المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 8 - بتاريخ: 01 - 05 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 8

- بتاريخ: 01 - 05 - 1933

ص: -1

‌شروح وحواشي

عام 1352 أشرقت الشمس على الدنيا شمس محرم في اصفرار يشبه الكسوف أو انكسار يقارب المذلة! كأن صبحه الضاحي لم يغرق الكون بالنور، ويخرج العالم من الضلالة! وكأن يومه الأغر لم يغير وجه الزمان وينتصب علما في تاريخ الخليقة! أو كأن الهجرة التي يشع هذا اليوم بذكراها لم تدفع الإنسانية في طريق الكمال آلافاً من المراحل وهي على بعيرين هزيلين يتنكبان الجواد ويمشيان على كلال ووجل! وكأن الفلك لم يدر به القرون الطوال على دين حرر العقول، وملك طبق الأرض، وحضارة مدنت العالم! ولكن ليت شعري لم لا تنكسف شمس المحرم، وهي إنما تطلع اليوم على أطلال من المجد والملك والخلق لا تبعث في العين غير الدموع، ولا في النفس غير الكآبة؟!

لقد أصبحنا وما نملك لذكرى الهجرة إلا مظهرا وضيع الشأن قاصر

الدلالة: عطلة رسمية في الحكومة، وحفلة كلامية في جمعية الشبان!

أما المظهر الشعبي الذي يغمر الشعور بالبهجة، ويعمر القلوب بالعزة،

فكأن نفوسنا لم تتهيأ له بعد!

وفي العراق (وا أسفاه) يستقبلون المحرم بلدم الصدور بالأكف، وضرب الظهور بالسلاسل، وإقامة المناحات في الشوارع والمنازل، فيضيع بذلك عيد المجد النبوي في مأتم السبط الشهيد، وتأبى هذه المصادفة المشئومة على حكومة بغداد، أن تجعل يوم الهجرة عيداً من الأعياد.! وفي سائر البلاد الإسلامية يمر هذا اليوم المسكين فلا يعلنه تقويم ولا يحفله أحد!

رحماك اللهم! فأين الشرق من الغرب!! وأين المحرم من يناير؟!

نهضة العراق: كثر اليوم حديث الصحف المحلية عن العراق ونهضة العراق، وفي ذلك رضا للعاطفة التي أحملها لهذه البلاد الكريمة يدفعني إلى إعلان هذا الفوز. فوزارة المعارف تريد على ما روت إحدى الصحف أن تستعين بما وضعته معارف العراق من الأناشيد، في تقرير هذا النظام الجديد. وتنشر الصحف أن لجنة ألفت في وزارة المعارف العراقية (لتغيير) الأناشيد المدرسية! فتقدم إليها على الفور جمعية الرابطة الأدبية في بغداد ثلاثين نشيداً منها: تحية العلم، الحرية، تربية الطفل، المطر، تدبير المنزل، تحية الملك: نشيد النهضة، نشيد الوحدة، نشيد الحماسة، نشيد الفتاة، النشيد الوطني، الرياضة، الكشافة،

ص: 1

العلم والعرفان: ويقرأ هذا الخبر شعراؤنا الفحول فيسألون الله السلامة، ويتضاءل في نفوسهم الرفيعة معنى الزعامة! وتضرى الخصومة السياسية عندنا فتمزق العلائق والأعراض فيضرب الكتاب المثل الأعلى بالخصومة النبيلة التي تقع بين ساسة العراق فلا تتعدى أندية الأحزاب ولا دواوين الحكم. وتحس الصحافة المصرية حز القيود فتغبط الصحافة العراقية بحريتها الجديدة، وتشكر لحكومتها السعي في تقرير نقابتها العتيدة.

والحق إن في الشعب العراقي أفضل ما في الشعوب الناهضة من حيوية وطموح ومرونة ورجولة، فإذا أضفت إلى هذه الخلال انه جذ من ورائه تقاليد النظام القديم، وإن معاهدته الجديدة قد قللت من الاستشارة الأجنبية المعرقلة، وإن حكومته بسيطة الآلة ضيقة الدائرة، حتى لتسنح الفكرة للمدير العام (وكيل الوزارة) في مجلس من المجالس أو تقترح عليه فتصبح قانونا أو لائحة، أدركت سر القوة الحافزة في نهضة العراق. أما الحكومة الملتوية المعقدة ذات الزوايا والحنايا فأن المقترح أو المشروع يضل فيها بين توزع المسؤولية وتقسم الرأي فيخرج من مكتب إلى مكتب حتى يدركه الإعياء فيرقد في درج أو سلة!!

الأدب المصري الحديث أدب ثرثرة: هكذا قالت (العاصفة) في بيروت، ثم تفضلت على الصديق طه فنصبته زعيما على هذا الأدب! وقالت: (إن الأدب الحديث الناشئ في مصر أدب لا يزال بحاجة إلى صقل وتهذيب فهو أشبه بالحجارة غير

المنحوتة) ثم قالت في موضع آخر (وأصدق قول ينطبق على القسم الأعظم من هذا الأدب الذي يتحفنا به أدباء مصر انه أدب ثرثار ورجاله حائرون بين الابتكار والتقليد فيشوقهم أن يكونوا من المبتكرين وأن يسيروا في التيار الغربي فإذا القديم يغلب عليهم. . . . . . ومقال العاصفة على (ثرثرته) إندفاعة نفس شابة لاتزن الكلام ولا تبالي التبعة، وهي لا تملك والله الحمد ميزان القضاء ولا أهلية الحكم. فالدفاع أمامها دفع بعدم الاختصاص. على أن من الخير لنا ولها أن تقف قليلا عند قولها: (ولم تشعر مصر بروح الأدب العالي تجول فيها إلا يوم أرتادها أدباء لبنان وسورية. . . فالأدب الذي حمله إلى مصر تقلا ونمر وصروف وإسحاق واليازجي وحداد وزيدان والرافعي والمطران وسواهم هو الأساس في نهضة مصر الأدبية الحديثة ولولاه لم يكن حافظ ولا شوقي ولا العقاد ولا المازني ولا طه حسين ولا ولا الخ. نعم نقف قليلا عند هذه الجملة الطائشة لنقول للكاتب وأمثاله: إن

ص: 2

الزمان لم يدع في أيديكم وأيدينا من المجد المشترك إلا هذه اللغة وهذا الأدب، فلم تأبون إلا أن تقسموهما على البلدان وتوهنوا أسبابهما بهذا الهذيان! تلك نعرة بدوية ونغمة مملولة. والعاصفة التي أثارت هذا الموضوع الجاهلي تتشدق بالتجديد! فهل علمت ما يشبه ذلك بين الأدباء في فرنسا وسويسرا وبلجيكا، أو بين الأدباء في إنجلترا وأمريكا؟ وماذا يضيرها إن تركتنا متآخين متحابين على هذا المنهل الباقي ننعم جميعا بريه ومائه، ونحرص جميعا على فيضه وصفائه؟؟

شاعر وشاعر:

هو الحظ غير البيد ساف بأنفه

خزامى وأنف العود بالذل يخذم!

في اليوم الذي تحتفل فيه لبنان بذكرى (لامرتين) في الشرق تجيء أخبار الموصل بأن بلديتها هدمت قبر أبي تمام! فأما تكريم لبنان لذكرى الشاعر الفرنسي فلم يخرج عن سنن العرب في تمجيد الأدب وأهله، والاعتراف بإحسان المحسن وفضله. وأما تكريم الموصل للشاعر العربي بهدم ضريحه وطمس أثره فذلك ما لم نفهمه لا من طبيعة الشيء ولا من سياق الخبر ولا من احتجاج العرب ولا من روح العراق. فهل يكون السبب أن مدينة (الخالدين) عدنانية وأبا تمام من قحطان، أم السبب إنها عراقية والطائي من قرى غسان؟!

قرية الأدباء: من أنباء موسكو أن الحكومة الروسية قررت بناء قرية للأدباء بالقرب من لينغراد وصدرت لها من مالها ما يساوي مائة ألف جنيه ذهبا وستحظر على غير الأدباء دخولها الا بإذن رسمي خاص. وغايتها من ذلك بالطبع استخدام الأدب في تأييد الحكم السوفيتي ونشر المذهب الشيوعي. والذي يعنينا من هذا الخبر انه تنفيذ سخي لقلم الشعراء الذي يقترحه على وزارة المعارف صديقنا الهراوي، وتحقيق لفكرة (المدينة الفاضلة) التي خططها في الخيال أستإذنا الفارابي!!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌من غير عنوان

للأستإذ أحمد أمين

أكلت أكلة ساء هضمها، فانقبضت نفسي، وغاضت بشاشتي؛ وتقطب ما بين عيني. . .، وسئمت كل شيء حولي، وبرمت بمخالطة الناس كما برمت بالعزلة عنهم، وكرهت السكوت كما كرهت الكلام.

ونظرت إلى العالم فتجهمته، رأيته ثقيل الروح، فاسد المنطق، يمج السمع نغماته، ويعاف الطبع منظره، وتأخذ بخناقي ألاعيبه وأحداثه.

أي شيءفيه يسر؟ إن هو إلا جيفة تنبحها الكلاب، وميتة يتساقط عليها الذباب، عدو كل ألفة، ومصدع كل شمل، يبلي الجديد ولا يجدّ البالي. ليست لذته إلا ألماً مفضضاً، ولا مسرته إلا حزنا مبهرجا!

ودعوت ربي بالسلامة جاهدا

ليصحني فإذا السلامة داء

ما حال من آفته بقاؤه

نغص عيشي كله فناؤه

أليس عجيباً ألا تكون لذة حتى يحدها ألمان، ولا راحة حتى يكتنفها عناءان؟!

سعيد وشقي، وفقير وغني، وذكي وغبي، ليست إلا ألفاظا اصطلح عليها، فإن أنت تأملتها لم تجد كبير فرق بين مدلولاتها:

ما الظارون بعزها ويسارها

إلا قريبو الحال من خيابها

أكبر الناس قيمة، وأضاعها الموت وتفاوتوا في الجاه والثراء وسوى بينهم القبر!

ومن ضمه جدث لم يبل

على ما أفاد ولا على ما اقتنى

يصير ترابا سوا علي

هـ مس الحرير وطعن القنا!

ليست الدنيا إلا قطرة من شهد في بحار من علقم، وذرة من سعادة في جبال من شقاء يلح الدهر ببؤسه وعنته حتى إذا استيأست النفوس وبلغت الروح التراقي سخا بقبس من نعيم أطفأه برياح عاتية من عذاب!

قد فاضت الدنيا بأدناسها

على براياها وأجناسها

وكل حي فوقها ظالم

وما بها أظلم من ناسا

نظام كله فوضى! وحياة كلها فساد. رذيلة تسعد وفضيلة تشقى!

ص: 4

والناس شتى فيعطي المقت صادقهم

عن الأمور ويعطي الكإذب الملق

بحار تشكو الري. وصحراء تشكو الظمأ، وماء ولا شارب. وشارب ولا ماء!

تباركت أنهار البلاد غزيرة

بعذب وخصت بالملوحة زمزم

غنى عقيم، وفقير عائل:

سبحان من قسم الحظو

ظ فلا عتاب ولا ملامة!

أعمى وأعشى ثم ذو

بصر وزرقاء اليمامة!

عيش كله هذيان، أعاليل بأباطيل، والدنيا تلعب بنا لعب الكرة!

ترينا الدجى في هيئة النور خدعة

وتطعمنا صاباً فنحسبه شهدا

كذب المؤرخون فسموا زمنا سلما وزمنا حربا، وما السلم الا حرب صامتة شر من الحرب الناطقة! كل شيءفي العالم مفترس، أسد يفترس ذئبا، وذئب يفترس حملا. إنسان يفترس كل شيء حتى نفسه!

قوم سوء فالشبل منهم يخول الليث

والليث راح أكل شبله!

كان العالم عالم سوء فتوج الإنسان شروره

كلما أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا

عالم كله أحاجي وألغاز، وعقل قاصر عنيد، منذ خلقه الله يحاول أن يفهم، يحوم حول العالم يريد أن يعرف الغرض منه فلا هو يصل ولا هو يعدل

نفارق العيش لم نظفر بمعرفة

أي المعاني بأهل الأرض مقصود؟

الله صورني ولست بعالم

لم ذاك، سبحان القدير الواحد!

حياة حار فيها الحكيم وضل فيها الفيلسوف، مبادئ تتضارب، وصور تتنازع، وكلام مزخرف. ظاهره جميل وباطنه مزيف كلما ظنوا أن حلوا مشكلة نجمت مشاكل - وقديما قضى الفلاسفة حياتهم في الجوهر والعرض والكمية والكيفية وأيس وليس، ثم عادوا آخر المطاف يعترفون بالفشلويقرون بالعجز ويقولون مع القائل:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا إذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ص: 5

زاد تلبك معدتي، فزادت من الحياة نقمتي!

فيا موت زر أن الحياة ذميمة

ويا نفس جدي أن دهرك هازل

تناولت دواء هاضما فأخذت أهش للحياة وأبش، وبدأت أنظر إلى العالم بوجه منطلق، ومحبباً منبسط - هاهو ذا قد تألقت صفحته. وأسفرت غمته، وانقشعت غمامته.

الحق أن العالم جميل، فهذا نسيم يعطر الجو بعرفه، ويحيي النفوس يرقته ولطفه، وهذا الربيع نزهة العين ومنطق الطير. وهذه حديقة عقد منظوم. ووشي مرقوم.

أصبحت الدنيا تروق من نظر

بمنظر فيه جلاء للبصر

والأرض في روض كأفواف الحبر

تبرجت بعد حياء وخفر

كل شيءحولي يضحك! ليس في الأمكان أبدع مما كان.

قلبي وثاب إلى ذا وذا

ليس يرى شيئاً فيأباه

يهيم بالحسن كما ينبغي

ويرحم القبح فيهواه

إن الحياة غنية باللذائذ، وليست الآلام فيها إلا توابل تهيؤ لاستمرار اللذة.

والشوك في شجرات الورد محتمل

ما لدنيا إلا قيثارة يوقع عليها شجى الألحان! أو مائدة شهية صففت عليها صنوف الألوان!

وقد تخمد الشمس الصباح بضوئها

تفاوتت الأنوار والكل رائق

إن كان في الدنيا سخف وهذيان، فكن الفيلسوف الضاحك، وليس الفيلسوف الباكي!

وإن كانت الدنيا ألغاز وأحاجي، فكم نجح العقل في حلها واستجلاءغامضها. وكل يوم تتسع دائرة المعلوم، وتضيق دائرة المجهول. والعقل يلذه البحث ولو لم يصل. ويشعر بالغبطة ولو لم ينل. وفي نجاحه فيما أدرك، عدة له فيما لم يدرك.

رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يغير وجه العالم ويحيل السواد بياضاً، والشقاء سعادة، والقبح جمالا، والظلام نوراً، والحزن سروراً، فأين الحق!

ص: 6

‌التجديد في الأدب

حول مقال الأستاذ أحمد أمين

للدكتور عبد الوهاب عزام

قرأت في (الرسالة) مقالا للأستاذ الفاضل أحمد أمين عنوانه (التجديد في الأدب) فرأيت آراء بينة استحسنتها، وألفيت رأيا آخر لم أقبله، وقد هممت أن أكتب مجاملا الأستاذ ثم بدى لي أن أرجئ الكتابة إلى حتى يتم مقالاته، فلما قرأت المقال الثاني زاد الخلاف بيني وبينه. ثم عرفت أنه سيتلبث قليلا فلا يكتب عن هذا الموضوع في العدد الآتي فسارعت إلى الكتابة وأنا اشعر أن الذي يحبب إلى مجادلة الأستاذ حبي واعظامي وتلمسي محادثته كلما وجدت إليها سبيلا في المجالس أو في صفحات المجلات.

قابلت الأستاذ بعد أن قرأت المقال الأول فقلت: سأنتقد مقالك أو اشرحه. فقال مازحا: قبل أن تقرأه؟ فقلت نعم. ذلك أنني أنشأت أنا وصديقي الأستاذ العبادي في بعض الأسفار أبياتا وسميناها (القصيدة المكتمة) وكتمناها الأستاذفقال: لا أبالي هذا الكتمان، وسأشرحها دون أن أراها. وأذكر أني قابلته مرة فقلت:(سؤال) فقال قبل أن يستمع إلى سؤالي: (جواب) أتريد أن أجيب قبل السؤال أو بعده؟ ولكن ليطمئن أستاذنا وليعلم أني قرأت مقاله قبل أن أكتب عنه، وهو أمامي الآن أقرأه وأكتب ما يبدو لي فيه.

أعجبني قول الأستاذ عنالمجددين: (فإذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد، وما ضروبه وما مناحيه وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي؟ جمجموا في القول وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى ولا واضحة الدلالة) وأنا أزيد علىهذا أن التغيير ليس فضيلة ينبغي الحرص عليها والتنافس فيها والتفاخر بها، وإنما يستحسن التغيير أو التجديد حين تدعو الحاجة إليه. والكاتب النابغ إذا أحس الحاجة إلى التجديد بدّل وغيّر وابتدع في غير صخب ولا سخرية ولا مباهات، ثم عرض على الناس نتاج رأيه، وثمرة ابتكاره فيرضونها، أو يجادلون في أمر وضحت معالمه واستبانت حدوده. الكاتب المجدد حقاً هو الذي يمضي في سبيله قدما، مبيناً عن آرائه ومشاعره على الأسلوب الذي يفي بهذا البيان. والخطة التي يؤثرها ويفصلها لا يتكلف الإغراب والشذوذ ليقال انه مجدد. والشاعر المطبوع هو الذي يسير على فطرته مخلصاً لنفسه مبيناً عنها لا يبالي أن يكون قد لزم الجادة المطروقة أو

ص: 7

حاد عنها، ثم يعرض على الناس شعره فيما اختار من موضوع وأسلوب في الوزن والقافية. فإذا ثار الناس عليه جادل عن نفسه وأوضح حجته. والأدب فيما أحسب يؤثر فيه الاستطراف، فقد يغير الشاعر أسلوبا طال عليه العهد ومله الناس، وقد يرجع الناس إلى الأسلوب المهجور بعد حين فيستطرفونه. فالتغيير في الأدب واسع المجال ولكن ينبغي أن تحسن الحاجة إليه وتستبين سبله.

الأدب العربي تقلب في أطوار مختلفة. وابتدعت فيه بدع كثيرة ولكن لم نسمع إن المبتدعين مهدوا لابتداعهم بمعركة كلامية في القديم والجديد، نظم ابن المعتز موشحه، وافتن المغاربة في الموشحات افتنانا خرج بها عن الأوزان والقوافي المألوفة، ومضى الناس على هذا ولم يمهد لهذا الابتداع بثرثرة في التجديد، ولم يكن للمجددين من حجة إلا أن ألقوا إلى الناس موشحاتهم تحتج لنفسها. وكذلك نظمت قصص كليلة ودمنة وغيرها في القافية المزدوجة، ولم يكن هذا معروفا من قبل، وكتب بديع الزمان الهمذاني مقاماته وهي طريقة جديدة، وما عرفناه أن تقدم هذا وذاك جدال أجوف ذو دوي كالذي نسمعه في هذا العهد والمتنبي ذهب في الشعر المذهب الذي ارتضاه ثم قال:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر القوم جراها ويختصم

المعري ملأ شعره بالفلسفة وأمور لم يألفها الشعر من قبل وكتب رسالة الغفران على غير مثال فما دعا إلى طريقته ولا جادل فيها أحدا. وما أحسب لامرتين الشاعر الفرنسي حين نشر (التأملات) قد أجهد نفسه في الدفاع عن نفسه، والهجوم على مخالفيه. هذه هي الطريقة المثلى التي تجنبنا المعارك الضالة والكلام المتهاتر، والحجج المبهمة، حين يدور الجدل علىأمر مشهود بين يمد الكلام، ويقصر النزاع، ثم يكون المثال الجديد حجة لنفسه تسد السبل على المعاندين والمغالطين. هذه هي الطريقة المثلى. وأما الجعجعة بغير طحن، أو جعجعة في طحن الكلام، وإثارة الخصام جناية على القارئين، ومضلة للباحثين.

إنما يكثر تحدث الإنسان عن صحته حين يعتل، وأما الصحيح القوي فهو عامل جاهد، ماض في سبيله لا يقيس كل خطوة بنصح الأطباء، ولا يزن كل أكلة بما أعطي من الدواء. وكذلك أعجز الناس عن الابتكار والإتقان أكثرهم ضوضاء وسخرية وافتراء وادعاء. أعود إلى مقال الأستاذ احمد امين، بعد أن ند القلم في الكلام عن التجديد

ص: 8

والمجددين، وأترك للأستاذ المقدمةالتي ذكر فيها (العناصر الثابتة) في الأدب و (العناصر المتغيرة) وأتصدى لكلامه في تجديد الألفاظ. هو يرى أن التجديد فيها على ضربين: الأول (اختيار الألفاظ التي تناسب العصر، ويرضاها ذوق الجيل الحاضر) وضرب الأستاذ مثلا كلمة هبيخ وبعاق وكنهور. وأنا لا أريد أن أناقش الأستاذ في الأمثلة فقد قرأنا في كتبنا القديمة أن (المناقشة في المثال ليست من دأب المحصلين) ولكني أخالفه فيما سماه ذوق العصر وأعرض نفسي لحكمه حين يقول: (وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة. وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبا) أخالفه في أن يجعل الذوق حكما ولا سيما ذوق الجيل الحاضر على قصوره في اللغة والأدب. وأخشى أن يقتصر هذا الذوق على ما ألف من الكلمات فيعد كل كلمة غير مألوفة نابية عن الذوق ثقيلة على السمع، فإذا أراد كاتب أن يدل على الهواء بين السماء والأرض فقال (السكاك) أو (السمهى) ضحك منه أهل الذوق. وإذا أراد أن يدل على الهواء بين جبلين فقال (النفنف) سخروا منه، وإذا قال صفقت الباب وأجفته بمعنى أتممت إغلاقه أو تركت فيه فرجة (رجلته) اشمأز الذين لم يسمعوا بهذه الكلمات، على إن البيان في حاجة إليها. إن الذوق يسقم ويصح. والأديب النابغة يستملي فطرته فيلائم الذوق العام أو يسيره حيث يشاء ولا يقف نفسه أسيرا تتصرف به الأذواق. إن أمر الألفاظ أجل وأخطر من أن يحكم فيه الذوق وحده. إن الحاجة خلاقة الألفاظ ومبقيتها، والحاجة لا تباليبالأذواق. فعلى كل أمة وكل جيل أن يأخذ من لغته الألفاظ التي يحتاج إليها ويخلق الألفاظ التي لا يجدها، غير مبال بالغرابة أو الثقل الذي يبدو أول الأمر، فان الاستعمال جدير باستئناس الكلمة الملاءمة بينها وبين أذواق الناس. وكم من كلمة أجنبية ثقيلة استعملها الناس فألفوها، ولميجادلوا فيها. فبعض كتابنا يقول البروباجندا والديموقراطية والأرستقراطية والميتافيزيقية على بعدها عن طبيعة لغتنا وأوزإنها، أنا أعرف أن القدماء من أدبائنا غلوا في الظرف وأخذوا على المتنبي وغيره كلمات سموها نابية أو حوشية. وقد تجلى هذا الظرف في كتاب المثل السائر وغيره ولكن هذه الرقةلا يقام لها وزن عند الحاجة الملحة. بعض ألفاظ اللغة محاكاة الأصوات، وبعضها فيما أظن، تخيل المعاني في الأصوات: حاكت اللغة صوت الريح والرعد والطير وأنواع الحيوان ونحوها ومثلت المعاني الأخرى في ألفاظ تلائمها، فليس لنا أن ننفر من الألفاظ الشديدة

ص: 9

ونتجنبها إن أردنا أن ندل على المعاني الشديدة. فالعقنقل والحقف والكثيب والجلمودوأشباهها ملائمة لمعانيها. ولا بد من استعمالها لندل على هذه المعاني. ولكن الذوق الحاضر يؤثر الألفاظ اللينة الحفيفة الجرس المألوفة، ويترك مثل هذه الألفاظ على شدة الحاجة إليها.

ينبغي أن تؤثر الألفاظ القوية الشديدة لمعانيها، والألفاظ الخفيفة لمعانيها، دون إنصات إلى حكم الأذواق، بل ينبغي أن يعمل الأديب لإحياء الألفاظ الطبيعية الشديدة كلما نزعت بالأمة رخاوة الحضارة إلى نسيإنها، وينبغي أن تعالج اللغات بالألفاظ القوية التي تبدو ثقيلة غير مألوفة، كما يعالج ترف الحضارة بضروب السياحات والرياضات الشاقة. والاستعمال جدير بتذليل كل صعب، وأستأنس كل وحشي. يجب أن يحكم موضوع الكلام لا ذوق المترفين. فالشاعر في القاهرة أو باريس إذا وصف الجبال أو الحروب، وهي بعيدة من إلفه، ساغ له أن يأتي بالألفاظ التي تثير الروعة والهيبة. إن اللغات العامية في البلاد العربية نتيجة الأذواق المختلفة، ولغة الأدب الموحدة في هذه البلاد نتيجة مقاومة هذه الأذواق بالتعليم، ورفعها إلى مستوى أرفع وأقوم.

