الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 80
- بتاريخ: 14 - 01 - 1935
أسبوع حافل. . . .
أسبوع حافل! ابتدأ بعيد الدين وانتهى بعيد الدنيا! فأوله (عيد الفطر)، وآخره (عيد الوطن)، وفيما بينهما كان عيد الميلاد ومؤتمر اليلاد ومهرجان القرش!
أسبوع حافل! كان فيه للدين سبب ممدود وشل جامع، وللحرية يوم مشهود ومظهر رائع، وللوطنية لواء معقود ومُجتلى فخم، وللسياسة شعب محشود وأمر ضخم، وللقومية أمل منشود وعمل صالح!
جرى كل أولئك على أروع ما يقع في الذهن ويتمثل في الخاطر، لشعور الناس بشمول الأمن، ويقظة العدل، وقيام القانون، وفوز الديمقراطية، واتساق الأمر بين الفرد والجماعة، واتفاق الرأي بين الحكومة والأمة؛ وكانت النفوس في عهد المحنة قد تغشاها من الدخائل السود قَتام وسُحُب، فلا تكاد ترى على حواشي الأفق الضيق المحدود إلا جنود الرهبة، وقيود الذلة، وسجون القهر، ثم تنفس بها الزمن البطيء على هذه الحال الأليمة حتى قنعت بالدون، ورضيت بالهُون، وذهلت عما وراء الأفق؛ فلما تهتكت الحجب عن وجه الحق، وتفكت الأغلال عن حرية الشعب، فسعى غير مقيد، وعمل غير مراقب، وقال غير متهم، عاد الناس فوجدوا شعور الكرامةـ وسورة الاستقلال، وأنفة الحي المريد، وهزة المتصرف المطلق، فزهاهم النصر، واستطارهم الفرح، وتقبلوا سبعو أسام في الدعة، يتبسطون على الأنس، ويتعلون على الدهر، ويتدلون على الجكومة، ويوازنون بين حالهم بالأمس وحالهم اليوم، فيعجبون كيف زاغت القلوب، وفسدت الطباع، وسفهت الأحلام، وغارت هذه المباهج والمرافق والمظاهر كلها في قرارة قلب فارغ!
* * *
إن القلوب لأضيق في هذا الأسبوع من أن تسع هذا الفبض الذي يتدفق فيها ن كل جانب: ففي (مدينة رمسيس) وجوه البلاد ونواب لشعب وزعماء الأمة يعرضون مناهج السياسة على المشورة، ويُقلبون أنظمة الاصلاح على الرأي، ويعلنون الخادع والمخدوع أن مصر الخلدة لاتزال متماسكة على مضض المحن، سليمة عى عنت الجور، مرتلفة على عبث الاغراؤ، تُعوق ولا تضل، وتُعذب ولاتذل، وتجارب ولا تستكين
كانت الآلاف الاربعون في سرادق المؤتمر الوطني أشبه بالأسراء فك أغلالهم النصر، أو بالسجناء كسر اقفالهم الثورة! فهم يتعانقون على السلامة بعد البلاد، ويتصافقون على
الجماعة بعد الفرقة، ويتنادرون بجلادي العهد الباغي وسُجانه وقد أصبحوا اليوم رواد المنى وحراس العدالة! أليس هذا شرطي الأمس الذي كان ينظر بالنار، ويتكلم بالحديد، ويتجنى على الناس الذوب، ويتمنى على الأحداث الجرائم؟ ما باله اليوم وديعاً كالعدل، نزيهاً كالقانون، رفيعاً كادلولة، رفيقاً كالمواطن؟ تباركت يا ألله! أهكذا تتبدل الأوضاع وتتغير الطباع في بحر يوم وليلة؟!
* * *
وفي معرض الجزيرة جماعة (عيد الوطن الاقتصادي) يُفيضون من نشاط الصبي وطموح الشباب على الناحية الضعيفة المخوفة من نواحي الوطن: تلك هي الناحية الاقتصادية التي اقتحمها المستعمرون تحت لواء السلم والمال فاحتلوا المدن، واستغلوا القرى، وامتهنوا القومية، وامتحنوا الأخلاق، وحولوا مجاري الثروة المصرية الى السفن الأجنبية والمصارف الأوربية، وخلفوا أهلها يابدون الدين، ويعانون الفقر، ويشكون العطلة، ويقاسون المذلة. فطن هؤلاء الشباب الأطهار إلى هذا الخطر الوبيل والداء الدخيل فصمدوا له في ميدانه المشتبه الواسع، واستنفروا القاعدين من أصحاب الأموال، والجامدين من أرباب التجارة، ونشروا الدعاية بمختلف الوسائل للانتاج الوطني، وضحوا بجهودهم الكثيرة، ونقودهم القليلة، وأوقاتهم الباقية من الدرس، على رصد الأهبة، وتنظيم العمل، وتدبير المال، وضمان الفوز، حتى توجوا ذا الجهد الجاهد بهذا المهرجان الذي أقاموه، وذلك المعرض الذي نظموه، فكان المهرجان عيداً للعيد، والمعرض حجة للىمل، والعمل كله فخراً لأهليه
* * *
وفي حديقة الأزبكية عيد (جمعية القرش) تجاهد في الانشاد جهاد عيد الوطن في الدعاية. وقد نفضت - كتلك - على بلي النفوس جدة الربيع، ونقاء الفطرة، وجمال الحداثة، فانتشر متطوعوها الأبرار في المدينة يجمعون القروش بالتوسل والتذلل والالحاف ليفتدوا بها حرية الوطن الاسير
فجماعة الوطن وجمعية القرش ومؤتمر الشعب ائتلاف منسجم من عناصر البلاد ومناهج الجهاد ومناحي الغرض: فالشباب بجانب الكهول، والاقتصاد بجانب السياسة، واللذة بجانب
المنفعة، والحكومة بجانب الأمة؛ وكل هذه الصور الرائعة إنما تتألق وتتراءى في إطار روحي شعري تألف من عيد الفطر للمسلمين، وعيد الميلاد للأقباط!
أسبوع حافل! ان فيه للدين سبب ممدود وشمل جامع، وللحرية يوم مشهود ومظهر رائع، وللوطنية لواء معقود ومُجْتلى فخم، وللسياسة شعب محشود وأمر ضخم، وللقومية أمل منشود وعمل صالح!!
وإن عاماً يكون عنوانه هذا الانقلاب، وطالعه هذ اليمن، واستهلاله هذا النسيد، لآية من الله على انجلاء الغمة، واهتداء الغرائر، وارعواء الغي، وانكشاف الطريق
احمد حسن الزيات
ذكريات وتجارب
أول درس ألقيته. . . . . . *
أبداً لا أنسى السعاة الرهيبة العصيبة التي ألقيت فيها أول درس من أول فصل! كان ذلك منذ سبعة عشر عاماً والسن حديثة والنفس غريرة والنظر قصير، وكانت المدرسة ثانوية أجنبية، تجمع أخلاطاً من الأجناس والأديان، وأنماطاً من الأخلاق والتربية، وكنت قد أدركت قسطاً من العلم النظري على الطريقة الأزهرية، وشدوت طرفاً من التعليم الفني على الطريقة اللاتينية، إلا أن ما حصلت منهما كن لايزال طافياً في ذهني، متحيراً في فكري، لايطمئن إلى ثقة، ولايستقر على تجربة! أضف ذلك إلى طبع حَي، ولسان من الخجل عيني، ووجه للقاء الناس هيوب!
قضيت موهناً من الليل في إعداد الدرس: أراجع مادته وأرسم خطته وأسسد خطاه، ثم احتفلت لكلام أقابل به التلاميذ قبل التمهيد للدرس، وغدوت إلى المدرسة أقرع باب الأمل المرجوـ وأستطلع ضمير الغيب المحجب. دق الجرس فجاوبه قلبي بدقات عنيفة كادت تقطع نياطه وتشف لفائغه، وقمت أجر رجلي وبجانبي مفتش الكلية جاء يقدمني إلى الطلبة. دخلنا الفصل فحيانا التلاميذ بالوقوف، وقال المفتش فأطال القول وأجزل الثناء، ثم خرج وبقيت!!
أقسم أني أقول الحق وإن كنت أجد بشاعة طعمه ومرارة ماقه على لساني! لقد نظرت إلى
التلاميذ نظرة حائرة، ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المهيأ المحفوظ، فكأن ذاكرتي صيفة بيضاء، وكأن لساني مضغة جامدة لا تحس!
السكون شامل رهيب، والأبصار شاخصة ما تكاد تطرف، ووجه الشباب ترتسم ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات النفوس ونزوات الرؤوس، وأنا واقف منهم موقف المحكوم عليه، أعلج في نفسي الخور والحَصر، وأجهد في لم ما تشعث من ذهني وتبدد من قواي، حتى هداني الله إلى طريق الدرس، فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمة ولا تمهيد ولا عرض!!
أتريد أن تعفيني يا صديقي من وصف هذا الدرس صوناً لسر المهنة؟ ولكن لماذا نتدافن الأسرار ونتكاتم العيوب؟ إن في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك الباديء، وتبصره للنشيء الغرير
* * *
بدأت الدرس بصوت خافض وطرف خاشع ولسان مبلبل، وسرت فيه وأنا واقف، لا أدنو من السبورة مخافه أن أحرك سكون الفصل، ولا أملس الطباشير خشاة أن أسى الكتابة!!
ان من المعقل أن يعاودني الهدوؤ ويراجعني الثبات بعد زوال دهشة الدخول وربكة البدء لو كنت واثقاً من نفسي متمكناً من درسي، ولكن نظام الموضوع كان قد انقطع فتبعثرت حباته وتعثرت خطواته، ورحت أسرد ما تذرته منه وأنا أشعر بكاماتي تحتضر على شفتي، وبريقي يجمد في فمي، وبعرقس يتصيب على جبيني، حتى فرغت، ثم جلسن أبلع ما بقي من ريقي، ونظرت فاذا الساعة لم يمض نصفها، وإذا التلاميذ يتلاحظون ويتهامسون وعلى شفة بسمة خبيثة لولا تعود النظام وقوة التهذيب لعادت قهقهة صاخبة!!
ماذا أقول بعد أن نفذ القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من الوقت؟ وكيف اؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟ أسئلة كانت تضطرب في خاطري القلق فلا أجدها جواباً غير الحيرة!! حتى تطوع تلميذ جريء (لانقاذ الموقف) فقال:
(احك لنا حكاية يا أفندي بأي!)
ولم تكد شفتاي تنفرجان عن مشروع الرد حتى ابتدرني آخر:
(لا يا افندي، اتكلم لنا شويهْ إنشا شفهي)
وآخر: (حضرتك حتدينا على طول؟)
وآخر: (أسم حضرتك إيه يا أفندي، والله انت راجل طيب!)
وآخر: (فلان صوته جميل يا أفندي، خليه يغني شويه)
فقطعت سيل هذه الأسئلة المتجنية الساخرة بهذه الجملة الحيية المتواضعو:
- على كل حال كاد الوقت ينتهي فلا يتسع لشيء من هذا ولكن صوتاً أشبه بصوت القدر قد انبعث أقصى الحجرة يقول:
(أوه! دا لسه ساعة وربع! حصة العربي ساعتين كل يوم!)
- ساعة وربع؟؟ نعم ساعة وربع! أقضيها على هذه الحالة الأليمة كمل شاء نظام 0الفرير)، أو كما قضى الجد العاثر والطالع المشئوم!! وإذن لا مناص من انفجار البركان ووقوع الكارثة!
* * *
كأنك تريدني على أن أسوق إلي بقية القصة!!
حنانيك! لا تكلفني هذه الخطة، واعتمد على نفسك وحدسك في التخبر والاستنتاج!!
لقد انحل النظام فتشعث الأمر وانتشر؛ وأذكر أني حاولت الكلام مراراً فلم أسمع صوتي من اللغظ! فجعلت قيادي في يد (اولادي) ثم سكت حتى نطق الجرس!!
خرجت من الفصل أميد من الهم وأجر ذيل الفشل السابغ الضافي، وفي نفسي أن أترك التعليم وهو حديث صباي ومنتجع هواي الى عمل آخر يصلح لي وأصلح له!!
ولكني عدت الى الفصل، ومضيت في التعليم، وكنت بعد شهرين اثنين مدرس الفصل الأخير وأستاذ الكلية الأول!
فما الذي جعل من اليأس أملاً، ومن الفشل فوزاً، ومن الضعف قوة؟
إسمح لي أن أكون صريحاً فيما كان لي، كما كنت صريحاً فيما كان علي
لقد التمس الوصلة الى النجاح في أسباب خمسة كله معلوم بالضرورة مؤيد بالطبع، ولكن العلم غير العمل، والرأي خلاف العزيمة، والتجربة وجود الفكرة وواقع الحقيقة
(1)
مواصلة الدرس وادمان النظر - فلم أترك كتاباً في المواد التي أدرسها حتى تقصيته أو ألممت به، واستفدت منه. وكان جدى ذلك علي وثوق الطلبة بما أقول، وظهور التجديد فيما أعمل، وتصريف الدرس وتنويعه على ما اجب. ولن تجد أشفع للمدرس من سعة
أطلاعه وغزارة مادته
(2)
اعدد الدرس واداؤه - وكان يعنيني على الأخص ربطه بالدروس السابقة، والسير فيه مع الطلاب خطوة خطوة على الطريقة الاستنتاجية ثم تلخيصه بطريق الاسئلة. فكان من حسن اعداده أن ملأت لوقت كله به، فلم يعد فيه فراغ لعبث عابث ولا تجني سفيه، وجررت اليه أذهان الطلاب بالتشويق والتطبيق والسؤال فلم يصبهم سأم ولا ضيقن وشغلتهم به عن أنفسهم وعني فلم يفرغوا الاصطياد نكتة ولا لالتماس غميزة. وليس أعون على حفظ نظام الفصل من ملء الوقت بالمفيد الممتع، ولا أضمن لجودة شرح المعلم وحسن استماع التلميذ من غهم الموضوع.
(3)
مسايرة الترقي - فلم اتشبث بالقديم، ولم أتعصب للكتاب، ولم أعن إلا بما له قيمة عملية. فالموضوعات منتزعة من حياة التلميذ وحال المجتمع، والأمثلة مستنبطة من أساليب العصر ومواضعات أهلهن والبحث حر في حدود المنطق، يقوم على أساس التحليل والنقد والموازنة. وفي تشابه الفكرة والنزعة والغاية توثيق الصة بين المعلم والمتعلم.
(4)
حسن الخلق - ولعمري ما يؤتي المعلم إلا من إغفاله هذه الجهة. فالادعاء والتظاهر، والكبرياء، التفاخر، والبذاء والتنادر، والكذ1ب والتحيز، والسل والتدليس، آفات العلم وبلايا المعلم. وما استعبد النفس الشابة الحرة كالخلق الكريم، ولا يَسر تعليمها وتقويمها كالقدوة الحسنة. ناهيك بما يتبع ذلك من جمال الأحدوثة واستفاضة الذكر، وهما يزيدان في قدر المعلم واعتبتره، ويغنيان التلاميذ الجُدُد عن اختباره
(5)
قوة الحزم 0 فكنت ألين في غير ضعف، وأشتد في غير عسف، وأسير بالطالب إلى الواجب عن ريق ضميره وحسه، لا عن طريق تأنيبه وحبسه، وأجعل رضاي عنه غاية ثوابه، وسخطي عليه غاية عقابه، وأعده الوعد فلا أذهل عن تنجيزه، وأحكم عليه الحكم فلا أنكل عن تنفيذه، وأستعين على فهم عقليته ودرس نفسيته بانشائه فأعامله بما يوائمه، وأعالجه بالدواء الذي لائمه
* * *
كل ذلك يسعده طبغ غالب، ورغبة حافزة، ومرن طويل، وقدَر من الله جعلني أجد سعادتي وراحتي في الفصل وبين الطلاب، أكثر مما أجدهما في البيت وبين الأصحاب
ولكن المعلمين وا أسفاه كما بدأهم الله يعودون! فليت شعري هل يكون الدرس الأخير في مبد إمماتي، كما كان الدرس الأول في مبدا حياتي.
الزيات
الثورة على الاسلام
حرب منظمة يشهرها الكماليون على الاسلام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تشهر تركيا الكمالية على الأسلام حرباً لا روية فيها ولا هوادة؛ وقد رفع الزعماء الكماليون اليوم القناع كاملاً بعد أن رفعوا من قبل طرفاً منه، وظهرت سياستهم نحو الاسلام في ثوبها الحقيقي؛ ودخلت هذه الحرب المنظمة التي يشهرونها على الاسلام في طورها الايجابي بعد أن كانت تقف عند ورها السلبي؛ وقد اتخذت هذه الحرب منذ البداية وما زالت تتخذ ثوب (المدينة والتمدين) أعني تحرير تركيا من كل طابع ولون ديني، وصبغها في كل مظاهرها الرسمية والعامة بالصبغة المدنية. ولو وقفت سياسة انقرة حقاً عند هذه الغاية لما كان ثمة مجال لريب في صدق نياتها؛ فان الاسلام، كالنصرانية، لايحول دون اصطباغ الدولة بالصبغة المدنية المحضة؛ وأمم أوربا النصرانية التي تقلدها وتتشبه بها تريا الجمهورية - إذا استثنيا روسيا البلشفية - لا تجد أية غضاضة في ولائها للنصرانية، وإن كات أشد وأعرق (مدينة) من تركيا الجمهورية، ولم تذهب أية دولة أوربية - سوى روسيا البلشفية - في مطاردة الدين الى الحد الذي تذهب اليه حدكومة أنقرة؛ وحكومة أنقرة لاتطارد العقيدة الدينية لذاتها، ولكنها تطارد الاسلام، وكل ما يمت اليه بنوع خاص؛ وإذا كانت تطارد اللغة العربية وكل مظاهرها في الكلام والكتابة، فليس ذلك لتحرير اللغة التركية من العناصر الاجنبية فقط، ولن لأن اللغة العربية هي قبل كل شيء لغة القرآن، ولغة الاسلام الاولى
وقد بدأت الثورة المالية على الاسلام منذ قيام الجمهورية التركية ذاتها، أعني منذ نحو عشرة أعوام، وكانت غب مرحاتها الاولى تتخذ صورة الاصلاح الديني أو المدني، وكانت سلبية لا تسفر عن نزعتها الهدامة؛ ولم يكن في خطواتها الأولى مثل إلغاء الخلافة، وجل الجماعات الدينية والصوفية، وفرض الثياب المدنية والقبعة، ما يثير الأذهان المسلمة
المستنيرة؛ فقد كانت جميعاً تتبع جهود تركيا الجديدة في سبيل التجديد القومي والاجتماعي بمنتهى الاعجاب والعطف؛ ولم يك ثمة ما يحمل على الاعتقاد بأن هذه النزعة الاصلاحية في ظاهرها ستتحول غير بعيد الى نزعة إلحادية بعيدة المدى، والى فورة تعصب على الاسلام تقصد الى الهدم المطلق. ولكن حكومة أنقرة لم تقف في مخاصمة الاسلام عند حد؛ وانت خطوات جدبدة ظاهرة المغزى في سبيل محو معالمة: إلغاء النص الذي أدرج في دستور المجهورية الاول بأن تركيا دولة مسلمة، وإباحة القانون المدني التركي الجيد زواج النصراني من المسلمة، ثم تحريم الأذان وتلاوة القرآن في المساجد بالعربية؛ ولم يك ثمة حتى في هذه الرحلة ما يثير كبير شك في نيات حكومة أنقرة وخصومتها المضطرمة للأسلام وعقائده وذكرياته ومظاهره؛ وكانت كلمات الاندافع والتطرف والأغراق تتردد من جانب أولئك الذين مازالوا يحسنون الظن بأنقرة ويعطفون على جهودها وأمانيها. ولكن الكماليين لم يلبثوا أن رفعوا القناع بعد ذلك؛ وانتدبت حكومة أنقرة لجنة لاصلاح العبادات ومظاهرها (سنة 1928) وأذيع يومئذ أن الجنة ترى أن تكون الصلاة في المساجد، كالصلاة في الكنئس، وأنه لا بأس أن يؤدي المؤمنون صلاتهم وقوفاً أو جلوساً على المقاعد، وأن تطربهم الموسيقى، وأن تعوف لهم الادعية والنصوص كما تعزف (آفي ماريا) أو (باترنوستر)، وأن تكون صلاة المسلمين على العموم في مظاهرها كقداس النصارى، وكان لأذاعة هذه الاقتراحات وقع عميق في الأي العام التركي ذته؛ ولما رأت أنقرة أنها تذهب بعيداً بهذه الاقتراحات أنكرتها وكذبتها، وحملت تبعاتها للجنة التي وضعتها؛ أما الرأي العام الاسلامي فما ان ليدهشه شيء بعد من تصرفات الكماليين، ومع ذلك فقد وقف مدى لحظة ذاهلاً أمام هذا الاجتراء الآثم، يلمس النزعة الهدامة التي تماي على عصبة أنقرة سياستها نحو الاسلام وكل تراثه
ثم كانت حركة أنقرة ضد اللغة العربية والكتابة العربية؛ واتخذت هذه الحركة كسابقاتها ثوب الاصلاح والتجديد القومي؛ وقيل إن كتابة التركية باللاتينية بدلاً من العربية وسيلة إلى ذيوعها وتحريرها من ثوبها العتيق، وإت اللغة التركية غنية بأصولها واودها القومية فهي ليست بحاجة إلى العربية تشتق منها وتستعين بها؛ وإذا فيجب أن تحرر من جميع الالفاظ العربية الدخيلة؛ ووضعت الفكرة موضع التنفيذ بسرعة، فالغيت الكتابة العربية،
واستعملت الكتابة اللاتينية بقوة التشريع؛ وسارت الحركة لنفي الألفاظ والأصول العربية بسرعة، واتخذت احياناً بعض المظاهر المغرقة؛ فقد حدث مثلاً أن أسناداً بالجامعة التركية خطب في المؤتمر الذي عقد منذ أشهر لهذا الغرض فنوه باهمية استمرار التعاون والعلائق بين التركية والعربية، فغضب الغازي مصطفى كمال - وكان من شهود المؤتمر - وغادر المؤتمر في الحال، وفي اليوم التالي عوقب الأسناد بالعزل والحرمان؛ وفي الجلسة التالية صفق الغازي لأستاذ آخر ذكر في خطابه أن اللغة العربية لغة دخيلة، وأن التركية أعرق أصولاً من العربية ولها عليها فضل الاعارة والاشتقاق؛ ومع ذلك فان اللغة التركية، رغم هذه الحهود والمناظر الحماسية، التي تعرب عن الحقد والتعصب والجهل، بأكثر مما تعرب عن رغبة الاصلاح الحقيق، لم تستطع أن تستغني بنفسها، وما زالت تستعير - طبقاً لقرارات الرسمبة - ن بعض اللغات الاوربية لتسد ما بها من نقص وثغرات. ولم تكن الحركة إصلاح خالص، بل إن لها كما قدمنا مظهراً آخر غير مظهرها الاصلاحي؛ فاللغة العربية هي لغة القرآن، ولغة الاسلام الاولى؛ ولما كانت حكومة أنقرة تعمل على مطاردة الاسلام وكل مظاهره بكل ما وسعت، فيحب أيضاً أن يختفي هذا المظهر؛ ثم يجب أن تختفي الأسماء العربية - وهو مظهر آخر لهذه الحركة - حتى يكون الانقلاب تاماً، وحتى لايبدو في أفق تركيا الكمالية، بمض الزمن ما يثير ذكرى العربية والاسلام
وفد حملت اليا البرقيات الاخيرة نبأ جديداً، هو أن حكومة أنقرة قررت أن تعمل لأزالة منارات المسجد، وا، ها ستبدأ بازالة المنارات العتيقة وتقيم في مساجدها مصانه، فاذا صح هذا النبأ فانه يكون دليلاً جديداً على أن هذه الجهود المتوالية التي تبذلها حكومة أنقرة لمحو معالم الاسلام في سائر مظاهره الشخصية والعامىة إنما هي سياسة مقررة متصلة الحلقات
* * *
والآن لنحاول أن نتعرف أسباب هذه الحرب المضطرمة التي يشهرها الكماليون على الاسلام؛ ولنلاحظ اولاً أن تركيا المجهورية تحذو في تلك الحرب اللادئنينة المنظمة حذو روسيا البلشفية، وهي الدولة الغربية اوحيدة التي تش ر الحرب على النصرانية وتطارد كل مظاهرها. ولم يقع هذا الشبه عرضاً بين الدولتين اللدينيتين؛ ولكنه يقوم على نفس المباديء ونفس الروح الثورية والادينية المشتركة؛ وقد كانت رةسيا البلشفية أكبر عضد
للكماليين في حرب التحرير التركية وفي العمل على بعث تركيا المحتضرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تركيا الجمهورية مدينة بحياتها للبلاشفة. ولم يبذل البلاشفة هذا العون للكماليين حباً بتركيا، ولكنه كان قطة من برنامجهم في محاربة الاستعمار البريطاني، وقد كان غزو اليونان لتركيا مشروعاً بريطانياً تعاونه بريطانيا وتحميه، وكان عون البلاشفة للكماليين بكل الوسائل المادية والمعنوية منذ قيام الحرب التركية اليونانية حتى عقد معاهدة لوزان فصلاً من فصول الصراع بين البلشفة والاستعمار البريطاني؛ وكان طبيعياأ أن يكون لوحي موسكو ونفوذها أكبر الأثر في توجيه حكومة أنقرة، وأن توثق المصالح المشتركة بين روسيا البلشفية وتركيا الكمالية؛ وأشد ما يبدو وحي موسكو في ناحيتين: سياسة تركيا الخارجية، فهي قطعة لا تتجزأ من برنامج السياسة البلشفية، تردد فيها تركيا خطوات موسكو في كل شيء: في السياسة الشرقية والسياسة الاوربية، وفي مخاصمة عصبة الامم ثم الألتحاق بها (على أثر التحاق روسيا)؛ وروسيا تشد بأزر تركيا في كل مظاهر دولية؛ وتركيا تؤيد روسيا في مواقفها نحو الدول الغربية، وتركيا تعرف أنها مدينة بحياتها لروسيا، وان هذه الحياة تتوقف على ارادة روسيا، فهي لاتستطيع أن تحيد عن برنامج السياسة الروسية؛ وثانياً - في الناحية الثورية، فحكومة أنقرة ما زالت حكومة ثورية على مثل حكومة موسكو، هي تحذو حذوها في تطبيق مباديء الهدم والاباحة الى أبعد الحدود؛ واذا استثنينا الناحية الاقتصادية، أعني تطبيق الفكرة الشيوعية التي يرى الكماليون بحق أن تركيا ليست ميداناً صالحاً لتجربتها، كانت الثورة الكمالية الاجتماعية والدينية صورة من الثورة اليلشفية في هذه الميادين؛ وكما أن النزعة الالحادية تسود الثورة البلشفية، فكذلك الثورة الكمالية تسودها هذه النزعة؛ واذاً فان هذا الألحاد الذي يطبع كل تصرفات الكماليين، وهذه الاباحة التي يغرقون فيها، وهذه الحرب اللادينية المستعمرة التي يشهرونها ترجع في كثير من وجوهها الى غرس أساتذتهم ومدربيهم سدة موسكو؛ على أن الفكرة الثورية والالحادية ليست كل شيء في سياسة الكماليين، فهنالك بواعث أخرى تحفزهم الى هذه البغضاء المتأججة نحو الاسلام.
