نتيجة لدراسة سبعين كتابا في فن البديع.

وبعد، فأي خطر للبديعيات، حتى نعني بها كل هذه العناية؟ البديعيات - على أي حال - فن شعري جديد في حينه بلغت به النزعة البديعية فمنها شعرا، كما بلغتها بالمقامات نثرا.

هذا إلى أن البديعيات نمط من شعر العلوم والفنون، لم يطرق قبل هذا العصر. ومنزلة البديعية في علم البديع، كمنزلة ألفية أبن مالك - مثلا - في علمي النحو والصرف. - هذا إلى أن كثيراً من البديعيات وضعت لها شروح قيمة فأضافت بذلك ثروة جديدة إلى علوم البلاغة والأدب، ومن أجل شروحها (خزانة الأدب) لتقي الدين بن حدة الحموي.

هذا. وقد شطر البردة كثير من الأدباء. منهم في عصرنا الحديث: عبد العزيز باشا محمد، ومحمد بك فرغلى، ومنهم الشيخ أحمد بن شرقاوى الخلفى (1316هـ) والشيخ أحمد بن عبد الوهاب الجرجاوى (1254هـ) وأحمد بن عثمان العوامي الزبيري، فرغ من تشطيره عام (1201هـ) والشيخ أحمد الحفظي اليمنىـ كان حياً عام 1293هـ ـ. وخمسها بعض الأدباء ومنهم محمد بك فرغلي، ومنهم زين الدين طاهر بن حبيب الحلبي (808هـ) ومجد الدين إسماعيل الكناني القاهري (802هـ) وبرهان الدين البهنسي (846هـ) وفتح الدين بن الشهيد (793هـ) وزين الدين القرشي (828هـ) وشمس الدين محمد الفيومي ـ لعله من أدباء القرن التاسع ـ وعبد الرحيم السيوطي المالكي الجرجاوي توفي بعد عام (1320هـ) وفي دار الكتب المصرية مجموعة خطية بها تسعة وستون تخميسا من بينها تخميس لابن حجة الحموي. ومجموعة أخرى خطية بها ثلاثون تخميسا.

ص: 26

وسبعها بعض الأدباء، ومنهم الشيخ محمد الملطي المصري الخلوتي، من علماء القرن الحادي عشر الهجري. وقد التزم أن يبدأ كل تسبيعة بلفظ (محمد) والقاضي ناصر الدين اليضاوي (696هـ) والتزم أن يبدأ كل تسبيعة بلفظ الجلالة.

وهناك شك في نسبة التسبيع إلى البيضاوي، فقد نسب إليه مرة، ونسب إلى الأمير عثمان بك؟ مرة، ونسب إلى شهاب الدين احمد بن عبد الله المالكي المكي مرة أخرى. وقد قرأت هذا التسبيع نفسه في دار اكتب بالمنصورة منسوبا إلى أديب اسمه صلاح الدين احمد بن محمد الرفاء الدمشقي، وهو بها مخطوط (رقم 1172هـ) فمسألة هذا التسبيع تحتاج إلى شئ من التحقيق.

وبعد، فها نحن أولاء نرى من حديثنا الوجيز عن البردة أنها استطاعت وحدها أن تنشئ دولة كبرى لها جنودها وعتادها. وأن الدولة كانت ذات صوله في العصر المملوكي. ثم اخذ ظلها يتقلص شيئا فشيئاً، حتى كادت أحداث العصر الحديث الجارفة تعفي آثارها وتطمس أخبارها.

محمد رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 27

‌الشعر في السودان

للأستاذ علي العماري

- 4 -

لم يعد للشعر في العصر الحديث ما كان له في العصور القديمة من سيطرة وقوة وإيحاء، ولم يصبح - كما كان - مرآة صادقة تظهر فيها حياة الأمم، وتخلد فيها مآثرها ومثالبها، ولئن كنا نستطيع أن نستخرج من الشعر الجاهلي - مثلا - صورة صادقة لحياة العرب في باديتهم فترى فيها مضارب خيامهم، ومعامع حروبهم، وأسراب ظبائهم ونسائهم ونعمهم وشائهم تضطرب في صحرائهم إلى غير ذلك مما حفلت به حياتهم، واصطبغت به معيشتهم، لئن كان ذلك في مقدورنا فإننا لا نستطيع أن ندعي أن أمة من الأمم الحديثة كان شعرها (ديوان حياتها)، ولذلك أسباب كثيرة تختلف باختلاف الأمم.

ولا شك أن من الأسباب القوية في هذا الشأن قصور الشعراء وتقصيرهم، وإن كان ذلك لا يرضي بعض المدارس الحديثة التي ترى أن الشاعر لم يخلق ليكون حاكيا لأحوال المجتمع، وإنما خلق ليرسم للناس صورة نفسه، فالشاعر الذي يودع شعره الأحداث السياسية والاجتماعية ليس بشاعر، إذ أ، الشاعر لم يخلق ليكون واعظا أو مرشدا للجماعات، وإنما خلق - زعموا - للفن وحده، وليرسم نفسه بهذا الفن البديع، فيتحدث عن أفراحهم وآلامها، وعن عواطفها ورغباتها، وقد كان لهذا المذهب أثره القوي في ناشئة الشعراء، فرأينا هم لا يكادون يتعدون دائرة خواطرهم الضيقة، بل ذهبوا إلى ابعد من ذلك فزوروا على أنفسهم، فأخذوا ينوحون وهم يضحكون ويشببون تشبيبا عذريا وهم في اللذات غارقون، وهكذا أرادوا أن يصدقوا فكذبوا، وهربوا من تصوير حياة الجماعة فصورا أنفسهم مشوهة!

لهذا ولأسباب أخر فقد الشعر مكانته، ولم يستطع أن يكون سجلا لحياة الجماعة، نستطيع أن نقول هذا في الشعر المصري، ونستطيع أن نقوله في الشعر العراقي، وتستطيع أن تقوله في شعراء الشام والحجاز، ونستطيع أن نقوله في الشعر السوداني، وإن كان هروب الشعراء السودانيين من حياة المجتمع أوضح، وربما اعتذر الشعراء الذين عاشوا في أوائل هذا القرن عن تخلفهم يقول الشاعر.

ص: 28

قلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت، ولكن الرماح أجرت

ولكن ما عذر هؤلاء الشعراء الذين رأوا رماح قومهم تنطق الأخرس، حتى هذه الرماح التي أجرت كان على الشعراء أن يبكوها، وان يستنهضوها، كما يقول أحدهم.

أنظر إلى السودان إن

به شباباً ناهضين

قعد الزمان بهم وما

هم بالشباب القاعدين

غير أن الذي يعزونا أن الشعر العامي لا يزال يحتفظ بقوته في هذا المعنى، فلو هيئ لباحث أن يدرس الشعر العامي وأن يتبيناتجاهاته لظفر بشيء كثير من صور الحياة التي يحياها هؤلاء. ولقد اطلعت على شئ من شعر السودان العامي فرأيت فيه تصويرا دقيقا لبعض ما يكتف القوم، وخيل إلي أني لو استطعت أن أظفر بمجموعةمن هذا الشعر لتمكنت أنأنقل عنها كل مظاهر الحياة في الريف السوداني.

أما الشعر المعرب فالبون شاسع بينه وبين ما تضطرب به الحياة من شتى المظاهر والاتجاهات ولا سيما في أوائل هذا القرن، فإن الشعراء الذين عاشوا منذ ثلاثين سنة حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة جدا أكثرها احتذاء للشعر القديم في في أغراضه، ولكن حين تقدم الزمن، وبدت مظاهر النهضة تأخذ طريقها إلى الحياة، وكانت بقية من هؤلاء الشعراء لا تزال تنعم بنسائم السودان البليلة الرخية، وتشرب من ماء النيل العظيم، لم تجد هذه البقية بدا من أن تشارك ناشئة الشعراء في الحديث عن هذه المظاهر، وإن بقيت من ناحية الأسلوب والمعنى وكثير من الأغراض متشبثة بأذيال القديم. والدارس يلاحظ أن هؤلاء الشعراء كانوا يصلون إلى هذه الأغراض بطريقة ملتوية، فكانوا يتخذون المناسبات الدينية والمدائح النبوية سلما إلى ما يريدون، فينفسون بذلك عن بعض الرغبات المكبوتة في نفوسهم، وإن بقيت أقلامهم مجفلة عن تصوير المجتمع، بل منهم من كان يرى أنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن مثالب قومه، ثم تقدم الزمن خطوة أخرى فرأينا الشعراء يدخلون المجتمع من باب أوسع فيتنا لونه من نواح كثيرة، أرهفوا آذانهم، وفتحوا أعينهم، لما يحدث أمامهم من خير وشر، فصوروا بعضا وأمسكوا عن بعض وكان للتعليم نصيب كبير من عنايتهم، فلا تفتح مدرسة، ولا يتخرج فوج جديد من كلية حديثة، ولا تنشأ فرقة تمثيل إلا قالوا، وهنأوا البلاد، وتمنوا لها الخير والتقدم، كما كان للغة العربية قدر وفير من

ص: 29

اهتمامهم، وكذلك ألمحوا إلماحات خفيفة إلى بعض ما يسطر على العقول من خرافات. وهنا اعتب على شعراء الأمصار عتبا شديداً. وأرى أنهم أغضوا عن تقاليد غير طيبة كان يجب أن يحاربوها كما حاربتها الحكومة، وكما حاربتها الأذواق السليمة، وأهمس في أذن الشاعر الصالح الشيخ عبد الله عبد الرحمن الذي يقول:

سأبلغ جهدي في القصائد حرة

على أن الشعر في الشعب ضائع

فروض أؤديها وشكوى أبثها

وما أنا ذو بأس وما أنا طامع

والذي يقول:

خذوها بني أمي قوافي عاتب

عليكم بها (لا عن جفاء ولا صد)

فواق ألقاها من الوحي صادقاً

وأرسلها من حيث تجدي ولا تجدي

أهمس في أذنه كيف فاته أن يؤدى فروض الشعر في هذه التقاليد، وكيف لم يرسلها دون أن ينظر أتجدي أولا تجدي؟ وأين جهده الذي بلغه في هذا الذي أشير إليه؟ كما بلغ جهده في نواح أخرى كثيرة.