أضرب للأستاذ الفاضل قول مسلم بن الوليد في وصف الصحراء

ومجهل كاطراد السيف محتجز

عن الإدلاء مسجور الصياخيد

تمشي الرياح به حسرى مولهة

حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد

ما رأيه في (مسجور الصياخيد) و (أكناف الجلاميد)؟ أهي ملائمة لذوق الجيل الحاضر؟ وهل يرى غيرها أجدر بمكانها في هذا الشعر؟ إنها لا ريب حسنة في موقعها، بالغة ما أريد بها من وصف الصحراء حين تشتعل فيها الهواجر. فإن كان علم الجيل الحاضر باللغة ينفر به عن أمثال هذه الكلمة فليس على الكاتب أن يتحرز عنها، ولكن على الناس أن يألفوها. ثم ماذا يرى الأستاذ في قول ابن هانئ الأندلسي:

فحياضهم من كل مهجة خالع

وخيامهم من كل لبدة قسور

من كل أهرت كالح ذي لبدة

أو كل أبيض واضح ذي مغفر

طردوا الأوابد في الفدافد طردهم

للأعوجية في مجال العثير

ماذا يرى إن كان جهل جيلنا الحاضر باللغة ينفر بذوقه من قسور وأهرت والأوابد والفدافد

ص: 10

والأعوجية. وهل ينبغي أن يهجر قول الشريف الرضي:

من القوم حلوا بالربى وأمدهم

قديم المساعي والعلاء القدامس

تحلهم دار العدو شفارهم

وترعيهم الأرض القنى المداعس

بها ليل أزوال، بكل قبيلة

ملاذع من نيرانهم ومقابس

أو ينبغي أن يهجر ذوقالجيل الحاضر ان نفر من مثل هذا الشعر؟

أرى أن حاجة الكتاب إلى الإبانةوالإعراب والإبداعتسوغ لهم أن يتخيروا من اللغة ما يشاءون، ويطبعوا ذوقالأمة كما يبتغون، وأرى أن الذوق ربما يكون وليد الجهل وفساد الطبع، والاستكانة إلى كل هين يسير، والركون إلى كل سفساس مبتذل.

للذوق الحكم حين يتسع العلم باللغة والأدب، وتعرض ألفاظ عدة لمعنى واحد فيختار الذوق واحداً منها. وللاختيار أسباب كثيرة، فقد يختار (هبيخ وبعاق وكنهور) وقد يختار غيرها. وإنما الفظاظة والثقل أن يعمد الكاتب إلى كلمات غير مألوفة فيؤثرها على المألوف إغرابا وتعمقا وشذوذاً ومخالفة للذوق دون جدوى.

ثم يقول الأستاذ: (لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة الا إنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار) وأنا أقول بعد الذي قدمت: ما أشد حاجتنا إلى كثير من هذه الألفاظ المهجورة، فإنها مجدية على من يعرفها ويستعملها. وعسى أن تصير ملائمة لذوق الجيل الحاضر حين يعرفها فيقضي بها حاجته من الإبانة عما يريد.

ربما يقول الأستاذ بعد قراءة هذه الكلمة. إن الذوق في رأيي هو الذوق الذي تخلقه الحاجة والمعرفة والتمكن من اللغة والأدب، وبلوغ الغاية مما نريد لا الذوق الذي يكون على العلات في كل حين. فان يكن هذا الذي أراده أستاذنا فقد شرحته وبينته وبررت بوعدي حين لقيته فقلت:(سأنقد مقالك أو أشرحه) وأما الأستاذ الثاني وهو أجدر بالمجادلة فموعدنا بنقده (الرسالة الآتية)

ص: 11

‌روح الإسلام

للدكتور محمد عوض محمد

منذ سنوات كنت اطلب العلم في جامعة لفربول. . . . . .

وفي ذلك الزمن كنت قد عاهدت نفسي وعصبة من الرفقاء، منذ نزلنا بلاد الإنكليز على ألا نألوا جهدا في إفهام القوم أمر بلادنا، واطلاعهم على مالنا من تاريخ مجيد وثقافة جليلة. فكنا نرحب بكل من جاء يستطلع منا خبرا، أو يستفتينا في أمر يمت إلى الشرق بسبب.

وفي يوم من أيام الشتاء، بعد انصرافي من إحدى المحاضرات، ابتدرتني طالبة من الطالبات بالسؤال الآتي: هل تستطيع أن تخبرني في كلمة واحدة أو في كلمات قلائل ما روح الإسلام؟ أدهشني السؤاللأول وهلة، ونظرت إلى السائلة نظرة الحائر المستفسر. فأدركت أن في السؤال شيئا من الغموض. فقالت:(اننا، مثلاً، نرى أن روح المسيحية يتمثل في لفظ واحد وهو الحب. فهذا هو لب لباب ديننا، والأساس الذي شيدت عليه صروح المسيحية كلها. فما من عقيدة ولا شعائر ولا تعاليم إلا والحب محورها الذي تدور حوله. ولا تكترث لما قد تراه مخالفا لذلك فما هو من المسيحية في شيء.) فقلت: (إنك إذن تريدين مني كلمة واحدة أو كلمات قلائل، تكون من الإسلام بمثابة كلمة الحب من المسيحية؟.) فقالت: (أجل فقد يكون روح الإسلام مثلا العدل أو القوة. .)

فأطرقت قليلا، وأنا أمعن في التفكير، لعلي أهتدي إلى جواب ترضاه وأرضاه. وخطر لي أن أشرح لها أن للإسلام أركانا خمسة. . لكني ذكرت إن في المسيحية أيضا صلاة وصياما. وخشيت أن تقول لي إن هذا من الدين بمثابة الجسم وإنها تبحث عن الروح.

قلت لها في صراحة: (إنني ما خطر لي يوما أن أبحث عن كلمة واحدة تؤدي كل ذلك المعنى الجليل الخطير. . وأنتم معشر الإنكليز قوم تحبون تبسيط كل مسألة. . ومع هذا أمهليني أتدبر الأمر، أو أسأل أهل الذكر. فلا خير في جواب عاجل لا ينطوي على الصواب.)

في مساء ذلك اليوم جلست في حجرتي مطرقا، مسندا رأسي على يدي، محدقا في مصطلى تشتعل فيه النار. كأنما كنت ألتمس الإلهام من لهيبها المندلع وقبسها المضطرم. وأطفأت المصابيح كي لا يلهيني عن التفكير ما بالحجرة من أثاث أو صور. . . . . .

ص: 12

لم أكن (علم الله) من الملمين بعلم الدين. وكنت أحس من نفسي عجزا وقصورا، عن معالجة تلك المسألة، ولكني رغم هذا رأيت أن أحاول معالجتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا. . وجعلت أجهد فكري أيما إجهاد. وخيل لي أني أرى أمامي سبلا كثيرة فجعلت أسلك كلا منها، ولا أزال أتبعه إلى نهايته، ثم أعود فأسلك طريقا آخر فأجتازه إلى غايته: وكانت كل خطوة تدفعني إلى خطوة أخرى حتى أبلغ نهاية المرحلة. . .

وهكذا سلكت في تفكيري وبحثي طرقا شتى. وعجبت إذ ألفيتني أصل في كل مرة إلى غاية واحدة، ويسلمني البحث إلى شيء واحد. . فقد كان ينتهي بي التفكير دائما إلى التوحيد. . . . . .

لعل روح الإسلام إذن هو التوحيد. . وهل أراني بلغت الغاية حين رست بي سفينة الفكر على ذلك الساحل الأمين؟ أليس التوحيد أن يقصد الناس بجسدهم وبروحهم وجه الإله، ولا ينصرفوا عنه إلى سواه؟ وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله؟. . وأن نرتفع بأنفسنا عن عبادة المال والتكالب على جمعه. . وعبادة الشهوات التي تسترقنا وتذلنا. . أليس التوحيد إذن هو الذي يعلو بأنفسنا عن كل دنيء مهين، ويرقى بنا إلى سماء كلها طهر وصفاء؟

فيم التردد إذن؟ إن روح الإسلام هو التوحيد.

جالت بنفسي هذه الخواطر، وجعلت أرددها في صدري مرارا فلا تزداد إلا ثباتا ورسوخا. وخيل إلي إني اهتديت إلى إجابة صريحة (لا لبس فيها ولا إبهام) على السؤال الذي سألته صباح ذلك اليوم.

وكنت أخشى ألا ألتقي بصاحبة السؤال إلا بعد أيام، فأردت أن أرسل إليها الجواب في طي كتاب فتناولت قلما وورقا، وأوقدت المصابيح، وجعلت أسطر ما جال بخاطري في شيء من الإسهاب والتفصيل، كي لا يبقى في صدر القارئة ذرة من الشك في صحة ما استقر عليه رأيي.

وأعدت تلاوة الكتاب مرارا، واطمأننت إلى إنه يؤدي كل ما جال بنفسي أحسن الأداء. وكنت بهذا فرحا طروبا. ثم طويت الكتاب، ونهضت لأحمله إلى دار البريد.

في تلك الساعة كان المطر ينهمر مدرارا. فجلست إلى جانب النافذةانتظر عله يكف أو

ص: 13

يسكن قليلا. . وجعلتانظر إلى خارج الدار. أتأمل الغيث إذ يتساقط على أحجار الشارع الملساء، والضباب الخفيف وقد انتشر في سائر الأرجاء. والمصابيح وهي تبدو ضئيلة فاترةخلال الضباب والغيث. وكأنها أشباح اليقين وسط دياجير الشك.

لم يطل تأملي لذلك المنظر حتى عاد بي الخاطر إلى موضوع الكتاب الذي بيدي. . وانتقل بي التفكير من الإسلام إلى البلاد التي تدين بالإسلام. وجعلت أنظر بعين الوهم إلى تلك الأفكار، التي يفصل بيني وبينهاآلاف الأميال. وأخذت ترتسم أمامي صورتها شيئا فشيئا. .

ليت شعري ماذا في بلاد الإسلام من روح الإسلام؟ وماذا في بلاد التوحيد من التوحيد؟

غشيني شيء من الذهول. ورسم الوهم أمامعيني صورة مروعة مفظعة هائلة، لتلك الأقطار القاصية. .

رأيت البلاد. قد حلق فوقها عقاب البغي، باسطا عليها جناحيه، ومنشبا فيها أظفاره، وقد خضعت لسلطانه الرقاب، وعنت لخشيته الوجوه! وهلعت الأفئدة. وذلت الأعناق، ورغمت الأنوف! وانطلقت الأفواه تسبح بحمده، وتمجده، وهو لا يزداد إلا بغياً وعتواً، والأعناق لا تزداد إلا خشوعا وذلا.

وتبدلت الرؤيا بعد ذلك. . فأبصرت هيكلا عظيم البناء، لا يبلغ الطرف مداه. ورأيت الناس منطلقين إلى أبوابه الكبيرة، ليقيموا الشعائر. . زمر تسعى إثر زمر. . جموع تتجاذب وتتدافع، ويموج بعضها في بعض. . ولا تكاد الأبواب تحتويهم على سعتها. . . . . .

ثم انكشف الغطاء وأبصرت ما بداخل الهيكل. . فإذا أوثان هائلة، قد نصبت في أرجاء الهيكل. ومن دون كل صنم مذبح عظيم تقدم إليه القرابين، ويحرق عنده البخور. والناس من حولها بين قائم وقاعد وركع وساجد. .

نظرت ذات اليمين فإذا صنم جبار أصفر اللون، براق لامع، ما شككت في إنه (مامون) إله النضار. إن لم تنم عنه صورته فقد نم عنه رواده وقصاده. جنود مجندة وكتائب محتشدة. قد أقبلت على عبادته بأيد ممدودة، ووجوه تفيض شرهاً وجشعا.

وقد حمل كل عابد قربانه: هذا يقرب الشرف، وذاك يذبح الدين، والآخر يقدم الوفاء والميثاق، وذلك يقرب وطنه الذي نماه وغذاه، وصاحبه يقدم الأهل الذين أنجبوه. . . . . .

ص: 14

وها هنا شخص يحرق ضميره ومبدأه بخورا.،. وهناك آخر يضحي بما لديه من عفاف وكبرياء. . . . . .

وكأن ليس في العالم شيء أعز وأكبر من أن يكون قربانا لذلك الصنم الهائل الدميم. الذي كان يقبل القربان حيناً، ويزور عن عباده أحيانا. فلا يزيدهم نفوره وازوراره إلا تهالكا عليه، وغلواً في عبادته، وإكثاراً من الضحايا والقرابين. . . ثم نظرت إلى أطراف الهيكل، فأبصرت جموعاً أخرى عاكفة على أوثان أخر: ها هنا إله الشهوات وقد احتشدت عبيده من حوله. وهنالك وثن المناصب والجاه والناس من حوله ركع سجود. . . وفي هذه الناحية وتلك شكول وضروب من أصنام يكاد يخطئها العد، ويعجز عنها الوصف.

وألفيت نفسي بعد قليل أتنفس الصعداء، وقد إنجابت عن عيني تلك الرؤيا، ولم يبق أمام ناظري سوى الغيث المنهمر، والضباب المنتشر، وضوء المصابيح الضئيلة.

ولبثت برهة واجماً ساكنا: وقد امتلأت نفسي خزنا وغما. . . . . .

ثم نهضت ببطء شديد، وأغلقت النافذة وأسدلت الستر. وعدت إلى مجلسي بجانب الموقد. . . . . .

وأمسكت بيد مرتجفة ذلك الكتاب الذي تعبت في تسطيره وتحبيره. . . . . .

وبيد مرتجفة ألقيت به في النار. . . وجعلت أحدق فيه إذ يحور لهيبا ودخانا. . .

وأحسست بقطرات تنحدر على خدي. . فتناولت منديلي ومسحتها. . . . . . ولعلها من قطرات ذلك الغيث أصابت وجهي وأنا جالس لدى النافذة!

ألفيت الفتاة بعد أيام فأعادت السؤال فقلت لها إن كان روح النصرانية الحب، فأن روح الإسلام التوحيد.

ص: 15

‌الشعر والحياة الحديثة

لشاعر الهند رابندرانات تاغور

يعيش العالم الآن في عصر ثورة. فاعتقاده القديم وميله حتى نفوره في تغير وتبدل. ولم يشهد التاريخ تطوراً أصابه من التقلبات السريعة المفاجئة ما أصاب هذا التطور البادي في عقلية الجماعة والفرد. فالأخلاق تختلف، والآراء تتغاير، والاعتقادات تتباين. والجيل الجديد قد دفعته الرغبة الملحة إلى تجربة كل شيء في الحياة حتى نسي فن الحياة، فلا يملك الوقت للتفكير والتأمل، ولا يجد الفراغ للسرور الهادئ الذي يمتع به نفسه، ولا فرصة للقراءة يغذي بها روحه، وشدة الزمان وعنف الجهاد لا يسمحان لامرئ أن يفاكه شيئا لا رادة فيه ولا ثمرة، لذلك كان فن الشعرأبعد ما يكون عن الازدهار والانتشار. فالشعراء قليلون. وروائع الشعر نادرة، لأن طبيعة العصر تقتضي ذلك.

أنا لا أزعم إني أفهم ميول العصر، ولكني أسجل ما عليه الشعر العصري من حاضر سيئ وحال أليمة. ليكن السبب في ذلك متصلا بأي صورة من الصور بالحرب وأثرها في نفوس الشعوب التي صليت بنارها (وذلك ما لا أجرؤ على تأييده) فإن الأمر الواقع أن ازدهار الشعر في هذه الساعة من أصعب الأمور.

ومما لاشك فيه أن الناس لا يجدون لثقافة الشعر فراغا تركه السينما الناطق وموسيقى الجاز وذلك الحرص على أن يزدردوا في أربع وعشرين ساعة مقدارا من التجارب والاختراعات والاحساسات كان يغذي آباءنا الأولين شهوراً عدة.

على أن هذا الحال من الظواهر الطارئة التي لا تلبث أن تزول، فأن في الإنسان جزءاً جوهريا يقتضي الشعر ويتطلبه. أما وقت زوالها فذلك ما أجهله، ولكنه على أي حال لا يكون اليوم، لأن الناس أصبحوا غير أهل لتقدير العمل الفني، وإذا استطاع المسافر في قطار سريع أن يحسن التقدير لمنظر من المناظر، استطاع الرجل الذي يحيا هذه الحياة المحمومة أن يزن الحكم على قصيدة من القصائد. أن للحياة نسقا موزونا إذا أعجلته في حركته عرض الوجود كله للخطر. وقد نسى رجال اليوم ذلك فأصبحوا يركمون الإحساس فوق الإحساس دون استمتاع ولا تذوق، كالأكول الشره يبتلع اللقمة دون استمراء ولا مضغ ففاتهم بذلك خير ما في الحياة! تلك هي الحال الغالبة على كل شيء.

ص: 16

ويريبني الشك في أن مثل هذه الحال توفى بالإنسانية إلى السعادة حتى ولو حققت لها النجاح المادي، لأن هذا النجاح لا يعدو أن يصبح كل إنسان قادرا على اكتساب ثروة تضمن له ترف العيش، وتنوع له صور الحياة، ولكن الواقع أن عبادة السرعة التي احتلت المشاعر وغلبت على الأذهان تستفرغ جهد المرء في تبريزه على جاره وأخذه المهلة على منافسه، والسرعة وإن بلغت بالناس بعض النجاح لا تستطيع على ما أظن أن تجدي عليهم جمال الحياة ورخاء الصدر. فالجيل الناشئ قد جنى معرفة واسعة بالأشياء وخبرة عظيمة بالأمور، ولكنه على وشك أن يفقد حساسيته، ويوشك هذا الميل إلى الإفراط أن يطغي على العالم بأسره، لأن انتقال الأفكار من قطر إلى قطر لم يكن في زمن من الأزمان أسرع منه الآن، وقد راعني سريان هذا الداء إلى شرق الهند بسرعة غريبة. فمنذ قليل كان في البنغال جمهور عظيم قد سلم شعوره من شر الأخلاق، فكان عباد الجمال من شعراء الشياب موضع إجلالهم وتقديرهم، ودواوين شعرهم مصدرا لغبطتهم وسرورهم، ولكن الهنود اليوم قد أخذوا بأسباب الحياة الحديثة وهي كما قلت شر عل الشعر وحائل دون ازدهاره.

يزعم فريق من الناس أن تأخر الشعر نتيجة لتقدم العلوم في الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة وزعمهم هذا باطل، فإن نفاق العلم لا يستلزم حتماً كساد الشعر.

وإنما الخطر الحقيقي الوحيد هو أن الناس في هذه الرجات الاجتماعية الحديثة يصبحون عاجزين عن ترجمة الخواطر بالشعر، قاصرين عن إدراك الجمال في القصيد، وذلك لا ريب عرض من أعراض الهرم. ومثل هذا العرض لا يظهر في الشعوب الشابة لأن حاسة الشعر خصيصة من خصائص الشباب. على أن هذه الحاسة يفقدها المرء بسهولة إذا لم يساعدها بالثقافة والمران، ومتى فقدها فقد معها نضرة العيش وجمال الحياة.

ص: 17

‌فلسفة التاريخ

مقدمة

الفلسفة هي محاولة إيجاد قانون واحد شامل ينتظم الكون بأسره وتخضع له جميع الحوادث. فالعلوم تبحث عن الجزيئات والفيلسوف يستخرج من جزيئات العلم كليات الفلسفة.

وقد حاول الكثيرون أن يبحثوا في التاريخ من ناحيته الفلسفية وكدوا أذهانهم في البحث عن سبب واحد يعللون به جميع حوادث التاريخ وتطوراته من يوم ولد إلى يوم يموت فوصلوا إلى نتائج مختلفة وأسباب متشعبة.

التفسير الاقتصادي للتاريخ

كان من بين النظريات التي اهتدى إليها البحث نظرية (التفسير الاقتصادي للتاريخ) ومن أكبر دعاتها الفيلسوف الاشتراكي كارل ماركس. وخلاصة هذه النظرية أن العوامل المادية كانت دائما الدافع الأول والمباشر لكل حوادث التاريخ فالإنسان الأول لم يلجأ إلى تكوينالجماعات إلا ليسهل على نفسه سبل العيش، والجماعات لم تنقسم إلى دول وشعوب إلا لاختلاف مصالحها الاقتصادية ونشوء الدول وتطورها وسقوطها يرجع إلى أسباب اقتصادية بحتة والحروب والغزوات والهجرات لم تقم إلا على أسباب مادية خالصة.

ولأصحاب هذه النظرية شواهد تاريخية كثيرة تسند رأيهم وتعزز قولهم فالانقلاب الصناعي الذي حدث في أوروبا في القرن الثامن عشر كان له أكبر الأثر في تطور الشعور الديني عند مختلف الطبقات، وقد انتهى بضعف النزعة الدينية وتقوية شوكة الإلحاد. والحرب الأوربية الكبرى عام 1914 أقرب مثال لتأثير التطور الاقتصادي في تيار السياسة ومجراها. خرج الرجال إلى ميادين القتال فبرز النساء إلى ميادين العمل يملأن المصانع بأيديهن العاملة ويقمن بالحركة التجارية على أكمل وجه وقد قل بذلك اعتماد المرأة على الرجل، وتغير موقفها الاقتصادي نحوه فطالبت بحق التصويت. وسرعان ما احتلت مقعداً بين النواب بل وارتقت إلى كرسي الوزارة. وقد كان لهذا الانقلاب الذي طرأ على مركز المرأة الاجتماعي أثر كبير في تغيير القوانين والآداب والفنون وجميع المرافق الأخرى التي قد تبدو عديمة الاتصال بالحالة الاقتصادية. وهكذا تم تحرير المرأة عندما قل اعتمادها

ص: 18

الاقتصادي على الرجل ولم تكن لتحصل على هذه الحرية بتأثير كتابات أفلاطون وجون ستيوارت مل وغيرهما ممن ذاد عن حرية المرأة ودافع عن كرامتها. وكانت الطهارة والعفاف من فضائل المرأة الكبرى التي فرضها عليها الرجل حينما كانت تعتمد عليه، وكان تفريطها في عرضها جريمة كبرى في نظر الرجل لا تقاس بها جرائمه التي يرتكبها في هذا الاتجاه مهما كانت جليلة خطيرة، فلما تحررت المرأة قلت مسئوليتها عن عفافها وكادت تساوي مسئولية الرجل.

والواقع أن كثيرا من آدابنا العامة وفلسفتنا الخاصة يخضع لتأثير العوامل الاقتصادية كل الخضوع فالقناعة والرضا بالأمر الواقع والتواضع والخنوع فضائل إرتآها الأغنياء للفقراء وفرضوها عليهم فرضا فاتخذوها هؤلاء على مر الزمن مبادئ ثابتة لهم تحت تأثير سلطة الأغنياء وبدافع ما يسميه ماكدوجل (الشعور بالذات السلبي) - وهو شعور عكسي يدفع المرء لا إلى التغلب على غيره بل إلى الاستكانة والخضوع.

التفسير المادي للتاريخ

ومن الباحثين من كان تحت تأثير الفلسفة المادية فأرجع التاريخ إلى أسباب مادية، وإن تكن غير اقتصادية (والمادية في الفلسفة معناها أن جميع ظواهر العقل والفكر إما طبيعية أو ترجع إلى أسباب طبيعية) ومن هؤلاء بكل الذي يقرر أن المناخ هو العامل الأكبر في تقلبات الحوادث فالحضارات القديمة إنما نشأت في الجهات الحارة مثل مصر والهند وآشور وغيرها لسرعة نمو النباتات في تلك البلاد وسهولة العيش تبعا لذلك وكلما ارتقى الإنسان في سلم التطور انتقلت مراكز حضارته إلى البلاد الباردة. ويعزز لك سير المدينة شمالا من مصر إلى بلاد اليونان والرومان إلى أواسط أوربا وإنجلترا والسويد والنرويج حيث هي اليوم. ومن هؤلاء أيضا فرويد الذي يرى إن العلاقات الجنسية هي أساس كل ما يصدر عن الإنسان من حركات وأعمال. فنحن إذن نستطيع أن ننظر إلى التاريخ من عدة نواح مادية (أي طبيعية) ولكنها ليست اقتصادية ولا تتفق مع تفسير ماركس للتاريخ. ونظرية التفسير المادي للتاريخ تختلف إذن كل الاختلاف عن المادية في الفلسفة ولابد من فصل الواحدة عن الأخرى.

العواطف وأثرها في التاريخ

ص: 19

رغما عما للعوامل الاقتصادية والأسباب المادية التي ذكرناها من الأهمية العظمى في تكييف السياسة وتحديد معتقدات شعب من الشعوب فإننا لا يمكن أن نتجاهل بعض العوامل الأخرى التي كان لها أكبر الأثر في تاريخ الإنسان وحياته العامة.

(أ) وأشد هذه العوامل وضوحا وأكثرها إهمالا من جانب الاشتراكيين اتباع كارل ماركس عامل القومية، فكثيرا ما تعارضت القومية مع المصلحة الاقتصادية وتغلبت عليها فتريستا مثلا كانت تعد نفسها قبل الحرب العظمى إيطالية مع أن مصلحتها الاقتصادية كميناء تتوقف على تبعيتها للنمسا، ولكن نظراً لأن أكثر سكانها من الإيطاليين فقد كانت تضحي بفائدتها المادية في سبيل إشباع شعورها القومي. كما أن انفصال دول البلقان عن بعضها أدى إلى ضعفها الاقتصادي ومع ذلك فقد تم الانفصال تحت تأثير عوامل عاطفية قومية بحتة.