ذلك أن الكماليين يرون أن الاسلام كان سبباً في كل ما أصاب تركيا القديمة من المحن التي أودت بسلطانها وقوتها، وأن صفتها الاسلامية هي التي أثارت الدول الغربية ضدها خلال
العصور المختلفة وجمعت كلمتها على محاربتها ومقاومتها، وأنها لولا هذه الخصومة التي أثارها الاسلام في نفوس الأمم الغربية لبقيت دولة قوية ولم تبدد قواها في حروب ومعارك خالدة؛ ولهذا يمعن الكماليون في ثورتهم ضد الاسلام ويزعمون أن تركيا تستطيع بذلك أن تنزع تاريخها وماضيها وصفتها الأسيوية، وان تدخل بذلك في عداد الدول الغربية
وقد كان الاسلام حقاً من العوامل التي أثارت أوربا النصرانية وجمعت كلمتها ضد الدولة العثمانية في أحيان كثيرة، ولكنه لم يكن بهذا الاعتبار مسؤلاً عما أصاب الدولة العثمانية من المحن وضروب الانحلال والتفكك بقدر ما تسئل عنه السياسة الغاشمة والأساليب الهمجية المخربة التي سارت عليها هذه الدولة طوال عصور تارخها، وعجز الترك المطبق عن أن يكونوا عاملاً من عوامل الأنشاء في صرح الحضارة الحديثة. هذا، ومن جهة أخرى، فقد لقي الاسلام على يد الدولة العثمانية الذاهبة أعظم نكبة نزلت به في العصر الحديث، ولقيت الحضارة الاسلامية الزاهرة في مصر والأمم العربية مصرعها على يد هذا الغزو الوندلي الذي لبثت الفتوحات التركية سواء في الشرق أو الغرب سوى فورات مخربة تحمل وراءها الويل والدمار أينما حلت؛ وعلى ضوء هذه الحقائق وحدها يجب أن يرجع الكماليون عوامل انحلال تركيا الذاهبة
* * *
ومهما يكن من أمر البواعث التي تحفز الكماليين الى هذه الخصومة المضطرمة نحو الاسلام، فان الاسلام أقوى وأرسخ من أن يتأثر بمثل هذه الفورات العصيبة الطارئة؛ وقد صمد الاسلام وما زال يصمد لخصومة الغرب كله مه ما يحشده الغرب لغزوه من العوامل والوسائل الخطرة. ذلك أن الاسلام قوي بعقائده ومبادئه وخلاله المستنيرة، قوي بتسامح الخالد، قوي بتراثه المجيد. ولن يضير الاسلام أن تسقط من عداده تركيا الكمالية؛ واذا كان الاسلام لم يعتز قط بتركيا يوم كانت دولة قوية شامخة، فكيف يحاول اليوم أن يعتز بهذه البقية الضئيلة من تركيا القديمة؟ على أن هناك حقيقة يجب أن يذكرها الكماليون، وهو أن تركيا عاشت في العصر الاخير على تراث الاسلام؛ وقد كان نفوذ الاسلام المعنوي عاملاً قوياً في بعثها الجديد، وفي تطور السياسة الأوربية نحوها، وإقالتها من الفناء الذي كان مضياً به عليها. أما اليوم فان العالم الاسلامي الذي كان بالأمس يحبو تركيا بعطفه وتأييده
المعنوي - والمادي في أحيان كثيرة - لايهمه اليوم شيء من أمر تركيا الكمالية ومصايرها، ومن المحقق أنه سيقف وقفة المتفرج يوم تدلهم الخطوب، وتعود المعارك القديمة الى الاضطرام
محمد عبد الله عنان
المحامي
المطلوب مديرة بيت. . .!
للأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني
(أفلسنا والله يا صاحبي!)
(وأي افلس يا أخي؟ لكن الدنيا أقفرت. . .)
(والعمل؟)
(العمل؟ تسألني ما العمل؟)
(لقد منتُ أقول دائماً وأؤكد للمرتابين من إخواننا، إنك آيةٌ من آيات الله في الذكاء وصحة الادراك! نعم أسألك ما العمل؟)
(وهل أنا أعرف؟)
(لا رأي تشير به؟. . . لا حيلة تتحيلها؟)
(حيلة؟ هل تعني. . .)
(لا بأس! لا بأس! أرح نفسك. كم ساعتك الآن؟)
(ساعتي؟)
(هذا أقل ما يمكن أن أنتفع بك فيه)
(ساعتي يا سيدي. . . انتظر أقل لك، ساعتي. . . . س. . . سُرقت!)
فنهض الأول عن كرسيه بلا كلام، ومضى الى المكتب، فجلس اليه وتناول ورقة وأكب عليها وراح يكتب
* * *
جرى هذا الحديث في حجرة واسعة اتخذها للنوم هذان الصاحبان، ووضعا فيها سريريهما
وحقائبهما وكتبهما وأدواتهما وأشياءهما الاخرى، فلو رأيها - أي الغرفة - لحسبتهما آيبين من سفر. وكان ثم حجرتان أخريان في مسكنهمت، لكنهما كانا لا يستعملانهما او ينتفعان بهما إلا في الندرة القليلة، إذا زارهما من لم ترتفع بينه وبينهما الكلفة، فكانت هذه الحجرة الفسيحة للنوم والمطالعة والطعام والشراب والسمر، واللهو أيضاً. ولو شاء لاتخذا بيتاً أكبر وأوسع، ولاثثاه بما هو أو ثروألين، ولكنهما كانا يؤثران المخشونة، وينفران من التطري والرخاوة، ويستقبحان أن يكونا مترفين وإن كثر المال في أيديهما. وكانا ظريفين لا يعدلهما أحد في ظرفهما، وقد تآخيا على أصفى ود وأتم مداخلة، فهما خليط وأمرهما في كل شيء واحد، لايختلف ولا يتعدد.
ونهض الاول عن المكتب وفي يده ورقة يتأملها، ومشى متمهلاً إلى صاحبه حتلا إذا بلغ مكانه دفع بالورقة إليه فقرأ فيها
(مطلوب:)
(مديرة لبيت، ويشترط أن تكون متعلمة وخبيرة، والاجر يُتفق عليه، والرد يكون باسم السيدة نينا شقراوب بجريدة الكوثر بالقاهرة)
ثم سأل: (ما هذا؟)
قال: (هذا؟ هذا إعلان! ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟)
فسأله: (ولكن ما حاجتنا إلى من تدير لنا بيتنا؟ ألسنا ندبر أموره القليلة على أحسن وجه؟)
قال: (يا صاحبي، ليس هذا من شأنك. ولا تخش أن أثقل كاهلك بهذه المديرة المطلوبة. أنما أريد أن أداوري نفسي وأعالج إفلاسها، وأملأ هذا الفراغ الذي أحسه في قلبي)
قال الآخر: (ولكن. . . .)
فقاطعه ذاك (لا تعترض يا صاحبي، فليس عليك بأس من ذلك.)
وخرج، فمضى إلى صاحب (الكوثر) وكان صديقه، فناوله الاعلان
فسأله هذا: (أهي السيدة التي. . . . .؟)
قال: (لا، بل غيرها، وقد كلفتني أن أقوم عنها بالأمر، فكم تطلب أجراً للنشر؟)
فأبى الرجل أن يتقاضى أجراً
* * *
وجاءت ردود، بعضها تليفوني، والعبض رسائل، فأما التليفونية فأهملها وأبي أن يُعنى بها أو يتقبلها، وأما الرسائل فكانت ثلاثة حملها معه إلى البيت، وهناك فضها وجلس يتدبرها هو وصاحبه، ويحاول أن يستنبيء الخط والأسلوب عسى أن يعرف منهما - على التقريب - سن الكاتبة وحظها من الجمال.
فتعلقا بواحدة تقول كاتبتها إنها تعلمت في انجلترا، وأنها حذقت هذا الفن - فن ادرة البيوت - على مهرة الأساتذة والمعلمات
وقال الذي سمي نفسه في الاعلان (نينا شقراوي)
(فلنتبع) أسلوب (شرلوك هولمز). إنها تقول إنها تعلمت في انجلترا، فلا شك أنها صغيرة السن، لأن ارسال البنات إلى انجلتزا ليتعلمن لايزال إلى اليوم غير مألوف، ولم يبلغ أن يون سنة، كأرسال الفتيان؛ ثم ان التي تذهب إلى انجلترا لتتعلم لابد أن يكون أهلخا ذوي مال، وقد تتاج يا صاحبي أم تسأل - لأنك ذكيٌ جداً - لماذا إذن تريد أن تكسب رزقها بعرق جبيتها؟ والجواب أنهما فرضان لا أرى لهما ثالثاً: الاول أن يكون المال قد ذهب، وافتقرت الأسرة بعد اليسر، والثاني أن تكون الفتاة قد تمرددت على أهلها لسبب من الأسباب وتركت البيت، فهي تنشد العمل لتعيش، كراهة منها للارتداد إلى أهلها صاغرة ذليلة. واضخ؟ حسن! فلنكتب إذن الرد)
وقام إلى المكتب فكتب ما يأتي:
(الآنسة المحترمة. . . .
جاءني ردك، وأكون شاكرة ل إذا تفضلت بانتظاري في تمام الساعة الخامسة من يوم. . . . أمام باب_جروبي)
بشارع المناخ
وتحياتي إليك وإلى الملتقى
نينا شقراوي)
وتوخى في كتابة الرسالة أن يطيل حروفاً ويقصر أخرى، ويجعل زوايا الجيمات والدالات الخ، حادة، ويعوج السطور ليجيء الخط أشبه ما يكون بخط النساء
* * *
ودنا الموعد، فقال لصاحبه:(قم بنا)
فنظر إليه صاحبه متعجباً وسأل: (ولكن ما دخلي أنا؟)
قال: (من يدر؟ إنه لا يعلم الغيب إلا الله! قم فقد أحتاج إليك.)
ووقفا على الافريز المواجهلباب (جروبي) وصارت الساعة الخامسة، وإذا بفتاة ممشوقة تقف على الافريز الآخر وترفع عينها إلى باب جروبي ثم تصوبها إلى الساعة على يدها، ثم تتلفت فقال الذي لا دخل له:(هي والله! قرأت أسم جروبي، ونظرت في الساعة. هيا بنا إليها)
فقال صاحبه (بنا؟ ما شاء الله! أظن أني سمعتك تسألني ما دخل في هذه الحكاية؟ أم ترى كان غير السائل المنر؟)
قال: (إنما أعني أنه يجب أن تلمها حتى لايطول انتظارها فتقلق فتذهب)
قال: (وما يعني من قلقها وذهابها؟ فلتقلق ولتذهب!)
قال: (ولكن لماذا إذن واعدتها أن. . . .)
قال: (يا أحمق! إني أريد - أتفهم؟ - أريد أن تقلق وتمضي وأزيدك علماً، فأقول إني لا أجرؤ أن أكلمها أمام باب جروبي الذي يدخل منه ويخرج كثيرون ممن يعرفونني.)
وعادت الفتاة فألقت على ساعتها نظرة ثم دارت فمشت.
فذهب صاحبنا يعدو خلفها، حتى إذا دنا منها ناداها بأسمها فوقفت وقال:
(معذرة. إن السيدة شقراوي متوعكة، وقد كلفتني أن أقابلك)
فقالت الفتاة بابتسامة: (أشكرك، وأشكرها. لقد خالجني شك، فتوهمت لحظة أني أخطأت. وهل أنت أخوها؟)
قال: (أخوها؟ أوه! لا! ابنها فقط. . .)
قال: (معذرة)
قال: (ألا توافقين على أني ما زلت شاباً تتدفق الدماء الحارة في عروقي؟)
فضحكت وقالت: (بالطبع. . . . وأين البيت؟)
فساءه أنها غيرت الموضوع وقال: (البيت؟ البيت يا سيدتي. . . . في. . . . في القاهرة)
فسألته: (أي شارع؟)
فقال: (أي شارع؟ هل ينتظر أن تعرفيه إذا قلت لك إنه شارع البسطويسي؟) فقطبت وسألت المحتجة المستهجنة (البسطويسي؟)
قال: (لم يخطيء طني. فتاة مثلك غضة السن جداً - وجميلة أيضاً بالطبع - متعلمة في انجلتزا لا يعقل أن تعرف هذه الشوارع التاريخية)
فسألت بأهتمام: (أهو شارع تاريخي؟)
قال: (لاشك! أقدم من التاريخ)
فأحست أنه يتهكم وسألته: (والبين؟ ما مساحت؟ 9
فقال: (إيه؟ مساحته؟ الحق أقول؟ الحق أقول، لا أعرف)
قالت: (م غرفة فيه؟)
ولم يكن مما قدر، أن يجري الحديث هذا المجرى فقال بعد تردد (كم غرفة؟ أه. . . أقول لك يا ستي. . . . ثلاث)
فدهشت وصاحت: (ثلاث فقط؟)
فقال: (أراك دهشت! ول الحق. فانها غرف فسحة جداً. . . تصلح للرقص، او لسباق الخيل)
قالت: (لا تمزح. لقد كنت أظنه بيتاً كبيراً)
فسألها: (أليس بيراً؟ إني أراه كبيراً جداً)
قالت: (ثلاث غرف!؟ والخدم؟ ما عددهم؟)
قال: (الخدم؟ أي خدم؟)
قالت: (خدم البيت!)
قال: (ليس في البيت خدم!)
قالت: (ماذا تقول؟ لا خدم؟)
قال: (نعم. . . أعني لا. . . وأي حاجة بنا إلى الخدم؟)
قالت: (أي حاجة؟ كيف يكون بيت بلا خدم محتاجاً إلى مديرة؟)
قال: (يا سيدتي، لهذا احتجنا إلى مديرة. فالأمر موكول اليك. . . .)
قالت: (لقد كان ظني غير ذلك. . . . كنت أحسبه بيتاً عظيماً غاصاً بالخدم، أتولى أموره
وأدبر شئونه. . . أما هذا. . . . لا. لا أظن أني أستطيع أن اقبل هذا العمل)
قال: (ألا يحسن أن نميل إلى هذا المحل لنتحدث ونتفاهم.)
قالت بلهجة جازمة: (في أي شيء نتحدث؟ لقد قلنا كل شيء)
قال: (لا لا لا. . بالعكس، لم نقل شيئاً. . .)
فسألت مستغربة: (أي شيء بقي هناك؟)
قال: (باقي أن تراجعي نفسك. . . . فكري طويلاً قبل أن ترفضي. الانسانية تدعوك أن تقبلي. . المروءة تناديك وتناشدك. . . إني شاب، والبيت الصحراء، بل قلبي أيضاً صحراء. . . ومن الشهامة أن تتولي أمري. . . أعني أمورنا. . . وأن تحيلي ذه القفار فراديس ورافة الظلال)
فسألته ضاحكة: (أتريد مديرة أم ساحرة؟)
ٌال: (إيه؟ أه! بالطبع. . . ساحرة؟ أي نعم ساحرة. هذا أحسن. . . ولكنك ساحرة - ما قي هذا شك! ألست موافقة؟)
قالت: (على أي شيء؟)
قال: (على أنك ساحرة)
قالت: (أوه! كلا. والآن، أستأذن. .)
قال: (تستأذ1نين؟ كيف؟ وبعد أن عصت عليك في لجة الحياة؟)
وعض لسانه من الغيظ، فقد زل، وأدركت خي أن في الأمر غير البيت وإدارته، فحدقت في وجهه ثم سألته
(أجبني - بصراحة. . . ماذا تعني؟)
قال: (اعني أنك درة وأنه يشق علي أن أنفض يدي منك بد أن فزت بك - هذا ما أعني، وبصراحة)
قالت: (هل كنت تعرفني؟)
قال مغالطا: (لقد كنت أحلم بك)
فقالت: (والأعلان؟)
قال: (الاعلان؟ لقد انتهينا منه. وقلت إن الأمر لا يوافقك. . . وأنا مصدقك. . لايسعني إلا
أم أصدقك. . . إنه بيت لا يليق بك. . . إنه. . . إنه قبر. . . خراب. . . . دعينا منه فما نت أتصور أن ترضي عنه. . . . .)
قالت: (وبعد؟)
قال: (نتكلم في شيء آخر. . . إنه لا أكثر من المواضيع الصالحة للكلام. . . مثلاً شعرك، إنه ذهبي جميل، وأنا أحب الشعر الذهبي، يفتنني، يدير راسي، ولو استطعت لجمعته كما تجمع طوابع البريد، وقطع الخزف الثمين، والسجاجيد الفاخرة. . . وهناك أيضاً موضوع آخر. . . عيناك. . . إنهما نجمان متألقان. . .)
فصاحت به: (حسبك. وادخر بلاغتك لمن عو أحق بها، أعني لمن له أذنان تصغيان فاني ماضية)
فقال: (وتتركيني؟)
قالن: (آسفة)
قال: (ألا تفرين؟ في أنا على الأقل!)
قالت: (سأفكر فيك طويلاً)
فقال بلهجة الظافر: (كنت أعلم ذلك)
قالت: (إيه؟ 9
قال: (كنت واثقاً أنك رقية القلب)
قالك: لا لا. . . إنما أعني أني سأفكر في جرأتك. . . واسمح لي أن أقول: وفي وقاحتك)
فلم ينهزم وقال: (هذا ذنبك)
قالت مستغربة: (ذنبي)
قال: (على التحقيق: إنك جميلة، فلماذا أنت جميبة؟ هذا عذري!)
قالت: (آه!) وهمت أن تمضي عنه
فقال: (وشيء آخر. . . يجب أن تعلمي أنه لاقيمة لجمالك)
قالت: (ألم أقل إنك وقح؟)
قال: (لاقيمة لمالك إذا لم يعجب به أمثالي. . . بغيري تكونيين وردة في صحراء. . . من يشمها؟ من يتأملها؟ من يقول ما أحسنها؟)
قالت: (ألا تخبرني من أنت؟)
قال: (أو بعيك أن تعرفي؟)
قالت: (بالطبع. . . لانك أوقح من رأيت في حياتي)
قال: (كلا، هناك من هو اوقح. . أوه بمراحل! صاحبي هذا الوقف هناك. . . أترينه؟
سأعود اليه وأبلغه أن له - إذا شاء - أن يشمت بي، لأني فشلت)
قالت: (أكانت مؤامرة؟)
قال: (لقد نهاني فلم أطع، وجررته معي بكرهه، وفي مأمولي أن أفوز، فأباهية وأفاخره، أما الآن. . .)
