الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 800
- بتاريخ: 01 - 11 - 1948
فكاهة لها مغزى
لا أدري ما الذي أخطر ببالي في هذه الأيام هذه الواقعة المضحكة وقد
مضى على وقوعها ثلاثون سنة دون أن تجري على لساني أو تدور
بخاطري؟ اسمعها أولا ثم حاول بعد ذلك أن تعلل ورودها بما تشاء:
كان بلدينا الشيخ عبد الجبار خادم المسجد شموس الطبع طائش الحلم، يده أسرع من لسانه، ولسانه أطوع من عقله؛ ولكنه كان كسائر النزقين أبيض القلب سليم الصدر، لا تبطئ ريحه أن تسكن، ولا تلبث أناته أن تعود. ذهب ذات يوم إلى المنصورة يقبض مرتبه من مأمورية الأوقاف، ويمتاز لعياله من سوق المدينة. فلما كان عائدا إلى القرية، فوقه مظلته العتيقة، وتحته جحشته الريضة، قابله في مضيق الطريق حماران يسيران متوازيين وعليهما سماد الزبل والسرجين، فاقتحم العقبة من بينهما فصدم خرجه الأبجر أحد الحمارين فزال عن ظهره الغبيط. فاستشاط سائق الحمار وقال للشيخ في فوره غضبه: لا عجب ولا ملامة، خرج فوق خرج!! فوقف عبد الجبار دابته وصعر خده وقال للمتهكم الغضبان بلهجة المتحدي: ولم لا تقول حمار وراء حمار؟! فأجابه الفلاح وقد تنمر له وهم به: مخطئ وتسفه! ثم جذبه من ذراعه بقوة فسقط في حفرة، فبرك فوقه وأعانه شاب آخر وانهالا عليه طحنا بالصدر وعجنا بالأيدي، والمسكين تحتهما ملقى على ظهره، يضرب الهواء برجليه، ويحاول أن يدفع اللكم بيده؛ ولكنه كان أشبه بالسلحفاة المقلوبة، تحرك أطرافها ولا تتحرك، وتقلب رأسها ولا تقوم، حتى شاء الله الذي يؤخر النفس إذا لم يجئ اجلها أن يمر به في هذه اللحظة الشيخ عبد الرحمن، أخوه في القرآن، وزميله في الحرفة، وجاره في الحارة؛ فلم يكد يراه على هذه الحال حتى ترجل وانقض على الرجلين انقضاض النسر، فأزاح هذا بيمناه وذاك بيسراه، ثم أعمل فيهما يديه جميعا. ورأى الشيخ عبد الجبار صدره خفيفا فنهض كأنما نشط من عقال، وأسرع إلى حمارته فوثب عليها، وانطلق دون أن ينفض التراب عن ثوبه، ودون أن يقول للشابين بارك الله فيكما، وللشيخ عبد الرحمن السلام عليكم. . . وشفى غليله من الأنان فانحنى عليهما سبا باللسان وضربا بالعصا وطعنا بالمنخاس ولكزاً بالفخذين حتى بلغ الدار وصك رأسه الجدار.
وفي المساء أقبل الشيخ عبد الرحمن وعلى إهابه وجلبابه آثار المعركة فجمع له الناس
وقال: يا شيخ عبد الجبار كيف أنصرك وتخذلني، وأحييك وتقتلني، وأرفع عنك العبء فتلقيه علي، وأنقذك من الرجلين فتتركهما إلي؟!
فأجابه بلهجة خليط من الخزي والبلادة والمكابرة: كان بيني وبين فلان وعد في صلاة العصر. ومعاذ الله أن أخيس بوعد أو أحنث في يمين!
فقال له: أمرك يا مولانا عجيب! تحافظ على وعد وتفرط في روح، وتنظر إلى مصلحة وتغضي عن كرامة!!
فقال له الشيخ عبد الجبار وقد غلى دمه وهو لا يغلي إلا في السلم: سبحان الله يا أخي! لماذا تتجهمني هذا التجهم، وتعنفني هذا التعنيف؟ من قال لك انزل؟ هل كنت مغلوباً فانتصرت لي، أو مكروباً ففرجت عني، أو ضعيفاً فأشفقت علي؟ وهب الأمر كان كذلك، فهل بعد خرجي مأرب، أو بعد حمارتي مركب، أو بعد روحي حياة؟!
أحمد حسن الزيات
من قصص العصر الفاطمي:
خاتمة حياة
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
خذ يا نصر، فليس هذا بكثير عليك.
قال ذلك خليفة مصر الظافر بأمر الله وهو يقدم إلى نصر بن عباس عشرين طبقا من الفضة مملوءاً كل واحد منها بعشرين ألف دينار. فأجابه نصر: شكرا يا مولاي، إنني لم أزد على أرحتكم من وجه كنتم تبغضونه، وإن سرور مولاي هو كل ما أسعى إليه وأبغيه. قال الخليفة: ذلك قليل يا نصر، لقد قضيت أكثر من أربع سنين وأنا احمل هذا الوزير شجي في حلقي، وقذى في عيني، ومن الغريب انه كان يسمي نفسه الملك العادل، وأي ظلم أكبر من سلب حقي واغتصاب سلطاني! هذا أول يوم أشعر فيه بمجد الملك وعظمة الخلافة، وستكون تلك الليلة تذكارا لهذا العهد الجديد السعيد.
وما إن أقبل الليل حتى كان قصر الخلافة جوهرة غارقة بالنور، وجاء الندماء يمنون النفس بليلة سارة وساعات شهية، ولم تلبث جنبات القصر أن تجاوبت بأصداء الغناء، ودارت الساقيات الجميلات ببنت الكروم تلعب بالرءوس وتفعل ما تشاء بالألباب، ولما انقضى من الليل أكثره تفرق الجمع، ولكن الخليفة لم يرد أن تنقضي تلك الليلة من غير إنعام جديد على قاتل وزيره ابن السلار، فوهب نصراً مدينة قليوب، وأوصاه أن يبكر في الحضور إليه، فإنه ما كان يصبر على البعد عنه.
خرج نصر فرحا بما أعطي، ولما قابل أباه عباسا (وقد صار وزيرا) أخبره بأمر هذه الهبة، فما زاد أسامة بن منقذ أحد جلساء الوزير على أن قال:(ما هي في مهرك بكثير يا نصر).
وهنا أربد وجه الفتى، وغلى الدم في عروقه وأقبل يدافع عن نفسه في حماسة وقوة، حتى قال له والده:(نحن لا نصدق يا بني ما يقال، ولكن الناس يلوكون عرضك وعرض الأمير، فبالله إلا غسلت هذا العرض. إن جمال الوجه كثيرا ما يجلب على صاحبه الأقاويل، ولقد خجلت لكثرة ما سمعت عنك وعن مولاك). فخرج نصر وقد صمم على أمر.
لم يبد على صلة الصديقين فتور، بل اطردت كما هي: يقضي نصر معظم وقته مع
الخليفة، حتى إذا كان يوم اشتد فيه إقبال الظافر على نصر، قال له نصر:(لقد نلت منك يا مولاي كل أنواع التكريم؛ فهل يضيف سيدي إلى نعمه تشريفه إياي في وليمة خاصة بنا في منزلي الليلة، وسوف أفاجئ مولاي بما يلذ له من جيد الغناء، وعتيق الخمر، وأجمل النساء). ولم يكد نصر يسمع من الخليفة ترحيبه بالدعوة وقبولها قائلا له: (ذلك هو العيش يا نصر)، حتى خرج يعد للأمر عدته.
وفي الليل الساجي، والظلام الذي لا تتبين فيه شخوص السائرين، خرج الخليفة الشاب من قصره مستخفيا، لا يصاحبه غير خادمين، ولا يكاد يتميز عمن حوله من الناس، حتى إذا دخل منزل مضيفه، أنقض عليه وعلى أحد خادميه من أعدهم نصر للانقضاض، وبعد بضع دقائق كانت جثة الخليفة ملقاة في بئر هناك، ومضى نصر يخبر والده بما فعل!
تنفس الصبح فشاهد الناس في البكور الوزير عباس ميمما قصر الخلافة يتبعهم ألف جندي شاهرون سلاحهم، ودخل القصر، وطال جلوسه، فاستدعى زمام القصر وقال له (إن كان لمولانا ما يشغله عنا في هذا اليوم عدنا إليه في الغد)؛ فمضى الزمام وهو يبحث عن الخليفة في كل مكان، ثم عاد ليقول لعباس:(خرج الخليفة البارحة لزيارة ولدك نصر فلم يعد! فقال عباس تكذب يا عبد السوء! لقد دبرا أخواه قتله حسدا على الخلافة، واتفقتم على هذا القول)؛ فقال الزمام: (معاذ الله!)؛ قال عباس: (فأين هما؟)؛ فخرجا إليه، فسألهما عن أخيهما، فأنكرا معرفة مكانه، فأمر غلمانه بقتلهما، فقتلا بين يديه!!
وفي ليلة حزينة ثقل فيها الهم على عباس وابنه، فقد آذاهما أن يشتركا في قتل ابن مصال وزير الظافر الأول، وقتل ابن السلار وزيره الثاني، وان يقتلا الخليفة وأخويه، ثم يبحثا حولهما فيجدا السلطة التي جدا في الحصول عليها تكاد تفلت منهما وتمضي، فأقبل أحدهما على صاحبه ودار بينهما حديث:
- أرأيت يا نصر: إن الأمر لم يصف لنا كما كنا نؤمل، وإن الجمهور لم يجز عليه ما أحكمناه من حيلة وتدبير!
- الذنب في ذلك ذنب رجالي يا أبي، فإن خادم الظافر الذي أفلت من يدهم هو الذي أذاع سر الجريمة، وكشف ما كنا نحرص على ستره.
- وهذا الشعب الذي ألفنا منه الطاعة أصبح ثائرا متمردا يسمعنا أنى سرنا أوجع الكلام
وأحط أنواع السباب، ينادي بالثأر، ويهتف بالانتقام.
- ليت الأمر يا أبي وقف عند الهتاف والكلام، فإن الفتنة قائمة، والأنصار الذين كنا نعتمد عليهم قد انفضوا من حولنا، وأصبحت لا أرى إلا وجوها عابسة، ونفوسا متبرمة، وجوا ينذر بعاصفة.
- لقد كنت يا بني سائرا بالأمس فرأيت هاوناً ألقي علي، ولولا حظي الحسن لحطم رأسي. وأول أمس ألقي علي ماء مغلي كاد يحرقني لولا فضل الله!
- وهل جاءك نبأ طلائع بن رزيك، لقد بعث إليه الأمراء يستنجدون به ليأخذ بثأر من قتلناه. أما أخوات الظافر فقد بعثن إليع بشعورهن في كتب سوداء، وأطلعني جاسوس لا يزال مخلصا لنا على قصيدة طويلة أرسلها إليه القاضي الجليس يحثه فيها على الانتقام، ولا أخال طلائع إلا منتهزا تلك الفرصة النادرة، وقادما إلى القاهرة ليجلس على كرسي الوزارة الذي ينتظره، ويثأر منا غن ظفر بنا.
وهل ننتظر حتى يظفر بنا لابد من الهرب يا بني!
- وإلى أين يا أبي؟
- إلى الشام عند نور الدين محمود، وسنطلعه على ما وصلت إليه مصر من الضعف والانحلال، ونزين له فتحها ونكون له عمالا عليها، وسوف يمهد لنا الطريق إليه الأمير أسامة بن منقذ رفيقنا في رحلتنا.
حث الرسل الخطى إلى طلائع فاستشار من حوله من رجاله، وأجمعوا أمرهم بينهم على الزحف السريع إلى القاهرة، وانضم إليهم قبائل كثيرة من العرب والسودان، حتى إذا دنوا من القاهرة لبسوا جميعا ملابس سوداء ورفعوا رايات سوداء، ونشروا شعور السيدات على أطراف الرماح، وخرج أهل المدينة لاستقبال الجيش الزاحف هاتفين بالثأر من القاتلين.
لم ينتظر نصر ووالده ومن معه حتى يدهمهم عدوهم في عقر دارهم، بل جمعوا ما بقي لديهم من رجال، وحملوا كل ما يملكونه من متاع ومال، ولما جن الليل فروا من القاهرة مهطعين، غير إن عيون بنات الظافر سرعان ما نقلوا خبر فرارهم إليهن، ففكرن في الأمر مليا: هل يتركن الأسير يفلت؟ وهل يدعن الانتقام ممن حرمهن الأخ الصغير والأخوين الكبيرين؟ وأهان عرش الآباء والأجداد؟ أو يكتفين بأن يذهب العدو ويدعهن أحرارا في
بلادهن؟ وهل يأمن جانب هذه الأفعى وهو رأس المؤامرات وأساس الفتن والدسائس؟ إنهن لا يأمن جانبه ولا يعرفن قصده ونواياه. ومن يدري ماذا تكون النتيجة ذا ترك حيا، فربما كان في بقائه خطر جديد يهدد الأسرة والعرش.
والآن، لابد من التفكير السريع قبل أن يطير العصفور من القفص، وتفلت الفرصة من اليد. سيهرب نصر ووالده إلى الشام وسيمران بأرض الصليبين في طريقهما، وإذا كان الصليبيون أعداء مصر فلا بأس من الاستعانة بهم في القبض على القاتل الفار؛ ولما كان المر يتطلب سرعة في التنفيذ، أرسلن رسول يثقن فيه كل الثقة، وطلبن منه أن يسابق الريح حتى يصل هدفه قبل أن يفر نصر.
وجد القائد الصليبي لقلعة عسقلان فيما عرض عليه الرسول ما يغريه ليقابل بمقابلة نصر وأبيه، فالقائد مطمئن إلى الظفر والنجاح بما مع الفارين بما مع الفارين غنيمة باردة وبما وعدت بتقديمه أخوات الظافر من المال، فأصدر أمر إلى الجند بالتأهب لمقابلة الفارين. وبينما كان نصر وعباس يمنيان النفس بكبار الآمال ابصرا جند الصليبين يحيطون بجمعهما، فلم يجدا بدا من الدفاع عن أنفسهما في معركة خاسرة، مات فيها عباس وابن له صغير، بينما حرص الجند على إن يظفروا بنصر حيا ليثابوا - كم وعدوا - بأجزل الصلات، فلما سقط في أيديهم وضعوه في قفص من جديد.
الركب سائر إلى القاهرة وقلب نصر قد ملئ بما شغله من الهم، فظل قابعا في قفصه يفكر في ماضيه، ويتخيل الوزير ابن سلار وهو ينقض عليه من غير ذنب جناه، والخليفة الظافر وقد انساب إليه الرجال يغتالونه على مرأى منه وفي داره، وهاهو ذا يفقد أباه وأخاه ويقاد إلى مصير لا شك في قسوته وشدته.
لقد جاءت رسل من القاهرة تتعجل قدومه فأنبأته بأن جثة الخليفة أخرجت من بئر في بيته، وأن طلائع بن رزيك وضعها في تابوت سائر خلفه حافيا حاسر الرأس، وتبعة الأمراء والقادة والشعب حفاة حاسري الرأس، وأن الجميع في انتظار نصر على أحر من الجمر.
كل ذلك وأسير القفص لا ينبس ببنت شفة طول الطريق، حتى إذا أشرف على القاهرة وبدت لعينيه أبوابها الضخمة ومآذنها العالية تنهد وقال:
بلى، نحن كنا أهلها، فأبادنا
…
صروف الليالي والجدود العواثر
ومرت برأسه ذكريات مجده القريب، وذكر المواكب التي كان يختال فيها على جواده، تعقد عليه الآمال، وتستعظمه العيون والنفوس، أما اليوم، فها هو ذا يدخل القاهرة مقيدا مغلولا، وما أن لمحه الجمهور حتى هاجت المدينة وماجت كل يريد أن يراه في قفصه الحديد، ولم يدع الشعب إهانة ولا سخرية لم يلحقها بنصر ووالد نصر. أما أخوات الظافر فما كدن يسمعن بقدومه حتى أرسلن يستعجلن حضوره، وقد سمح لهن طلائع أن يفعلن به ما يشفي غليلهن، وكم حزن عندما علمن أن الموت حال بينهن وبين الانتقام من عباس!