أليس بعجيب أن يقف الشعراء على الشاطئ، ويجفلوا عن الخوض في آمر هي القذى في الأعين، والشجي في الحلوق.

بعد هذا نريد أن نستخرج بعض مظاهر للمجتمع السوداني من دواوين الشعراء، وأنا أحصر طرفي هنا في ديوانين اثنين، وبعض مقطوعات أخرى، وأنا مضطر لهذا، فن جهة لم يهيأ بي أن أحصل على كل الدواوين التي خرجت، والشعراء لم يساعدوني بإرسال شئ من أشعارهم منذ بدأت اكتب هذا البحث؛ ومن جهة أخرى لم أجد فيما اطلعت عليه من شعر ما يعينني في هذه الناحية إلا هذان الديوانان، فالأول ديوان (الطبيعة) للشاعر حمزة الملك، فإن فيه صورا صادقة، من ذلك صورة (الحاوي) وقد التفت حوله الناس فخدع أبصارهم، بل خدع الشاعر نفسه حيث يقول:

قد رأيت المحال رأى عيان

ليس في حاجة إلى برهان

رجل كالرجال جاء بما يع

جز عن فعله بنو الإنسان

بأمر الماء بالوقوف فينص

اع، وإن شاء لج في الجريان

بضع الشيء في يديك فتل

قاه على الرغم منك في يد ثان

ص: 30

وبعد أن يعدد ألاعيب أخرى من فعل الحاوي، وهي كلها غريبة عجيبة يقول:

هذر ما نراه أم هو جد=ومن الناس أم من الشيطان؟

زعموا أنه الخداع ولكن=كيف في الشيء تخدع العينان؟

ثم ينتقل بعد كل هذا طفرة واحدة، فيسوق إليك حجة على أن للكون إلها فيقول:

أيها الملحدون هذى أمور

من صنيع الجهال والغلمان

عللوها فإن قدرتم فقولوا

إنه لا إله للأكوان

ونترك هذه الصورة لنأخذ صورة أخرى حيرت الشاعر أيضا، لعبث لبله، وانتهى أمره فيها إلى أن يبقى في حيرته، تلك هي صورة صاحبة (الودع)، (فأم عباس) قد أنبأته بالغيب وقد وقع ما أنبأته به، وقد كان ينكر عليها أن تعرف شيئا من عالم المستقبل، فراهنها، ونذر لها نذراً، ولكنها فازت بالرهان، واستحقت النذر، غير أن للشاعر عقلا لا يخضع لهذه الترهات، وهكذا يحار بين عقله، وبين الواقع الملموس:

أرت أم عباس أعجوبة

تضل كبير الحجى (بالودع)

وما أم عباس إلا عجـ

وز تقي بها نزعة للورع

تجادل أن أنا جادلتها

كمن هو في فنه قد برع

وتحلف أن لم أنل ما ترى

فليست تعود (لحط الودع)

فواعجبي كيف نبأتها

وُديعتها بأمور تقع

وواعجبي كيف في عصرنا

تصح الخرافات في المجتمع

وإن كنت صدقتها ما ادعت

هـ فما أنا إلا لعقلي تبع

أمور أرى بعض أسراره

ن صدقاً به من رآه اقتنع

أصدق منها صحيحاتها

وليست تجوز على الخدع

ولكن من الحمق أن نترك الل

باب مشايعة للبدع

وهكذا لا يصل الشاعر إلى قول فصل في هذا الموضوع، فيقي في ظلام دامس يخبط يمنة ويسرة، ولا يهتدي.

ويتحدث هذا الشاعر عن نماذج بشربة رآها في حياته، فمن فتى كالذئب باسم السن يظهر الإخلاص ويسر الغدر، ومن شيخ شاب في اللؤم، وحرم زوجه بألف طلاق ولكنه لا يزال

ص: 31

يعاشرها، ومن رجل يظهر في زي النساء ويفخر بالقوم الرشيق، والخد الأسيل، ومن دعي موغل في كبره، يدعي الجود وهو سليل بيت البخل والشح، ومن جاهل يدعي العلم، وما هو إلا ببغاء تهرف بما لا تعرف، ثم ينتهي به المطاف إلى أن يقول:

فخر كل منهم أن له

ألف وجه بين صبح ومساء

وفي قصائد (سافرة) و (لقيط) و (سأم قاتل) و (زميل) صور ناطقة في المجتمع.

أما الديوان الآخر فهو (الفجر الصادق) للشيخ عبد الله عبد الرحمن، والحق أن صاحب هذا الديوان من المخضرمين فهو يأخذ خير ما في المدرسة القديمة، ويتناول أشياء كثيرة من المدرسة الحديثة، وفي هذا الديوان مجتمع سوداني، وأهم ما يأخذ القارئ في هذا الديوان أمران.

عنايته بالتعليم، وهذا الموضوع قد استغرق جزءاً كبيراً منه، فيتحدث عن المدرسة الأهلية، وعن مدرسة الأصفاد، وعن كلية غردون، وعن تكريم البعثات العلمية، وعن يوم التعليم، إلى أشياء كثيرة من هذه الموضوعات.

ونستطيع أن تقول أنه يندر أن يفلت من بين يديه أمر يتعلق بالتعليم دون أن يقول فيه، ومن شعره في كلية غردون.

لها علينا وإن ضنت بموعود

قديم عهد وحق غير مجحود

كم خرَّجت من فتى حلو شمائله

مشمر الساق في الأتراب محسود

كأنما الجهل طوقان يحيط بنا

وهي السفينة قد أوفت على الجودي

يا معهدا طاب ماضيه وحاضره

لا كان ربعك يوما غير معهود

لا أنت في واجب السودان وانية

ولا مقامك فيها غير محمود

قالوا وفود على أبوابك ازدحمت

وهل سمعت بعذب غير مورود

وعناية باللغة العربية، وشعراء السودان يولون هذه الناحية نصيبا من جهودهم، ولكن الشيخ عبد الله صريح كل الصراحة حين يتناول هذا الموضوع. قرأت قصيدة طويلة للشيخ عبد الله البنا عنوانها (دمعة على اللغة العربية) بكى فيها حاضرها وأشاد بماضيها، وللشيخ عبد الله أبيات كثيرة، يسوقها كلما سنحت له الفرصة، يقول في قصيدة نبوية:

بنى وطني أن قمت للضاد داعياً

فإني أدعو للتي هي أقوم

ص: 32

أرى الضاد في السودان أمست غريبة

وابتاؤها أمست لها تتجهم

تولت وما دمع عليها بفائض

وما أحد منهم لها يتألم

ونبئت بالسودان قوما تآمروا

على اللغة الفصحى أساءوا وأجرموا

ويقول مخاطبا قومه وعشيرته بعد أن أشاد بجهود مؤتمر الخريجين في التعليم.

بنى عمنا لبوا النداء فحسبكم

تنازع مأموم بها وأمام

فلستم بأحياء ولستم أعزة

إذا الضاد لم يؤذن لها بقيام

وعلى ذكر الخلاف نقول إن صاحب الديوان قد أشار إليه غير مرة، ودعا إلى اتحاد الكلمة، ومن كلماته الرقيقة في ذلك

أفي الدار مصغ للحديث فسامع

أم الدارقد سدت عليها المسامع؟

توهمت آيات لها فعرقتها

لستة أعوام وذا العام سابع

وطوفت استبكي عيون قصائدي

عليها، وقد تبكي القصيد الفجائع

مشى بين أهليها الخلاف فأصبحوا

تصدهمو عن كل خير موانع

أرى النار شبت في نواح كثيرة

ولم ينج متبوع ولم ينج تابع

إذا القوم لجوا في الغواية كلهم

فقبح مدفوع وقبح دافع

ولا نختم هذا الحديث حتى نشير إلى هذه الصورة التي رسمها الشاعر الشيخ حسيب علي حسيب، وهي صورة طالما رأيناها وألمنا لها:

عجباً أرى المقدام أصبح مذنباً

يقصى وذا الوجهين أضحى مكرما

إني عرفت الدهر حتى خلتني

إياه فاسمع سائلي ثم احكما

إن شئت أن تحيا سعيداً بينهم

كن تابعا ما يشتهون معظما

حتى إذا قالوا الظلام أجننا

والشمس مشرقة، فقل ما أظلما

وهذا شارع يئس من المجتمع، ونظر إليه نظرة كلها حسرة. وألم، وما له لا يفعل وهو الذي يقول، وتقول معه؟

ماذا أعاتب يا زمان وأتقي

أهلي أم الأيام أم حسادي؟

ويقول عن قلبه:

ألف الهموم برغمه وألفنه

فغدا بواد والسرور بوادي

ص: 33

ويقول عن أقاربه:

هم مزقوا عرضي لغير جريرة

وقضوا علي بأن يطول سهادي

يسمعون في خفضي وأطلب رفعهم

شتان بين مرادهم ومرادي

(للحديث بقايا)

علي العماري

مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان

ص: 34

‌النيل والسودان

للأستاذ محمود غنيم

سائلاه أأنت نبعَ الجنان؟

أم النحل أم رضاب الغواني!