قالت: (هذه هي الحقيقة؟)
قال: (بلا تحريف. وتعالى اليه لتسمعيها منه إذا شئت)
فوقفت تفكر برهة كالمترددة ثم القفتت اليه فجأة وقالت: (هل نت تعرفني؟ 9
قال: (سؤال معاد، وجابه واحد لايتعدد ولا يتغير)
قالت: (لا تعد الى المزاح)
قال: (أؤكد لك أني جاد جداً)
قالت: (ولكن كيف وثقت أني سأرد على اعلانك!)
قال: (هي مقامرة لا أقل. .)
قالت: (على كل حال، لابد أن أمضي الآن)
قال: (ونلتقي مرة أخرى؟)
قالت: (ربما. . . لا أردي. . .)
قال: (اذكري أني أعرف عنوانك، فاذا طال الأمر فلا يبعد أن اغزو دارك فاني كما تعلمين مجنون)
قالت: (لاتفعل. . . . احذر)
قال: (لاتخافي. . . . مع السلامة. .)
ورجع إلى صاحبه فقال: (ألا تزال واقفاً؟ لماذا لم تعد إلى البيت؟ ما فائدتك هنا؟)
فسأله: (ماذا صنع الله بك؟)
قال: (وكيف يعنيك هذا؟ أي دخل لك فيه؟)
قال: (قل لي بالله!)
قال: (ولاتشمت؟ لا في السر ولا في الجهر؟)
قال: (أو أخفقت؟؟؟ مبارك! مبارك! الحمد لله!)
ابراهيم عبد القادر المازني
كيف استجبت للرسالة؟
للأستاذ محمد محمود جلال
كان لمجلة (البيان) في نفسي مكانة، وكان لها في أفق الثقافة المصرية مكان. وكنت ما اشتركت فيها أحس من نفسي اغتباط من يؤدي واجباً، ولا أنكر ما شملني من سرور يوم نشر الشيخ البرقوقي مقالي الاول بها
ولما احتجبت أحسست لها وحشة، وأحسست في جوي بشيء ينقصني، ثم طلبته في مجلداتها الاولبى، وإذا أتيت عليها وأخذت نفسي بترتيبها ووضعها في مكان خاص من المكتبة خلجني سرور الوفاة بالعهد. ولم يزل لها مكانها وما زلت أذكر بالخير عهدها
لم أكتب في مجلة منذ احتجابها، وفي فترات متباعدة كتبت في المحروسة، واللواء، والمقطم. وكنت طوال الوقت اتمنى على الله للبلاد مجلة تسد الفراغ وتأخذ بيد الثقافة
وما كنت لاغمط المجلات الاخرى فضلها على العلم والأدب والتاريخ، ولكني كنت دائم الأحساس بحاجة البلاد لمجلة تقوم على أساس من الروح المصرية، وإحياء الصالح من التقاليد الأسلامية، فتصل العهدين وتنبه الجيل إلى تراث الأولين
ملكت الأمنية على شعوري حتلا فكرت عام 1926 مع صديقي اسماعيل مظهر وصديق ثالث في تنفيذ الفكرة برغم مشاغلي وما قد يكون بين عملي وبين ما أعتزم من فوارق ظاهرة. ووصل بنا الحرص على التوفيق بين الأمرين إلى أن نعتزم إصدارها كل ثلاثة أشهر، ولكن حتى هذه لم تتم!! فقد تعجل صديقنا الأمر وأظهر مجلة (العصور) فجاءت أبعد ما تكون عن الأسس التي قدرنا
لكن الله سبحانه وتعالى قدر للأمنية أن تتحق - وتحققت بالفعل قبل أن أتصل بالرسالة
بعام ونيف، ولكني حرمت هذا الخبز السار حتى كان رأس العام الهجري الحالي فأراد الله أن يجعل سروري مضاعفاً، فأتلقى الخبر في خير عيد للمسلمين، بل للأنسانية جميعاً
فبينما أجتاز ميدان الأزهار إذ سمعت بائع الصحف ينادي بالرسالة، وإذا بي مقبل على شرائها، فيطالعني العنوان، وإذا بين يدي عدد ممتاز خص به العام الهجري، وشرف العدد بأكثر ذكريات التاريخ
طربت حقاً - لأني أعلم أن هذا التقليد الصالح أهمل منذ الحرب الأخيرة بعد أن كان سنة تحييها أكثر الهيئات - وطربت لأني أخذت أولادي وبيئتي بالاحتفال بالعام الهجري، فأدخر لهم ليومه خير المكافآت و (اللعب) ايقاظاً لهم، وتقريباً للمعنى الى عقول الصغار
وإني أقرر اليوم أني إلى ذلك التاريخ لم أكن أعرف عن صاحب الرسالة شيئاً، ولم أكن رأيته، ولم يصلني به وبأكثر النخبة الصالحة من معاونيه غير الآثار القلمية الرائعة أمتع بها ذهني بين فرصة وأخرى
فلما قرأت العدد التاريخي شعرت بما خفق له قلبي طرباً، وأحسست بالفراغ يملأ وبالثغرة تسد
إنما تنشد للبلاد مجلة تنشر مفاخر السلف الكرام فلا ينقطع ما بيننا وبينهم فتصل المنطق. إنما تمنينا مجلة تنشر الصالح قديماً كان أو حديثاً، تخرج لنا في لغة سهلة راقية ما يأخذ بيد الأخلاق من عثرتها، ويكبح جماح الشهوة والغرور، ويزيل الغشاوة عن الأبصار، فيبدو لشبابنا الأسلام كما هو، والأدب العربي كما هو، وهما أساس الثقافة لمصر الحاضرة ولا أساس غيرهما
وما دت أظفر بهذا الكنز حتى سارعت به الى أولادي أقرهم ما يتفق وما يحيون من ذكرى، وأشرح لهم بعض ما يصعب على أذهانهم - ثم سارعت أكتب الى صصاحب الرسالة مشجعاً دون سابق تعارف، معتقداً أن السكوت بعد ذلك هرب من صفوف الجهاد، ووعدت في كتابي أن أنتهز فرصة فراغ لأعود للترسل اذا أتيح لي أن تشرُف رسائلي بمثل هذا المكان الكريم
جاءني الرد بعد قليل فاذا به آية على اختصاره، وإذا بي ألمس في كاتبه صدق الأيمان في كل مسعى ومقصد
أتيح لي في شهر سبتمبر ان أزور دار الرسالة فأسعد بلقاء صاحبها، وإذا بي ألمس في كل قول وفي كل حركة إيماناً صادقاً وأدباً رائعاً جذاباً
استجبت (للرسالة) الغراء وكلها هدى ونورـ وفي يقيني أنها في البلاد ثالثة أعلام النهضة، فبجانب (مصنع المحلة) في ميدان الاقتصاد، و (مستشفى المؤاسة) في عالم البر والتعاون، تقوم (الرسالة) حمى الأدب العربي وتراث الاسلام
واذا ان الله تعالى أكرم البلاد بهذه المجلة، فقد أكرم المجلة بثوب الأخلاق الكريمة الذي أضفاه على صاحب الرسالة، ولن تنجح رسالة بغير خلق
فالى الأمام أيها الصديق، وإلى الأمام يا خير الصحف. إنما عيد الرسالة عيد للثقافة العالية، والدين القويم، والخلق الكريم
محمد محمود جلال المحامي
بين عامي نشيد الوداع. . . . . للأستاذ علي الطنطاوي
(1)
مالت الشمي الى المغيب، ولم يبق من أشعتها الذهبية إلا خيوط قليلة، تنفذ من بين قطع الغمام المتناثر حيال الأفق. . . . تقلى على العالم نظرة الوداع، وتقبل جبينه الخاشع قبلتها الأخيرة. . . ثم تجود بذمائها الباقي، وتلفظ نفسها الأخير - كما يلفظ نفسه هذا العام الراحل!
(2)
وكنت أطل من شرفة منزلي - ومنزلي في شارع بغداد: على شاطيء الغوطة، معني الغساسنة، وجنة الدنيا، وملهمة الشعر شعراء العرب الأقدمين - أطل على بساتينها الفيحاء، وجناتها الواسعة، التي تحف به من جهاته الأربع، فأرى الكون في حزن وكآبة، وأرى على جهه صفرة تبدو على أوراق الخريف الزاوية الهشيمة، وفي عينيه دمعة تترقرق، تلوح في طيات هذا المزن الراقراق، وأسمع لقلبه وجيباً، يسمع من هذه الأغصان التي يتلاعب بها النسيم. . . ثم أنظر إلى نفسي، لإارى فيها عالماً آخر. . . ولكنه مفعم بالكآبة والغم، كذلك العالم!
(3)
أطلت التحديق في هذه المشاهد - فلم تنفرج لي شفتاها عن الابتسامة التي أحن إليها وأرقبها. . . . وكنت قد عزمت على المضي في هذا التحديق، حتى أرى هذه الابتسامة،
فأحتفظ بها بين أحناء ضلوعي، وفي مثوى الذكريات من نفسي ذكرى سارةً، تخفف من لوعة الذكر الكثيرة المؤلمة لهذا العام الراحل. . . . لكن عزيمتي قد ونت، وأيقنت أن قلبي المحطم اليائس لا تشرق عليه أشعة الابتسامات
(4)
دنت قافلة الحباة السائر في بيداء الزمن من محطها،
فتباطأت في سيرها، وقاربت خطوها، فامسيتُ أشعر بطول
هذه الساعات الباقية في عمر العام ورحت أرقب عقرب
الساعة المائلة أمامي، فلا أراه يتحرك. . فضجرت وتألمت،
وأحسست كأن هذا الفلك يدور وهو عاتقي. . .
(5)
. . . بعد ساعة واحدة يُتم الفلك دورة جديدة من دوراته التي لا تحصى. فلا يترك بعدها إلا أنقاضاً مهدمة، وأجساداً محطمة، وقلوباً مهشمة، كأنما هو رحي تطحن الأمم والشعوب. . . ثم يخرج منها النداء أن: لِدُوا وابنوا وأملوا. . . ولكن للموت والخراب واليأس!
بعد ساعة واحدة، ينقضي هذا العام، فتبتلعه هوة العدم، ويفتح الماضي ذراعيه، ليضمه إلى الأعوام الكثيرة التي مرت من قبله، ويؤلفها (رزمة) واحدة، ثم يلقيها في بحر الأبدية. . . ثم تفنى عند جلال الله الباقي
بعد ساعة واحدة، يدع هذا العام مكانه من الوجود للعام الجديد، ثم يهذب فيتبوأ مكانه من عالم العدم!
(6)
بعد ساعة واحدة تختم من هذا العام صفحة كتبت أكثر سطورها بدموع المظلومين، لتفتح صفحة أخرى، لا ندري عنها شيئاً، ولكن فيها ألم وفيها سرور، وفيها أمل وفيها خيبة، وفيها ضحك وفيها باء. . . . والقدر يضحك ابداً من هذا الانسان، لأنه يراه الظالم ويراه هو المظلوم!
ما الانسان إلا عدو الانسان. .
يكتب القوى سيرة حياته، ويملأها بآيات التجليل والثناء، ولكن مدادها دموع الاشقياء،
ودماء الابرياء. . .؛ وينشيء القوى صرح مجده، ويرفع ذرى عظمته، ولكن أساسه جماجم المظلومين، وعظام الشهداء؛ ويملأ القوى بالذهب خزانته، ولكن دراهمها قد جمعت من أيدي اليتامى، وأفواه الفقراء
(7)
بعد ساعة واحدة، تحط القافلة رحالها، فتلتفت إلى الوراء فلا نرى إلا ظلاماً، يلمع في وسطه نجم من الذكرى، نتبين فيه (العلم المربع الألوان) وهو يخفق على دمشق، فتخفق قلوبنا لجلال الذكرى، ومرارة الفقد! فنحول أبصارنا إلى الأمام فلا نرى إلا الظلام. ولكن. . . ما هذا النور الذي ينبعث من الأرض فيذهب صعداً في السماء، فيهدينا الطريق، ويترع نفوسنا قوة وأملاً؟ لقد علمت: هذا بريق الدماء التي سقينا بها صحراء ميسلون، وجنان الغوطة، لقد علمت: لايزيح ظلمة المستقبل، إلا هذا النور. . . الأحمر!
(8)
تزين الناس ولبسوا أحسن ثيابهم، وراحو يهنيء بعضهم بعضاً، لقد امتلأت بهم الأسواق والشوارع، والبيوت والمجامع، لقد ناءت برسائلهم قطر البريد، حتى ما ترى حيثما كنت إلا ثغوراً تبسم، وما تسمع إلا مقالة تقال: كل عام وأنتم بخير.
كل عام وأنتم بخير. .
غير أني لا أفقه من هذا كله شيئاً!
(9)
فيم الهناء؟ وعلام السرور؟. . أيهنأون بتلك الأرواح التي دفعناها ثمن الحرية، فكان للبائع الثمن والبيع؟ أم بالنفوس الكبيرة التي أزهقها الأقوياء، أم بالمنازل التي خرجوا؛ أم بالدور التي أحرقوا، أم بالحق الذي غصبوا، أم بالحرمات التي انتهكوا؟. . . أم بالأزمة العامة، والتجارة الاسدة، والصناعة العاطلة، والزراعة البائرة، والأخلاق الضائعة، والرجولة المفقودة، والحدود المستباحة، والجهالة المنتشرة؟. . . .
أما إن أشد البلاء، ألا نشعر بالبلاء! وأكبر المصيبة أن نجهل أنها المصيبة! فما لهؤلاء الناس وماذا اعتراهم؟ أيفرحون بهذا كله؟. . . .
إني لا أفقه من هذا كله شيئاً!
(10)
عزفت عما فيه الناس، ورحت إلى شرفتي كئيباً، وكان الظلام قد ملأ الكون، كما ملأ جوانب نفسي، فغشيني ذهول عميق، وانطلق لساني يقول:
* * *
أيها الراحل المودع!
لقد كانت لنا آمال، صببناه على قدميك يوم خرجنا لاستقبالك، وكنا كلما انقضى من عمرك يوم ولم تتحقق ارتقبنا بها يوماً آخر، وهذا يوم لا آخر له، فأخبرنا عن آمالنا، ماذا صنعت بها، أدست عليها فحطمتها وقطعت طريقك على رفاتها؟
أيها الراحل المودع!
لقد أودع أسلافنا عند أسلافك أمانة، هي المجد العربي، والعزة الاسلامية، فضاعت في بيداء الزمن، وانطلقت الأعوام وانلقنا وراءها نفتش عنها وننشدها، ولن ني ما بقي في الزمان عام، وبقي منا إنسان، فأخبرنا هل مررت عليها، وهل عرفت أي عام يحملها الينا؟. . . .
إنك ستجتمع في عالم الأبدية بالأعوام التي سبقتك، ومرت بنا قبلك، فهل لك إذا اجتمعت بعام الدماء والدموع، عام الثورة. . . أن تبلغه يلامنا وتحياتنا، هل تحمل الى تلك الأرواح الظاهرة شوق أبنائها وإخوانها؟. . . ألا قل لها تهدأ وتطمئن، فانا لن ننسى، لن ننسى. . إن ذكرى الدم المفسوح لا تنسى ابداً!
وبعد يا أيها الراحل المودع!
أنبئنا مذا يحمل هذا القادم المسلم، هل يحمل الينا تحقيق الآمال وبلوغ الأماني؟ أم يحمل الشقاء والخراب والفقر والآلام والدموع والدماء كاخوانهالخمسة عشر عاماً، التي مرت على سورية؟
أنظر ماذا خلفت فينا، أنظر الى مدينتنا، لقد جعلتها - في ظل المتمدنين - أطلالاً وخرائب، لقد جعلت أهلها فقراء بائسين. . . انظر هذه هي خرائب الدرويشة والميدان؛ وهذه قلاع المزة وقاسيون. .
ولكن لا بأس أيها العام لابأس؛ إن أرضاً تسقة؛ (الماء الأحمر!) لابد أن تنبت (الحرية الحمراء). . . وإننا لن نيأس أبداً
* * *
وأفقت من ذهولي، وكان وهن من الليل، وكانت اللحظة الاخيرة من العام الراحل، فأرسلت في فضاء الله الواسع زفرة طويلة، ثم رفت رأسي شطر السماء وقلت:
- سبحانك لا اله إلا أنت. . . هذا قضاؤك يا الله!
وتبددت اللحظة الاخيرة من العالم، تبدد الحروف الاخيرة من مقالتي، ولم يبق في الوجود، إلا. . . . اسم الله
باسم الله نستأنف العمل، والله المستعان!
علي الطنطاوي
ظواهر متماثلة
في تاريخي الادبين العربي والانكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
لا يكاد يكون بين الأدبين العربي والانجليزي من وجوه التشابه إلا الأمور العامة التي يتفق فيها كا أدبين يعبران عن نوازع النفس الانسانية، وهما فيما عاد ذلك مختلفان جد الاختلاف، وهذا راجع الى أمرين: أولهما اختلاف الأمتين في الجبلة والبيئة: فهذه أمة شرقية سامية هرجت من جزيرة صحراوية وولاثت الدول الشرقية القديمة، وتلك أمة غربية آرية خرجت من جزيرة شمالية وشاركت في تراث الدولة الرومانية، وثاني الأمرين اختلاف قسطي الأدبين من التأثر بالثقافة اليونانية: فبينما كان تأثر الأدب العربي بها قليلاً غير مباشر تأثيرها في الأدب الانجليزي شاملاً غامراً للأصول والفروع، فكتسب ذلك الأدب الانجليزي شاملاً ظل الأدب العربي بعيداً عنها
ولكن هنا ظواهر في تاريخ الأمتين والأدبين متمائلة أدى إليها تمائل وقتي في الظروف وأدت الى نتائج متمائلة: فعصر الجاهلية في تاريخ الادب العربي شبيه بعصر ما قبل اليزابث في التارريخ والأدب الانجليزي: ففي ذينك العصرين كان كل من الشعبين يعيش داخل جزيرته في عزلة كبيرة عن العالم على حال شبيهة بعصر الأبطال في بلاد اليونان الذي أنتج ملاحم هوميروس، وكان الأدبان تبعاً لذل جافيين، وعْرى الأسلوب واللفظ، ساذجي المعني، بعيدين عن الصناعة الفنية، وكانا أقل رقياً من الأدب الذ جاء في العصر التالي. والواقع أن الشبه هنا وبين الجاهلية المصرية وعصر الأبطال اليواني كبير: ففي الجاهلية كان العرب منقسمين قبائل وعشائر متناحرة كما كانت البلدان والعشائر اليونانية،
وإن كانت تحس بقوميتها العرية العامة متمثلة في لغتها وفي مجامعها السنوية في الأسواق وفي الحج الى مكة، كما كان اليونان يجتمعون في المواسم الأولمبية ويحجون الى دافي، وفي تميزها على الأمم الاخرى التي كان العرب يسمونهم عجماً كما كان اليونان يعتبرون مَن عَداهم برابرة، وإن يكن العصر الجاهلي لم ينتج ملاحم باراً كالألياذة والأوديسا في اليونان أو كملحمة (بيولف) في انجلترا، فان قصائده على قصرها هي من هذا الضرب. ولعل العصر الجاهلي لو طال قليلاص لا ئتلفت تلك القصائد الصغيرة التي تمجد كل منها قبيلة واحدة، فكونت ملحمة كبرى تتغنى بفروسية الأمة العربية قاطبة
ونهضة العرب بظهور الاسلام تماثل نهضة الانجليز في عصر اليزابث بوصول النهضة الأوربية الى انجلترا واتجاه نظر الانجليز الى ما وراء البحر؛ ففي كلا العصرين بدأت كل من الأمتين تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته وتبنى لنفسها امبراطورية مترامية الاطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً ورقت ديباجته، وإن يكن الرقي الادبي في صدر الاسلام قد تمثل في النثر بينما تمثل في العصر الاليزابثي في الشعر ولاسيما الشعر التمثيلي
وبانبعاث هذه النهضة وقيام هذه الدولة انتسرت كلتا اللغتين فيبقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم؛ فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية سار يتكلم من حدود الصين الى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، وأصبح اليوم لسان شعوب كثيرة في آسيا وأفريقة. واللغة الانجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين تعد على الأصابع في عهد شكسبير أصبحت تُتكام وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم
ولم تكد كل من الأمتين تود أركان امبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار اآداب والعلوم، فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية استقلت الولايات المتحدة الأمريكيو عن الامبراطورية البريطانية؛ بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول الذي فلم تنجب الاندلس من الأدباء من بذلوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الامبراطورية البريطانية من داني شكسبير وملتون
وباتصال كل من الأمتين بالأمم المتحضرة سَرَت إليها موجة عدوى من دواعي الترف وبدأ أثر ذلك في أدبها: فاختلاط العرب بالفرس أدخل الترف والعبث في البلاط العباسي وأثر في جيل أبي نواس من الشعراء، واتصال الانجليز بفرنسا في ظل ملكها المترف لويس الرابع عشر أفسد بلاطهم على عهد شارل الثاني وبان أثر ذلك في الأدب ولاسيما في الرواية التمثيلية
وكلا الأدبين تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي تدين به أمته؛ فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية وأصولها وآدابها وثقافة أدبائها وأساليبهم جسيم بين الجسامة، فقد كان منذ جاء مثلاُ أعلى وثقافة قائمة بذاتها؛ والانجيل منذ ترجم إلى الانجليزية في عهد الاصلاح الديني له اليد الطولي في تثبيت الأسلوب النتثري الانجليزي، وتثبيت مفردات اللغى، وإدخال مفردات جديدة واشتقاق غيرها، واختراع طرق للاشتقاق أ
لم يأخذ العرب عن اليونان ولا عن غيرهم أخذاً بالجملة ما صنع الانجليز، بل ظلوا غب زمانهم شامخين بأدبهم ينظرون من عليائه إلى من حولهم من أمم وما لها من آداب؛ أما عهد الاخذ بالجملة في تاريخ الأدب العربي فهو عصرنا الحاضر الذي يُسع فيه أدباؤنا اللغات الغربية دراسة ونقلاً ومحاكاة، فيُغنون أدبنا أي إغناء، ويخصبونه بالعنصر الأجنبي
الذي كان يعوزه
هذه ظواهر يتقارب فيها تاريخا الأدبين لتقارب في ظروف
الأمتين في شتى العهود، أما ظواهر التباين فلا تكاد تعد؛
ويجب حين نقابل بين التاريخين أن نذكر أن دولة العرب أقدم
عهداً وأدبهم أعرق محتداَ، وأن دولتهم وأدبهم قد غبر الفصل
الاول من قصتهما، وهما اليوم في طور بعث جديد أما الدولة
والأدب الانجليزيان فما يزالان في الفصل الأول
فخري أبو السعود
8 - محاورات أفلاطون
الحوار الثاني
كريتون أوجب المواطن
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أشخاص الحوار: سقراط. كريتون
مكان الحوار: سجن سقراط
سقراط - وستقول القوانين بعدئذ: (اعلم يا سقراط، إن صح هذا، أنك بهذه المحاولة إنما تسيء الينا، لأننا بعد إذ أتينا بك الى الدنيا، وأطمعناك وأنشأناك وأعطيناك كما أعطينا سائر أبنا الوطن قسطا من الخير، ما استطعنا للخير عطاء، فقد أعلنا فوق ذلك على رءؤس الأشهاد أن من حق كل اثنيني أن يرحل الى حيث شاء حاملا متاعه معه، إذا هو نفر منا بعد أن تقدمت به السن فعرفنا حق المعرفة وعرف على أي الأسس تسير المدينة، وليس فينا نحن القوانين ما يحول دونه أو يتدخل معه في أمره، فلكل منكم إذا ما كرهنا وكره المدينة، وأراد الرحيل الى إحدى المستعمرات أو الى أية مدينة أخرى، أن يذهب حيث شاء، وان ينقل متعاه معه؛ أما ذك الذي عركنا فعرف يف نقيم العدل وكيف ندير الدولة، ثم رضي بعد ذلكالمقام بيننا، فهو بذلك قد تعاقد ضمناً على أنه لابد فاعل ما نحن به آمرون. فمن عصانا، ونحن ما نحن، فقد أخطأ مرات ثلاثاً: الأولى أنه عصى والديه بعصيانه إيانا، والثانية أننا نحن الذين رسمنا له طريق نشأته، والثالثة أنه قطع معنا على نفسه عهداً أنه سيطيع أوامرنا، فلا هو أطاعها، ولا هو أقنعنا بأنها خاطئة، ونحن لا نفرضها عليه فرضاً غشوماً، ولكنا نحيره، فلما طاعتنا وإما إقناعنا. هذا ما قدمناه إليه، وهذا ما رفضته جميعاً.