لم تستقبل أخوات الظافر نصرا إلا بالأخفاف والقباقيب، حتى إذا تعبن من ضربه وأدمين وجهه وجسمه ورأسه، أرسلن إلى أحد الأطباء، فصلم أذنيه، وجدع أنفه، وأخذت هذه الأشياء فطهيت، وأجبر نصر على أكلها، ثم وضع في قفصه الحديدي، وطيف به في القاهرة لم يترك شارع ولا حارة ولا درب إلا شهد الأصلم الأجدع واشترك في إهانته والسخرية منه، فإذا تم طوافه بالقاهرة أخذ حيا وعلق على باب زويلة، وظل هناك عدة أشهر حتى مل الناس رؤيته، فانزل وأحرقت جثته وذريت في الهواء.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول
المصحف المبوب
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
عصرنا هذا عصر تجديد في كل شيء، وكان من الواجب علينا - معشر المسلمين - أن نجعل لطابع هذا العصر أثرا في مصحفنا، لأنه يحوي بين دفتيه أعز شيء عندنا، وهو القرآن الكريم الذي نسعد به في دنيانا وأخرانا، فلا يزال هذا المصحف يظهر بيننا بشكله القديم، لا شيء فيه إلا ما في هامشه من بيان أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وارباعها، وليس في هذا أثر للإخراج العلمي الذي يبذل في عصرنا عند إخراج الكتب البشرية، إذ تلحق بها أشياء كثيرة ترغب في الاطلاع عليها، وتساعد في الاستفادة منها.
ولا شك أن جمودنا بازاء ما يلزم لمصحفنا في عصرنا يخالف كل المخالفة حال سلفنا الصالح بازاء هذا المصحف، فقد كان القرآن الكريم مفرقا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في العسب واللخاف وصدور الرجال، وقد مات وهو على هذه الحال، فلما كانت وقعة اليمامة في خلافة أبي بكر أتاه عمر فقال له: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن. فقال له أبو بكر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر هو والله خير. ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره لذلك، وأحضرا زيد بن ثابت فقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن، أجمعه. فتتبعه زيد يجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى جمعه في صحف مكتوبة، ثم أخذها فأعطاها أبو بكر، وقد ائتمروا ما يسمون ذلك؟ فقال بعضهم: سموه السفر، فرد عليه بأن هذا تسمية اليهود، فكرهوه فقال بعضهم: رأيت مثله بالحبشة يسمى (المصحف) فاجتمع رأيهم على أن يسموه (المصحف)، وكان هذا أول تجديد في ترتيب المصحف وتسميته.
ثم اختلف الناس في قراءة القرآن على عهد عثمان، حتى أقتتل الغلمان والمعلمون بالمدينة، وكانوا قد قرءوه بلغاتهم على أتساعها فبلغ ذلك عثمان فجمعهم وقال لهم: عندي تكذبون به وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا فكتبوا للناس إماماً. فجمعوا أثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الصحف التي كتبت في عهد أبي بكر فأتوا بها، وكانت محفوظة في بيت عمر عند ابنته حفصة، فأعادوا كتابتها
على لغة قريش وحدها، لأن القرآن نزل أولا بلغتهم، ثم وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فلما حصل ذلك الخلاف رؤي أن الحاجة إلى تلك التوسعة قد زالت فاقتصر في كتابته على لغة واحدة، وكان هذا ثاني تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم فسد اللسان العربي باختلاط العرب مع غيرهم بعد الفتوح الإسلامية، وظهر اللحن والتحريف في الألسنة وفي قراءة القرآن، لأنهم كانوا يكتبون بلا إعجام ولا شكل إلا قليلا، اعتماداً منهم على معرفة المكتوب إليهم باللغة، واكتفائهم بالرمز القليل في قراءة اللفظ، فلما ظهر ذلك الفساد أشفق المسلمون على تحريف ألفاظ القرآن، فوضع أبو الأسود الدؤلي من التابعين علامات في المصحف بصبغ مخالف لما يكتب به، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة اسلفه، وجعل علامة الضمة نقطة من جهة اليسار، وجعل التنوين نقطتين، وذلك في عهد معاوية، وكان ثالث تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر نقط الإعجام بنفس المداد الذي كان المصحف يكتب به لتتميز الحروف المتشابه بعضها من بعض، وكانا تلميذين لأبي الأسود الدؤلي، وقد فعلا هذا بأمر الحجاج بن يوسف، وفي عهد عبد الملك بن مروان، وكان هذا رابع تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم اخترع الخليل بن أحمد الشكل المستعمل الآن، لأن نقط الإعجام كانت تشتبه أحيانا بنقط الشكل، وإن كانتا تكتبان بصبغين مختلفين، وكان من الصعب وضياع الزمن كتابتهما بمدادين، فجعل الضمة واوا صغيرة فوق الحرف، وجعل الفتحة ألفا صغيرة، وجعل الكسرة ياء صغيرة، وجعل الشدة راس شين، وجعل السكون رأس خاء، وجعل همزة القطع رأس عين، وقد أتى بعد الخليل من اختزل في هذا الشكل وزاد عليه حتى صار في حاله المعروف الآن، وكان هذا خامس تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم وقفت كتابة المصحف عند هذا الحد، إلا ما حصل من كتابتهم بهامشه بيان أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وارباعها، وهو عمل قليل النفع، ضئيل الفائدة، لا يدعو إليه إلا ما اعتدناه من العناية بالقرآن بالحفظ دون الفهم، فقسمناه إلى تلك أجزاء والأحزاب والأرباع،
لتكون لنا منها أوراد نتلوها للتبرك، لا للعظة والاعتبار، لأنه لا يوجد في ذلك التقسيم ما يلفت إلى الفهم في القراءة، ولا تمكن عظة بقراءة من غير فهم.
فيجب أن نعدل عن ذلك التقسيم الذي لا فائدة فيه إلى تبويب السور بهامش المصحف تبويبا يعتمد فيه على الغرض المقصود من كل سورة، فيقسم إلى أقسام مرتبة متميزة، تلفت القارئ إلى ما ينطوي تحتها من المعاني، وتوجهه في قراءته إلى ما تشير إليه من المقاصد، لتكون قراءته نافعة مفيدة مؤدية إلى ما أنزل القرآن لأجله، وهو الهداية.
وسيكون هذا تجديدا عظيما في ترتيب المصحف وكتابته، تظهر به سورة متسقة المعاني، منتظمة المباني، فلا يظن ظان أنه ينقصها شيء من اتساق معانيها وانتظام مبانيها، وقد وقع في هذا الظن الآثم بعض المستشرقين، لأنه لم يجد أمامه مثل هذا المصحف الذي تبوب سوره بهامشه ذلك التبويب، وتقسم فيه إلى تلك الأقسام المرتبة المتميزة، ولو انه وجده لم يقع في ذلك الظن، ولعرف إن سور القرآن متسقة المعاني منتظمة المباني على خلاف ما ظن، ولقد مهدت لهذا المصحف بكتابي (النظم الفني في القرآن)، وسيظهر قريبا هذا الكتاب، ولعلنا نرى قريبا بعده هذا المصحف المبوب.
عبد المتعال الصعيدي
طرائف من العصر المملوكي:
الزجل والزجالون
للأستاذ محمود رزق سليم
أطلق الزجل على الشعراء العامي الذي اختلفت قوافيه، وتنوعت أوزانه في القصيدة الواحدة، وأهملت حركات إعرابه، وروعيت فيه العامية في بيانها ومسالك حديثها، وما يغشيها من لحن وتحريف وقلب ودخيل، وأمثال سوقية، إلى غير ذلك.
وقد كانت الموشحات الفصيحة بما أتيح لها من حرية في الوزن والقافية، مرحلة انتقال بين الشعر الفصيح والعامي: غير أن السبب الأصيل الذي هيأ السبيل لظهور الشعر العامي هو فساد ألسنة العوام وانحرافها في تخاطبها من الفصيحة إلى العامية.
والشعر العامي له أهميته وخطره، وبخاصة بعد أن سلخ من عمره سنين، ونضج في معظم العصور نضجا مرموقا. فإذا جاز لنا أن نقول أن الشعر الفصيح يمثل الأمة خير تمثيل، فإنه يمثل خاصتها تمثيلا أدق. أما العامة، ولا سيما بعد فساد لسانها وتأبيه على الفصيحة، فإن الشعر العامي أصبح يمثلها إلى حد بعيد. إذ هو منظوم بلغتها، محكي بأساليبها في تأدية المعاني، محتو على كثير من تصوراتها وأخيلتها وطرق تفكيرها ومظاهر شعورها. فهو لذلك بحاجة إلى العناية بنتاجه ودراسة هذا النتاج. واعتقادنا أن هذه العناية تفيد الفصحى ولا تضرها، فضلاً عما تضفيه على التاريخ والأدب من معونة، تلقى - على الأقل - ضوءا على مدى تحول العامية بين عصر وعصر.
والقصيدة الزجلية تسمى (حملا) تشبيها لها بحمل الداية، لانقسام شطورها - غالباً - إلى قسمين، وينقسم الحمل إلى عدة مقطوعات تحتوي كل مقطوعة منها على عدة أبيات، وتسمى المقطوعة (دورا) أما المقطوعة الافتتاحية فتتألف عادة من بيتين، وتسمى (مذهبا)، ويلتزم شيئاً من قوافيها - غالباً - في الأبيات الأخيرة من كل دور. وعرفت القصيدة الزجلية أيضا في مصر باسم (البليقة) وجمعها (بلاليق) وربما كانت تطلق على الموشحات القصيرة.
وتعددت أوزان الزجل وتنوعت قوافيه، حتى قيل في بلاد الأندلس:(إن من لا يعرف ألف وزن ليس بزجال). وقد ذاعت منه أنواع، عرفت في مصر الشام وغيرهما. ومنها:
الدوبيت، والقومة، وكان وكان، والمواليا. وتعتبر هذه الفنون الثلاثة الأخيرة - عند البعض - مستقلة عن الزجل. ومهما يكن من شيء، فإنها جميعا تجمعها صفة العامة، ومغايرة الشعر الفصيح.
وقد برز الزجل - على ما رواه ابن خلدون - في بلاد الأندلس أولا، على عهد الأمويين ملوك قرطبة، وذلك بعد فساد اللسنة وظهور الموشحات، والتحلل من قيود الوزن والقافية. ونفقت سوقه في دول البربر لمكان أمرائها من العجمة، وقرب فهمتهم للعامية. واشتهر في إحدى دولهم وهي دولة الملثمين، إمام الزجالين (أبو بكر بن قزمان).
وقد سرت عدوى الزجل من المغرب إلى بلاد المشرق، ومنها مصر، فلقي بها رواجاً عظيماً، فتعددت أنواعه وأغراضه وذاع خاصة في العهد المملوكي وأقبل السلاطين والأمراء والناس على سماعه وإنشاده؛ وذلك للعجمة أو الاستعجام واستبداد العامية بالألسنة وضعف الثقافة الأدبية بعامة. وبذلك عبد السبيل أمام أهل الزجل، فنشطوا نشاطا ملحوظا، واحتفلوا بفنهم، وشاركوا الشعراء في كل ميدان تقريبا، وزاحموهم في أخص أغراضهم الشعرية بل شأوهم في بعضها، وأربوا عليهم، وسجلوا من الحوادث من الشعور ما لم يبده أو يسجله شاعر.
طرق الزجالون إذا أبواباً شعرية عدة، فنظموا الغزل البديع والخمريات الصافية، والنقد المر اللاذع، ووصفوا مناظر الطبيعة وسجلوا الحوادث العامة، والحروب الناشبة، وحمسوا ورثوا، ووقفوا على أعقاب المدن الزائلة، والأحياء الدارسة، والدول الذاهبة، فدونوا أحداثها وذرفوا الدموع على أحداثها، واستخرجوا دور الحكمة من ثناياها، هذا إلى مجون صريح، وتفكه مليح، إلى غير ذلك.
لا بدع حينذاك أن يحتفي الناس بهم ويحتفلوا بنظمهم، وأن تتقدم منازلهم عند الرؤساء والعامة. وللعامة إقبال على كل ما يمس مشاعرها، ويترجم عن خواطرها، من الأغاني والأناشيد ونحوها.
وقد روي أن النيل في عام 922هـ بلغ حد الوفاء في فيضانه، قبل شهر مسرى، على غير عادته منذ زمن طويل، فكان هذا مثار الاستبشار ومبعث الابتهاج والفرح، فنظم بعضهم أغنية بهذه المناسبة مطلعها:
يا حبيب اهنا وطيب
…
النيل أوفى من أبيب
وقد بقينا في هنا
…
يا فرحنا
وعكس ذلك وقع في عام 709هـ، فقد شح النيل وتمنع عن الوفاء، وكان السلطان الناصر بن قلاوون - وكان بعه عرج - قد عزل نفسه عن السلطنة، فوثب إليها الأمير (ركن الدين بيبرس الجاشنكير) وكانت العامة تلقبه (بالركين) وكان نائب سلطنته هو الأمير سلار، وأصله من التتار، وكان أجرد تغشي فاه بعض شعرات، فشاع بين العامة زجل تفكهوا به عليهما، وضمنوه عواطفهم نحوهما ونحو سلطانهم المعزول، قالوا:
سلطاننا ركين ونائبو دقين
…
يجينا الماء مين
هاتوا لنا الأعرج
…
يجيء الماء يدحرج
وقد غشيت الزجليات لوثات البديع، ولحقت بها علاقاته، ما بين توريات لطيفة وتلميحات طريفة، إلى تضمين وجناس وطباق ونحو ذلك. ونحن هنا نأسف أشد الأسف لعدم معرفتنا الفنية برسم الأزجال المأثورة، وعدم علمنا بلهجات نطقها، وهذا من شأنه أن يضع صعوبات جمة في سبيل فهمنا الحق لكافة معاني الزجلية، وإدراكنا التام لجميع صورها. وكأني بابن حجة قد شعر سلفاً بهذه الصعوبات فنوه بها فقال (الزجل فن فمن يتمكن الناظم فيه من المعاني، لجولانه في ميادين الأغصان والخرجات، وهو لايحسن رسمه في الكتابة إلا من عرف اصطلاحه، وقد روى زجلا فريدا لعلي بن مقاتل، يتغزل في شاب مليح خياط. ومطلعه: (نهوى خياط سبحان تبارك من الجمال جملوا) ثم قال معقبا بعد روايته (كأني بمتأمل نظر في رسم كتابة هذا الزجل، فأنكره، لبعده عن رسم الألفاظ المعربة الخالية من اللحن، ويعذر في دلك لأنه ليس له إلمام بمصطلح رسمه. ومن رسمه على غير هذا الطريق لم ينفذ له مرسوم، فإنه يؤديه إلى خطأ وزنه وإعراب لجنه. ومصنفه أبو بكر بن يحيى بن قزمان الوزير. قال في خطبته: وقد جردته من الإعراب، تجريد السيف من القراب، ولم يطلب من الزجل غير عذوبة ألفاظه وغرابة معانيه).
هذا وقد أورد ابن خلدون في أحد فصول مقدمته نماذج من الزجل، كثير منها من نظم زجالي مصر والشام في العصر المملوكي ولم ينسبه لقائله. ويفهم من حديثه أن الزجال كان يقال له (شاعر) ونقول إنه كان يطلق عليه (القيم) أيضاً. وبهذه المناسبة نذكر أن بعض
كبار الشعراء في العصر المملوكي مثل محي الدين بن عبد الظاهر، وابن الوردي، وابن حجة الحموي، نظموا أزجالا، وكذلك قرض كثير من الزجالين الشعر. ومما رواه ابن خلدون قول بعضهم في الشكوى الغزلية وهو من المواليا:
يا من وصالو لأطفال المحبة بح
…
كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو والتصبر بح
…
كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
هذا ونذكر إن ابن آياس الحنفي المؤرخ الكبير صاحب كتاب (بدائع الزهور) سجل لنفسه في كتابه أزجالا عدة كل منها بمناسبته، ومنها ما نظمه يصف فيه جور السلطان الغوري حينما أرغم القاضي شهاب الدين أحمد بن يوسف، على أن يعطيه قطع الرخام المثمن التي تزدان بها قاعة أبيه المسماة (نصف الدنيا) ليجمل بها قاعته البيسرية. فقال ابن إياس موريا:
سلطاننا الغوري قد جار
…
والصبر منا قد أعيا
وصار في ذا الجور عمال
…
حتى خرب نصف الدنيا
ولزين الدين العجمي مواليا يصف فيها ارتياعه وقت البين، رواه ابن الحجة في كتابه (كشف اللثام). قال:
شدوا المحامل فصرت ساعة التحميل
…
ملهوف لا حمل يعنيني ولا تحميل
والعين قد حلفت يا بدر في التكميل
…
لا تكتحل بالكرى إن غبث عنها ميل
وترجم السخاوي في الضوء لمجذوب يدعى (أحمد حطيبة) توفي بدمياط عام 808هـ، ويبدو أنه كان أديبا عاشقا، وقد جن غيرة. ومن زجله في المعنى:
سري فضحته وأنتم سركم صنت
…
فقصدي رضاكم وأنتم تطلبون العنت
ذليت من بعد عزي في هواكم هنت
…
يا ليت الخلق لا كنتم ولا أنا كنت
ومن الشعراء الزجالين: صدر الدين بن المرحل، وهو محمد بن عمر، ويعرف في الشام بابن الوكيل. عاش بين سنتي 665هـ، 716هـ، وقد توفي في القاهرة. كان من فقهاء الشافعية ذكيا عجيب الحافظة مجادلا كثير الإطلاع شارك في علوم كثيرة، واشتغل بالتدريس في قبة الشافعي والمسجد الحسيني وغيرهما. ونظم الشعر الرقيق والموشحات الرائعة والأزجال العامرة. واعتبره ابن إياس شاعر عصره، وعده من الفحول، وطرق
أغراضاً شعرية كثيرة، وترجم له السبكي في طبقاته، وابن شاكر في فواته، وابن حجر في الدار، ولم يرووا شيئاً من زجلياته، على الرغم من شهرته، على الرغم من شهرته بالزجل والبلاليق، فإليك شيئاً من شعره، قال من خمرية.