وقد كان العمال أثناء الحرب العظمى يسيرون مندفعين وراء شعورهم القومي متناسين رأيهم الاشتراكي الذي كانوا ينادون به (يجب أن يتحد العمال في جميع أنحاء العالم) تجاهل العمال هذا المبدأ حيناً، ووقفوا في ميدان القتال وجها لوجه للمحافظة على حدود الوطن وتلبية لداعي القومية. وقد يعترض أصحاب فكرة التفسير الاقتصادي على ذلك فيقولون، إن العمال كانوا يستمعون في هذا القتال لنداء أصحاب رؤوس الأموال الذين رأوا في الحرب فرصة للصيد في الماء العكر، وتكديس الأرباح والمكاسب ولكننا لا نقيم لهذا الاعتراض وزنا إذا عرفنا أن كثيراً من الرأسماليين هووا إلى الإفلاس أثناء الحرب.

(ب) ومن العواملذات الأثر البين في التاريخ المنافسة وحب السيطرة. فالمنافسة التجارية بين إنجلترا وألمانيا كانت سبباً هاماً في نشوب الحرب الكبرى، والمنافسة كما نعلم غريزة من غرائز الإنسان المتعددة تظهر بأشكال مختلفة وقد كان هذا الوجه الاقتصادي الذي ظهرت به قبيل الحرب أحد هذه الأشكال فلا يمكننا إذن أن نعد هذا السبب من أسباب الحرب من بين العوامل الاقتصادية فقد كان بوسع أصحاب الأموال من إنجليز وألمان أن يتحدوا ويتعاونوا فيجنوا من وراء ذلك الأرباح الطائلة، ولكن غريزة المنافسة غلبت عليهم فتجاهلوا مصلحتهم الاقتصادية واندفعوا وراء غرائزهم الوحشية.

هذا وقد دفعت غريزة السيطرة وحب القوة الإسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم إلى تملك

ص: 20

ناصية العالم، ولم يكن هؤلاء الرجال يرمون إلى زيادة ثروتهم وممتلكاتهم، وإنما كانوا يشبعون غرائزهم ويبذلون أرواحهم في سبيل منافسة خصومهم والتغلب عليهم، أن الدنيا لو خلت من خصم لهم لتلمسوا المعاذير وخلقوا أسباب الخصومة خلقاً، جريا وراء النصر وحب التغلب!

وكيف يمكننا أن نتجاهل العاطفة الدينية وما كان لها من أثر في حروب دموية طويلة عند ظهور الإسلام وبين المسلمين والصليبيين. وكثيراً ما اتحدت الجماعات المختلفة بتأثير العامل الديني رغم ما كان بينها من فوارق اقتصادية وإنا لنجد العامل الكاثوليكي في أوربا يصوت لرأسمالي كاثوليكي ولا يصوت لاشتراكي ملحد رغم اتفاقه وإياه في آرائه الاقتصادية فطبقة العمال تنظر إلى رفع عماد الدين قبل أن تنظر إلى تحسين حالتها المعيشية.

الفلسفة وأثارها في التاريخ

وكثيراً ما كانت لآراء الفلاسفة نتائج عملية في توجيه السياسة. وليس أدل على ذلك مما كان لتعاليم روسو من أثر قوي في مجرى السياسة العالمية، مما أدى إلى قيام الثورة الفرنسية وما استتبعها من تطورات كما أدى إلى مناداة الولايات المتحدة بحريتها ومطالبتها باستقلالها.

علم النفس وضرورته لتفسير التاريخ

وأخيراً فأن التاريخ يحتاج كما تحتاج جميع مظاهر الحياة إلى معونة علم النفس لتفسيره وتحليل أسبابه وقد أظهرت المباحث الحديثة في هذا العلم أن الأعمال التي ترتكز على أساس من العقل والفكر ليست إلا قطرة حقيرة في خضم الأعمال التي تنبعث عن الشعور متأثرة بأسباب غير معقولة وكثيراً ما تغير وجه التاريخ لأسباب مجهولة نبعت عن دوافع لا شعورية عند بعض الزعماء وعظام الرجال، ولكن ماركس كان متأثراً بآراء علماء النفس في القرن الثامن عشر حينما كان يبحث عن أسباب معقولة يفسر بها حوادث التاريخ فهداه البحث إلى العامل الاقتصادي وعليه بنى نظريته في الاشتراكية زعماً منه أن المساواة الاقتصادية تدعو إلى إيقاف التطاحن والحرب بين البشر.

ص: 21

محمود محمود محمد. ليسانسيه في التربية والتاريخ

ص: 22

‌نشأة المدنية

الأستاذ زكي نجيب محمود

كان راسخا في الأذهان إلى عهد قريب أن دراسة التاريخ بعيدة كل البعد عن دقة العلوم الطبيعية، ذات القوانين الثابتة المطردة، من حيث طريقة البحث، وانتزاع الأحكام الكلية من الأمثلة الجزئية، لأنه رواية لأعمال الإنسان وسلوكه فرداً ومجتمعاً، وعلى ذلك فهو لا يخضع لقانون دقيق، كما تخضع العلوم الرياضية مثلا، ما دامت أعمال الإنسان نفسها لا تطرد ولا تستقيم مع قانون خاص، وبناء على تلك العقيدة الراسخة، لم يحاول مؤرخ في العصور الماضية (فيما نعلم) أن يستنبط من شتيت الأخبار التي يرويها التاريخ قانونا عاما ينتظم الجماعة الإنسانية، كما أستنبط الرياضيون من مختلف المظاهر الكونية مجموعة القوانين اليقينية التي لا يجد الشك إليها سبيلا.

ولكن دراسة التاريخ أخذت تخطو في العصر الحديث خطوات نحو الدقة العلمية واستخلاص القوانين العامة من الجزئيات التي تزخر بها بطون المجلدات. ومن أدق ما قرأنا في هذا الموضوع، ما كتبه توماس بكل، المؤرخ المعروف، الذي حاول في كتابه (تاريخالمدنية في إنكلترا) أن يخضع النشاط الانساني، الذي يبدو في أحداث التاريخ المختلفة، إلى نواميس ثابتة دقيقة، كالعلوم الطبيعية سواء بسواء، وكأني به قد وضع المجموعة البشرية في مخبار وأخذ يضيف إليها من المواد ألواناً مختلفة، حتى انتهى به البحث إلى تلك النتائج القيمة التي دونها في كتابه المذكور،

وسنحاول في هذا البحث أن نحلل العوامل الأساسية، والقوانين العامة، التي أنتجت المدنية الإنسانية من أحضان الهمجية الاولى، لإنها لم تنشأ حيث نشأت اعتباطا وعن طريق الصدفة العمياء، ولكنها نتائج محتومة لمقدمات طبيعية.

ولكن ما هي هذه المدنية التي نحاول أن نتتبعأسباب نشأتها؟ أليس جديراً بنا أن نلم إلمامة سريعة بمعناها أولاً، حتى يقوم البحثعلى دعامة قوية وأساس متين؟ نعم، ولكن دون ذلك البحوث المستفيضة وليس هذا المقال القصير مجالا لهذا البحث المتشعب الأطراف، والذيلا أحسب موضوعا بلغ فيه الخلاف بين الباحثين من الشدة والاتساع ما بلغه في هذا الموضوع، وأذكر أني قرأت ملاحظة طريفة أوردها الكاتب (الإنكليزي هافلوك اليس) في

ص: 23

مقال كتبه عن المدنية، حيث يقول عن هذه الكلمة إنها لم ترد في دائرة المعارف التي وضعها جماعة الانسيكلوبيديين لكثرة ما يقوم حول تعريفها من خلاف.

ولكنمهما يكن من أمر ذلك الخلاف في مدلول المدنية، الذي منشؤه تباين وجهات النظرللحياة، فأن أحداً لا ينكر إنها تعتمد في تقدمها بوجه عام على تقدم العلوم والمعارف أكثر من أي شيء آخر، وأكاد أقول في شيء من اليقين إنها عبارة عن كمية المعارف التيوصل إليها الانسان، لا أكثر ولا أقل، على الرغم من تلكالدعوى التي لا يؤيدها منطق ولا تاريخ والتي يأخذ بها بعض المفكرين في كثير من النعرة الواهية، وهي أن المدنية رهينة بتقدم الأخلاق وحدها، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى إلى تاريخ الإنسانية منذ فجرها حتى الآن، لتعلم أن الأخلاق في العصور الأولى هي هي الأخلاق في العصر الحاضر، لم تتقدم إلا بمقدار ضئيل جداً لا يكاد يذكر، فلا يزال الصدق محموداً والكذب مرذولاً، ولا تزال الأمانة خيراً والخيانة شراً. . . أما العلوم فهي تسير كل يوم، إن لم يكن كل ساعة سيراً حثيثاً إلى الأمام.

يتضح من هذا أن المدنية في جوهرها عبارة عن المعارف الإنسانية، فإذا ما أردنا أننبحث عن الأسباب التي أدت إلى نشأة المدنية، فلنبحث عن نشأة العلوم، ماداما صنوين متلازمين، أو بعبارة أدق لأنهما شيء واحد.

حاول أن تصور لنفسك الجماعة الإنسانية في فجر التاريخ، فترى إنسانا لا يملك من الأدوات التي يستعين بها في عمله الشاق شيئا، ترى إنسانا يعمل بيده كل شيء، لا يكاد يستيقظمن نومه حتى يمشي في مناكب الأرض سعياً وراء قوته من نبات وحيوان، ويظل هذا السعي حتى يغشاه الليل بظلمته، فيركن إلى كهف يأوي إليه مهدود الجسد، فيستغرق في النعاس حتى تشرق عليه الشمس كرة أخرى، فينهض من مخدعه ليعيد في يومه سعي أمسه.

فهذا الذي يستنفد نهاره في الحصول على قوته وسائر ما تقتضيه الحياة من شئون، ويقضي ليله في جوف الكهف نائما، لا يكون لديه من الفراغما يمكنه من التفكير في خلقالسماوات والأرض، والتفكير أولى مراحل العلم، وإذن فالعلوم كامنة في ثنايا العدم، ولا يكتب لها الظهور إلى ضوء الوجود إلا إذا تبدلت الحياة غير الحياة والإنسان، فتتوفر لجماعة إنسانية

ص: 24

بيئة تساعدها على إنتاجمحصول يزيد على طعام يومها، حتى يتكون فيض إنتاجي لا يلبث أن يتجمع عند أفراد قليلين، هم الأقوياءعادة، وبذلك يستطيع ذلك النفر القوي أن يتخلص من المجهود الذي كان يبذله لتحصيل ضرورات الحياة، وإذن فقد تمتع بالفراغ الذي لابد أن يستتبع التفكير في مظاهر الكون، وهذا التفكير هو النواة الأولى للعلوم والمعارف المختلفة.

يتضح مما سبق أن الشرط الأول لنشأة العلوم - وبالتالي المدنية - هو خصوبة التربة. الذي يؤدي إلى وفرة الإنتاج بما يزيد على حاجة الاستهلاك، وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ، فالمدنية المصرية القديمة لم تنبت في وادي النيل إلا لخصوبة تربته، كذلك الأمة العربية كانت قبل إسلامها أقرب إلى الهمجية منها إلا أي شيء آخر، فلما جاء الإسلام، ثم تبعه انتقال الأعراب إلى الوديان الخصبة كوادي النيل ووادي دجلة والفرات، حيث الخصب والنماء والثروة أنقلب هؤلاء الأجلاف شعباً متحضراً بلغت مدنيته حداً قل أن شهد مثله التاريخ.

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن المدنية الأوربية تختلف في أسباب نشأتها عن المدنيات القديمة، فبينا هذه تنشأ من خصوبة التربة، نرى الأولى نتيجة لاعتدال المناخ. ولم كانت المدنيات القديمة قد تأثرت بالعوامل الطبيعية وحدها، أعني إنها نتيجة لتفاعل المناخ والتربة من غير أن يتدخل الإنسان تقريبا، وخصب التربة محدود الغلة مهما أجيد استغلاله في حين أن الحضارة الأوربية لا يقف في سبيلها شيء لأنها أثر لتفاعل المناخ وذكاء الإنسان الذي لا يمكن أن نتصور له حدوداً يقف عندها، لهذا فالمدنية الأوربية أقوى أساساً وأعمق جذوراً وأبعد مدى من المدنيات القديمة جميعاً.

ولكن إذا كانت المدنية في أول أمرها (كما بينا) تابعة لخصب التربة، حتى يتوفر من المحصول الزائد ما يتجمع فيكفي فئة من الناس مؤونة العمل، وبذلك تبدأ الطبقة العلمية في الظهور، فلماذا اقتصرت المدنيات على المنطقة المدارية، حيث ظهرت في مصر والشرق الأدنى والهند وبيرو ومكسيكو، وكل هذه تكاد تكون على خط عرض واحد، نقول لماذا لم تنشأ المدنية في المنطقة الاستوائية، مع إنها وفيرة الإنتاج النباتي الذي يحقق شرط الفراغ الضروري للتفكير، فالعلم، فالمدنية؟ الجواب على ذلك سهل ميسور، وهو أن الجهات

ص: 25

الحارة لا تساعد الإنسان على التفكير والنشاط، بل من شأنها أن تقعده وتعجزه عن ضروب النشاط جميعاً، ومن جهة أخرى، فأن الوفرة النباتية الطبيعية، التي ليست ثمرة العمل الإنساني، تؤدي إلى التواكل وتعمل على خمود الذهن، لأن الحاجة أم الاختراع. وليس هناك حاجة تشحذ القوى العقلية لاكتشاف أي اختراع. إذن فأنسب مكان تظهر فيه المدنية أول عهدها، هو ذلك الذي يضطر الإنسان إلى العمل لتحصيل القوت، والذي يكون من خصبه ما يستطيع به أن يمد الإنسان بغلة تربى على حاجة الاستهلاك. ولكن قد يعود القارئ فيعترض بقوله إن هذا المناخ المعتدل الذي يبعث الإنسان على النشاط الذهني، وتلك الخصوبة التي توفر للإنسان محصولا زائداً، قد يتوفران في كثير من بقاع أوروبا مثلا، فلماذا لم تظهر المدنية في تلك الربوع في بادئ أمرها؟ هنا يتقدم (بكل) في كتابه الذي ذكرناه في أول هذا المقال، بتعليل دقيق يدعو إلى الإعجاب وإطالة النظر فهو يرى إنه لابد للمدنية في مهدها من كثرة عدد السكان بحيث يكون التفاوت عظيما بين الطبقات، حتى تستطيع الطبقة الحاكمة أن تتمتع بكامل السلطان المطلق على أفراد الشعب، فلا ينازعونها في الاستيلاء على ثمرة مجهود غيرها، وزيادة السكان بما فيها من تفاوت الطبقات، ميسورة في الجهات الدافئة دون الشمالية الباردة وإليك البيان:

لا ريب في أن الإنسان يدور مع الطعام وجوداً وعدماً فبينما تراه يتكاتف ويزدحم في البقاع الخصيبة، ترى الصحراوات خراباً لا يكاد يعمرها أحد، وهكذا يتوقف عدد السكان كثرة وقلة، على درجة خصوبة الأرض، ذلك لأنه كلما كثر الطعام كان الحصول عليه ميسوراً لكل إنسان، ومادامت غائلة الجوع مأمونة الجانب، فزيادة النسل تطرد إطراداً لا يحول دونه شيء، والعكس صحيح. أي كلما قل الطعام وعز مناله على الفقراء، تناقص السكان حتى يتكافأ عددهم مع ما تنتجه الأرض من محصول.

ولسنا بحاجة إلى ذكر ضرورة الطعام للكائن الحي لأدائه وظيفتين هامتين لا مندوحة عنهما لحفظ الحياة: فهو الذي يحفظ حرارة الجسم كما أنه يعوض ما يفنى من الأنسجة أثر القيام بالعمل، ولكنا نريد أن نرتب على ذلك نتيجة لها خطرها في موضوع بحثنا، فمن الحقائق المعروفة أن حرارة الجسم تتولد من اتحاد أكسجين الهواء الذي نتنفسه مع كربون الطعام الذي نأكله، فيولد هذا الاتحاد الحرارة اللازمة لحفظ كيان الإنسان، فلكي يحتفظ الجسم

ص: 26

بحرارته، يجب أن يناسب بين أكسجين الهواء وكربون الطعام، أي يجب أن يحصل من الطعام على مقدار يكون ما فيه من كربون متناسباً مع الأكسجين الذي يصل إليه عن طريق التنفس. ولما كان الإنسان في الجهات الباردة يتنفس أكسجيناً أكثر من زميله فيالجهات الدافئة: أولاً، لأن الهواء أكثف في الجهات الباردة فيكون مقدار الأكسجين في الشهقة الواحدة أكبر مما لو كان الهواء مخلخلا خفيفاً. وثانياً، لأن الإنسان يتنفس في الجهات الباردة مرات أكثر عدداً في كل فترة زمانية. فهذا التنفس السريع من الهواء يضاعف كمية الأكسجين التي تصل إلى الجسم في الجهات الباردة. والنتيجة اللازمة لذلك أن الإنسان في هذه الجهات يجب أن يمد جسمه بمقدار من الكربون في طعامه أكبر جداً مما يتطلبه زميله ساكن الجهات الحارة. إذن فأهل الشمال بحاجة إلى لحوم الحيوانات المختلفة لما تحتوي عليه من الكربون الذي يتطلبونه في طعامهم، مع أن أهل الجنوب يكادون يقتصرون على النباتات وحدها. ومن الحقائق العجيبة التي تلفت النظر، أن كمية الحيوان أقل جداً من كمية النبات: ومعنى هذا أن أهل الشمال لا بد أن يبذلوا أضعاف المجهود الذي يبذله أهل الجهات الدافئة للحصول على طعامهم، ولا مندوحة إلى التعرض في سبيل ذلك إلى أشق الأخطار وأعنف الصعاب، حتى أن بعض الكتاب يعلل بذلك روح المخاطرة التي تميز الأخلاق الأوربية. وإذن فالنتيجة الطبيعية لقلة الطعام في الجهات الباردة دون الجهات الحارة، زيادة السكان في الثانية أعظم من الأولى. وزيادة السكان معناها كثرة الأيدي العاملة، وكلما كثرت هذه الأيدي قلت أجورها تبعا لقانون العرض والطلب. وقلة أجور الطبقة العاملة معناها أن تتجمع الثروة في أيد قليلة (هي الفئة القوية لأن توزيع الثروة توزيع للقوة) وهكذا تزداد هذه الطائفة ثراء على حساب أجور العمال. ثم يتسع هذا الفرق ويزيد حتى يتكون في الأمة طبقتان اجتماعيتان، بينهما فارق شاسع فسيح: طبقة الملوك والأشراف، والطبقة الفقيرة العاملة. وبديهي أن هذا الفرق الاجتماعي يكون في الجهات الدافئة أكثر منه في الجهات الباردة حيث السكان قليلون بسبب قلة الطعام، فتزداد أجورهم نوعاً، وبذلك تقل الثروة التي تتجمع في أيدي الفئة القوية، وتضيق مسافة الخلف بين الطبقتين، ولعل هذا هو السبب في تمكن النزعة الاستبدادية في بلاد الشرق، ونماء الديمقراطية في ربوع الغرب. ويظهر مما سبق أن العاملين اللذين أشترطهما (بكل)

ص: 27

لقيام المدنية يتوفران في الجهات الدافئة قبل الباردة.

يحسن أن ألخص هذا التفصيل في سلسلة منطقية يسهل استيعابها حتى لا تتشعب أطراف الموضوع، فيفقد القارئ الرابطة التي تصل بعضها ببعض: زيادة السكان تتبع كثرة الطعام ولما كان الطعام الضروري للحياة أكثر في الجهات الحارة منه في الجهات الباردة فقد أزداد عدد السكان في الجهات الحارة بنسبة أكبر من الجهات الباردة ولكن ازدياد السكان يؤدي إلى قلة الأجور.

ثم يؤدي هذا بدوره إلى ازدياد الثروة عند الطبقة القوية. إذن فالطبقة غير المنتجة تظهر في الجهات الحارة قبل ظهورها في الجهات الباردة. ولما كانت نشأة العلوم (أي المدنية) رهينة بوجود هذه الطبقة غير المنتجة التي تستطيع أن تتفرغ للتفكيرفالنتيجة المنطقية لكل هذه المقدمات هي أن المدنية تشأ في الجهات الدافئة قبل نشأتها في الجهات الباردة، ولكنها إذا ما نشأت في هذه الجهات الأخيرة، كانت أقوى أساساً لما ذكرناه من إنها في تلك الجهات نتيجة لتأثير المناخ في الإنسان، في حين إنها في الجهات الدافئة نتيجة لتأثير المناخ في التربة، ولذلك نراها تسير نحو الجهات الباردة كلما ارتقت وازدادت قدمها رسوخاً، ولو أنا تصفحنا التاريخ على عجل للاحظنا لأول وهلة إنها نشأت في مصر (وهي منطقة دافئة) ثم أخذت تسير نحو الجهات الباردة شيئاً فشيئاً، فقد انتقلت إلى الشرق الأدنى، ثم إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، ثم إلى أواسط أوروبا، وهي الآن رابضة في شمال غربي أوروبا، ويتنبأ بعض الكتاب بأنها ربما استقرت في اسكندناوه في مستقبل أيامها، وهناك من الدلائل ما يؤيد ذلك.

لقد شرحنا فيما سبق القواعد العامة التي تتحكم في قيام المدنيات، ورأينا إنها نتيجة منطقية لمقدمات طبيعية، وإنها لا تخبط خبط عشواء في سيرها. ويجمل بنا الآن أن نطبق تلك القواعد الشاملة على نشأة المدنية المصرية زيادة في الإيضاح. ذكرنا أن بواعث المدنية هي:

(1)

اعتدال الحرارة لأن الحرارة الشديدة تشل قوة التفكير

(2)

خصب التربة

وهذان الشرطان متوفران في وادي النيل، فهو في المنطقة المعتدلة الدافئة، وتربته غنية

ص: 28

بما يحمله هذا النهر المقدس من طينة كأنها النضار.

(3)

ولكنا اشترطنا أن تجود الأرض بأكثر من حاجة الاستهلاك، وهذا متوفر في مصر. فقد كان البلح والذرة هما النبات الرئيسي الذي تجود به أرض مصر جود الكريم، وبذلك يصبح تحصيل القوت ميسورا، وإذن فزيادة السكان نتيجة محتومة، إلى آخر ما يتبع ذلك من نتائج. وبعبارة واضحة، لعلها لا تدهش القارئ بعد التحليل الذي بسطناه، إن نبات الذرة في مصر هو السبب الأساسي الذي دفع المدنية المصرية إلى الظهور. ومما يؤيد هذه النتيجة أن المدنية المصرية نشأت أولاً في الوجه القبلي لأنه اصلح لإنبات الذرة، حتى يقال أن زراعته انتقلت منه إلى الوجه البحري في وقت متأخر، ولا يزال صعيد مصر يزخر بآثار تلك المدنية العظيمة التي تنهض دليلا على ذلك.

ومما يؤيد زيادة السكان، التي نتجت عن وفرة الطعام، ما ذكره هيرودت من أنه وجد في مصر عند زيارته لها عشرين ألف مدينة عامرة. وقد أدت زيادة السكان طبعاً إلى نقص الأجور وتفاوت الطبقات تفاوتا عظيماً، بلغ حد التأليه للملوك، ونزل بطبقة العمال إلى هاوية التسخير غير المأجور، كما يتضح من بناء الأهرام وما إليها.

ليست أحداث التاريخ فوضى لا ضابط لها كما يتبادر إلى الأذهان التي تقف عند النظر السطحي، ولكنها تبدو للذي يستبطن دخائلها، خاضعة لقانون محكم لا يشذ، ومنطق سليم لا عوج فيه ولا التواء.

زكي نجيب محمود

ص: 29

‌في الأدب العربي

القصة المصرية

للأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بلندن

ولقد كتب الدكتور زكي مبارك معارضة من هذا القبيل يوافق فيها على أن القصة لا يمكن أن تنشأ في مصر إلا إذا حصلت المرأة على مركز اجتماعي لائق، ويصف كتاب القصة في الأدب العربي بأنهم ينتمون إلى الطبقة الوضيعة من طبقات الأدباء، وينعى عليهم قلة خبرتهم بفنون الكتابة وعدم استقلالهم في الرأي وسطوهم على الآداب الأوروبية، وأدهى من ذلك أنهم يغرون الشباب باحتقار فنون الكتابة الأخرى، على حين إن الأدب الحقيقي الذي يتجلى فيه الصدق والدقة الفنية قد يوجد في ضروب أخرى من ضروب الكتابة كالرسالة والقصيدة. وليس من الجائز أن نحكم على الأدب العربي بما نشاهده في الأدب الفرنسي والإنجليزي، بل يجب أن نحكم عليه حسب ميول أبنائه، وحسب درجة نجاحه في التعبير عن أفكارهم وأخيلتهم وأغراضهم. ويشير الكاتب إلى أن آداب الصحافة في مصر توضح الآن كثيراً من المشاكل العلمية والروحية ومشاكل العاطفة التي تواجه المصريين، وإلى أن مراقبة الحكومة ووقوف الرجعيين بالمرصاد يحولان دون الإفاضة في توضيح تلك المشاكل. ويقول الكاتب أن هناك نقطة أخرى جديرة بالانتباه وهي أنه يجب علينا ونحن وارثو الماضي أن نستحضر ذلك الماضي ونحن نفكر في الحاضر، وأن ننظر بعين الاعتبار إلى الأساليب والطرق القديمة في الكتابة حينما نتجه نحو التجديد، فأن ذلك أجدى علينا من هذا البهرج الكاذب الذي يزيف به الأدب الحديث.