تلك هي صفوف المآخذ التي ستقيم من نفسك هدفاَ لها يا سقراط إذا أنت أنجزت عزيمت، كما سبق لنا بذلك القول. ولاسيما أنت دون الآثينيين جميعاً) وهب أني سألت ولم هذا؟ فستجيب حقاً بأنني قد سلمت بهذا الاتفاق دون سائر الناس. ستقول القوانين (إن ثمت لبهاناً ساطعاً يا سقراط، بأننا والمدينة معنا لم نكن لنعكر عليك صفو العيش، فقد كنت أدوم الآثينيين جميعاً مقاماً في المدينة: لم تغادرها قط، حتى ليجوز لنا الفرض بأنك كنت تحبها؛ إنك لم تغادرها مطلقاً لتشهد الألعاب، اللهم إلا مرة واحدة حين ذهبت لترى البرزخ. ولم تفصل عنها لتقصد إلى أي مكان آخر، إلا إذا كنت في خدمة الجيش، ولم تسافر كما يسافر
الناس، ولم يدفعك حب الاستطلاع إلى رؤية الدول الأخرى لتلم بقولنينها، فقد اختصصتنا بحبك لم تجاوز به حدود دولتنا، فكنا نحن أصفياءك المخلين، وقد رضيت بحكمنا إياك. إن هذه هي الدولة التي أعقبت فيها أناءك، وإن ذلك لينهض دليلاً على رضاك. هذا وقد كنت تستطيع لو أردت أن تقرر عقوبة النفي أثناء المحاكمة - وإن كان الآن ثمت دولة تغلق دونك أبوابها فقد كانت حينئذ تسمح بذهابك إليها، ولكنك ادعيت أنك تؤثر الموت على النفي، وأنك لم تبتئس من لموت. ولكن هأنت ذا الآن قد أنسيت تلك العواطف الجميلة، وترفض أن تحترمنا - نحن القوانين، التي أنت هادمها، وإنك الآن لتفعل ما لا يفعله إلا العبد الخسيس، فتولي أدبارك هارباً من العقود والعهود التي قطعتها على نفسك باعتبارك واحداً من أبناء الوطن؛ فأجب لنا أولاً عن هذا السؤال: أنحن صادقون في القول بأنك اتفقت على أن تُحكم وفقاً لنا، بالفعل لا بالقول فقط؟ أهذا حق أم كذب؟ بماذا نجيب عن ذلك يا كريتون، ألسنا مضطرين إلى التسليم؟
كريتون - ليس عن ذلك منصرف يا سقراط
سقراط - أفلن تقول القوانين إذن: (إنك يا سقرط ناقض للمواثيق والعهود التي أخذتها معنا على نفس اختياراً، فما كنت في أخذها عجلان ولا مجبراً ولا مخدوعاً، ولكنك لبثت سبعين عاماً تفكر فيها، وكنت خللها تستطيع أن تغادر المدينة إن كنا لم نصادف من نفسك قبولاً، أو كنت قد رأيت فيما اتفقنا عليه احجافاً بك. كنت في ذك مخيراً، وكان في مقدورك أن ترحل إما إلى لا قيديمون أو إلى كريت اللتين كثيراً ما امتدحتهما لحسن حكومتيها، أو ترحل إلى أية دولة أجنية يونانية أخرى. ولكنك كنت تبدو أكثر من سائر الأثينيين جميعاً، شغوفاً بالدولة، أو بعبارة أخرى، بنا - أي بقوانينها (إذ من ذا الذي يحب دولة لا قوانين لها) فلم تتزحزح عنها قط، ولم يكن العُمى، والعُرج، والمقعدون، بأكثر منك قبوعاً بها؛ وهأنت ذا الآن تفر ناقضاً ما قطعته من عهود. ما هكذا يا سقراط إن أردت بنا انتصاحاً، لا تضع نفسك بهروبك من المدينة موضع الشخرية
(وحسبك أن ترى أي خير تقدمه لنفسك أو لأصدقائك، ان أنت اعتديت أو أخطأت على هذا الوجه؟ أما أصدقاؤك فالأرجح أن يشردوا نفياً، وأن يسبو حق انتسابهم للوطن أو أن يفقدوا أملاكهم. أما عن نفسك أنت، فلو تسللت إلى إحدى المدن المجاورة، إلى طيبة أو ميفاراً
مثلاً، وهما مدينتان تسيطر عليهما حكومة حازمة، فستدخلهما عدواً يا سقراط وستناصبك حكومتناهما العداء، وسينظر اليك أبناؤهما الوطنيون بعين ملؤها الشر لأنك هادم للقوانين، وسيقر في عقول القضاة أنهم كانوا في إذانتهم إياك عدولاً. فأغلب الظن أن يكون مفسد القوانين مفسداً للشبان، وأن يكون بلاء ينزل بالغفلة على بني الانسان.
فلم يبق لديك إلا أن تفر من هذه المدن المنظمة ومن ذوي الفضل من الرجال، ولكن أيكون الوجود حقيقياً بالبقاء على هذه الحال؟
أم أنك ستغثى هؤلاء الناس في صفاقة يا سقراط لتتحدث اليهم؟
وماذا أنت قائل لهم؟ أفتقول ما تقوله هنا من أن الفضيلة والعدالة والتقاليد والقوانين أنفس ما أنعم به على الناس؟ أيكون ذلك منك جميلاً؟ كلا ولا ريب. أما إن فررت من الدول ذوات الحكم الحازم، الى تساليا حيث أصدقاء كريتون، وحيت الاباحية والفوضى، فسيجدون متعاً في قصة عروبك من السجن، مضافاً اليها ما يبعث على الشخرية من التفصيل عن كيفية تنكرك في جلد عنزة أو ما عداه من أسباب التنكير، وعما بذلته من ملامحك كما جرت بذل عادة الآيقين - ليس ذلك كله ببعيد، ولن ألن تجد هناك من يذكرك بأنك وأنت هذا الشيخ الكهل، قد نقضت أشد القوانين تقديساً، من أجل رغبة حقيرة في إستزادة الحياة زيادى ضئيلة؟ قد لا تجد إذا استرضيتهم، ولكن لا تلبث أن تثور منهم سورة الغضب، حتى يصكوا مسمعيك با يجللك عاراً. إنك ستعيش، ولكن كيف؟ - متملقاً للناس جميعاً وخادماً للناس جميعاً. وماذا أنت صانع؟ - ستأكل في تساليا وتشرب، لأنك قد غادرت البلاد لكي تصيب في الغربة طعاماً لغذاءك، وأين ترى ستكون تلك العواطف الجميلة التي تبدلها حول العدل والفضيلة؟ قل إنك راغب في الحياة من أجل أبنائك لتتعهدهم تربية وإنشاء - ولكن أأنت مصطحبهم الى تساليا، فتقضي عليهم بذلك ألا يكونوا أبنء الوطن الأثيني؟ أذاك ما سمنحهم إياه من نفع؟ أم أنت تاركهم واثقاً بأنهم سبكونون أحسن رعابة وتربية مادمت أنت حياً، حتى ولو كنت غائباً عنهم، إذ يعني بهم أصدقاؤك؟ هل تخيل لنفسك أنهم سيعنون بهم ما أقمت في تساليا، أما إن صرت من أهل العالم الآخر، فلن يعنوابهم؟ كلا، فان كان من يسمون أنفسهم أصدقاء، أصدقاءك حقاً، فانهم لاشك معينون بأبنائك
(اضغ إلينا إذن يا سقرا، نحن الذين أنشأناك. لا تفكر في الحياة والأبناء اولاً، وفي العدل آخراً، بل فكر في العدل أولاً، وارج أن تصيب البراءة عند ولاة العالم الأسفل. فان فعلت ما يأمرك به كريتون، فلن تكون أنت ولا من يتعلق بك كائناً من كان، أسعد أو أقدس أو أعدل في هذا الحياة ولا في أية حياة أخرى ، فأرحل الآن بريئاً، مجاهداً لا فاعلاً للرذيلة، ضحية الناس لا ضحية القوانين. أما إن صممت أن ترد الشر بالشر والضر بالضر، ناقضاً ما قطعته أمامنا على نفسك من عهود ومواثيق، مسيئاً إلى أولئك الذين ينبغي ألا يمسهم من إساءتك إلا أقلها، أعني نفسك، وأصدقائك، ووطنط، ونحن، فسننقم عليك ما دمت حياً، وستستقبك قوانين العالم الأسفل، وهي إخوتنا، عدواً، لأنها ستعلم أنك لم تدخر وسعاً في هدمنا. اصغ إذن إلينا، لا إلى كريتون)
هذا هو الصوت الذي كا، ي به يهمس في مسنعي، كما تفعل نغمات القيثارة في آذان المتصوف. أقول إن هذا هو الصوت الذي يدوي في أذني، فيمنعني من أن أستمع الى أي صوت سواه وإني لأعلم أن كل ما قد تقوله بعد هذا سيذهب أدراج الرياح، ومع هذا، تكلم إن كان لديك ما تقواه
كريتون - ليس لدي ما أقوله يا سقراط
سقراط - ذرني إذن أتبع ما تةحي به إلى إرادة الله
زكي نجيب محمود
انتهى الحوار الثاني، وسننشر الحوار الثالث ابتداء من العدد الآتي.
التصوف الأسلامي بقلم سليمان النابلس
توطئة
يدبأ الدين في أول أمره عقائد راسخة ومناسك ثابتة لاتسامح في أوامره ولا هوادة في نواهيه. ثم لا تلبث - بعد أن يتطاول الزمن وتمر السنون - أن تلين العريكة وتأخذ المياسرة مكان المعاصرة فيدب الشك الى العقائد الموروثة والسنن المرعية؛ إذ ذاك يبحث الانسان عن عقيدة تسوي ما بين نفسه وبين الكون تسوية مقبولة يرتضيها العقل ويقرها المنطق، وعندئذ تنشأ الصوفية
والصوفية منحى في الفكر، لا بل في الشعور ويصعب تحديده، يظهر في محاولة العقل الانساني تفهم الطبيعة الروحية لحقيقة الأشياء، ويبرز في بِشر المرء وسروره بنعمة الارتباط الروحي مع الخالق العظيم
معنى لفة صوفي
لقد تباينت الآراء وتضاربت الأهواء في المصدر الذي اشُتقت منه لفظة صوفي، فمن قائل إنها من الأصل اليواني (سوف بمعنى حكمة كما ذكر أبو الريحان البيروني في كتاب الهند، ومن قائل - وهم الصوفيون أنفسهم - من صفا صفاءً. قال أبو الفتح البُستي
تنازع الناس في الصوفي
قدماً وظنوه مشتاً من الصوفِ
ولست أنحل هذا الاسم غير فتىً
صافي فصوفي حتى لُقب الصوفي
وذهب آخرون الى أنها متحدرة من معنى ديني، فينسبونها الى أصحاب (الصفة) وهم قوم من الصحابة كانوا يجلسون على باب المسجد يوزعون الصدقات على الفقراء. على أن الرأي الأكثر شيوعاً والأقرب للعقل والمنطق هو نسبتها الى (صوف) أي الى ظاهر اللباس. فأبو نصر السراج مؤلف كتاب اللمع - وهو أول كتاب ظهر عن الصوفية - يقول:(إن لبسة الصوف دأب الانبياء وشعار الأولياء، فلما اضفتهم الى ظاهر اللبسة كان ذل اسماً مجملاً عاماً. . . .)
وقد أيد العلامة (نوالدكه) هذه النظرية وشاركه في الرأي العالم الانجليزي الشهير (برون وان مما استدل به على ذلك الكلمة الفارسية (باشمينابوش) التي يسمون بها عادة، ومعناها اللفظي (لا بسو الصوف) وجبب الصوف كانت منذ القدم علامة الحياة البسيطة الساذجة
منشأ التصوف الاسلامي
يرجع بنا البحث عن منشأ التصوف الاسلامي الى الحركة الزهدية التي قامت في القرن الأول للهجرة تحت التأثير النفسي العميق المتكشف عن خوف من الله تعالى يوجب التسليم لأرادته سبحانه والانقياد لمشيئته. وعلى هذا يجمل بنا أن نبحث التصوف في طورين مختلفين
1 -
طور الزهد: لم يكن لتصوف في هذا الطور نظاماً فلسفياً ولا مسلكاً دينياً وإنما هو طريقة في الحياة والمعيشة خاصة، تمتاز بالزهد في الملذات والابتعاد عن الدنيا حباً في الآخرة، فهو إذن إسلامي خالص لا أثر للعوامل الخارجية والعناصر الأجنبية فيه من نصرانية ويهودية وهندية وفارسية. ول ما هنالك أنه ظهر في صدرالعصر الأموي جماعة من المسلمين رغبوا عن هذه الحياة الاجتماعية الملأى بألوان اللهو والتهتك والخلاعة، وتطلعوا إلى حياة هادئة وفورة مرضية لضمائرهم التي تتشوق إلى الابتعاد عن صغائر الحياة وسخافاتها مطابقة لعقائدهم التي ما زالت شديدة التمسك بالحياة الاسلامية الخالصة من بساطة وسذاجة. زد على ذلك أن الحياة السياسية كانت قلقة مضطربة، فالفتنة قائمة بين الفرق والشيع، والمعارك مستعمرة بين مختلف القادة والأمراء، كل ينشد جاه الحكم ومجد السلطان غير ملتفت إلى ما يجره ذلك من هدر دماء المسلمين وتشتيت كلمتهم ورجوعهم إلى جاهليتهم الأولى. كل هذه العوامل غدت الحركة الزهدية وبعثت في قلوب بعض المؤمنين الميل عن المادة والانصراف إلى العمل الصالح في نفسه وتذكير الناس بأمور دينهم وعقائدهم. ويأتي (نكلسون) العالم الانجليزي الضليع في هذه الأبحاث فيضيف إلى هذه العوامل عاملاً آخر لا يقل عنها قوة وأثراً، ذلك أن الصورة التي يبرزها القرآن الكريم (للخق) عز وجل هي في نفسها تدعو إلى الخوف والرهبة، فهي صورة إآله جبار شديد البطش سريع العذاب. فالشعور بالخوف من جهنم الذي يكتنف قاريء القرآن يدعو حتماً إلى التصوف والزهد واحتقار لمادة والابتعاد عن سبل الضلال
ومن أهم الشخصيات الممتازة في هذا الدور الحسن البصري الذي عُرف بالزهد والورع والرجوع إلى السنة في بساة العيش وسمو الغاية. ومنهم أبو هاشم الكوفي الذي يقال إنه أول من أطلق عليه لقب (الصوفي) وأسس ديراً للمتصوفين في رملة فلسطين. ثم ظهر ثلاثة نفر فيما وراء النهر في فارس في أواخر القرن الثاني الهجري وهم: ابراهيم بن أدهم وشفيق البلخي وفضيل بن عياض، فنرى عندهم بدء نظام فلسفي، فهم يمثلون دور الانتقال من حياة الزهد إلى نظام التصوف الفلسفي، ولعلهم كانوا عاملين على الامتزاج بالتعاليم الهندية الفارسية لقرب موطنهم من هذه البلاد التي كانت تتفاعل فيها هذه المباديء المختلفة. ويظهر ذلك بجلاء عند الزعيمة المتصوفة رابعة العدوية التي كانت كما يقول
نكلسون أول من أدخل نظام الحب الفلسفي والوجد والاتحاد بالله بدل الخوف والرهبة
2 -
اطور الثاني: التصوف الفلسفي
لقد أخذ التصوف في هذا الطور شكلاً فلسفياً ونظاماً مستقراً في الدين يميل العلماء إلى نسبته إلى عوامل خارجية من نظريات فلسفية وأديان أخرى. فمن ذلك:
أ - المصدر الهندي: يعتقد بعضهم أن لهذا التشابه بين كثير من العقائد الصوفية في صورها الراقية الناضجة وبين بعض النظم الهندية وعلى الأخص الـ أساساً واحداً ونبعاً مشتركاً يجب أن يبحث عنه في الهند، فان معظم المتصوفة الاول نشأوا في خراسان وظهرت فلسفتهم الصوفية فيها؛ ولعل مبدأ الفناء الذي يندمج فيه المتصوف بالله ويفقد شخصيته الفردية، مستمد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عقيدة (النارفانا الموجودة في الديانة الهندية
ب - المصدر النصراني: يعتقد المتصوفة أن غاية كل الأديان واحدة، وأنها كلها تصل بالأنسان الى الهدف المقصود والغاية المرجوة، فليس إذن أن يحتك المتصوفون بالرهبان السيحيين، ويمزجوا بهم فيظهر أثر ذلك في تعاليمهم وأنظمتهم، خصوصاً وقد ظهرت هذه النزعة التنسكية الزهدية في الكنيسة المسيحية في القرنين الأول والثاني للهجرة
ج - الافلاطونية الجديدة: ظهر هذا النظام الفلسفي في أوائل القرن الثالث المسيحي على يد (أمونياي ساكاس) وبلغ أوجه في زمن تلميذيه بلاتينيوس وفرفوريوس النحوي شارح تعاليمه. وإذا ما دققنا في تعاليم هذا المذهب الأدبية رأيناها تؤدي حتماً الى التصوف، إذ يعلم أن طريق الخلاص هو بالتجرد التام عن المادة، وأنفصال النفس عنها؛ بذلك يتصل الانسان (بالعقل الأول) اللفظ الفلسفي للحق سبحانه، وينال الغبطة التي يعبر عنها المتصوفون بالفناء. لقد انتشرت هذه التعاليم الفلسفية في العالم الاسلامي، وكان أثرها في الفلاسفة المسلمين واضحاً جلياً
د - فلسفة المعرفة جماعة هذا النظام الفلسفي الذي نشأ بين القرنين الأول والسادس للمسيح يعتقدون أن الايمان وحده لا يكفي للخلاص، بل إن المعرفة هي متممة. ويعنون بهذا أن يعرف المرء أنه من عنصر إآلهي، وأنه لابد أن يرجع في نهايته إلى هذا العنصر الذي نشأ منه، حينذاك وعندما ينغمس في هذا الاعتقاد تخلص نفسه من شوائب المادة
ويقرب من الله. وقد انتشر هذا المذهب في العراق وفارس وتأثر بالمانوية وأثر فيها فأخذت منه عقيدة الظلمة والنور. أما إنه أثر في العقائد الصوفية فانا نلمس هذا في القول بأن الانسان يُخلق إلهياً، وكلا تقدم في العمر خلع حجاباً إلهياً واستبدا به آخر إنسانياً إلى أن يمر بسبعين ألف حجاب في أرذل العمر. ولا نجاة له إلا باتباع التعاليم الصوفية والانصراف عن المادة إلى الروح، بذلك يسلك طريق النجاة
هذه أهم المؤثرات الخارجية التي عملت على تغذية العقيدة التصوفية الاسلامية وخلقت منها طريقاً فلسفيً خاصاً. وليس من المستطاع رد كل من العقائد التصوفية الفردية الى أصلها الذي استُمدت منه، فعقيدة في مثل هذا الانتشار العظيم ذات مباديء كثيرة ونظم واسعة لايمكن أن تقع تحت تأثير عامل واحد مهما حل شأنه واتفقت الظروف على تقدمته والميل اليه.
كانت الصوفية دائماً مخيرة تنتقى من كل العقائد ما تستهي وتشاء. نظام شامل يمتص ويهضم - بعد بعض تغيير وتحوير - من كافة الآراء والمعتقدات المختلفة حوله، يكتسب أناساً من كافة الملل والنحل من موحدين ومشركين، معتزلة وسنيين، فلاسفة ورجال دين. هذه الاعتبارات كلها تضعنا في موقف دقيق يضطرنا الى القول بأن منشأ الصوفية الاسلامية الفلسفية لايمكن أن يجاب عنه بجواب شاف مريح
(يتبع) سليمان فارس النابلسي
في تاريخ الأدب المصري
ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أفديه إن حفظ الهوى، أوضيعا
…
ملك الفؤاد؛ فما عسى أن أصنعا
من لم يذق ظُلم الحبيب كظلمه
…
حلواً فقد جهل المحبة وداعى
يأيها الوجه الجميل تدارك الصبر
…
الجميل، فقدعفا، وتضعضعا
هل في فؤادك وحمة لميتم
…
ضمت جوانحه فؤاداً مًوجعاً
هل من سبيل أن أبث صبابتي
…
أوأشتكي بلواي، أو أتوجعا
إني لا ستحيي كما عودتني
…
بسوى رضاك إليك أن أتشفعا
أغنية شائعة، نستمع إليها، ونطرب لها، ونحفظها، وقليل من هو الذي يعرف أن قائلها أبن النبيه الشاعر المصري الذي أحببنا أن نحدثك عنه اليوم
- 1 -
يذر التاريخ ولاينسى لصلاح الدين وخلفاء صلاح الدين أنهم
هم الذين حموا ذمار الشرف من غارة الأوربيين الذين كانوا
يمنون النفس بالآمال الكاذبة في الشرق وامتلاك أرضه، فكان
العصر عصر حرب وقتال ونضال ونزال بين الشرق
والغرب، خرج منه الشرق ظافراً منتصراً على أيدي ملوك
مصر وخلفائهم. ولقد ولد شاعرنا على ما يظهر قبل أن يلي
صلاح الدين حكم مصر بقليل، ولنه نشأ لم يعش بمصر طوال
حياته، بل تركها إلى أقطار أخرى كانت كذلك تحت حكم
الأيوبيين؛ غير أنه على ما يظهر لي - لم يغادر الديار
المصرية مرة واحدة، بل كان يزورها في الحين بعد الحين،
واستطاع أن يتصل فيها بطائفة من وزراء الدولة وكبار
رجالها القاضي الفاضل، وأسعد بن مماتس، وصفي بن شكر.