لتذهبوا في ملامي إنهم ذهبوا
…
في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فيه تنفقه
…
وجه جميل وراح في الدجى لهب
لا تأسفن على مال تمزقه
…
أيدي سقاة الطلا والخرد العرب
وتغزل في مليح فقال:
تلك المعاطف أم غصون ألبان
…
لعبت ذوائبها على الكثبان
وتضجرت تلك الخدود فوردها
…
قد شق قلب شقائق النعمان
ما يفعل الموت المبرح في الورى
…
ما تفعل الإحداق في الأبدان
ويبدو أن صفي الدين الحلي تأثر بألفاظ هذه الأبيات، في قصيدته البارعة التي مطلعها:
خلع الربيع على غصون ألبان
…
حللا فواضلها على الكثبان
ومن أشهر زجالي العصر المملوكي قيم الزجل الكبير (خلف الغباري) الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، وتوفي في أوائل القرن التاسع في عهد السلطنة الثانية للناصر فرج بن برقوق. وكان حاذقا في صناعة الزجل، أدخل إليها خصوصيات الشعر وسماته في التصوير والتعبير، وولج بها أبوابه وفنونه، فتغزل ووصف ومدح وهنأ ورثى وسجل الحوادث، إلى غير ذلك. وحسنت صلته ببني قلاوون وبخاصة الأشرف شعبان، ثم بالظاهر برقوق، وهو طويل الباع مديد النفس، تبلغ زجلياته أحياناً ثمانين بيتاً أو تزيد.
وفي مطلع غزلية يقول، وفيه توريات لطيفة:
جاز حبيبي فقلت دا الحجاج
…
حا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور
…
ويكون الرشيد
وعندما اعتلى الأشرف شعبان حفيد الناصر بن قلاوون سلطنة مصر عام 714هـ هنأه الغباري بقصيدة زجلية منها:
حب قلبي شعبان موفق رشيد
…
وجمالو أشرق ومالو حدود
وأبوه الحسن وعمه الحسن
…
وارث الملك من جدود لجدود
سل لحظك صارم لقتل العدى
…
وأنت منصور طول المدى والسنين
زعق السعد بين يديك شاويش
…
فرح القلب بعد ما كان حزين
ونصب لك كرسي على مملكة
…
وظهر لك نصره بفتحو المبين
والعصايب من حولك اشتالت
…
خفقت في الركوب عليك بنود
فاحكم احكم في مصرنا سلطان
…
فجميع الملاح لحسنك جنود
ولما قتل الأشرف المذكور رثاه الغباري رثاء حارا طويلا بقصيدة لا نبالغ إذا قلنا بليغة، ومن أبياتها قوله في أحد أدوارها:
ضم الأشرف قبر يا ليت شعري
…
هو لقنديل نور ضياء جامع
أو صدف فيه خالص الجوهر
…
أو ذلك فيه غاب قمر طالع
أو نقول غاب فيه أسد ضاري
…
أو حفير جواه حسام قاطع
أو كناس فيه أحسن الغزلان
…
أو حمى فيه أفرس الفرسان
أو جسد فيه روح من الأرواح
…
أو سواد مقلة وفيه إنسان
ونلاحظ في زجليات الغباري أن (المذهب) وهو مطلع الزجلية ينظمه في موضوعها، فليس تقديما ولا غرضا إضافيا وهو عادة يجمع خلاصة وجيزة لتفاصيل القصيدة. وقد هنا برقوق مرة، أيام أن كان أتابكيا أي قائدا للجند، وقبل اعتلائه السلطنة، بقصيدة وصف فيها انتصاره على عدوه الأمير (بركة) فسجل بذلك موقعتهما. وذلك عام 871هـ. وفي نفس العام اعتدى عرب البحيرة على مدينة دمنهور فسلبوا ونهبوا، فهب لهم الأمراء والجند من القاهرة وأثخنوا فيهم وأسروا منهم، فسجل الغباري هذه الحادثة في حمل وصفي بديع، وفصل دقائقها وخوافيها في نحو 72 بيتاً لا تجد لها ضريبا في بابها بين الشعر الفصيح وأولها:
باسم رب السما ابتدى
…
فارج الهم والكرب
ويفيد للذي حضر
…
قصة الترك والعرب
(راجع الزجليتين في ابن إياس ج1 ص247، 252)
ومن أئمة الزجل علاء الدين علي بن مقاتل الحموي الذي أشرنا إليه فيما سبق، وهو من
أدباء القرن الثامن ولد بحماة عام 674هـ، وعاصر ابن نباتة والصفي الحلي، وكان يفد على الملك المؤيد صاحب حماة كما كانا يفدان، وأنشد بحضرته وهما بين يديه غزلية فريدة ثلاثية الأدوار أعجبوا بها أيما إعجاب جانس في البيت الأخير من كل دور من أدوارها بين ضربه وعروضه فضلا عن الدقائق الأسلوبية التصويرية التي راعاها. وهذا دأبه في غزلياته وقد أثبت ابن حجة في خزانته الغزلية المذكورة. وفي مطلعها يقول:
قلبي يحب تياه
…
ليس يعشق إلا إياه
فاز من وقف وحياه
…
يرصد على محياه
بدر السما لو يطبع
…
من رام وصالو يعطب
صغير بحير في أمرو
…
غزال قهر بسمرو
ليث الهوى ونمرو
…
فاعجب لصغر عمرو
ريم ابن عشر وأربع
…
أردى الأسود وأرعب
واشتهر بفن الزجل في أخريات العصر، ومنذ عهد الأشرف قايتباي، الأديب اللبق البارع (بدر الدين الزيتوني) وهو أبو النجاء محمد بن محمد العوفي. ولد عام 831هـ وتوفي عام 924هت بعد أن شهد عهد الغوري، وعاصر مصرعه. وقد سجل في زجلية رحلة السلطان قايتباي إلى الديار الشامية عام 882هـ، وذلك على نمط فريد مفصل بدقائق الحوادث ومذهبها:
سلطاننا الأشرف خرج في أربعين
…
من العساكر حين سافر حماه
ومن حلب عدا يروم الفرات
…
فاسقي الخيول من ماه وربه حماه
وسجل حوادث الطاعون الجارف الذي أصاب البلاد عام 897هـ ورثى في تسجيله أهل مصر رثاء بليغا مليئا بالحكمة. وعلى هذا الغرار رثى قايتباي مشيرا إلى بعض وقائع عصره. وفي 922هـ وقعت فاجعة (مرج دابق) المشئومة. فهزت كيان مصر، واضطربت بها قفارها، وفزعت لها أعماقها، وقد قتل في هذه الموقعة سلطانها الشهيد الأشرف الغوري، وفتحت السبل أمام الغزو العثماني البغيض. يصور لك بدر الدين الزيتوني هذه الخواطر والمخاطر في زجلية عصماء تبلغ نحو 120 بيتا يرثي بها دولة الغوري وليس لها ضريب في الشعر الفصيح، ونلاحظ أن هذا الأديب كان يعنى بذكر
اسمه وشيء عن نفسه في كل زجلية ينظمها.
وعلى نمط منه شب ابنه بدر الدين محمد، وقد رثى أباه بزجل أغر، عدد فيه مناقبه، وذكر محامده.
ومن الزجالين: الشاعر الحسن بن هبة الله الإدفوي ذكره صاحب الطالع السعيدو وتوفي بقوص عام 720هـ ومنهم شرف الدين بن أسد المصري، الخليع الماجن المتوفى عام 738هـ، وله زجلية ماجنة تفكه فيها بشهر الصيام ونوه به صاحب الفوات. ومنهم إبراهيم الشاعر الأمي، وله أزجال بارعة، توفي عام 871هـ ويضيق المقام دون ذكر أخبارهم وأشعارهم، فحسبنا ما روينا.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
حب المنطق
للأستاذ ثروت أباضة
بعد أن ظهر مقالي بالرسالة يحمل هذا العنوان، جمعتني بالرفاق ندوة جرى فيها حديثهم حوله. قال أحدهم:
- عرضت لنا في هذا الأسبوع شخصية غريبة لم نر لها مثيلا في المجتمع! وقد عرض صديقك آراء عجيبة من الحب وأطلقها في جرأة تدفعها ثروة الشباب، وإن حاول هو أن يكسوها وقار الشيوخ.
قلت: لا تنس أني لم أعلن موافقتي على رأيه. . وأنا عرضته متخففا من تبعته.
- يزعم صديقك.
- لا تناقشني. . فأنا معه على موعد هنا.
وحان الموعد، وجاء الصديق، وعرفوه وعرفهم، وطمأن بنا المجلس، ولكن لم يكد يطمئن حتى التفت إلي الصديق يكسو وجهه عتب وغيظ وقال:
- ماذا؟ أأصبحت تؤثر قلمك على صداقتك؟ قلبي أأفتحه لك وأنا ضنين بما يحوي، وأنت تعلم، فلا تعف بك الأمانة عن إظهاره للناس جميعا. ثم لا تكتفي بذلك، بل تعرفني بأصدقائك، وتخبرهم أني صاحب ما قرءوه من الآراء! هل أصبحت الأسرار. . .
- هون عليك. إن الجالسين أصدقاء قدماء، لم تواتني الفرصة لأعرفهم بك. ولكنني عقدة الصداقة بينكم منذ أن عرفتهم؛ فسرك عندهم في أمان. أما أنني أعرض قلبك، فو الله ما قصدت إلى ذلك، وإنما هي آراء جديدة لم أسمعها، ولابد لها أن تسمع، ولا أحد من القراء يعرفك.
هدأ صديقي بعض الشيء. وكاد أن يجري الحديث إلى غير ما كانوا آخذين فيه، لولا أن تشجع أحد الأصدقاء وعاد إليه يقول
- الآن وقد أوضح لك صديقك مكاننا منه ومكانك منا. فهل لنا أن نسألك بعض الإيضاح لآرائك. . . قلت إن العقل عاطفة يتحكم بها القلب فهل تعني أن القلب إذا أحب يذهب إليه العقل قائلا: لا؟ إن هذه لا تنفعك. . إن تلك التي اخترتها لا تصلح لك، إنها ليست من طبقتك فيطيع القلب ويسلم القياد، وينحرف عما اندفع إليه وسيبحث عن غيرها؟؟ إذن لا
تعترف أنت بما تراه من كوارث الحب، ثم إن هذا القلب الهادئ المستكين كيف تجسر فترميه بأنه أحب؟؟ أيحب ويقبل النصيحة؟؟
قال الصديق: إن العاطفة الجياشة القوية التي يزخر بها القلب المحب هي التي تنشأ عن معرفته بالحبيبة ودراسته لها، فلا يمكن أن أصدق إنسانا وقع في الحب منذ النظرة الأولى، لأن الجمال وحده في هذا النوع من الحب سيكون العماد. ولو كان الأمر كذلك لأحببنا كل الجميلات اللائى يمررن بنا في الشوارع، ولتدلهنا في ممثلات الشاشة. الحب وليد خبرة ومعرفة ودراسة. والخبرة والمعرفة والدراسة أمور يختص بها العقل وحده. والعقل يتدخل أيضا ليعرف إذا كان صاحبه محبوبا أم لا. وعلى هذا الهدى يتجه القلب.
قال صديق آخر: لعلك محق فيما ذهبت إليه، ولو أن الواقع لا يؤيدك.
- إن الواقع لا يؤيد هذا لأن الفكرة السائدة عند القوم إن الحب لا يكون إلا من النظرة الأولى. وذلك ما يجرهم إلى هذا الحب. إنهم يعتقدون أنهم أحبوا وهم في الواقع براء من الحب
- حسن. . ولكن ما مسألة حب المنطق هذه؟ أأن بعدت الحبيبة أحسست بالشوق ليها في عقلك؟ كيف يتهيأ للعقل أن يحب؟
- إنني لم أقل هذا. ويظهر إنك لم تحسن قراءة المقال.
بل إنني أرى أنه لا شيء في الإنسان يحب غير قلبه. ولكن كيف يبدأ هذا الحب؟ بالقلب وحده؟ أم أن العقل يتدخل في هذا الأمر؟ إنني أرى أن العقل والإرادة يتدخلان، حتى إذا تم الحب، فإنهما يبتعدان كل البعد ولا أرى لهما في الأمر بعد هذا. بل إت المحب إذا أحب يفكر بقلبه. . وبقلبه وحده، ولهذا يخشى عليه إذا كان لم يحسن الاختيار في بادئ الأمر. هذا ما قصدت إليه. لعلك فهمت. فإن لم تكن فأنت مثل صديقك هذا لا تريد أن تفهم
وأشار إلي مغيظا، فقد خيل إليه أنني أنا الذي دبرت له كل هذا الهجوم. ولكنه رأى اقتناع الجالسين فارتاح إلى ذلك، والتفت إلي ساخرا
- وماذا تنتظر؟ قم إلى ورقك وقلمك. وسجل الحديث قبل أن يند منه حرف أو كلمة.
وهاأنذا أصدع بأمره. فما عودته إلا الطواعية والامتثال.
ثروت أباظة
مرصد مراغة ومكتبتها اللذان شيدهما نصير الدين
الطوسي في بداية العصر المغولي
(صور لدنيا العرب والإسلام في ذلك العهد الرهيب)
للأستاذ ضياء الدخيلي
(بقية ما نشرناه في العدد الماضي)
ويتفق المؤرخون على أن الطوسي كان قد شيد في مراغة حياة علمية خصبة بالإنتاج وشجع الفلاسفة والحكماء وكفل لهم أرزاقهم؛ وكان يتعصب للفيلسوف ابن سينا ويرد عنه هجمات خصومه: قال الصفدي: وشرح الطوسي إشارات ابن سينا ورد في شرحه على الإمام فخر الدين الرازي وما قاله في شرحه القديم وقد قال هذا به جرح، وما هو بشرح.
وقال عن شرحه أنه ألفه في عشرين سنة وناقض فخر الدين كثيرا.
وقال المؤرخ الفقيه أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ في كتابه شذرات الذهب الجزء الخامس: وفي سنة 672هـ توفي أبو عبد الله نصير الدين محمد بن حسن وكان رأسا في علم الأوائل ذا منزلة من هولاكو. وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان) ما لفظه: لما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والإلحاد وزير الملاحده النصير الطوسي وزير هولاكو شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينهم فعرضهم على السيف حتى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل (إشارات) إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك، فقال هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين. فلم يتم له الأمر. وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحرا يعبد الأصنام انتهى بلفظه.
وهذا تحامل غريب سنعرض عليك بعده إعجاب مفكري الغرب وكبار علمائه بالطوسي وما
تركته كتبه من انقلاب فكري وأثر بعيد في الحضارة الأوربية الحديثة؛ وكلمة هذا المتعصب تريك عقلية أولئك الذين كانوا يقاومون الفلسفة ويضطهدون الفلاسفة؛ فإذا كان الشيخ ابن سينا إمام الملحدين فعلى الإسلام السلام.
والذي ينقله المؤرخون عن الطوسي أنه كان بارا بالعلماء والفقهاء هذا العزاوي يقول في كتابه ص274 (في سنة 672هـ (1273م) وصل السلطان أبا قاخان (ابن هولاكو وخليفته في السلطان) إلى بغداد وفي خدمته الأمراء والعساكر والخواجه نصير الدين الطوسي وعبر دجلة وتصيد وعاد إلى بغداد، فلما انقضى الشتاء عاد إلى مقر ملكه.
وأما الخواجه نصير الدين الطوسي فإنه أقام ببغداد وتصفح أحوال الوقوف أورد أخبار الفقهاء والمدرسين والصوفية وأطلق المشاهرات وقرر القواعد في الوقف وأصلحها بعد اختلالها.
وقال ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات والصفدي في الوافي نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب علم الرياضي كان راسا في علم الأوائل ولا سيما في الأرصاد والمجسطي فإنه فاق الكبار وكان ذا حرمة وافية ومنزلة عظيمة عند هولاكو وكان يطيعه فيما يشير به عليه والأموال في تصريفه وكان حسن الصورة كريما حسن العشرة غزير الفضل.