ولكن الأدب العصريفي مصر قد أثبت الآن حيويته وسار فعلا في طريق الاستقلال، وليس من الممكن أن يجدالقارئ المتوسط بغيته الآن في الأدب القديم، فإنك إذا وجهت اهتمامه مثلا إلى العقد الفريد أو إلى غيره من آثار (العصر الذهبي) فكأنك بذلك تعطيه حجراً بدل الرغيف الذي يطلبه ويصر على الحصول عليه. وإذا وقف الكتاب دون إمداده بما يطلب فأنه يتجه إلى استيراده من الخارج مهماثبت له عدم ملائمة ذلك الذي يستورده لطبيعته وحالته الاجتماعية. وقل أن يجد القارئ في المقالة أو في الموضوع الذي يعرف بالرسالة في القصيدة العادية ما يغير خياله، إذ ينقصها عنصر الخيال واللذة الحية، اللهم إلا في

ص: 30

القصيدة الشعرية المتينة فقد يكون فيها ما يدخل في دائرة الميراث الخيالي للناس.

وهكذا نرى أن المسألة في جوهرها ليست مسألة تقليد ومحاكاة لأهل الغرب، فلقد أدى أتساع التعليم إلى اتجاه ميول القراء إلى نواح أخرى. ولما نشأت تلك الحالة في أوربا عمد الكتاب إلى القصة ليقابلوا بها ميول القراء، ونستطيع أن نقول إنه ما لم يتسن للكتاب المصريين إيجاد القصة فسيستمر اتجاه القراء في مصر إلى الأدب الأوربي، فإن المقالة أو الموضوع الأدبي أقل من أن يفي بالغرض الذي يسعى إليه القراء.

أما القول بأن إدخال فن من فنون الكتابة لم يكن موجوداً من قبل قد يكون فيه مساس بكرامة الشعب الأدبية فرأي مبني على التطرف والمبالغة، وهل أدى إدخال القصة في الأدب التركي أو الهندي إلى الحط من كرامتها؟ كلا. ومن أجل ذلك نرى القصة المصرية تنشب جذورها في تربة الأدب المصري في ثبات مهما صادفت من صعاب ونكران للجميل.

ولكن القصة لا تصل إلى تمام نموها، إلا إذا وافقت بيئة البلاد الاجتماعية، ومن هنا تنشأ المشكلة الرئيسية.

إذا وضعنا جانباً تلك العوامل الاجتماعية التي تكلمنا عنها فإن كتاب القصة في مصر قد وجهوا بمشكلة أخرى أشرنا إليها في مبدأ هذا البحث وهي خلق (فن اصطلاحي حديث) للقصة. ونستطيع أن نتبين في كتابات المنفلوطي وجورجي زيدان بعض المحاولات في هذا السبيل ولكن من حيث الأسلوب فقط، الأول بطريقته والثاني بسهولة عبارته، ولكن كلاهما لم يتعرض للنقطة الأساسية، وهي الوصول إلى تمثيل الحياة الاجتماعية الراهنة تمثيلا صحيحاً في الألفاظ وطريقة التعبير عما في النفس وعلى الأخص في الحوار.

على أن هذه المهمة قد وجدت من أشتغل بها من كتاب القصص القصيرة وأقدمهم في ذلك هو محمد تيمور (1829 - 1921) ويمنعنا ضيق المجال هنا من أن ندرس بالتفصيل آثار تلك الطائفة، ولذلك نكتفي بأن نشير نقطة من أهم النقط التي تعرضوا لها وهي الطريقة التي جروا عليها في أسلوب الحوار.

وهنا ينبغي أن نذكر أن مشكلة الأسلوب الواجب إتباعه في الحوار لم تكن مقصورة على الأدب العربي ولكنها ظهرت في كثير من آداب الممالك الأوربية وبخاصة في تلك الممالك

ص: 31

التي ذهبت فيها لغة التخاطب العادية تحت تأثير الكتابات الأدبية، وتنحصر تلك المشكلة في السؤال الآتي: هل نجعل اللغة الفصحى لغة الحوار وبذلك نجعله حواراً مصطنعاً غير طبيعي؟ أم نقتصر على اللغة الفصحى في القصص والوصف، ونستعمل العامية في الحوار، وبذلك نعرض القصة للتفكك والتنافر؟

وقد سار الكتاب في القصص التي ظهرت فيما قبل على الطريقة الأولى أعني استخدام اللغة الفصحى في الحوار لا في الترجمة فحسب (وهنا تكون المسألة طبيعية) ولكن فيما ألفه كتاب القصص من السوريين أيضاً، وذلك بذكر القارئ الأوربي ما كانت عليه القصص الأوربية أثناء نشأتها من تكلف وضعف. وتعتبر زينب في نظري أول قصة استعملت إليها اللغة العامية في الحوار، ولقد ترك ذلك أثراً في القصص القصيرة الأخرى، ونخص بالذكر منها مجموعة محمود تيمور المسماة (بالشيخ جمعة) ولقد قامت بجانب ذلك فكرة أخرى وهي أن يكون الحوار بحسب درجة تعلم المتكلم، وبذلك يراوح الكاتب أن يرواح بين اللغة الفصحى واللغة العامية هبوطاً أو صعوداً، وإذا استعمل الفصحى على لسان شخص متعلم الأدبية العالية ينبغي أن يتحاشى العبارات، لكي يتمشى ذلك مع السهولة المطلوبة والمعتادة في الحوار (ويلاحظ أن الحوار في الطبعة الثانية للشيخ جمعة قد عدل بما يتفق مع هذا المبدأ) وبهذه الطريقة يتسنى للكتاب أن يحرصوا على المظهر الطبيعي للقصة مع تضحية قليلة في الصدق والإصابة بحيث لا يصعب على القارئ أثناء مطالعة القصة أن يحول في ذهنه عبارات الحوار المكتوبة إلى ما يعرفه من عبارات الحديث المألوفة. ونحن من جهتنا نتوقع أن نشاهد تحقيق هذه النظرية في القريب، وعلى الخصوص مع أتساع التعليم الابتدائي وبفضل مجهود الأدباء.

ويبقى علينا في هذا الصدد أن نتساءل إلى أي حد قد استطاع القصصيون الحديثون في مصر أن يعبروا عن مشاكل شعبهم وحاجته وأطماعه. يمكننا أن نستنتج من البحث المتقدم أن عدد القصص التي يظهر فيها ذلك قليل جداإذا اقتصرنا على الآثار التي لها قيمة أدبية حقيقية. '

يعتبر نقولا حداد، صاحب جريدة السيدات والرجال التي نشرت فيه معظم مباحثه، أوفر القصصيين العصريين إنتاجا وهو في نظر محمود تيمور أبعدهم شهرة أيضا. وعلى الرغم

ص: 32

من أن الرجل سوري الأصل فإن لبحثهوأسلوبه صبغة مصرية اكثر مما لسواه من الكتاب السوريين، ونستطيع أن نحكم من روايته التاريخية (فرعونة العرب) أن لديه مقدرة على اجتذاب القراء إليه بما يتخلل قصته من الحركة السريعة والمواقف الرائعة. على أن خطة القصة فيها شيء من التفكك، والأشخاص تعوزهم قوة التصوير، حتى أننا نشك فيما إذا كان المؤلف قد أضاف شيئاً إلى نمو القصة المصرية من حيث الشكل أو من حيث الموضوع. وهناك قصة تاريخية أخرى تحوي الكثير من اللذة الأدبية، وتعتبر أول عمل من نوعه في الأدب المصري، تلك هي قصة (ابنة المملوك) لمؤلفها الأستاذ محمد فريد أبو حديد، وهذه القصة لا تمت بأية صلة إلى ذلك النوع من القصص التاريخية التي أخرجها زيدان، وهي من جهة أخرى تفوقها من وجوه عدة. ففي قصة ابنة المملوك قد حلت الحقيقة محل الخيال الجامح الذي تمتاز به قصص زيدان، وفضلا عن ذلك فإن تلك القصة لم تستغرقها كثرة الحوادث التاريخية، وإنما وضعت بطريقة تاريخية واضحة، وكان العصر الذي اختير لها هو فترة النزاع بين محمد علي والمماليك سنة 1805 - 1808 ولقد أتستطاع المؤلف أن يعرض الحوادث التاريخية في ثنايا القصة بحيث لا يجتذب التفات القارئ إليها قسراً. وحتى أهم الحوادث التاريخية في تلك الفترة وهي الحملة الإنجليزية التي وجهت إلى الإسكندرية وهزيمتها في رشيد عام 1807، لم يشر إليها المؤلف إلا إشارة وجيزة في سطرين أو ثلاثة مع أن بطل القصة وهو فتى عربي فار من وجه الوهابيين قد صوره المؤلف على أنه قام بنصيب في تلك الحرب، ومع أن القصة لم تنجح تماماً في تجنب الجفاء الذي تمتاز به القصص التاريخية نجد على الرغم من ذلك حياة وحركة في تصوير الأشخاص. وهي فضلا عن ذلك تسترعي انتباه القارئ من فاتحتها حتى خاتمتها التي جاءت في شكل مأساة.

تأتي بعد ذلك تلك القصة التي نشرت حديثاً، وتعتبر من جميع الوجوه أهم قصة صدرت بعد زينب. وهي القصة التي طال انتظارنا إياها من المازني. وقد نشرت عام 1930 تحت عنوان إبراهيم الكاتب. ويقول المؤلف في مقدمة القصة إن جزءاً منها كتب في عام 1925 وإنها تمت في عام 1926 ثم تركت بعد ذلك جانباً، وإن جزءاً من نصفها الأخير قد كتب بسرعة أثناء الطبع نظراً لفقد بعض الأصول وقد يساعدنا ذلك على تفسير الاضطراب

ص: 33

الذي سنشير إليه أثناء الكلام عنها. وقد جاء في المقدمة أيضاً بحث شيق للمشاكلالتي تكلمنا عنها. أما فيما يختص بأسلوب الحوار فإن المازني يرفض الكلام العامي لخلوه من دقة التعبير وعدم ثباته، في حين إن العبارات الفصيحة آخذةً في التقدم والتهذيب يوماً بعد يوم. ويعارض المازني أيضاً في مقدمته هيكل بيك فيما يراه من أن العوامل الاجتماعية في مصر تحول دون خلق القصة المصرية. فإن القائلين بهذا الرأي يفترضون خطأ أن القصة الغربية هي النموذج الوحيد للفن القصصي. ولكن لم لا يكون هناك قصة مصرية قائمة بذاتها تميزها مميزات خاصة؟ ويرى المازني أن الحياة الاجتماعية في مصر لا تقوم عقبة في وجه أي كاتب بارع الخيال. ويقول إننا إذا سلمنا بأن وجهة المصريين وأفكارهم فيما يتعلق بالحب، تختلف عن وجه الأوربيين في ذلك، فلا يتحتم أن يكون ذلك عقبة كأداء في سبيل القصة المصرية. ولم تكون عاطفة الحب ذاتها هي المحور الأصلي الذي تدور حوله القصة؟ ويضيف المازني أن ما يتخيله الكتاب من ضيق مجال القصة المصري، إنما هو (نوع من الهستيريا) لا أقل ولا أكثر.

على أن القصة نفسها لا تحقق ما ينتظره منها المرء بعد هذه المقدمة. وليس ذلك لأنها أخفقت في الخطة أو في تفصيل المواقف وتصوير الأشخاص أو غير ذلك من المسائل الفنية. كلا فإنها من هذه الوجوه أحسن قصة في الأدب العربي على ما أعلم، ويتجلى في هذه القصة تلك الروح التي ينفرد بها المازني من جميع معاصريه أعني تلك الرقة هاتيك الروح الفكاهية التهكمية التي تظهر في كتاباته. ويسير القصص فيها سيراً حثيثا وفي سهولة كما أن الحوار سهل طبيعي وقد جاءت الانتقادات الاجتماعية والتحليلات النفسية (التي قصد إليها المؤلف بطريقة مضمرة في ثنايا الكلام) أكثر منها صريحة واضحة. ولكنها على الرغم من ذلك (فيما عدا أشخاصها وأوضاعها) ليست قصة مصرية بالمعنى الذي يفترضه المازني نفسه، وأكبر دليل على ذلك إن بطل القصة عبارة عن شخصية غريبة لا تكاد تنطبق إلا على القليلين من المصريين، وربما كان الناشر مصيباً في أن اتفاق الاسم بين المؤلف وبطل القصة لم يكن أمراً خيالياً محضاً. والقصة ذاتها غربية في المشاعر والمثل كما هي كذلك في المسحة الأدبية وفي الموضوع الذي تدور حوله. ودراسة عاطفة الحب قائمة على أساس غربي لا شرقي وحتى المظاهر الخارجية ذاتها من حيث

ص: 34

الشكل والأسلوب تنطق بهذا الطابع الغربي، ومن أمثلة ذلك كثرة استعمال المجازاتوالجمل الغربية. وأغرب من ذلك كله جرى المؤلف على طريقة اقتباس فقرات من الإنجيل في رأس كل فصل من فصوله. ويوجد فرق محسوس في اللهجة والموضوع بين نصف القصة الأول ونصفها الثاني. أما الأول فأنه يسير في دائرة الحياة الاجتماعية المصرية ولا يمكن أن يصور ما فيه من فكاهة وعطف إلا قلم كاتب مصري. أما النصف الثاني فيستبين فيه جو آخر وتتغير فيه اللهجة الأولى تدريجياً كما لو كان أسلوب المؤلف قد تأثر بما انتاب بطل القصة في هذا النصف.

ونحن دون أن ننكر على المؤلف إصابته في الخيال، نقرر أن (إبراهيم الكاتب)(كزينب) واضحة الصلة بالرواية الغربية، ولكن ما حوته زينب من العواطف لا يروق في عين المازني الذي تتجه ميوله إلى جهة أقوى، والذي يهتم بتمثيل الحقيقة. وفي هذه الحالة نقول إن تداعي الأفكار الأدبية التي يمتاز بها فكر المازني قد صرف ذهنه إلى رواية (سانين) فأوجد صلة بين رواية المازني أو على الأقل بين جزء منها في تصوراتها وبين هذه الرواية الروسية التي ترجمها المازني تحت عنوان (ابن الطبيعة). نعم إن رواية إبراهيم الكاتب تختلف كل الاختلاف في الخطة وفي طريقة الاتساع عن قصة (سانين) ولكن شخصية إبراهيم قد استعادت بعض الشيء من شخصية سانين. وفي رواية المازني منظر يعتبرترجمة حرفية لخاتمة القصة الروسية.

ومما تقدم نرى أنالقصة المصرية كما يتجلى في كتابة كاتبين من أكبر كتابها، لا تزال دون المثل الذي رسمه لها الكتاب. ولا تصل القصة المصرية إلى كمالها، إلا بالجمع بين المقدرة الفنية التي يمتاز بها كتاب الغرب وبين الإلهام المصري. وإلى أن يصل الكتاب إلى ذلك سيظل معظم القراء المصريين مقبلين على آداب غيرهم، ولن يقف تيار الأدب الأوروبي إلا إذا تسنى للمصريين أن يخلقوا فناً جديداً من فنون الكتابة بواسطته تظهر القصة المصرية في معناها الحقيقي.

ترجمها عن الإنجليزية للرسالة: محمود الخفيف

ص: 35

‌ابن خلدون في مصر

للأستاذ محمد عبد الله عنان

وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ وسأله عن أحواله وأخباره وسبب مقدمه إلى مصر وما وقع له بها، ثم سأله عن المغرب ومدنه وأحواله وسلاطينه، وطلب إليه أن يكتب له رسالة في وصف المغرب، وحدثه المؤرخ بأنه كان يسمع به ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة أعني منذ تألق نجمه وبزغ مجده، وشرح له طرفاً من آرائه ونظرياته الاجتماعية في العصبية والملك. ولا ريب أن مفاوضة في شأن المدينة وقعت أيضاً بين المؤرخ والفاتح واستطاع المؤرخ أن يقنع الرؤساء والفقهاء بالتسليم، فقد فتحت دمشق أبوابها للفاتح على أثر ذلك، وجاء القضاة والرؤساء وعلى رأسهم المؤرخ إلى معسكر تيمورلنك يقدمون له الخضوع والطاعة. ويقول لنا ابن خلدون إن تيمورلنك صرفهم واستبقاه حيناً، ثم أنصرف واشتغل أياما بكتابة رسالة في وصف بلاد المغرب حتى أتمها وبلغت على قوله أثنى عشرة كراسة صغيرة ثم قدمها إلى تيمورلنك فأمر بترجمتها إلى اللغة المغولية.

وكان المفهوم أن دمشق قد نجت بالتسليم من بطش الفاتح ولكن التتار احتجوا باستمرار القلعة في المقاومة فشددوا عليها الحصار حتى سلمت، ثم اقتحموا المدينة وصادروا أهلها وأوقعوا فيها السفك والعبث والنهب وأضرموا النار في معظم أحيائها وتكررت المناظر المروعة التي وقعت في حلب، على أن ابن خلدون لم يقطع صلته بالفاتح بل لبث متصلا به يتردد لزيارته خلال المحنة. وحدثه تيمورلنك ضمن ما حدث بأمر شخص تقدم إليه مدعيا بالخلافة وأنه سليل بني العباس وجرت مناقشات فقهية طويلة في شأنه أشترك فيها المؤرخ وأدلى فيها بآرائه ونظرياته في الخلافة. وقدم ابن خلدون أيضاً إلى الفاتح هدية هي (مصحف رائق وسجادة أنيقة ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة) ولما قدمها إليه وضع تيمورلنك المصحف فوق رأسه بعد أن عرف أنه القرآن الكريم، ثم سأله عن البردة وذاق الحلوى ووزع منها على الحاضرين في مجلسه.

والتمس المؤرخ منه في هذا المجلس أماناً للقضاة والرؤساء والعمال فأجابه إلى طلبه وأصدر الأمان.

يصف لنا ابن خلدون هذه المحادثات والمقابلات التي وقعت له مع الفاتح التتري، وقد كان

ص: 36

فيها يؤدي دور المفاوض والسياسي القديم. ولكن مؤرخاً مصرياً هو ابن أياس يقدم إلينا فيذلك رواية أخرى، فيقول لنا إن الذي قام بمفاوضة تيمورلنك في تسليم دمشق هو القاضي تقي الدين بن مفلح الحنبلي، وإنه هو الذي أدلي من السور وأختاره الزعماء لتلك المهمة، لأنه كان يعرف التركية ولأنه هو الذي سعى في تسليم المدينة وأقتاد وفد القضاة إلى الفاتح وأستصدر منه الأمان وتولى تنفيذ جميع رغائبهفي جمع المال والأسلاب. ولكن ابن خلدون صريح في روايته في إنه هو المفاوض والوسيط في عقد المهادنة بين الفاتح وأهل دمشق كما قدمنا وأنه كان ممثل الرؤساء والقضاة لدى تيمورلنك ولا شك في روايته. وهي من جهة أخرى رواية ابن عربشاه الدمشقي مؤرخ تيمورلنك الذي كتب تاريخه قريباً من هذه الحوادث فهو يصف لقاء ابن خلدون للفاتح تحت أسوار دمشق على رأس العلماء والقضاة ويصور لنا قي عبارة شعرية ساحرة منظر هذا اللقاء وما تخلله من أحاديث ومناقشات. على إن صحة هذه الرواية لا تمنع من جهة أخرى أن يكون آب مفلح قد أشترك في المفاوضة وتولى تنفيذ شروط التسليم.

ولعل ابن خلدون كان يعلق على صلته بالفاتح آمالاً أخرى غير ما وفق إليه في شأن دمشق وشأن زملائه العلماء والقضاة، ولعله كان يرجو الانتظام في بطانة الفاتح والحظوة لديه والتقلب في ظل رعايته ونعمائه. على أنه لم يوفق بلا ريب إلى تحقيق مثل هذه الأمنية فلم تمضِ أسابيع قلائل حتى سأم البقاء في دمشق وذهب إلى تيمورلنك يستأذنه في العود إلى مصر. فإذن له وطلب إليه في تلك المقابلة أن يقدم إليه بغلة إذا استطاع فأهداه المؤرخ إياها وبعث إليه تيمور ثمنها فيما بعد عقب وصوله إلى مصر. وغادر المؤرخ دمشق في شهر رجب (سنة 803) لنحو شهرين فقط من مقدمه إليها ودهمه اللصوص أثناء الطريق فسلبوه ماله ومتاعه ولكنه وصل سالماً إلى القاهرة في أوائل شعبان سنة ثلاث وثمانمائة.

وهنا يهتف المؤرخ مغتبطاً بنجاته (وحمدت الله على الخلاص) ويقول لنا أنه كتب إلى سلطان المغرب مولاه السابق يصف هذه الحوادث وما دار بينه وبين تيمورلنك ويصف له الفاتح وعظم بأسه وشاسع ملكه وروعة سلطانه.

(3)

وما كاد ابن خلدون يستقر في القاهرة حتى أخذ يسعى للعود إلى منصب القضاء. وقد رأينا

ص: 37

إنه كان يحتفظ دائماً بكرسي التدريس في مدرسة أو اثنتين. ولكن القضاء من مناصب السلطة والنفوذ، وكان ابن خلدون يشعر وهو في ذلك الجو المشوب بكدر الخصومة والمنافسة إنه بحاجة إلى ذلك النفوذ الذي أعتاد أن يتمتع به في جميع علائقه السلطانية، وكانت المعركة التي تضطرم حول ذلك الكرسي، والتي شهدنا مظاهرها في تكرار تعيينه وعزله، تذكي بلا ريب في نفسه شهوة الظفر بذلك الكرسي، فيكون ذلك آية نصره على خصومه ومنافسيه. وكان المؤرخ قد بلغ الرابعة والسبعين يومئذ، ولكن نفسه الوثابة كانت تتطلع أبداً إلى مسند النفوذ والجاه، ويصور لنا هذه النفسية مؤرخ مصري نزيه ثقة في إشارة موجزة إذ يقول لنا في خاتمة ترجمته للمؤرخ رحمه الله، ما كان أحبه في المنصب) وكان ثمة شيء آخر إلى جانب هذا الشغف بالمنصب، فقد كان بين ابن خلدون وبين خصومه نضال، وكان منصب القضاء كما سنرى محور هذه المعركة، يرتفع ابن خلدون إليه كلما استطاع أن يسترد مكانته في القصر وأن يتغلب على كيد خصومه، ويفقده كلما نجحت سعاية خصومه في حقه.

عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية في المحرم سنة ثلاث كما قدمنا، وذهب معزولاً في ركب السلطان إلى الشام، فاتخذ خصومه بعده عن القاهرة فرصة للدس في حقه، وزعم بعضهم إنه هلك في حوادث دمشق. ويريد المؤرخ هنا أن نفهم أن المنصب كان محفوظاً له أو أنه وعد على الأقل برده إليه من أولي الأمر، فيقول لنا أنه على أثر هذا الإرجاف في حقه عين مكانه في قضاء المالكية، جمال الدين الأقفهسي (جمادى الثانية سنة ثلاث) فلما عاد إلى مصر عدل عن ذلك، وعزل الأقفهسي، وولي ابن خلدون للمرة الثالثة في أواخر شعبان أو أوائل رمضان فلبث في منصبه زهاء عام يعمل في جو يفيض بالأحقاد والخصومة، ولكنه يقول لنا أنه لم يحفل كعادته بمصانعة الأكابر وأنه أستمر كما كان (من القيام بالحق والإعراض عن الأغراض). فاضطرمت من حوله الدسائس القديمة، واشتدت في حقه المطاعن والمثالب، وأسفرت المعركة عن النتيجة المعتادة، وعزل المؤرخ كرة أخرى في 14 رجب سنة أربع (804)، وولى مكانه جمال الدين البساطي في أواخر رجب، وهو ممن شغلوا المنصب من قبل. والظاهر أن المعركة كانت هذه المرة أكثر وضوحاً وصراحةً، وإن ابن خلدون عانى من حملات خصومه ما لم يعان من قبل حتى أنه

ص: 38

طلب بعد العزل أمام الحاجب الكبير، ووجه إليه كثير من التهم، ويقول لنا ابن حجر والسخاوي في هذا الموطن:(وادعوا عليه (أي على ابن خلدون) أموراً كثيرة أكثرها لا حقيقة له، وحصل له من الإهانة مالا مزيد عليه). وهنا اشتدت المعركة بين المؤرخ وخصومه، واستحالت إلى نضال عنيف سريع الأثر، وبقي مظهرها التداول على المنصب، ولكنه أنحصر حينا بين ابن خلدون والبساطي، مما يدل على إن البساطي كان ممثل الحزب الذي يناوئ المؤرخ في هذا الدور من المعركة. والظاهر أن ابن خلدون كان يعتمد في مقاومة خصومه على عوامل وقوى ليست أقل أثراً مما يعتمدون عليه، فإنه لم يمض على ولاية البساطي نحو ثلاثة أشهر حتى عزل في أوائل ذي الحجة، وعين ابن خلدون للمرة الرابعة في 16 ذي الحجة، واستمر في المنصب عاماً وشهرين، ثم رجحت كفة خصومه فعزل في السابع من ربيع الأول سنة ست (806)، وأعيد البساطي في الشهر نفسه، ثم عزل في شهر رجب سنة سبع، وأعيد ابن خلدون للمرة الخامسة في شعبانسنة سبع، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر في 26 ذي القعدة من نفس العام، وأعيد خصمه القديم جمال الدين الأقفهسي فلبث ثلاثة أشهر، ثم عزل وخلفه جمال الدين التنسي لمدة يومين فقط، ثم أعيد البساطي في ربيع الأول سنة ثمان (808) وعزل في شعبان من العام ذاته، ثم أعيد ابن خلدون للمرة السادسة فلبث في منصبه بضعة أسابيع فقط وفي السادس والعشرين من رمضان سنة ثمان وثمانمائة (16 مارس سنة 1406م) توفي المؤرخ والمفكر الكبير، قاضيا للمالكية وقد بلغ الثامنة والسبعين من حياة باهرة حافلة بجليل الحوادث وروائع التفكير والابتكار، ودفن في مقبرة الصوفية خارج باب النصر وهي يومئذ من مقابر العظماء والعلماء.

ويصل ابن خلدون تدوين أخبار هذا النضال العجيب حتى عزله للمرة الخامسة في ذي القعدة سنة سبع أعنى إلى ما قبل وفاته بعدة اشهر فقط.

ص: 39

‌من طرائف الشعر

المنجم

للدكتور محمد عوض محمد

جلست إلى جانب المنجم

أحدق في جوفه الأقتم

ظلام رهيب (. . . وغور بعيد)

وليس إلى القاع من سلم!

فيا عجبا! أي كنز ثمي

ن تكدس في قاعه المظلم. . .؟

وأي نعيم لمن يستط

ع وصولا إلى جوفه المفعم!

وأي انتصار لمن قد يغو

ص فيخرج ما فيه من أنعم!

ومالي أحجم عما أرو

م ولا فوز في الدهر للمحجم. .

أيا نفس قد آن أن تقحمي

رهيب الخطوب وأن تقدمي!

فيا صاح هات الرشاء المتي

ن لأدليه من فم المنجم

وأنزل وسط الظلام المخي

ف نزول العقاب أو القشعم

عفاء على بؤس عيش مضى

لقد آن يا نفس أن تنعمي!

فما زلت أهبط في جندس

به الكف لا تهتدي للفم

إلى أن تحجب ضوء النها

ر وأمسيت في حالك أدهم،

أحاول جهدي التماس السبي

ل بسمع أصم وطرف عمي!

وحولي هواء رطيب كري

هـ كأني في بؤرة من دم

وكم من بخار غريب مريب

ومن نفس مدنف مسقم!

فهل مثل هذا الطريق الكري

هـ يؤدي إلى المقصد الأعظم؟

على أن صوت الرجاء المَل

ح يهيب بنفسي: لا تحجمي!

فكم نقمة طيها نعمة

وحلو تولد من علقم!

فما زلت منحدرا. . . نازلا

بصبر الجليد وعزم الكمى

ينير فؤادي ضياء الرجا

ء فلم أتراجع، ولم أهزم

وكم شدة إثرها شدة

تحملتها غير مستسلم!

وبعد عناء وسير طوي

ل إلى غاية المنجم المقتم!

ص: 40

وصلت إلى قاعة مجهدا=وقد أخذ الوهن من أعظمي!

ورحت أفتش أرجاءه

بقلب مشوق وصدر ظمي

أطوف به باحثا فاحصاً،

فأعدو هنا، وهنا أرتمي

فلم ألق كنزاً ولا شبهه،

فيا حسرة البائس المعدم!

وما كل شيء عزيز الطلا

ب بذخر ثمين ولا مغنم!

وما كل ممتنع في الخدور

حقيق بعشق الفتى المغرم!

وكم يخدع النفس بعد المنا

ل وتغتر بالغامض المبهم. .

ص: 41

‌الضحية

سلوت ولكن لا يزال بمهجتي

حنين إلى الماضي البعيد بعيد

وكم حاولت نفسي السلو فلم تجد

لها مذهباً الا إليك يقود

أنا الحر لكن في هواك مقيد

وفي الحب دنيا رحبة وقيود

أحن إلى عهد الدموع ولم يزل

أخو الحب يسلو تارة ويعود

ليالي. . كالأطلال ينعب بومها

لها كلما جن المساء نشيد

ترومين قربانا ينجيك من لظى

فروحي قربان وموتي عيد

حلب - عمر أبو قوس

ص: 42

‌الذكرى

أيتها الذكرى جزيت من دمي

أنت وإن نكأت جرحي بلسمي

ما أنت؟ هل أنت كتاب دارس

يهمس بين دفتيه هامس؟

أم طائف يهزج قيد مسمعي

إذا خلوت بالبكا كان معي

أم واعظ بالزفرات ينطق

أم شبح بناظري معلق

أم أنت في ليل الضمير ناعبه

أم ثاكل بين الضلوع نادبه

أغريت بي طيف الحبيب، مرحباً

بمن أباح مهجتي وعذباً

يزورني مع الكرى وفي السهد

يا زائراً بالقلب والجفن انعقد

أحببته لغرة مثل الضحى

وطلعة لو شامها الصبح امحى

ومقلة أهابها بين المقل

ومبسم من مشرع الخلد نهل

كأنه الوردة في ريعانها

أو نعمة البائس في أبانها

يشفي غليل المستهام إن ألم

وربما داوى الشقي بالألم

أحببته حباً على النفس غلب

وما على الصب المشوق لو أحب؟

إن الشباب نهم مذوق

نشوان من كل حلال يسرق

يلص ما يحلو له بلا وجل

ويشحذ النظرة تمضي كالأجل

ولا يبالي أحرقته ناره

وزلزلت فوق الصعيد داره

أم عانق اللذة في غلائل

وجاده صوب النعيم العاجل

أيتها الذكرى أعيدي ما غبر

ورددي ما طاب من عيشي ومر

لله أيام الصبا ما اجملا!

ودورة العمر بنا ما اعجلا!

أين لأترابي أمس ملعب

ومستراد نازح ومذهب؟

وأين عهد بالحمى لا يخلق

وكيف وهو للحياة مشرق

تغير الصحب وقوض الحمى

كأنما عشنا به توهما!

وغالت الأحلام غولة القدر

فودع السكر وجاءت الفكر

أكلما لج الأسى بخاطري

محوت بالماضي شقاء الحاضر؟

سينضب العمر فبثي سره

والحب خطى في الهواء قبره

وأسمعيني في الممات لحنه

وصوري لناظري حسنه

ص: 43

سورية. حمص. رفيق فاخوري

ص: 44

‌في الأدب الشرقي

في الأدب الصيني

القصة الحديثة في الأدب الصيني

مترجمة عن مجلة الشهر الفرنسية

ليست القصة الصينية بنت الأمس، وإنما يرجع مولدهاإلى عهد أسرة تشيو وكانت تسمى يومئذ (سياوشوو) أي المناسبات الضئيلة، وكتابها الأولون هم لي يوكيو، وتشو، ووانغ تسو، وتشنغ شي تسو.

فالأول كان من رجال القرن الرابع قبل الميلاد، والآخران قد نبغا بعده بقرن وقصصهم كانت تستمد موضوعاتها من الأساطير والخرافات والأمثال، ولبثت القصة في هذا الطور الابتدائي أمداً طويلاً حتى ولي الحكم أسرة (طنغ)(618 - 907) فدبت فيها الروح وسارت في طريق الكمال.

كان العمل الروائي في الأقاصيص والحكايات يتقدم شيئاً فشيئاً خلال القرون الخالية حتى أصبح قبيل العهد (الطونغي) مسلاةأدبية. وكان القصص على شدة قصرهلا يجري على خطة مقررة فأقره كتاب العصر الطونغي في نصابه من العناية والفن فحددوا الغاية، ورسموا الطريقة وبسطوا العمل، ودققوا التفاصيل، وجودوا الأداء، حتى أصبح أجمل المظاهر في الأدب الصيني بعد أن كان موضع الزراية والاحتقار عند أشياع كونفشيوس.

كانت الأساطير وحياة النابهين في الشرف أو النابهات في الحسن موضوعالأقصوصة من أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع فكتب (ونغ تسو)(حياة مرآة قديمة) وهي أقصوصة بطلتها مرآة سحرية مغامرة صرعت ثعلبة مسحورة تحولت إلى امرأة، ثم قهرت أفعواناً ضخماً كان قد أتخذ وكره في أصل شجرة، ثم قتلت قرداً وسلحفاة فاستحالا إلى إنسانين أخذا يحاضران في العلم والسحر الخ وكل مغامرة من هذه المغامرات يحكيها القصصي بثقة، ويصدقها القارئ ببساطة. وفي النصف الأخير من القرن الثامن ظهرت أقصوصة أخرى شهيرة، وهي أقصوصة المقام في مخدة تأليف (شن كي تسي) وموضوعها أن (لو) الخالد أعطى أحد الشبان مخدة سحرية فدخل فيها ورأى رؤيا عجيبة يقصها

ص: 45

فتستغرق أعاجيبها كل الحكاية. ثم ظهرت على أثر ذلك أقاصيص الأبطال فغلبت على أذهان القصاص والقراء حتى اليوم، فالبطل ذو السيف لا يعجزه شيء ولا تنقصه موهبة فهو يطير، وله سيف يدرك ويشعر فهو في السلم يقصر ويختفي في أنف البطل أوفمه وفي الحرب يخرج ويقتل العدو على أي مسافة يريدها صاحبه، وللصينيين ولوع بهذا الضرب من القصص حتى في نهضتهم الحديثة، وبجانب أقاصيص الخوارق والأعاجيب تجد سير العظماء والأمراء محكية على نمط تاريخي أوروائي أوهجائي كسيرة (لي كوي) وسيرة (ينغ - ينغ) ولكن في النادر أن تجد في الأدب الصيني حكاية أوسيرة تقوم على الواقع وحده، فالكتاب على الجملة يميلون إلى تزيين الحقيقة بالمبالغة والتزييد فيجرهم ذلك إلى فقد الوحدة أو عدم التوازن أوخطأ المغزى.

أما القصة الطويلة ذات الفصول فلم تظهر إلا في عهد آل سونغ من 960 - 1279م وهم يسمونها (بنغ هويا) منشؤها في الصين كمنشئها في سائر بلاد الشرق: رجل يسمونه (المحدث) يقص على الناس في مجلس عام حكاية من الحكايات بالأجر، فمن فائدته إذن أن يطيل الحكاية ما استطاع لينتفع من ورائها في جلسات كثيرة، والجزء الذي يحكيه في جلسة من هذه الجلسات يؤلف فصلا من فصول السيرة. وظلت (الينغ هويا) على هذا النمط الأولي حتى جاء (لوبن) 1330 - 1400 في عهد آل يوان فجعلها فناً، كان يقتبس موضوعاته من التاريخ ولكنه يضيف إليها وقائع وأشخاصاً من عمل الخيال. وكان يصور أبطاله على نحو ما يفعل القصصيون الأوربيون ولكن أفضلها وأجملها قصته المسماة (على شاطئ البحيرة) تقع في مائة فصل وتدور على مخاطرات بطل يدعى (سونغ كيانغ) مع رفاقه المائة والسبعة (وهو شخص تاريخي ورفاقه كانوا ستة وثلاثين ليس غير) وكانوا يحتلون (اليانغ شان) ثم ثاروا على أسرة سونغ الحاكمة فهاجموا مدنها وقاتلوا جيشها ونهبوا مقاطعاتها وأصبحوا حكاماً في هذه الأرض. وهؤلاء العصاة الفتاك كانوا من خيار الناس فألجأهم إلى هذا الموقف عسف الإمبراطور ومن هاواه من الخونة.

ولم يكن هم (لوبن) أن يخلق أشخاصاً ويصف أخلاقاً وإنما كان همه فوق ذلك أن يرمي إلى غرض أخلاقي، وتلك هي الصفة الغالبة على الآداب الصينية، فالكتابة عند كتاب الصين وسيلة إلى الخلق، والشعر عند شعرائها طريق من طرق التربية. والأخلاق عند

ص: 46

(لوبن) قائمة على الديمقراطية، فهو يؤلب الأخيار المضطهدين على الأسرة الحاكمة، ويحارب الفروق الاجتماعية بين طبقات الشعب، فلا يعترف إلا بنصفين من الناس: الشجعان والأذكياء، وهؤلاء وأولئك ملزمون أن يعملوا لخير الأمة، ولا بأس أن يعيشوا عيش اللصوص وقطاع الطرق ما داموا يذودون بذلك عن المظلومين والمحرومين.

ثم ظهرت بعد ذلك طائفة كبيرة من القصص على عهد آل (منغ) من سنة 1368 - 1662م ولكن قصتين اثنتين من بينها تلفتان النظر وتسترعيان الخاطر وهما (حكاية رحلة إلى بلاد المغرب)، و (زهور الشر في أصيص من الذهب) فالأولى قصة وهمية كثيرة المخاطر الخارقة والأوهام العجيبة. والثانية قصة نفسية (بسيكولوجية) لمؤلف مجهول تدور على ما وقع من المخاطر الغرامية لغني من الأغنياء أسمه (سي من كنغ) وهو متبطل شهوان محصن ولكن له أخداناً كثيرات، والقصة تعرض بالتفصيل حياة هؤلاء الخليلات الخاصة، وتشتمل على فصول من الفحش والرجس والدنس ولكنها غاية في التحليل النفسي للمرأة، والدقة في وصف المشاهد، والتنويع في مساق الحوادث. وفي عهد آل (تسنغ) ظهرت أنواع كثيرة من القصة كالقصة العلمية ويمثلها قصة عنوانها (ثرثرة شيخ قروي يتشمس) للقصصي (هياكنغ كيو) من كتاب القرن السابع عشر، وقصة أخرى عنوانها (حظ الأزهار المنعكسة على الثلج) للكاتب (لي فوتشن) من رجال القرن الثامن عشر، فالأولى تخوض في أحاديث شتى عن الفلسفة والكتب القديمة وأمانة الوزراء وتقوى الأبناء والمكائد والفنون والطب والأخلاق وغير ذلك مما جعلها دائرة معارف هي إلى الدعوى والافتراء اقرب منها إلى العلم الصحيح. وأما الثانية فهي بحث علامة جليل عالج فيها كثيرا من المسائل النسائية وعلى الأخص مساواة الجنسين، وهذا في الأدب الصيني شيء جديد.

والقصة الأخلاقية ظهرت في هذا الحين، وهي تقص حكايات الممثلين والممثلات، وتصف أخلاق البغايا والمومسات، ثم ظهرت في القرن التاسع عشر القصة الهجائية فهجم بها الكتاب على الأسرة الحاكمة التي طواها الموت، ورشقوا بسهام النقد طبقة العلماء والموظفين على أن الأنواع القديمة كالأقاصيص الخرافية والقصص التحليلية وسير الأبطال استمرت تؤتي أكلها في عهد آل (تسنغ).

تلك كانت حال القصة الصينية حينما ظهرت بواكير الثورة الأدبية في القرن التاسع عشر

ص: 47

فتفتحت اليوم عن أدب حديث يشعر على حداثته بحقيقته ومصيره.

كانت الثورة الصينية ثورة سياسية واجتماعية وثقافية في وقت معاً. ففي السياسة أدت إلى سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وفي الاجتماع أفضت إلى اقتباس الأخلاق الغربية. وفي الثقافة هدت إلى اكتشاف العلوم والأفكار الأوربية. والفضل في هذا الاكتشاف للأديبين (ين فو)(1853 - 1921) و (لن شو)(1852 - 1924) فإن الأول نقل إلى الصين فلسفة (هكسلي) و (ستيوارت مل) و (سبنسر) و (سميث) و (جنكس) و (جفونس) و (ستراب) و (منتسكيو) ونقل الثاني قصص (ستيفنس) و (ديكنز) و (ولترسكوت) و (كونان دويل) و (واشنطون أرفنج) و (فكتور هوجو) و (دوماس) و (بلزاك) و (سرفنتيس) و (تولستوي) فكان لما ترجماه أثر بالغ في الفكر الصيني الحديث.

فمنذ الساعة الأولى فكر رسل الثورة الاجتماعية في اتخاذ القصة وسيلة للدعاية، وقد قال (ليانغ كي تشاو) وهو صحفي من المدرسة الحديثة:(يجب أن نبدأ اليوم بثورة في القصة، فإنا لا نستطيع أن نخلق شعباً جديداً إلا بقصة جديدة).

ولكن الصعوبة الوحيدة هي اللغة. فإن لغة الكتابة تختلف عن لغة التخاطب، ولغة التخاطب نفسها تختلف في إقليم عنها في إقليم بل في مدينة عنها في مدينة. فالمدرسة الحديثة حاولت أن تقرب بين لغة الكتابة ولغة الخطاب. ولكن أي لغة من لغات التخاطب تجعلها نموذجاً ومثلاً؟ وهل تضطلع حروف الهجاء الصينية (وهي لحسن الحظ واحدة في جميع المدن والأقاليم) بهذا الإصلاح؟ إن توحيد التعليم العام يقتضي لغة كتابية يقبلها كل الناس. واللغة المندرينية لا يمكن أن تكون على حالتها هي تلك اللغة.

ففي سنة 1911م أسست الجمهورية الناشئة مجمعاً عاماً أصلح هذه اللغة وجعلها لغة وطنية، ثم وضع لها تسعاً وثلاثين علامة صوتية، تساعدها على الانتشار بين طبقات الشعب، ومنذ ذلك الحين أصبح في إمكان الكاتب أن يؤلف القطع الأدبية، ويكتبها بالحروف الصينية. فتتفق مع اللغة الوطنية، وهذه اللغة المكتوبة الجديدة التي يفهمها الصينيون على السواء قد أطلقوا عليها أسم (بوهويا) أي اللغة الواضحة. والأدب الصيني في هذه اللغة العامة لا يرجع تاريخه إلى أكثر من اثنتي عشرة سنة.

وليس هذا كل الاختلاف بين الأدب الحديث والأدب القديم. فإن الفكر الصيني قد تغير

ص: 48

جملة واحدة، فرجال المدرسة القديمة كانوا يصرون على تقليد القدماء تقليداً عقيماً جر عليهم الغرابة والتقيد والجفاف، حتى جاء في سنة 1916م أحد المحدثين وهو (هوشي) فأقترح ثماني وسائل لتجديد الأدب القديم كانت أساساً لبناء الأدب الحديث وهي (1) ألا يلمح الأدباء إلى شيء من التاريخ والأدب والأساطير في غضون النثر والنظم. (2) ألا يستعملوا الحكم المأثورة والأمثال السائرة اتقاء للابتذال. (3) ألا يسرفوا في البحث عن الأقيسة النحوية والمقابلات البيانية وعلى الأخص في الشعر. (4) ألا يتجنبوا الألفاظ العامية والتراكيب الشعبية. (5) أن يعنوا أشد العناية بالإنشاء. (6) ألا يئنوا ما لم يحسوا في أنفسهم الحاجة إلى الأنين. (7) أن يعتدوا بشخصياتهم فلا يقلدوا القدماء في شيء. (8) ألا يكتبوا إلا إذا جال في خواطرهم ما يريدون أن يكتبوه.

فإذا كانت الفلسفة الصينية اليوم في وقوف، والتاريخ غير موجود، والإنتاج المسرحي قليل القيمة، والشعر لم ينطلق بعد من أسار التقليد، فأن القصة تنمو وتزدهر معتمدة في تجديدها وتأييدها على ثلاثين مجلة تحلها من صفحاتها المحل الأول، أهمها القصة الجديدة القصة الصينية الحديثة واقعية كالقصة الغربية فلا تأبه مطلقاً للتقاليد ولا تتصل بالأساطير والخوارق. وكتابها لا تعوزهم القرائح الخصبة ولبعضهم قصص جليلة الشأن عظيمة الخطر، ولكنك لا تجد فيها ذلك السحر الأخاذ، ولا ذلك الجو الأثيري النقي، ولا تلك الخفة التي كانت تميز القصة القديمة وتلونها باللون الصيني الخالص. فإن القصة الحديثة اقتبست من القصة الغربية الشكل والاصطلاح والروح أيضاً، والمشابهة شديدة بين الحكايات الحديثة في الصين وبين بعض الأقاصيص في أمريكا، وإذا قرأت حكاية (كونغ يي كي) للكاتب (لوسين) حسبتها مكتوبة بقلم شروود أندرسون.

من القصصيين المعاصرين (تشنغ تسوينغ) وهو كاتب وافر الإنتاج، ويعزون هذه الوفرة إلى أنه يشتري قصص المفلوكين من الأدباء بثمن بخس ثم ينشرها تحت اسمه. وقد انفرد بمعالجة نوع واحد من المشاكل الاجتماعية، وهو تضارب العواطف بين ثلاثة أشخاص رجلين وامرأة أوامرأتين ورجل وليس في قصصه أصالة فكرية ولا لأسلوبه قيمة أدبية ولكنه مع ذلك أكثر الكتاب قراء وأبعدهم سمعة.

ثم (كووموجو) وهو زعيم المذهب العمالي الذي يعني أتباعه بمعالجة الموضوعات

ص: 49

الخاصة بالفقراء الذين يعيشون على عملهم وهو يدير اليوم حركة الدعاية الشيوعية ضد الحكومة، ويؤلف في سبيل ذلك الأقاصيص والروايات والخطب ولكن حظها من الفن قليل. فاذا نسى السياسة وكتب للأدب تكشف لك عن قصصي سمح القريحة واضح الطريقة.

ثم (يي شاو كيون) و (يوتافو) وهما قصصيان من الطراز الأول، يعالجان غير القصة الأخلاقية، يصفان فيها جوانب الفقر والفسق والبؤس من حياة الشعب الصين في المدن الكبرى. ثم (ينغ ناغان) وهو معدود في طبقة الكتاب النابهين ولكن أرفع القصصين المحدثين ذكراً وأسماهم مكانة هو (لوسين) له مجموعتان من الأقاصيص عنوان الأولى (صرخات الحرب) وعنوان الثانية (اضطراب البال) ونتاجه على قلته موسوم بسمة الجمال والعبقرية.

وسنترجم في الأعداد المقبلة قصة له وأخرى ليانغ ناغان تمثلان الروحين الشائعين، والاتجاهين المختلفين في القصص الصيني الحديث.

ص: 50

‌في الأدب الغربي

بين بين

للدكتور طه حسين

الأصل في الكلام إنه وسيلة تتوسل به إلى الأعراب عما تريد أن يفهمه عنك غيرك، فهماً واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض. والكلام كله يشترك في هذا الأصل أو قل كان يشترك في هذا الأصل سواء منه ما كان شعراً وما كان نثراً، وسواء منه ما تحدث إلى العقل وما تحدث إلى القلب والشعور. فإذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا فكان فيه غموض أو التواء فمصدر ذلك قصور في المتكلم أو الكاتب أو قصور في السامع أو القارئ، عجز ذاك فلم يحسن الإعراب عما يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم لما لقي إليه. وقد يكون الغموض مقصوداً والالتواء متعمداً، لأن للكاتب أو الشاعر أو المتكلم غرضاً يدفعه إلى أن يتكلف الغموض ويتعمد الالتواء ولكن هذا الكلام الغامض الملتوي واجد على كل حال من يقرأه أو يسمعه فيفهمه فهماً صحيحاً مستقيماً.

هذا هو الأصل في الكلام ولكن يظهر أن الترف الفني الذي ترقى بنا الحضارة إليه، وتنتقل بنا في درجاته المختلفة يأبى أن يقر الأشياء في أصولها أو يدعها ميسرة لما خلقت له. فكما أن الأصل في الطعام والشراب الغذاء والري، ولكن الحضارة والترف قد خرجا بهما عن هذا الأصل إلى ما يتجاوز الغذاء والري، إلى غيرهما من اللذات التي يجدها الطاعمون والشاربون فقد خرج الترف الفني في هذه الأيام بالكلام عن أصله المألوف إلى شيءآخر غير البيان والتبيين، ونشأت طائفة من الكتاب والشعراء لا تكتب النثر ولا تقرض الشعر لتقول شيئاً واضحاً جلياً أو لتقول شيئاً ينتهي بعد الجهد والبناء إلى الوضوح والجلاء. وإنما تكتب وتنظم لتثير في نفسك ألواناً من المعاني وضروباً من الخواطر، ولتهيج في قلبك أشكالاً من العواطف وفنوناً من الشعور، تحسها فتلذ لها وتألم، وتبتهج لها وتضيق بها، وتفهمها حيناً وتعجز عن فهمها أحياناً، وتذهب مذاهب مقيدة غريبة متباينة في فهم هذا الكلام الذي يلقى إليك وتأويله وتخريجه فتقر ما تنتهي إليه ثم يبدو لك فتعدل عنه، ثم تقرأ هذا الكلام مرةً أخرى فإذا أنت تذهب في فهمه وتأويله وتخريجه مذاهب لم تكن قد ذهبتها من قبل، ثم تتحدث إلى من قرأ هذا الكلام نفسه فإذا هو يخالفك في الفهم كل

ص: 51

الخلاف أو يخالفك في بعضه ويوافقك في بعضه الآخر. ثم تتحدثان إلى ثالث قد قرأ هذا الكلام فإذا له فيه رأي لم ترياه ولم يخطر لكما على بال ولعلكم إن سألتم الكاتب أو الشاعر الذي ألقى إليكم والى الناس هذا الكلام عما أراد به حين كتبه أو نظمه لم تجدوا منه جواباً مقنعاً ولا رداً مريحاً. أو وجدتم أجوبة مختلفة وردوداً متباينة، لأنه هو لا يعرف بالضبط ماذا أراد حين كتب أو نظم أو كان يعرفه أثناء الكتابة والنظم ثم ذهب عنه بعد ذلك، أو كان يعرفه فلما أتم الكتابة والنظم وترك ما كتب ونظم حيناً عاد إليه يقرأه فإذا هو يفهم منه غير ما أراد ويتبين منه غير ما كان قد قصد إليه.