والراجح عندي أنه لم يغادر مصر إلا بعد أن مات صلاح
الدين، فانه حينما خرج من مصر مدح العادل، والعادل لم بل
حكم الجزيرة إلا بعد أن مات صلاح الدين، ولذلك فابن النبيه
مدين لمصر بتنشئته وثقافته، ومدين لها بالرقة والعذوبة التي
تتجلى في شعره، وتأسرك إلى قراءته قسراً، غير أن نفسه
الطموح الراغبة في العظمة والمجد بدأت تتطلع إلى نيل
مركز سام ومنصب رفيع، ورأى أن في مصر من العظماء
من لا يستطيع قهرهم ولا منافستهم، فحث الخطا إلى الجزيرة
حيث يستطيع أن يجد له ميداناً للعمل والتقدم، فاتصل بالملك
العادل، ومن بعده اتصل بابنه الملك الأشرف الذي كان يلقب
بشاه أرمن لاستيلائه على بلاد الأرمن، وقد اختص بهذا
الاخير، حتى إنك إذا قلبت ديوانه وجدت معظمه في مدحه
والثناء عليه، وحتى لتوهمك مقدمته أنه إنما جمع قصداً لكي
يجمع ما قاله في الملك الأشرف من مدائح، ولقد أصبح أثيراً
لديه يستصحبه في رحلاته وتنقلاته، وأصبح ابن النبيه اللسان
المسجل لما يلقاه المليك من خير أو نصر أو حداث هام؛ ،
صار كاتب الانشاء له، يدبج عنه الرسائل، وأحياناً كان يكتبها
بالشعر كما سنتحدث بعد. ويقول من أرخ لأبن النبيه: إن له
شعراً أعذب من الماء الزلال، وأغرب من السحر الحلال،
ونثراً ألطف من كاسات الشمول، وأدق من نسمات الشمال،
فالنظم والنثر عنده جنتان عن يمين وشمال. . . غير أننا
سنقصر كلامنا اليوم على شعره، وإن كنت أرجح أن المقدمة
التي في صدر ديوانه، وهي مقدمة نثرية من صنع ابن النبيه
فان منها قوله: وأحق الناس بعد الله تعالى بالشكر ملك أشار
اليه بنان البيان، وأينع بذكره جنان الجنان، وقلد بذكره
القريض فزان الأوزان، عف وعفا، وكف وكفى، وأحيا رفات
الوفا، فزمان دولته غض الغضارة، نض النضارة، حلو
البشارة، بديع الاشارةن المولى السلطان الملك الأشرف شاه
أرمن، سلطان العراق والشام، مظفر الدين ناصر أمير
المؤمنين، أبو الفتح موسى اين السلطان الملك العادل سيف
الدنيا والدين، أبي بكر بن أيوب خليل أمير المؤمنين، خلد الله
ملكه كما خلد في ديوان المحامد ذكره، وخذل بسلطانه أعداء
الدين، وأعز نصره، ولما لم يجد مملوك دولته، وغرس
فواضله، وربيب نعمته، الفقير إلى الله تعالى أبو الحسن كمال
الدين علي بن محمد بن النبيه ما يكافيء به أياديه، ويجاري به
إحسانه الذي يخجل الغيث روائحه وغواديه، توفر على
استخراج جواهر صفاته من بحر كرمه، ونظم فوائد فوائده
فكافأ نعمه بنعمه، وجمعها في هذا الكتاب معترفاً أن الشرف
للجوهر لا للناظم، وأن الفضل للبحر الذي أرسل اليث على
أجنحة الغمائم، وجعله عرضة لنقد الخواطر، وميداناً لجولان
قريحة كل متأمل وناظر، وسبيل كل منصف ينظر فيه الايمان
بآيات سحره المبين، إقالة العشار فيما لعله يعرض من الخطل
الورد على المؤلفين والمصنفين، وليعفوا وليصفحوا، ألا
تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم. فاذا أنت قرأت تلك
المقدمة من قلم ابن النبيه، واستنبطت منها أموراً أربعة: أولها
أن القصد من جمع الديوان تسجيل ما قاله في الملك الأشرف،
ولذلك رتب الشعر، فبدأ أولاً بما قاله في الملك العادل والد
الأشرف، ثم ثلث بما قاله في الملك الأشرف، وهو معظم ما
قاله من الشعر، ث ذكر ما قاله في غيره من أمراء الأيوبيين
والوزراء. ثانيها أن الشعر الذي في ديوان ابن النبيه شعر
يقره ويرضاه ويعده سحراً ويفخر بنسبته إليه، ومن أجل ذلك
ترى من أرخ له يقول: إن هذا الشعر الذي بين أيدينا ليس
بكل شعره وإنما هو اختيار منه، مستدلين على ذلك بأنه شعر
بارع جيد يدل على أن صاحبه قد مرن على قول الشعر طويلاً
حتى انقاد له، وأصبح ذلولاً، فحذف منه ما لا يرضي وأبقى
منه هذا الديوان الصغير، الذي اشتمل على جيد شعره (وإلا
فما هذا شعر من لا نظم إلا هذا الديوان الصغير) كما قال
صاحب فوات الوفيات، على أنه على ما يظهر لم يجمع ديوانه
كله، إذ أنك ترى في آخر ديوانه بعض شعر وقصائد ألحقها
به جامع الديوان بعد ابن النبيه. ثالثها أن شعر المدح يجب أن
ينبعث عن عاطفة حية هي عاظفة الشكران وحفظ الجميل،
وهو يرى أن المدح لذلك واجب لأنه شكر للنعم على ما أنعم،
وشكر المنعم أول الواجبات قال. . . إن شكر كل منعم
واجب، وقام على ذلك دليل انعقد عليه إجماع أئمة المذاهب،
وذل يدلنا على أنه حقاً من ممدوحه حس الصنيع وأيادي جمة
استحق من أجلها أن يشكر وأن يثنى عليه. رابعهما أن تلك
المقدمة تعتبر نموذجاً لنثره، وهي لذلك تستطيع أن تعطينا
صورة عن هذا النثر الذي دبجته براعة ابن النبيه، فهو نثر
صناعي يلتزم فيه السجع، ويكون لصناعة المحل الأول في
إنشائه، شأنه في ذلك شأن كتاب النثر في ذلك العصر الذي
حمل لواء الزعامة فيه القاضي الفاضل ون نهج منهجه، فلا
جرم كان نثره صناعياً خاضعاً لأحكام البديع وقوانيينه، هذا
وإن شعره ونثره وتوليه أعمال الانشاء للملك الأشرف تدلنا
على نوع الثقافة التي تلقاه حتى هيأته لتولى ديوان الانشاء
فهو علوم الدين واللغة العربية تل العلوم التي كان لزاماً أن
يأخذ منها بحظ وافر يساعده على تولي هذا المنصب، ولقد
تلقى هذه الثقافة بمصر، إذ أننا قد رجحنا أنه لم يغادر وادي
النيل إلا بعد موت صلاح الدين، فيكون قد شب وترعرع في
أرض مصر، والثقافة المصرية كانت زعيمة الثقافات، كما
كان ملوكها زعماء الملوك
- 2 -
لأبن النبيه مذهب في الحباة يشبه مذهب غيره من شعراء مصر أو على الأقل شعراء مصرر الذين درسنا أقوالهم، ذلك المذهب الذي ينظر إلى الحياة نظرة من يريد التمتع بما فيها من خير وجمال، لا يصدف عنه، ولا ينأى بجانبه عن حسنه وما كمن فيه من أسباب السرور والمتعة، فهو يوقن أن الدنيا متقلبة، فهي جيناً ضاحكة، وأحياناً عابسة، فما له يعكر على نفسه صفوها حينما تكون صافية، وما لا ينتهز الفرص وينال اللذة؟
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنماً
…
وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلي أوائله
…
لكنه ربما مجت أواخره
واجسر على فرض اللذات محتقراً
…
عظيم ذنبك، إن الله غافره
وكان لهذا المذهب آثاره الكبرى في حياته العملية، فهو يحب الخمر ويطرب لشربها، ويترع الكأس ويروي بها ظمأ نفسه، وهو يهفو الى السقاة يتغزل فيهم، ويصف محاسنهم، وقد كان السقاة يُختارون من أجمل الفتيان وأصحبهم؛ بل إنه يهفو الى كل وجه جميل، ولو
كان وجه جندي من الكماة، وهو يحن الى مجالس الأنس يسعى إليها ويدعو صحبه ليشاركوه لذته، وهو يأنس الى الطبيعة يحب جمالها، ويغرم بمفتنها فيصفها، وهو يجد لذة في الخروج الى الصيد يخرج الى اللاة مع رفقة حسان الوجوه، ثم يعود بما وقع في يده من صيد، وذك كله نتيجة لهذا المذهب الذي اختطه لنفسه، وكان شعره صورة حية له، فأنت تسمعه يصف الخمر ويقول:
تأمل كؤس عتيق الرح
…
ق ترى الماء يجمد والخمر ذائب
لما في الزجاجة رقصالشب
…
اب ومفرقها أشمط اللون شائب
وترعد غيظاً إذا أبرزت
…
من لدن كالمحصنات الكواعب
كأن الحباب على رأسها
…
جواهر قد كللت في عصائب
لحمرتها صح عند المجو
…
س أن السجود الى النار واجب
وسصف موطن نال فيه السرور من الخمر والساقي ويقول:
رق الزجاج وراق كأس مدامنا
…
ورضاب ساقينا الأغن الأهيف
فمزجت ذاك بهذه وشربتها
…
ولثمته، وضممته يتلطف
وجنيت من وجناته لما استحى
…
وردا بغير رضا بنا لم يقطف
ورنا الى بطرفه فكأنما
…
أهدي السقام لمدنف من مدنف
بتنا وقد لف العنق جسومنا
…
في بردتين: تكرم وتعفف
ويقول مرة أخرى متغزلاً بالساقي وكأن من الأتراك:
ساق أن جبينه في شعره
…
قمر تبلج في الليالي السود
غصن تزنح خصره في ردفه
…
فعجبت لمعدوم في الموجود
إياك والأتراك إن لبعضهم
…
أشخاص غزلان وفعل أسود
أجسامهم كالماء أنها
…
حملت قلوباً من صفا الجلمود
وتسمع منه غير ذلك كثيراً في وصف الخمر وسقاتها والتغزل فيهم؛ ولعل بعضهم لامه على شرب الخمر أو على الاثار من شربها فقال له:
الراح روحي، فكيف أهجرها
…
منظرها طيب ومخبرها
راح إذا ما الفقير صافحها
…
إغناه ياقوتها وجوهرها
فاذا ذهبت تستمع الى حبه للطبيعة وغرامه بها سمعته يقول:
قس بالسماء الأرض تعلم أنها
…
بكواكب الأزهار أحسن زخرف
أحداق نرجسها لحد شقيقها
…
مبهونة بجماله لم تطرف
والطل في زهر الاقاح كأنه
…
ظًلْك ترقرق في ثنايا مرشف
وهو إحساس طيب وشعور حميد يوجه نظرك إلى أن في الأرض جمالاً قد تزيد قيمته عما في السماء من نجوم وكواكب، فليقبل على الزهوز يتمتع بمرآها، ويستلذ بشميم رياها وينعم بجمالها - كا كان له - كما حدثتك - لذة خاصة في الصيد حينما يخرج مع جماعة (حسان الوجو) فيصطادون ويتمتعون وهو يصف لك ذلك في قوله:
برزنا الى الهو في حلبة
…
حسان الوجوه خفاف المراب
بنادقهم في عيون القسي
…
كأحداقهم في قسي الحواجب
فتلك لها طائر في السما
…
وهذي لها طائر القلب واجب
وحلت سوابق شهب خو
…
طفُ حجْن المناسرُ المخالب
بزاة لها حدق الأفعوا
…
ن وأظفارها كحماة العقارب
فللأفق نسران: ذا واقع
…
وذا طائر حذر الموت هارب
وألق كلابنا ضارياً
…
يباري هبوب الصبا والجنائب
تطير به أربع كالريا
…
ح ويفترض عن مرهفات قواضب
ويضرب في ليل جلبايه
…
شعاع شهاب من العين ثاقب
وعدنا نجر ذيول السرو
…
ر والطير والوحش ملء الحقائب
ألا تراه يصف لك رحلة شقية؟ إذ انه قد خرج مع جماعة حسان الوجوه يقصدون اللهو والتمتع فاختاروا الصيد ملهى لهم فخرجوا يبغونه، ولكنه قبل أن يصف لك ما فعلوه في رحلتهم مضى يحدثك عن جمال رفقته وأن عيونهم كالسهام تصيب القلوب وتدميها، فأحداقهم البنادق هذه هدفها طائر في السماء، وتلك يجب لها طائر القلب ويخفق
ذهبوا الى مكان الصيد فأطلقوا بزاتهم وكلابهم فانطلقت لاتلوى على شيء تصطاد ما عن لها، وبعد أن وصف لك بزاتهم وكلابهم التي كانت عدتهم طمأنك على نتيجة الرحلة وأنها أنتجت نتيجتها فعادوا يجرون ذيول السرور والطير والوحش ملء الحقائب
هذا وكان أكبر شيء يسره مجلس أنس يجمع بين روضة فيها مختلف الأزهار والورد حف بها نهر، وهناك بين أصحابه يجلس مغن يطرب السامع ويملك عليه نفسه، ثم تدور المدام في يد ساق جميل فيسكر سكرين من الخمر والجمال الساقي. وقد وصف ذلك المجلس حينما أرسل الى أحد أصحابه يستدعيه إذ قال:
نحن في روضة وزهر ونهر
…
ومدام كالشمس من كف بدر
ومغن قد راسلته الشحار
…
ير، فأغنت عن جس عود وزمر
أنت روح، ونحن جسم فان غب
…
ت فان القلوب تكوى بجمر
إن كفا إليك قد كتبتها
…
تتهادى ما بين سكر وشكر
فأنت ترى من كل ما ذكرناه أنه كان يذهب في الحياة مذهب الذين يريدون أن ينالوا منها كل متعة ولذة، يلتمسونها في كل مكان، وترى أن مثله الأعلى في الحياة كان أن يتمتع بها، ولا يضن على نفسه بشيء من مباهجها، وكله ثقة في أن الله سوف يغفر الذنوب جميعاً
(البقية في العدد القادم (احمد أحمد بدوي
6 -
بين القاهرة وطوس
نيسابور
للدكتور عبد الوهاب عزام
برحنا سبزوار والساعة ثمان من صباح الخميس ثاني رجب سنة 1353 (11 أكتوبر سنة 1934) فضربنا في السهل صوب الشرق نصف ساعة. ثم ارتقينا جبلاً هبطنا منه الى سهل فسيح، وهذا رأينا إيران ما بين قصر شيرين وطوس، سهولاً تحيط بها جبال، فما يزال المسافر على جبل او في سهل يفضي البصر فيه الى جبل حيثما توجه. هبطنا سهلاً كثير الشجر والزرع، قد انتثرت القرى في أرجاعه، تحيط بها الأشجار الباسقو، ورأينا زروعاً شتى منها البطيخ والقطن. ورأينا لوز القطن قد تفتح، ولما تعدُ الأعوار ذراعاً
وبعد مسيرة وربع من سبزوار، نزلنا بقرية على الطريق اسمها شوراب، فأكلنا من عنبها واستراحنا قليلاً. ثم استأنفنا السير تلقاء نيسابور والقلوب يملؤها الشوق، والفكر يستجمع ما وعى من أحادديث التاريخ عن المدينة العظيمة ذات المياه والقرى والأشجار - المدينة ذائعة الصيت فب العلم والأدب التي نشأت علماء يفتخر بهم المسامون على الأدهار، بلد
مسلم بن الحجاج صاحب الصيحي، والحاكم المحدث الكبير، وأبي القاسم القشيري صاحب الرسالة، ومحيي الدين النيسابوري الفقيه، وفريد الدين العطار وعمر الخيام - المدينة التي يقول فيها الخيام
شراب نشابور وآب دبير
…
جواني كند كرخورَد مردبير
وترجمته (شراب نيسابور وماؤ ذبير يردان الشيخ الى شبابه)
ويقول الانوري:
حبذا شهر نشابوره درُبشت زمين
…
كربهست است همين است وكرنه خودنيست
وترجمته (حبذا مدينة نيسابور! إن يكن على ظهر الأرض جنة فهذه، وإلا فلا جنة)
نيسابور مدنية أزلية، يرى الفرس أن بانيها طهمورث ثالث الملوك البيشداديين، وأن اسكندر الكبير خربها ثم عمرها شابور الملك الساساني فسميت باسمه. وقد عرفها اليونان القدماء وسموها نيسوس. ويقال إنهم باكوس إله الخمر ديونيسوس أي إلة نيسابور
وقد تعاقب عليها البُناة من الساسانيين والعرب والغزنويين والسلاجقة كما توالت عليها النوائب من الزلال والغارات في عصور شتى. أصابها زلزال عظيم سنة نيف وخمسائة من الهجرة وسنة 666 وسنة 801. ودمرها الغُز سنة 548 حين غلبوا السلطان سنجر السلجوقس وأسروه. وهي المصيبة التي نظم فيها الأنوري الشاعر الفارسي قصيدته المعروفة (دموع خراسان) ولكت المدينة على رغم هذه المصائب كانت في معظم العهد الاسلامي قبل التتار عامرة مزدهرة حتى سميث أم البلاد وقبة الاسلام
وقد رووا في عمرانها ونضرتها ما يستبعده العقل. فمن عجائبها الاثنى عشرية أنه كان بها اثنا عشر نهراً تنحدر من الجبال، واثنا عشر مائة مدرسة (أي ألف ومائتان) واثنا عشر مائة قرية، واثنا عشر ألف قناة تجري من اثني عشر ألف ينبوع
قال ياقوت وهو ممن أدركوا غارات التتار:
(وأصابها الغز في سنة 548 بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان، وقدموا نيسابور، وقتلوا كل من وجدوا، واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف، وخربوها وأحرقوها، ثم اختلفوا فهلكوا. . . واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فتقل الناس الى محلة منها يقال لها شاذباخ وعمرها وسودها، وتقلبت بها أحوال
حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيراً وأهلاً وأموالاً لأنها دهليز المشرق، ولابد للقوافل من ورودها.) وقال بصفتها قبيل غارة التتار:(وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات) وقال: (لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها)
ثم كانت القارعة التي دمرت حضارة الاسلام - كارثة التتار - فأحرقوا وهدموا، وقتلوا وسبوا وسلبوا، وتركوها خاوية على عروشها، ولم تنسها المصائب من بعدُ، فقد أغار عليها الأزبك وغيرهم في عصور مختلفة
ذكرنا هذه الخطوب ونحن قادمون على نيسابور، ولكن خيال المدينة الكبيرة المزدهرة المزدحمة بمساجدها ومدارسها كان يغلب علينا فنمنى النفس برؤية نيسابور في زينتها وجلالها
وردناها والساعة عشر وثلث فأبصرنا إلى يسار الجادة قرية هي بقية الأحداث من نيسابور، كما يبقى من الجنة الناضرة عود يابس، أو من الرجل العظيم قبر دارس
ماتت المدينة فلم يبق إلا أن نزور قبرها فيما بقي من قبور أبنائها، فها نحن أولاء نسرع المسير إلى قبر عمر الخيام. وقفت بنا السيارات بعد قليل على حديقة بعيدة من البلد فدخلنا بستاناً كبيراً تتوسطه طريق واسعة، فهبطنا درجات إلى مستوى سرنا به خطوات، وهبطنا إلى مستوى آخر، وبجانبنا قناة تنحدر إلى المستوى الأسفل فتفضي إلى حوض في وسط الطريق. وتنتهي الطريق إلى مسجد صغير جميل نقشت على بابه آيات من القرآن، واسم الشاه طهماسب الصفوي الذي بناه. وفي المسجد ضريح لأحد أبناء الأئمة من آل البيت النبوي رضي الله عنهم، واسمه محمد المحروق وينتهي نسبه إلى زين العابدين علي بن الحسين
وإلى يمين المسجد مصطبة لها درجات قليلة ولها سياج من الرخام وفي وسطها عمود كتب على أوجهه أبيات من الشعر. فهذا قبر عمر الخيام. وقد سمعت ممن زاروا القبر قبلاً أنه كان في طاق في جدار المسجد (وفي جدار المسجد على جانبي الباب طاقان) ثم نقل إلى هذا الموضع
لم يعجبنا قبر الخيام، فقلت لوزير المعارف، كان ينبغي أن تكون بجانب القبر أشجار تتهدل أغصانها عليه، وتنثر الأزهار فوقه كما وصف الخيام قبره قبل موته، وكما رآه نظامي
العروض بعد موت الخيام فوجوده مصدقاً لما قال. قال نعم. لابد أن يكون كما وصفت
كتب على صفحة من العمود: (الحكيم عمر الخيام - وفاة الحكيم سنة 517 هجرية -) وفوق ذلك رباعية من نظم ملك الشعراء بهار ترجمتها: اجلس إلى قبر الخيام واقض الوطر، واتبغ فراغ ساعة من غم الأيام. إن تسأل عن تاريخ بناؤ مرقده فهو (أطلب سر القلب والدين من قبر الخيام)(رازدل ودين وقبر خيام طلب)
وعلى الصفحة الثانية رباعيتان ترجمتها:
عاد السحب يبكي على العشب الأخضر، فلا ينبغي العيش
بغير الخمر الحمراء. هذا المرج مسراح أبصارنا اليوم فليت
شعري من يسرح بصره غداً في أعشاب قبورنا؟
نحن لُعَب، والفلك بنا لاعب، حقيقة هذه لا مجاز فيها، كنا لاعبين على نطع هذا الوجود، فعدنا إلى صندوق العدم واحداً بعد آهر
وعلى الصفحة الثالثة رباعيتان:
ظهر بحر الوجود من الخفار، وما استطاع أحد أن يثقب جوهرة الحقيقة هذه، كل تكلم بما يهوي، وما قدر احد أن يبين عن الحقيقة
ليس عندنا يقين ولا حقيقة، ولا يستطاع تزجية العمر كله في رجاء هذا الشك، هلم نأخذ اقداح الصهباء بأيدينا لا نضعها، ما فرق الصاحي والسكران في عذه الجهالة؟
وعلى الصفحة الرابعة رباعيتان:
أولئك الذين كانوا بحار الفضل والآداب، وصاروا في كمالهم مصابيح الأصحاب، لم يجدوا للخروج من هذا الليل المظلم طريقاً، فحدثوا بالأساطير ثم أخذهم النوم
إن هذا الدوران الذي يتجلى فيه مجيئنا وذهابنا، لا تستبين له بداية ولا نهاية، ولايستطيع أحد أن يخبر صادقاً من أين جئنا وإلى أين نذهب)
ووراء قبر الخيام مزهرة جميلة كتب على أرضها بألوان النبات: (حكيم عمر خيام)، ورأينا بجانب القبر خابية، كأن واضعيها رأوا مناسبة بينها وبين قبر الشاعر الذي كان مستهتراً بالخمر. وقرأت على هذه الخابية أنها موقوفة على مسجد إمام زاده محمد المحروق. فقلت
قد وضعت في غير موضعها، وقُرنت بما هي منه براء
وقد مُدَّ وراء قبر الخيام رواق كبير وضعت فيه كراسي للجلوس ومدت فيه موائد الطعام
استراح الوافدون قليلاً واجتسوا ما شاءوا من أصناف الشراب ثم وقفوا يشربون على ذكر الخيام، قلت بئس ما ذكرتم صاحبكم! وانتبذت أنا وزميلي الأستاذ العبادي جانباً وتركنا القوم وخيامهم. وقلت لبعض رفقائنا الايرانيين أين قبر العطار؟ فلابد لقادم نيسابور أن يزوره، فيسر لنا المسير اليه فذهبت أنا وبعض الحاضرين إلى قبر العطار. سارت بنا السيارات في طريق غير معبدة فانتهينا إلى حديقة ذابلة الشجر والزهر، وفي وسطها بنية ثمانية عليها قبة، ولجنا الباب خاشعين إلى قبر عال عليه كسوة خضراء، وإلى رأسه عمود أسود أطول من القامة قليلاً عليه آية الكرسي وأبيات في مدح الشيخ فريد الدين العطار.
لبثنا برهة في حضرة شيخ الصوفية الجليل، والشاعر المفلق المكثر الذي نظم زهاء ثلاثين منظومة فيها أكثر من ألف ألف بيت - ناظم منطق الطير، وإلهي نامه، وأسرار نامه، وجوهر الذات الخ ومؤلف خاشع، والذكرى الجليلة آخذة على النفس آفاقها وهنا لطيفة لا يسعنب إهمالها
بينما أرخج من باب حديقة العطار أحسست بوخزة في كفي فظننت زنباراً لسعني، فأخبرت رفيقي الشاعر الشاب النابغة رسيد الياسمي فضحك وقال: قبلت الزيارة. قلت: لاغرو أن تكون وخزة من العطار ينبهني بها من الغفلة. ألم يقل معاصرو العطار: (إن شعره سوط السالكين)؟ قال بلى. ثم ارتجل بيتاً فارسياً
نيس عطار است اين، زنبور نيست
ر تحمل ميكني زو دور نيست
(خذه حمة العطار لا حمة الزنبار، فان تحملت فهو أهل لذلك)
فاجبته على الفور:
لسع الزنبار كفي عادياً
…
ودواءً كان شعر الياسمي
ولما قدمنا مشهداً جاء الى شاعرنا النابغة وقد نظم أبياتاً كثير في هذه الواقعة أترجمها نثراً فيما يلي معتذراً اليه من هذه الترجمة المرتجلة التي لا تفي بشعره السلس، ومعتذراً الى القراء عم فيها من مدح:
جاء عزام من أرض مصر لمختارة الى نيسابور من أرض
إيران، فأراد أن يقبل تربة العطار إذ ملأت محبته روحه،
وذهب بدءاً الى مرقد الخيام فرأى مكاناً ناضراً زاهراً، وسمع
صيحات الطرب، ورنات الكؤوس من كل جانب، ورأى
القلوب تفور بناز الصهبا. قال عزتم: أيها القلب دع بساط
الشراب والسرور، واعجل الى العطار ذلك الشيخ الوقور،
فسلك الصحراء رجل الطريق هذا حتى رأى قبراً عليه حجر
أسود، فلثم سدة العطار وطاف في هذه البقعة المباركة. ثم
صاح بغته وقال مضطرباً قد أصاب كفي زنبار. قال له
الياسمب: يا عالم مصر! بل يا أيها الدر المتلألئ في بحر
مصر!
(هذه حمة العطار لالسعة الزنبار، فان تتحمل فهو لذلك أهل)
حمة العطار توقظك حتى لا تخلو لذة من ألم إن تبتغ الحبيب فلابد من السعي الجاهد، وإن ترد اللذة (نوش) فلابد من الحمة (نيش). إن تكن ذقت حلاوة الخيام، فوخزة العطار خير يا عزام
من يجزك يوقظك من الغفلة، ومن ينعمك يدعك في غمرة. وخزة اليقظة تبعدك من الضلال، واللهو ينأي بك عم السداد، وانبعثت حينئذ من هذا الجدث صيحة بينة مفصحة وعتها أرواحنا:
(يا من اختلط وجوده بالعدمن وامتزجت لذته بالألم!
إذا لم يتداولك الهبوط والصعود، فكيف تعرف نفسك في هذا الوجود)
وجعنا من العطار الى الخيام فذكرت في الطريق قول حافظ الشيرازي. . . .
(يتبع) عبد الوهاب عزام
البعث
بقلم فريد عين شوكه
إلى مهد الرسالة في عامها الثالث
تحية عيد الوكن وعيد الميلاد
سَلَاماً فِتْةَ الوطنِ المفَدى
…
وأَشْبال الفراعِنَةِ القُدامي
دَعَتْ مصرُ العزيرةُ فالتففتمْ
…
جُنوداً حَوْلَ رايتها قِياما
وأشعَلتُم بها رُوحاً فَتياً
…
يُكشفُ عن جَوَانبها الظلاما
وكان بقلبها جرح تَنزى
…
وأرهق جسمها المُضْي سقاما
فَمسته أناُلكم فأغْفى
…
وكاد اليومً يلتئمُ الْتِئاما
ألستمْ خَيرَ مَنْ يحنُو عليها
…
إذا ما الروع لج بها احتداما؟
شَبابَ النيل مصرُ إليك تشكو
…
بَنِينَ تفننوُا فيها اجْنِرَاما
فكانوا الجُند للباغي عليها
…
وفي أيدي الدخيل بها حُساما
يُمزق شَملها بدَداً ويُوهي
…
حَنايَا جسمها الواهي كُلَاما
وكم في مِصْرَ من أبناءِ سُوءٍ
…
أضاعُوها وما حَفَروا الذماما
فكالُوها عَذَاباً واضطهادا
…
وسامُوها سِباَباً واتهاما
وعاثُوا في نواحيها فساداً
…
احبتْ دونه الموتَ الزواما
وعَبوا كل موردها اخْتِلاساً
…
وما عَرَفَتْ نفوسُهمُ احتشاما
أولئك شرُّ من وَلَدَتْه مصرٌ
…
فجازاها عُقُوقاً وانتقاما
أولئك داؤهِا يَفْرِى حَشَاها
…
وَيُرْهق صدْرَها نُوَباً جِساَما
مُصاَبُ النيلِ أبناءٌ رَعاهم
…
ليغْدُوا في كِنَنَتِه سِهاما
فكانو مِعْوَلَ العاَدِي عليه
…
وباتوا فيه حرباً لا سلاما
سليل النيل وَيْحَكَ كيف تَغْفوٌ
…
وَقَدْ نَخَر الفساَدُ بك العظاما
أترضي أن تَذَل بأرضِ مصرٍ
…
ويصبحَ عُودُك النادي حطاما
ونيلُ ما أحَن تَرَاه مهداً
…
وأشهىَ عذْبَ مورده مُداما
وأرضُك جَنةٌ شفتْ سماءً
…
وطابَتْ مَمبتاً وزَكتْ مُقاما
تُدرُّ على الأجانب ما أرادوا
…
وتلقى أنتَ صبيها جَهاما
وكم من أَجْنَي جاء يسعى
…
إليها ليس يمتلك الرغاما
فينهل ورْدّها العذب المُصفى
…
وَيلتهم الغني فيها التْهاَما
ويعتقد الضياع بها وَيُثرى
…
ثراء تحت أعْينه تَرالا
ويحسدُه البنون وقد تناسوْا
…
متى أَثْرَى وَكيف بها تَساَمَى
لقد أفنى الحياةَ بها جهاداً
…
وَهم عَبَروا حياتهُم نياما
وَكم ضاقت مواردها ولًما
…
يَصيقُوا بالكفاف لهم طعاما
وَلو حرِمَتء نفوسثهُمُ جًناًها
…
لعاشوا رغم وَفرته صياما
فيالضَرَاعةِ الابناءِ حتى
…
رَضُوا بالعيش ذُلاً واهتضاما
وَيالهَوَانهمْ حتى استرحوا
…
إلى أن يصبحوا فيها طَغَاما
صَحَوْنا أيها الوًكنُ المُفدى
…
وققمنا نًسًترد لكَ السناما
وجَمعنا هًوَاك على صَفاءٍ
…
فقد ضقنا بواديك انْقِساما
سَنَدْفعث عن حماكَ فلا يُغشى
…
ونًرْعًى عذْبَ وِرِدْكَ أَنْ يُساما
فلا يلقي الغريب له كِفاَفاً
…
وَلَا يًرْوِي بودينا أُوَاماَ
في مصر شباب!
على أثر ما قام به السباب طيلة أيام العيد من جهاد في سبيل الاقتصاد
بقلم محمود غنيم
آمنت أن في الحمى شباباً
…
أغرّض جبارَ القُوَيْ وثابا
ينتزع الثناء والإ عجابا
…
ويُسمعُ الصم إذا أهابا
شاهدتهُ وقد مشى أسرابا
…
يفتل لصناعة الأسباب
مرتدياً من طُهره جلبابا
…
متضياً من عزمه قرضابا
تخاله إذا مشى شهابا
…
كأن تل الأيدي الرطابا
تقدم الصهباء والأكوابا
…
إذ بُسطت تسألُ الا كتتابا
مَنْ ناطحت أهرامهُ السحابا
…
لم يعْيه أن يصتع لثقابا
أو يسبح الصوف له ثيابا
…
ولا تبتنوا القصور والقبابا
بل ابتنوا المصنعَ والدولابا
…
ينفثُ من دخانه ضبابا
يُمطر مصرَ ذهباً لبابا
…
ترى الأكف فحمه خضابا
إنْ تفتحوه تفتحوا أبوابا
…
ينصب منها الرغد انصبابا
مَنْ بَيْن مصنعاً بني محرابا
…
ومن يسدْ بغير مال خابا
أَرَ شعباً بلغ الآرابا
…
وماله ل يبلغ النصابا
أوطاننا عشنا بها أغرابا
…
ضيوفها باتوا لها أربابا
جاسوا خلال أرضها ذئابا
…
واحتكروا الطعام والشرابا
فامتلوا بذلك الرقابا
…
هم في الهواء زاحموا العٌقابا
وفي العٌياب ملؤا العبابا
…
يذود عن حياضه احتسابا
لا ينبغي أجراً ولا ثوابا
…
وغيره يقتسم الأسلابا
ويُحز الأموال والألقابا
شبابَ مصرَ حسبُك انتسابا
…
إِن سَ الجدودَ واذكر الأعقابا
لا نَسْمُ ميراثاً بل اكتسابا
…
واغتصب المعالي اغتصابا
والحرُّ يدرك المنى غِلابا
…
لايُمنح الحر ولا يُحابى
كن كالذئاب شرة ونابا
…
فانما الحياة أن تُهابا
لا أن تجيد الخط والحسابا
…
وتحذقَ العلومَ والأدابا
أضفْ إلى تاريخ مصرَ باب
…
يُحدث في صفحته انقلابا
أكلما سألته أجابا
…
كانوا رءُوساً فَغدَوْوا أذنابا
ثورةُ العقل
للشاعر التونسي محمد الحليوي جابا=كانوكااك
قلتُ للقلب حَلِّ عنك الأماني
…
وأرحني فقد هدمت كياني
ما ضلالُ الخلود. . . ما باطلُ المجد
…
وما الصيتُ ماليء الآذان؟
أترى هذه الأكاذيبَحقاً
…
اتراها جديرةً بالثواني
أيها القلب ثثبْ إلى الرشد وانظر
…
نظرة العَقْلِ في لباب المعاني
إنما الخلدُ والخلود خَيَالٌ
…
وخَبَالٌ في فطرة الانسان
ذاك يا قلبي المريض عزاءٌ
…
يَهَبُ النفس راحة السلوان
قَدْ تَرَاَءت لك الحياة سَرَاباً
…
أو كطيف يمرُّ بالوَسْنان
فتطلبْتَ من غُرورك مجداً
…
وأردتَ الحلود في الأزمان
ورأيت الشبرَ الذي أنت فيه
…
غير كُفْءٍ لبرك الإنساني
فملأتَ الدُّنيا دوياً بغيضاً
…
مُجْلباً، كيْ يحسك الثقلان
ضلةً ضلةً، أيا قًلْبُ أقْصر
…
وارحنى فقد بريتَ كياني
أنتَ نحسي وشقْوتي وعذابي
…
وغترابي في مُنْتَدى الأخدان
أنتَ بؤسي في غدوتي ورواحي
…
لا تني الدهرَ باعثاً أشجاني
أرْهقني كآبتي وانفرادي
…
وحنيني لغامضات المعاني
وحياتي قضيتها زغرات
…
مُحرقاتٍ. أَأَنتَ كالبُرْكان؟
يَا فوؤداي تجاهل المجد وأنعمْ
…
وَأرِحْني. . . فقد محقتَ كياني
سُمتَني العَسَف في طلاب الأماني
…
وَتكاءدْتَ في الغْلا جثماني
بعثَ للمجد لذتي وكؤوسي
…
ومُدامي ومجلس الريحان
شبابي أذْبَلْتَه وهو غَضُّ
…
في كتال ودفترَ وَسِنَانِ
اللداتُ الاترابُ في فضل عيش
…
ناعم الظل، مُعجبٍ، ريان
يَنهْلون الشباب والحب كأساً
…
من رُضاب الكواعب الحُسان
في ضيلء وفي صفاء ولهوٍ - وعبير منشر وأغاني
وبقينا أنا وأنتَ فُرَادي
…
في جحيم الآلام والأحْوان
قُلْتَ: إني مغردٌ لا أُبالي
…
في سمائي بعلة الدوران
أنظر الشعر في الحياة ، ابكي
…
في نظيمي شقاوة الانسان
ذاك حَظي. . . وما أبهتُ لَمجْدٍ
…
أو رجوت الخلود في الأزمان
قُلْتَ: يا بؤسَ طائر يتغنى
…
في ضجيج الأحياءِ والأكوانِ
أتراني أقولُ ما قال قَبلي
…
شَكْسَبِيرٌ أو شاعرُ اليونان
كان هو ميرُ - أيها القلبُ - شيخاً
…
سَاغِبَ البطن، ذاحَشاً ظمأن
يطلب النزْرَ من طعامٍ وروى
…
بأغاني الآباد والأزمان
يا لا عمى يجوبُ بَراً وبحراً
…
داميَ القلب دامي الجثمان
يا لَكُرْنيل يَرْفع النعل فقراً
…
وعلىٍ يضيقُ بالطيلسان
هان أمر النبوغ في الأرض حتى
…
صار محضُ النبوع محضَ الهوان
قسم الله مله في البرَايا
…
ثم حض الأديب بالحرمان
خصهُ بالإسار والقَتْلِ والتغ
…
ريب والنفي عن حِمى الأوطان
خصه بالعذاب، بالألم الدائب
…
بالاضطهاد بالنكران
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
5 -
تطور الحركة الفلسفية في ألماني
شيلنج
1775 -
1854
للأستاذ خليل هنداوي
وهذا هو (شيلنج) الذي ورث (فيخت) وتوأ مقعد الفلسفة بعده؛ درس اللهوت وألم بالعلوم الطبيعية ووقف على شيء من الطب، ولكن المزاج الفلسفي غلب فيه على كل مزاج آخر، فهجر هذه العلوم وآب الى الفلسفة، فجاءت خطراته الأولى يغلب عليها روح أستاذيه (فيخت) و (كانت)، ولم يكن لعقله ذلك النضوج وذلك التفكير المستقل اللذان يستطيع بهما أن يطهر فكرته من الصور التقليدية، ويجعلها ابنة تفكيره الذاتي. ترى آراء (فيخت) شائعة في هذه المقدمات حتى نقول:(إن فيخت) يمثل دروه كرة ثانية. لولا أن شيلنج يفز بفلسفته من (فيخت) الى مذهب القائلين (إن الآله الواحد إنما هو كل الكائنات. .) وقد يستبد شيلنج بهذه الآراء التي يرددها، ويحسب أنها آراؤه الذاتية، فلا يذكر (فيخت) ولا يرجع إليه برأي ولا حديث، ولكنه شديد الاحترام للفيلسوف (سبينوزا) الذي أمده بروجه، وقاد عقله في كثيرمن مراحله؛ وهو الذي أراد أن يستخلص مذهباً يجمع بين فكرة سبينوزا ونقد كانت وكمال فيخت، وبعد أن راٍ المدرسة الفلسفية كتب آراءه ونظراته في فلسفة الطبيعة حيث شاء أن يعيد العالم الخارجي الى نظامه بعد أن قتلته المدرسة (الكمالية) وشوهت حقيقة مظاهره؛ ثم أخرج كتابه (مذهب الكمال العالي) وفيه زبدة مذهبه الفلسفي والصورة الكاملة الحاوية لمذهبه
لم تكن فلسفة شيلنج كفلسفة (كانت) ابنة تأملات عميقة ونظرات متعاقبة، ولا كفلسفة (فيخت) نتيجة نظرات بعيدة في الأخلاق والكمال، وإنما كانت حصاد المخيلة ونتاج الخيال. فكان (كانت) يفكر ويستقصي ويتعمق ويكثر من التأمل، وفيخت كان يثبت من صدق الفكرة ثم يأمر، ولكن شيلنج راح يثبت ما توحي اليه مخيلته وينزل عليه خياله، وهكذا تطورت الفلسفة واخذت تلين بعد شدتها وترق بعد صرامتها، ويزول عنها هذا اللون العميق القاتم، وتدنوا برفق من الشعر والفن؛ والشعر والفن دائبان عاملان على تلطيفها
وترقيقها حتى لا تكون عالة على المخيلة، ولا تكون المخيلة عالة عليها، فأمسى الفيلسوف - كما تمثله الأقدمون - شاهداً ينظؤ الى تآلف الأشياء وانطباق أجزائها، وعلاقة النهاية باللانهاية، الحقيقة بالكمال. وشيلنج يرة أن الفيلسوف لاغني له عن المخيلة، وعن الوحي الذي يستمده من نفسه، وعن الخطرة التي تفيض بها قريحته، وهو في هذه الملاحظات يجمع بين الفيلسوف والفنان برغم اختلاف رسالتهما، ولكنه لا يهمل أداة الملاحظة والتامل اللذين خلقا العالم الفلسفي، ولكنه لا يميل اليهما إلا قليلاً. ولهذا الاعتقاد الذي رسم مذهبه الفلسفي بميسم الفن رأينا أن فلسفة شيلنج جاءت فلسفو هادئة مسألة لا حركة فيها ولا ثورة
إن (فيخت) برغم ما بذل من جهد استنفد وسعه للعمل على ربط فعالية عقل الانسان وأخلاقه بوثاق واحد ومذهب واحد؛ نراه غادر في مذهبه هذه (الثُنائية) التي لم يجدها شيلنج صحيحة، فعاْلم الروحَ الداخلي لا يمكننا أن نشاهده ونطلع على غيبه إلا بوساطة العالم الخرجي عنا؛ كما أن العالم الخارجي لا يُلمس إلا بمعونة عالم روحنا. وهكذا يجد الفيلسوف نفسه أمام مادتين جوهريتين مفترقتين متعاكستين، فأراد شيلنج أن يمحو هذا التنازع بينهما، وهو تنازع لم ينكره فيخت، فتحرى شيلنج في كلا العالمين عن قانون أعلى يصم بينهما، فوجد هذا القانون في الواحد المطلق ' مبدأ ومنهى كل وجود، وملتقى عالم الحقيقة بعالم الكمال، والموفق بين الأضداد. وقد أحل مذهبه هذا محل المذهب العلمي، واعتقد أنه ثد وُفق في إيجاد الأتحاد المنشود، وجع الأجزاء المتفرقة، وتوحيد المعرفة الأنسانية
وفي الحقيقة إذا تعمقنا في حقيقة هذا المذهب الذي جاء به شيلنج رأينا أنه هو ذات المذهب الذي يجعل الله هو كل الكائنات، والواحد المطلق الذي أنشأه وافترضه شيانج هو هذه المادة الأزلية التي لاحظناها وبشر بها (سبينوزا)، هذه المادة التي تحل متفقة في عنصرين متضادين وعالمين مختلفين: عالم الوح وعالم المادة.
والصفة البارزة التي يتسم بها مذهب (شيلنج) هي أنه أنشأ رباطاً محكماً وأوجد وحدة شاملة بين مظاهر الكون المختلفة؛ فالوجود الحقيقي والوجود الروحاني السامي كلها عوالم مشتقة من نبعة الفرة الآلهية، وهناك شيء من الميل الغريب بين أفكارنا والمرئيات، فنحن نحمل في أنفسنا صورة لكل شيء تقع عليه أعيننا، وهذه الصورة قد لا تلوح في الذاكرة سريعاً،
ولا تكون وليدة ملاحظاتنا الحنينة، ولكنها ابنة تصور راسخ فينا منذ القدم، مندس في شعورنا. فما هو إلا أن نهيب بهذه التصورات حتى نحس أن هذه الصور أخذت تمر بنفوسنا، فاذا أردنا أن نعرف الكون فما علينا إلا أن نتلقى في صحف أنفسنا وأن نتبع بنظرنا الباطني مجرى الأشياء، وأن نقف على الحكمة المنطقية الآلهية التي أبدعت الكون؛ وهكذا يغدو علمنا مطلقاً وليس له الا صبغة الوحدة المسيطرة على العالم، وتصبح الفلسفة لا تتوقف على التأمل الذي يلاحظ الأشياء، ولا يدخل فيها ولا يحبونا إلا بمعرفة جزئية محدودة؛ وإنما التامل الحقيقي والادراك العقلي يجب أن يكونا قسماً من الخيال النظري الذي يوحد بين الأفكار ويرتبها، وإنما غرض الفلسفة أن تعمر الكون وأن تشيده وأن تعمل في الخلفية على إبداء وجهتها الشعرية والفنية
لم يقف (شيلنج) جهوده على الفلسفة وحدها، وإنما كان يخوض طوراً في الفلسفة الكونية والنفسية، وتارة في التاريخ والفن، وهو يفوز في ساحة، ويخفق في أخرى؛ أما فلسفته النظرية فقد جابهتها الحقيقة مجابهة قاسية، وعلة ذلك أنه كان يجنح كثيراً إلى الافتراض، وقد يكون الافتراض أحد العوامل الأساسية في تقدم العلم، ولكنه لا يغني شيئاً في تحليل المهمات التي لا يتناولها التحليل. وأما نظراته في التاريخ فسرعان ما وهنت. أركانها واضطربت أصولها، وهو يمشي على أثر (فيخت) الذي قسم العصور الانسانية إلى خمسة أدوار؛ يبدأ أولها بعصر الانسان الأول الذي لم يدنس عقله ونفسه شيء. وينتهي آخرها بالعصر الذي سيتسامى فيه الانسان وتحمله تأملاته النقية إلى فردوسه المفقود؛ ولكن (شيلنج) حدد تاريخ الانسانية بثلاثة أدوار
إن عبقرية (شيلنج) لم تبرز واضحة إلا فيما استمده من قلبه وانتزعه من نفسه؛ وفي + مذهبه الذي لم يُوثق فيه خياله بوثاق العقل المحدود، ولم يجد في ادنائه من الحقيقة نُكراً. هذا المذهب الذي احتوى نظراته السامية في الفن الذي وجد فيه شيئاً أسمى من الفلسفة. فالفيلسوف قد يُدرك المثل الأعلى ويفهمه ويقف عند ما وصل إليه عقله. أما الفنان فهو يأخذه ليسكبه في قوالب مادية، وهو في خلقه وابداعه لا يقلد الطبيعة، ولكنه يقلد ذلك الفكر الجبار الذي أبدع الطبيعة
عنت (لشيلنج) يوم كانت تربطه الصداقة بالشاعر (شيلجل) فكرة شعرية سامية في مناجاة
الطبيعة، وبدأ يكتب مطلعها ثم بدا له شيء صرفه عن فكرته، وكأن هذه الفكرة الشعرية ظلت راسخة في تلافيق فكرة تتصرف بشعوره وتفكيره حتى إذا نضج عقله وتكشفت فلسفته جاءت وهي أدنى إلى الشعر والفن منها إلى الفلسفة المجردة
يتبعخليل هنداوي
من روائع الشرق والغرب
ذكرى
لشاعر الحب والجمال لامرتين
كان لامرتين (قد حبس نفسه شهوراً طويلة في شبه ناووس مع صورة من عبدها ثم فقدها) ثم (ألف الحزن واللم) وخرج من الفناء الذي ألفاه فيه موت جوليا حبيبته، وراح (يتحدث بالمناجيات والصلوات والأدعية والشعر الى شبحها الذي لايبرح ماثلاً في خاطره). وهذه القصيدة قد نظمها في ربيع 1819 (على مقعد من الصخر حول ينبوع متجمد في الغابات التي تكتنف قصر عمه في (أورسي)
عبثاً يتعاقب الجديدان،
فلن يتركا أثراً في حسي،
ولن يمحوا صورتك من نفسي،
يا آخر حُلم رآه الوجدان
ــــــــــ
إني أ {ى أعوامي السريعة
تتراكم من ورائي هاوية،
كما ترى السنديانة الرفيعة
أوراقها من حولها ذاوية.
ــــــــــ
جُمتي شيبتها السنون الجاهدة،
ودمي أبردته فلا يكاد يجري،
كأن هذه الموجة الهامدة
لفحتها ريح الجنوب فلا تسري
ــــــــــ
ولكن صورتك الوضيئة الحبيبة،
تلك التي يزيدها أسفي جمالاً
لا تدركها في قلبي لشيخوخة الكئيبة،
لأنها كالنفس لا تعرف عمراً ولا زوالاً
ــــــــــ
كلا، انك لم تزايلي بصري،
فاذا حيل بين عيني وبين رؤيتك
انقطع من هذه الارض خبري
واتصل نظري في السماء بصورتك
ــــــــــ
وهناك تبدين لي في السماء
كما كنت في يومك الاخير،
حين طرت إلى مقامك الوضاء
مع الصباح المشرق النضير
ــــــــــ
جمالك النقي المؤثر يا حبيبتاه،
يتبعك حتى في ذلك الوجود؛
وعيناك اللتان تنطفيء فيهما الحياة،
يشعان ثانية بنور الخلود
ــــــــــ
وأنفاس النسيم الهائمة،
تحرك أيضاً شعرك الطويل؛
وخُصله المتوجة الفاحمة،
تعود فتسقط على صدرك الجميل
ــــــــــ
وظل هذا النقاب الحائر،
يحلي وجهك الوضاح،
كأنما سدول الظلام الآخر،
تنحسر عن محيا الصباح
ــــــــــ
إن اللهب السماوي لهذه الشمس،
يجيء ويذهب مع الأيام؛
وأنت تشرفين دائماً في النفس،
فحبي لا يعرف البرد ولا الظلام
ــــــــــ
أنت التي أبصرها في السحاب والماء؛
فالموج يعكس صورتك في عينين
والنسيم يحمل أصواتك إلى،
ــــــــــ
وإذا خشعت الأصوات ونام الليل،
وسمعت حينئذ همس الهواء،
حسبتني أسمعك تغمغمين في أذني
بكلماتك المقدسة العِذَاب
ــــــــــ
وإذا ما أُعجت بهذه المصابيح المنتثرة
التي ترصع رداء الليل الساكن،
حسيتني أراك في ل نجمة مزدهرة،
تسترعي بصري بلألائها الفاتن
ــــــــــ
وإذا ما هب النسيم على الزهور،
فأسكر النفس بنفحات العطور،
كانت نفحتك هي الطيب الذي أنشقُه
فيما يَنُشه هذا النسيم ويطلقه
ــــــــــ
إن يد هي التي تجف دموعي
حين أذهب في حزن وبكاء
لأؤدي في السر صلاتي وخشوعي
في محاريب الدعاء والعزاء
ــــــــــ
وإذا نمت سهرت على سهر الخائف،
وبسطت جناحيك على آلامي،
وأوْحيت إلي بجميع أحلامي
وديعةً كنظرات الخيال الطائف
ــــــــــ
وإذا قطعتْ يداك أثناء منامي
مجرى حياتي واسباب أيمي
فسأصحو - يا نصف روحي العلوي -
بين حِضنك الحنون القدسي
ــــــــــ
ثم تصبح نَفْسانا نًفْساً واحدة،
كشعاعين متحدين من أشعة الفجرن
أو نفسين ممتزجين من الأنفاس الصاعدة؛
ولكني لا أرال أردد أنفاسي العمر!!
الزيات
مقطوعات شعرية
لشاعر الهند العظيم الدكتور محمد اقبال
(من ديوان رسالة المشرق)
الملك لله
أضرم طارق النار في سفائنه على ساحل الأندلس، فقيل له هذا أفَنٌ ينكره العقل! كيف نرجع الى الديار، وقد شط المزار؟ إن الشريعة لا تجيز ترك الوسائل! فضحك وأصلت حُسامه وقال: كل مُلك ملكنا، لانه مُلك ربنا
الحياة
سألت حكيماً: ما الحياة؟ قال: حمر امرها أطيبها. قلت: إنها دودة تنشأ من الطين. قال: بل وليدة النار السمندل. قلت: إن الشر مضمر في فطرتها. قال: هي شر كلها إذا لم تعرف خيرها.
قلت: إن غرامها بالمسير لم يبلغها منزلاً. قال إن منزلها في هذا الغرام نفسه. قلت: إنها ترابية ومرجعها التراب. قال: إن الحبة إذا شقت التراب فهي وردة ناضرة
الشقيقة
أنا الشعلة التي اضرمت في أحضان العسب من فجر الأزل، قبل أن يٌخلق البلبل والفراس، أنا أعظم من الشي، ولكني منبثة في كل ذرة، وقد خلقت السماء شرارها من حرقتي: سقطت على صدر المرج لحظة فنبع من ترابي عصن ناضر فاستلب ناري وقال: تلبثي في أحضاني قليلاً، ولكن قلبي السليب لم يقر قراره، فاضطربت في ضيف الغصن حتى تجلى جوهري باللون والرائحة، فنثر الندى في طريقي جواهر متلألئة، وضحك لي الصبح، وأطافت بي ريح الصبا، وسمع البل من الورد أن ناري قد سُلبت، فتأوه وقال: لقد استرت ثوب الحياة غالباً
هأنذا أفتح صدري لضوء الشمس وأحتمل منتها، فمن لي بأن تعود ناري مشتعلة في صدري؟
الحياة الخالدة
لا تحسبين الحانة قد بلغت نهايتها. فلا يزال في عروق الكَرْم ألف خمر لم تُشرب ذل المرج جميل، ولكن لا يجمل ا، نعيش كالربعم! قضاء حياته ممزف بأنفاس الصبا. إن تكن بالحياة خبيراً فلا تطلب ولا ترض قلباً خلياً من وخزات الأمل. عش كالجبل محكماً مجتمع
النفس، ولا تعش كالهشم، فان الريح عاصفة والنار لا تهاب
عبد الوهاب عزام
البريد الأدبي
حماية الدولة للآداب
وهل نحن بحاجة اليها؟
نقلنا إلى القراء في العدد الماضي خلاصة تلك الفكرة الطريفة التي تتحدث بها بعض دوائر الأدب الفرنسي، وهي وجوب تدخل الدولة لحماية الآداب القومية من منافسة الآداب الأجنبية كما تتدخل لحماية المحاصيل والصناعات القومية، أو بعبارة أخرى وجوب معاملة الثمرات الأدبية معاملة النبيذ والقمح مثلاً من حيث الحماية القومية، وذلك لأن سيل الأدب الأجنبي يتدفق الآن على فرنسا ويهدد مصالح كتابها ومفركيها تهديداً قوياً يظهر أثره في هبوط الدخل الأدبي وقيم حقوق التأليف. وتسالنا ماذا يكون من أمره هذه الفكرة في بلد كمصر؟ وهل نحن في مصر بحاجة إلى بحثها؟ والجواب الذي يتبادر إلى ذهن لأول وهلة هو أن مصر لم تتقدم في ميدان التفكير إلى الحد الذي تستطيع معه أن تكون بدلاً مصدراً يبعث بثمار تفكيره إلى البلدان الأخرى، فهي ما زالت بلداً مستورداً، يستورد أكبر قسط من غذائه الأدبي وينقله عن التفكير الغربي، وان الثمرات الأدبية المحلية ليست في حاجة إلى الحماية لأنها ليست من الكثرة أو القيمة بحيث تتأثر بهذه المنافسة الأجنبية القوية. وهذا صحيح من الوجهة العامة، وكلنا نستطيع أن نستدرك عليه ببعض الملاحظات. وفي رأينا أن الأدب المصري بحاجة الى نوع من الرعاية والحماية المحلية من بعض النواحي، ولسنا نقصد أن تفرض الضؤائب الجمركية أو تتخذ اجراءات لأية حماية ضد الآداب الاجنبية الرفيعة، فنحن في أشد الحاجة لاستيراد هذه الآداب؛ ولكنا نعتقد اننا في حاجة الى إلى الحماية من سيل الأدب الغربي الوضيع الذي ينساب إلى مصر من كل ناحية، تحمله إلينا كتب ومجلات وصحف كتبت لطبقات وبيئات منحطة، وتجد بيننا رواجاً عظيماً؛ وقراء المجلات والصحف الأجنبية هنا يعرفون هذه الحقيقة، ويكفي أن يعرف الناشئون قليلاً من الانكليزية أو الفرنسية ليتهافتوا على اقتناء هذه النشرات الوضيعة الخطرة في معظم الأحيان من الوجهة النفسية والأخلاقية. وهنالك أنواع من الأدب الأجنبي المتوسط أو الخفيف تروج بيينا رواجاً عظيماً، وهذه أيضاً يجب أن يوضع حد لذيوعها على حساب الأدب المحلي والصحافة المحلية لأنها ليست أقوم منها ولا أرفع؛ ثم هنالك سيل الترجمة؛
ومع أننا في عصر ترجمة ونقل في كثير من النواحي الفكرية، فان هذا السيل يجرفنا بلا تحفظ، ويطغي على الأنتاج القومي بشدة. ومن الصعب أن نتحدث في أمر الحماية الرسمية الفعلية في هذه النواحي، ولكنا نشعر في أحيان كثيرة بالحاجة إليها. ولو أمكننا ببعض الوسائل المعقولة أن نحد من تدفق سيل الآداب الأجنبية المتوسطة أو الوضيعة، وأن نحصر الترجمة في حدود القيم المنتج، لكان في ذلك ما يشجع الآداب المحلية، ويعضد الانتاج المحلي؛ ولاشك أن انصراف القراء عن التهافت على هذه الأنواع من الآداب الأجنبية يقابله من الناحية الأخرى شيء من الاقبال على الأدب المحلي؛ وإذا نما هذا الاقبال، ترتب عليه حتماً انتعاش الأدب المحلي وتقدمه؛ والتعضيد أكبر عناصر التشجيع وشحذ العقول والههم. وكلما زاد هذا الاقبال والتعضيد تقدمت الحركة الأدبية وارتفع معيار الانتاج الأدبي
على أن المسألة معقدة من الوجهة العملية. ومن الصعب أن نتصور الوسائل أو الاجراءات المعقولة التي يمكن أن تحقق بها مثل هذه الحماية دون مساس بسير الحركة العقلية، وحركة الاقتباس الفكري التي نحن في أشد الحاجة إليها. وأصحاب هذه الفكرة في فرنسا يجدون مثل هذه الصعوبة في التماس الوسائل العملية لتحقيقها. وكل ما يمكن قوله، تمشياً مع أصحاب الفكرة هو أن الحماية الاختيارية هي خير وسيلة لحل المشكل، أو بعبارة اخرى إن هذه الحماية يمكن تحقيقها بالتطوع والرغبة في تشجيع الآداب القومية من جانب القراء والمثقفين، وإغفال الآداب الأجنبية التي لا تحمل قيمتها أو نوعها على وجب الانتفاع بها
وقد يعترض عشاق الثقافة الأجنبية بأن الانتاج الأدبي المحلي لم يرتفع إلى الحد الذي يحقق بغية المثقفين وطلاب المتاع الفكري الرفيع، ولكن المحقق هو أن هذا التقدم المنشود لايمكن تحقيقه دون تشجيع قوي فعال؛ والطبيعي هو أن يتقدم التشجيع اولاً، فاذا ظفر الانتاج المحلي بهذا التشجيع، أستطاع أن يظفر بفرض التقدم والصقل والنضوج
ميشيل آنجلو وعصره
منذ حين أصدر الكاتب المؤرخ الألماني هيرمان جريم كتاباً عن الفنان الايكالي الاكبر ميشيل آنجلو وعصره، فكان لصدوره وقع عظيم في الدوئر الأدبية والنقدية. ومنذ أسابيع
قلائل صرت ترجمة فرنسية لهذا الأثر القوي، فعاد الحديث عن قيمته الأدبية والفنية، ولا ريب أن الكتابة عن ميشيل آنجلو وعن عصره ليست يسيرة؛ فقد كان آنجلو من أعظم العبقريات البشرية، وكان عصره - القرن السادس عشر - من أعظم عصور التاريخ: كان عصر (الأحياء) الفكري، وكان عصر البابوية الذهبي؛ وكان ميشيل آنجلو يمثل كل ما في عصره من عظمة وآمال، وكان عمله رمزاً قوياً لخواص هذا العصر وأمانيه، كان مثالاً، ومصوراً، وشاعراً، ومنهدساً عظيماً
هذا هو ملخص الصورة التي يقدم بها جريم بطل ترجمته؛ وقد عاش ميشيل آنجلو وتوفي بين أعظم رجالات عصره. كان في فتوته صديق لورنزو الأفخم أمير فلورنس، وكان في كهولته مصور البابوية ومهندسها. وكان صديق جلوليوس الثاني، وليون العاشر، وهو الذي وضع التصميم الجديد لكنسية القديس بطري أعظم كنائس النصرانية، وهو الذي رسم ابدع نقوشها؛ وهو الذي أودع من ريشته أعظم بدائع الفن على جدران (كنسية سكستوس) إحدى حلى الفاتيكان، وصور عليها بالأخص أشهر وأبدع صوره (يوم الحساب)؛ وما زال السائح المتفرج يقف ذاهلاً مأخوذاً أمام روعة هذه القاعة التي يشعر فيها بروح ميشيل آنجلو ترفرف عليه من سقفها وحول جدرانها
ويمثل لنا جريم ميشيل آنجلو في شبابه ونضجه رمزاً لمثل إيطاليا وأمانيها، وفي كهولته وشيخوخته رمزاُ لآلام إيطاليا، ويمثل لنا حياته كلها بأنها صورة صادقة لعصر الأحياء كله. وأما عصر الأحياء الأيطالي فيصوره جريم أبدع تصوير، ويبين لنا كيف ان هذا العصر فجر المعارك والتطورات الفكرية والاجتماعية والسياسة، وكيف أن هذه المعارك كانت تتمخض عن مثل ما يتمخض به عصرنا من المشكلات الاجتماعية والسيايية، سواء في حقوق الفرد واجماعة، وتنظيم الحكم والدولة أو غيرها من المسائل الكبرى
وقائق جديدة عن نابليون
ظهرت أخيراً حركة ترمي الى كشف كل ما يتعلق ينابليون بورنابارت وعصره من الآثار والوثائق؛ ويبعث في باريس مجموعات ثمينة من كتب الامبراطورية وتحفه التي كانت في مكتبة مالمزون؛ ثم طهرت على أثر ذلك مجموعة كبيرة من رسائل الامبراطور الى زوجه الثانية ماري لويز النمسوية وعددها نحو ثلثمائة، وعرضت للبيع في لندن واشترتها
الحكومة الفرنسية، وقد أشرنا الى هذه الرسائل وإلى محتوياتها في عدد سابق. والآن تظهر في انكلترا وثائق جديدة خاصة بأيام الامبراطور الأخيرة في منفاه بجزيرة سنت هيلانه. فقد نشرت جريدة (الصنداي تيمس) عدة رسائل لم تنشر من قبل، كتبها ضابط انكليزي يدعى دنكان داروس كان من شهود أيام الامبراطور وساعاته الأخيرة الى أمه، منها رسالة كتبت غداة وفاة الامبراطور، بتاريخ 6 مليو سنة 1821، وأخرى في مايو عقب الاحتفال بدفنه
وكانت هذه الرسائل في حوزة حفيد هذه السيدة. ولم تنشر من قبل قط، وهي وثائق ثمينة مؤثرة، عن المناظر والأقوال التي تتعلق بمرض الامبراطور الأخير وساعات نزعه، ولحظة وفاته، وكان الضابط دنكان داروس قد أرسل الى حامية سنت هيلانه في المرحلة الأخيرة من اعتقال الامبراطور؛ والرسالة الأولى عن وفاة الامبراطور مكتوبة من (ديدوود)، والرسالة الثانية من (لونجوود)
ولما ظهرت الحكة الأخيرة بجمع الوثائق النابوليونية سعت جريدة (الصنداي تيمس) الى الحصول على هذه الرسائل، ونجحت في احتار حق نشرها، وبدات بذلك منذ 23 ديسمبر؛ وكان لنشرها وقع عظيم عند كل الذين يهتمون بهذا العصر ومأساة الامبراطور المنفي
من هنا ومن هناك
الموجات القصيرة - بقلم ماركوني
إن استعمال الموجات القصيرة في الاتصال بواسطاة الراديو ليست جديدة علي، فقد خصصت لها جزءاً بيراً من تجاربي، وصرفت فيها تفكيراً طويلاً منذ ثمانية وثلاثين عاماً. ففي سنة 1896 أفهمت مهندسي محطات الأذاعة أن الأمواج التي طولها ثلاثون سنتيمتراً يمكن إرسالها بغير انقطاع في حيز مليون من الكيلوسكلات
وفي هذا العهد، بعد البحث والتجارب الطويلة التي قمت بها وقام بها غيري ممن عاصروني، نجحنا في استعمال تلك الموجات القصيرة حتى وصلنا إلى إرسالها إلى مسافة تقرب من عشرة آلاف متر
وأما من جهة النتائج التي وصلت إليها بين سنتي 1919 - 1924 في استعمال موجات ذات أطوال تتراوح بين مائة وستة أمتار فقد حملتني على التخلي عن الطريقة
الامبراطولاية الموضوعة على أساس الموجات والأستعاضة عنها بمحطات ماركوني الأصدارية التي تستعمل الموجات القصيلاة المتتابعة، وذلك في الجقيقة هو الذي أدى إلى الانقلاب الحالي في الأعمال التليفونية والتلغرافية باستعمال تلك للموجات القصيرة التي تندفع الى مدى بعيد، ولقد كان لهذه النتائج أثر كبير في نفسي دفعني الى الاهتمام بهذه الموجات
واما الموجات الكهربائية الممغطسة الت يقارب طولها المتر، فلنا أن نعبر عنها بالموجات المرئية، لأن الأتصال بوساطتها ضرب من المحال، إلا إذ تلاقت نهايات دائرة الاتصال كلها في نقطة واحدة، وعنئذ تكون الفائدة المنتظرة قد نمت بتمام هذا الشرط الأخير
وقد نهتني تجاربي الكثيرة ألا أحدد شيئاً أساسه الفرض أو الحساب النظري، لأن ذلك كما نعلم مبني على جهل بمعرفة العوامل المسببة؛ وعلى العكس من ذلك وعلى رغم تكهني بما ينافي ذلك الشرط، فانني دائب البحث في نواح أخرى ولو ظهرت لي صعوبات كثيرة في أول الأمر
ولقد كان ذلك منذ ثمانية عشر شهراً على ةجه التقريب عندما صح عزمي على أن أستفيد من أبحاثي القياسية في صفات هذه الموجات القصيرة، وقد حصلت في النهاية على نتائج ملموسة يوفر إدراكها معرفة ما يأتي:
(1)
الأبعاد القصيرة للمرسل ' والمستقبل ' والعاكس الضرورية لنشر كمية كبيرة من القوى الكهربائية والحصول عليها
(2)
معاكسة الأضواء الضعيفة المسببة عن اهتزازات الكهربائية الطبيعبة عند الاضطرابات الجوبة
ولي أن أجزم بأن الأشياء الممكنة في ذها الموضوع قد وسعت نطاق البحث في الموجات الكهربائية التي لم توضع بعد غلى بساط التجربة، والتي فسحت المجال لتطبيق هذه الموجات في الاتصال عن طريق الراديو
والاستعمال الدائم العملي للموجات القصيرة التي تكون حلقة متصلة بين الفاتيكان وقشتالة وجوندلفو لأكبر شاهد، كما أعتقد، يجعلنا نتفاءل بما ستحرزه هذه الطريقة الجديدة من النفع، وما ستوفره لنا في المستقبل، غذا ما أبعدنا الاضطرابات الكهربائية الاخرى
وخير مكان يقع فيه تطبيق هذه النظرية هو ربط الجزر ببعضها ببعض، أو بعضها بالقارات، أو ربط الجهات المختلفة بعضها بالأخرى، على شريطة ألا تكون هذه الجهات بعيدة عن بعضها كل البعد
وتمتاز هذه الطريقة الأخيرة بعدم تأثرها بالضباب، إذ هي أكثر ضماناً وأوفر أماناً، وخاصة من ناحية الاحكام الكامل الذي يمكن الاعتماد عليه كلية في تحديد الجهات تحديداً دقيقاً، ومع ذلك فمن العبث الآن أن نقول الكلمة الأخيرة عن تحديد مدى الاذاعة بوساطة هذه الموجات القصيرة
القصص
مدام بوفاري
لجوسناف فلويبر
تعليق وتلخيص محمد سليمان علي
قسم الكاتب الخالد قصته الخالدة إلى ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول يصف نشأة مسيو بوفاري إلى أن احترف منهة الطب، وبين كيف اهتمت به أمه، وكيف زوجته من أرلملة سنها همس وأربعون سنة ودخلها مئتان وألف فرنك. وقد ظن المسكين أنه سيبدأ بزواجه عهداً مستقلاً سعيداً، ولكن امرأته اثبتت أنها (الفرس الأقوى)، ففي المجتمعات يجب عليه أن يقول هذا ويمسك عن ذاك؛ وكان لزاماً عليه أن يصوم ل يوم جمعة، وأن يلبس ما تشير به، وأن ينفذ أوارمها فيما يتعلق بالعملاء الذين توانوا عن الدفع، وكانت تفتح رسائله وتنصت من وراء الحاجز حين يختلي في غرفته الخصة بالعملاء إذا كن نساء
ذهب يوماً يعود مريضاً فأعجبته ابنته (إما) ذات العيون العسلية التي تبدو لطول أهدابها سوداء؛ وعاد بوفاري مريضه وكرر العيادة، ثم ماتت زوجه فترزوج (إما) وكان سعيداً، (كان العالم ينحصر في نظرة في محيط أثوابها. وكان يؤنب نفسه لعدم حبه إياها حباً أثر؛ وأحياناً كان يعود بعد خروجه ليراها ثانية وهي ما تزال في غرفتها تلبس، وبيتما كان يقبلها في أسقل عنقها، كانت تصيح هي في وجهه)
وكانت قبل زواجها تظن أنها تحب. ولكن السعادة التي كانت تتوقعها من الحب لم تظفر بها فظنت أنها خدعت، ووطنت العزم على أن تكتشف تماماً معنى هذه المدلولات: السعادة، الأهواء، النشوات: التي كانت إلى ذلك الوقت تبدو ها جميلة على صفحات الكتب
وانهارت أحلامها في الحي وشهر العسل والزواج، وأخذت تنسج لنفسها أحلاماً أُخر. وبقدر ما كانت علاقتها الزوجية تتوثق كان في نفسها تنافر داخلي ينمو ويزداد
(كان حديث شارل عمومياً كأفريز شارع تمشي عليه أفكار كل انسان ، اي إنسان في أثوابها العادية دون أن تثير عاطفة أو ضحكاً أو تفكيراً. كان يقول إنه أثناء غقانته في (روان) لم يجد لديه ما يدفعه إلى الذهاب إلى المسرح ليرى الممثلين من باريس. ولم يكن
يعرف السباحة ولا لعب السيف ولا إطلاق الغدارة؛ وفي ذات يوم لميستطع أن يشرح عبارة خاصة بركوب الخيل قرأتها في قصة: أما يجب على الرجل أن يعرف كل شيء وأن يعلم المرأة انبساط الأهواء ولذائذ الحياة وأسرار العيش؟ ولكن شارل ما علم شيئاً وما عرف شيئاً، وما رغب في شيء. كان يعتقد أن زوجه سعيدة وهي تتعذب تحت هدوئه الذي لا يضطرب وسكينته التي لا تخف)
وبرغم ذلك كانت تمحنه حبها. ففي الحديثة، في الليالي المقمرة، كانت تعيد على سمعه كل الأغاني الوجدانية التي حفظتها عن ظهر قلب. ولكنها في النهاية لا تجد زوجها ازادا غراماً ولا حماسة. (ولما ضربت زماناً على الصخرة الجائمة على قلبها دون أن تبعث منها شرارة ما، كانت تجد صعوبة يسيرة في إقناع نفسها بأن غرام شارل لا يعد مفرطاً بعد)
وعكفت على قراءة مجلات السيدات والأزياء والأثاث ابتغاء التسلية، وعلى قراءة بلزاك وجورج ساند لتنقب فيهما عن الأرضاء الخيالي لأهوائها الشخصية. وكانت ذات أطماع: لِمَ لم تكن زوجة لعالم يدوي اسمه في كل مكان؟ وبدأت تكره زوجها لقلة طموحه وأصبحت تجد حياتها مملة جوفاء
والحق أنها كانت تنتظر حادثاً في حياتها. كانت تصحو إذا تنفس لصبح فتظن اليوم قد حل. وتنصب إلى كل حركة، حى إذا جاء الغروب أمست احزن من قبل، وحنت إلى الغد.