وولاه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده. وكان له في كل بلد نائب يستغل الأوقاف ويأخذ عشرها ويحمله إليه ليصرفه في جامكيات (مرتبات) المقيمين بالرصد وما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد.
وكان للمسلمين به نفع وخصوصا الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم. وكان يبرهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم. وكان مع هذا كله فيه تواضع وحسن ملتقى.
وقد كان منجما لأبغا (أبا قاخان بن هولاكو وقد ولى السلطان بعد أبيه) بعد والده. وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يده في الأموال احتوى على عقله حتى إنه لا يركب ولا يسافر إلا في وقت يأمره به أفلا يكفي هذا شاهدا.
وكان هولاكو شديد الاعتقاد بعلم النجوم فكان هذا مدخلا للطوسي ليستولي على فكره وطبعا ليس الفضل في نجاحه في السيطرة عليه وصواب ما يشير به عليه في استشارات هولاكو
له كان لعلم التنجيم الخرافي الطافح بالخزعبلات.
وإنما كان الأثر لدهاء الطوسي وبعد نظره وإن ظن هولاكو المغولي جهلا أن إصابة الطوسي للأهداف مرجعه علم التنجيم. وقد استغل الطوسي هذا النفوذ وتلك الهيمنة على ذلك السفاح في إغاثة الناس وحمايتهم من شرور هذا الجلاد المغولي الظالم ذ يحدثنا المؤرخون أنه خلص ابن الغوطي من أيدي التتار ونقل العزاوي أنه عندما أراد هولاكو الاستيلاء على داخل المدينة ببغداد أمر الخواجه نصير الدين أن يقف عند باب الحلبة ويؤمن الناس للخروج من هذا الباب. فأخذ الناس يخرجون جماعات كثيرة.
وقال أيضا وفي سنة 651هـ وصل التتار إلى بلده تون ثم استولوا على بلدة شهرستان وتوجهوا نحو طوس ففتحوها وتوجهوا إلى دامغان وخربوا (الموت) عاصمة الإسماعيلية. وفي هذه الأثناء لازم الخواجه نصير الدين الطوسي هولاكو خان. وكان في خدمة علاء الدين محمد بن الحسيني الإسماعيلي فحظي عنده وأنعم عليه فعمل الرصد بمراغة ثم توجه نحو خورشاه ملك الإسماعيلية للاستيلاء على قلاعه وبلاده.
وكان من محاسن الصدف - كذا قال الخواجه رشيد الدين - مرافقه نصير الدين الطوسي لهولاكو في هذه الحملة وكان هو السبب في حقن الدماء وتسليم البلاد لهولاكو لأن الناس كانوا لا يستطيعون الحوب معه فسعى في مسالمة وخذ ينصح خور شاه بطاعة هولاكو والانقياد له فقبل خورشاه النصيحة.
وكان يتماهل في إظهار الطاعة إلى أن حاصروه من جميع الجهات حتى اضطروه إلى التسليم وقتل فافتتحت بلاد الملاحدة.
فترى من هنا بداية اتصال الطوسي بهولاكو.
قال ابن الغوطي في الحوادث الجامعة (ص313) ثم أرسل السلطان إلى متولي (قلعة الموت) يعرفه نزول ركن الدين إليه ويأمره بالتسليم فأبى وامتنع فسير إليه الجيوش فأحاطوا به وحاصروه وضيقوا عليه فسأل الأمان فأجيب فسلم القلعة فهدمت.
ولما فتحت قلعة الموت خرج الإمام العلامة نصير الدين محمد الطوسي. وكان في خدمة علاء الدين محمد بن الحسن الإسماعيلي وحضر بين يدي السلطان فحظي عنده وأنعم عليه فعمل الرصد بمراغة.
ونقل في روضات الجنات عن صاحب (صحيفة الصفاء في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء) أن الطوسي كان من حملة عرش التحقيق في الفلسفة والرياضي والكلام.
وكان محبوساً في حصن الديلم بأمر خورشيد شاه القرمطي فلما غلبت الترك عليه وقتلوه وأخذوا حصن الديلم أطلقوا الفيلسوف الإلاهي من الحبس وأكرموه لعلمه بالنجوم وكان في عداد وزرائهم وقصته مع ابن الحاجب مجعولة لبعد بعيد بين زمانيهما
والحق أن الطوسي قد خدم الحضارة الإسلامية خدمات جلى كان منها استنقاذه الكتب العربية وحفظها للأجيال وأبقى قبساً من نتاج العلماء المسلمين في فجر النهضة الإسلامية فجعلها متصلة الحلقات موصولة الأسباب.
ولنذكر ناحية ثانية استنقذت بها كتب بغداد عند دخول التتار وقتلها وقد لوح إليها ابن الغوطي إذ قال ص331 قيل إن عدة القتلى ببغداد زادت عن ثمانمائة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القني والآبار وسراديب الموتى جوعا وخوفا ووقع الوباء فيمن تخاف بعد القتل من شم روائح القتلى وشرب الماء الممتزج بالجيف. وكان الناس يكثرون شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذباب فإنه ملأ الفضاء. وكان يسقط على المطعومات فيفسدها. وكان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصغر المطعم وغيره من الأثاث بأوهى قيمة فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير.
قال ووضع السيف في أهل بغداد ومازالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب للناس بأنواع العذاب واستخراج الأموال منهم باليم العقاب مدة أربعين يوما فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال فلم يبق من أهل البلد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل.
قال وسلمت دار ابن العلقمي وسلم بها خلق كثير وسلمت دور آخرين كدار صاحب الديوان ودار حاجب الباب ودور النصارى وما عدا هذه الأماكن فإنه لم يسلم فيها أحد إلا من كان في الآبار والقنوات وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد. وكانت القتلى في الدروب والأسواق ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى؛ ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيري ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان وهم كالموتى إذا
خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد.
وأما أهل الحلة والكوفة فإنهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وما قدروا عليه من أموالهم وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين بن طاوس العلوي إلى السلطان وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم.
وفي هذه المجازر كان موقف الطوسي حرجا حتى كاد مرة أن يبطش به هولاكو. وكان يستعمل الحيلة ويبتكر الأساليب لتخليص الناس من بطش هولاكو.
قال ابن شاكر في فوات الوفيات والصفدي في الوافي بالوفيات دهاء الطوسي ما حكى أن حصل لهولاكو غضب على علاء الدين الجويني صاحب الديوان فأمر بقتله فجاء أخوه إلى النصير وذكر له ذلك فقال النصير هذا الخان أن أمر بأمر لا يمكن رده خصوصا إذا برز إلى الخارج. فقال له لا بد من حيلة في ذلك فتوجه الطوسي إلى هولاكو وبيده عكاز وسبحة ثم اصطرلاب وخلفه من يحمل مبخرة وبخوراً وناراً فرآه خاصة هولاكو الذين على باب المخيم، فلما وصل أخذ يزيد في البخور ويرفع الاصطرلاب ناظراً فيه ويضعه فلما رأوه يفعل ذلك دخلوا على هولاكو وأعلموه، ثم خرجوا إليه فقال لهم الخان أين هو؟ قالوا جوا (أي داخل المخيم) قال طيب معافى موجود في صحة؟ قالوا نعم، فسجد شكرا لله تعالى، ثم قال لهم طيب في نفسه؟ قالوا نعم، وكرر ذلك مرارا وقال أريد وجهه بعيني، فدخلوا فأعلموه، وكان في وقت لا يجتمع به أحد فقال علي به؛ فلما دخل ورآه سجد وأطال السجود فقال له ما خبرك؟ قال اقتضى الطالع في هذا الوقت أن يكون على الخان أمر فظيع عظيم للغاية فقمت وعملت وبخرت بهذا البخور ودعوت بأدعية أعرفها أسأل الله تعالى صرف ذلك عن الخان. وينبغي الآن أن يكتب الخان إلى سائر ممالكه بإطلاق من في الاعتقال والعفو عمن له جناية لعل الله عز وجل يصرف هذا الحادث العظيم ولو لم أر وجه الخان ما صدقت، فأمر في تلك الساعة هولاكو بما قال، وانطلق علاء الدين صاحب الديوان في جملة من الناس. قال ابن شاكر وهذا غاية في الدهاء بلغ مقصده ودفع عن الناس أذاهم. وبعد فإنك واجد الطوسي كان يسير هولاكو إلى العفو عن المسلمين من طريق علم التنجيم وقد استغل إيمانه بخرافات المنجمين وأكاذيبهم - في بناء مرصد مراغة ومكتبتها العظيمتين اللذين خدما الثقافة الإسلامية خدمات عظمى وتقدما بعلم الفلك والهيئة،
ولنسمع الأستاذ قدري حافظ طوقان يحدثنا عن الطوسي ومرصد مراغة في كتابه (تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك وهو كتاب يبحث في أثر العرب في تقدم الرياضيات والفلك وسير أعلام رياضييهم وكبار فلكييهم) وقد نشرته مجلة (المقتطف) كهدية سنوية لتستمع إلى حديث ابن طوقان عضو الجمعية الملكية الأسيوية بلندن وعضو جمعيات العلوم الرياضية في إنجلترا وأمريكا وعضو مجلس التعليم العالي في فلسطين ومساعد مدير كلية النجاح بنابلس وأستاذ الرياضيات فيها: إن هذا الرجل قد غذى الروح القومية والغرور العربي بشعلة متأججة من وطنيته، فمن يقرا كتابه يخرج رافعا رأسه اعتزازا بآبائنا العظام فإلى مثل هذا الكتاب نحظ المؤلفين فإنه تأليف به تتألف جيوش الأمة لتندفع في سبيل المجد ومضمار الرقي، هكذا اكتبوا وألفوا يا حملة الأقلام العربية ولا تزجوا الشباب في مساقط الرذيلة ومهاوي الشهوات العمياء برواياتكم المترعة بالخيانات الزوجية النتنة بروائح الخمور والفجور أصغوا إلى ابن فلسطين يتحدث عن الحضارة الإسلامية العربية فهو ابن بجدتها وفارس حلبتها، وسوف أشفع حديثه بما ترجمته أنا من المصادر الإنجليزية قال: ص65 عن المراصد وآلاتها وأزياجها:
لاشك أن العرب لم يصلوا بعلم الفلك ما وصلوا إليه إلا بفضل المراصد، وقد كانت هذه نادرة جدا قبل النهضة العلمية العباسية. وقد يكون اليونان أول من رصد الكواكب بآلات وقد يكون مرصد الإسكندرية الذي أنشئ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد هو أول مرصد عنه ويقال أن الأمويين ابتنوا مرصدا في دمشق، ولكن الثابت أن المأمون أول من أشار باستعمال الآلات في الرصد وقد ابتنى مرصدا على جبل قيسون في دمشق وفي الشماسية ببغداد وفي مدة خلافته وبعد وفاته أنشئت عدة مراصد في أنحاء مختلفة من البلاد الإسلامية، فلقد ابتنى بنو موسى مرصدا في بغداد على طرف الجسر وفيه استخرجوا حساب العرض الكبر من عروض القمر، وبنى شرف الدولة أيضا مرصدا في بستان دار المملكة ويقال أن الكوهي رصد فيه الكواكب السبعة. وأنشأ الفاطميون على جبل المقطم مرصدا عرف باسم المرصد الحاكمي وكذلك أنشأ بنو الأعلم مرصدا عرف باسمهم، ولعل مرصد المراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي من أشهر المراصد وأكبرها وقد اشتهر بآلاته الدقيقة وتفوق المشتغلين فيه واشتهرت أرصاد هذا المرصد بالدقة اعتمد عليها علماء
أوربا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكية: وهناك عدا هذه مراصد أخرى في مختلف الأنحاء كمرصد ابن الشاطر بالشام ومرصد الدينوري بأصبهان ومرصد البيروني ومرصد الغ بك بسمرقند البتاني بالشام ومراصد غيرها خاصة وعمومية في مصر والأندلس وأصبهان.
وكان للراصد آلات وهي على أنواع وتختلف بحسب الغرض منها وقد وضع الخازن كتابا سماه (كتاب الآلات العجيبة) اشتمل على كثير من آلات الرصد غياث الدين جمشيد رسالة فارسية في وصف بعض الآلات وأتى تقي الدين الراصد على ذكر الآلات التي اخترعها هو وقد اعترف الإفرنج بأن العرب أتقنوا صنعة هذه الآلات (كما في تراث الإسلام).
وفي هذه المراصد أجرى المسلمون أرصادا كثيرة ووضعوا الأزياج القيمة الدقيقة.
ومن أشهر الأزياج زيج إبراهيم الغزاوي وزيج الخوارزمي البتاني وأزياج المأمون وابن السمح وابن الشاطر وابن البلخي والأيلخاني وعبد الله المروزي البغدادي والصنعاني والشامل (لأبي الوفاء) والزيج الشاهي (للطوسي) وشمس الدين وملكشاهي والمقتبس لأبي العباس أحمد يوس بن الكماد وزيج العلائي وزيج المصطلح في كيفية التعليم والطريق إلى وضع التقويم والزيج الكبير الحاكمي وزيج الهمداني وزيج الآفاق في علم الأوفاق الخ. . . وبالجملة فإن للعرب فضلا كبيرا على الفلك لأنهم (أولا) نقلوا الكتب الفلكية عند اليونان والفرس والهنود والكلدان والسريان وصححوا بعض أغلاطها وتوسعوا فيها - وهذا عمل جليل لا سيما إذا عرفنا أن أصول تلك الكتب ضاعت ولم يبق منها غير ترجماتها في العربية وهذا طبعا ما جعل الأوربيين يأخذون العلم عن العرب فكان العرب بذلك أساتذة العالم.
و (ثانيا) في إضافتهم الهامة واكتشافاتهم الجليلة التي تقدمت بعلم الفلك شوطا بعيدا و (ثالثا) في جعلهم علم الفلك استقرائيا وفي عدم وقوفهم فيه عند حد النظريات كما فعل اليونان
و (رابعا) في تطهير علم الفلك ادران التنجيم وكانت هذه خطة اغلب علماء الفلك المسلمين وفق تعاليم الإسلام.
(بغداد)
ضياء الدخيلي
رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
الهجري:
3 -
أردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان لمصطفى
البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
انشغال الشيخ بعمارة داره بالقدس وولادة ابنته:
(وكنا لما اشترينا الدار شرعنا في العمارة، فاشغلنا الأخ بنقل التراب ورفع الحجارة، لكي تلين منه نفسه الغدارة المكارة. ولما دخل شهر الصيام والقيام الموجب النضارة تأهل المحل السفلي للجلوس فيه، دون إتمام القصارة.
(وحين ودع وسار بمسار سحبها غزار، وقد وفدت علينا من الغيوب العزية البنية الرشيدة السعيدة الفريدة والجوهرة الوحيدة، التي وقعت لتسميتها الإشارة الشريفة (علما)، جعلها الله ممن قدرها لديه سما، وذلك في السادس والعشرين من شوال المبارك، فتلقاها الفؤاد فرحا بها لكونها هدية المولى تعالى وتبارك ورأيت كعبها كقصيدة كعب بن زهير لازالت مظهرا للبر حسنة السير كثيرة الخير.
(وقد حضر إلينا رابع يوم ذي القعدة الحرام الأخ السعيد محمد سعيد البصري ذو الإقدام، وكان ذلك يوم عقيفة ابنتي، المذكورة المحروسة، وكان قدومه من البصرة إلى حلب المأنوسة. ولما وصل كنا مع الإخوان خارج البلد.