وقد يخطر لك أني أقصد بهذا النحو الكلام إلى شيء من العبث أو الدعابة، فذد عن نفسك هذا الخاطر فلست بصاحب عبث ولا دعابة. وإنما أنا صاحب جد كل الجد وأنا أكتب هذا الكلام بعد أن فرغت من قراءة قصة لذيذة قيمة ممتعة للكاتب الفرنسي جورودو. صاغها في صيغة القصص التمثيلي ووضع لها العنوان الذي وضعته أن لهذا الفصل، ونشرها في عددين من مجلة باريس.

وقد قلت إن هذه القصة لذيذة قيمة ممتعة وأنا أريد ما أقول، ولعلي مقصر حين أكتفي بهذه الأوصاف وحسبك أني قرأتها ثلاث مرات وسأقرؤها إن أذن بذلك الوقت وسمحت به الظروف. وقد وجدت قي كل قراءة لذة ومتاعاً وأنا واثق بأني سأجد في القراءة الرابعة لذة ومتاعاً. ولكني على ذلك كله لم أفهم ما أراد الكاتب أو قل فهمت أشياء مختلفة وأغراضاً متباينة، ما أظن أن الكاتب قد أراد إليها أو فكر فيها. وقد أسأت الظن بنفسي فأقرأت هذه القصة قوماً آخرين وجدوا فيها لذات لم أجدها ومتاعاً لم أشعر به. ولكنهم كانوا مثلي عاجزين عن أن يفهموا بالدقة أو بالتقريب ما أراد إليه الكاتب حين كتب قصته هذه البديعة الغريبة. ثم انتهى بنا الأمر إلى أن اتفقنا على إن الكاتب لعله لم يرد شيئاً أكثر من أن يثير في نفوسنا وقلوبنا هذه الخواطر والعواطف وهذه الأهواء والميول. وعلى أن الكاتب لعله أراد أن يذهب بالكلام مذهب الموسيقيين بالموسيقى، فلا يقصد إلا إلى أن يثير في نفسك ضروباً من العواطف والأهواء حول فكرة خطرت له وأثرت فيه فصورها كما استطاع في هذه الألحان التي قد تطابق ما في نفسه وقد تقصر عنه وقد تتجاوزه وتربى عليه. ولكنها على كل حال قلما تنقل إلى نفسك صورة صحيحة مطابقة لما كان في نفسه، وقلما تثير في

ص: 52

النفوس المختلفة عواطف وأهواء مؤتلفة أو متقاربة تقارباً شديداً. إنما قصاراها أن تدفع بك في عالم من الخيال لا حد له. فأنت تتصور فيه ما تشاء. وأنت تحس فيه ضروباً متباينة من الإحساس وقد تسمع اللحن الموسيقي الآن فيثير في نفسك لوناً من الخواطر وتسمعه بعد ذلك فيثير في نفسك لوناً آخر. وكذلك يذهب أصحاب الكلام بالكلام حتى يجعلوه فناً من النغم وضرباً من الموسيقى، وحتى يستطيعوا أن يلقوه إليك فإذا أنت لا تفهم منه شيئاً دقيقاً جلياً كما تعودت أن تفهم من الكلام. ولكنك على ذلك لا ترغب عنه ولا تنفر منه بل تؤثره ولا تعدل به شيئاً.

في هذه القصة خداع غريب خطر لأنه يخيل إليك إنك تفهم ما تقرأ على وجه من وجوه الفهم فتمضي بالقراءة متابعاً فهمك هذا مطمئناً إليه، ولكنك لا تلبث أن تضل الطريق. وإذا أنت في واد غير ذلك الوادي الذي كنت تمضي فيه. وما يزال كذلك ينقلك من واد إلى واد ويثب بك من مذهب في الفهم إلى مذهب آخر حتى تنتهي القصة. وإذا أنت تسأل نفسك ماذا فهمت أنت منها وماذا أراد الكاتب بها إليه.

ولا بد لي من أن ألخص لك المقدار الذي يستوي الناس جميعاً في فهمه من هذه القصة حين يقرءونها وهو هذه الصورة الظاهرة التي يقسمها الكاتب إلى مناظر وفصول. ولكني أحب أن تفهم أن هذا التلخيص لا يعطي شيئاً ولا يصور ما أراد الكاتب. وقد قرأت لجماعة من النقاد فما أرى إنهم فطنوا لما قصد إليه في دقة ووضوح.

كل شيء في القصة مبهم قد تعمد الكاتب إبهامه، حتى الأماكن التي تقع فيها حوادث القصة، والأوقات التي أختارها الكاتب لوقوع هذه الحوادث. فأكثر ما يقصه عليك الكاتب يجري في مكان غير محدود ليس هو داخل المدنية وليس هو شديد البعد منها وكأنه في طرف من أطرافها حيث تتصل عمارات المدن بالفضاء الواسع الطلق. وهو في غابة أو في شيءيشبه الغابة، تتبين فيه الأشجار ولكنك لا تضيق بها ولا تحس كثافتها والتفافها. والمكان واسع قد كسا أرضه العشب وأنتثر فيه زهر كثير مختلف. ولا تقع حادثة من حوادث القصة في أول النهار أو في وسطه حين تستطيع العين أن تحيط بالأشياء وتحقق النظر فيها وحين تستطيع النفس أن تتابع العين فتفكر في شيءبين محدود.

وإنما تقع الحوادث في الأصيل حين يختلط آخر النهار بأول الليل، وحين يضطرب على

ص: 53

الأشياء رداء رقيق جداً من الضوء، وحين تتفرق النفس كأنها تريد أن تتابع الشمس في مسراها من وراء الظلمة الكثيفة المقبلة.

وإذا أختار الكاتب هذا المكان المبهم، وهذا الوقت المبهم لم يكن من العسير عليه أن يختار أشخاصاً إن ظهرت صورهم المادية ظهوراً واضحاً في بعض الأحيان، فأن صورهم النفسية وما يصدر عنها من الأحاديث والخواطر مبهمة شديدة الإبهام ملائمة أشد الملائمة لما يحيط بها من زمان ومكان. ولعل أحسن مظهر لبراعة الكاتب إنما هو إنشاء هذه البيئة الغامضة الواضحة المبهمة الجلية التي هي بين بين.

موضوع القصة نفسه يقتضي هذا الموقف المتوسط بين الوضوح والغموض، فنحن في مدينة صغيرة من مدن فرنسا كانت هادئة مطمئنة تجري حياة أهلها في اضطراد لا نتوء فيه كأنه السهل المنبسط. ثم يضطرب أمرها فجأة وتحدث فيها حوادث غير مألوفة كأن شيطاناً ماكراً قد أشرف على أمورها فقلبها رأساً على عقب. تعودت أن تجيل بين أهلها في كل عام طائفة من أوراق (النصيب). فإذا جاء موعد القرعة فقد تعودت المدينة أن تخرج القرعة لأغنى أهلها إلا في هذه السنة فقد خرجت لرجل فقير. تعودت أن تؤدي عملية الإحصاء من حين إلى حين كما تؤديها غيرها من المدن فإذا سألت الأسر عن عددها ردت بأجوبة تلائم العرف والقانون إلا في هذا العام، فالعمدة يستحي أن يقدم إلى المركز أوراق الإحصاء لأن الناس قد أحصوا أنفسهم، وكلابهم، وماشيتهم. ولأن الرجال لم يضعوا زوجاتهم في أجوبة الإحصاء، وإنما وضعوا خليلاتهم. تعودوا أن ينهر الرجل صبيه فلا يثور الصبي، وأن يزجر كلبه فلا يثور الكلب، أما في هذا العام فالصبيان ثائرون بآبائهم وأمهاتهم، والكلاب ثائرة بأصحابها وسادتها. وعلى هذا النحو أضطرب في المدينة كل شئ. ومصدر الاضطراب فيما يظهر أن إشاعة ملأت المدينة بأن شبحاً يظهر لبعض أهلها إذا تولى النهار وأقبل الليل. وقد صدق الناس هذه الإشاعة واطمأنوا إليها فكلهم يلتمس الشبح وكلهم يراه، وكلهم يخافه، ويحتاط للقاءه. وانتهى أمر هذا الاضطراب إلى باريس فأرسلت الحكومة المركزية مفتشاً إلى هذه المدينة يبحث ويستقصي، وأمرته بأن يحسم الداء إذا انتهى إلى أصله. وفكرة الحكومة أن هذا عارض من الضعف العقلي ومن الشعوذة قد ألم بهذه الدينة، فيجب أن يرد عنها وأن يبسط عليها سلطان العلم والعقل، ويقبل هذا

ص: 54

المفتش ممتلئاً بهذه الفكرة فلا يكاد يتحدث إلى العمدة والصيدلي ومراقب المكاييل والموازين حتى يروعه تصديق المدينة لهذه الخرافات، وحتى يشتد عزمه على أن يشمر في الحرب لهذا السخف حتى يقضي عليه. وهو ينكر وجود الأشباح والأرواح، وهو يتحدى الأشباح والأرواح ويطلب إليها أن تقلق طائراً ولو يسيراً عن غصن من هذه الأغصان وهو يحصي ثلاثة فلا يتم الإحصاء حتى تسقط قلنسوته عن رأسه! فيقول: ما أشد الريح أو يجيبه أصحابه: ليس في الجو أثر للنسيم! وهو يعود إلى التحدي في لفظ غليظ بشع ويطلب إلى الأرواح والأشباح أن تمسه بأذى ولو ضئيل. ويحصي ثلاثة فلا يكاد يفرغ من الإحصاء حتى تزل قدمه به فيهوى! فإذا نهض قال: ما أشد الرطوبة! فيجيبه أصحابه، إن عهدنا بالمطر لبعيد! وبهذا يتحقق الخلاف بين ممثل الحكومة المركزية وأهل المدينة. هو صاحب علم وعقل وهم أصحاب خيال وإيمان بالخرافات.

ولكن علم المفتش أولى وعقله محدود. فهو يؤمن بما في الكتب ويسلم به مقلداً فيه وهو يرى الإيمان به والتعصب له سياسة تلائم الديمقراطية وتوافق نظم السياسة الحديثة. وسذاجة أصحابه الذين يحاورهم ظريفة طلقة ليس فيها غلظ ولا ضيق، وإنما هي سذاجة ذات أجنحة تسمو بأصحابها حتى تتجاوز بهم حدود المألوف المعقول وكأنها قد اتخذت أجنحتها من الخيال وأصبحت شعراً كلها، فالحوار إذاً إنما هو بين الحقائق الواقعة المقيدة التي لم تبرأ من الجمود ولم تسلم من القصور، وبين الخيال المطلق الحر الذي أخذ بحظ عظيم من الرقي والصفاء والتهذيب. الحوار إذاً بين الحياة اليومية المألوفة يمثلها شخص المفتش وبين الشعر يمثله هؤلاء الناس. بل يمثله معهم أكثر أهل المدينة وتمثله معهم بنوع خاص إيزابيل هذه الفتاة التي تقوم على تعليم البنات مكان المعلمة المريضة والتي تذهب في تعليم الفتيات مذهباً غريباً ملائماً كل الملاءمة للطبيعة الحرة والشعر الطلق. فهي لا تضطرهن إلى المدرسة وإنما تتخذ من الغابات والحقول مدرسة تلقي عليهن فيها علماً غريباً يضيق به المفتش الذي يمثل حياة كل يوم. وهي تلقي إليهن أسماء غريبة تدل بها على ألوان العلم في الفلك والطبيعة والنبات والحيوان وهي لا تتحرج في أن تحملهن على أن يتشكلن بأشكال الحيوانات المختلفة ويتسمين بأسمائها ويسرن سيرتها، كل تعليمها يمتاز بأنه شعر، ويقوم على تحبيب الطبيعة إلى التلاميذ. ولا يكاد المفتش يرى هذا ويتبينه حتى

ص: 55

ينفر منه ويثور به ويرى إنه أصل هذا السخف الذي سيطر على المدينة ونشر فيها الفساد والاضطراب. فيعزل الفتاة إيزابيل من منصب التعليم، ويأمر أن يجري التعليم في المدرسة على ما يجري عليه في المدارس الأخرى في أضيق حدود التقاليد وقد أنبئ بأن مصدر هذه الإشاعة التي اضطربت لها المدينة إنما هو هذه الفتاة المعلمة، فهي التي ترى الشبح وتناجيه إذا كان المساء! وقد ثبت له ذلك. فأرصد للفتاة وطائفها ومعه نفر مسلحون حتى إذا كان المساء أقبلت الفتاة وأقبل الطائف فتحدثت إليه وتحدث إليها. وهما في حديثهما وإذا نار تطلق فيهوى الطائف إلى الأرض كما يهوى القتيل. ويظهر المفتش وأصحابه وهم لا يشكون في أن هذا الطائف ليس إلا شاباً أراد أن يغوي الفتاة فاتخذ صورة الطائف وشكل الخيال. ويحنو بعضهم على القتيل فلا برى جثة وينظر القوم فإذا الطائف يرتفع في الجو شيئاً فشيئاً حتى يسترد صورته الأولى ثم يقول: إلى غد يا إيزابيل! إلى غد في غرفتك إذا كانت الساعة السادسة!

فإذا كان الغد أقبلت الفتاة إلى غرفتها قرب الموعد المضروب وأقبل مراقب المكاييل والموازين فأخذ يتحدث إليها حديثاً فيه حب، فتريد أن تصرفه عن نفسها فيأبى ويعرض عليها الزواج، وهما في الحديث وإذا الطائف قد أقبل وطلب إليه أن ينصرف ويدعه مع الفتاة. ولكن الرجل يأبى ويلح في الإباء ويكون بينه وبين الطائف حوار عنيف دقيق أيهما يستأثر بالفتاة، والفتاة مترددة بين هذا الرجل الذي يمثل الحياة وهذا الطائف الذي يمثل الموت ولكن ميلها إلى الحياة ينتصر آخر الأمر فينصرف الطائف مهزوماً وتهوى الفتاة في غشية كأنها الموت. ويقبل المفتش والعمدة والصيدلي والتلميذات وبعض أهل المدينة وكلهم يريد أن يستنقذ الفتاة من هذا الإغماء. وكلهم يقترح لذلك دواء وطباًً ولكن الصيدلي يتقدم إليهم جميعاً في أن ينسوا الفتاة وينصرفوا إلى أنفسهم. ويستأنف كل منهم حياته في هذه الغرفة كما لو كان بعيداً عنها فهؤلاء يلعبون الورق وهؤلاء الفتيات بينهن حديثاً عادياً، وهاتان الفتاتان تتحدثان في الأزياء، وهذا المفتش ينطق من حين إلى حين بألفاظ تمس العلم والتعليم والديمقراطية وقد استحالت الغرفة صورة مصغرة للمدينة. وإذا الفتاة المغمى عليها تفيق شيئاً فشيئاً حتى تشترك في الحديث عن الأزياء ويأتي من يخبر بأن الأمور قد استقامت فخرجت قرعة النصيب للأغنياء دون الفقراء، ويعلن الصيدلي في ألفاظ تذكر

ص: 56

بقصة فوست أن قد انتهت هذه الحال التي كانت بين بين!

هذه صورة غليظة جداً لهذه القصة لا دقة فيها ولا تحديد ولا إلمام بشيء مما فيها من مواطن الشعر ومظاهر الجمال الفني الرائع. ولا إلمام فيها أيضاً بهذه المواقف الكثيرة التي يعرض فيها الكاتب للحياة اليومية على اختلاف فروعها بالنقد اللاذع المر، ولكنك تستطيع أن تسأل نفسك كما سألت نفسي وكما سأل غيري من القراء نفسه حين قرأ هذه القصة، ماذا أراد الكاتب أن يصور فيها؟ أتراه اكتفى بنقد ما نقد من ألوان الحياة الفرنسية ولم يرد غير ذلك! إلا فإن هذا النقد عارض في القصة يكفي أن تنظر فيه لتعلم إن الكاتب لم يتخذه غرضاً من أغراضه الأولى. أتراه رمز بهذا الطائف إلى شيءمما يعرض للناس في حياتهم وجعل الفتاة رمزاً للناس جميعاً أو لطائفة من الناس؟ ولكن ما عسى أن يكون هذا الشيء الذي أتخذ الطائف رمزاً له أهو الحب؟ أهو الموت؟ أهو الأمل؟ أهو المثل الأعلى؟ أهو شيء غير هذا كله؟ أتراه إنما أراد أن يصور حالاً من أحوال الناس تعرض لهم في طور من أطوار حياتهم حين يكونون بين النوم واليقظة، أو حين يكونون بين الصبا أو الشباب وبين الاكتهال واكتمال السن. أتراه أراد أن يصور لنا حياة فتاة مريضة بنوع من أنواع الأمراض العصبية تتأثر بالوهم وتتبعه حتى تمضي في أثره إلى أمد بعيد ثم لا ترد إلى الحياة الواقعة إلا في هدوء ورفق. وإلا بأن تحيط بها الحياة الواقعة إحاطة متصلة لا تكلف فيها ولا جهد. كل ذلك ممكن، ولعل شيئاً غير ذلك كله ممكن أيضاً ولعل الكاتب (وقد هممت أن أملي الشاعر) لم يرد كما قلت إلا أن يخلق حولك هذه البيئة الشعرية التي تطلقك من قيود الحياة الواقعة وتسلمك إلى الخيال يمضي بك حيث يشاء ساعة من نهار أو ساعة من ليل. وقد ذهب الشعراء إلى هذا النحو من الفن منذ عهدٍ غير قصير، فمنهم من جعل الشعر موسيقى تلذ السمع أولا، وتثير في النفس لذة النغم الموسيقي بعد ذلك وأعرض عن المعاني إعراضاً شديداً أو هيناً. ومنهم من أعرض عن هذه الموسيقى الظاهرة التي يتأثر بها السمع قبل كل شيءواتخذ الشعر مفتاحاً يفتح لك به أبواب اللانهاية كما يقول الشعراء ووسيلة يخلق لك بها هذه البيئة الفنية العليا التي ترتفع بها وقتاً ما عن الحياة والأحياء.

وأخذ الكتاب يذهبون بالنثر مذهب الشعراء بالشعر ولكن كاتبنا قد تجاوز مذهب الكتاب الذين يقلدون الشعر والشعراء في النثر الذي يتجه إلى القراء ليس غير، وسلك هذا المذهب

ص: 57

الشعري بالنثر التمثيلي وبالتمثيل نفسه. وأنت في غير حاجة إلى أن أبين لك الفرق بين النثر الذي يذهب في صاحبه مذهب الشعراء والموسيقيين والذي يتجه إلى الناس جميعا ولكنهم يقرءونه متفرقين ويتأثرون به متفرقين، وبين النثر الذي يذهب به صاحبه هذا المذهب ويتجه به إلى طبقات من الناس يجمعهم في مكان واحد، هو الملعب وينتزعهم من الحياة الواقعة معا ويسمو بهم معا إلى عالم الشعر والخيال ويتخذ لهذا سبيلا واحدا هو التمثيل. وأظنك توافقني على أن هذا النوع من الإقدام والابتكار جراءة فنية قيمة. ولكن قد رأينا الآثار التي تتركها قراءة هذه القصة في نفس القراء ولم نحب أن نرى الآثار التي تتركها تمثيل هذه القصة في نفس النظرة. ولكن أين نحن من هذا وأين هذا منا في مصر الآن؟

وأنا أريد أن اعرض عليك منظر من مناظر هذه القصة لم اختره اختياراً وإنما هو كغيره من المناظر التي تستحق كلها أن تترجم وأن تتخذ نموذجا ومثلا لهذه الفن التمثيلي الجديد. وهذا المنظر حوار بين إيزابيل وبين الطائف:

الطائف - أكنت تنتظرينني؟

إيزابيل - لا تعتذر! فلو كنت طائفا مثلك لوقفت عند هذا الشفق وعند هذه الأودية، حيث لم أستطع إلى الآن أن أحمل الا جسما كثيفاً. إذاً لاستوقفتني الغدران والنبات الملتف وكل ما أقف عنده الآن! إذاً لما كنت هنا الآن لو أني أستطيع مثلك أن أطوف بظلي كما لا أستطيع الا أن أمسه أو أراه! إذاً لاتخذت لنفسي جسما من الأشياء كما أهوى عصفوراً على الغصن مرة! أو طفلا مرة أخرى! أو انحرف مرة ثالثة فأتقمص عوداً مزهرا من النسرين. إنما الاحتواء هو القرب الصحيح. . . ولكني ألومك لأنك أقبلت هذا المساء وحدك، وحدك دائما. لم تستطع أن تمس أحداً من ذويك ولا أن تحمله على صحبتك!

الطائف: لم أستطع.

إيزابيل: لقد فكرنا أمس بعد كل هذا الإخفاق أن أقدر الأشياء على أن يهيجهم، ويؤثر فيهم، ويوقظ ما يمكن أن يكون أعصاب الطيف، قد يكون صيحة طويلة، وشكوى متصلة متشابهة، تتردد في طول واتصال. كهذه الصيحة الحقيقية أو التي نحلم بها والتي تصدر عن القطار فتوقظنا أحيانا مع الفجر وتردنا إلى الأحياء. أو كصيحة سفينة أثناء الليل في

ص: 58

الخلجان، تلك الصيحة التي تبلغ حتى الأسماك الرخوة في القاع. أبعثت هذه الصيحة؟ أأنفقت يقظتك في بعثها؟

الطائف: نعم!

إيزابيل: أنت بنفسك؟ أنت وحدك؟ ولم تلحق بصوتك شيئا فشيئا آلاف من أصوات تشبهه. .

الطائف: لقد اصطدمت بنوم الموتى.

إيزابيل: أينامون؟

الطائف: أيكون هذا نوما؟ لقد تسود اكثر الأحيان حيث يجتمعون رعشة، ثم ينساب فيهم نشاط جديد، حتى لقد ينبعث منه شيء يشبه الصوت أو انعكاس الضوء فإذا أقبل عليهم الطارقون المحدثون انغمسوا في اضطراب لذيذ تهدأ له بقية حياتهم يهزهم دائما ترجح الأرض الخفيفة. ولكن ربما اتصلت جماعتهم كلها، فكأنها قطعة من الثلج قد غمرها نوم الشتاء فإذا هبط إليها الموتى الوافدون غرقوا فيها مع شعاع يرافقهم، لأن نوم الأحياء شمس وبهجة.

إيزابيل: أكانوا كذلك أمس؟ أيفصل ذلك زمنا طويلا؟

الطائف: قرونا. . ثواني

إيزابيل: أليس من أمل في المعونة؟

الطائف: منهم، لا أظن.

إيزابيل: لا تقل هذا! إن بين الذين قضوا من حولي من أحسست أنهم قد ذهبوا إلى غير رجعة ومحيت أشخاصهم من كل حياة ومن كل موت. لقد أرسلتهم على العدم كما أرسل الحجر. ولكن بينهم من وجهتهم إلى الموت كأنما وجهتهم في مهمة، أو كأنما كلفتهم محاولة، يظهر الموت فيها وكأنه أقصى غايات الثقة. فكان يضطرب حول المقابر جو السفر والأماكن المجهولة. ولم اكن أميل إلى أن أودعهم باللفظ بل بالإشارة. وكنت أحس أثناء المساء كله كأنهم يبحثون عن إقليم جديد وعن بيئة جديدة. وكانت الشمس مشرقة، وكنت أراهم هناك ينامون في شمسهم الجديدة. وكان المطر يسقط وكانوا يتلقون القطرات الأولى من أمطار الجحيم. فلن تقنعني بأن هؤلاء أيضا ينسون أو يسقطون متى انتهوا إلى

ص: 59

مستقرهم؟

الطائف: لم يصلوا لم أرهم.

إيزابيل: ولكنك أنت نفسك تلقي السلاح؟ وتكتفي من الأمل والرغبة بأن تهيم طائفا فوق مدينة ضئيلة؟

الطائف: المهمة خطيرة.

إيزابيل: ومع ذلك فها أنت ذا.

الطائف: إن بين الموتى من ينام وكأنه يقظان.

إيزابيل: إن هذا النائم المستيقظ يستخفي مع الصبح وما زلت مقيما.

الطائف: لقد جذبتني. لقد أوقعتني في الشراك.

إيزابيل: أي شراك؟

الطائف: إن عندك لشركا يجذب إليه الموتى.

إيزابيل: وأنت أيضا تراني ساحرة.

الطائف: إن سحرك لطبيعي حتى لكأنك قد عرفت فيم يفكر الموتى فأنت لا تهيئين لهم ذكريات ولا صوراً وإنما تهيئين لهم الشعور بانعكاس الصور وأجزاء الضوء قد استقر على زاوية من الموقد، على أنف هر، أو على ورقة كأنها الحطام الضئيل يطفو على الطوفان. . . . . أترينني مصيبا؟

إيزابيل: وإذاً؟

الطائف: وإذاً فكل غرفتك في الظاهر غرفة للأحياء، لفتاة حية من أهل الأقاليم، ولكن من يحقق فيها النظر يرى أن كل شيء قد قدر لتكون هذه العلامة من الضوء على الأشياء المألوفة على إناء من الصيني أو مقبض من المقابض قد استبقى دائما بالشمس أو النار في النهار، وبالمصباح أو القمر في الليل. هذه هي حبالتك وقد كان حقا علي أن احتاط حين رأيتك في نافذتك ذات مساء. لم يكن وجهك المشرق هو الخطر. ولكني رأيت انعكاس اللهب على الحاجز أمام الموقد. ورأيت ضوء القمر على المنبه. ورأيت ماس الظلال. فأخذت!

إيزابيل: أخذك الشرك فمن أبقاك؟

ص: 60

الطائف: صوتك قبل كل شيء أحاديث صوتك هذه التي تجعل في الشفق كل مساء شيئاً تهيم به الظلال يشبه ما يرى الناس إن الطير تحبه من الشمس! وأبقاني بنوع خاص هذه الثقة الكريمة التي تمنعك حتى من أن تفكري في أني قد خدعتك وأني حي.

ثم تطلق النار فيهوى الطيف!

ص: 61

‌من الأدب الإنجليزي

للشاعر شلي

حجاج العالم

حدثيني أيتها النجمة ذات الأجنحة النورانية!

أيتها الروح التي تسبح في أفقها الوهاج

في أي كهوف الليل وأغواره أخفيت كيانك

وحدثني أنت أيها القمر. . يا كوكب الليل الأصفر الحزين

أيها الرحالة التائه في طريق لا معلم فيه ولا هاد

في أي أعماق الليل أو النهار تلتمس مأواك؟؟

وأنت أيتها الريح المتعبة الكليلة

التي تجوب الوجود مولولة كالطريد المنبوذ من العالم

أو ما زلت تبحثين عن عشك الشجري في عذبات الصفصاف والكافور؟؟

ص: 62

‌أغنية

هو طائر حزين جلس يبكي إلفا له قد مات.

// لقد استوى في ذروة غصن من أغصان الشتاء

وكانت الريح المقرورة تزحف فوقه.

والجدول المتجمد يدب تحته.

لم تكن ثمة ورقة خضراء تخفق في الغابة العارية الجرداء.

ولا زهرة ترف فوق الربوة الشاحبة الكئيبة

وكان الجو صامتاً زامتاً

إلا من أزيز الأرجاء البعيدة

ص: 63

‌إلى القمر

خبرني أيها القمر عن سر اصفرارك؟

أمن التعب الذي تلاقيه وأنت تتسلق السماء جاهدا محملقا إلى الأرض بين رفاق من النجوم تفاوتت أعمارها؟؟

خبرني لماذا لا يبدو عليك تغير ما، كأنك عين حزينة لا تجد في العالم ما يثير انتباهها؟؟

محمد عبد المعطي الهمشري

ص: 64

‌العلوم

التيفوس

للدكتور أحمد زكي

اليوم يوم من الأيام التي طواها القرن الثامن عشر بانطوائه. والبلد لندن حين لم يكن لها هذا الشأن الكبير، ولا لمرافقها الصحية هذا الخطر الكبير، ولا لأهلها هذه الثقافة وهذا اليسر المعروف. والدار دار المحكمة وهي التي تقع في سرة ذلك البلد العتيق.

ففي ضحوة ذلك اليوم أخذ الناس يتوافدون على تلك الدار زرافات ووحدانا. هذا مجرم فاجر وفي عينيه القسوة وفي مشيته التحدي، يقوده رجال من الشرطة على حذر وريبة. وهذا مجرم منكسر الحال وفي طرفه الذلة يقوده شرطي، وهؤلاء نفر من ذوي هذا المجرم أو ذاك في أثوابهم تهدل القِدَموعليها لون السنين، وفي أحذيتهم خروق السعي المتواصل، وعلى وجوههم شحوب الجوع وهم الرزق وقذارة الفقر، أو صفرة المرض أو سحنة الإسراف في فنون الدعارات الرخيصة. وهذا أحد المحلفين جاء يمشي في زهو المسيطر، وخيلاء الحاكم، وإلى جانبه صاحب له يرفع عقيرته يجادل صاحبه في شأن من شئون القضاء، يريد أن ينبه من حوله من الطغام أنه خبير بالقانون بالرغم من كونه محلف، عالم بسياسة الملك وتقسيط العدالة على الرغم من أنه أختير من صفوف السوقة وغوغاء الرعية. وهذه عربة فخمة برز منها رجل أنيق الملبس ناعم الحال في وجهه حمرة النعمة وفي جلده دهن الموائد، جاء للتفكه والتسلية لما أعوزه ما يشغل به وقته.

أما في داخل الدار فقد أخذت المقاعد تمتلئ، ثم ما بين المقاعد ثم الزوايا والأركان، وامتلأ ما بين المقاعد والسقف بأنفاس ثقيلة تكاد تسقط، وأبخرة كثيفة ندية تكاد تتقطر، ورائحة تألفت من روائح ذات أسباب عدة كلها مما لا يطيب إلا في أنوف الكلاب. ودخل المحلفون فأثار اهتمام الجمهور وعلم الناس حينئذ أن القاضي يكاد يدخل القاعة، ولم يلبثوا أن صاح بهم صائح قي صوته قوة وإمرة (وقوفاً) فوقف الناس ودخل صاحب الجلالة القضائية وعلى رأسه عارية من الشعر بيضاء، كأنما تطمئن الناس إلى عدل القضاء. وجاء الناس وأفتتحت المحكمة وجيء بالمذنب بعد المذنب وقام الاتهام فصال وجال وبالغ في وصف الجرم ما شاء له حرصه على المجتمع أن تعبث به يد الفساد، وتذهب بطمأنينته نزعات

ص: 65

من

الشر خالدة في نفوس البشر. وقام الدفاع فأنكر الجريمة فدفع الحجة بالحجة والغضبة بغضبة أشد منها وتقبضت كفاه، ولما لم يكن من حسن اللياقة دخول الأكف في النقاش أنهال على المنضدة حتى أوجع كفيه، ولكن ذلك كان ثمناً طيباً للأثر الطيب الذي كان لدفاعه عند الجمهور. وجاء دور المحلفين فقالوا كلمتهم، وجاء دور القاضي فنطق بالأحكام. وانقضى اليوم والجمهور بين راض وحانق. ومضى أسبوع فأسبوع فشاع في الناس أن رئيس المحلفين قد مات، فعلم الحانقون انهم كانوا مصيبين في حنقهم وإن الحكم كان خاطئاً، وقال الراضون إن هو إلا سهم طائح طائش عارض من سهام عزرائيل أصاب المرحوم اتفاقا. ومضى أسبوع وشاع بين الناس إن إثنين من المحلفين قد ماتوا، فزاد الحانقون حنقاً على الأحكام، وأخذ الراضون يرتابون من صحة الميزان، ولكن الحق وضح واليقين تجلى لما مات القاضي بعد ذلك بأسبوع. وهل مات أحد من الجمهور؟ بالطبع لم يبلغ الناس شيءمن ذلك، وما كان من الممكن أن يبلغهم.

وجاءت جلسة قضائية تعقبها جلسة أخرى. فزادت الجنائز وامتلأت المقابر وسر الدفانون. فبان ما لم يكن بائناً من قبل، ذلك أن جمهور النظارة أيضاً حصد منه الموت أكبر حصاده، وزالت الرابطة ما بين الأحكام وبين الأموات، وعلم الناس إنه وباء من تلك الأوبئة التي يبعثها الله على عباده من حين إلى حين لغرض لا يعلمه إلا سواه، وخافوا تلك المحاكم واستشأموا منها وأسموها السوداء.

وفي هذا الشهر الحالي من القرن الحالي في مدينة القاهرة في أشد عيادات العالم المتمدن ازدحاماً وقذارة وسوء حال، وقع حادث كما ذكرناه فأصيب بضعة من أطباء القصر العيني ومساعديهم بنفس ذلك المرض الذي ذكرناه، ولكن علم الإنسانية بأعداء الإنسان زاد كثيراً، وفقهه للأوبئة تقدم تقدماً كبيراً، فما كادت تعرض الأعراض، على المنكوبين المذكورين حتى عرف المرض الخبيث وأسرع إليهم بالعلاج، أو بالقدر الذي يستطيعه الإنسان من ذلك في المرحلة الحاضرة من تقدمه في فهم هذا المرض، والذي نتمناه ألا تنشر هذه الكلمة حتى يدخل الأطباء المصابون دور النقاهة، والذي نتمناه أن يمن الله على من لم نسمع بهم ممن لاشك قد أصيبوا من المرضى الخارجين بالقصر العيني، والذي نتمناه أن يكون هذا

ص: 66

درس نافع للجميع لا للقاهرة فحسب، بل في الريف كذلك.

أما التيفوس فمرض من أخبث الأمراض، ولاشك أنه قديم ولكن القدماء لم يتبينوه لاشتباه أعراضه بأعراض الحميات عامة، وهو قد يتوطن في الأقطار فتظهر منه إصابات قليلة، ولكنها ثابتة العدد لا تتغير إلا يسيراً، وقد يمتد في القطر فينتشر وباؤه فيحرث في الناس حرثاً، ففي الوافدة التي زارت أيرلندا عام 1846 حصد التيفوس من عاصمتها وحدها نحواً من ستين ألفاً. ويساعد على إحياء التيفوس ونشره ازدحام الناس مع سوء الغذاء والقذارة، لذلك تراه يظهر في الحروب بين الجيوش، وآخر أمثلة ذلك الوافدة التي زارت بلاد الصرب في الحرب العظمى، وذلك إن النمسا هاجمت البلاد الصربية لأول مرة فهاجر السكان من غير المحاربين إلى الجنوب في ازدحام وفاقة وعري وسوء حال، فأستيقظ الوباء النائم وبلغ أشده في عام 1915، وعندئذٍ خافت النمسا على جيوشها وكانت تنوي مهاجمة الصرب المرة الثانية فأجلتها، وقام هذا المرض الوبيل نيابة عنها ففتك بالصرب أشد فتك فمات منهم بسببه في ستة أشهر مائة وخمسون ألف نفس.

والتيفوس تنتقل عدواه بواسطة القمل، وبالقمل وحده على قدر ما حقق الباحثون. ومن الغريب أن هذه الحقيقة لم تدخل دائرة اليقين إلا في عام 1909 فأنهم حقنوا قرداً بمقدار من دم مريض بالتيفوس فانتقلت العدوى إلى القرد فربوا عليه قملا ونقلوا هذا القمل إلى قردة أخرى فأصابتها العدوى. وهذا يفسر لنا أن التيفوس يحصل إذا اجتمعت الزحمة والفقر وفي الحروب، ولقد صدق من أسماه (داء القذر) ويفسر لنا سرعة انتشاره من مريض لصحيح، ومن المريض للطبيب، ويفسر لنا أنه ينتشر في البلاد المعتدلة وفي الباردة على الأغلب في الشتاء أي في الحين الذي يرغب فيه الناس ولا سيما فقراؤهم عن الاستحمام وفي الحين الذي يزدحمون فيه في المساكن والقيعان رغبة في الدفء وهرباً من البرد.

أما سبب المرض فغير محقق تماماً إلى الآن. يظن بعضهم إنه فعل جراثيم دقت حتى عجزت عن رؤيتها أكبر المجاهر، وصغرت حتى عجزت مرشحات الجراثيم المعروفة عن حبسها، ولكن أكثر البحاث اليوم يرون أن هذه الجراثيم على صغرها يمكن ترشيحها، ودليلهم على ذلك أن دم المريض إذا رشح ثم حقن الراشح منه في جسم سليم لم تصبه

ص: 67

العدوى. وقد حاول كثيرون الحصول على هذه الجراثيم، ونجح كثيرون في الحصول على جراثيم، ولكن جراثيم الباحث لم تطابق في الصفات جراثيم الباحث الآخر، فدل ذلك على أنها عوارض، وبعضها لا يعطي المرض فهي ليست جراثيم المرض. ولعل أوثق ما أستكشف في هذا الصدد مما له علاقة بهذا المرض جسيمات صغيرة وجدها الباحث ريكيتس عام 1909 في دم المرضى ببلاد المكسيك، وأمن على وجود أشباه لها فون فرو فازيك أثناء بحثه عام 1910 في بلاد الصرب، وجدها في باطن خلايا الدم البيضاء للمرضى، وسميت هذه الجسيمات بأسمي هذين الباحثين اللذين ذهبا ضحية المرض تشريفاً لهما وحفظاً لذكرهما. ومن بعدهما وجدت هذه الجسيمات في القناة الهضمية للقمل. والأبحاث في هذا السبيل لا تزال جارية تبعث بأشعة من نور ضئيل في ظلمات هذه العلة المبيدة.

وأعراض التيفوس تشابه من بعض الوجوه أعراض التيفود لذلك كانا يختلطان على الناس حتى جاء جرهارد عام 1837 ففرق بينهما. وسمى المرض الثاني بالتيفود ومعناها شبيه التيفوس: والمدة التي تمضي على دخول الميكروب في الجسم وظهور أعراضه تسمى مدة الحضانة، وبئست هي من حضانة، تتراوح ما بين خمسة أيام إلى واحد وعشرين يوماً، وتظهر الأعراض على الأرجح بغتة وقد تظهر بالتدرج. فترتفع الحرارة ويصحب ارتفاعها قشعريرة يصحبها صداع شديد وقيء، ويكون الهذيان أول الأمر زائطاً، ويظهر في نحو اليوم الخامس على جلد المريض طفح، وفي الوجه ثقل وبلاهة. وفي الأسبوع الثاني يصبح الهذيان تمتمة، وإن شاء له الله الشفاء والسلامة نزلت حرارته في نحو اليوم الرابع عشر فجأة وصحبها عرق غزير.

ولا سبيل لاتقاء التيفوس إلا بتطهير السكان من القمل، والقمل من الحشرات التي يمكن استئصالها ولو أن كثيراً من المصريين في الأحياء الفقيرة وبؤساء الريف يظنون أن القمل كالبق لا سبيل لاستئصاله، وربما أتينا في كلمة أخرى على طرق ذلك.

ص: 68

‌الفضاء وقياسه وتطور رأي العلم فيه

عرف من زمن بعيد أن طول الشيء الواحد يتغير قليلا بتغير وضعه بالنسبة لاتجاه سير الأرض، فمثلا إذا أخذت قصبة ووضعتها في اتجاه سير الأرض حول الشمس كان لها طول معين. فإذا أدرتها بحيث تصبح عمودية على اتجاه سير الأرض وجدتها أطول قليلا مما كانت عليه في الوضع الأول. هذا يتعارض طبعا مع الاعتقاد السائد بأن طول الشيء ثابت لا يمكن أن يتغير لمجرد تغير وضعه. والواقع أن هذا التغيير ضئيل جداً لا يظهر إلا في الحسابات الدقيقة وهو أضأل من أن يؤثر أي تأثير محسوس في تجاربنا العادية.

ولم يخطر بالبال أن هذا التغير الضئيل ستنبني عليه نتائج غاية في الخطورة إلى أن تطور العلم عرف سبب هذا التغير. وهاك بيان السبب:

من الثابت الآن أن كل جسم مادي يتألف من دقائق متناهية في الصغر تسمى كهارب بعضها متحمل بشحنة كهربائية موجبة، ويسمى بروتون وبعضها شحنة سالبة، ويسمى ألكترون. فالقلم الذي بيدي هو مجموعة هائلة من تلك الدقائق الصغيرة المكهربة وكذلك كل جسم آخر.

ومن الثابت أيضاً أن أي جسم مشحون بشحنة كهربائية إذا تحرك بسرعة فأنه يصبح مغناطيساً له خواص الجذب. وعلى ذلك إذا تحرك أي جسم مادي بسرعة كبيرة فأن كل دقيقة من دقائقه المكهربة يصبح مغناطيساً، فينشأ بينها تجاذب ينتج عنه انكماش في ذلك الجسم. وقد حسم العلماء مقدار هذا الانكماش بناء على القوى المغناطيسية الناشئة فوجدوه مساوياً تماماً لما يحدث فعلا للأجسام بحركتها مع الأرض.

وعلى ذلك صار من الثابت أن الجسم المتحرك ينكمش قليلا ولهذا الانكماش علاقة بمقدار سرعة الجسم، فكلما زادت السرعة زاد الانكماش وهكذا.

ولكننا نعلم أن في الكون كواكب مثل كواكب السدم اللولبية تتحرك بسرعة هائلة بحيث يصبح لها تأثير محسوس في حجوم الأجسام التي عليها. ومنها ما تبلغ سرعته حداً ينتج عنه حتماً انكماش كل جسم عليها إلى نصف الحجم الذي يكون عليه لو كان عندنا هنا على الكرة الأرضية. بمعنى أن الحجر هنا الذي يكون حجمه متراً مكعباً لو أنتقل إلى هناك ووضع على ذلك الكوكب وأصبح متحركاً معه لصار حجمه نصف متر مكعب فقط.

فإذا فرض مثلا أن في تلك السدم كوكباً مثل الأرض تماماً وعليه أشخاص مثلنا وحياة

ص: 69

كحياتنا بالضبط لكان حجم الرجل هناك نصف حجم الواحد منا وكل شيءهناك ينقص حجمه بنفس النسبة.

ولكن ثمة سؤال غاية في الدقة والصعوبة وهو (أينا يا ترى الذي يتحرك بتلك السرعة الهائلة. نحن أم تلك السدم؟) إن كل ما نعرفه أن تلك السدم تبتعد عنا كذا ميلا في الثانية. ولكننا لا نعرف أين المتحرك وأين الثابت. من السهل على سطح الأرض أن يقول الرجل هذا الشيء متحرك وهذا ثابت لأنه يقارنهما بسطح الأرض، فراكب القطار يخيل إليه أن عمود التلغراف هو الذي يجري إلى الوراء ويخيل إليه أنه هو جالس لا يتحرك ولكنه يعرف أن الحقيقة عكس ذلك، إذ ينسب حركة الأجسام إلى الشيء الثابت وهو سطح الأرض.

أما الحركة في الفضاء فليس لها ضابط تنتسب إليه، اللهم إلا إذا اعتبرنا مجموعتنا الشمسية ثابتة وكل ما عداها متحركاً، واعتبرنا أنفسنا مركز الوجود، وهذا غرور نربأ بأنفسنا عنه لعلمنا بأن شمسنا ما هي إلا واحدة بين ملايين الملايين من أمثالها، وإن من الشموس ما هو أعظم منها بآلاف المرات.

لا يحق لنا إذن أن نعتبر أنفسنا ثابتين وإن تلك السدم تطير مبتعدة عنا، لأن لتلك نفس الحق في أن تعتبر نفسها ثابتة وإننا الذين نطير مبتعدين عنها. وعلى ذلك فالحجر الذي نقيسه على سطح الأرض فنجده متراً مكعباً والذي قلنا عنه واثقين أنه إذا أنتقل إلى تلك السدم صار حجمه نصف متر فقط لا يحدث له شيءمن هذا إلا في زعمنا وعلى اعتبار أننا ثابتون، أما في عرف من يكونون عائشين على تلك السدم فالأمر بالعكس، وفي زعمهم أن هذا الحجر إذا قيس على أرضنا فحجمه نصف متر فقط وإذا أنتقل عندهم أصبح حجمه متر كامل.

إذن فحجم الشيء ليس بالقدر الثابت، بل يختلف باختلاف الشخص المشاهد له، والجزء الواحد من الفضاء يختلف مقداره باختلاف الشخص المشاهد له، والجزء الواحد من الفضاء يختلف مقداره باختلاف الموضع الذي يشاهد منه، فلا معنى إذن لعبارة (متر مكعب من الفضاء) ويجب أن نحدد هذا المتر بأن نقول (بالنسبة لرجل يعيش على كوكب كذا).

عبد الغني علي حسين. مدرس بمدرسة المنصورة الثانوية

ص: 70

‌القصص

في الأدب الإيطالي الحديث

الرواية في بونتاسياف!

للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا

(1)

في ذلك المساء بعد تناول الطعام، كانوا يتحدثون في شرفة (الفيللا) عن الشهرة، وكان رئيس الأركستر (فينيزياني) يلقى بسمعه في الحديث، وعلى ثغره ابتسامة حائرة، يتراءى فيها التهكم واضحاً جلياً، وبعد صمت عميق، قال:

- الشهرة. . . أوه!. اسمعوا إذن هذه القصة. ليس بينكم من لا يعرف (سيريني) المؤلف الشاب، المؤلف المسرحي الشهير. وقد أذكر إني سافرت معه من روما إلى فلورنسا بالقطار، فأيقظنا عند الفجر، صوت عامل يصيح:(بونتاسياف. بونتاسياف) ناحية كسائر النواحي، بل هي محطة عادية، تبعد عن فلورنسا بضعة كيلومترات، وليس فيها ما يستوقف المسافرين أو يلفت أنظارهم، ولكن الأدباء يا سادة ليسوا كغيرهم من المسافرين.

- صرخ (سيريني) بونتاسياف! - ياله من أسم جميل!. . . إنه منتهى الرقة والعذوبة والطرافة! إنه ليبدو لي كل الروعة!

ولقد شعرت عند سماعه الشعور الذي أحسه، لو حدثوني عن حديقة (بوبولي) أو جسر (كرايا)!!

ووراء (بونتاسياف) هذه، لستُ ألمس مدينة فلورنسا بل فيورنزا التاريخية، التي أتخيلها بتلك الحديقة (الميديسية) وقد زخرت بنساء النهضة الفاتنات. وأكاد أسمع في أعماق نفسي تلك الأنغام الشجية التي كانت تعرف بها قصائد (بوليثيان) الرائقة.

(بونتاسياف)!! أشاعر أنت بالجمال السحري الذي يغمر هذا الاسم؟ سأؤمها، سأؤمها، لأني أحبها كما يجب أن تحب، دون أن أعلم لماذا.!!

والمصادفات التي تخدم صرعى الغرام، أبت ألا تحقق أمنية عاشق (بونتاسياف) فلم تمض أسابيع، حتى اضطرته إلى الوقوف في ساحتها الكبرى (الوحيدة) أثناء سفره بالسيارة من

ص: 72

فينيسيا إلى روما، لأن البنزين، كان قد نفد حتى آخر قطرة.

ذهب السائق يبحث عن القليل من هذا السائل الثمين، وأخذ (سيريني) يطوف هذه القرية، فأتم طوافها في وقت قصير.

وفي الواقع (وهذا ما يدلنا دلالة واضحة على أن أحلامنا بعيدة كل البعد عن الحقيقة!) لم تقع أبصار (سيريني) على ما يذكره بحديقة (ميدسيس) أو شعر (بوليثيان)!

وداعاً أيها الحلم المعسول! حلم (ميدسيس) وقد زخرت بحسان النهضة الفاتنات!. . . ليس في (بونتاسياف) كلها أثر للخضرة بله المروج.

وداعاً أيتها الأصداء الشجية، التي تردد أنغام قصائد (بوليثيان) الرائعة، ليس في (بونتاسياف) الغارقة في قيلولتها الصيفية غير نغمة واحدة: بكاء طفل، متواصل، ملح، مزعج يبعث على السأم والضجر، تنفجر قنابله من حانوت صغير في مؤخر قهوة القرية الحقيرة.

وهذه القهوة، دخلها (سيريني)، ليدخن بضع لفائف، ويكتب عدداً من البطاقات البريدية إلى أصدقائه، فلما أتم ذلك كان الملل قد أستبد به، واستولى ولم يرقه قط أن يبصر السائق يعود في هذه اللحظة ويداه فارغتان. إن العثور على لتر من إكسير الحياة لأسهل بكثير من إيجاد قطرة بنزين في هذه القرية المتواضعة. . .! والحاجة كالقانون، تملي إرادتها إملاء وتفرض مشيئتها فرضاً لابد من إيجاد قليل من البنزين، مهما كلف الأمر، فليعد السائق، وليبحث عن هذا السائل الثمين.

يضجر (سيريني!) فيترك سيارته تنعم في ظل بيت صغير، هو أجمل البيوت، ويخرج إلى الساحة الكبرى حيث الشمس تذهب كل ما فيها وتلهبه، ويعود بعد قليل إلى سيارته ففيها على الأقل يستطيع أن يأخذ نصيبه من الراحة، فليتمدد فيها، وليرغم نفسه على أن ترضى بما لاتريد، وليتغنى بقطعة شعرية للشاعر (بوليثيان) وليهدئ من حركاته لعل الرقاد يلبي نداءه.

وأنه لكذلك، وإذا مصراع نافذة فوق رأسه يفتح، وتطل عليه مخلوقة فاتنة. . . تقابلت نظراتهما، فأحدثت في كل منهما ما تحدثه عادة، نظرات الرجل في المرأة والمرأة في الرجل. . وأخذت العيون تبحث عن العيون من طرف خفي حتى إذا تقابلت ازورت، وإذا

ص: 73

ازورت تقابلت،. . وهكذا تم التعارف بينهما ولم يشاهد أحدهما الآخر قبل هذه الساعة.

وتخاطبت الأبصار بلغة سحرية، دون أن تتظاهر بأنها تتخاطب، وتفاهمت، دون أن تتظاهر بأنها تتفاهم واليكم ما قالته عيون المرأة للشاعر:

- أنت لطيف جداً! يا سيدي! أنت شاب أنيق جذاب من طبقة يندر أن ترى في ساحة (بونتاسياف) الكبرى. . . وبعد دقائق معدودات. يا سيدي الفتان. سيوافيك الشخص الذي تنتظره ولعله امرأة جميلة ترافقك في السفر. أو تفر معك!

وإذ ذاك. يزأر محرك السيارة. حيث يلتوي الطريق ستختفي إلى الأبد. أيها الحلم الجميل! ستختفي وأنت من تلك الطبقة التي لا تتسنى لنا مشاهدتها أكثر من دقائق قليلة خلال شقائنا الدائم ونحن بنات الريف التعسات اللواتي قضي عليهن أن يخلقن في الريف، وأن يتزوجن في الريف وأن يقضين الحياة في الريف خاضعات (لأمانة) يرتضينها على غير إرادة منهن

. . . أيها الشاب الجذاب، الذي سيختفي بعد بضع دقائق! إنه ليلذ لي كثيراً، من هذه النافذة أن أتصل بك! والاتصال بك خطيئة النساء اللواتي على شاكلتي. . .!!!

وقد انبرت لحاظ الشاعر تجيبها:

- (أنت جميلة أيتها المجهولة الفاتنة! أنت جميلة بعينيك البراقتين، وشعرك المسدول! أنت جميلة بهذه الجدائل المجعدة على الطريقة القديمة، وهذا الثوب الأسود الذي ترتدينه أملس مصقول إلى درجة تسمح برؤية النقط البارزة في جسمك البض.

وهذه الدانتيلا التي تماشي هذا الصقل وتحده، في غاية الأناقة والظرف!

وهنا، في هذه النافذة التي تخفي من جسمك الغض ما تخفي، وتظهر ما تظهر، تتراءين في وسط الهالة المظلمة التي تكتنفك، في جمال تمثال، من تماثيل 1859، كأنك آلهة من آلهة العصور القديمة، بهذه الزينة التي لا يعرفها عصرنا، عصر الفساتين القصيرة، وعصر الفوكس - تروت!

لقد أضاع عصرتا ذلك الجمال البالغ!

وكم تروقين لي، أنا الشاعر المفتون، أيتها السيدة الحسناء! إنكِ لتملكين ما تجملين به (بوناسياف) أكثر من كل صورته لي مخيلتي!!

ص: 74

وإن لك وأنت تتظاهرين بعدم النظر إلي، بينا أنت لا تنظرين إلا إليّ إن لكِ وأنت تتصنعين التحديق في الأفق البعيد، بينا أفقك الواسع ينحصر في المساحة الصغيرة التي تشغلها سيارتي، إن لك ابتسامة حزينة تفتر عنها شفتاك الرقيقتان اللتان لم تشعرا بلذعة القبل الملتهبة ولم تتمتما بالجمل المغرية!

أيتها الريفية الحزينة التي زوجت منذ عشرة أعوام بمن لا تريد: بشيخ البلد! بالطيب! بكاتب العدل! - أيتها المرأة الشقية التي ترتضي أن تقضى في هذا المنزل قبل أن تعرف الحياة، والتي ترتضي أن تخنق في مهدها الأحلام المعسولة التي يسرح في عوالمها قلبها الخفاق، وتحلق في أجوائها مخيلتها الوثابة، بعد أن رضعت الخيال من القصص والروايات.

أيتها الريفية الحزينة، التي تستطيع أن تجد الحب في جميع الكتب، ولا تتصور أنها تستطيع أن تجده في غير المدن! أيتها الريفية الحزينة التي تتحسر على ألا تفهم من الحياة غير واجبات الزوجية، وعواطف الأمومة والتي تتحدد آمالها كل يوم، وفي مثل هذه الساعة. عند غروب الشمس!

أيتها الريفية الحزينة التي تبحث من فتحة هذه النافذة عن قليل من الهواء، وقليل من الفضاء، وعن قطعة من السماء، تبصر فيها النجم يشعل زهرته المتلألئة!

أي مدام (بوفاري) أي حرقة تعتلج في صدرك عندما تدركين أن الأسفار الجميلة التي تحلمين بها، لن تتحقق منها غير هذه الوقفة الكئيبة التي تقفينها كل يوم، عند هذه النافذة! أي مدام (بوفاري)(بونتاسياف)! ما أروع حب الاستطلاع الذي تنم عنه عيناك! عيناك اللتان تنظران إلي، دون أن تتظاهرا بالنظر إلي! عيناك اللتان تتكلفان البحث في البعد عما لا أدري وهما لا تبحثان في الحقيقة إلا عني، أنا الجالس في هذه السيارة التي جاءت من حيث لا تدرين، والتي تتأهب لان تذهب

إلى حيث لا تدرين! أه! لو كان يستطيع رجل مثلي أن يقف هنا، أو لو كنت تستطيعين أن تنزلي إليه وتركبي إلى جانبه في هذه السيارة وأن تختفي معه هنالك حيث يلتوي الطريق عند تلك النقطة التي تمثل حد العالم الذي أذن لك أن تعرفيه حتى اليوم!

آه لو كنت تستطيعين أن تذهبي معه. وألا تعودي بعد اليوم. . . . . .!

ص: 75

(2)

هكذا تناجت منهما العيون، وقد طالت بينهما المناجاة لأن البنزين كان ما يبرح صعباً إيجاده، حتى في ضواحي (بونتاسياف)، وسيريني الذي بلغ من الشهرة حداً قصياً، واعتاد أن يعرفه الناس في كل مكان، طفق يحدث نفسه يقول: لا شك إنها عرفتني، لأن رسمي كثيراً ما ينشر في الصحف والمجلات، وهذه نظراتها التي لا ترفعها عني تدل بوضوح على إنها تعرف من أنا!. . وهي مهما كانت (بوفارية) لا يمكن أن تنظر بهذا الشكل إلى رجل عادي، يمر في طريقه بنافذتها!

ولا بد أن تكون قرأت لي، وقرأت لي كثيراً لأن ساعات الفراغ في الريف أطول منها في المدن، وإذن فللنساء وقت كاف فوق الكفاية، لأن يلتهمن الكتب مكاتب، مكاتب!! وما دامت فلورانسا على قيد خطوتين من (بونتاسياف) فمما لا ريب فيه إنها ذهبت إلى مسارح التمثيل وأبصرت بعض رواياتي تمثل فيها، وربما رأتني عندما يستدعيني المتفرجون إلى المسرح لأحييه ويحيني بين عاصفة من التصفيق والهتاف!. وفي هذه اللحظة ظهرت في النافذة امرأة مسنة، أحاطت بوجهها هالة من الشعر الأبيض. فنظر إليها (مارك سيريني) وأستأنف حديثه مع نفسه: من المؤكد إن هذه المرأة أمها فهي تشبهها كل الشبه، وهذه أبنتها تسر في أذنها وأني واثق إنها تقول لها:(أترين هذا الرجل هو مارك سيريني) الكاتب المسرحي الشهير!!. . أجل، لاشك إنها قالت لها ذلك أو شيئاً يماثله، لأن الأم أيضاً أخذت تنظر إلي ولا ترفع بصرها عني!! انظرا إلي!. . انظرا إلي!. . أيتها السيدتان العزيزتان ترى هل أروق في أنظاركما؟

انظرا إلي ولا تغضا الطرف عني حياء (وخجلا) فقد فرض على أصحاب الشهرة أن يمتع الناس أنظارهم بهم!!

اختفت الأم، ولكنها لم تلبث أن عادت، وفي يدها مجلة عرف من جلدها الأزرق إنها مجلة (ألالليستراسيون) وفتحت الأم المجلة على حافة النافذة وأشارت بيدها إلى صفحة فيها، تلفت أنظار أبنتها إليها، ثم عادت إلى التحديق في الشاعر:(لاشك إنهما تقابلان بين رسمي المنشور في المجلة وبين وجهي. . . أجل أيتها السيدتان أنا هو (مارك سيريني) لحماً ودماً. . أنا هو (مارك سيريني) الذي لم يك ليخطر له أن من الممكن أن تضطره

ص: 76

المصادفات للوقوف في (بونتاسياف). . . أنا هو (مارك سيريني) الذي سيرحل بعد قليل، ولكن بعد أن يكون قد ترك قلبه في هذه النافذة، لأنه شاعر، والشاعر مجنون، وهو هو هذا الجنون الذي أطبق عليه، وجعله مفتوناً بك أيتها المجهولة المغرية، إلى حد الوله!!.

وله؟. . . وأكثر من ذلك أيضاً!

هكذا في طرفة عين؟. . هكذا في طرفة عين!

ولقد استحال عدم اصطباره إلى شيء آخر، حتى إنه لم يستطع أن يخفي استياءه، عندما أبصر السائق يعود بعد أفول الشمس، وفي يده وعاء فيه قليل من البنزين، حصل عليه بأعجوبة من سائق أستوقفه على قارعة الطريق.

وأخذ (سيريني) يحدث نفسه: (لماذا وجدت البنزين أيها الأبله!. ألم تحدثك نفسك أن سيدك أمسى لا يرغب في الابتعاد عن هذا المكان؟ وإنه هنا وتحت هذه النافذة يمتع نفسه بالنظر إلى عيون حسناء مغرية؟ لقد كان خيراً له أن تعود فارغ اليدين ما دام قلبه قد امتلأ!!).

ولكن السائق الذي لم يك نبيا ولا يمت إلى نبي بصلة النبوة ولا صاحب كرامة تسمح له أن يشعر من مسافة ثلاثة كيلومترات أن سيده صار فجأة لا يرغب في البنزين لم يفهم التأنيب الخفي الذي يسدده إليه سيده لأنه بذل أكثر مما في وسعه حتى حصل على الوسيلة التي ستمكنه ان يرقد براحة وهدوء في سريره الوثير بروما!

علام هذا الصمت. . .؟ ما باله لا يتكلم والشمس توارت، والليل جن؟

أشعل الضوء في غرفة المجهولة الحسناء، فلم يعد في الإمكان تمييز وجهها الجذاب وعينيها الدعجاوين وغدا شبحها يتراءى أغبر قاتما وهذا الشبح لم يك أقل جمالا من وجهها وعينيها فهذا رأسها قد اتكأ على ساعديها بهيئة جميلة.

تهيأ كل شيء وأشعلت الفنارات!. . . فوا أسفاه على الزمن الماضي زمن الفنارات التي تضاء بالاسبتلين! ذلك الزمن الذي كان يضيع الإنسان فيه وقتاً طويلا ليجد ما يلزمه من ماء وكارببر! فلا يحصل على ما يريد إلا بعد الغضب والصخب. . ولكن المرء إذا كان عاشقا ولا سيما إذا كان يرغب عن السفر فان الفنارات القديمة تستطيع أن تؤدي له خدمات عظيمة.

وداعا أيها الحلم المعسول!

ص: 77

أخذت السيارة تجأر وأخذت تعدو وأخذت تبتعد وما زالت تجأر وتعدو وتبتعد حتى اختفت عند النقطة التي يلتوي فيها الطريق.

ترى هل يعود إلى (بونتاسياف)؟

فابتسم (سيريني). . . لن يعدم سبباً للعودة. . .

(3)

لم يعد في الحال، ولكنه عاد!!!

كان للشاعر في أحد أدراج مكتبه بروما رواية لم يتم منها إلا بضعة مشاهد. وهو مؤلف نشيط خصب الإنتاج سريع العمل إلى حد يفوق التصور. ولا شك ان هذه الصفات تبلغ حدها الأسمى إذا كان الحب يلهب منه الدماء ويسعر في قلبه الضرام. . .

وكان إذا اخذوا عليه حبه، لا يتردد في الإجابة:(يخفف المغرمون عن أنفسهم بالتنهد، أما أنا فبالكتابة!. . أحصوا أحصوا رواياتي تجدوا كل رواية بامرأة. . .)

ولما لم يكن للرواية الأخيرة امرأة. فإن تقدمها كان بطيئا جداً. . . أما الآن وقد غدا وجه تلك الريفية الحسناء لا يفارق مخيلته فإن الشاعر اكتشف الينبوع الذي يستمد منه وحيه وإلهامه، وفي وقت أقل من القليل، أتم الرواية، ونقلها وقرأها لأصدقائه المخلصين. وراحت الصحف، تعلن عنها بحروف بارزة، أنها اعظم حادث مسرحي، لذلك الموسم.

وما كاد يذاع هذا النبأ الخطير، حتى هرع إلى (سيريني) عدد كبير من رؤساء فرق التمثيل، وعرضوا عليه مسارح روما، وميلانو وتوران ونابل لتقوم أشهر الفرق بتمثيلها للمرة الأولى. وكان بين المتسابقين ممثل فرنسي شهير، حاول ان يحتكر تمثيل هذه الرواية الرائعة لفرقته، ولم يطلب لذلك أكثر من المدة التي تكفي للترجمة، وقد بذل جهوداً عظيمة لينيل باريس شرف تمثيلها لأول مرة، ولكنه لم يفلح.

وتقدم رؤساء آخرون يعرضون مسارح برلين وفينا ولندن لأن (سيريني) كانت له شهرة اوربية لا تقف عند حد، وقد سرت عدوى هذه الحميا إلى إحدى صاحبات العروش، فأسرعت إلى عرض مسرح البلاط الملكي!

أما الشاعر فقد كان يلازم الصمت، ولا يجيب بحرف، وكل ما فعله أنه أوعز إلى سكرتيره الخاص بتسجيل أسماء المدن التي تعرض عليه. وتجمع عليه أصدقاؤه وألحفوا عليه في

ص: 78

السؤال:

- أي المدن اخترت؟. . روما؟ ميلانو؟ فلورنسا؟ توران؟ نابلي؟

كان (سيريني) لا ينبس ببنت شفة، وإنما كان يجيبهم بهزة رأس تدل على النفي كل الدلالة!

- إذن. هل اخترت مدينة أجنبية؟ باريس؟ برلين؟ فينا؟ لندن.

ولكن الشاعر لبث صامتا، رأسه وحده كان يتكلم!

- فانفجر أحد أصدقائه وقال: إذن. . إذن أين؟؟

- هل اخترت مسرح (الماريونيت)؟. . مسرح (الفينيول)؟

أخذ (سيريني) يبتسم بوداعة وسكينة. . وأخيراً أجاب:

- ستمثل روايتي لأول مرة في (بونتاسياف)!!

في (بونتاسياف)؟؟

دهش الجميع، وطفقوا يحتجون في غير هدوء ولا سكون، أما (سيريني) فانه لبث يبتسم ابتسامته الغامضة ويعيد في غير ملل:

- قلت لكم في (بونتاسياف)!!!. . . كفى!!!

ولم يستطع أحد بعد ذلك أن يستدرجه إلى قول جملة غير هذا، فتسارع أصحاب المسارح ورؤساء الفرق والممثلون وسفراء الملكات إلى داره ليروا: أمازح هو أم جاد؟ أم اعتراه جنون مزاح؟. . . كلا!. . إن (سيريني) وهو جالس إلى منضدته يعيد بدون ملل: (ستمثل روايتي لأول مرة في بونتاسياف)! وقد زاد على ما تقدم: (هاهي مستريحة في هذا الدرج، على غاية ما ترون من الصحة، ولم يصف لها أي طبيب تبديل الهواء اللهم إلا إذا كان هواء بونتاسياف).

فأخذ بعضهم ينظر في وجوه بعض والدهشة ترفع من عيونهم الحواجب، وتقطب الجبهات، وشرعوا يتساءلون عن سبب هذا العناد، فاختلفت آراؤهم وتضاربت، ولكن أحداً منهم لم يستطع إدراك الحقيقة.

وقد أسرع رؤساء شركات التمثيل بالرجوع إلى القطار لأنه لم يك بينهم من يفكر في (بونتاسياف) عادوا مخفقين وأكثرهم كان قد تعاقد سلفاً على تمثيلها في أشهر المدن وأكبر

ص: 79

العواصم! ولكن تمثيل رواية جديدة، للمؤلف المسرحي الشهير (مارك سيريني) عملية رابحة، تدر الذهب الكثير فهل يتركها الجميع؟ كلا لقد قبل أحدهم (وكان أمريكياً) أن يمثلها لأول مرة في (بونتاسياف) لأنه بحساب أمريكي، رأى أن هذه العملية ستدر عليه أرباحاً أمريكية أيضاً. . وهكذا تعاقد مع المؤلف ووقع الاتفاق، ولما كانت شركات التمثيل المنظمة لا تستطيع أن تذهب بممثليها إلى (بونتاسياف) حيث لا عمل لهم، فقد وعد أن يهيئ في ثمانية أيام، فرقة خاصة لتقوم بتمثيلها ثلاث ليال متواليات. . . وبعد ستة شهور يمنح امتياز الرواية للفرق العادية لتمثلها في كبريات المدن وأمهات العواصم.

حلب. إيزاك شموش

ص: 80

‌الكتب

آراء بعض المستشرقين في الشاهنامة

الشاهنامة هي الملحمة الفارسية التي نظمها الفردوسي في تاريخ ملوك الفرس من بداية تاريخهم إلى عهد بني ساسان زمن الفتح الإسلامي، فبلغت 60 ألف بيت نقلها إلى العربية نثراً الفتح بن علي البنداري من أدباء القرن السابع الهجري وظلت هذه الترجمة سراً في ضمير الزمان حتى كشفها الدكتور عبد الوهاب عزام فقارنها بالأصل الفارسي وأكمل ترجمتها في مواضع، ثم صححها وعلق عليها وقدم لها مقدمة جامعة في مائة صفحة من القطع الكبير فدل بذلك على سعة اطلاع وفضيلة صبر لا يؤتاها إلا القليلون من أبطال العلم وجنود المعرفة. وإليك نبذاً مما أرسله إليه المستشرقون تقديراً لجهده وتنويهاً بفضله.

وقال الأستاذ نيكلسون أستاذ الأدب الفارسي بجامعة كمبردج ما ترجمته:

(أهنئكم على الطريقة الجديرة بالإعجاب التي أخرجتم بها هذا الكتاب الكبير الذي لابد له من بحث طويل وجهد كبير. وإذا اعتبرناه ضخامة الكتاب تبين الجهد الخارق للعادة الذي بذلتموه لإخراجه في هذا الزمن القصير)

وقال الأستاذ جيب أستاذ الأدب العربي بجامعة لندن ما يأتي بنصه العربي:

(هذا وقد اغتنمت أول فرصة لأتصفح هذا الكتاب الضخم وأستفيد بمجهوداتكم العظيمة في نشره والتعليق على متنه ولابد من الاعتراف بتعجبي من أتساع هذا العمل الذي قد تكفلتم به وبإتمامه وبإعجابي بحسن نجاحكم في ذلك ولاسيما بالمدخل الممتع الذي قدمتموه لمتنه).

وقال الدكتور ريتر وكيل جمعية العلوم الألمانية بإستانبول ما يأتي بنصه العربي:

(وقد وصل خطابكم في الشاهنامة فإنه لا يفارقني من أسابيع وهو والله كتاب تعجبت منه وأعجبت به. انتقدته فوجدته ذهباً إبريزاً. وأنا والله شديد في الانتقاد. قد أخذت من طريقة العلم الأورباوي صحيحها واجتنبت سقيمها وصرت لنا أخاً في العلم بل أستاذاً فيه. ولو ذكرت فضائل كتابك بالتفصيل لصار هذا المكتوب كتاباً آخر طويلا. ومما سرني خاصة معالجتكم المسائل المتعلقة بتحقيق المتن والحكم في الأصول المختلفة والتفريق بين أنواع التعاليق. فإن ذلك شيء يهمله كثير من المستشرقين. ثم البحث في مسألة التراجم القديمة للخداينامة وغير ذلك مما يدل على دقة نظركم والاعتناء في البحث وترك إدعاء شيء

ص: 81

بدون دليل واضح وبرهان مقنع ثم طريقتكم في توضيح الكتاب بعضه ببعض، والاعتناء بذكر الكتب المقتبس منها، وترتيب الفهارس المفيدة. كل ذلك مما يسر عين الناظر في كتابكم.)

ص: 82

‌جولة في ربوع أفريقيا

رد على مقال

أشكر للأخ الفاضل الدكتور محمد عوض حسن تقديره وجميل عطفه وتشجيعه وآسف جد الأسف لأني لم أوفق لكتابة جولتي بحيث تصادف هوى في نفسه فهو (كما خيل إلي) كان يريدها قصة تنقل عن يومياتي دون أن تغفل حتى أجور السفر وأماكن المبيت ومواقيت الارتحال والإقامة في كل بلد حللته وما إلى ذلك من التفاصيل التي لا شأن لها في نظري ولو فعلت ذلك لأخرجت دليلاً هو إلى كتب السياحة (أمثال بدكر) أقرب ولأغفلت غرضاً أنا شديد التمسك به في جولاتي كلها، وهو أن أثير الناحية العلمية والجغرافية كلما أتاحت لي مناسبات الرحلة ذلك.

ويأخذ الأستاذ علي أني تكلمت عن أماكن لم أطرقها وقصصت عن شعوب لم ألقها وضرب لنا مثلا، بلاد الكنغو وروديسيا وشعوب الشلوك. وأنا لم أكتب عن تلك البلاد إلا بمناسبة ما شاهدته من غلاتها التي كانت توسق في ميناء بيرا البرتغالية طيلة إقامتي بها وهي المنفذ الرئيسي لمنتجات بلاد روديسيا والكنغو. أما عن شعوب الشلوك فأني لاقيتهم مراراً وحققت بعض ما أعلمه عن سيرتهم وبخاصة في الملاكل من أعالي النيل الأبيض.

ويرى الأستاذ أن بعض النقص الذي نسبه إلى الكتاب راجع إلى إغفالي كتابة مذكرات يومية. مع أن هذا ما أفعله دائماً ولم أتهاون فيه ليلة واحدة في جميع جولاتي الإفريقية والآسيوية والأوربية غير أني لا أنشر من تلك المشاهدات إلا ما أراه ضرورياً وما تسمح به ظروف النشر.

ولو أراد الدكتور بصفة خاصة أن يطلع على يومياتي لوجدها طوع أمره. أما عن الهفوات التي أشار الأستاذ اليها فها أنا أبين ما عن لي فيها:

يقول الدكتور إن كلمة شيبا الإنجليزية هي سبأ العربية. وأظن إن هذا عين ما قلته فذكرته كلمة (شيبا) بين قوسين بعد ذكر كلمة سبأ العربية.

وهو ينبهني إلى أن نهر النيل (لم يصبح أعظم أنهار الدنيا وهناك ما هو أطول منه وأوفر ماء) وأنا لم أتعرض لطول النهر ومائه. ولا أزال على رأيي في أن النيل أعظم أنهار الدنيا على الأقل من وجهة نظري كمصري وحق لنا جميعاً تمجيده والإشادة بذكره

ص: 83

وعظمته. ومتى كانت عظمة الأنهار يا صديقي مقصورة على أطوالها ومقادير مائها؟

ويقول الأستاذ إن غابات أثوري في غرب جبال رونزوري فلا أستطيع أن أراها من فورت بورتال وأنا لم أقل في كتابي إني رأيتها. هذا فضلا عن إن أهل البلاد كانوا يشيرون اليها من فورت بورتال، وهم يطلقون عليها هذا الاسم على رغم ما أعلمه أنا وأنت من أن أكثفها حقاً ما كان على الجانب الغربي.

كذلكلم أقل قط يا سيدي الدكتور بأن للغوريلا ذنباً وذلك أمر يعرفه حتى صغار الطلبة، ولكني ذكرتها في مقام التشبيه إذ قلت إن الواحد من الزنوج يبدو كأنه الغوريلا أو القرد الكبير. فالذؤابة التي تتدلى من أعجاز القوم تشبه ذنب القرد ومظهرهم العام يحاكي الغوريلا.

أما قطن الجزيرة فغلة شتوية وقد كنت هناك في أواخر سبتمبر ولم يكن القوم قد بدءوا زراعته بعد. وهو يجنى في أوائل الربيع كما قلت غير أن تحديد الشهور بالضبط أمر غير ميسور، فنحن هنا في مصر مثلاً لا نبدأ زراعة القطن في شهر واحد في كل البلاد ولا في كل السنين فقد يتراوح البدء بين شهر وشهرين.

وقبل أن أختتم كلمتي أكرر للأخ الفاضل عظيم شكري وكبير إجلالي واحترامي.

محمد ثابت

حول قصة مصرية

قرأت في العدد السابع من مجلة الرسالة الغراء قصة مصرية بعنوان (حكمت المحكمة) لكاتبها (السيد أبو النجا).

وهذه القصة مصرية حقاً لأنها تصف ناحية من الحياة الاجتماعية المصرية في الريف. ولكنها من الوجهة الفنية قد شابها عيب جوهري أفقدها روعتها وأضعف عنصر الحياة فيها فالقصة كما كتبها صاحبها لم تحرج عن إنها قشور للقصة الحقيقية التي كان يجب أن تظهر على سواها وتكشف عن العوامل التي أدت إلى هذه المأساة.

أما خطة القصة الحقيقية التي كان يجب أن تكون فتتلخص في ما يأتي: -

1 -

كيف اتصل إبراهيم أفندي بابنة الأعرابي؟

ص: 84

2 -

كيف كانت العلاقة بينهما؟

3 -

كيف ظهرت هذه العلاقة وعرفها والد الفتاة. هذه هي العناصر التي كان يجب أن تظهر في القصة. ومع شيءمن التحليل يبين أثر العواطف والمشاعر، ويكشف عن المحاولات التي بذلها إبراهيم أفندي في الوصول إلى غايته.

وقد كان من الطبيعي وقد خلت القصة من هذا العنصر الأساسي أن يلجأ واضعها إلى (الحوادث) فيسردها سرداً كأنها خبر من أخبار الصحف اليومية.

ص: 85