ولما كانت تضجر من دمينة (توست) ظن زوجها أن سبب الداء حادث محلي. وقرر أن ينتقل إلى بلدة (بونفي - لاباي)
وفي لقسم الثاني يصف الانتقال الى البلدة الجديدة، وتعارفهما لصيدلي هوميه وليون كاتب المحامي. ويبدأ الحديث بين هذا وبين مدام بوفري فيكتشفان بينهما نماذجاً في الأفكار وتشاركا في العواطف، فكلاهما يحب الطبيعة والموسيقى، فمدام بوفاري تقول:
- آمل أن أجد طرقاً جميلة في هذه الانحاء
- يؤسفني أن أقول إنها قليلة. هناك مكان يدعونه (المرعي) فوق مرتقى التلال، عند حافة الغاب، ولقد طالما قصدته في الآحاد ومعي كتاب كي أرى الغروب
- لست أظن أن هناك ما هو أجمل من الغروب، ولاسيما عند شاطيء البحر
- أوه، إنني أقدس البحر!
- ألا تظن أن العقل يبدو أكثر حرية حين نواجه ذلك الخضم غير المحدود، وأن أرواحنا لتتسامى حين نسبح في تأملاته، وأنه يوحي إلينا بالأفكار عن المثل العليا وعن اللانهاية؟
- كذلك الحال في مناطق الجبل
واندفعا يتحدثان عن الموسيقى الألمانية، والأوبرا الايطالية، إلى أن قال زوجها رداً على كلمة لهوميه عن تنسيق الحدائق:
- زوجتي لا تُعني بذلك، إننا ننصحها بالرياضة، ولكنها تفضل أن تظل في غرفتها تقرأ
وقال ليون - هذا ما أفعل. وإني لعلي يقين بأنه ما من شيء يفوق الجلوس في المساء بجوار الموقد مع كتاب نفيس، بينما الريح تسفع زجاج النوافذ، والمصباح يضيء ويلمع في الغرفة
وقالت وهي تحدجه بعينها السوداوين النجلاوين - هذا ما يختلج بنفسي
- وينسي المء كل شيء بينما الساعات تتعاقب. ويجول في البلاد التي يظن أنه يراها، وأما أفكاره التي تحملها الحوادث المختلفة فانها تجد اللذة كل اللذة في كل تفصيل، أو تتبع سير المخاطرات والحوادث، وتصبح جزءاً من الشخصيات المختلفة، ويتخيل المرء أن نفسه هي التي تتنفس في ملابسهم)
وضعت مدام بوفاري طفلة سمتها برتا وتركتها عند امرأة ترضعا وكان ليون يفكر فيها وهي تفكر فيه، وتراقبه وهو يمر تحت نافذتها إلى محل عمل مرتين كل يوم. وكانوت أحياناً يجتمعون في المساء، بوفاري وهو مييه يلعبان الورق، أما ليون فينصرف إلى الحديث مع دمام بوفاري
وأخيراً قرر أن يصرح لها بحبه. إلا كلما عزم لا يجد الشجاعة. وكان يكتب الرسائل ثم يمزقها. وكانت شجاعته تفارقه في حضرتها، أما هي فلم تسأل نفسها إن كانت تحبه، ففي اعتبارها أن الحب يأتي فجأة ع دوي قاصف وبرق خاطف، عاصفة من السماء تهب على الحياة فتقلبها رأساً على عقب، وتعبث بالارادة كما يحمل الهواء ورقة جافة وتلقي بالقلب في هوة ما لها من قرار
ولكنها كانت تراه يتقرب اليها، وتحصى حركاته وكلماته عندما تستلقي على فراشها، وتستعيد نظراته ثم تقول لنفسها وهي تضم شفتيها كأنما تتأهب لقبلة (ما أبهج ذلك! أهو
لف؟ وبمن إن لم يكن بي؟) ولكنها لم تشجعه. وتظاهرت بأنها تحب زوجها. وكانت كلما أحست بأنها تهواه، قاومت لتقلل من شعورها. وكانت تأمل من ليون أن يفهم ذلك. وكلما همت بتأنيب نفسها عادت تفتخر وتقول لنفسها (إنيي شريفة)
وأخيراً ظن الشاب أنها لا تريده فترك البلدة إلى باريس
يلي ذلك لقاؤها بمسيو رودولف بولانجيه الساب الغني الجميل لخبير بالنساء والغرام. يقرأ في عينها مللها من حياتها وزوجها فيرغب فيها ويضع لذلك خطة محكمة وتساعده الظروف فيظفر بها. وتبدأ حلقة من الحب القوي المشبوب الجارف. وتندفع المرأة حتى تصل إلى درجة التهور. ولما ازدادت لعاشقها حباً ازدادت لزوجها مقتاً. ولأجل عشيقها الذي يملك ثروة من التجربة أخذت تعتني بنفسها وتبالغ في الزينة والتأنق. وأعطته مفتاح الحديقة الخلفي، فكانا يتقابلان طرفاً من النهار وزلفاً من الليل، وفي يوم حضوره كانت تملأ الغرفة بالأزاهرن وتتزين بكا ما تملك من حلي. ولم يعاتبها شارل على تبذيرها قط
وكان ليريه البائع المتجول يجلب اليها كل ما تطلب ويغريها بطلب المزيد، وما عليها إلا أن توقع على صكوك يقدمها لها فيصبح العزيز ملكاً لها. ولما ألح في طلب نقوده بعد زمن؛ دفعت له مالاُ أتى لزوجها من عميل، ولم تخبره بذلك
- (حينما تدق الساعة اثنتي عشرة مرة في الليل يجب أن تفكر في). فاذا اعترق لها بأنه لم يفعل كانت تؤنبه، ثم تختم بكلمتها الأبدية
- (أمغرم بي أنت؟)
- (أجل. طبعاً)
- (كثيراً؟)
- (ما في ذلك شك)
- (ولم تحب غيري، عل فعلت؟)
- (اتظن أني كنت عذراء حين تلاقينا.)
ثم تبي فيترضاها فتقول:
- (ذلك لأني أحبك كثيراً. أحبك حتى لا أطيق الحياة بدونك. وأحياناً أقول لنفسي. أين هو؟ ربما ينعم بالحديث مع نساء أخريات. هن يبسمن له وهو يدنو منهن. ولكنك لا تهتم بهن،
أليس كذلك؟ كثيرات من يفقنني حسناً، ولكني اتن الحب أكثر منهن. إنني خدمتك وخليلتك، وأنت مليكي ومعبودي. كم أنت رحيم وجميل وماهر وقوي!)
وبدأ المعبود كعادته يسأم العاطفة العارية والكلمات المعادة.
ولما عيل صبرها من زوجها وأمه، قررت الفرار مع عشيقها وأخبرته بعزمها. فأخذ يسوف ويؤجل، وهي تؤمل وتستعد. وأخيراً حل الموعد المضؤوب، وبدلاً من ان يحضر أرسل اليها كتاباً يخبرها فيه بأنه لأجلها لن يطاوعها على فكرتها، ويريها أن فرارها معه عاقبته في النهاية وخيمة عليها، ويختمه بقوله:(. . . إنني أعاقب نفسي بالنفي للضرر الذي سببته لك. سأذهب بعيداً. لا أدري أين. لا تنسي الرجل البائس الذي تسبب في شقائك، وعلمي ابنتك اسمي حتى تذكره في صلواتها. وحين تقرئين هذه الأسطر البائسة أكون بعيداً، إذ يجب أن أتجنب الأغراء حتى لا أراك ثانية. كوني شجاعة. سأعود، وربما نستطيع بعد أن نتحدث بهدوء عن حبنا الأول، وداعاً. . .)
ولما قرأت الخطاب أغمى عليها، ومرضت ثلاثة وأربعين يوماً. وفي اثناء ذلك استدان زوجها ثمن الأدوية، وتدخل (ليريه) وتمكن أن يجعل بوفاري يوقع على كمبيالة لمدة ستة أشهر بالأشياء التي أخذتها مدام بوفاري. وبعدها طلب بوفاري من الرجل ألف فرنك يدفعها بله بعد سنة سبعين وألفاً
وأخيراً تحسنت صحتها قليلاً ولكنها أحست الزهد، وألح زوجها أن تحضر حفلة تمثيل في روان وهناك قابلا ليون
وفي القسم الثالث تبدأ مع ليون على أنقاض الغرام الأول حلقة غرام آخر مستهتر عنيف. والق أنها قاومت في مبدإ الأمر. فهي ما زالت متشائمة خائرة تحت تأثير الصدمة الأولى. إلا أن ليون الذي غيرته الحياة الباريسية حملها في تيار جارف. وفي فند في المدينة أخذا يلتقيان يوماً كل أسبوع. وكانت تتذرع أمام زوجها بأنها تتلقى دروساً في البيانو على معلمة في روان
واندفعت مرة أخرى في شراء هداياها فزادت ديونها وتعددت الصكوك وذاق ليون معها للمرة الأولى رقة الاناقة النسوية التي لا يعبر عنها وصف، وأصبحت لا غنى لها عن لقياه، وكانت تذهب لتدهوه من محل عمله، وترتعش إذا فكرت أن حبه قد يتلاشى يوماً ما
وبدأ ليريه يحاصرها مطالباً بنقوده، عارضاً كمبيالات أخرى، وخضعت لسحر النقود فأخذت توقع عليها وتندفع في متعتها
وأخيراً حول ليريه بضعاً من هذه الكمبيلات غلى مالي آخر. ولما ذهبت تسأله جلية الخبر جعلها توقع على أربع كمبيالات أخر. وأخذت ترسل إلى عملاء بوفاري المدينين وتطلب النقود منهم وترجوهم ألا يخبروه (لأن ذلك يؤثر في كبريائه.)
وفي ذات يوم استلمت ورقة حجز رسمية. وأرسلت لليريه وهي دهشة. وصارحها الرجل بأن ذلك هو السبيل الوحيد لاسترداد نقوده. ولم يقبل منها أي توسل أو رجاء
وذهبت على عجل إلى ليون وطلبت منه أن يبحث لها بأي وسيلة عن ثمانية اآف فرنك فلم يفلح، فعادت أدارجها ذاهلة مدحورة. وفي الصباح التالي نشر الاعلان الرسمي للحجز في الميدان
ونصحتها خادمتها أن تذهب إلى مسيو (جيللومين) المحامي الغني. فذهبت تشكو إليه ليريه وقصت عليه المسألة فقال:
- ولكن لِمَ لم تخبريني السبب؟ لماذا. . . . أخائفة أنت مني؟ أرجح ان لدي عذراً للشكور. فما نكاد نتعارف، لكني أعترف لك بأني أشد العبيد تفانياً، وأملي ألا يخامرك في ذلك شك
وأسك بيدها وانكب يقبلها بشراهة، وأبقاها على ركبته، بينما كان يعبث بأناملها، وأحست بأنفاسه على خدها، وقالت:
- (سيدي أني أنتظر) وشجب وجه الرجل فجأة وقال (ماذا؟) قالت: - (النقود.)
فقال: (لكن. . .) ثم أجاب الرغبة الحادة قائلاً:
(حسن. أجل!) وركع وهو يقول (بحق الرحمة، امكثي!)
ووق خصرها بذراه. فاندفع الدم إلى وجهها وتراجعت قائلة:
لا! سيدي أنت تنتهز خطورة مركزي بحماقة. إنني أستحق الرحمة، ولني لست للبيع.) وخرجت في ثورة من الهياج والغضب وخطره لها فجأة أن تذهب الى رودولف. فدهش لرؤيتها. ولم تخبره بمطلبها باديء الأمر. ورحب بها وأظهر أسفه لانفصالهما واندفع يقول إنها المرأة الوحيدة التي أحبها ورجاها أن تخبره بما يزعجها. ولما طلبت منه أن يقرضها ثلاثة الأف فرنك تراجع وأخبرها بأن هذا المبلغ غير موجود لديه
فقالت: (ليس لديك! كان الأحرى أن أوفر على نفسي هذا الذل. لم تحبني بتاتاً، ولست خيراً من اآخرين.)
وخرجت وهي تكاد لا تعي. ومر امامها الماضي سريعاً. وشعرت بأنها ستجن، وبأن روحها تتسرب منها كما ينزف الدم من الجريح. وأخيراً دخلت من الباب الخلفي لصيدلية (هوميه) وهو يتعشى. واستطاعت أن تحصل على مقدار من السم. وعادت إلى منزلها. وجدها زوجها المسكين تكتب خطاباً، ولما سألها عما حدث اجابته مشيرة إلى الخطاب (يجب أن تقرأ هذا غداً.) ورجته أن يتركها وحدها، استلقت على الفراش، وبدأت تظهر عليها أعراض السم، وأحست بالظمأ وبطعم الحبر. وسألها زوجها عما تشكو فلم تجب. وبعد قليل بدأ القيء. وأصبح وجهها أزرق اللون، وأخذت أسنانها تصطك، وبصرها يضطرب، ولما عاد يسألها في قلق أشارت إلى الخطاب. ولما قرأه صرخ طالباً المعونة. وحضر الصيديلي هوميه، وأرسلا إلى طبيبين، واضطربا في غمرات من الدهشة الذاهلة. ثم اتمى شارل على الفراش ينتخ. فقالت له:
- لا تبك، فلن أحتمل زيداة على ذلك
- لماذا؟ ما الذي دفعك إلى ذلك؟
- كنت مرغمة يا صديقي
- أما كنت سعيدة؟ أهي غلطتي؟ لقد فعلت كل ما أستطيع
- بلى ذلك حق. . . أنت طيب جداً
وعز على الرجل فراقها وقد أقرت أنها أجبته أكثر من أي لحظة خلت. لم تعد تره أحداً الآن. والصوت الدنيوي الوحيد الذي كانت تسمعه هو عويل قلبها المسكين، الذي كان هادئاً خافتاً، كالصدى الأخير لموسيقى بعيدة. وقال وهي ترفع نفسها على مرفقها (أحضروا طفلتي.)
وحضرت وخاطبتها ثم أبعدتها. وأتي الطبيب، ولكنها بدأت تبصق دماً. وبدأت أعضاؤها تتشنج، وتغطي جسمها بقع سمراء - وحضر الطبيب الآخر فرآها ثم قال لزوجها:
- كن شجاعاً يا صديقي المسكين فما نستطيع شيئاً
ماتت المسكينة فأخذ كل شخص يشتغل الموقف. معلمة الموسيقى تطلب أجر ستة شهور
مع أن مدام بوفاري لم تأخذ درساً واحداً، وصاحب المكتبة يريد اشترا ستة شهور الخ
وأرسلت مدام ديبوي تنبئه بزواج ليون ديبوي بالآنسة ليو كادي ليبوف. وكتب شارل يهنئها ويقول:
(لشد ما كان يسعد زوجتي أن تعلم ذلك!)
وفي ذات يوم وهو يهيم بالمنزل عثر في الغرفة العيا على كرة من الوق لرفيع، فتحها فاذا بها خطاب رودلف الأخير؛ وكانت صدمة عنيفة. رأى حرف (ر) وعرف من هو؛ ولكنه عاد يقول: ربما كان ذلك تجاذباً روحياً فحسب. لقد كانت محبوبة من كل إنيان
ولكي يسعدها وهي ميتة كان يعيش كما كانت تهوى وتفكر. كان يلبس أحذية لامعة. وربطات رقبة بيضاء، ويضع على شاربه الأصباغ، ويستدين المال بالكمبيالات - وبالجملة كانت تئثر فيه من وراء اللحد
واضطر أن يبيع الأثاث. إلا أنه لم يمس غرفتها بل ظلت كما كانت. وكان يذهب اليها دائماً بعد العشاء، ويضع المنضدة المستديرة بجوار المدفأة وكرسيها بجانبها وكرسيه بالجانب اآخر؛ واحتراماً لها لم يفتح درجها السري الخاص. ولكنه جلس أمامه يوماً وفتحه. وكانت خطابات ليون فيه. فقرأها وأخذ يبكي ويصرخ، ثم وجد رسائل رودولف وصورته أيضاً
ودهش الجميع للانحطاط الذي عراه، وانقطع عن الخروج ورفض أن يعود مرضاه. ولكن بعض المطفلين كان يتسلق سور الحديقة المرتفع ويدهش إذ يرى الرجل في ثياب رثة، وجال سيئة. وفي الأماسي الصيفية كان يصطحب ابته إلى المقبرة، فلا يعودان إلا بعد أن يسدف الليل
وذهب يبيع جواده فقابل رودلف، فدعاه هذا في جرأة ليشرب زجاجة من الجعة بالحانة. وامام الرجل تاه شار في أفكاره. وأمام الوجه الذي أحبته كاد يظن أنه يرى شيئاً منها.
كان ذلك عجباً. وأوشك أن يتمنى أن يكون ذلك الرجل. ولم يصغ لحديثه، ولكنه قال أخيراً:
- (إنني لا أحمل لك حقداً) ووضع رأسه بين يديه، وقال في صوت ضعيف:(لا أحمل لك حقداً). ثم أضاف هذه اللمات الرفيعة وهي المرة الوحيدة التي قال فيها شيئاً غير عادي:
- (وكانت غلطة القدر)
وفي الساعة السابعة من اليوم التالي وكان جالساً على مقد في مشى الحديقة جاءت برتا الصغيرة التي ل ـره منذ الأصيل لتدعوه الى العشاء. وكان رأسه مسنداً الى الحائط، وعيناه مغمضتين، وفمه مفتوحاً، وخصلة من الشعر الفاحم في قبضة يده، وقالت (تعال يا أبت.) وظننته يريد أن يداعبها، فدفعته بلطف فسقط على الأرض ميتاً!
محمد سليمان علي