الزيارة العلية الثانية عن طريق الخليل وعسقلان:
ولما دخلت سنة (1142هـ) عزمنا على زيارة الخليل، ومن هنا يفقد الزيارة العليلية، وحين دخلت عاشورا اجتمع لدينا من الإخوان أخدان، وتوجهنا عن طريف (بني حسن) لأنه طريق أمين ومسلك وعر بالأمان حسن، وثبنا عند الحلاحلة في (معنين) وسرنا صباحا للمدينة بقلب رهين وعندما أشرفنا على الحرم قرانا على الإقدام فاتحة الكتاب وتقدمنا إلى
المقام وزرنا الأنبياء، وبدأنا بوالدهم شيخ المرسلين العام (إبراهيم الخليل) وثنيت بولده سيدي اسحق الغيور، ثم أثنيت مقام سيدي يعقوب الغوث وختمت بسيدي يوسف بدر التمام، ونزلت في التكية القادرية عند باب الحرم الشريف، لنحظى في أغلب الأحيان بالزيارة المنتجة التشريف. وكانت الكروم على أوائلها لم تتكامل حلاوتها في غلائلها. وبعد ما أقمنا ثلاثة أيام في الجوار نتردد صباحا ومساء على السادة الأطهار ودعنا، وقصدنا مسجد اليقين، وتوجهنا إلى مقام سيدنا لوط. وعندنا في الصباح على مدينة الفلاح وزرنا حماة تلك البطاح ونجدنا (بيت جبريل) وبتنا فيها، وسرنا إلى (الفالوجة) وزرنا أحمدها النزيل، وصلينا الجمعة فيها وخطيبنا الأخ المراعي الشيخ عبد الجماعي وكان وكان مرادنا زيارة عسقلان فأخبرنا بخراب ما حولها من عمران، وفي الصباح طرنا بلا جناح وطلبنا دليل في تلك المسالك يعرفنا إلى (المسمية) بالدرب السالك، فانتحى المجذوب الشيخ ديب لذلك، ولما توسطنا البرية، مثل هذه قبة سيدنا صالح فقرأت الفاتحة، وتجارت علينا من بعد خيل أعراب بهم في تلك الصحارى أذية أغراب، فقلت لمن يحمل الإشارة سر على الجادة ولا تخف غارة، فسقط عن دابته كبيرهم وانتكس وشرد مركوبه، وبقصده انعكس، ثم لحقونا (للقسطينة) وجاءوا معتذرين وثبنا في (المسمية) بنفوس سمية، وجد بنا إلى قرية (يبنى) المقول فيها أن مثلها ما يبنى، وعمدنا إلى جامع سيدي عبد الرحمن أبو هريرة، واختلف في اسمه الشريف، المحدثون، والذي رجح صاحب القاموس عبد الله. وبعد ما صليت الضحى، قلت:
قصور الولا من رامها أن له تبنى
…
عليه بابن يثنى الركاب إلى يبنى
وبعد الزيارة توجهنا إلى (يازور) وزرنا سيدي حيدرة المنسوب لسيدي علي المطلبي، وبتنا بالقرية داخل الجامع المأنوس المعمور اللامع، وفي الصباح قصدنا قرة العين الحصن الأمنع سيدي سلمة بن الأكوع الصحابي المهاب، وغب الزيارة.
ارتقيت الطبقة طارقا من باب الالتجاء الحلقة، فانفتح الباب بمعونة الوهاب فقلت في مدحه:
شرف بدكر الحب خلى مسمعي
…
واعد على حديثه يا مسمعي
وأدر كؤوس خمور سلمى جهرة
…
فلعلها تشفى فوارا موجعي
وإذا سكرت فلا تلمني أنني
…
في حال شربي لا أفيق ولا أعي
وعدنا إلى (يازور) حيث البسط يفور، وما مكنا خليلها الخ من المسير نحو (يافا) ذات الوجه النظير، وفي صباح يوم الثلاثاء حللناها واللحظ ينبعث انبعاثا وبتنا في دار أبي سليمان العواد وثنى الأخ الخواجه احمد المنجاز العواد إلى الوداد. وسرنا يوم الخميس قبل بزوغ الشمس إلى المقام العليلي، ووفد بعد الاستقرار، الحاج حسن بن الشيخ مقلد وبات معنا. وأقمنا في ذلك المقام المبارك الأنور ثاني يوم ووفد علينا قوم أحبة، وختمنا الربعة الشريفة تلك الحضرة المنيعة، وأهدينا ثوابها للمزور المشهور، وللأخ السيد محمد السلفيتي المشكور، وتوجهنا بعد صلاة الفجر ووداع الهزار إلى (كفر سابا) وزرنا خباب بنامين شقيق سيدي يوسف الصديق، وكذلك السيد الصحابي سراقة؛ وعند الوصول إلى (كور)، ووفد علينا يزور الحاج يعقوب السندي، وقصدنا في الصباح شرب أقداح اصطباح، عند بستان تسامى ضمن هاتيك البطاح، وامتد زمان الانشراح إلى أن قرأنا ورد العصر، داخل قبته الصغيرة، الكبيرة المراح، وكان الحاج ممن حضر وناح، وتذكرت الأخ المرحوم السيد محمد العباسي (السلفيتي).
(وأشرت على الأخ الحاج حسن منح في الحب فهما، أن يغرس في صفحاته كرما، وبعض أشجار تين فأبدى عزما، وجمع في الأمر جزما، وفعل ما به أشرنا.
(وبعد أن استوفينا أيام الإقامة فيها توجهنا إلى نابلس المحمية، ونزلنا على عادتنا في (الدرويشية) والأخ الحاج حسن معنا، وبعد أيام الإقامة، ودعنا، وتوجهنا (جماعين) وقصدنا قرية (سلفيت) وزرت ضريح الأخ المرحوم السيد محمد السلفيتي، وختمنا الربعة الشريفة لديه. وقلت:
ما هذه جار البقاء روحي
…
روحي إلى باب اللقا المفتوح
(وأتينا دير غسان، بعزم راجح الميزان لنوفق الخ. بين الزيود، فما تيسر الإصلاح، وتوجهنا إلى زيارة رجال (سوفا) المشهورين وبت لديهم ليلة الجمعة في العشر الأول من صفر. ولم نلبث أن سرنا إلى (عابود) ومنها إلى (شقبة) ثم أتينا مزار (عنير) وجلسنا في محله النير، وعدنا للديار المقدسة في نصف صفر الخير.
(وكان الأخ محمد سعيد البصري ألح في طلب مقامة عراقية على نمط غط الرومية
فشرعت فيها وسميتها (المقامة العراقية والمدامة الإشراقية، وتمت في شهر ربيع الأول، وجاءني زائرا بعض المغاربة بصلوات سيدي علي بن محمد وفا، وكنت شرعت في شرح عليها في الديار الرومية (أي التركية) ولكن النسخة تهدم بناء بعض حروفها، فأجبته إلى طلبته وسميتها (جريدة المآرب ومزيدة كل شارب شارب). وجردت الهمة وشددت العزمة في منتصف هذا العام إلى تبيض الجزء الثاني من (شرح الورد السبحاني المسمى بالضيا الشمسي على الفتح القدسي) وعرضت كراسا منه على الأخ محمد سعيد ليتأمل فيه وجاءني في الصباح ومعه معترفا بعجزه.
ورأيت الأخ محمد سعيد عنده بعض فتور، ونحن مع جماعة في جبل الطور، فخاطبته وبلديه موسى ناصحا وقلت:
خليلي عن الشوق ركابكما حثا
…
إذا رمتما في الروع أن تدركا نفثا
ولقد جاءني الأخ محمد سعيد مرور الفرار فمرقت سطورا في قرطاس ورفعتها له:
وجوه الورى من واجهوا اشرف الورى
…
وللأثر السامي اقتفوا حالة السري الخ
(وجاءني من مدينة الخليل الشيخ محمد النزعاني فرآني داخل بستان في الحرم الداني، فقال لو وسعته كان حسنا وأمر الدنيا فاني، فقلت هذا في خاطري معنى يبدي لعياني، فيسر الله في مطلبه تلك الأيام، وثم على وجه حسن جميل وأكمل نظام وكان المجمع التحتاني في دارنا تم، والمولى جل وعلا طم إنعامه علينا وعم، ولما انضم إلينا زكريا بن الحاج يحيى نسببه، وجماعات أخر من أحباب منحوا فتحا يملأ العيبة، حصلت منهم مساعدة جسيمة في أمر العمارة الحرمية. وبعد ما كمل عام (1142هـ) ونمت أيامه ولياليه ذات المدد المكين.
أحمد سامح الخالدي
أقصوصة شعرية:
الحسناء والبلبل
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(هذه الأقصوصة الشعرية تصور ما قد ينشئ بين الإنسان
وغير الإنسان من عواطف نبيلة، ومشاعر سامية. وهي مهداه
إلى الذين يقدسون معاني الحب والوفاء في هذا الزمان)
هي حسناء في ربيع الحياة
…
تتراءى كأجمل الذكريات
حسنها قبلة العيون جميعا
…
ومراد الأحلام والأمنيات
وصباها أرق من طلعة الفج
…
ر، وأبهى من روعة الزهرات
وعلى وجهها الجميل من الفك
…
ر سمات أنعم بها من سمات
هي شوق إلى معانقة المج
…
هول يبدو في حيرة النظرات
ومعان عميقة لست أدري
…
ها، ولكن أحسها في حياتي
عندها بلبل يغني غناء
…
يجعل القلب هائما حيث شاء
ويثير الأحلام في كل نفس
…
تبصر الحلم كوكبا وضاء
كلما زادها من الشدو والأن
…
غام زادته روحها إصغاء
وهي مفتونة تكاد تراه
…
عاشقا يملأ الحياة بهاء
فتراها تضمه إن أتاها
…
وإذا غاب أتبعته النداء
وأماني النفوس تبدو رموزا
…
حينما تستكن فيها حياء
وجدته في بيدر مهجور
…
يتغشاه مثل صمت القبور
وهو من جرحه يئن أنينا
…
يترامى على الثرى في فتور
فانثنت نحوه، وخفت إليه
…
وانحنت فوقه بقلب كسير
وأست جرحه، وعادت به تس
…
عى إلى بيتها الجميل الصغير
ثم جاءت له بحب وفير
…
مثلما يشتهي، وماء نمير
وأقامت له هنالك عشا
…
مهدته له بزهر نضير
أتراه لما تقوى وطارا
…
ترك العش خاويا وتوارى؟
كيف ينسى من أنقذته وقد كا
…
ن يرى الموت ليله والنهارا؟
إن أضاع الذمار والعهد إنس
…
فمن الطير ما يصون الذمارا
كان يمضي كما يشاء قريبا
…
أو بعيدا يسابق الأطيارا
ثم تدعوه بالصغير فيهفو
…
ثائر الشوق لا يطيق انتظارا
كغريب نائي الديار دعته
…
فمضى مسرعا يؤم الديارا
علمته الغناء والألحانا
…
فشأ الطير منطقا وبيانا
فإذا ما سمعته يتغنى
…
خلته في غنائه إنسانا
وإذا ما رايته وهو يهفو
…
بجناحيه حولها نشوانا
خلته عاشقا يطوف بمعشو
…
ق يغنيه حيه الحان
يا له من هوى يؤلف ما بي
…
ن الغريبين خلقة ولسانا
يا لهذا الغناء ترسله الرو
…
ح، فيلقى من إلفها ترجمانا
حين يأتي المساء كان يغنى
…
فيثير المنى بحلو التغني
فتناغي شقيقها كل نفس
…
وتناجي رفيقها كل عين
وهي مسحورة تضم من الشو
…
ق فراش الهوى، ومهد التثني
فإذا ما انتهى من الشد ونامت
…
وبأعماقها صدى كل لحن
ثم راحت تهيم في عالم السح
…
ر، ودنيا الهوى، وأفق التمني
حيث تحيا كما تشاء الأماني
…
حين يسمو بها الربيع المغنى
وإذا ما الصباح هل عليها
…
وهفا قلبه الرقيق إليها
فاستفاقت من حلمها غير ذكرى
…
لم تزل تستكن في ناظريها
أرهفت سمعها فطارت من البل
…
بل أنغامه إلى مسمعيها
فإذا قلبه يحركه الشو
…
ق فيذري الدموع من مقلتيها
وإذا ما استراح قامت إليه
…
وهي مسحورة تمد عينيها
فغذته بالحب من راحتيها
…
وسقته بالماء من شفتيها
هكذا ظلت الحياة زمانا
…
تتجلى سعادة وأمانا
وتمد الحسناء بالحل والشو
…
ق، فتفتن في الأماني افتتانا
غير أن الزمان من شأنه الكي
…
د ومن ذا الذي يكيد الزمانا؟
والليالي إلى المودة آنا
…
والليالي إلى العداوة آنا
وأرى العمر ساحة ينبت الده
…
ر عليها نباته ألوانا
فهو إن شاء بنيت الفرحة الكب
…
رى، وإن شاء ينبت الأحزانا
في مساء من أمسيات الشتاء
…
تدرك النفس فيه معنى الفناء
وتنوح الرياح نوح الثكالى
…
فتضج الجبال بالأصداء!
أخذ البلبل الجميل يغني
…
أغنيات تهيم في الظلماء
وإذا صوته يسيل دموعا
…
فكأن الغناء رجع بكاء
أتراه يحسن خطو المنايا
…
حين تسري بركبها في المساء؟
أتراه يرى الحياة تتهاوى
…
في وهاد سحيقة الأرجاء؟
وأتاها الكرى مثير الخيال
…
فانتشت روحها بخمر الليالي
فرأت في منامها أن نسرا
…
محكم الخلق، مدمج الأوصال
أبصر البلبل العزيز يغني
…
وهو يمضي محلقا في الأعالي
فانثنى نحوه، فانشب فينه
…
مخلبا حده كحد النصال
ومضى مصعداً، وللبلبل الشا
…
دي صريخ يغني كطيف الخيال
فجرت خلفه تولول حتى
…
أبصرته يغيب خلف الجبال
وتراءى الصباح جهم المحيا
…
تعصف الريح فيه عصفا قويا
فاستفاقت من نومها وهي تشكو
…
ألما كامنا، وحزنا خفيا
أرهفت سمعها لتسمع منه
…
نغمة حلوة ولحنا شجيا
لم تجد صوته فهبت من الرو
…
ع تنادي من ليس عنها قصيا
فإذا البلبل العزيز المغني
…
جعل الموت صمته أبديا
وجمت ساعة، وفي القلب منها
…
حرقات تطوي الجوانح طيا
وجرى دمعها فأنت أنينا
…
يجعل الموت خاشعا مستكينا
ثم راحت تضمه في حنان
…
وتنادي به نداء حزينا:
أيها البلبل العزيز أما تب
…
صر قلبي يسيل دمعاً سخينا؟
كنت في هذه الحياة طليقا
…
كيف أمسيت للفناء رهينا؟
سوف تبقى معي هنا أبد الده
…
ر، وغن كنت تستثير الحنينا
سوف تحيا ذكراك في قلبي البا
…
كي، وإن كنت في التراب دفينا
لم يا بلبلي ارتضيت الفراقا
…
فشببت الحنين والأشواقا؟
ما لهذا الظلام يغمر نفسي
…
فيبيد الضياء والإشراقا؟
ما غناء الحياة من غير إلف
…
يجعل القلب واثبا خفاقا
سوف أبكيك طيلة العمر حتى
…
يأتي الموت مسرعا سباقا
سوف أمضي مع الحياة بقلب
…
ليس يبغي من الهموم انطلاقا
كلما مرت الليالي عليه
…
لم تزده إلا هوى واشتياقا
دفنته - وليس ذاك عجيبا -
…
حيث قضى حياته تطريبا
كيف ترضى بأن يكون بعيدا؟
…
كيف ترضى بأن يكون غريبا؟
فإذا أقبل المساء تراها
…
تؤثر الصمت أو توالي النحيبا
وترى طيفه يغني مهيبا
…
فغدا قلبها ينوح مجيبا!
وإذا اقبل الصباح تراها
…
تسأل الليل أن يعود قريبا
لترى حولها من الصمت والوح
…
شة ما يشبه الفناء الرهيبا
لم تزل هكذا زمنا طويلا
…
وهي تزداد من أساها نحولا
وتنادي الفناء حتى أتاها
…
عاصف الداء من لدنه رسولا
ثم جاء الفناء يسعى رهيبا
…
فطواها، وسار عنها عجولا
فثوت في مكانها حيث كانت
…
تسمع البلبل العزيز الجميلا
وتلاقى الروحان بعد افتراق
…
في مكان لما يزل مجهولا
ومضى عنهما الزمان، فصارا
…
قصة للوفاء، تروى فصولا
إبراهيم محمد نجا
صلاة
للأديب رشيد ياسين
رب أنزل على ضميري السكينة
…
وقني هاجسات نفسي اللعينة
واطو ما تنشر الرغائب من جور
…
وما يخلق الهوى من ضغينة
وأنر لي دربي ولا تنس عبدا
…
تائها في الظلام يقفو ظنونه
واغتفر عثرتي فما كنت شيئاً
…
غير ما شئت - خالقي - أن أكونه
أنا ما كنت غير رسم شقي
…
أنت ظللت بالهوان جبينه!
طينة صورت - كما شئت - قلبا
…
مستبدا، وعزمة موهونه. .
أعلى ما برت يداك يقاضي
…
عدلك السرمدي تلك الطينة؟!
(بغداد)
رشيد ياسين
رسالة الفن
تنسيق الزهور
للدكتور أحمد موسى
ليس من الغريب أن يكون تنسيق الزهور فنا، ولكن الغريب أن يتصور البعض أن الأزاهير وما يتعلق بتنسيقها لا يهم إلا فريقا معينا من الناس؛ والحق هو أن هذا الفن الذي قد يبدو ضئيلا عند النظرة الأولى يهم كل مثقف وكل متعلم لأن الاستمتاع بمرأى الزهر في أكمل واجمل صورة له من شان الراغب في التذوق، ولا يوجد مثقف أو متعلم لا يرغب في هذا التذوق!.