أم رحيق طالت عليه الليالي

لم يعَّتق أمثاله في الزمان؟

يا نديمي إنما أنا صب

بابنة النيل لا ببنت الحان

أترعا من منابع النيل كأسي

واهتفا باسمهن ثم اسقياني

يا نديمي تلك ساعة صفو

سنحت فاختلستها من زماني

اسقياني سلافةُ عصرت من

قبل خلق الكرم في البستان

خمرة لم تطش بلب لبيب

شربها شعبة من الإيمان

عصر الناس كل خمر وخمري

عصرت كرمها يدُ الرحمن

سائلاه أبين عبره ماء

أم لجين وعنب رسائلان؟

شِيب آذيه فكان عقيقاً

وصفا فهو ذوب حب الجمان

وأطافت به الرياح رخاء

فهو حلم في خاطر الوسنان

وأطافت به الأعاصير هُوجا

فهو طيش الشباب في عنفوان

وسخا فهو حاتمي العطايا

وطغى فهو عارم الطغيان

واستوى فهو كالقدود اعتدالا

وتثنى تثنى الخيزران

وتلوى في سيرة أفعوانا

لا يمج السموم كالأفعوان

مثل صدر الحليم في الرحيب أوفى

ضيق صدر المدلل الغضبان

يرد الناس حضه أبد الده

ر يشتكى من النقصان

هو طِب الجسوم من كل داء

هو طهر لها من الأدران

كاد أن يغسل القلوب من الحق

د ويمحو كوامن الأضغان

شق مجراه وابتنى شاطئيه

بيديه مهندس الأكوان

أنا أهواه ما سقى يانع الرو

ض وما بل غلة الظمآن

أنا أهواه ما حييت فإن مت

فحوكوا من عشبه أكفاني

أيها النيل كم لبثت؟ ومن أيـ

ن تفجرت؟ ما درى الثقلان

ص: 35

سابق أنت للمجرَّة أم أح

دث عهداً أم أنتما توءمان

يا سجل التاريخ حدث بما عا

بنت ليس السماع مثل العيان

كيف حاد المؤرخون عن القص

د وجاءوا بالإفك والبهتان

قد شهدت الإنسان يأوي كهوفه

ويؤاخي فصائل الحيوان

وشهدت الإنسان ينتطح السح

ب ويؤوى رفاته الهرمان

حدث الناس عن فراعين حصر

كيف بذوا الشعوب في البنيان

كيف دانت لدولة الفرس مصر

كيف دانت لعاهل اليونان؟

هات يا نيل ليلة من ليالي

(كيلبطرا) وقيصر الرومان

حدث الناس عن بسالة عمرو

وجنود الفاروق في الميدان

أنت يا نيل معرض للحضارا

ت وشتى الشعوب والأديان

أفأبصرت كالحنيفة دينا

أو رسولا يحكى فتى عدنان؟

يا رفيق البنان كيف حفرت الص

خر بالظفر يا رفيق البنان؟

كيف دانت لك الهضاب العواتي

كيف لانت صلابة الصوان؟

كيف جبت الفلا بغير دليل

وملأت الصحراء بالعمران؟

حوَّلت كيمياؤك الترب تبراً

ونفخت الحياة في الصفوان

ليت شعري أساحر بعصاه

أنت أم أنت عالم روحاني؟

كم نسجت الثياب من غير نول

ثم وشيتها بألف دهان

رب حقل كسوته بعد عرى

فإذا الحقل أخضر الطيلسان

ما بكت أو غنت سواقيك لكن

لك رثلن آية الشكران

أنت يا نيل فاتح فتح المد

ن بغيرالحديد والنيران

سائر لا تحيد فوق صراط

كقطار يمشى على قضبان

دائر بين لجة وبخار

كنجوم السماء في الدوران

لك في الأرض والهواء مدار

حار فيه مقَّوم البلدان

قربوا الشاه للسماء ورفت

كلُّ خود إليك في مهرجان

ليت شعري أأحسنوا لك صنعا

أم أساءوا بذلك القربان؟

ص: 36

أقلوب الأرباب مثل قلوب الن

اس تهوى فواتر الأجفان؟

فيك حييتَّ كل ذات شراع

تتهاوى تهادى النشوان

وبنات البخار إذ هي تعدو

عدْو خيل الطراد يوم الرهان

الجواري روائح وغوادٍ

فيك يرقصن كالجواري الحسان

أرسل الفلك في القضاء صفيراً

رن في مسمعي رنين الأذان

ومشى يمخر العباب ويلقى الم

وج سكانه على الشطان

فإذا الموج فوقها يترامى

كترامي الولدان في الأحضان

رقصت موجة وغنت سواها

بخرير منظم الألحان

قلت - والموج راقص ومغن

ليت شعري أذاك حفل قران

وتهادى النسيم ألين مسا

من رفيف الندى على غصن بان

وتوالت على العيون المرائي

مرهفات للحس والوجدان

صور تبعث التأمل والشع

ر وتوحي برائعات المعاني

وشخوص تلوح إثر شخوص

كرسوم في لوحة الفنان

وكأن الهضاب تومي إلينا

بتحايا الإخوان للإخوان

وتكاد الأشواق تدفع بالفلـ

ك وتحتل موضع الربان

أيها الفلك إن بلغت بنا السو

دان فاهدأ فقد بلغنا الأماني

بلد قاته وقاننَي الني

ل ورواه مثلما رواني

جمعتني به شريعة طه

وهداه منهاجه وهداني

بلد ردّدت لياليه شعري

وشجاها من لحنه ما شجاني

نحن خلان، رب روح وروح

في سماء القريض يلتقيان

رشفة من منابع النيل تربى

حسناتي في كفة الميزان

ووقوفي بهن يمحو الخطايا

ويجيب الذنوب بالغفران

أتراني في موسم الحج يم

ت حاكم أطواف بالأركان؟

أم تراني حسبت زمزم يجري

ماؤها حيث يلتقي الرافدان

كل مغنى من بين تلك المغاني

حرم قد أجله الحرمان

ص: 37

جيرة النيل أرضكم فوق ظهر الأ

رض نفح من جنة الرضوان

سحب دمعها يسيل سجاما

يا لدمع يجري بلا أحزان

وشعاع تزجيه شمس ضحوك

ذات دل ومبسم فتان

وكنوز لم يكشف الستر عنها

وأراض عذراء غير عوان

أيها النيل إن شطك رمز الخ

لد في ذلك الوجود الفاني

أيها النيل حول شطك شعب

يتحلى بسمرة الأبدان

ذو خصال مثل القواضب بيض

ووجوده في سمرة المرّان

سمرة اللون في محياه تزري

باخضرار الرياض في (نيسان)

ولو أن القلوب صارت وجوها

كنتمو كالبدور في الألوان

علم السحب كم كيف تهمي

وأمدّ النيلين بالفيضان

من أياديك يا زمان - وما أنـ

درها - رحلتي إلى السودان

أنا فيه في منزلي وعشيرتي

آنس بالمكان والقطان

شر ما تبتلي به نفس حرَّ

غربة الحر هو في الأوطان

إن مصرا وإن سودان مصر

في رضاع وفي دم أخوان

وهما منذ كوَّن الله هذا أل

كون شعب ولا أقول: اثنان

أمة أمها الطبيعة والني

ل أبوها الأب الأبر الحاني

ربط الله بيننا برباط

ين وثيقين الضاد والقرآن

لن يحل الإنسان ما عقدته

قدرة الله خالق الإنسان

محمود غنيم

ص: 38

‌الجمال النائم

للأديب محمد محمد علي السوداني

مّرْقد حفته أمال ظماء

رفت الفتنة فيه والصفاء

وتمشي في دمائي نشوة

حلوة الهمس وأحلاماً وِضاء

شاد في أعماق نفسي معبداً

أفرغت أسرارها فيه السماء

فاض منه الطهر وإستذرت به

مهج حيرى بها جاش الرجاء

سجد الدهر على أعتابه

خاشع السجدة مهموس الدعاء

رعشة الهيمان في محرابه

تفعم الدنيا نزوعاً وبكاء

كونه الصوفي روض حالم

ساحر النضرة نشوان الجواء

خالد البهجة فجرى الرؤى

في الربيع الطلق أو برد الشتاء

كله حسن وشوق ضارع

وأمان ظمئات ودعاء

وظلال رقصت أحلامها

تحت سوق الدوح رمز الكبرياء

وفراشات طراب نهلت

من رحيق الزهر صرفاً ما تشاء

قبست من لونه ألوانها

ونضت في حانة ثوب الرياء

فهي شَرب ممعن في غيه

وهي زهر طائر ملء الفضاء

خضرة المرج غناء عطر

في فم البلبل مشبوب الغناء

وهدير الماء شكوى عاشق

وحفيف الروح أنغام الوفاء

عالم كالوهم إلا أنه

عالم الحسن بأفق الشعراء

ترتمى فيه الأماني زورقاً

مشرق الطلعة جذاب الرواء

زفه اللحن إلى شط الهوى

فتهادى في عباب من ضياء

مرت الأحقاب في موكبه

تنهب المجداف نهباً في خفاء

قرت الظلماء في آفاقه

وتغشتها سيول من ذُكاء

لست تدري أصباح غارق

في شفوف الغيم أم ذاك المساء

أيها النائم رفقاً أننا

لهفة حيرا وأنضاء شقاء

ما لنا في الحسن إلا وحيه

ومجانيه لقوم سعداء

ص: 39

أصرف الأغراء عني مشفقاً

واحجب الفتنة عنيّ بالرداء

محمد محمد علي السوداني

ص: 40

‌رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر

‌الهجري:

2 -

اردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان

لمصطفى البكري الصديقي

(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

كان صديقنا والد الأولاد المرحوم مراد توفي في شهر ربيع الأول فعملنا عند قبره خثما، وطلبليلة المسيير الكبير الاندراج في السلك مع أخواته فأجبته، فأخذ صالح الدأب على الخير، وتبعه أخوه خير وأخوتهما ومصطفى وعلي وخالد وعمر وأولاد صالح، وسرنا بعد أن ودعنا الإخوان وصلينا الجمعة في (سحمواته) وجاءنا من صفد، من له الغرام بالتحريك أوثق صفد، وبتنا في (قلعة معليا) الرفيعة، وفي الصباح عاد أهل صفد وصحبهم الأخ الشيخ عمر البقاعي وأرسلت معه كتاباً للصهر. ومنها توجيهنا بمن معنا إلى الساحل، وقبلنا لدى النون المصري المقيم الراحل، فقلت:

ومررنا بلصق جدران (عكة)

بلدة في الثغور ثورت عكه

وحديث بمدحها فضعيف

بكها الجسم لا تقسه ببكة

وقطعنا نهر الدعائم سرعاً

وأصبنا لدى المقطع ركة

ونزلنا قريب قلعة حيفا

وصككنا الجفا على العنق صكة

وسألنا الإله تقريب قدس

وارتحالا لطيبة ثم مسكة

وبتنا في قرية (صدفند) بعد مشقة، ومنها أتينا حمى (عتيل) وعزمنا في الصباح على الرحيل، ونلنا من أهلها إكراما له حال ثقيل، وحثثنا المطي بلا وقوف، إلى (الطيبة) الخلوف، وهذه القرية من قرايا بني صعب التي يأمن بها الخائف ويهون الصعب، وهم بطن من كندة ومن بجيلة، وكندة بالكسر، قبيلة من اليمن، وقيل الكندي لقب ثور بن عفير أبي حي باليمن لأنه كند أباه النعمة ولحق بأخواله. قاله القاموس. وفي الصباح المنير

ص: 41

يجعله قبيلة من اليمن والنسبة إليها بجلي بفتحتين، مثل حنفي في النسبة إلى بني حنفية، وبجلة مثل تمرة قبيلة، والنسبة إليها على لفظها انتهى. ومنها حول نبأ الدليل السلفيتي، إلى قرية (كور) فقدر بها مبيتي، لدى الأخ الحاج حسن بن مقلد وسرنا إلى الخربة الطيبة الماء والتربة، وفيها ورد علينا الأخ الشيخ نور الدين (الهواري) ضحوة النهار، وفي صباح يوم الخميس، أول ذي الحجةالأنيس، سرينا حتى أتينا (صنبر)، عازمين أنا بعد الغدا نسير، والقصد التوجه إلى جنة (الذاوية)، لدعوة رضوانها المنتمي لهلال مرابعها المداوية، فبتنا لديه، وأدخلنا صهره السيد محمد الطياري على ابنته الصغيرة. وبايع بعد العشاء جماعة تفوق على العشرين، وتقدمنا إلى (دير غسان)، وبتنا فيها بليلة حسان، ودعانا الشيخ إبراهيم الرابي للغداء، فتوجهنا لزيارة (الخواص) سيد أبراهيم وافر الندى، فقلت:

أيها الواردون للخواص

إن هذا المقام نزل الخواص

وتوجهنا صبحا إلى قرية (عابود) لدعوة أهلها ففتحنا باب الوفود، ورقينا تلك المنازل ذات الصعود، وبتنا فيها وحبل السرور ممدود، ومنها سرينا نجد في السير إلى (بيتلو) للاصطباح ولم نبت إلا لدى (نبي الله شمويل) ولما أرسينا بشطه وأمسينا فيه، وفد علينا من المقادسة من نصطفيه، فكانت الوراد من المنزل المقدس نتوف على العشرين، وفي ضحوة نهار الثلاثاء سادس الحجة عمدنا الديار المقدسة صحبة الأحباب، وتلقانا أناس أطهار أخيار، وإخوان صفا أولى ادكار وأذكار، ودخلنا مصاحبين الفاقة والذلةوالانكسار، رجاء الانجبار نتلو البردة الشريفة على عادة أهل الديار، إلى أن وصلنا السلسلة المرفوعة الأطوار، وزرنا بعد ختم الذكر المغارة والصخرة الشهيرة الأنوار، واجتمعت بالأهل والبنية صانها الستار، وحصل بالاجتماع كمال السرور للحضار).

وقد استغرقت هذه الرحلة من دمشق إلى القدس عن طريق البقاع ولبنان تسعة عشر يوما. وأخذ الشيخ بعد ذلك يدور في فلسطين، يزور مشاهدها ويدون لنا في رحلته ما شاهده من الآثار، ومن اجتمع به من السادة الأخيار.

ويقول الشيخ: (ودخل العيد ونحن في صفاء ما به أكدار، ووردت علينا بعد أيام مكاتبات من أحباب أخيار فخام، وأرسلنا الجواب البار، إذ شاقنا التذكار لأهل حلب والشام، وبقية خطاب كرام، وحصل بعد الحضور فتور قريحة فلا نثر ولا أشعار، وكان الأخ السلفيتي

ص: 42

توجه إلى مربعه، وبعد أيام من الإقامة وجمع جامعه لكل مرة مداحة، حصل رمل عين، أورث نكد عين، ثم اتبعها أختها وحصل الشفا. وحين هل هلال محرم الحرام، سنة (1140هـ) استقمنا على نظام واحد في الخيام، هاجرين منهج النظام قهرا ولما آن أن يدنو منه التمام، بشرت بحمل وقيل أنه غلام، قلت ما جاء هدية من السلام، فهو لدينا مقبول ولا ملام، وعسى أن تكون بنية ذات حال سما، لا سميها باسم والدتي الشريفة علما. وفي صغر الخير اتضحت البشارة، وزال في شهر المولد لبس الستارة، وكان الأخ السيد محمد (السلفيتي) وعد بالعود، لأجل أن يرافقنا في الزيارة العليلية فعزمنا على المسير إليها، ورافقنا الأخ الشيخ رضوان نجل رضوان الزاوي، والأخ الشيخ نور الدين الهواري، وغيرهم من الإخوان ما لهم مساوي. وذلك نهار السبت السادس من شهر ربيع الأول شهر المولد).

الزيارة العليلية:

(حين واجهنا سيدنا (شمويل) قرأنا لجنابه فاتحة الكتاب، وبعد هنيهة في المسير، أنشد رضوان الزاوي:

شوش الجمال قلبي

حين نادى بالرحيل

قلت للجمال خذني

قال لي حمل ثقيل

(وما زلنا على نجد نحب الأرض حبا والوقت أدلى اردان بسطة علينا وذوقنا قضباً وحباً وفاكهة، ونزلنا للاستراحة وقت الضحى، ولم نعقل الدار طي تلك المسافة إلا في (عابود) ونزلنا غب استقبالهم المضافة. وفي يوم الاثنين غلساً سرنا وللاستراحة في (نزلة) نزلنا، وانعطفنا على زيارة سيدنا يهودا وهو أحد أولاد سيدي يعقوب. فقلت:

يا خليلي متلف الوجد عودا

وانشقاني نداً عهدت وعودا

وبتنا بقربته المأنوسة، في دعوة الصديق الشيخ إبراهيم الخليلي القاسمي، وفي الصباح أتينا (يا زور) وزرنا مقام سيدنا حيدرة المنسوب لسيدناعلي بن أبي طالب، ودخلنا (ساقية). وفي الضحى سرنا إلى (يافا)، وقد تلقانا أحبة، لهم صدق خلوص وفي (الجامع الجديد) حلينا به، إذ الرفاق جمعهم جمع، ودعانا الأخ السيد صالح محرم الدار، وبتنا عند أخينا العواد، نافين الأكذار، وتوجهنا للحرم العليلي، وحضره قبلنا الأخ الحاج حسن مقلد، وجاءنا

ص: 43

نفر من أهل يافا، وصحبتهم الشيخ خاطر المجذوب، وختمنا بعد العصر الربعة الشريفة، وعملنا المحيا ليلة الجمعة وأقمنا فيه يومها).

العودة عن طريق نابلس

وبعد العشا، وبعد الغشا، توجهنا إلى (بنيامين) وقرأنا الورد السحري لديه، وأتينا (كور) وأقمنا بها ليلتين، ثم وردنا نابلس المحمية، ونزلنا بساخة (الدرويشية) ودعانا المحب، الحاج حمدان الطويل، وأخذ ولده الدخيل الشيخ يوسف وصالح للتكميل، وقام بما يلزم من إكرام جانب صالح باشا بن توقان (طوفان)، وزرت مع الأخ السلفيتي في جبلها الشرقي سيدي الشيخ غانم المقدسي، وتوجهنا بمن معنا إلى قرية (عينبوس)، وأخذبها العهد الشيخ عمر مملوء الطسوس، وحضر الأخ المأنوس السيد محمد وقال ما أثرت في مبايعة أحد من أخواني، مثل ما أثرت في مبايعة هذا الأخ الجناني، ولا سمعت ذكرا أحلى من ذكرك حال التلقين الاحساني، فاني بمجرد قراءتك الآية الكريمة خشعت أركاني، وهمت أجفاني، فقلت (كان الوقت طيبا مغمورا بحضور أهل النور الصمداني.

(وسرنا إلى قرية (جماعين) وبتنا بها ليلة الأحد ذات السحاب المعين، وقرأنا الورد السحري في الجامع على جمع من الأعيان. ونحونا نحو (مردا) لم نجد عنها مردا، وبعد ما أظهرنا مضينا إلى قرية (كفر عين) راجين صلح بين زيد، عسى المعين عليه يعين، وبتنا بها في دار على جلباتها السرور دارا، ونهجنا منها إلى (دير غسان) بوجد نام، وقلب رهين منهان، وأقمنا فيها لأجل الإصلاح، إذ بدا شربتلك البطاح، وأخذنا عطوا شهر للراحة، وسرنا للمنازل بنفوس مرتاحة، ولدي (بيت ريما) أنزلنا قصراً للإكرام، وفي (تبتلو) نمنا وبها مدت موائد أنعام، ولم نصل الظهر إلا في بيت الحرم، الكائن عندي في الدار المعدود من النعم، ورجع أخونا السيد محمد ومن معه للمنازل وأرسلت للصهر المحترم كتابا جعلته عن كتب جوانا. وصدرته بقصيدة.

سيف الهوى ما أفله

بعد بلى ذاك سله

وأرسل جواب هذا الكتاب مصدرا بنظم مستطاب مطلعه

غضب الهوى ما أسله

يا ويح من رام سله

به الفؤاد عليل

ياليته ما أعله

ص: 44

فصار جسمي نحيلا

من الضنا كالأخله

وقد سرى في عروقي

مثل الدما وأحله

حتى كساني وجداً

قد صار للقلب حله الخ

وجاءني منه كتاب ثان ينبئ عن الحب الرفيع الشأن، وذكر فيه موشحا للسيد يعقوب الكيلاني، نجل السيد عبد القادر الحموي الداني، وهو على طريقة الأندلسيين. وبعد أيام من ورود الكتاب القندي، وجاءني الدرويش الحاج يعقوب السندي، وطلب مني حال عزم على السفر مكاتبات أربعة أحدها لشيخنا الشيخ عبد الغني (النابلسي) ومطلعه:

يا لقوم من لصب ما غفا

طرفه فدام نادي القدس

صافعا هم الثنائي في العفا

إذ تملى بالجمال الأنفس الخ

وكنت أجبت الدرويش يعقوب لما طلب المكاتبات الأربعة إني منذ أتيت هذه الديار، أتكلف لكتابة مكتوب حروفه مجمعة وأن أردت النظم والنثر العادي، أراه متعسرا علي، ولو تعمل له فؤادي. فما زاده الاعتذار إلا إلحاحا وإلزاما في الطلب، فدفعت له مكاتبة الأستاذ الملاذ (أي الشيخ عبد الغني النابلسي) فقال إنه يهديك هدية سنية تفوقي لديك الملاذ، ثم كر على طلب البواقي، فعملت له مكتوبا لشيخنا الساقي ياسين الحموي الجيلاني فقلت:

وكذا نهدي تحايا قد سمت

وزكت أين ذكا منها أخي

وثنايا سحبها فيضاً همت

بسطها للقبض يزوى أي وي الخ

وأرسلت للصهر الأمجد كتابا مصدرا بموشح:

أصبحي أريجي أرجحي

لو ذعي المعي أجمعي

أفوجي أروحي أنجحي

ارفعي اشجعي ارتقي

أنصحي إبطحي إسمحي

أبدعي اطوعي اجرعي

ثفرة بن البخاري وأنا

مسلم كأس الموطأ محتسى

ولكم اذهب عنا من عنا

وعياء وعلى ذا فقس الخ

وكتبت كتابا للأخ الحميم الشيخ عبد الكريم المشهور بنسبه الكريم، بالشراباتي وصدرته بموشح:

أيها السيار سر بي للحمى

واسقني من صرف صافي الاكؤس

ص: 45

وإذا ثنيت ثلث فالظمأ

قد غابي للمقر الأنفس الخ

ولما أتممت المكاتبات المطلوبة، وأحضرتهم على كيفية مرغوبة، تأخر الدرويش يعقوب عن السير، منظراً للأذن المحبوب للقلوب عند الطروب، وكان قدم علينا غب العودة من الزيارة رجل مصري يدعى موسى انتمى إلينا فيها، وقصده التجارة لكنه مغلوب نفس، منهوب حدس، محجوب عبارة، ملسوب حية أمارة؟ (وفي يوم الأربعاء من أواخر شهر ذي الحجة توفي الأخ الأمجد الأوحد السيد محمد السلفيتي وسيأتي تاريخ وفاته وبعض ترجمته في حال زيارة ترتبه ومرثية قلتها فيه، ما زالت الرحمات توافيه).

(يتبع)

أحمد سامح الخالدي

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الدروس الخصوصية:

يهتم معالي عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف بمشكاته الدروس الخصوصية. ويعمل مع رجال الوزارة على أيجاد حل حاسم لها. وداء الدروس الخصوصية قد تغلغل في السنوات الأخيرة حتى تسرب إلى رياض الأطفال هابطا وبلغ الجامعة صاعدا. وقد احس معالي الوزير بخطره منذ العام الماضي فأصدر قراراً بان يكون الحد الأقصى لكل مدرس في الدروس الخصوصية تسع حصص في الأسبوع، يكون ذلك عن طريق ناظر المدرسة ولكن أحدا لم يتقيد بهذا الحد وظلت الحال على ما هي عليه، وقال النظار أنه لم تقدم لهم طلبات في شأن الدروس الخصوصية، وبدت المشكلة بهذا الوجه تحاول أن تستعصي على العلاج.

والواقع أن الدروس الخصوصية تجني على الطلاب وأوليائهم كما تجتي على المدرسين أنفسهم، وإذا نظرنا إلى الأفكار الحديثة في التربية التي تؤيدها المشاهدة والتجارب، والتي ترمى إلى تكوين شخصية الناشئين عن طريق استقلالهم في مواجهة التبعات والصعاب مع الملاحظة والتوجيه عند الاقتضاء - إذا نظرنا إلى ذلك نجد أن هذه الدروس الخصوصية إنما هي رجعية منكرة في التعليم. وهي بعد تغري الطالب بالتكاسل والتشاغل عن الدروس في المدرسة، اعتماداً على أن (بابا) سيتفق مع المدرس في آخر السنة على كذا من الحصص بكذا من الجنيهات، ويتم النجاح بفضل هذه الجنيهات!

ثم هؤلاء الأطفال الذين نحملهم إلى الرياض ليلعبوا ويمرحوا ويحيوا حياة اجتماعية تناسبهم، ولتنتهز المربيات الفرص لتنمية ملكاتهم وأذواقهم وتنشيط أذهانهم وإمدادها بقليل من المبادئ ما ذنبهم حتى نزعجهم بطلعة المدرس في المنزل ونستبدله لهم بما يحبون من الدمى واللعب! ونغرس في نفوسهم منذ الصغر كراهية التعليم؟

وأنا لا أستطيع أن أتصور إثما في التعليم أشنع من إعطاء الدروس الخصوصية لطلاب الجامعة، لأنه إخلال بوظيفتها الأولى والأخيرة وهي التعويد على البحث وتكوين الفكر المستقل، على أن من شر الدروس الخصوصية في التعليم العام أنها تدليل علمي للطالب

ص: 47

يفسده على الدراسة الجامعية، فما بالك إذا دلل الكبار في الجامعة؟

أما آباء التلاميذ وأولياؤهم - من أبناء هذا الشعب المكدود - فهم مساكين. يوشكون أن يلقوا في المدارس ما يلقى الناس في المستشفيات من أطباء يتراخون في المستشفى وينشطون في العيادة!

وأما المعلمون فهم أشد مسكنة من الجميع، لأنهم يجدون أنفسهم مضطرين إليها مع ما تصيبهم به من الإرهاق وما تسببه لهم من قعود عن الاطلاع وتزويد أفكارهم وأذهانهم بما يفيد ويمتع من ألوان الآداب والعلوم والفنون.

إن المعلم على رغم ما ناله في السنوات الأخيرة من تحسن طفيف، لا يزال يلقى العنت في حياته المادية، فهو قلق في هذه الحياة التي لا يوصله فيها مرتبه إلى مطالب عيشه الضرورية، فهو إذ يلجأ إلى الدروس الخصوصية لا ينبغي أن يواجه بالمنع أو العقاب ويسكت على ذلك، بل يجب أن ييسر له العيش الكريم تيسيراً يحفظ عليه كرامته يصل به إلى مستوى يستطيع فيه أن يستغني عن هذه الدروس الخصوصية، فإذا سعى إليها طامع جشع ردع بما يستحق من العقاب.

ولا يكفى في حل هذه المشكلة أن يحدد ما يباح لكل مدرس من عدد الدروس الخصوصية، بل يجب أن تحسم بالتحريم القاطع، إلا فيما عسى أن يكون من ضرورة تلجئ إليها حالةالتلميذ. وثمة نقطة لابد من الالتفات إليها، وهي أن المعلم لا يعطى دروساً خصوصية لأن عنده فضلا من جهد ونشاط، فهو مرهق في المدرسة ولا شك، وإنما تبعثه إليها الرغبة في رفع مستوى عيشه، فلا يصح أن يكون من علاج مشكلة الدروس الخصوصية أن يزاد عمله في المدرسة وتضاف حصص إلى (جدوله) بل أنا أذهب إلى عكس ذلك فأقول بالتخفيف عنه ليتاح له أن يعالج في نفسه مشكلة الاطلاع والتزود الفكري، وأبيح لنفسي ـ ولست بعيداً عن المعلمين ـ أن أقول صراحة إنهم يعيشون في اجداب فكري يهدد مستقبل الثقافة في هذه البلاد، وهم يدورون في المدارس دورات آلية تتكون كل منها في حجرة المدرسين حيث يبدأ بنقل ما في الكتب المدرسية إلى دفاتر التحضير ثم يلم التلاميذ شعثها ويضعونها في كراساتهم التي يحملها المعلم إلى حيث بدأ للتصحيح. . . ويتم كل ذلك بطريقة آلية مكررة لا تجديد فهيا، وأكاد أقول: ولا تفكير!

ص: 48

وليس ذلك لأن العلم عاجز أو تنقصه الكفاية، فقد درس وحصل وتخرج في الكلية وفي أعلى معاهد المعلمين، ولكنه أرهق بالعمل وحرم الفراغ الذي يستغله في مداومة الاطلاع، فاضطر أن يحيا في شبه انقطاع عن زاد العقول، كما اضطر أن يؤدى عمله على الطريقة الآلية السابقة.

حول صانع البؤس:

تلقيت رسالة من أستاذ جليل ضمنها رأيا في (الخلق والفن) لا يتفق - من حيث العرف الاجتماعي والاعتبار الرسمي - مع مكانه من المجتمع والرسميات. ولهذا قال في أول رسالته: (أنا - كما يعلم كثير من الأدباء - يزعجني أن يطرح اسمي مطرحاً يجعله موضوعا لحديث عام؛ وربما جاشت النفس بالخاطر يثيره رأي منحرف، أو نظر حصيف، واعيا أمام شهوة الكتابة، فأسترها مبالغاً، حتى أوفق بين العاطفتين المختصتين. لذلك أضع هذا الخطاب الخاص بين يديك على أنه أمانة لا يحل التصريح باسم صاحبها، ولا وصفه وصفا محدداً، إن أنت عرضت له في أسبوعياتك؛ وغضب الله عليك إن خنت هذه الأمانة).

ولذلك ابتعدت عن الوصف المحدد، وعن غضب الله. . . . وأقدر للأستاذ الكبير حريته - المقيدة بمركزه - في إبداء رأيه، واشكره على ما أضفاه على من عبارات التقدير والثناء، وإنه ليسرني أن أكون عند مثله كما وصف.

وأعرض بعد ذلك الموضوع الذي عرض له، قال:(أخذت عليك رأيك في (صانع البؤس)، فإن صانع البؤس ليس الديب، ولكن انحرف مزاج اليب، الذي ما كان يملك تقويمه، ولا يستطيعه لو حاوله. وفي الشاعر الحاذق النواسي، الذي ما كان الديب ولا غير الديب يتعاق بغباره، والذي يقول فيه النقاد: إن الشعر كان أقل أدواته، ما يقرر مذهب الديب في الحياة؛ ثم فيما قاله هو عن نفسه:(أي شاعر يتبعله ابن الحباب) ما يقطع بأن الانحلال الخلقي ليس معوقا عن الفن الرفيع؛ بل ربما بما جازفت ب. . . . . . فقلت: (إن الخلق الكريم والفن الرفيع قلما يلتقيان. وعلى الجملة كل ما قلته صحيح، ولكن الحكم على فن المنحلين بما حكمت في حاجة إلى استدراك).

وأقول: أولا إنني لم أحكم على فن عبد الحميد الديب، وإنما أردت أن أصحح خطأ شائعا

ص: 49

يتعلق بحياته فقلت: إنه لم يكن بائسا حقيقياً، وإنما كان يصنع البؤس، وتضمن السياق ما يدل على انحلاله. وسواء أ: ان الديب هو صانع البؤس أم انحرافه، فهو وانحرافه (متضايفان)، وقد تعلمنا أن الإسناد إلى أيهما صحيح

أما مسألة الانحلال، فقد كان لكلامي فيها إشارة إلى لون من الناس يحلو لهم أن يصطنعوا الانحلال دلالة على أنهم أدباء وفنانون! ألم يكن الديب الشاعر منحلا؟ وهم منحلون، فهم إذن في الأدب والفن عباقرة العصر في مصر!

وأنا إن كنت أوافق الأستاذ على أن الانحلال الخلقي لا يعوق الفن إلا أنني أقف عند قوله: (إن الخلق الكريم والفن الرفيع قلما يلتقيان) فلا أسلم بهذه القضية.

إن النابغين من ذوي الانحلال الخلقي يجيدون حقا في التعبير عن ميولهم وتصوير تجاربهم، وهم كثيرون، ولكنهم لا يغلبون على ذوي الخلق الكريم، وأنا لا أميل إلى التعبير الخطابي، وإنما أريد أن أفرق بين الانحراف في الخلق والشخصي وبين الانحلال في الصفات الإنسانية الرفيعة، وقد اجتمع الاثنان الديب، ومن النوع الثاني فيه الحقد وعدم الوفاء ومقابلة الإحسان بالمساءة، وهذا النوع لا يقبله الفن الرفيع. وعلى ذلك أقول الآن: إن الديب لم يكن ذا أدب رفيع.

الشخصية السليمة:

ألقى الدكتور إبراهيم ناجي محاضرة نفسية موضوعها (الشخصية السليمة) بنادي رابطة الأدباء يوم الأحد الماضي، فعرف الشخصية بانها التجاوب المنسجم بين البيئة وين العقل والشعور المتماسكين، وشرح التماسك بأن وحدات العقل واتجاهات الشعور قد تختلف فيما بينها ولكنها كمجاذيف السفينة تختلف اتجاها وتتحد في الهدف، فالعوامل النفسية تتنازع، ولكنها تتفق على الغاية فتمضي إليها كالتيار الجاري. ويقابل التماسك الصراع وهو أن تتعارض العناصر ويعمل كل منها ضدالآخر، فينفك بناء الشخصية. وقال إن في متناول أيدينا أن نجعل من اتجاهات نفوسنا طرقا قوية متلاصقة متلاحمة متوازية، وأول عامل في بناء الشخصية هو ما يسمى (قبول النفس) وهو أن يقبل الإنسان نفسه كما هي، لا يجزع من عيوبه ولا يعدها مهانات بل قيودا عليه أن يحطمها، ولا يعدها عوائق بل حوافز تدفع إلى الأمام، فيواجه نقائصه ولا يهرب منها، كما فعل سقراط إذ ألف أرستفانيس مسرحية

ص: 50

تندر به فيها، وكان سقراط حاضرا يوم تمثيلها فلما عرضت شخصيته وقف لكي يراه الجماهير. فليس الشعور بالنقص عيبا فهو أمر طبيعي، وإن أول سبب لاعتلال الشخصية هو اعتبار الصفات الغريزة عاهات يجب تغطيتها بمختلف الوسائل، فالواجب تحويل انقص إلى كمال، فصاحب الحياء أو محب العزلة يمكنه أن ينتفع بعزلته في البحث والتأليف، وصاحب الفضول والتطلع ينتفع بطبعه هذا بأن يكون شرطيا سريا أو صحفيا.

ثم تساءل الدكتور ناجي: هل البيئة الواحدة تخلق شخصيات واحدة؟ فأجاب بأن البيئة تضع من يعيشون في دائرتها في قالبها العام ولكنها لا تجبر كل واحد على نفس ذلك القالب، على أن لكل فرد أسلوبه الخاص في الحياة. وتحدث عن علاقة الغدد بالشخصية فقال إن الغدد تؤثر في الأمزجة والطباع حقيقة، ولكن الشخصية قد تتكون رغم ذلك، ولا لزوم للحكم على شخصية الإنسان من شكله الذي أدى إليه تركيب غددي خاص. ثم قال: إن مميزات الشخصية السليمة أن يكون لها ظل خارجي ممتد، وعندما يصير الهدف إنسانيا أو اجتماعيا يكون فجر الشخصية قد انبثق، فإذا صار الهدف روحانيا فقد بلغنا مستوى أعلى هو مستوى الإيمان، وهو تلك القوة الخارجية التي تشع في داخلنا الجلد والصبر والعزيمة.

الشخصية المعتلة:

وأعقب الأستاذ وديع فلسطين الدكتور ناجي، فألقى محاضرة عن (الشخصية المعتلة) قال: اعتلال الشخصية أنواع نقصر حديث اليوم على نوع منها يسمى (السيكوباتية) وهي السلوك المرضي، والسيكوباتي عدو المجتمع ولا يسلم هو من عداوته لنفسه، ولا يصدر سلوكه المرضي عن وعبي أو إرادة، وإنما ينساق في تصرفاته انسياقا أعمى مشبعا بطفولته في الاتجاه الفكري واستغراق في لذات عارضة هدامة، وسير في الحياة بال هدف أو وراء هدف صوري لا وجود له. فقد يشعل النار في نفسه لا رغبة في الانتحار بل حبا في رؤية النار تحصدجسمه، وقد يسرق، لا رغبة في المسروق، بل لمجرد الإيذاء والعدوان. وهو لا يقدر على التكيف والانتظام في عمل. ولا ينفع فيه التقريع والعقاب، لأن فطرته عودته على الاضطراب والخلل.

ثم قال إن المريض بالسيكوباتية لا ينبغي أن يسلك مع المجرمين، لأن المجرم المحترف يدبر لنفسه ويقدر جميع الاحتمالات لينجو ويفلت من العقاب فله إرادة ومنطق وغاية؛ إما

ص: 51

السيكوباتي فهو يقترف جريمته دون قصد أو تعمد، وكثيرا ما يكون أول من يصاب بجرمه ويلحقه أذى تصرفه المنحرف. ومن المؤسف أن هؤلاء المرضى يعاملون في مصر إما معاملة المجرمين فيزج بهم في السجون، أو يحسبون مجانين فيحالون إلى مصحات عقلية لا تجديهم نفعا، وجدير بنا، وقد استطاع الأطباء العقليون أن يشخصوا داء السيكوباتية ويعينوا أعراضه ومظاهره، أن نفكر تفكيرا جديا في تهيئة الوسائل التي من شأنها مساعدة هؤلاء المرضى على أن يألفوا الحياة الاجتماعية شيئا فشيئا، وعلى أن يصبحوا أداة نافعة في المجتع، أو يجنب المجتمع آثارهم السيئة.

ارسم (أبو رجل مسلوخة):

قرأت الكلمة التي أورد فيها أحد معلمي الرسم الأستاذ كامل بطرس عصفور، أن يعلمني الأصول التي كان يجب أن أقف عليها قبل نقد السؤال الذي طلبفيه من تلميذات المدرسة السنية أن يرسمن شجرة الزقوم ورؤوس الشياطين؛ وأهم هذه الأصول أن تخاطبالصورة المطلوب رسمها قلب الطفل وتملأ نفسه. وهأنذا قد وقفت على هذه الأصول. . . بفضل معلمي الفاضل. . . ولكني لا أرى فيها شيئا ينقض ما قلت، فأين شجرة الزقوم وأين رؤوس الشياطين من قلب الطفل ونفسه؟! وما هي تجربته إزاء هذه الأشياء حتى يعبر عنها. .؟ فليطلب الأستاذ من تلاميذه رسم (البعبع) أو (أبو رجل مسلوخة) أو ما ماثل ذلك مما ينطبق على أصوله. . . أما الجحيم وشجرة الزقوم ورؤوس الشياطين فلا.

وهو يقول إنه لا يوافقني على قصر التخيل على العباقرة وأنا ما قصرته عليهم إطلاقا، إنما قصرت تخيل الجحيم وما فيه على أولئك العباقرة. أما دون ذلك فللأستاذ أن يجول فيه بتلاميذه أو تلميذاته كما يشاء.

عباس خضر

ص: 52

‌البريد الأدبي

رأى الدكتور يعقوب صروف في أسلوب الآنسة مي:

بمناسبة ما نشر الكاتب الفاضل طاهر الطناحي في نسخة شهر أكتوبر سنة 1948 من مجلة الهلال عن الآنسة مي وأثر الدكتور يعقوب صروف في حياتها. وقوله في رسالة إليها، (إنها تفكر بلغة أوربية قبل ما تعبر عن رأيها بالعربية) أرى خدمة للحق والتاريخ أن أنشر على صفحات الرسالة الغراء كتابا من الدكتور صروف كتبه إلى منذ أربع وعشرين سنة أبان فيه عن رأيه في أسلوب الآنسة مي في إنشائها، وكشف عن أشياء لم تنشر بعد عنها.

ولقد كان هذا الكتاب جواباً عن خطاب مني سألته فيه عن سبب تقديم نشر مقالات في المقتطف على مقالات بعض كبار الكتاب وتحدثت عن أسلوبها وما بعض معانيه من غموض وأجود الكلام كما يقول أهل الفن (ما يكون جزلا سهلا لا ينغلق معناه ولا يهبهم مغزاه).

وقد كنت يومئذ أتولى تحرير جريدة التوفيق وأشارك في تحرير جريدة المنصورة وأراسل جريدتي السياسة والمقطم.

وهذا كتاب الدكتور صروف من خطه لم أغير منه حرفا ولم أخرم منه كلمة:

مصر في 8 سنة 1924

حضرة الرصيف الكريم

سلاما واحتراما، وبعد فقد تلوت ما تكرمتم به وفيه أمران، الأول ترتيب المقالات فهذا يراعي فيه زمن ورودها أو وصول يدي إليها إذا كانت عندي، فليس في تقديمها وتأخيرها نظر إلى فاضل ومفضول. والثاني ما تكتبه الآنسة (مي) وأنا أعرف كثيرين من الذين لهم الكعب الأعلى في الإنشاء مثل المرحوم إسماعيل باشا صبري، ومثل السيد مصطفى الرافعي، يجلون قدرها ويمدحونها بالكلام والكتابة؛ وقد رأيت إسماعيل باشا صبري يقبل يدها في بيتي، ورأيت له ولولي الدين يكن ولخليل مطران قصائد في مدحها. وأظنني رأيت للرافعي أيضاً كتابا لها يطنب فيه في مدحها، فهل نسفه كل هؤلاء وهم من أئمة الأدب العربي أو نتهمهم بأنهم يقولون في الحضرة شيئا وفي الغيبة ضده؟ ثم إنني لا

ص: 53

أستحسن هذا النوع من الإنشاء بدليل أنني لا أجرى عليه، ولكنني أفهمه لأنني أحسن لغة أوربية. وأرجح أن أكثر الذين يحسنون الفرنسوية أو الإنكليزية يستحسنونه. وقد جرى عليه الآن أكثر أدبائنا في أمريكا الشمالية والجنوبية وبعض أدباء الشام. وسيمكث الأصلح في ضروب الإنشاء.

هذا وأشكر فضلكم على حسن ظنكم بالمقتطف خاتما بأطيب تحية

يعقوب صروف

هذا هو كتاب الدكتور يعقوب صروف وهو ولا ريب وثيقة تاريخية مهمة تنفع كل من يعنى بتاريخ الآنسة مي ويحرص على درس تاريخها.

(المنصورة)

محمد أبو ريه

الأزهر ومعهد القراءات:

دأب القراء المحدثون على أن يرتلوا كتاب الله بالأوجه التي تواترت في كتب القراءات كالشاطبية والطبية. يتلقونها تلقينا ويأخذونها مشافهة.

وأكثر القراء الآن مع الأسف لا يفهمون السر في أوجه التغيير التي قد تطرأ على الروايات ولا يدركون اختلاف الأعاريب وعللها، ذلك لأن مقصدهم عند تلقيهم إنما هو الإسماع والتطريب لا الدراسة والتحليل.

ومع أن القرآن الكريم - بأوجه قراءاته - هو أصل الأصول للدراسات العربية والمصدر الأول للتشريع فإننا لا نجد معهدا علميا خصص له دراسة مستقلة لقراءاته. ولا أعني بالدراسة المستقلة تلقين المدود ومذهب القراء في الإمالة مثلا، وإنما الذي أعنيه هو أن تخصص له دراسة في الكليات العربية كدار العلوم واللغة والآداب تتجه إلى أمثال ما يأتي:

1 -

دراسة اللهجات العربية دراسة مستفيضة.

2 -

الإلمام بتاريخ القراء ومبلغ تأثرهم باللهجات.

3 -

أثر القراءات في التفسير.

4 -

أثر القراءات في النحو والبلاغة.

ص: 54

5 -

أثر القراءات في التشريع. إلى غير ذلك من الموضوعات التي كان للقراءات فيها أثر كبير. وليس من المعقول أن يلم بأمثال هذه الدراسة أولئك الذين حفظوا القرآن فحسب، وإنما يستطيع أن يتابعها من ألموا باللغة العربية والشريعة إلماما واسعا لا يقل عن شهادة الأزهر الثانوية، فهم الذين يمكنهم أن يفهموا ما يلقى عليهم من محاضرات علمية جامعة. وأمثال هذه الدراسات ليست من السهولة بمكان، ولا يكفي أن يقوم بتدريسها من حفظ الشاطبية والطبية والنشر مثلا، بل لابد من أن يلقيها أساتذة لهم من الدراسات العلمية، واللغوية ما يؤهلهم لفهمها وإفهامها. وكنت أحسب أن الأزهر الشريف حينما أنشا معهد القراءات التابع لكلية اللغة العربية أراد هذا اللون من الدراسات غير أنني حينما قرأت وسمعت عن الدارسين بهذا المعهد وجدته لا يشترط فيهم إلا ما يشترط في معلمي (المكاتب) بزيادة أن يجوزوا امتحانا في الشاطبية والدرة وأمثالهما، فكأن معهدالقراءات (مكتب) منظم لتخريج مقرئين فقط. أما الغابة الكبرى فليست من منهج هذا المعهد. فه تجعل كليات دار العلوم واللغة والآداب للقراءات في مناهجها نصيبا، أو أن الأمر سيظل ضئيل الأهمية لا يجد من العناية ما يليق بكتاب الله وأوجه قراءاته؟ لعلي إن شاء الله أقدم أنموذجا لبعض هذه الدراسات إن وجدت - كما أعتقد - من أستاذنا الزيات ورسالته صدرا رحيباً

عبد الستار أحمد فراج

محرر بالمجمع اللغوي

يهودي في المعتقل:

ورد في مقال صاحب الرسالة (حكم من أحكام الله) تعليقا على حكم قضاء البصرة العادل: (فتنزلهم)(والهاء يعود الحكومة المصرية والميم على اليهود على الرحب والسعة وتكفل لأموالهم وأهليهم الأمان والدعة).

وليت الأستاذ الزيات يعرف ما تصيبه طائفة اليهود من مغانم في المعتقلات المصرية.

وإني أوفر على نفس التدليل والبرهان وأكتفي بسرد القصة الآتية: في كلية الصيدلة يطلب شاب يهودي العلم في السنة النهائية، وهذا الطالب يعيش عيشة ضنك وحرمان، وفي أوقات

ص: 55

فراغه يزاول عشرات الحرف ليحصل على طعامه. وقد ذكر في حديث له أن أخا له كان ينفق عليه وتخلى عن نفقته؛ ومن منظره وهندامه يتبين أنه مبالغ في قوله فلا اعتقد بأنه خرج من أم وأب وله أخوة وإنما هو ابن الفقر الأوحد

وشاء حفظه الحسن ان تعادى مصر الصهيونية وسمع بأنها تقبض على كل من تشتم فيه رائحة العداء، فأطلق لسانه بكلام وما قصد إلا الخير وهو أكل القوت في المعتقل، وتم له ما ابتغى وغاب عن الكلية أشهراً ثم عاد إليها مخفوراً ليؤدي الامتحان، وإذا بابن الفقر قد أصبح عاقا لوالده، ولعله هجر صحبته من يوم أن دخل المعتقل فخرج في وجه ولبوس غير اللذين دخل بهما، وسأله زميل له: من أين لك هذا النعيم وأنت معتقل؟

فتبسم اليهودي قائلا: ليت مصر حاربت اليهود من يوم أن خرجت للدنيا! ولو أن الجنة كانت كالمعتقل كما يصفها المسلمون لأسلمت من الآن. وما كنت قبل حديث هذا اليهودي أتصور بأن الحكومة تعاملهم في المعتقل بكادر وتجري عليهم راتبا يوميا وتدعهم أحرارا ينفعون أموالهم كما يشاءون! فطوبى لكل يهودي يعيش تحت سماء مصر!

عبد الرحمن فراج

إلى الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ:

قرأت في عدد الرسالة 797 في مستهل مقال الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ الفتوة عند الصفويين هذه العبارة (والفتى هو الشاب حدث السن) وقوله حدث السن تركيب لم يرد في فتون اللغة، بل نص في بعض الكتب على منعه، فقد ورد في الأمالي للقالي (ح1ص26) في مطلب أسماء الرجل يحب محادثة النساء ما يلي:

(الحدث: الشاب؛ فإذا أضيف إلى السن قالوا: حديث السن ولم يقولوا حدث السن).

وفقنا الله إلى الاستعمال الصحيح الفصيح.

إسماعيلأبو ضيف

الأزهري

ص: 56

‌القصص

القلب الواشي

للكاتب الأمريكي ادجار الان بو

حقا، لقد كنت عصبيا، ولا زلت في حالة عصبية مخيفة. لكن. . لماذا تقول إني مجنون؟ إن الداء قد أرهف حواسي - لم يدمرها - ولم يضعفها، ولا سيما حاسة السمع الحادة. لقد سمعت أصوات من في الأرض ومن في السماء، حتى من في الجحيم. فكيف إذن أكوان مجنونا؟ أصغ لي، ثم لاحظ كيف أقص عليك القصة بحذافيرها وأنا في تمام الصحة وفي غاية الهدوء.

إنهلمن المستحيل أن أعير كيف أثرت تلك الفكرة على عقلي بادئ ذي بدء. ولكنها اصبح تلازمني ليلا ونهار. أما عن الدافع فلقد كنت احب ذلك الكهل. إنه بم يخطئ في حقي البتة، ولم يوجه إلي أية أهانه ولم اكن أرغب في ماله. ولكن عينه هي السبب، ونعم كانت هي السبب. إنها تشبه عين الطائر. . عين العقاب. كانتزرقاء تغطيها طبقة شفافة ومعه. وكنت في كل مرة تلتقي عيناي بها، تثور ثائرتي، ويهيج هائجي. ولهذا قررت أن أنهي حياة الكهل، وبذلك أتخلص من تلك العين إلى الأبد. هذا هو الدافع. إنك تتخيلني مجنونا. ولكن ليتك رأيتني أقوم بالعمل وأنا في كامل وعي. ليتك شاهدتني وأنا أنجزه في حيطة وحذر. كنت أشفق على الكهل في أيامه الأخيرة أكثر من إشفاقي عليه في أيامه السابقة. وكنت في منتصف كل ليلة أدير أكره بابه وافتحه في هدوء. وياله من هدوء! ثم اطل برأسي عليه أن أقلل من ضوء المصباح تدريجيا حق يشع نوره داخل الغرفة. كنت أحرك الباب في بطء حتى لا أزعج نوم الكهل، فيستغرق ذلك مني وقتا طويلا. هل يمكن لرجلمجنون أن يكون عاقلا إلى هذا الحد؟ فإذا ما أطللت برأسي داخل الغرفة، أزيد من ضوء المصباح باحتراس، بكل احتراس، فأسمح لشعاعه ضئيلة تسقط على عين العقاب. كنت افعل ذلك سبع ليال متتالية، ولكني كنت أجد العين دائما مغمضة ولذلك كان من المستحيل على أن أنجز عملي. لأنه لم يكن الكهل هو الذي يثيرني، بل كانت عينه الشريرة. وكنت في كل صباح، عندما تشرق الغزالة، أذهب إليه في شجاعة وأتحدث معه في جرأة، وأدعوه باسمه في لهجة ودية وأساله كيف قضى ليلته. وهكذا ترى أنه لم يشك فيما كان يحدث كل ليلة

ص: 57

وهو نائم ما لم يكن بعيد النظر!

وأقبلت الليلة الثامنة، وكنت أكثر حذرا في فتح الباب. كنت أسيطر على شعور الانتصار في قوة عجيبة وأنا أفكر في ذلك الكهل الذي يجهل ما الذي أفعله وما الذي أفكر فيه. وابتسمتثم ضحكت. وسمعت حركة في الفراش. لعله سمعني أضحك فقام فزعاء ولعلك اعتقدت أني تراجعت. ولكن. . كلا، فقد كانت الغرفة حالكة الظلام ولا يستطيع رؤيتي وأنا أفتح الباب. لذلك ظللت أدفعه في انتظام. وأطللت برأسي. كنت على وشك إضاءة المصباح عندما انزلقت يدي فأحدثت صوتا، وهب الكهل من فراشه صائحا (من هناك؟) ظللت ساكنا ولم أفه بكلمة. ومكثت ساعة كاملة دون أن تتحرك عضلة في جسمي. ولم أسمعه يرقد ثانية. كان لا يزال جالسا في فراشه يتسمع مثلما كنت أتسمع ليلة إثر أخرى.

ثم طرق أذني أنين خافت، أنين من الرعب المميت. لم يكن أنين ألم أو شجن. . . كلا، كان صوتا خافتا مخنوقا يرتفع من أعماق روح امتلأت رعبا ووجلا. وكنت أعرف ذلك الصوت جيدا، وأدرك ما يشعر به الكهل ولذلك كنت أشفق عليه وأنا أقهقه من أعماق قلبي! وتصورته راقدا مستيقظا تزداد مخاوفه كلما تقلب على الفراش، ويحاول أن يتغلب عليها وهو يوهم نفسه بأن ما حدث مجرد أوهام. وتخيلته يتحدث إلى نفسه قائلا (إنه حفيف الريح داخل المدخنة - إنه فأر صغير يعبر الغرفة) نعم، كان يحاول أن يسري عن نفسه بشتى الافتراضات دون طائل، دون جدوى، ألأن الموت كان يقترب منه رويدا رويداً ويطارده بشبحه الأسود، ويحيط به من كل جانب. وكان تأثير ذلك الشبح عليه هو الذي جعله يدرك وجود داخل غرفته دون أن يراني او يسمعني. وانتظرت وقتا طويلا بصبر عجيب دون أن أسمعه يرقد. ثم عزمت على إضاءة المصباح قليلا. قليلا جدا، وخرجت شعاعة واحد ة. . شعاعه كأنها خيط العنكبوت. خرجت من فتحة المصباح فتسقطت على عين العقاب. كانت مفتوحة تماما، فصف بي غضبي من رؤيتها، وكانت واضحة أمامي بلونها الأزرق وغلالتها الشفافة، فأصابتني رعدة شديدة تغلغلتفي ذات نفسي حتى وصلت إىل عظامي ولم أر من وجه الكهل أو جسمه سواها، وكأنها وجهت الشعاعة بشعور غريزي لا إرادي إلى تلك العين الملعونة بالذات. ألم أخبرك أن ما تعتقده جنونا ليس إلا إرهاف الحواس؟ ثم وصل إلىسمعي صوت خافت سريع التردد. كأنه صوت ساعة مغلقة

ص: 58

بالقطن. فعرفت ذلك الصوت. إنه نبضات قلب الكهل، فاستشطت غضبا وامتلأ قلبي غيظا وحقدا. ومع ذلك ظللت ساكناً وحبست أنفاسي. وأمسكت بالمصباح دون أن أتحرك وقد سلطت الشعاعة على عينه. كانت ضربات قلبه تزداد وترتفع صوتها في سرعة غريبة. واستنتجت أن الكهل قد وصل رعبه إلى أقصاه. وارتفع الصوت، وتعالى. ألم أخبرك أنني عصبي؟ نعم لقد كنت في حالة عصبية شديدة. وولد ذلك الصوت في نفسي، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وبين ذلك السكون المطبق الموحش، ولد في شعورا من الرعب لا يقاوم. ومع ذلك ظللت صامتا ساكنا. وكانت الضربات تتعالى ثم تتعالى حتى خلت أن قبله على وشك الانفجار. ثم تملكتني ثورة جديدة! ألا يجوزأن يسمع الجيران ذلك الصوت؟ إذن فقد حانت ساعة الكهل!

وصحت صيحة مدوية، وأضأت المصباح ثم قفزت إليه. فصرخ صرخة واحدة! وفي لحظة كنت قد سحبته إلى الأرض وألقيت فوقه الفراش. ثم ابتسمت في رضاء. لقد أنجزت أخيرا مهمتي. لقد مات الكهل. وأزحت الفراش وفحصت الجثة. نعم كان ميتا كالحجر. ووضعت يدي على موضع قلبه وتركتها لحظة. لم يكن هناك نبض. لقد مات حقا، ولن تعود عينه تضايقني بعد الآن. إذا كنت لا تزال تظن أني مجنون، فإن ما قمت به من احتياطات وما فعلته لإخفاء الجثة سوف يبدد هذا الظن. كان الليل على وشط الرحيل فبذلت همة ونشاطا، وقمت بإنجاز العمل في سكون. قطعت أطراف الجثة، ثم انتزعت ثلاثة ألواح خشبية من أرض الغرفة، وحفرت في موضعها، ثم أخفيت الجثة فيها، وأخيرا وضعت الألواح في مكانها. وعادت الغرفة إلى ما كانت عليه.

كانت الساعة قد أشرفت على الرابعة عندما انتهيت من كل شئ، وكان الظلام لا يزال مخيما. وعندنا دقت الساعة دقاتها سمعت صوت طرق على باب الدار، فنزلت أفتح بقلب مطمئن - فماذا يخيفني الآن؟ وجاء ثلاثة من رجال الشرطة، وشرحوا لي أن تحدا ابلغهم سماع صرخة صادرة من الدار. وابتسمت، ما الذي يخيفني الآن؟ ورحبت بهم، وقلت إن الصرخة صدرت مني أثناء نومي وأنا أحلم. وادعيت أن الكهل على سفر. وطلبت منهم أن يفتشوا الدار. . يبحثونها جيدا. وأخيرا أوصلتهم إلى غرفة الكهل. وأطلعتهم على ثروته دون أن يمسها أحد. كنت واثقا من نفسي كل الثقة، ولذلك أحضرت إليهم مقاعد وأجلستهم

ص: 59

في الغرفة حتى يستريحوا من عناء البحث. وجلست أنا المنتصر في وقاحة على أحد المقاعد بعد أن وضعته على المكان الذي ترقد فيه الضحية. وكنت أجيب على أسئلتهم في سرور. وجعلوا يتحدثون ويثرثرون وأنا أستمع إليهم في رضاء. ولكن لم تمض فترة طويلة حتى شحب وجهي، وآلمني رأسي وسمعت طنينا في أدني، فتمنيت عندئذ أن يرحلوا، ولكنهم ظلوا جالسين يتجاذبون الحديث، وعلا الطنين وازداد وضوحا، واستمر يتعالى ويتعالى. وارتفعت عقيرتي بالحديث حتى أتخلص من هذا الشعور المؤلم، ولكنالطنين زاد وضوحا، فتيقنت أخيرا أنه لم يكن مبعثه أدني. ولم يكن هناك أدنى شك في أني كنت شاحب الوجه. ولذلك طفقت أتكلم في طلاقة وبصوت حاد ومع ذلك ارتفع الطنين. ما الذي أستطيع فعله؟ لقد كان صوتا مروعا كأنه (صوت ساعة مغلقة في قطن!) وأسرعت أنفاسي ونظرت إلى رجال الشرطة فظهر لي أنهم لم يسمعوا ذلك الطنين. وجعلت أهذي في حديثي وأثرثر وازداد صوتي حدة. ولكن الطنين كان يرتفع في انتظام. وقمت وتجادلت في شتى المواضيع التافهة بصوت عال وإيماءات متعددة، ولكن ذلك الطنين كان يطغى على صوتي. وسألت نفسي لماذا لا يرحلون؟ وذرعت الأرض جيئة وذهابا بخطى ثقيلة. ولكن الصوت ذلك الصوت! أواه. . يا الهيمال الذي أستطيع عمله؟ وعلى مرجل غضبي. وتمتمت وأقسمت وضغطت بالمعقد على الأرض وصررت به على الألواح الخشبية. ولكن ذلك الصوت. . كان لا يزال يرتفع تدريجيا. . وأستمريتعالى في شدة. . في شدة. . في شدة! وما زال الرجال يتحدثون ويمزحون ويتضاحكون. هل من المحتمل أنهم لا يسمعون شيئا! يا الهي! كلا. . كلا! لا بد أنهم سمعوه! واشتبهوا! وعرفوا! إنهم يسخرون من وعي! ذلك ما ظننته وذلك ما أظنه. وما أفظعن من عذاب! وما أبشعها من سخرية! إني لا أستطيعاحتمال هذه الابتسامات المنافقة بعد ذلك! وشعرت أنه يجب على أن اصرخ. . ولكن هذا الصوت كان يزداد وضوحا. . وصرخت فيهم قائلا (أيها الأشرار انفضوا. . إني أعترف بارتكابي الجرم! انزعوا الألواح هنا! هنا! هذا الصوت هو خفقان قلبه. . . قلبه الواشي المختبئ هناك!).

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 60