والتذوق بذاته لا يتم إلا بدراية الفن ولو في أبسط معانيه وصوره، لذلك نعني في هذا المقال بإيضاح الموضوع بغية الوصول إلى النتيجة المرجوة التي تتلخص في فهم الوسائل والطرق التي يسير الناس عليها في تنسيق الزهور في بيوتهم وفي حجرات جلوسهم وغرف استقبال ضيوفهم، ينظرون إليها على اعتبارها جزءاً متمماً للجو البيتي الذي ينشدون فيه الجمال.
ولتذوق جمال الزهر تاريخه القديم وتاريخه المتوسط وتاريخه الحديث، ولكنا لسنا في مجال تاريخ الفن في هذه المرة وإنما نحن في معرض تذوق جمال الزهر نتيجة تنسيقه؛ فإذا رجعنا إلى معابد المصريين ومقابر ملوكهم رأينا عجبا، ففي ممفيس وطيبه ودندره وأبي دوس وغيرها مناظر تسجل افتتان المصريين بالزهر وإمعانهم في تنسيقه.
ولا يقل الحال شأنا عند الإغريق الذين اتخذوا من وحدات الزهر والنبات مادة لزخارفهم ونقوش مبانيهم، والرومان من لم يكونوا أقل اهتماما من أساتذتهم.
والمستعرض للفن الإسلامي يجد فيه الكنوز الحافلة بما يسجل عشق المسلمين للأزاهير، وفي اشعارهم القدر الكافي مما يؤيد ذلك، وحتى في غزلياتهم كانوا يقتبسون من حسن قوام الغصن ولون الزهر صفات طبقوها على المحبوب اعترافا منهم بما للأزاهير من جمال وبهاء.
فكأننا أمام موضوع له خطره وله قيمته! وعليه فلا بد لنا من إن نعرف كيف نحب الزهر وكيف نحافظ عليه منتعشا أطول مدة ممكنة.
والذي يجب أن نعرفه مبدئيا أنه لا يشترط لجعل الزهور بادية في أجمل وضع لها أن تكون سيقانها موضوعة داخل زهرية جميلة في ذاتها، أو قيمة من ناحيتها المادية، ذلك لأن من الجائز جدا أن تكون المشكاة بسيطة التكوين قليلة الألوان ليس فيها ما يبهر النظر، ومع هذا تكون مناسبة لإبراز معالم جمال الزهر ولفت حاسة الانتباه إليه، وهذه مسألة فاتت الكثيرين الذين يضعون الزهر في مشكاة ثمينة رائعة الألوان؛ فيطغى جمال الصناعة على جمال الطبيعة، ويكون الإعجاب والاستمتاع موزعا.
وربما كانت أبسط القواعد لمعرفة طبائع الزهر وأنواعه وعلاقة لونه بتأثيره في مكان أو ركن معين من البيت خير رائد لنا للوصول إلى الغاية.
فمما لا شك فيه أن لون الحائط خلف الزهرية ولون المائدة وكذلك لون الزهرية نفسها، كل هذه الألوان متجمعة تلعب دورا هاما في إظهار الورود والزهور في أجمل صورة وأقوى وضع لها، أو على النقيض تبعد النظر عنها وتضعف من قيمتها.
هذا إلى جانب الدور العظيم الذي يلعبه الضوء بقوته حيناً وضعفه حينا آخر، إلى جانب وقوعه على الزهر مباشرة أو انحرافه عنه.
وإذا كان لون الحائط والمائدة، والنور وزاوية وقوعه على الأزهار ذات أثر بالغ، فمما لا نزاع فيه أن مساحة الحجرة ومساحة المكان المخصص للأزاهير لا يمكن إغفالها، وهذا معناه أنه لا يجوز وضع مجموعة كبيرة من الزهور في حجرة صغيرة والعكس بالعكس.
وعلى ذلك تكون القاعدة الأولى هي التنسيق والتناسب مع المكان وليست غنى المظهر، وأنت تعلم أن شقة حجراتها معدودة في نظام فنيو خير من مبنى متسع الأرجاء لا نظام فيه ولا ارتباط بين أثاثه.
وربما كان من الضروري أن نذكر أنه لا بد من اختيار الأزهار ذات الألوان المنسجمة مع طراز الأثاث ولونه، وهذا القول وإن بدا على شيء من الغرابة فإنه صحيح، فإذا وضعت زهر عباد الشمس وهو شديد الصفرة متوهجا، داخل حجرة أثاثها من خشب الفرو وهو لون باهت أقرب إلى الصفرة، فإنك تجد هذه الزهور الجميلة فاترة ضعيفة على الفور، على النقيض وضع هذه الزهور نفسها في حجرة أثاثها من خشب المهاجوني الداكن اللون، على مائدة تعلوها سجادة داكنة أيضا، على أن تكون بالحجرة نافذة كبيرة يدخل منها نور
قوي.
ولتكوين سيقان الزهر وطولها قيمته الفنية، للسيقان وطولها علاقة وثيقة مع الزهرية، فلا ينبغي وضع أزهار ذات سيقان رفيعة قصيرة في مشكاة طويلة واسعة.
وليس من الغريب أن يكون قانون التماثل أو التناظر أو ما يسمونه (قانون السيمتري) باطل الأثر بالنسبة إلى فن تنسيق الزهور. بل إن الخضوع له وتطبيقه يؤديان إلى التقليل من الجمال المظهري لها، لما ينطوي عليهما من وجوب وضع زهريتين متشابهتين في مكانين متقابلين وما يؤدي إليه هذا من التكرار الممل
ولكل وقت من أوقات النهار ما يناسبه من الزهر، فعلى مائدة الإفطار ذات المفارش الخاصة بها يمكن وضع زهر الجرونيا أو منقار الغرنوق والأقحوان أو كحلة الجنائن والتيولب أو الخزامي والنستوريوم أو زهر أبو خنجر وهي أنواع إذا نظرت إليها وجدت أن تأثيرها على المشاهد ينحصر في وضعها متقاربة غير منثورة قي الزهرية، على حين يناسب مائدة الغذاء خليط من مختلف ألوان الزهر يوضع في زهرية واطئة أشبه شيء بطبق، بحيث لا يحول بين وجوه الجالسين حول المائدة، هذا فضلا عن عدم قابلية الطبق للسقوط على المائدة أو ميله على أحد جوانبه عند أقل حركة أثناء الجلوس أو القيام. أما الأزهار الملائمة لمائدة العشاء فهذه تكون عادة ذات أغصان طويلة رقيقة تمتد رؤوسها إلى أعلى وليس إلى اليمين أو اليسار فيتخللها النور الساقط من المصابيح المثبتة بسقف الغرفة فتبدو في أروع مظهر، على أنه لا ينبغي أن تكون متعددة الألوان، ولعل الورود أحسن من غيرها في هذه الحالة.
ومما لا ينبغي الوقوع فيه وضع بعض الأوراق أو الأغصان على المفرش سواء أكان العشاء لأصحاب البيت أو لزائريهم. وقد رأينا البعض يضع لوحا من البلور أو زهرية أمام مرآة المشجب وهذه لا غبار عليه، ما دامت الأزهار لا تمتد كثيرا إلى أعلى فتحجب المرآة. ولون الزهرية وموضوع اختياره من المشاكل الجديرة بالدرس، فالثابت أننا إذا نظرنا في ضوء الشمس الساطع إلى الأزهار ذات اللون الأحمر والأزرق والأصفر وإلى جانبها جميعا اللون الأخضر وهو لون الورق والأغصان والحدائق والحقول، فإنها عندئذ تبدو في حلتها الطبيعية، حالة كونها تبدو على نقيض ذلك في النور الخافت نهارا والضوء
الضعيف ليلا، ونجد لونها ليس طبيعيا، وعلى ذلك يجب مراعاة هذه العوامل عند التنسيق. واللون الأصفر مما يناسب معظم الحجرات والأماكن، وهذا هو السر في أن معظم العارفين يتخيرون الكالندولا أو كحلة الجنائن في غالب الأحوال، على حين نجد أن الزهور الزرقاء مجردة عن رونقها في الأركان القليلة النور، وهذا لا يمنع من اعتبارها جميلة ذات تأثير محبب إلى النفس متى وضعت بالقرب من شباك يدخل منه النور القوي، أما في الليل فهي تفقد رونقها وتبدو كالحة اللون رمادية أو سنجابية.
على أن أوراق الشجر وأغصان الزهر تلعب دورا هاما بوضعها إلى جانبها، فالالتفات إلى إيجاد الانسجام بين هذه الأوراق والأغصان وبين الأزهار نفسها أمر لا مناص منه. فوضع الورق الأخضر الداكن إلى جانب الأزهار الباهتة يميت لونها، كما أن وضع الورق الباهت إلى الزاهي من الأزاهير يضعف من رونقها
وكأننا أمام قاعدة ثابتة تتلخص في وضع اللون السمني إلى جانب الحمر الدافئ واللون الأبيض إلى جانب الرمادي. واللون الوردي إلى جانب الأبيض!
ومما لا يحتاج إلى بيان أن ذوي الذوق الجميل يجدون فرصة مواتية للتصرف حسب ما يمليه الذوق عليهم، فتكون لديهم المقدرة على حذف زهرة وإضافة أخرى أكثر انسجاما، هذا إلى جانب ما يكتسبه المرء من المران والاختبار للوصول إلى الغاية المثلى.
مما تقدم يمكن أن نصل إلى القول بأنه إذا أريد تنسيق بعض الأوراق الخضر مع لزهر الأحمر والصفر والأبيض فإنه يجب والحالة هذه الاعتناء التام باختيار الموضع الملائم لكل منها في الزهرية، ذلك لأنك إذا وضعت الأزاهير الداخلية بل ينصرف عنها إلى خارجها لشدة لونه وقوة شخصيته.
ومن بين الأزهار ما يبدو في أجمل صورة له عندما يكون مستقلا قائما بنفسه إذ استثنينا بضع أوراق خضر تعين المشاهد على التركيز النظري. والزهور كائن حي رقيق الحس ولذلك لا مناص من معرفة بعض القواعد عن كيفية قطفها ومعاملتها والمحافظة عليها أطول مدة ممكنة فيطول بذلك أمد الاستمتاع بها.
فأنسب وقت لقطفها وقت بزوغ ألوان الفجر أو عند الصباح الباكر وقتما تكون قطرات الندى قد رصعت تيجانها وبدت فوقها كحبات اللؤلؤ. أما القطف فلا يكون كما اتفق بل
نلاحظ فيه أن تكون السيقان طويلة بقدر الإمكان ليمكن تنسيقها حسب الإرادة ووفقا لعمق الزهريات التي ستوضع فيها والواني المخصصة لها.
كما ينبغي عدم تجريدها كلية من أوراقها تمهيدا لتنسيقها. والقطف لا يكون قاصرا على الزهور المفتحة فحسب بل يجب أن يشتمل على درجات النضوج الثلاث وهي بدء التفتح وتوسطه وكماله، كما أن من الأوفق كثيرا استخدام المقص المخصص لهذا الغرض أو على الأقل استعمال سكين حادة، على أن يكون القص أو القطع مائلا كثيرا بقدر المستطاع وليس قصا أو قطعا أفقيا وذلك لتمكين ساق الزهر من امتصاص الماء وهو غذاؤه داخل الزهرية.
وأول عمل نجريه عند وصول الزهور إلى البيت هو غمرها في الماء البارد داخل إناء كبير يتسع لها دون ثنيها أو كسرها بحيث يصل الماء قمة العنق، مع تركها بعض الوقت بحالتها هذه في مكان قليل النور رطب الهواء بقدر المستطاع.
ولا يتسع المجال لذكر كل أنواع الزهور ومعالجتها بالوصف الخاص - والإجمال لا يخل بالموضوع ما دمنا نستعرض أكثر الزهور استعمالا، فزهر الخنجر يقطع بمجرد بدء الزهرة الثانية على الساق في التفتح، لأن البقية تتفتح بعدئذ في ماء الزهرية خلال الأسبوع الذي تعيشه في البيت. وعندما يلاحظ أثناء تغيير الماء - وهو أمر لازم يومياً - إن نهاية السيقان قد أصبحت لينة لزجة، فإن الضرورة تقضي بقص هذه النهاية بعد عصر الساق.
أما زهرة الداليا فهي من الزهور الطويلة العمر إذا قطفت عندما يقرب تفتحها من الكمال ويكون القطف فوق الوصلة مباشرة حتى تكون الساق مفتوحة من أسفلها، فلا تقابل الماء عقبة أثناء مروره للتغذية.
وفصيلة السوسن أو الزنبق تقطع عندما يبدأ أول زر في التفتح، وذلك لن التي تفتحت يوما أو يومين قبل القطع تكون قصيرة العمر.
والورود تقطع بسيقان طويلة قدر الإمكان، بعد ترك جزء من ساقها في الأرض لاستكمال نموه. ويضع بعض المغرمين بالأزاهير قطعة من الفحم النباتي في قاع الوعاء ليكون الماء عذبا أطوال مدة ممكنة. وهناك فريق يضع قرصا من الأسبرين لإنعاش الزهر. وغير هؤلاء وهؤلاء نجد من يمزج فنجانا من السكر على لتر من ماء توضع فيه زهور
الكريزانتينم فتظل حافظة نضارتها أسبوعا كاملا.
أما ضرورة قص أطراف السيقان يوميا إكمالا لعملية تغيير الماء فهذه مسألة يعرفها معظم الناس ولكن هناك ما يدعو إلى التنبيه وهو أن عملية القص يجب أن تجري تحت حنفية الماء مفتوحة يتدفق ماؤها على السيقان حتى يحول هذا العمل دون دخول الهواء إلى ساق الزهر فيقضي عليه. ولا يصح وضع الكثير من الزهور في زهرية ضيقة العنق لأنها بهذه الكيفية تختنق إذ لا يمر الهواء من بينها ولا يستطيع الماء الوصول إلى قممها.
وأنواع الزهريات كثيرة وألوانها متباينة وطرزها بين قديم وحديث لا حصر لها، فالعبرة بحسن الاختيار والتفرقة بين ألوان الزهر وبين ألوان الزهريات ووضع ما يلائم واحدة منها في مكانها المناسب لها. وكلما كانت الزهور رقيقة كانت الأوعية الزجاجية الرفيعة اكثر صلاحية لها.
والفن داخل البيوت موضوع قديم عند كل الأمم المتمدينة وإن يكن حديث العهد في بلادنا، وهو في وقتنا الحاضر يتلخص في البساطة والبعد عن الزخرفة والزركشة والازدحام، مما أدى إلى الاستعانة بالزهر على تجميل البيوت، التي إن عرفنا كيف نجملها لما احتملنا البعد عنها.
ويستعين العارفون بما يسمى (الماسك) أو القابض على سيقان الزهر للربط بينها لتظل في وضعها المرغوب، وغير هذا توجد قطع مستديرة من البلور ذات ثقوب وهذه القطع توضع في قاع الزهرية التي تكون عادة متسعة العنق أو على هيئة طبق ذي قطر كبير، وذلك لتثبيت السيقان في أوضاعها المختارة بوضع نهاياتها السفلى في تلك الثقوب. ويلعب الرمل النظيف دورا هاما في المساعدة على تنسيق الزهر، فبوضعه في قاع الزهرية يعين على التثبيت، فضلا عن أنه لا يعوق وصول الماء إلى السيقان لتغذية الزهر الذي يكون غالبا من النوع الرقيق القصير كزهرة البانسي والفيوليا ويسمونها زهرة الثالوث وهما من فصيلة البنفسج، وزهرة الزعفران وزنبق الوادي على أنه لا ينبغي أن يبدو الرمل ظاهرا أمام عيني المشاهد.
ومما تحسد عليه بلادنا العزيزة أن الزهر لا ينقطع طوال أيام العام على حين تجده في اوربا نادرا لا سيما في الشتاء القارس. والعقبة التي تصادف هواة الزهر في الأقطار
الشرقية هي سرعة ذبوله في الأوقات الحارة، ولكنا إذا عالجناه كما ينبغي أمكن البقاء عليه مدة كافية.
وكقاعدة عامة نقول أن كلما قل الزهر عددا وحسن تنسيقه كلما كان مظهره بسيطا جميلا. والعجيب أن تجد الفنان الياباني يأبى إلا يسير على هذه القاعدة؛ فتراه حتى في لوحاته المصورة لا يأبه إلا بغصنين أو غصنين تعلو كلا منهما زهرتان، يصورها في أروع ما يكون من الجمال وحسن التنسيق وإبداع الإنشاء الفني
وإذا كان القارئ من المحظوظين اللذين يملكون بستانا، فإن عليه أن يختار الأغصان ذات الأنثناءات فهي في الزهرية تكون رشيقة كالحسناء ذات القوام الممشوق، وتبدو الأغصان مائلة بعضها نحو بعض كأنها تتحدث حديث حب وغرام.
فأغصان الرمان المزهر وأغصان الليلك (لعلى) والكمثرى لها تكوين ساحر خلاب يحمل أزاهير يانعة رقيقة إن تأملتها عن كثب زدت إعجابا بقدرة الخالق وعملت بأن الطبيعة هي ام الفن وأننا مهما اوتينا من العلم فلن نصل إلى قطرة من ذلك الخضم اللانهائي
أحمد موسى
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أحاديث الرهبان في قصص العريان:
دأب الأستاذ محمد سعيد العريان، في قصصه التاريخية، على اللجوء إلى ما يرجى عنده من معرفة الحوادث قبل وقوعها، من التنجيم وأحاديث الرهبان، واستخدام الأحلام استخداما غير طبيعي، وقد تعقبته في هذه النقطة بالرسالة غير مرة، ففي قصة (قطر الندى) جعل المربية العجوز تحلم وتموت دون أن تفضي إلى أحد بحلمها، وذكر تفصيل الحلم! وفي قصة (شجرة الدر0 أنطق المنجم بما وقع فعلا! وصنع شيئاً من ذلك في قصة (على باب زويلة).
وأخذت عليه كل ذلك، وقلت فيما كتبته عن (شجرة الدر): إن كان لا بد من الاستعانة بالتنجيم في تصوير البيئات والعصور التي كان للتنجيم فيها شأن وذيوع - فأني أرى عند الإتيان به أن تسلط عليه أشعة تكشف أباطيله أو تشكك فيه على الأقل.
وكأن الأستاذ أراد العناد. . . فتوسع في ذلك المجال بقصته الجديدة (بنت قسطنطين) التي حلل فيها شخصية مسلمة بن عبد الملك وما أحاط به من ظروف وسبب عدم توليه الخلافة على رغم جدارته بها، وصور فيها البطولة العربية وجهادها الرائع بين سواحل الشام وثغور الروم، فبلغ غاية في التحليل والتصوير.
فإنه لم يكد يمضي في هذه القصة حتى ساق رجلين من أبطالها، هما مسلمة والنعمان بن عبيد الله أحد المجاهدين، إلى راهب بأحد الأديار، وكان مسلمة يعد العدة لفتح القسطنطينية، فيقول له الراهب فيما يقول:(يدنو 9يعني مسلمة) حتى يكون قاب قوسين، فيقف بين بين، ثم يفلتها بعد أين؛ بينه وبين ما يأمله مائتان ومائتان وثلاثمائة؛ ثم يكون ما أراد، حين لا متاع له بشيء من ذلك الزاد، إلا عين جارية وسيرة باقية؛ ويذكر أبو أيوب، وأبو سعيد، ومحمد بن مراد!. .)
ثم يحاصر مسلمة القسطنطينية حتى يكاد يفتحها، ولكنه (يفلتها بعد الأين0 وبعد سبعمائة سنة (200و200و300) يفتحها محمد بن مراد العثماني!
وليس هذا وحسب، بل ينبئ الراهب عما يقع من الحوادث في القصة بعد ذلك، ويكون
حديث الراهب محورا يدور عليه الحوار فيما يأتي بعده. . ويتصل بهذا المحور محور آخر، هو تلك الرؤيا العجيبة التي رآها مسلمة والنعمان في وقت واحد وفي طريق واحد وعلى صورة واحدة (كنسختين بالكربون)!
والأستاذ العريان يتخذ ذلك، لحبكة السياق، ولإبراز الخواطر التي تختلج في نفوس أبطال القصة، ولبث بعض الطلاوة في الحوار. ولا أثر لذلك الصنيع في القصة غير هذه الأغراض وما يشبهها، أما بناء القصة فهو قائم بغير طلائه، وحوادثها جارية لا يعوقها منه شيء؛ وقد يتأنى للأستاذ أن يحقق تلك الأغراض، من حبكة السياق الخ، من غير تلك الخرافات. . . وأنا أساله أخيراً: هل يعتقد صحتها؟ ولا أنتظر منه جواب هذا السؤال فهو معروف، وإذن فلم يحشوها وكأنها حقائق مسلم بها، في قصص مؤلف من وقائع الحياة فيما مضى وتخيل ما يماثل هذه الوقائع؟
وغاية ما أرجو أن يخلو من ذلك ما يؤلفه بعد من هذه القصص التي يجلو فيها التاريخ في صور من الفن الممتع. وأنا لم أتعب من تعقبه، ولن اتعب ما أمهلتنا الحياة.
الجيل الجديد:
تلقيت كتابا من الأديب المصري صبري حسن علوان، فأذكر أولا أنني اغتبطت بما تضمنه من الثناء على (الأدب والفن) ولا داعي للرياء. . .
وأقول ثانيا إنني استبشرت به، لأنه يعزز أملي في الجيل الجديد على الرغم مما يبدو من عوامل اليأس. وصبري طالب في الجامعة قد (عدت له عجلة الحياة من السنين ثمانية عشر ولما تتم دورتها الأخيرة) وهذا نص تعبيره في كتابه. وقد حدثني في بعض الموضوعات الدبية حديثا يدل على فطنته وحسن تذوقه، كما يدل على أن الجيل الجديد - غن كان لصبري أمثال كثيرون - مفتح عينيه لما يجري الآن في الحياة الأدبية، فهو يقول إنه يقرأ (الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية فيرى فيها شيئاً لا يرتاح له. نعم إن النشر ليس مقياس الجودة. ولكن الذي يستحق التنويه أن الأسماء التي لها سابقات في الأدب والفن تأتي بالغث الهزيل الذي تأباه الأذن وتضيق عنه القلوب. .!)
وأفسح قليلا لهذه الملكة الناقدة المتفتحة، فأنقل النقد الآتي بنصه كما جاء في ذلك الكتاب:
(ومن الأسماء المشهورة ما قاله أحدهم عن (ذكرى شهداء فلسطين) في جريدة الأهرام.
لسنا بمن يذري الدموع على الدم
…
بل نحن أبناء المنايا فاعلم
كأني به في كتاب من كتب العلم القديمة يقول مؤلفه: فاعلم وفقك الله أن. . . وأن. . . والله أعلم!
ثم يقول بعد أبيات:
ظلم (اليهود) الناس ثم تظلموا
…
منهم فمن للظالم المتظلم؟!
إن قلبي الذي كان يتوقع النور من الفن أحدق به الظلام حتى إنه تظلم إلى الأدب والفن. . من تكرار الظلم المرذول. إنه يخيل إلي أن كلمة (ظلم) هذه تمن على اليهود بشيء من الرحمة والرافة)
وقد تلقيت عدة رسائل يشكو أصحابها من (عدم النشر0 وكل ما عندي في هذا الموضوع قلته في العدد (790) من الرسالة غير أني رأيت بعضهم كالأديب كيلاني حسن سند (يتواضع) فيفرض أن من لا ينشر له جهل نفسه فرفعه حب الشهرة إلى معالجة فن لا يحسنه، ويقول:(ألم يكن من الخير له وللأدب أن ترشدوه وتوجهوه وتعرفوه حقيقة المنبع الذي تفيض به نفسه ليستغله وينتفع به؟).
فهل من العمل الصحفي - في الأدب وغيره - أو هل من مهمة الكاتب، الإرشاد الشخصي؟
نعم إن الكاتب يتناول الظاهرة العامة ويكتب فيها للجميع، أما أن يتناول الأفراد واحداً واحدا فيوجه هذا ويرشد ذاك، فهذا من عمل المدرس الخاص، وأظنك في الأسبوع الماضي على رأيي في الدروس الخصوصية، ولعل المطالبة بالإرشاد من آثارها. .
والذي لا يعرف أين يتجه، مما يقرأ ويشعر ويلاحظ، فليرح نفسه.
وبعد فإن قلبي مع هؤلاء الشباب وإن كنت لا أستطيع لهم شيئاً.
دراما وكوميديا:
انضم الأستاذ يوسف وهبي بك أخيرا إلى الفرقة المصرية مديرا لها، وهو بلا شك ممثل كبير ومحبوب لدى الجمهور، وانضمامه للفرقة كسب لها ومدعاة لإنهاض المسرح المصري من الغفوة التي طالت مداعبتها لأجفانه.
ذلك كله لاشك فيه، وقد استبشر محبو المسرح بالنشاط الذي أبداه يوسف وهبي في مفتتح
هذا الموسم، ولكن اقترن بحركة دعاية واسعة ظفر منها يوسف وهبي بنصيب الأسد، فقد ملأت أحاديثه الرنانة أنهار الصحف والمجلات، وعاد النقاد من زياراته يكتبون الفصول فيما يوشك أن يقع من معجزات الفن ولم يكتف هو بذلك ولا بالإعلانات التي نشرت في كل مكان وقد تضمنت أن يوسف وهبي يقوم في رواية (سر الحاكم بأمر الله0 بدوره التاريخي العجيب، فرأيناه بالصحف فصلا يتضمن نبأ افتتاح الفرقة موسمها، موشى بتمجيد بطل الرواية مدير الفرقة في دوره العظيم، وقد نشر في عدة صحف بنص واحد.
ولو أن الأستاذ يوسف صاحب فرقة خاصة لكان له أن يعلن عن نفسه كما يريد، ولكن الفرقة المصرية لها كيان مستقل، وهو موظف فيها، والمال الذي ينفق في الدعاية من خزانتها؛ فأين هي وما نصيبها من كل هذا الطبل والزمر. . .؟ ولنفرض نه تركها وقد طغى عليها بالدعاية لنفسه، فكيف يكون حالها؟
هذه هي (الدراما) أما 9الكوميديا) فهي أن الأستاذ يوسف وهبي معروف بظهوره في الأدوار العنيفة وتمثيل الشخصيات الكبيرة، فيخطب ويبطش ويكتسح. . وهذه الطبيعة متأصلة فيه، ومما يدل عليها أنه لما جاء إلى الفرقة المصرية جعل يبحث في محتوياتها حتى عثر على رواية (مركونة) كانت قد فازت في مسابقة قديمة، وهي رواية (سر الحاكم بأمر الله) فوافقت هواه، إذ رأى فيها ما يوصله إلى القمة. . . فطالما كان زعيما وعبقريا ومصلحا كبيرا، ولكن كل ذلك في حدود (البشرية) أما في هذه الرواية فيمثل الحاكم بأمر الله الذي ادعى الألوهية. . . وهكذا يصل الممثل الكبير إلى نهاية الخط. . .
المشاكل الدولية:
كانت الإذاعة تقدم مساء الأحد من كل أسبوع، الأستاذ محمد رفعت بك، ليعقب على الشؤون الدولية في سلسلة أحاديثه (مصر تطل على العالم) وقد رؤى أخيرا أن يتناوب معه في الحديث عن هذه الشؤون الدكتور محمد عوض بك أسبوعا بعد أسبوع.
وقد بدأ الدكتور عوض بك يوم الأحد الماضي، فتحدثت عن المشاكل التي تشغل بال مصر وبال العالم في هذه الأيام، فتناول أولا مسألة فلسطين من حيث غدر اليهود في الأسبوع الماضي بحشد قواتهم في الجنوب ومحاولة الهجوم على الجبهة المصرية، فقال إنهم أرادوا بذلك أن يستولوا على جنوب فلسطين، فغن تم لهم ما أرادوا زحفوا شمالا. ولكن القوات
المصرية أحبطت خطتهم وحطمت آمالهم فردتهم على أعقابهم خائبين مدحورين. وقال إننا نستخلص من ذلك أمرين، الأول أن ما يهولون به من استعدادات اليهود وقوتهم ليس بشيء إزاء القوة العربية، فقد جمعوا كل ما أمكنهم جمعه في هذه المعركة فلم يستطيعوا شيئاً. الأمر الثاني أن اليهود سيدأبون على الغدر فيجب أن نعمل حساب غدرهم في كل وقت؛ وهم يعلمون أن هيئة الأمم المتحدة لن تستطيع أن تمنعهم ما دامت غير مستندة إلى قوة عسكرية، والأمم الغربية لا ترضى أن تبعث إلى فلسطين بقوة عالمية فيها روسيون.
ثم تحدث عن مشكلة برلين، ومما قاله إن الدول الغربية لما لم تستطع الاتفاق مع روسيا عرضت الأمر على مجلس الأمن، ومعنى ذلك أن الدول الكبيرة عجزت عن التفاهم فاحتكمت إلى الدول الصغيرة. .
وبعد أن تحدث عن مشكلة إضراب العمال في فرنسا، لم يفته في ختام الحديث أن يهنئ الأمم المتحدة بعيد ميلادها الثالث ويتمنى لها أطيب التمنيات. . . وقد نطق بهذه العبارات الأخيرة بنبرات صوت تدل أبلغ الدلالة على انصراف القلوب عن هذه الوليدة الكسيحة. .
مسابقة المجمع اللغوي الجديدة:
وافق مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسة يوم الاثنين الماضي - على نظام المسابقة الأدبية لسنة 1949 - 1950 الذي وضعته لجنة الأدب، وتشمل هذه المسابقة البحوث الأدبية والقصة، ولم يدخل فيها الشعر كما كان في مسابقات السنوات الماضية، إذ رأت اللجنة إبعاده حتى يجد في آفاقه ألوان جديدة. وقد جعلت مسابقة القصة لجميع أدباء العرب، وخص بالبحوث الأدبية أدباء وادي النيل، وقد عدل هذا التعبير بعد أن كان (أدباء مصر والسودان) على أثر مناقشة طريفة قيل فيها إنه لا ينبغي أن يتوهم أن السودان قطر آخر منفصل عن مصر كما أن في شمول المسابقة لأدباء وادي النيل توكيدا لمعنى الوحدة، وكان ذلك بمثابة تحية للعضو السوداني الزائر الذي حضر الجلسة وهو السيد عبد الله عبد الرحمن الأمين.
وقد خصصت للبحوث الأدبية ستمائة جنيه، مائتان لكل بحث من البحوث الآتية:
1 -
أحسن تحقيق لكتاب عربي قديم وضع أساليب النشر الحديثة طبع أم لم يطبع.
2 -
أحسن دراسة لرفاعة بك الطنطاوي واحمد فارس الشدياق ومحمد قدري باشا وأثر كل
منهم في وضع المصطلحات الأدبية أو القانونية.
3 -
أحسن بحث في نقد الشعر العربي من منتصف القرن التاسع إلى الآن، ولا يدخل في ذلك نقد الشعراء الأحياء.
وخصص مائتا جنيه لقصة تدور حول أحد الموضوعات الآتية:
1 -
بحث مشكلة اجتماعية عربية من مشاكل العصر الحاضر.
2 -
حياة بطل من أبطال العرب.
3 -
موقف من مواقف العرب الحاسمة في التاريخ.
وسيذيع المجمع بعد قليل بيانا للمسابقة يتضمن شروطها ومواعيد التقديم وما إلى ذلك.
عباس خضر
البريد الأدبي
أنت في واد وأنا في واد:
عاد الأستاذ أحمد عادل يرغبني بالإسلام ويحببني به بانتقاد الإنجيل، ثم يسفه بعض أقوال المسيح، ثم بالطعن بالنصرانية ثم بالتقريع بزعماء النصارى - ذلك في رسالة لي منه أشغلت 12 صفحة، ومن أصعب الأمور قراءة خطها السقيم. وفي النبذة التي نشرتها (الرسالة) لي قبل العدد الماضي أفهمته بالمعقول وبالمفتوح أن ديني يمتاز على جميع أديان البشر بأنه يقال بكلمات معدودة: الله محبة، وهو يأمرنا بان نحب بعضنا بعضا، وأن نسامح بعضنا بعضا، وأن نغفر لمن أساء إلينا. هذا هو الدين الإنساني العملي الذي لو عمل به كل فرد من النام لما وجد من يضربك على خدك الأيمن لكي تحول له خدك الأيسر، ولا وجد من يسيء إليك لكي تسامحه وتغفر له، ولو صار كل الناس من هذا المبدأ وساروا عليه لانتفت الخصومات من العالم وتعطلت المحاكم وأقفلت دور الشرطة وانطفأت نيران الحروب.
هكذا أعتقد، وهكذا أجتهد أن أسلك في هذا العالم المملوء آثاما وشرورا، فلو فهم الأستاذ جيدا هذا لما جعل يجادلني في الدين، ولفهم أني لست نصرانياً ولا مسلماً ولا بوذياً ولا مجوسياً؛ بل أنا مسيحي بحت، وديني دين إنساني يصلح لكل أمة وكل قبيلة من الناس!
وليعلم الأستاذ أحمد أن الأناجيل لا تريه صورة خالية من الشوائب عن يسوع وحياته وتعاليمه.
وكنت أظن أني والأستاذ أحمد نعتقد عقيدة واحدة إذا جردنا الدين من الترهات والخرافات، والمعتقدات المخالفة للمعقول فإذا هو في واد وأنا في واد، فلا محل للجدال في الدين بيني وبينه وعسى أن تكون هذه الكلمة مقنعة له، وتغنيه عن تسويد الصفحات في دعوته لي إلى الإسلام.
أرجو أن يعلم بغض القراء عنواني إذا كانوا يجهلونه حتى لا يزعجوا إدارة مجلة الرسالة بتحويل رسائلهم إلي: 2 شارع البورصة الجديدة. القاهرة
نقولا الحداد
حسين شفيق المصري:
(كتب أديبنا الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وصف هذا الصحفي القدير، وكان قد كتب هذه الكلمة منذ ربع قرن يقرظ بها جريدته (الناس))
(المنصورة)
محمود أبو ريه
الأستاذ حسين شفيق المصري الذي يمتع الأمة بهذه الصحيفة (جريدة الناس) ماجن ظريف، ولو تقدم به الزمن لتهاداه الملوك والأمراء، فقام على بساط منشدا، وجلس على آخر نديما، وتقلب على الثالث مضحكا. وعربد على رابع، وجلد على خامس - ولعل الله أخره إلى دهرنا رحمة به أن يأمر أحد الملوك فيملئوا فاه ذرا بعد أن فرغ من إنشاده المعجب المطرب - ويشره هو إلى الثروة والغنى فيفتح فمه إلى أقصى الحلق فتدخل اللآلئ وتخرج الحياة.
وهذا الأديب في عصرنا غنما هو بقية فن من أبدع فنون الدب، كما كان لا ينبغ فيه إلا عقول معدودة لا تقصر في حكمة الكلام عن غاية، ولا تتخلف في ظرف البلاغة عن شأو، ولا تجيء بما تأتي إلا على الأسلوب الذي يهز النفس من طرفيها، كأن الله قد وهبها سر القدرة على ما يعسر وما يؤلم فلا تتناول معنى إلا انشق لها عن فنون غربية تهديها إلى ما فيه من الضحك الذي لا ينكشف إلا للنفس الشاعرة، والتهكم الذي لا يظهر إلا للنفس الحكيمة، والمزاج الذي لا يبدو لغير النفس الظريفة. وما الشعر والحكمة والظرف إلا أسرار ذلك الأسلوب النادر الذي لا ينقاد إلا لأعقل العقول متى أريد به استخراج المعاني المجنونة من الطرب.
فالبلاغة الظريفة الماضية التي بعضها التي من سياسة وخز الإبر، وبعضها من سياسة الظهر والعصا. . . قلما تستجيب إلا للعقول المبتكرة التي خلقت متسلطة على النفوس من اقرب جهلتها، وهذه العقول لا تسرف القوة الأزلية في خلقها، بل هي حين ترحم الناس بهاو فتجعلها قليلة نادرة. وإنك لتجد أهنأ الضحك ذلك الذي ينفجر من القلب ولكنه إن طال انفجر القلب، ولست أعرف تلك العقول إلا في كبار رجال السياسة الذين يدبرون أمر الممالك، وفي كبار رجال الأدب الذين يدبرون أمر العواطف، وفي كبار رجال الفلسفة
الذين يدبرون كل شيء ولا يدبرون شيئاً! فمن أي أولئك نعد (حسين شفيق) هذا الذي لو تألفت من رؤوس الأدباء صيدلية لطب الكلام لكان هو (دولاب السموم) فيها. . لا نعرف من أمثال كاتبنا هذا في تاريخ الأدب على تقادم الزمن إلا قليلين يسمونهم أصحاب النوادر، وقالوا إن المشهورين منهم: ابن أبى عتيق وأشعب وأبو الغصن وجحا وأبو العبر وأبو العنبس وابن الجصاص ومزيد المدني. وهم ثمانية، فإذا توسعنا وأضفنا إليهم الشعراء الماجنين أبا الرقعمق وصريع الدلاء وأبا الحكم الجاهلي والأسطرلابي وابن حجاج، فلا نكون قد زدنا في القليل إلا قليلا، فإذا استقصينا بغاية الاستقصاء وتممنا عليهم بأصحاب الأجوبة المسكتة كأبي العيناء ونظرائه، فلا نزال حيث كنا. ولا يذهبن عنك إننا لا نعد إلا المشهورين الذين أوتوا ملك النادرة لا بالرقاعة والحمق، ولكن بالأدب والبلاغة والشعر والحكمة وتوجيه كل ذلك إلى الجهة الضاحكة المسفرة من الحياة ثم إن لهذا الأديب بعد ذلك فضلا كثيرا على العربية إذ يمكن لها بين قرائه من العامة وهم ألوف كثيرة، وينشر الفكاهة بمقالاته القصيرة في أذواقهم وألسنتهم. ولا سبيل إلى إحياء العربية في هذا العصر إلا أن نجعل العامة أشبه بالعرب الملوحين لا ينكرون الفصيح ولا يأبونه لمكان طباعهم وإن كانوا لا يستطيعونه على وجهه لمكان ألسنتهم.
(فجريدة الناس) صحيفة من الصحف ولكنها مع ذلك ناموس اجتماعي عظيم دائب في ترقية الطباع والأذواق، ولو أن لها من القراء عدد من عندنا من العامة لكان ذلك من فضل الله علينا وعلى (الناس).
مصطفى صادق الرافعي
تعليق وتحقيق:
اطلعت في عدد (الرسالة) 798 على ما كتبه الأستاذ الداغستاني عن (شعوب القوقاز)، فرأيت أن أنقل كلمات في الموضوع من تعليق العلامة العبقري الشيخ محمد زاهد الكوثري في (ترجمة دائرة المعارف الإسلامية) العدد9 ج6 ص345:
إن الكتب المؤلفة في القوقاس والقوقاسيين إلى الآن غير كافية ولا شافية في الاطلاع على جلية أحوال تلك البلاد وأهليها لأن أمم جبل القوقاس كانوا أقوياء أشداء لا يسمحون
للأجانب أن يطئوا أرضهم وديارهم، ولا أن يتوغلوا خلالها بعلة إجراء بحوث علمية، واستمر ذلك إلى سنة 1127هـ عام انهزامهم النهائي بعد حروب دامت نصف قرن، ولم تمض منذ ذلك التاريخ مدة تتسع لبحوث شاملة عنهم، ولا هناك حافز قوي يحمل الباحثين على تجشم المشاق في سبيل اجتلاء حقائق عن أمة باسلة قاربت حافة الفناء، ولذا نجد كلام من يتحدث عنهم من الأجانب لا يعدو حد الحدس والتخمين إلا في الندرة. وليس بمستبعد أن يأتي يوم يغوص فيه الباحثون على ما يتعلق بذلك الجبل، ولا سيما لهجات القبائل التي أنجبها عهد الجنس الأبيض القوقاسي المنتشر في بقاع الأرض، حرصا من هؤلاء الباحثين على تعرف صلة لغات أمم أوربة اليوم بلغات تلك القبائل القديمة.
والمعلومات الوثيقة عنهم هي ما في بطون الكتب المؤلفة في عهد الدولة الجركسية بمصر، لأنها مستمدة من أبناء القوقاس مباشرة في ذلك العهد. ثم إن لبعض الباحثين من أهل تلك الجهات بعض مؤلفات عن الجبل وقبائله تنير كثيرا من أحوال القبائل. وأبناء القوقاسيين لها أدوار تجب دراسة كل دور منها بعناية خاصة، منها ما قبل التاريخ الميلادي إلى أقدم عهد، ثم من أول التاريخ الميلادي إلى الفتح الإسلامي في عهد الفاروق، ثم القرون الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي، إلى استيلاء المغول على القوقاس، ثم صلتهم بالدولة الأيوبية، ثم تأسيسهم الدولتين البحرية والبرجية بمصر، ثم صلتهم بالعثمانيين قبل استيلائهم على البلاد العربية وبعد استيلائهم عليها وصلاتهم بشتى الدول في القوقاس وغيره. وتلك مباحث متشعبة تتطلب جهودا جبارة. ومما يجب على من يريد الإلمام بذلك أن لا يهمل المصادر الصينية وما كتبه مؤرخو الصين عن اللان والهون، لأنه سبق للصينيين أن اتسعت رقعة حكمهم إلى الجهات الشرقية من بحر الخزر. وكذلك لا بد لمن يريد أن يعرف تاريخ القوقاسيين من الإطلاع على التواريخ القديمة التي ألفها مؤرخو بزانطة لأنها تشتمل على أخبار الأقوام الآسيوية القديمة الذين اجتازوا إلى أوربة عن شمال القوقاس أو جنوبه، وهؤلاء الزاحفون من الطريقين ما كانوا كلهم من عنصر واحد ولا كلهم أتوا من الشرق الأقصى أو من جهة الشمال، بل كان القوقاسيين الذين هم في طريقهم اثر مهم في توجيههم وقيادتهم حتى أصبحت أسماء قبائل المتزعمين على هؤلاء كأسماء لجميعهم، وها هي اللانة من أسماء جبل القوقاس فيما حكاه ملطبرون وخونيه قبيلة فرعية
من القبائل الأربع للجراكسة، والآوار قبيلة في الجبل يقطنون فيه منذ قديم محتفظين بسحنتهم الخاصة ولهجتهم الخاصة وهم وايبر أخوان في عداد الآص.
محمد أسامة عليبة
القصص
الطالع
قصة للكاتب الإنجليزي اندروز روبرتسن
قال له وهو يعد له طعام إفطاره - هذه رسالة لك.
- أشكرك ولكن ما الذي أعددته لي هذا الصباح؟
- كما ترى، بعض الكعيكات والبيض والخبز والشاي.
وجعل يتناول الطعام وهو يتساءل، من الذي بعث بهذه الرسالة؟ وتأمل الغلاف، لقد حول إليه من محل إقامته السابق. من الذي يراسله في هذه الساعة؟ لعله أحد الدائنين يطالبه بما له من مال. أن مثل هؤلاء لا يتركون الإنسان في راحة أبدا!
ولكنه كان قد عزم على أن لا يفسد عليه شيئاً لذة تناوله الطعام لكم تحسن الطهي عن أيامه السابقة. وتذكر، كان لا يعتقد أنه سيستسيغ هذا الطعام يوما ماز ولكن، كم كانت دهشته عندما وجد معدته قد تهيأت له واعتادت عليه.
وانتهى من طعامه، فقرر أن يقر الرسالة. ففض الغلاف وقرأ:
(سيدي الفاضل - أبعث إليك بطالعك كما أردت. وقد اختصرت من المصطلحات الفلكية قدر استطاعتي، وجعلت رسالتي قاصرة على مستقبلك.
(حقا إنك رجل مجدود. ذلك ما أثبته طالعك. وأود أن أقول أنه قل أن أجد مستقبلا باهرا بين من اكشف عن طالعهم مثل مستقبلك. فدعني أهنئك تهنئة حارة.
إني شديد الأسف لتأخري في الرد عليك. ولكن رسالتك كانت قد وصلتني متأخرة، ولعل ذلك يرجع إلى خطأ من البريد.
أخيرا دعني أشكر الفرصة التي واتتني لدراسة مستقبلك المخلص. . . أستاذ علم العرافة.)
كان قد انتهى من شرب قدح الشاي، فأشعل لفافة بعد أن قدم غيرها لآخر، ثم جعل يقرأ طالعه وهو ينفث الدخان من صدره.
(أن تاريخ ميلادك وهو، 4 فبراير كما تقول رسالتك تدل على انك من مواليد برج (الدلو) تحت علامة (حامل الماء)، العلامة الحادية عشرة من منطقة الأبراج. وهي علامة تصاعدية ترمز إلى الجيل المقبل، الجيل العظيم.
(وأهم ما يميز مواليد هذا البرج أنهم لا يبالون بالتقاليد، بل كل همهم ينصب في البحث عن الحقائق. ولذلك تجدهم يتحلون بشجاعة لا نظير لها، وعقلية مرنة متزنة. ويميلون إلى العمل جماعة، وفي اتحاد متين.
(وهم مثاليون في علاقاتهم الغرامية، وأسخياء في حبهم، يجودون بكل شيء في سبيل ذلك الحب.
(ومواليد هذا البرج يفضلون العمال الذهنية ويبرزون في أعمال الجيش والحكومة. وهم معرضون للنقد، ولكنهم يواجهونه في شجاعة فائقة.)
(واكتفى من قراءة هذا القدر من الرسالة. ثم أعطاها إلى الآخر، فألقى عليها نظرة، وأخيرا أعادها إليه قائلا - إنها لا تفيدني في شيء، فأنا من مواليد شهر يوليو.
وتناول منه الرسالة وعاود القراءة) لقد اجتزت حياتك الأولى في مشقة. ويبدو أنك الآن في مركز حرج. ولكنك سرعان ما ستتغلب على المصاعب، وتبدأ في طلب ما تتمناه من الحياة. . .
(إنك تميل إلى الناحية العلمية. والعمل الجدي في هذه الناحية سيولد لك العجائب. لقد سبق لك أن فكرت في ذلك، واهتممت بالمخترعات. إن النجوم تشير إلى انك ستقوم باختراع ما، يغير من مستقبلك. وستأتيك الثروة بعد أن تجتاز الكثير من الصعاب. وسيأخذ منك اختراعك بعض الوقت. ولكنك ستصبر وتصبر لأنك تدرك بأنك ستصل حتما إلى ذروة المجد. وعندما تعتقد أنك فقدت الأمل ويتملكك اليأس ينقلب كل شيء انقلابا مفاجئا في صالحك، وعندئذ تقبل عليك الثروة، ويأتيك الجاه.
لقد شقيت كثيرا في حياتك الأولى، ولذلك ستحافظ على كل قرش تكسبه. وفي الحق، فإن المال يجلب المال. وستهتم بالناحية الصناعية اهتماماً يؤدي بك إلى أن تصبح ملك الصناعة.
أما عن حياتك الخاصة، فإن علامتك تدل على أنك في صحة جيدة. ولكنك في حاجة إلى الرياضة لتظل كما أنت. ولحسن الحظ يبدو انك تقوم بذلك عن طريق التعود. ولكن يجب أن توجه عنايتك إلى عينيك وعنقك وقدميك والدورة الدموية في جسمك. وستنتابك بعض السقام وسرعان ما ستتغلب عليها. وهناك من الدلائل ما يشير على أنك ستعيش عمراً
مديداً.
(وأما عن حياتك الغرامية فإن النجم يشير إلى إنك ستتزوج خلال شهر يونيو، وهو الشهر المفضل لديك. أن حياتك الزوجية ستكون في مد وجزر، ولكنها - على أية حال - ستغمرك بالسعادة. والنجوم تشير أيضاً إلى أنك ستكون رب عائلة وستنجب ذرية - أربعة أولاد - سيكون لها شان كبير في الحياة. وستفتخر بك عائلتك، وستعيش زوجك من بعدك، ولكنك ستعيش حتى ترى ذريتك في أوج شبابها.
(وستسمع أثناء حياتك الطويلة عن حروب ولكنك لن تشترك وعائلتك فيها. وستتغير أحوال العالم الاقتصادية ولكنها لن تؤثر عليك.
(وعندما يحين الحين وتقابل باريك، فالنجوم تبين أن نهايتك ستكون نهاية هادئة. أن كل الدلائل تشير إلى أنك ستموت أثناء نومك.
(وأخيرا دعني أهنئك تهنئة حارة بحسن طالعك)
وانتهت الرسالة، وانتشرت على وجه قارئها ابتسامة فاترة. ثم أشعل لفافة أخرى، وأخيرا ناول الآخر الرسالة قائلا - ما رأيك في هذه الرسالة؟ فقرأها ثم أجاب - أنها مسلية للغاية!!
وما أن انتهى من كلامه حتى سمعنا صوت وقع أقدام تسير في الممر، ثم فتح الباب ودلف منه حاكم السجن ورئيس حراسة والطبيب والكاهن. وخاطب صاحب الرسالة قائلا - هل أنت على استعداد للقيام بنزهتك الأخيرة؟
فأجابه وهو يرمقه بنظرة باردة عميقة من عينيه الزرقاويين نعم، إني على استعداد.
وسار وبجانبه حارسه الذي كان يلازمه في سجنه وقد أحاط بهما الركب حتى أدى بهما السير إلى فناء السجن في صباح يوم من شهر يونيو، واقتربوا من تلك المنصة الخشبية التي أقيمت عليها. . . المشنقة؟
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب