الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 801
- بتاريخ: 08 - 11 - 1948
أسرة طيبة
كنا في سنة 1920 نسكن حي الغمرة في شمال القاهرة؛ وكان يساكننا في العمارة التي نحن نعيش فيها أسر مختلفة الجنس والدين والطبقة تعيش كل أسرة منها في انعزال عن الأخرى فلا يتلاقى الجيران إلا على السلم أو لدى الباب. وربما لقي الجار جاره في بعض الطريق فلا يعرفه، إلا إذا كان ممن يعلق شخصه بالذهن لسمة تميزه من سائر الناس كحسن يخترق البصر، أو قبح يسترعي النظر، أو شذوذ يشغل البال. . . من هؤلاء الذين يدخلون في هذا الاستثناء المعلم فهمي رزق أستاذ الدروس الخصوصية في حي (الظاهر)، ومدرس الدين والعربية في مدرسة (التوفيق)، فلا تجد أحدا من سكان العمارة ولا من قطان الحي ينكره إذا رآه، أو لا يذكره إذا عرفه! كان يسكن الشقة المقابلة لشقتنا، وكانت هذه الشقة لا تفتح في اليوم كله إلا أربع مرات: مرتين حين يغدو هو وأخوه الأصغر في الصباح، ومرتين حين يروحان في المساء، ثم لا يدري إلا الله أتغلق بعدهما على أم أو زوج أو أخت أو خادم. لا يستطيع بشر أن يعرف ذلك، لا بالعين لأنه لا يرى إنسانا في نافذة، ولا بالأذن لأنه لا يسمع صوتا في غرفة. أما الشذوذ الذي يغري به الطرف ويجمع له البال فهو شكله العجيب: كان مفرط القصر واسع البطن دقيق الأطراف أو قص العنق مخروط الوجه أغوص العين أكزم الأنف أهرت الشدقين غليظ الشارب والحاجبين. ومالي أطيل عليك بالوصف، وأنت تستطيع أن تخفف مئونته على قلمي إذا تصورت كرة أرضية من الخشب أو من غيره قطرها متران، وضع فوق قطبها الأعلى وجه عليه طربوش، وتحت قطبها الأسفل قدماني هما حذاء، ثم تدلى من الجانب اليمن ذراع قصيرة في آخرها مذبة عاج، ومن الجانب الأيسر ذراع أخرى في طرفها جريدة (الوطن)، ثم اكتسى الظهر والذراعان جاكتة كحلاء، واكتسى البطن والساقان بنطلونا أبيض؛ فإذا تخيلت بعد ذلك هذه الكرة تمشي فتدب في البطء دبيب السلحفاة، وتخطو في السرعة خطو الأوزة، اجتمعت في ذهنك صورة مقاربة للمعلم فهمي حينما رأيته لأول مرة يتدحرج هابطا في السلم؛ وكان قد علم من قبل أن جاره مدرس الأدب في الإعدادية الثانوية، وناقل الآم فرتر هذا العام إلى العربية، فلما أبصرني صاعدا حياني وعرفني بنفسه، ثم سألني أن يجلس إلي في القهوة قليلا ليعرض علي مسائل في الإعراب له فيها رأي. فقلت له: ولماذا نجلس في القهوة وبين بيتي وبيتك خطوتان إذا شئت خطوتهما إليك في أي وقت تحدده. فقال: أفضل أن
أزورك في عشية الغد.
وفي الجلسة الأولى جرى بيني وبينه حديث في السياسة ونقاش في النحو تبين من خلاله أن الجل طيب القلب، وآفة الطيبة أنها تصيب أحيانا بالغفلة فتوقع صاحبها في الزهو وتورطه في الدعوى؛ فهو يفخر بأنه خطأ قول الشنقيطي في اللغة، وزيف رأي اليازجي في النقد؟ ويدعي أن مصطفى كامل كان يستشيره في خطبه قبل أن تلقى: وأن سعد باشا كان يستشيره في بياناته قبل أن تنشر.
وفي الجلسات الأخر علمت أن الرجل لم يتم التعليم الابتدائي، وأنه بحث عن مرتزق لا يضر به الجهل فلم يجد غير التعليم والصحافة، فاختار التعليم في المدارس الابتدائية، وتخصص في تدريس اللغة العربية، فكان يعلمها مشاهرة في المدرسة بجنيه، وفي البيت بريال. ومن هذا اليسير ينفق على كسوته وقهوته وتبغه، ثم يعتمد فيما جاوز ذلك على مرتب اخيه، وهو موظف بالابتدائية في وزارة المالية، وعلى تدبير أخته وهي تخيط في بيتها لبعض البيوت التجارية. وهو وهذا الأخ وهذه الأخت، هم الأقاليم الثلاثة التي تتألف منها هذه الأسرة المسيحية الطيبة؛ ففهمي هو الأب، وشحاتة هو الابن، وعابدة هي روح القدس! ثلاث أرباب وثلاثة عبيد، كل منهم لأخويه إله بالاحترام وعبد بالحب. وثلاثتهم يعيشون على الإيثار والتضحية؛ فالأخ الكبير قد نيف على الأربعين ولا يريد أن يتزوج لأن أخته لا تزال آنسة! والأخ الصغير قد أربى على الخامسة والثلاثين ولا يبغي الزواج لأن أخاه لا يزال أعزب، والأخت قد هدفت للسادسة والعشرين، وهي تدفع الخطاب عن يديها لأنها لا تحب أن تترك أخويها أعزبين.
وكل أخ يؤثر أخويه على نفسه؛ فالمعلم فهمي يحنو على عايدة وشحاتة حنو الأب الوالد الحدب: يقوم عنهما بشؤون البيت مع الناس، ويجلب لهما حاجة المطبخ من السوق، ويقبل مكرها أن يخصه أخواه ببعض المال لأنه بكر الأبوين ومظهر الأسرة
وشحاتة أفندي يؤدي مرتبه إلى أخته أول كل شهر فلا يأخذ منه إلا شهرية الحلاق. وماذا يصنع بالنقود؟ إنه لا يركب الترام لأنه لديه قدمين قويين تحملانه إلى الديوان ثم إلى البيت، وإنه لا يشتري الطعام لأنه يأخذ فطوره معه كل صباح: رغيفا في منديل، وطعمية في علبة، أو ملوخية في قارورة. . . فإذا رجع من عمله، تولى كنس الغرف ونفض الأثاث
وغسل الآنية. ثم يجلس بعد ذلك إلى أخته فيدير لها آلة الخياطة، أو يرفه عنها بأحاديث المدينة، أو يذهب إلى التجار بالمخيط ليعود من عندهم بالقماش.
أما الآنسة عايدة فتشبل على العزبين أشبال الأم العطوف: تدبر لهما المنزل، فتطهي وتغسل وتكوي؛ وتدبر منهما الجسم، فتقي وتعالج وتمرض؛ ثم لا تكلفهما بعد لباس البيت إلا فستانا بسيطا كل عام تذهب به أيام الأحد إلى القداس.
وكان مرض الواحد مرض الثلاثة، إذا شكا أحدهم علة شكا الآخران ألمهما معه. وقد حرص المعلم فهمي على أن يقيس حرارة أخويه إذا لحظ عليهما فتورا أو سمع منهما شكوى. وفي ذات ليلة من ليالي الشتاء طرق علي الباب في أخريات الليل، فانتبهت فزعا وفتحت فإذا هو ينتفض انتفاض المحموم وينشج نشيج الطفل. فقلت له: خير يا صديقي، ما الذي يبكيك؟ فقال: أختي في نزاع الروح، وإن حرارتها ثلاثة وأربعون درجة وقد بعثت أخي في طلب الطبيب القريب؛ فلما أخبره بأن حرارتها ثلاث وأربعون أغلق الباب في وجهه وهو يصيح: اذهب يا مجنون إلى الحانوتي ولا تضع وقتك!
قال هذا المعلم فهمي وهو يجذب يدي حتى دخل بي إلى غرفة المريضة، فوجدتها راقدة في سريرها العالي، لحافها دائر على خصرها، ويداه مشبوكتان على صدرها، ونفسها يتردد هادئا كنفس الطفل، ووجهها يشرق نديا كوجه الصبح. وكان على مقربة من سريرها منضدة عليها مصباح كبير من طراز المصابيح التي كانت تضيء الصوارين في الأعراس والمآتم قبل أن تعم الكهرباء، فلما وقفت إلى جانب سريرها جست يدها ومسست جبينها وجدت حرارتها توشك أن تكون طبيعية؛ ولكن أخاها أراني الميزان فوجدت زئبقة على الآخر. فنفضت الميزان ووضعته في فم المريضة المستسلمة ثم قراءته فإذا هو سبعة وثلاثون درجة ونصف! فلما نطقت بالرقم دبت الحياة في عايدة ففتحت عينيها، وعاد الهدوء إلى فهمي فكف دمعه، وأخذ شحاتة الدهش فغفر فاه، وسرى النشاط من الغرفة إلى سائر البيت فقفزت من تحت الكنبة أرنب، وقامت من فوق المائدة دجاجة، وتمطت من بين الفرش هرة. ولكن المعلم فهمي أراد أن يتأكد مما قلت، فأخذ الميزان وأدناه من المصباح لضعف بصره، ثم أخذ يقلبه وينظر، ثم يقلبه وينظر، حتى مضى على الميزان دقيقتان بجانب المصباح المشتعل، ثم اهتدى أخيرا غلى الزئبق الصاعد فإذا هو في آخر الطرف
الأعلى من الميزان. فقال وهو يرتجف: أنظر! ها هي الدرجة ثلاثا وأربعين! فقلت له وأنا أبتسم ابتسامة عريضة: هذه يا صديقي درجة المصباح لا درجة المريضة!
أحمد حسن الزيات
الخلاف على القنبلة الذرية
للأستاذ عمر حليق
قنبلتان ألقتهما طائرتان يقودهما نفر من الطيارين الأمريكان على جزر اليابان فقتل 115 ألف شخص وأصيب 110 آلاف آخرون بجراح مختلفة، وزالت من الوجود معالم مدينتين كانتا تعجان بالحياة. وأصبحت كارثة هاتين المدينتين اليابانيتين (ناكي ساتي) و (هيروشيما) علما على البعبع الذري الذي يهدد الحضارة والإنسانية.
لم يكن وزن هاتين القنبلتين يزيد على بضعة أرطال، ولكنهما كانتا مشحونتين بقوى متفجرة تعادل 40 ألف طن من أشد الديناميت والبارود تفجرا، وتحتاج إلى عشرة آلاف طائرة ضخمة لتنقل هذه الأطنان وتلقي بها على هاتين المدينتين.
هذا تقدير للفظاعة الكامنة في القنبلة الذرية - التي حاولت هيئة الأمم المتحدة معالجتها خلال السنوات الثلاث الماضية فلم تفلح حتى الآن.
إن مراقبة الطاقة الذرية على نطاق دولي مشكلة لا تعطيها الصحافة العالمية وألسنة الرأي العام الدولي ما تستحقه فعلا من أهمية ودراسة، وأن الروس والأمريكان وحلفائهم قد اختلفوا اختلافا شديدا لخطورة هذه المراقبة، ولخطورة الطاقة الذرية وما تنتجه من قنابل ومهلكات جهنمية. وسبب هذا الاختلاف لا يعود إلى عجز في التقدير، ولكن لأن المصالح الشخصية للدول الكبرى قد طغت على مصلحة الإنسانية والحضارة وصدت مندوبي الدول الكبرى وصناع السياسة فيها عن تضحية منفعتهم الفردية العاجلة المؤقتة في سبيل الحضارة والمدنية التي تهددها الذرية وأسلحتها الجهنمية بالمحق والإبادة.
وقد أحال مجلس الأمن الدولي قضية مراقبة الإنتاج الذري على الجمعية العمومية في دورتها الثالثة الحالية بباريس وأردف هذه الإحالة بتوصية فحواها أن هذه القضية تحتاج إلى اهتمام خاص ومزيد من الجهد والعناية والرغبة في التعاون والإخلاص وحسن النية.
ومن سخرية القدر في شؤون الطاقة الذرية أن اختلاف الدول الكبرى على مراقبة الإنتاج الذري قد حال بين الإنسانية وبين أن تستفيد إفادة لا حد لها من هذه الطاقة الهائلة التي لولا القيود على إنتاجها لاستطاعت الآن أن توجه توجيها فيه خدمة للصناعة السلمية وما يلحق بها من نواحي الحضارة والتقدم الآلي والفني في عالم يعاني أزمة في الغذاء والمواصلات
وتزايد السكان ومشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة. فإن الطاقة الذرية إذا أنتجت لمنفعة الصناعة السلمية ستحل مشاكل الوقود البترول والكهرباء والفحم الحجري وهي مواد يشتد التنافس الدولي عليها وتدفع إلى الحروب وتعاني الدول الفقيرة الحرمان منها.
كان أول خطوة في سبيل هذه المراقبة الدولية اجتماع تمهيدي عقدته حكومات بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في منتصف نوفمبر 1945 في مدينة واشنطون عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية. وقررت هذه الحكومات الثلاث في ذلك الاجتماع بأن مصلحة السلم العالمي تتطلب مراقبة الإنتاج الذري على نطاق دولي واسع وبالتعاون الوثيق بين حلفاء الغرب وروسيا السوفيتية وحلفائها. ثم كانت الخطوة الثانية في شهر ديسمبر من عام 1945 نفسه ولكن الاجتماع كان في موسكو هذه المرة لمناسبة انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الكبرى. وأقر موسكو نفس المبدأ الذي أقره اجتماع الحلفاء الأنجلوساكسون في واشنطون في اجتماعهم الأول. وقررت الدول الثلاث الكبرى (روسيا وبريطانيا وأمريكا) في اجتماع موسكو هذا دعوة فرنسا والصين وكندا لوضع مشروع دولي لمراقبة الطاقة الذرية وتقديمه إلى الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في دورتها الأولى بلندن في مطلع عام 1946. وقررت الجمعية العمومية في تلك الدورة تأليف (لجنة الطاقات الذرية) لتحقيق مشروع مراقبة الإنتاج الذري على نطاق دولي.
وهذه اللجنة مؤلفة من 11 عضوا هم أعضاء مجلس الأمن الدولي مضافا إليهم كندا، لأن كندا إحدى الدول الثلاث التي تملك سر القنبلة الذرية.
وأعطيت الصلاحية للجنة الطاقة الذرية هذه أن تضع مشروعات عملية لتحقيق المراقبة الدولية على جميع أنواع الإنتاج الذي تستعمل فيه الطاقة الذرية والتأكد من أن الدول التي تستطيع الإنتاج الذري لا تستعمله لبناء أسلحة، بل لخدمة الصناعة السلمية والطب وما إلى ذلك من نواحي الحضارة والعمران، وكلفت اللجنة باتخاذ خطوات عملية لمساعدة هيئة الأمم المتحدة لتثبت من صرامة المراقبة الدولية ومفعوليتها بالتفتيش والاستقصاء وما إلى ذلك.
واجتمعت لجنة الطاقة الذرية هذه لأول مرة في نيويورك في صيف عام 1946 ووضع أمامها اقتراحان لمراقبة الإنتاج الذري أحدهما قدمته أمريكا وهو يشمل وجهة نظر الحلفاء،
والآخر قدمته روسيا السوفيتية. وقد مضى على اللجنة عامان كاملان دون أن تصل إلى الموافقة النهائية على أحد الاقتراحين في أحضان الجمعية العمومية التي تجتمع بباريس أما فحوى الاقتراحين فهي كما يلي:
1 -
الاقتراح الأمريكي يدعو إلى إنشاء سلطة دولية لتحسين الإنتاج الذري ليخدم الصناعة السلمية والطب والمواصلات وما إلى ذلك. ويكون لهذه السلطة حق الإشراف على جميع وسائل الإنتاج الذري في جميع الدول ويكون لهل الحق كذلك في أن تمنع أي دولة من الدول من صنع المنتجات الذرية الفتاكة.
ولهذه السلطة الدولية أن تصل إلى فرض مراقبتها على خطوات إلى أن تستطيع نهائيا منع إنتاج القنابل الذرية منعا باتا وعلى نطاق دولي واسع. وقد نص الاقتراح الأمريكي على التخلص من القنابل الذرية الموجودة الآن بحوزة بعض الدول الكبرى، كما نص حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول الكبرى في هيئة الأمم المتحدة يجب أن لا يطبق على الدول التي تخالف هذه السلطة الدولية لمراقبة الإنتاج الذري. وبالإجمال فإن الاقتراح الأمريكي يدعو إلى التعاون الدولي لمراقبة التسلح الذري على أسس عملية تتطلب حسن النية والرغبة في خدمة السلام.
2 -
أما الاقتراح الروسي فهو يختلف اختلافا جوهريا عن الاقتراح الأمريكي في جميع النقاط. ويدعو إلى تحطيم القنابل الذرية الموجودة في حوزة حلفاء الغرب. ومنع إنتاج الأسلحة الذرية من قنابل وغيرها منعا باتا، ويدعو الاقتراح الروسيالأمم المتحدة لمؤتمر دولي يسن القوانين لمنع التسلح الذري ويضع أسس المراقبة الدولية على نطاق عالمي. وأصر الروس على الاحتفاظ بحق الفيتو فيما يخص بشؤون الإنتاج الذري.
ولم يوافق الروس على الرأي الأمريكي القائل بضرورة وضع جميع مشاريع الإنتاج الذري التي تقوم بها الدول تحت سلطة عالمية واحدة تسيطر على جميع وسائل الإنتاج وحدها وتمنع جميع الدول من العمل في الإنتاج الذري منفردين. ورأى الروس أن تظل حرية الإنتاج الذري في يد الدول، ولكن يجب أن يأخذ عليها عهد بعدم استعماله للتسلح وصنع القنابل الجهنمية.
وظلت لجنة الطاقة الذرية تبحث هذين الاقتراحين الروسي والأمريكي سنتين، وكانت
نتيجة مراحل البحث أن وافقت أكثرية أعضاء اللجنة ومن بينها - سوريا - على الاقتراح الأمريكي ولم يصوت مع روسيا سوى حليفتها أوكرانيا.
ويقول مناصرو الرأي الروسي أن الاقتراح الأمريكي لمراقبة التسلح الذري وإنتاج الطاقة الذرية يرمي إلى جعل الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الأعظم في الإنتاج الذري، خصوصا وأن أمريكا هي الدولة الوحيد التي أتقنت صناعة هذا الإنتاج، وأن رغبتها في تقييده الآن يرجع إلى رغبتها في منع الدول الأخرى عن بلوغ المستوى الذي بلغته هي في التقدم الفني والصناعي في شؤون الطاقة الذري. وينتقد أنصار الرأي الروسي الاقتراح الأمريكي أيضا بأنه يشتمل على التدخل في شؤون الدول المستقلة وهو اعتداء على سيادتها واستقلالها الداخلي.
ويجيب أنصار المشروع الأمريكي على ذلك قائلين أن أمريكا بموجب اقتراحها قد تنازلت عن حقوقها في احتكار إنتاج الطاقة الذرية ووضعتها في يد سلطة دولية تستطيع روسيا المشاركة فيها في إخلاص وحسن نية. أما أن الاقتراح الأمريكي يتضمن التدخل في شؤون الدول المستقلة سيادتها فهو لا يتفق مع روح التعاون الدولي، وأن أي مشروع يتطلب التعاون الدولي لا يجب أن يكلف الدول التنازل عن بعض حقوقها في خدمة السلام والتعاون الدولي.
هذه بإيجاز مشكلة مراقبة الطاقة الذرية - وهي مشكلة خطيرة، وهي في ظروف دولية تضع الشعوب على أهبة الاستعداد العسكري، وهي مشكلة مخيفة لعلها أهم المشاكل الدولية قاطبة.
وهي الآن معروضة على الجمعية العمومية بباريس. ترى هل تستطيع الثماني والخمسين دولة المجتمعة هناك أن تحلها؟
يقول الخبراء أن هذا مستحيل - لأن في المشكلة نقاطا فنية وعسكرية لا يحلها الجدال السياسي، وليست الجمعية العمومية إلا برلمانا دوليا محصوله السياسة والجدل القانوني.
وأغلب الظن أن مشكلة الطاقة الذرية ستظل شوكة في حلق هيئة الأمم - وستعاد إلى لجنة الطاقة الذرية من جديد لعلها تقنع الدول الكبرى المتنافسة بأن تتفق على حماية نفسها من ويل هذه الذرة الجهنمية.
عمر حليق
سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية بنيويورك
كتاب البرهان في وجوه البيان
للدكتور علي حسن عبد القادر
(تصحيح خطأ علمي، وتحقيق شخصية كتاب ورد اعتبار
مؤلف طغى على اسمه الزمان)
كتاب (البرهان في وجوه البيان) لأبي الحسن اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب، طبع جزء منه قدر ثلثه باسم (نقد النثر)، حرره وأخرجه الدكتور طه حسين، والأستاذ عبد الحميد العبادي، منسوبا إلى أبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي المتوفى سنة 337 هـ. وقد اعتمد مخرجا (نقد النثر) على مخطوطة بمكتبة الأسكوريال رقم 243 من فهرس درينبرغ.
وقد عثرنا على مخطوطة لهذا الكتاب بمكتبة تشسترببتي رقم تحت عنوان (كتاب البرهان في وجوه البيان)، وعند المقابلة بينها وبين كتاب (نقد النثر) المطبوع وجدناهما يتفقان في القدر المطبوع، وتزيد المخطوطة التي بأيدينا على المطبوعة بمقدار ثلثي الكتاب تقريبا. ولم نشك في أن هذا هو جزء أصلي من الكتاب قد سقط منه في المخطوطة الأمكوريالية، وذلك أن المؤلف قد بنى كتابه على أربعة وجوه للبيان: -
البيان الأول الاعتبار، البيان الثاني الاعتقاد، البيان الثالث العبارة، البيان الرابع الكتاب. والبيان الرابع (الذي هو الكتاب) غير موجود في النسخة المطبوعة، وقد علل محقق هذه النسخة المبتورة هذا النقص بادعائه أن المؤلف قد ضمن الباب الثالث (وهو العبارة) الكلام على الوجه الرابع وهو الكتاب.
وجعل بهذه الدعوى الكتاب كاملا بذاته، وهي دعوى قد فرضها المحقق على الكتاب فرضا وجزم بها من غير فحص له، فإنه لو كان قد فحص الجزء الذي بيده من الكتاب لرأى أن المؤلف قد نبه في أثناء الكتاب على أشياء سيذكرها بعد، ومع ذلك لم يأت لها ذكر. فمن ذلك قول المؤلف (صفحة 118 من طبعة دار الكتب): (وأما الحديث، فهو ما يجري بين الناس في مخاطبتهم ومناقلاتهم ومجالسهم، وله وجوه كثيرة: فمنها الجد والهزل والسخف والجزل، والحسن والقبيح والملحون والفصيح، والخطأ والصواب والصدق والكذب والناف
والضار والحق والباطل والناقص والتام والمردود والمقبول والمهم والفضول والبليغ والعيي؛ ثم جاء الكلام بعد ذلك عن الجد والهزل والسخيف والجزل والحسن والقبيح والملحون والفصيح والخطأ والصواب، ولكن القول في الخطأ والصواب لم يتم، كما أن القول في الصدق والكذب والوجوه الأخرى الباقية لم يأت قط. ومن أمثلة ذلك أيضا ما جاء في باب تأليف العبارة (ص44 - 45 من طبعة دار الكتب):(وقد ذكر الخليل وغيره من أوزان الشعر وقوافيه ما يغني من النظر فيها. . . إلا أنا نذكر جملة من ذلك في باب استخراج المعمي تدعو الضرورة إلى ذكرها فيه أن شاء الله).
وليس في نقد النثر كما نشر أي ذكر أو إشارة إلى باب المعمي وذكر العروض والقافية. ومن أمثلة ذلك أيضا أنه جاء في آخر النسخة المطبوعة هذه العبارة: (وأما مراتب القول ومراتب المستمعين له، فقد تقدم القول فيه وبالله التوفيق).
وإذا تصفحنا كل ما جاء في النسخة المطبوعة لم نجد ذكرا أو إشارة (لمراتب القول) ولا (لمراتب المستمعين له) على الحقيقة؛ وبهذا يظهر أن المخطوطة الأسكوريالية والكتاب كما طبع ناقصان نقصا كبيرا، وأن محقق الكتاب لم ينتبه إلى هذا النقص الواضح أو لعله أغمض عينيه عن هذا النقص، وتلمس في بعض الأحيان تعللات لا تقوم وفرضها في الكتاب، وبدليل أننا نجد كل هذا المفقود قد جاء بالنسخة المخطوطة التي بأيدينا، فقد جاء فيها ذكر البيان الرابع وهو الكتاب، واستغرق من اصل الكتاب جزءا كبيرا أصليا، كما جاء فيها الكلام على باب المعمي وذكر العروض والقافية بتفصيل كامل واف. وكذلك جاء فيها ما بقي من وجوه الحديث وجهاً وجها. وكذلك مراتب القول ومراتب المستمعين له مرتبة مرتبة، فكانت مخطوطتنا بهذا التحقيق هي النسخة الكاملة للكتاب. ويظهر أن مخطوطة الأسكوريال كانت ناقصة أو نسخت من أخرى ناقصة فزاد فيها كاتبها ما يشعر بالتمام وهو قوله (وقد تقدم القول فيه وبالله التوفيق)، وهي عادة معروفة عند الوراقين كما حصل مثل ذلك في كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري مثلا.
وأهمية مخطوطتنا لا تنحصر في أنها النص الكامل للكتاب كما كتبه مؤلفه (أي أكثر من ضعف النص المطبوع)، بل أن لها أهمية أخرى أكبر من ذلك، وهي معرفة مؤلف هذا الكتاب على التحقيق. فقد ذكر المؤلف في مخطوطتنا اسمه كاملا في أثناء كتابه على عادة
المؤلفين القدامى، فقال في أول البيان الرابع، وهو الجزء المقود من النسخة الأسكوريالية:(قال أبو الحسن اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب قد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا بنعمة الله. . .). وهو تصريح يبطل نسبة الكتاب إلى قدامة بن جعفر، ويضع حدا فاصلا للنزاع في مسألة مؤلف الكتاب، كما أن مخطوطتنا زيادة على هذا تحمل الاسم الصحيح للكتاب، وهو كتاب (البرهان في وجوه البيان).
وإنه وإن كنا لم نعثر على اسم هذا الكتاب، أو اسم مؤلفه مذكورا في أي مرجع من المراجع المعروفة عندنا، فقد وصلنا إلى أن هذا الكتاب ليس لقدامة وتحققنا من نسبته لأبي الحسين، وليس ذلك فقط من اجل أن المؤلف قد ذكر اسمه في أثناء كتابه بل من اجل أدلة أخرى مضمومة إلى هذا الدليل:
أولا: يذكر مؤلف الكتاب في أثناء كتابه أربعة كتب له: وهي: الإيضاح، وأسرار القرآن، التعبد، الحجة. وهذه الكتب الأربعة لم يذكرها أحد من مؤرخي قدامة في فهرس كتبه أو ما يشبهها في الاسم أو الموضوع، كما أنهم لم يذكروا له كتابا باسم (نقد النثر).
ثانيا: وقد نسب إلى قدامة كتاب في الكتابة، ولكن هذا الكتاب لم يسمه قدامة باسم (البرهان) أو (نقد النثر) وإنما سماه (كتاب الخراج وصناعة الكتابة)، وهو غير الكتاب الذي بأيدينا، فإن كتاب قدامة هذا، أو على الأصح النصف الثاني منه معروف، وأوجد مخطوطة منه بمكتبة كويرلي بالآستانة، وقد استنسخ شارل شيفر هذا المجلد الباقي من كتاب قدامة، وهذه النسخة محفوظة بدالا الكتب الوطنية بباريس وقد استخرج دي فويه نبذا منها وطبعها تحت عنوان (كتاب الخراج) وهذه النبذ هي الأبواب الثاني والثالث والرابع والخامس والحادي عشر من المنزلة الخامسة، والبابان السادس والسابع من المنزلة السادسة. واسم هذا الكتاب في هاتين النسختين (الأصلية والمنقولة)(الخراج وصناعة الكتابة)، وقد وصف ياقوت هذا الكتاب في ترجمة قدامه بقوله:(وله كتاب الخراج وصناعة الكتابة)؛ وله كتاب الخراج رتبه مراتب وأتى فيه بكل ما يحتاج الكاتب إليه، وكان على تسع منازل، وكان ثمانية فأضاف إليه تاسعا). ويقول المطرزي في كتاب الإيضاح شرح مقامات الحريري (مخطوطة المتحف البريطاني)(وله تصانيف كثيرة منها كتاب (الألفاظ) وكتاب (نقد الشعر)، وهو حسن للغاية طالعته ونقلت منه أشياء، وقيل هو لوالده جعفر. ومنها كتاب
صناعة الكتابة ظفرت به وعثرت فيه على ضوال منشودة، وهو كتاب يشتمل على سبع منازل، وكل منزلة منها تحتوي على أبواب مختلفة ضمنها خصائص الكتاب والبلغاء:(وقال ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة 337 بمناسبة موت قدامة ما نصه: (وله كتاب حسن في الخراج وصناعة الكتابة).
ويتضح من كل ذلك أنه كان لقدامة كتاب على منوال كتابنا، وأن هذا الكتاب يسمى (الخراج وصناعة الكتابة) وأنه كان على تسع منازل أو سبع منزل وفي كل منزلة أبواب. وهذا الوصف لا يتفق مع تبويب كتاب (البرهان) أو (نقد النثر) إذ أنه على أربعة أبواب تناولت كل ما قصد المؤلف كتابته عن الخراج وصناعة الكتابة؛ وفضلا عن هذا فنحن إذا قارنا الجزء المطبوع من كتاب قدامة الخاص بالخراج ألفيناه مختلفا عن القسم الخاص بالخراج في كتابنا (البرهان) والنتيجة البديهية هي أن قدامة وأبا الحسين كتب كل منهما كتابا في الموضوع ولكن كلا منهما سلك مسلكه الخاص في علاج الموضوع.
ثالثا - وقد رجح دي غوبه في مقدمته الفرنسية لكتاب الخراج المستخرج من كتاب قدامة في صناعة الكتابة أن قدامة ألف كتابه هذا بعد سنة 316 بقليل، وذلك أن قدامة تحدث في أثناء كتابه عن مليح الأرمني على انه معاصر له، ويشير أيضا إلى إغارة أسفار الديلمي على قزوين في سنة 316، وإلى الشنائع التي جرت على يد مرداونج وأتباعه في السنين التالية كحوادث قريبة الوقوع. ونحن نعلم مما يقوله أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة (ج3 ص145 - 146) أن قدامة عرض كتابه هذا سنة 320 على علي بن عيسى حيث يقول (وما رأيت أحدا تناهى في وصف النثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة بن جعفرفي المنزلة الثالثة من كتابه. قال لنا علي بن عيسى الوزير عرض علي قدامة كتابه سنة 320 واختبرته فوجدته بالغ وأحسن وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشاركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى). فهذا الكتاب قد تم الفراغ من تأليفه قبل سنة 320 قطعا. أما كتاب (البرهان) فلم يكن موجودا في هذا الوقت ولنا على هذا ثلاثة أدلة.
أ - يقول أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم في البرهان: (وقد رأيت شيخنا علي بن عيسى رحمه الله يكاتب أم المقتدر) وإشارة أبي الحسين في كتابه إلى وفاة علي بن عيسى تدل
قطعا على أن علي بن عيسى لم يعش حتى يرى هذا الكتاب، وقد مات علي بن عيسى سنة 235، وهو أمر يدل على أن أبا الحسين ألف كتابه بعد سنة 335.
ب - ويقول أبو الحسين أيضا (ومنه ترجمة لآل مقلة ولأبي الحسن بن خلف بن طياب رحمه الله وقد كان أبو الحسن بن خلف هذا حيا إلى سنة 330 (راجع أخبار الراضي والمرتضى للصولي ص230 - 231).
ج - ويقول أبو الحسين في (البرهان) أيضا مشيرا إلى مقتل المقتدر على يد غلامه مؤنس: (وكان نتيجة هذا الإهمال وثمرة هذه الأفعال أن خرج السلطان في جيشه على أحسن زينة لقتال غلام من غلمانه فقتل وحده من بين أهل عسكره وتفرق عنه الباقون ورجعوا موفورين). وقد حدث هذا في سنة 320 (راجع المنتظم ج6 ص243) وأبو الحسين يقص هذه الحادثة على أنها قصة معروفة للعبرة وضرب المثل فيما يصيب ولاة الأمر عند إهمالهم، ولا بد أن تكون قد مرت عليها سنوات أصبحت بها مثالا للعظة وضرب الأمثال، فكتابه لا بد أن يكون قد ألف بعد هذا التاريخ.
والنتيجة التي نجمعها من كل ذلك هي أن قدامة ألف كتابه قبل سنة 320 وأن أبا الحسين ألف كتابه بعد سنة 335 حسب ما جاء من نصوص تاريخية في ثنايا الكتابين.
رابعا - من الكتب المعروفة على وجه التحقيق لقدامة كتابه (نقد الشعر) وقد عالج فيه الشعر وفنونه بوجه خاص. وقد عالج صاحب (البرهان) في كتابه الشعر أيضا، فلو أنه كان لقدامة لما احتاج إلى معالجة هذه الموضوعات مرة أخرى بمثل هذا البيان الكافي، وفضلا عن ذلك فإن معالجة الشعر في (البرهان) تختلف اختلافا جوهريا عنها في كتاب (نقد الشعر) من الناحية الفنية والموضوعية، وما قصيدة الأستاذ العبادي في تحقيقه من مقارنات إنما هو مجرد افتراضات لا تقوم أمام الفحص. ومما يستحقأن نذكره من المقارنات أن قدامة في (نقد الشعر) حينما يسوق أقوال المتقدمين من الفلاسفة يذكرها مجملا:(فلاسفة اليونان)، في حين أن صاحب (البرهان) يذكرهم بأسمائهم كأن يقول (قال أرسطوطاليس).
خامسا - وقد كان مؤلف (البرهان) فقيها شيعيا من غير شك. ودليل ذلك منشور في أثناء الكتاب. فمن ذلك اهتمامه بنقل أقوال أئمة الشيعة وذكره لهم دائما عند كل استشهاد بما
يشعر بتشيعه كقوله (الأئمة عليهم السلام. الأئمة الصادقين. الأئمة المستودعين علم القرآن. وروى عن الصادق عليه السلام اهتمامه بنقل فقه الشيعة كاملا في تعرضه لأقوال الفقهاء، وترجيحه لآرائهم في بعض الأحيان ظاهرة تدل على تمكنه في نحلته الشيعية. وقدامة بن جعفر لم يكن من الشيعة ولا من فقهائهم كما هو معروف وكما يدل عليه ما كتبه عن الخراج، وإنما كان نصرانيا في الأصل وأسلم على يد الخليفة المكتفي بالله، وإذا أسلم نصراني على يد خليفة عباسي - وذلك إنما يكون عادة طمعا في مناصب الدولة - فمن المستبعد أن يصير علويا متشيعا مرة واحدة. وما أورده الأستاذ العبادي في توجيه مسحة التشيع الظاهرة في الكتاب من أن قدامة قد جارى بني بويه بعد دخولهم بغداد سنة 334 يرده النقد التاريخي، وقد كتب قدامة كتابه في الكتابة قيل هذا التاريخ بأربعة عشر عاما على الأقل، ومات بعد دخولهم بغداد بوقت قصير.
سادسا - وصاحب كتاب (البرهان) يصر في كل مناسبة على ذكر الرجال المشهورين من آل وهب معظما لهم فخورا بهم كأن يقول (وقد كان شيخنا أبو علي الحسن بن وهب رحمه الله. . .) وقال أبو أيوب رضي الله عنه: (وقد ذكر أبو أيوب رحمه الله رجلا مشهرا بالبلاغة. ولو لم تتقدم من ذكر البلاغة إلا بهذا القول من شيخنا رحمه الله لكفى وأجزى) وأبو أيوب هذا هو سليمان بن وهب عميد آل وهب وجد المؤلف.
سابعا - وهناك أمر يجب التنويه إليه وهو أن البطليوسي في كتابه (الاقتضاب شرح أدب الكتاب) قد كتب فصولا طويلة بنى عليها مقدمته في شرح الكتاب (ص66 - 90) وهذه الفصول تتفق في لفظها في معظم الحيان تمام الاتفاق مع بعض فصول كتاب البرهان، وفي بعض الأحيان تتفق معها مع تعديل طفيف، ولكن البطليوسي لم ينسبها إلى أبي الحسين ولا إلى قدامة، وإنما اشعر بنسبتها إلى علي بن مقلة (المتوفى سنة 327)، ولا يمكن أن يقال أن هذا الكتاب (البرهان) هو لابن مقلة، وأن البطليوسي نقل عنه بعد أن أثبتنا أن (البرهان) ألف بعد سنة 335 وبعد وفاة ابن مقلة بنحو ثماني سنين، كما أن شيوخا لعلي بن مقلة ولم تكن له بهم صلة قريبة ولم يكن علي بن مقلة شيعياز والقدر المتيقن أن البطليوسي لم يحتسب على أي حال قدامة بن جعفر مؤلفا لهذا للكتاب الذي نقل عنه على فرض أنه نقل فصوله من كتابنا هذا. ومن المحتمل أن يكون البرهان قد نسب
مرة إلى علي بن مقلة كما نسب إلى قدامة بن جعفر وجهل أمر صاحبه. ومن المحتمل أيضا أن يكون البطليوسي ومؤلف كتابنا هذا من قبل كلاهما قد نقل نقولا من كتاب لابن مقلة في هذا الموضوع، وهو أمر لم تساعدنا الظروف على تحقيقه.
وجملة القول أن مؤلف كتاب (البرهان) يجب أن تتوفر فيه الشرائط:
(1)
كونه شيعيا. (2) أن تجمعه أواصر القربى بآل وهب. (3) أن يكون قد ألفه بعد سنة 335. (4) ألا تزيد أبواب كتابه على أربعة أبواب كاملة.
وهذه الأحوال لا تجتمع في قدامة بن جعفر، ولكنها يمكن أن تجتمع في مؤلف آخر. وفي يدنا مخطوطة قديمة كاملة للكتاب ذكر المؤلف فيها اسمه في متن الكتاب، هكذا (أبو الحسين اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب) فنحن على أن ننسب الكتاب إليه إلى أن يظهر لنا خلاف ذلك. ولم نجد ذكرا لهذا الكاتب أو لمؤلفاته في المراجع والمظان المعروفة لنا. ومن غريب الأمر أن هذا الكتاب قد نسب إلى قدامة بن جعفر في طرة المخطوطة الإسكوريالية، وكذلك في طرة المخطوطة التي بأيدينا مع ورود اسم المؤلف في أثناء الكتاب وهو أمر غفل عنه الناسخ، وتفسير هذا التناقض يسير، فإن الوراقين كانوا يعرفون قيمة قدامة الأدبية ويعرفون شهرة كتابه في الأدب فلا يستبعد عليهم أن يضعوا اسمه على هذا الكتاب ذلت سهيل بيعه وتداوله، وهذه طريقة معروفة عند النساخ والوراقين لا تخفى على المحققين. ونذكر مثلا قريبا لذلك كتاب (أسرار البلاغة) نشر بمصر وجاء في خاتمة الكتاب أن مؤلفه أتمه في سنة 855 ومع ذلك نسب طرة الكتاب لبهاء الدين العاملي المتوفى سنة 1003 وعرف باسمه لذي الوراقين. وفي كتب الفهارس، وغير ذلك كثير.
وبعد فإنصافا للعلم والعلماء، وإنصافا لأنفسنا كذلك، لا يسعنا إلا أن ننوه في ختام هذه الكلمة بأن عالمين جليلين كانا قد أظهرا الشك في نسبة كتاب (نقد النثر) إلى قدامة بن جعفر، وإنه لا بد أن يكون لكاتب آخر مجهول من أهل القرن الرابع. فهذان العالمان الفاضلان هما الدكتور طه حسين بك والأستاذ محمد كرد علي، فاستحقا منا التقدير والثناء. زها نحن أولاء قد قمنا بما تمليه علينا الأمانة العلمية بتقديم أدلتنا على أن الكتاب اسمه (البرهان) وأنه من تأليف أبي الحسين اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب، وأن
الجزء الذي نشر منه تحت اسم (نقد النثر) ليس إلا ثلث الكتاب الأصلي الذي قد حررناه ونقدمه للطبع الآن ليكون بين أيدي العلماء في القريب أن شاء الله ليصبح موضوع بحثهم ونقدهم.
ولست أنسى هنا أن أقدم للعلماء الأستاذ مجتبى مينوي بلندن زميلي في تحقيق هذا الكتاب وإعداده للنشر، فهو يشاركني مسئولية إخراج الكتاب بما يتبعها من قبول أو نقد.
علي حسن عبد القادر.
أحمد الزين (الإنسان)
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
في 5 نوفمبر من العام الماضي روعت الدوائر الأدبية بفقد الشاعر العالم الراوية (أحمد الزين). وما أظن أحدا من عشاق الأدب يجهل قيمته الأدبية؛ ويكفي أن نقول أنه شارح وضابط ومصحح العقد الفريد، وإمتاع الأسماع، ونهاية الأب وما إليها من أمهات الكتب بمفرده حينا وبالاشتراك مع آخرين من الفضلاء أحيانا. كذلك يكفي أن نقول انه كان في مقدمة (الرواة) في العصر الحديث، بل ربما يكون قد انتهى بموته عهد (الرواية الأدبية). . .
ومع هذا فلست أريد في هذا الحديث أن أتكلم عن أدبه مرجئا ذلك لفرصة أخرى؛ وإنما أريد أن أحاول تصوير بعض ملامح شخصيته الطريفة النادرة تصويرا سريعا قبل أن تغمرها موجة النسيان؛ فقد كان الفقيد نموذجا فريدا في الحياة من طراز خاص وأسلوب خاص ومزاج خاص منقطع النظير.
الزين الظريف:
كان رحمه الله ظريفا إلى أقصى حدود الظرف في كل حركاته وسكناته. وقد تجلى ذلك في معظم منظوماته حتى في المراثي!! ولا زالت أذكر يوم اشترك في تأبين شاعر النيل (حافظ إبراهيم) بقصيدة مطلعها:
أفي كل حين وقفة إثر ذاهب
…
وصوغ دم أقضي به حق صاحب
أودع صحبي واحدا بعد واحد
…
فأفقد قلبي جانبا بعد جانب
بالرغم من هذه البداية الحزينة التي لاءمت المناسبة الحزينة فإن ظرفه سرعان ما غلب عليه ونقله من الحزن الخالص إلى التهكم الذي أضحك الحاضرين على من سماهم (المجددين) فقال مقارنا شعر (حافظ) بشعرهم:
فذاك جلال الشعر لا شعر عصبة
…
يطالعنا تجديدهم بالحواصب
دواوين حسن الطبع موه قبحها
…
وهل يخدع النقاد نقش الخرائب
فيا ضيعة الأوراق في غير طائل
…
ويا طول ما تشكو رفوف المكاتب
كذلك في قصيدته في ذكرى (تيمور باشا) غلب عليه طرفه فنقله أيضا إلى التهكم على
الناقلين عن اللغات الأجنبية بلا فهم لدقائقها ولا تمكن من لغتهم الأصيلة بأبيات جاء قيها:
من كل ألكن نابع في عبه
…
لهج بدعوى العلم وهو جهول
ويكاد يرشح عقله أمية
…
حتى عليه يشكل التشكيل
إن رام شعرا لم يقم ميزانه
…
ورويه قيد عليه ثقيل
أو رام نثرا عي دون مراده
…
لفظ يطول وما به معقول
وإذا يترجم كان في تعقيده
…
قبر به المعنى البريء قتيل
لا نجحد الغربي سحر بيانه
…
لكن سوء النقل عنه يحيل
سفراء سوء باعدت ما بيننا
…
ولربما جلب الشقاء رسول
كان طبيعيا أن يتجلى ظرفه أكثر من هذا في ألوان الشعر الأخرى حيث تتسع الفرصة للتهكم والسخرية.
أذكر أنه أراد ذات مساء أن يعتذر تلفونيا عن موعد هام واتفق أن ظل التلفون مشغولا بأحد الثقلاء اكثر من نصف ساعة. . . إذ ذاك نظم قصيدته (المسرة) التي يقول له فيها:
فجد في أذنها أو أهزل
…
وقل ثناء بها وثلبا. . .
فلا تراها تسد أذنا
…
مهما تطول لو قرأت كتبا
وكم ثقيل الحديث لولا
…
جمودها أوسعته سبا
تكاد مما يطيل فيها
…
تفر مما دعا ولى
فيالها آلة تربى
…
ذا الجهل ممن بالذوق يربى
وذات ليلة دعاه أحد أصدقائه لسماع مغن وكان - كالمنتظر - سقيم الصوت، فنظم بهذه المناسبة أبياته المشهورة التي يقول له فيها:
حمار لا يمل من النهيق
…
يضيق به التجلد أي ضيق
مغن يجلب السلوى ويفنى
…
بقايا الشوق في قلب المشوق
منى الوتار لو أمست سياطا
…
يصب بها على الجلد الصفيق
بطانته - حماك الله - رهط
…
كأن صياحهم جرس الحريق
وكانت ليلة يا ليت أني
…
دفعت بها لقطاع الطريق
جزى الله المغني كل خير
…
عرفت به عدوي من صديقي
إلى غير ذلك من النوادر التي لا حصر لها.
الزين والمجتمع:
كان معظم الناس عنده (خلائق) لا يرتفعون عند حسن ظنه. وكان يقسمهم إلى أقسام عجيبة في دلالاتها: (بلاوي - حميد الضفات - علامة - سبع)!
فكل (باشكاتب) يجلس في الأماكن العامة متحليا بخاتم ثمين وساعة ذهبية وياقة منشاة و (يحشر) نفسه في الأدب والفن دون دراية فهو (بلاوي)!
وكل (مخلوق) حلو الشمائل وديع الصوت سليم الطوية ولكن لا علاقة له بالأدب فهو (حميد الصفات)!
وكل أديب يعرف من أين تؤكل الكتف فينتسب - بالإلحاح - إلى جريدة كبيرة أو يتقرب - بالزلفى - إلى عظيم أو وزير ويصل من وراء ذلك إلى ما يبتغيه فهو (علامة)!
وكل أديب لا تعدو وظيفته أن تكون من الدرجة السادسة أو أقل فهو (سبع)!
وغرضه من ذلك وصف الأديب بالقدرة على البطش والقناعة مع هذا (بلقمة العيش). .
ولا غرو فقد كان رحمه الله (سبعا كبيرا) أي موظفا باليومية لولا أن أسعفه قرار (الإنصاف) ثم (التنسيق) فرقي في آخر شهر من حياته إلى الدرجة الخامسة.
الزين والأدباء:
وكانت علاقته بمعظم المحدثين من الأدباء مضطربة لصراحته في إبداء رأيه في أدبهم، بل إنه كان يكره أحيانا أن يستمع إلى شعرهم الذي كان يصفه بقوله:
عناوين كالألغاز حيرت النهى
…
وما تحتها معنى يلذ لطالب
هم جدري الشعر آذوا جماله
…
بما ألصقوا في حسنه من معايب
وكم دافعوا عن مذهب العجز جهدهم
…
فما غسلوا أسواء تلك المذاهب
وكم ملئوا بالزهر والنهر شعرهم
…
بلا طيب مستاف ولاري شارب
وكم يذكرون اللأيك والطير صدحا
…
عليها فلم نسمع سوى صوت ناعب
وكم هاتف بالخلد منهم وشعره
…
توقى سقطا قبل عقد العصائب
وشاك أداة الخب أطفأ جمره
…
بشعر كبرد الثلج جم المثالب
فأقسم لو يبغي وصالا بشعره
…
لجانبه من لم يكن بمجانب!!
أما علاقته بشيوخ الأدباء وكهولهم فكانت مشبعة بالصفاء والوفاء لمحض المودة من جهة وتقديرا لأدبهم من جهة أخرى. فمثلا كان يوقر حضرات أعضاء لجنة التأليف (وبخاصة أحمد أمين وأحمد زكي). . . مكان يعشق أسلوب (الزيات) ونظم في هذا الصدد قصيدة بائية رائعة لم احفظها للسف ولم تنشرها (الرسالة) حتى لا تتهم بمحاباة رئيس تحريرها فيما أظن.
وكان يعجب بطه حسين إعجابا بالغا بدا بعضه في تقريظه لكتاب (مع أبي العلاء في سجنه) بأبيات بارعة جاء فيها:
يا مؤنس المسجون في سجنه
…
وسلوة المحزون من حزنه
من كنت في السجن له صاحبا
…
فسجنه الجنة في حسنه
أساء بالعالم ظنا. . . ولو
…
أدركته حسن من ظنه
أقسم لو خير في عينه
…
وفيك لأختارك عن عينه!!
إحساس الزين:
ولعلي لم أصادف كثيرين في مثل دقة إحساسه. وبالرغم من تسامحه الملحوظة مع معارفه فقد كان ينفعل وأحيانا ينزوي في بيته عن الناس جميعا أياما بل أسابيع إذا أحس بإهانة صغيرة من أحدهم. وربما كانت دقة إحساسه من أهم أسباب استمرار غبنه لخجله من الشكوى.
أذكر أنه طلب مقابلة أحد الوزراء يوما ما ليرجوه في انتشاله مما لحق به من غبن، فتذكر الوزير كصديق قديم واحتفل به وأخذ يردد له بعض ما يتعلق بماضيهما فآثر (الزين) أن يقصر المقابلة على استعادة الذكريات دون أن يخدش إحساسه برجاء!
الزين المحب!
وعلى كثرة ما باح به لأخصائه من أسراره فإنه لم يبح لأحد بشيء عمن أحبها وإن كان دائم البوح بطهارة حبه وطهارتها.
كانت هذه مصدر شعره الغزلي الجيد من نحو (عاود القلب حنينه) و (علينا بالأماني) و (ما
غناء الروح). الخ.
والغريب أنه كثيرا ما يرتاب في حبها له ويخشى أن يكون منها ضربا من الشفقة والمواساة. و (الزين) إذا ارتاب تغالي فاستحال عليه الاطمئنان. . . وقد رحمها الله من هذا الارتياب العنيف إذ ماتت قبله بنحو سنتين وحاول هو أن يرثيها فلم يستطع ومات وفي صدره قصيدتها.
الزين الوالد:
ومن المؤلم أنه نكب في أولاده فماتوا في طفولتهم. وأخيرا رزق طفلا هو الآن في الثامنة من عمره، ولكنه مع الأسف نكب فيه حيا بأفظع مما نكب في أخوته أمواتا! فقد اكتشفت مدرسته الأولية ضعفا في نظره بالرغم من حسن منظر عينيه؛ وهرع (الزين) إلى الطبيب، وحينئذ علم أن الولد مصاب بمرض وراثي له أثره الخبيث في شبكة العينين وأنه من المحتمل أن يفقد الأبصار في مرحلة الشباب!
وخرج من العيادة ضرير الماضي يجر في يده ضرير المستقبل.
الزين العائل:
كان يعول الفقيد العزيز بخلاف ولده هذا زوجة كريمة تقية ولست ادري شيئا عن مصيرهما بعده.
والرأي لأولي الأمر لعلهم أن يعملوا على تقرير معاش لهما. . فلقد أفنى الرجل نضارة عمره في الإنتاج الدبي المثمر أكثر من عشرين عاما بين جدران (دار الكتب) دون أن يحظى بالتثبيت في وظيفة دائمة بسبب عاهته، بينما حظي به آلاف من ذوي العيون التي لم تقرأ كتابا واحدا!!
عبد الفتاح البارودي
محمد إقبال
شاعر الشرق والإسلام
للأستاذ مسعود الندوي
1389 -
1873 1357 - 1938
يعرف قراء العربية شيئا كثيرا عن زعيم الهنادك غاندي وزعيم الهند الإسلامية دفين الحرم القدسي الشريف محمد علي رحمه الله، وشاعر بنغال طاغور وغيرهم من رجال الهند وزعمائها. ولكن معرفتهم بشاعر الشرق والإسلام الدكتور محمد إقبال ضئيلة جدا. والتبعة في ذلك علينا، إذ لم ننقل أفكاره إلى لغة الضاد، حتى فاضت قريحته بهذه الشكوى اللطيفة:
نواث من به عجم آتش كهين افروفت
…
عرب زنغمة شوقم هذوزب جراست
لقد أذكى شعري النار الخامدة في قلوب العجم، ولكن العرب لا تزال تجهل ما أبثه من آيات الوجد والشوق.
لذلك رأيت أن أتحدث إلى قراء الرسالة - وهم الصفوة المختارة من قراء العربية - عن محمد إقبال، الشاعر الحكيم الذي أوتي نورا من القرآن الكريم، وقبساً من أسرار الكون، ومنحة الله نظرة ثاقبة في حوادث المستقبل، وبصيرة نافذة في حقائق الأشياء.
نعم، أريد أن أتحدث عن الرجل الذي يقظ في شباب الأمة وشيوخها فكرة الاعتزاز بالقومية الإسلامية، وجعل من هذه الأمة البائسة المسكينة أمة قوية الشكيمة، متعصبة العزيمة، وثابة إلى المجد، حريصة على تراث أسلافها.
أني أود أيها القارئ العربي، أن أعرفك بالشاعر الحكيم الذي جعل من الشبيبة المسلمة الهندية، وهم متعمقون في القوية الملعونة، مسلمين صادقين مؤمنين بالوحدة الإسلامية محاربين لنزعات الإقليمية والجمود والإلحاد، وما أكثر عددهم؛ فكم من متسكع في ظلمات الزندقة والإلحاد ورد ماء شعره، فوجد فيه ما يثلج الفؤاد، وينور العقل، ويهذب النفس. وكأين من متشكك في عقيدته دخل حديقة شعره الغناء، وهو يريد أن يتنزه بين جداوله وأنهاره فشاهد فيها الزهرة الباسمة التي علقت بفؤاده، والنرجس الغض الذي أسر فؤاده بجمال عينها الصافية بين آونة وأخرى، حتى يشرب في قلبه بعض ما اشرب صاحبها من
حب الإسلام والثقافة السلامية.
- 1 -
تخرج محمد إقبال في الكليات العصرية، ودرس فيها علوم الفلسفة والتاريخ إلى أن نال الشهادة العليا في الفلسفة. فعين معلما للفلسفة في الكلية الأميرية بلاهور، وذلك في السنوات الأولى من هذا القرن؛ ثم سافر إلى لندن، وأقام في جامعة كيمبردج زمنا يدرس الفلسفة والحقوق إلى أن منح شهادة المحاماة - ثم سافر إلى برلين لدراسة الفلسفة ومازال بها حتى نال لقب ورجع إلى مسقط رأسه سالما غانما.
نشأ إقبال مفطورا على التأمل والتعمق في حقائق الكون، وبدأ يقرض الشعر وهو في عهد الطلب. وظهرت من أول قصائده إمارات النبوغ والكمال، مع أنها كانت منسوجة على منوال شعراء العصر في الغزل والنسيب؛ ثم اخذ يقرض مقطوعات شعرية في الطبيعة وذكرى بعض الشعراء ورثاء بعضهم حتى ترقت فكرته الشعرية وأخذ يحس بما ناب وطنه وأهله من النوائب، فبدأ يجيش صدره بأبيات في الوطنية تأخذ بمجامع القلوب وتحرك النفوس الخامدة. ومن احسن قصائده في هذا العهد وابلغها أثراً في القلوب قصيدة نفثة مصدور، (تصوير درد) التي صور بها حال الهند السيئة وما فيها من تطاحن وشقاق بين أبنائها. وهي أول شعر مع عرف به الناس أن ناسج برده شاعر مطبوع يلهم القول إلهاما. وكذلك نجد كلمته (بلال) الروح الديني الذي امتاز به الشاعر، والذي جعله في ما بعد يتبوأ كرسي شاعر الإسلام الخالد الذي كان فارغا منذ مئات السنين. وجملة القول أن شاعرنا في أول عهده بالقريض، كان شاعرا مطبوعا وكنيا يترقرق الإخلاص في كل ما يجيش به صدره؛ لكنه لم يكن إذ ذاك الشاعر الحكيم الذي يشعر بتفكك أوصال الرابطة الإسلامية، فيدعو أمته إلى الاستمساك بعروتها الوثقى، وينظر في مساوئ الحضارة الغربية فيحذر أهل الشرق من الوقوع في شركها والانخداع بمظاهرها الخلابة. . .
- 2 -
سافر محمد إقبال، أستاذ الكلية الأميرية في لاهور إلى لندن وبرلين ليتخصص في الحقوق والفلسفة، وقد شاهد الناس هذا الشاب الهندي في جامعات كيمبردج زبرلين مكبا على
دراسته، مشتغلا بالبحث والتنقيب؛ لكنهم قلما تنبهوا للروح الإسلامي الذي بقي يضطرب طول إقامته بلندن وبرلين، ولم تقع أنظارهم على ذلك الشاب المسلم الذي ظل يراقب أحوالهم عن كثب، ومكث يعمل بصيرته في اكتناه أسرار رقيهم، حتى إذا رجع، رجع إلى وطنه مسلما صادقا، قد زادته التجارب قوة إلى قوته الإيمانية وأطلعته الأيام على مصير المسلمين وأسباب تقهقرهم وانحطاطهم.
ذهب صاحبنا إلى أوربا سنة 1905 وقفل منها عام 1908 فكث بها ثلاث سنين، مكباً على دراسته العلمية ما اشتغل في ظلالها بالشعر إلا قليلا. ولكن ذلك النزر القليل الذي فاضت به قريحته في تلك الفترة قد جاء، وعليه مسحة من الشعور الديني العميق، والاشمئزاز من مظاهر التمدن الحديث، والتبرم بالمتفرنجين من أبنائنا. وعلى ذلك فقد أحس أول مرة في أوربا بالجامعة الإسلامية وشعر بأن الوطنية الجغرافية لا تزيد المسلمين إلا تماديا في الغي وبعدا عن منهج الإسلام الصحيح. فتحولت فكرته الوطنية إلى فكرة دينية إسلامية، شاملة لكل من يدين بكلمة الإسلام. ومن هنا ترى أن شعره في هذه الفترة وعلى قلته وابسق فرعا، وأعلى جنى، وأطيب ثمرا منه في دوره الولد فتراه يقول:
نرالا سارى جهال سي اس كو عرب كي معمارني بنا
…
بنا مهارب حصار ملت كي اتحاد
وطن يس الله
قد اتخذ (أي دار الإسلام) البناء العربي فنا فريدا ممتازا عن سائر أبنية العالم، فليست الوحدة الوطنية أساسا لبناء قوميتنا.
وكذلك نجده يشكو المتفرنجين المفتتنين بأوربا وبعدهم عن الدين، ويقول بأسلوبه الشعري القديم الآخذ بالألباب نعرب معناها ومجردة عن اللطائف الشعرية:
(بالأمس كان رجل ثائر يبكي ويصرخ على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مسلمي الهند ومصر يريدون أن يهدموا بنيان الإسلام، ومهما أراد زوار حرم الغرب هؤلاء أن يرشدونا إلى الخير، فغناهم لا يمكن أن يكون لهم أي سلطان علينا، لنهم طالما غفلوا عن اتباع سننك والاهتداء بهديك).
ثم يقول في هذه المقطوعة ما يبكي له قلب كل مسلم:
(ومن يصغي إلى كلامك يا إقبال؟ فغن الزمان قد تغير وغنك تقص علينا الأحاديث البالية
في هذا العصر الحديث).
ولله دره إذ يقول من كلمة له، يخاطب بها القافلين من سفر الحج:
يا ليت من يسأل الحجاج القافلين من بيت الله الحرام: ألم يجدوا هنالك شيئا يهدونه إلينا غير كاس من ماء زمزم؟
وأجود شعره في دوره الثاني، كلمته الموجعة التي رثى بها صقلية حين عودته إلى الوطن. فإنه حينما مرت باخرته على تلك الجنة المفقودة عاودته الذكرى ولم يكد يملك فؤاده وعينه، فبكى ملء عينه وجاد طبعه بأبيات أبكت جما غفيرا من الناس ولا تزال تبكي ألوفا من الشبان.
ولله در تلك القريحة المبدعة التي جادت بهذه الكلمة العصماء التي أولها:
تعالي، ساعديني أيتها العين الثرثارة وابكي ما شئت دموعا ودماء فغن تربة المدينة الحجازية ماثلة أمام أعيننا.
ثم تطرق إلى ذكر العرب فهزته العاطفة وجعل يعدد مفاخرهم التاريخية:
كانت هذه البلاد يوما ما مركزا لأولئك العرب الذين كانت البحار ملعبا لسفنهم في سالف الأزمان
والذين زلزلوا عروش الكاسرة والقياصرة
…
والذين كانت سيوفهم مخدعا للبرواق والرواعد
ثم تفنن في القول وقال: غن بلبل شيراز (سعدي) بكى على أطلال بغداد، وسكب (داغ) سجال دموعه على (دهلي) الشهيدة، وأدمى (ابن بدرون) فؤاده رثاءه للأندلس المرحومة، ومني إقبال الحزين بالبكاء على أطلالك وتذراف الدموع على تربتك، فكأن القدر اصطفى القلب الذي كان حريا لحبك محرما
وفي ختام الكلمة بيت، هو مروءة الشاعر وبيت فيه بيان الحقيقة، وبها تنتهي الكلمة، قال سقى الله ثراه ونضر وجهه يوم القيامة. يناجي صقلية:
اشرحي حالك وبوحي بما تكنه جوانحك من تباريح الشوق، فإني رجل قتله الحب وأضناه هوى مثلك، وبقية من الركب الذين كنت منزلهم ومحط رحالهم، سأذهب بهديتك إلى الهند وأبكي فيها أناساً، كما أنا ابكي هاهنا أمامك.
مسعود الندوي
دراسات تحليلية:
الجنيد
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
في حاضرة الخلافة العباسية مدينة العلم والنور وبين مجالس الزهد والتقوى ومراتع اللهو والمجون، ولد العالم الأديب المحدث الفقيه الصوفي المتنسك أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، ودرج في بيت أبيه لا يرى فيه من مظاهر النعمة والثراء شيئا مذكورا، ولا تسمع أذناه سوى ارتطام القوارير التي كان أبوه يبيعها. ولما بلغ مبلغ الصبيان صار يذهب إلى دكان أبيه، فكانت كثيرا ما تقع عيناه على موكب من مواكب الخليفة يسير في شوارع بغداد خارجا لصيد أو ذاهبا إلى مسجد لأداء الصلاة تحف به مظاهر الأبهة والملك وتحيط به حاشية من وزراء وقراء وجنود وسحاب، فكانت تستهويه هذه المواكب، وتسحره هذه المظاهر، ويتمنى - شأن كل من في مثل سنه - أن يكون كأحد هؤلاء الذين يحيطون بالخليفة ويحفون به. أو يمر على حانة من حانات القصف واللهو تختلط فيها رنة الكأس بأصوات المغنيات، وتتعالى فيها صيحات الاستحسان من قوم سلبتهم بنت الحان عقولهم، فيقف ينصت لما يقولون ويسمع ما به يترنمون، فيود لو جلس بينهم وشاركهم لهوهم وفرحهم، فإذا آب إلى بيت أبيه في أحد أزقة بغداد هالة الفرق البعيد وأخرجته مرارة الحقيقة التي تتجلى له والتي هو رازح تحت كلها، من تصوراته البديعة وتخيلاته العريضة التي كان سابحا في ملكوتها، إلى واقع حياته وحياة من يحيطون به.
ولما صار فتى ألحقه والده بحانوت خزاز ليتعلم صنعة تكون له غناء في حياته ووقاية له من الفاقة، وكان كثيرا ما يسمع عن أسماء بعض الفقهاء والعلماء، وأقوالهم ومجالسهم وما حباهم الله به من نور وعرفان، فتاقت نفسه إلى مشاهدة مجالسهم وسماع أقوالهم. وذات مساء ذهب إلى إحدى الحلقات التي يؤمها كثير من طلاب العلم، وهناك جلس في ركن من زمانها قانتا خاشعا في وقار وتهيب وخشية وخوف، يسمع ما يقال ولا ينبس ببنت شفة، وسخره القول وأعجبه الحديث، فصار يتردد على هذا المجلس حتى تفتحت بصيرته وانشرح قلبه لنور به، وبدأ يفهم ما يقال ويتأمل ما يسمع.
ثم سمع بإبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فورد عليه
وأنصت لما يقول فجذبه قوله واستأثر به حديثه فلزم مجلسه. واسترعت مواظبة الجنيد وحضوره مبكرا نظر الكلبي فقر به إليه وأدناه من مجلسه، وأعظم فيه مظاهر الورع والتقى على صغر سنه، ورأى علائم النجابة بادية عليه، فاتخذه تلميذا له يرعاه ويحدو بعنايته. ولم يقتصر الجنيد على الفقه بل أخذ من كل علم بطرف، فكان في الأخلاق تلميذ معروف الكرخي، وفي التوحيد تلميذ الحارث المحاسبي. . .
وصار الجنيد قبلة الأنظار وهو في سن العشرين. وفي أحد الأيام قال له خاله السري السقطي وكان من أساتذته، تكلم على الناس وعظهم حتى تفيد وتستفيد، ولتعظ نفسك قبل أن تعظ الناس، فامتنع عن ذلك لأنه كان يرى نفسه ليس أهلا لذلك، فراى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة الجمعة، فقال له النبي عليه السلام: تكلم على الناس. قال فانتبهت من نومي وأتيت باب السري قبل أن ينبلج الصبح، فلما دققت الباب قال لي: لم تصادفنا حتى قيل لك. قال: فقعدت في هذا اليوم للناس بالجامع. ثم صار له أتباع ومريدون وأصبح أوحد أهل عصره. فقد كان يفتي في المسألة الواحدة وجوها لم تخطر على بال العلماء. سأله أحد الفقهاء عن مسألة فأجابه فيها بأجوبة لم تخطر له، فقال يا أبا القاسم لم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها علي، فأعادها بجوابات أخرى، فقال والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده على، فأعادها بجوابات أخرى، فقال لم أسمع بمثل هذا فأمله علي حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي أن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني؛ وإنما هذا من فضل ربي يلهيه ويجريه على لساني. وسمعه بعض المعتزلة فقال: رأيت في بغداد شيخا يقال له الجنيد ما رأت عيني مثله. كان الكتبة يحضرون لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم.
وبينما هو يسير في الليل في درب من دروب بغداد سمع غناء في دار فعاد به الحنين إلى عهد الطفولة فأنصت، فإذا الجارية تقول:
إذا قلت هذا أهدى الهجر لي حلل البلى
…
تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت هذا القلب أحرقه الجوى
…
تقولين: نيران الهوى شرف القلب
وإن قلت ما أذنبت قلت مجيبة
…
حياتك ذنب لا يقاس به ذنب
فصاح وخر مغشيا عليه ولما أفاق ورجع إلى بيته أخذ يطيل الفكر فيما سمع، وترن في أذنيه قول الجارية (حياتك ذنب لا يقاس به ذنب) فبدأ يتخلف عن مجلسه ويطيل وحدته ويتأمل صنائع الإله وما أبدع في الكون وبذلك انتقل إلى مرحلة التصوف
والميثاق الذي ورد في كتاب الله جل شأنه والذي بمقتضاه أقسمت الأرواح أن تؤمن به قبل أن تحل في أبدانها وقبل أن يخلق الله هذه الأجسام، وهو مذهب الجنيد الذي اعتنقه ونادى به. وصاحب هذا المذهب يؤمن بوجود حقيقة الإنسان في الوقت الذي تعهدت فيه الأرواح بالإيمان لخالقها، وان البدن باطل لا وزن له ولا يساوي أية قيمة؛ وأما الحقيقة الإنسانية فهي تنحصر في الجوهر الروحاني الذي لا تشوبه شوائب المادية، وفي هذا اليوم الذي تعهدت فيه الأرواح لخالقها بالإيمان تفرر مصير الإنسانية وتحدد نهائيا. ومن هذا اليوم اختار الله السعداء من خلقه فاصطفاهم لحضرته فانكشفت لهم الألوهية في ذلك الوجود النقي الصافي الذي كان يحتويهم قبل عالم الأشباح، ثم بعد أن صاروا في عالم الأشباح لازال الله يجذبهم إلى العودة إليه من ثنايا هذه الحياة. ولهذه العودة درجات كثيرة مختلفة ومتعددة، ولكن أعلى هذه الدرجات وأولاها المعرفة، وأول مبادئها التوحيد، ثم تحديد الوحدانية الإلهية، ولا يكون هذا التحديد حقيقيا إلا بالتنزيه وهو جحود الكيف والحيف، ولا يحظى بهذه المنزلة إلا من شاء الله له ذلك عن طريق السكر التنسكي وهو نوعمن الجنون الفجائي يمن الله به على من اصطفاه فيصبح بواسطته في حال يصدر فيها عن القول والفعل دون أن يكون مسئولا عما يقول أو يفعل، ومن يمنحهم الله المعرفة، ويتجل عليهم بهذه المنزلة خصهم الله بقربه واصطفاهم لحضرته (هؤلاء هم الذين اعتزل الله بهم).
والمعرفة عنده معرفتان: معرفة حق، وهي إثبات وحدانية الله تعالى على ما أبرز من الصفات وما أظهر من آثار قدرته في الأنفس وفي الآفاق. وهذه المعرفة هي معرفة المؤمنين عامة. ومعرفة حقيقة: وهي مشاهدة السر من عظمة الله وتعظيم حقه وإجلال قدره وتنزيه ربوبيته عن الإحاطة، لأن الصمد لا تدرك حقائق نعوته وصفاته؛ فالحق سبحانه وتعالى يشاهد من عظمته. وفي هذا يقول:(المعرفة تردد السر بين تعظيم الحق عن الإحاطة وإجلاله عن الدرك). أما من اكتفى بمظاهر الحياة وما يشاهد في قلبه من صور، واعتقد أنه بهذا وصل إلى المعرفة فقد خانه التوفيق وجانبه الصواب والجنيد يقول:
(المعرفة أن تعلم ما تصور في قلبك فالحق بخلافه). لكنه وجود يتردد في الكون ويحكم تدبيره، لا تتهيأ العبارة عنه، ولا تؤدي الكلماتالمقصود منه. فالإنسان مسبوق، والمسبوق غير محيط بالسابق، فصاحب الحال قائم موجود عيانا وشخصا وصفة ونعتا.
والمعرفة تجعل العارف الذي تعلق بحقيقة الخالق لا يشهد حاله، بل يشهد سابق علم الحق فيه وأن نهايته صائرة إليه ومصيره إلى ما سبق له، ومن لم ينعم الله عليه بشهود ما سبق له من الله تحير، لأنه لا يدري ما علم الحق فيه ولا ما جرى القلم به، ومن عرف ما سبق له من القسمة لا يتقدم ولا يتأخر وتعطل عن الطلب، فقد عرف أن الله متولي أمره. ومن عرف أن الله متولي أمره تذلل له في أحكامه وأقضيته وسار في طريقه مستقيما متذللا. وفي هذا يقول (المعرفة شهود الخاطر بعواقب المصير، وأن لا يتصرف العارف بسر ولا تقصير). والعارف هو من لبس لكل حال لبوسها فيكون في كل حال بما هو أولى وما يناسبه فلا يرى بحال واحدة، لأن أمره ليس بيده ومصرفه غيره. ولما سئل عن صفة العارف قال:(لون الماء لون الإناء) وكثيرا ما كان يحكي في هذا المقام ما حدث لأبي بن كعب. قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) فقال أبي: أ، ذكرت هنالك يا رسول الله! قال نعم: فبكى ابي ولم ير حالا يقابله بها، ولا شكرا يوازي نعمه، ولا ذكرا يقوم بما يستحقه المولى جل شأنه، فانقطع فبكى فقال له النبي عليه السلام (عرفت فالزم).
وذكر الله هو سبيل الوصول إلى الحضرة الربانية، والهيام به هو تصريح المرور إلى مجلس الأنس الأسمى، ولا يكون حقيقة من القلب إلا إذا استروح الذاكر حب الله وعاين الحق وثمل من كأس الحبيب وسكر بخمره. وهو قوت القلوب الذي تحيا به، وزاد الأرواح التي تتزود به، وأنس النفوس الذي يذهب عنها الوحشة ويزيل همها وكربها، والماء الذي يطفئ ظمأ الفؤاد ويخفف من حدة اشتعاله، وهو الدواء الشافي من العلل والأسقام، والبلسم المطهر لجراحات القلوب، وهو حبل الوصل بين الذاكر والمذكور، وسبيل القرب بين المحب والمحبوب، وكلما ازداد الذاكر في ذكر محبوبه استغراقا وهياما، ازداد الحبيب المذكور إلى ذاكره قربا وإلى لقياه اشتياقا. والذكر عنده نوعان: ذكر اللسان وهو أيسر النوعين وأقلهما مشقة وأخفهما عناء، وهو ملك للجميع وفي هذا يقول:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
…
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
فإذا وافق القلب في الذكر اللسان، نسي الذاكر في جنب الله كل شيء وهان عليه كل شيء وحقر في نظره متاع الدنيا وزينتها، وطرح مباهجها وراءه ظهريا، وتعلق بذكر محبوبه وهام به وغرق في بحر ملكوته القدسي. ومن كانت هذه حاله حفظ الله عليه كل شيء وعوضه بلذة ذكره عن كل شيء، ومن وصل إلى هذه الدرجة فهو الذي من الله عليه بعمة الوصل والتعرف؛ لأن من بلغ هذا المقام فقد عرف الله حق معرفته؛ ففي الأثر الإلهي:(إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه) وفي هذا يقول الجنيد (من ذكر الله عن غير مشاهدة فهو مفتري)
والذكر بالقلب هو أصل المحبة وعنوان التقرب لأنه يغزو قلب الذاكر وفي هذا يقول: (المحبة ميل القلوب) فالذاكر إذا أحب من يذكره مال إليه قلبه وانجذب إلى حضرته وفني في ذاته، فيكون حبه من غير تكلف، وهيامه مصدق وإخلاص. وما دام الذاكر قد مال قلبه إلى من يذكره واتصلت به محبته فإنه يرى اللذة والسعادة في الخضوع له والتذلل في حضرته وإطالة الوقوف ببابه طلبا للمثول بين يديه، والطاعة فيما يأمره به من أعمال، ويبتعد عما بنهاه عنه، ويرضى كل الرضا بحكمه فلا تثور نفسه ولا يضجر قلبه إذا نزل به مكروه أو حاقت به نازلة، يفعل كل ذلك ليحظى بالقرب وينال الرضا من المحبوب، فإن حظي بمراده وبلغ مأموله فقد طابت له الحياة وصفا عيشه؛ لأن المحب يتلذذ بكل ما يرد عليه من المحبوب من خير أو شر. وفي هذا يقول:(المحبة لذة والحق لا يتلذذ به لأن مواضع الحقيقة دهش واستبقاء وحيرة).
وإذا ملك الحب شغاف القلوب، وتكشف الحال بين الحب والمحبوب، وأصبحت المحبة تعظيما يحل الأسرار، وقربا يحيي موات القلوب، فإذا سمع المحب ذكر محبوبه اضطربت منه الجوارح طر بالذكر محبوبه فيصبح في حال من الوجد والهيام، والمحب غذاء كان ضعيفا إيمانه ضعف وجده، وضعف الوجد ينتج حالا من التواجد وهو ظهور علامات الهيام على المحب، وأما القوي الإيمان الراسخ القدم الصافي القلب الصادق الحب، فيكون وجده من السكر لا يفيق منها أبدا، وهذه الحال حال العارفين. ولا شك أنها خير حال من الأولى لأن كتمان الحب دليل على قدرة المحب وصبره على تحمل ما يلقى في سبيل حبه.
وفي هذا يقول الجنيد:
الوجد يطرب من في الوجد راحته
…
والوجد عند حضور القلب مفقود
قد كان يطربني وجدي فاشغلني
…
عن رؤية الوجد من في الوجد موجود
والجنيد صوفي متنسك وهو زيادة عن ذلك عالم فقيه محدث وله كثير من المؤلفات منها (كتاب التوحيد، وكتاب الفناء، وكتاب الميثاق، وكتاب دواء الأرواح، وكتاب آداب الفقر، وكتاب سر أنفاس الصوفية، وغير ذلك كثير) كما أن له رسائل هامة وأجوبة على كثير من الأسئلة التي كانت توجه إليه. وكان ورده في اليوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة. ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويقرا القرآن فقيل له لو رفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟ فقال: لا أجد أحوج مني إلى ذلك الآن، وهذا أوان طي صحيفتي. ثم فاضت روحه، وكان ذلك سنة 298 للهجرة النبوية، فبكاه الأمراء والعظماء وسارت وراء نعشه بغداد كما كانت تسير وراءه أيام حياته، وحزن عليه الأصحاب والمريدون.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ
الأزهر والإصلاح
للأستاذ محمد سيد أحمد الشال
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود الشرقاوي في العدد سنة 786 من الرسالة الغراء، وما علق به الأستاذ سليمان دنيا في العدد 789 من المجلة المذكورة. ومقالة الأستاذ الشرقاوي كما وصفه الأستاذ دينا قد صور الأهداف العليا التي ينبغي أن يتجه إليها المصلحون للأزهر حتى يتحقق له أن يكون قواما على نهضة دينية أساسها الفهم والإدراك وسعة الأفق ليقاوم ما ينتاش العالم كله من إباحية وإلحاد.
هذه ناحية، والناحية الأخرى أن يخرج الأزهر طائفة من الرجالي يحسون ويدركون علة هذه الأمة الإسلامية وأسباب جمودها تخلفها، وجهالة العوام فيها وتواكلهم وضعف إيمانهم وانصرافهم عن المفيد النافع من شئون الحياة، واستهتار الخواص وأنانيتهم وجحودهم.
ولقد عتب الأستاذ الشرقاوي أنه ألم يرسم الخطوط ولم يبين المعالم للإصلاح. وأنا بدوري اعتب على الأستاذ دنيا أنه لم يحاول أن يكون له فضل السبق إلى بيان الطريق الموصل إلى الإصلاح بعد قوله: فمن الأزهر بين كثير من المعنيين بالإصلاح في الأزهر يجاهدون ما وسعهم الجهد لإفساح المجال فيه لسياسة علمية صحيحة. ولست أدعي أنهم نجحوا في محاولاتهم ولكنهم دائبون حريصون؛ ومن الأزهريين كثير من المشغوفين بالحديث وهمهم الذي يتذاكرونه في غدوهم ورواحهم وفي خلواتهم ومجتمعاتهم ولهم في هذه السبيل نشاط مذكور.
وأنا لا اشك في أن الأستاذ دنيا من هذا النفر الكريم الذي يعملون في هدوء ويفكرون في سكينة ولا يطلع أحد على مجهودهم أو إلا يحبون أن يقف أحد على مجهودهم. ولا أدري إلى متى يظلون يفكرون ويقلبون الرأي ويمحصونه ويستخلصون من وراء ذلك كله ما لا يطلع علبه أحد أو ما لا يريدون أن يطلع عليه أحد.
وعلى هؤلاء وحدهم ممن يشعرون بالمسؤولية ويلمسون النقص وبين جوانحهم ضمائر حين تفكر في النهوض بالأزهر إلى المستوى اللائق به تقع التبعة أمام الجيل الحاضر والأجيال القادمة بل أمام الله وأمام رسوله.
وإلى متى يظل هؤلاء في تفكيرهم وسكوتهم. ألم يسمعوا المرسوم الصادر بإنشاء قسم
للشريعة الإسلامية في كلية الحقوق لدراسة فقه القرون والسنة والفقه الإسلامي وأصوله وغير ذلك من المواد؟ ألم يسمعوا بما اعتزمته الجامعة العربية من إنشاء معهد للفقه الإسلامي ودراسته مع ما يتعلق بذلك من دراسة القوانين الوضعية والمقارنة بين القوانين؟
وإلى متى يظل التفكير في الإصلاح وطرقه؟ وأظن أنه سيظل إلى أن ينفذ المرسوم بإنشاء قسم للشريعة في كلية الحقوق، وبإنشائه تكون السبيل قد مهدت لتوحيد القضاء الشرعي وهو المظهر الضيق الباقي من آثار التشريع الإسلامي. وإلى أن تنفذ الجامعة العربية ما قدرته من إنشاء معهد للفقه الإسلامي تتوسع فيه كل التوسع وتعتز به كل الاعتزاز وتؤازره كل المؤازرة حتى يخرج رجالا لهم دراسات واسعة مطابقة للأوضاع الحديثة والإصلاحات الجديدة في الاستنباط والتطبيق والاجتهاد.
وأظن انه لا يشك أحد أن تنفيذ ما تقدم سلبا لكثير من حقوق الأزهر واختصاصه واعتداء على ما هيأ نفسه له.
وأي شيء يبقى له بعد ضم دار العلوم للجامعة وبعد إنشاء قسم الشريعة ومعهد الفقه الإسلامي؟ وأي باعث على ضم دار العلوم للجامعة وهي تأخذ طلبتها من أبناء الأزهر وقد توحدت أو كادت البرامج بينها وبين كلية اللغة وتشرف وزارة المعارف على الامتحانات في كلية اللغة.
أفما كان الأولى أن تضم دار العلوم للأزهر بدلا من ضمها إلى كلية الآداب فالأزهر أمس بها رحما وأقرب صلة من الجامعة. ألم يكن في ضمها للأزهر قضاء على المنافسة التي تتجدد بين الحين وآخر واستتباب للأزهر بتقوية إحدى دعائمه وافر للحكومات المختلفة على أن توليه الكثير من العناية لاعتمادها عليه في تخريج معلم اللغة العربية التي قام بحراستها منذ ألف عام.
وأي شيء للأزهر بعد إنشاء قسم الشريعة ومعهد الفقه؟ وهل عقم الأزهر أو استعصى على الإصلاح حتى يفكر أولو الأمر في هذا الانشاء؟ ولم لم يتجهوا إلى الأزهر ويشتركوا مع رجاله في رسم خير الطرق لهذه الدراسات. وهل امتنع الأزهر ورجاله عن مشاركتهم ومدارسة الأمور حتى يرسموا لإصلاحه ما ينهض به لمجاراة العصر مع المحافظة على كيانه وطابعه. وأغلب الظن أن المراد بإنشاء معهد للفقه الإسلامي هو العمل على سلب
جزء آخر من اختصاص الأزهر حتى إذا ما استوى ذلك المعهد تقرر ضمه للجامعة أيضا كما ضمت دار العلوم. وبذلك لا يبقى للأزهر من الاختصاص إلا ما يمس دراسة أصول الأديان وطرق الدعوة وهذا أمر هين. وليس بغريب أن ترى عما قريب اقتراحا آخر بإنشاء هذا القسم وضمه إلى كلية من كليات الجامعة، وبذلك يسلب الأزهر جميع اختصاصه ولا يبقى لوجوده أي مسوغ ما دامت الجامعة قد قامت برسالته في فروع مختلفة. وأظن أن هذا تنفيذ لما رسمه الدكتور طه حسين بك في كتابه مستقبل الثقافة من توحيد البرامج في الابتدائي والثانوي والاستغناء عن الأزهر بإنشاء قسم اللاهوت وإلحاقه بإحدى كليات الجامعة كما هو الحال في جامعات الغرب وبخاصة فرنسا. وإذا لم يكن تنفيذ هذه السياسة سافرا فمظاهر الخطوات المتقدمة توحي بأن العمل جار على تحقيقها إذا لم يتدارك رجال الأزهر الأمر بالعمل السريع على إصلاح الأزهر إصلاحا عاما شاملا يتناول ما يتصل بالمعلم والطالب والكتاب.
(للكلام بقية)
محمد سيد أحمد الشال
مندوب الأزهر لتدريس الشريعة
بكلية المقاصد الإسلامية ببيروت
رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
الهجري:
4 -
اردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
سنة 1411هـ وفيها قدم الرحالة المصري الشيخ مصطفى
أسعد اللقيمي إلى بيت المقدس:
(تمت علينا بركات سنة (1143هـ) فعملنا عاشورا وتألفنا للسير إلى الزيارة، وتأهب معنا جمع أخيار منهم الأخ الأمجد العديم الأنظار الشيخ أحمد المراغي سالف الإعصار، والأخ محمد سعيد البصري البار، وزكريا النسيبي السيار، وجملة حضار وبتنا في السيد (شمويل) ومن حماه كمن للأوكار طار، وإن استقر منا للراحة في بعض العمار قدار إلى بلدة (لد) المعمورة الجهات والأقطار، بالمدرات المسرات المار من أخطار، واجتمعنا بصديقنا الفاضل المسعود الشيخ أبي السعود، فأكرم وحيا، وزرنا أخاه المرحوم الشيخ حسين رحمه الله، وسرنا صباحا إلى يا زور ونزلنا دارا تعزى إذ تنسب للملاح وبتنا ليلة الخميس يبسط ما عليه مقيس، وفي ذلك اليوم الجالب التعيس، سادس عشر محرم توجه الأخ زكريا (نسيبه) ليغتسل في البحر، وما درى السباحة يقيس، فغاب فيه روحا وجسما عن العين، وما ظهر إلا يوم الجمعة فكدر رائق وقت أنيس، ثم أنا استرجعناه ودفناه في مقبرة الجامع الجديد التأسيس، وسرنا إلى الحرم نترحم على المفقود وعملنا له ختمة قدها يميس، وأهديناه تهليلة جليلة، وكان الحاج حسن المقلدي (الجيوسي) وفد علينا الاسكلة، وأقمنا في الزيارة ليلتين، وودعنا وسرنا إلى أن دخلنا قرية المذكور (كور) ومنها تعلقت بنا حمى الربيع الجالية الأجور، لسابق قضاء وقدر مسطور، وولجنا نابلس المحروسة الطلول
والدور، وأقمنا ثلاثة أيام أنسها يمور فلا يغور، وأتينا (جامعين) ونزلنا المحلة الفوقية ومنها عمدنا (الزاوية) ونزلنا منها إلى دير غسان لإلحاح الإخوان بها ووقفنا على تلك الآثار، وفي الصحاح وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الزاد فنسبوا غليه، منهم بنو جفنة، رهط الملوك، ويقال غسان اسم قبيلة. انتهى. وفي لب الألباب في تحرير الأنساب للسيوطي، الأزدي بفتح فسكون فمهملة إلى إزد شنوءة بن الغوث. . . إلى إسماعيل وفي اللب، الغساني بالفتح والتشديد إلى غسان بن جذام بطن من الصدف، قال فيه الصدفي بفتحين وفاه إلى الصدف، بكسر الدال قبيلة من حمير. انتهى.
وأهلها المقيمون فيها الآن ينتسبون إلى جدهم برغوث ولذا لقبوا بالبراغثة، وهم مشايخ بني زيد الآن وجباة وقف الصخرة والخليل، وفي تلك الأوطان، لكنهم بقلة الحكم وضعف ولاة الزمان جبوا لأنفسهم، وأكلوا ما للوقفين استبان حتى مال منهما القبان، إلى الخفا بعد العيان، وتوجهنا إلى (عابود) بلدة سيد الأكوان الداخلة في وقف الحرمين من غابر أوان، ومنها ختمنا مقابلة (العرائس القدسية) المفصحة عن الدسائس النفسية بحضور إخوان في واديها المصان وعدنا إلى الأوطان، وسلينا والد المفقود بما أمكن وبشرناه بحلوله جنة الأمان. وأرسلت كتابا إلى الشيخ محمد المكتبي، وأرسلت آخر إلى الأخ الأمجد الشيخ أحمد نجل سمية خطيب الخسروية. وكتبت آخر للأخ الحميم عبد الكريم الشراباتي، وقلت:
سر للمنازل يا نديمي
…
تسقى من الخمر القديم (الخ)
ولما دخل شهر ربيع الأول ورد علينا من صديقنا الروحاني الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي كتاب يطلب فيه التداني من حينا القدسي، ويتشوق لقي النفسي الحسي الأركاني، وطلب كتابة كتاب لوالده نترجى منه الإذن بالمسير فأجبته وصدرته بقولي:
راح الحشا والروح والريحان
…
وصل سما روحا مع الريحان
وكتبت له، ولوالده، طلبا لإذن للولد بالزيارة وأن يعود أن شاء الله في أقرب مدة.
(وقدم علينا الديار عقب هذا المكتوب الصديق القديم الشيخ داود الدمياطي وسألناه عن المكاتبة فأخبر بوصولها، وأن الأخ المكاتب عن قريب يجوب، وفي هذه الديار يتملى بالأنوار ولوطنه يؤوب، ولما عزم على المسير إلى الشام، طلب إجازة، فكتبت له. ثم ورد علينا من الصديق الشيخ مصطفى كتاب يعلم بقرب الجواز. فأرسلت له كتابا وقلت:
سلام على أهل وادي الهوى
…
أناس فؤادي إليهم هوى (الخ)
وأرسلت للصديق السيد أحمد الأدهمي نجل السيد صالح الطرابلسي السمي، جواباً عن كتابين أرسلهما إلي بحال همي والمذكور له صحبة تؤذن بمدد نمى في دمياط لما أتيتها والفؤاد محتمي فقلت.
لفتى الصبابة يا سعاد ترحمي
…
مضني لغير جمالك لا ينتمي (الخ)
وجواب الكتاب الثاني، صدرته بقولي.
أيها النفس باختيارك موتي
…
واخرجي عن ملابس الناسوت
الحمى تنتهك الشيخ، وينتظر مولودا جديدا:
(ولما تمادت الحمى في غيها، وزادني كرب عيها الواصل إلي، ولم يفد فيها ساعة دواء، ولا أنجع قلم له وصف ارتوى، ورد على الفؤاد وارد، وهو امتداح جناب الخليفة السيد المعمود سيدي داود، فقلت غب زيارته يوم الخميس المشهود.
إن قلبي نحو الحظائر نودي
…
حين فوجي بلمع نور وبودي
إلى أن قال.
فلهذا ناديت والجسم أضحى
…
ضمن نار كالنار ذات الوقود
يا حبيبي داود كن لي شفيعا
…
إن دائي قد كاد يفنى وجودي
وقد استجاب الله دعاء الشيخ ثم يقول:
وكان أواخر ذي القعدة الحرام من سنة (1142هـ) تبين حمل وفي ذي الحجة عاد كاليقين، وفي محرم اتضح ذلك الإبهام، وكانت البنية السعيدة الجنانية الفريدة، بلغت عاما ونصف أو أقل بأيام، فخفنا عليها الغيلة، فحميناها بالفطام.
وكنت كثيرا ما أسمع قصيدة شيخنا جناب الشيخ عبد الغني (النابلسي) التي مطلعها البسام:
يا أشرف الرسل ضاقت فأرسل الفرجا
…
فإنني فيك قد أملت ألف رجا
فأحببت أن أقتدي بهذا المولى فقلت:
يا سيد الخلق أن القلب مبتهجا
…
أضحى بحبك للتقريب منتهجا
المولود الجديد محمد كمال الدين:
ولما هل هلال شعبان المبارك، ومضى منه ثلاث ليال، ولد الولد المحمود محمد كمال الدين وكنيته أبا الفتوح، منح الرفد التام السعيد أن شاء الله تعالى وتبارك، أنشأه الله نشوء عبد الله بن المبارك.
وعندما دخل شهر الصيام كنت أبيض الجزء الثاني من (شرح الورد السحري). فنجز في يوم الاثنين ختام العشر الثاني من شهر رمضان سنة 1143هـ.
قدوم الشيخ مصطفى أسعد اللقمي الدمياطي الرحالة:
وحين دخل العيد الصغير، ومضى منه يوم أول وثاني وثالث توجهت لزيارة سيدي داود، وبت في جوار الخليفة داود، مع أنفار أمنوا العمار كل خيفة، وذلك في أواخر القعدة، لداع دعا للمبيت في تلك الخيام، وفيه قدم الأخ الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي، ولما تلاقينا معه بسطنا بساط المباسطة، واختلينا واجتلينا عرائس الأنس وما بيننا واسطة، في بيتنا المعمور. ولما أخذ وانتسب وأقبل ما احتجب أقام في خلوة حرمية واستقام في حلوة كرمية، مشمرا ذيل الاجتهاد، معمرا اللب بالاستمداد. وكنت في أواسط شوال المبارك، شرعت في عمارة دارنا الفوقية فتم منها المراد، ونزلت أشطح معه في السطح الحرمي، وتارة أسبح ناحية المهد في يم البسط البهمي، وما برح يتلقى ويستقي سلاف الأسلاف ويسقى ويأتي المنزل مجدا لم يهزل، فنحيك معه ثوب المؤانسة ونغزل، ونطلب له من ربه الجميل عطاء يجزل بكل بر جميل.
وصف الشيخ مصطفى أسعد اللقمي لقاءه الشيخ البكري
والاجتماع به:
وإننا ترك الآن الشيخ اللقيمي الحسني بسط بن غانم المقدسي السعدي الخرجي يصف لنا في رحلته (كتاب سوانح الأنس برحلتي لوادي القدس سنة 1143هـ) اجتماعه بالشيخ البكري ببيت المقدس قال (ثم دخلنا المدينة من باب الخليل، وجاء الأنس بالسعد لنا دليل، فنزلنا بمنزل دائرة الأفلاك الحسنية، واسطة عقد الهصابة الهاشمية، خلاصة السادة الأشراف، وصفوة بني عبد مناف، من قال بحسن سيرته النجوم الزواهر، وبجميل طلعته البدور النواضر، الراسخ في العلم الآلهي، المكاشف عن أسرار الحقائق كما هي أستاذ
وملاذ كل ملاذ، مولانا السيد مصطفى البكري الصديقي قدس الله سره الشريف، وأسكرناه من كأس خمره الرحيقي فبرؤيته وردت علي واردات السرور من كل جانب، وأيقنت ببلوغ المآرب والمطالب، وعند ذلك جاد الجفن بالدمع وسمح، لما اعتراه من المسرة والفرح، فتلقاني أستاذنا المذكور قدس الله سره الشريف، بمظهر الجمال في أرفع محل منيف، مع لطف بلغ غاية الكمال، وحسن خلق وفضل وأفضال، فو النجم إذا هوى، إنه لجميع المحاسن قد حوى، وهو الذي يقتدي به المقتدون، وبسمته يهتدي المهتدون، وبمحاسن الصفات محلى، رفع الله له في العلا محلا.
مولى تحلا بالفضائل والتقى
…
وأشاد من طرق الحقيقة معهدا
ودعى إلى النهج القويم مسلكا
…
لطريقه منها شهدنا المشهدا
انتهى كلام اللقيمي).
وفاة الشيخ عبد الغني النابلسي:
(وفي أوائل شوال ورد خبر وفاة شيخنا الهمام المفضال بركة الديار وشامة الشام جناب الشيخ عبد الغني المقدام فشرعت في عمل ترجمة مختصرة على المكاتبات التي كتبتها لجنابه مقتصرة، وسميتها: (الفتح الطري الحبني في بعض مآثر شيخنا عبد الغني)، وعملت في آخرها مرئية مطلعها السني المختوم بالكؤوس الأنسية:
سلام على عيش صب هني
…
لقد سار مذ سار بدر سني
ومذ مات بالحي أرخ وهم
…
لقد عاش بالحق عيشا هني
ومازال الأخ اللقيمي المقدم في مدة إقامته التي فيها
يتقدم يستعمل أورادا فيجد أمدادا ويفتح أبوابا شدادا،
فيمنح أحوالا سدادا، إلى أن قرب عيد الأضحى،
فلقنته الاسم الثاني فصحى غب، ما حبا انمحى، ونحا
التقريب لا حيا لاحي فرحا ورأيت معه رسالة
للحاتمي، ذكر فيها مبشراته النبوية، فاقتفيت أثر
مناهجه المرضية، وسميت الكراسة (بالدر المنتثرات
من الحضرات العندية، في غرر المبشرات بالذات
العبدية المحمدية).
بئر للخلوة البيرمية في الحرم القدسي:
(وكنت قلت للأخ الحاج حسن حبي، لماطلب في الحرم أثرا ينتج الميرمتني، أن الخلوة (البيرمية) تحتاج إلى بئر صغير فانتدب له طالبا من النصير التيسير ولما أحضرت ما يلزم من الأحجار والجير، أمرت بإحضار، فعلة لأجل الحفير، وألهمت أن أشرت بحفر محل معين بمعونة الخبير، فحفر خندق، وباشره من حضر من أجير، فظهرت ثاني يوم مصفاة بئر قديم التعمير، ثم عثرنا بعد ذلكبفضل القدير، فتوفر علينا يوجدانه شيء كثير ورأينا ما دورته تزيد على الكأس الشهير، ورفعنا بناءه نحو ثمانية أذرع لجمع الماء النمير. ولما رآه شيخنا الشيخ محمد الخليلي، قال هذه كرامة من غير نكير، لفلان وعلامة تهوين وتيسير، وإلا كان يمكنه أن يشير في الحضير إلى غير هذا المحل لاتساع كبير، قلت ووقع لهذا التسهيل نظير عندنا في الدار حال التعمير، فلم نستر لأجل الستارات الكبا شيئا بقطمير، واحتجنا إلى روزنة في المطبخ لأجل التنوير، فقال البناء أين أحفر قلت هنا وتوكل على القدير، فظهرت روزنة قديمة فعجب وقال هذا حال خطير، قلت بل اتفاقية أبرزها التقدير.
دخوله سنة (1144هـ)، الزيارة العليلية، السنوية وظهور
الطاعون ببيت المقدس:
(وعندما دخل العيد الكبير وتمت بعدها عمارة البير، بقي من لوازمه العصارة، وهي تحتاج
إلى إتقان ومهارة، فأحضرت لها ما يلزم، ووافقنا عليها رجلا على المباشرة عزم، ولما نوى العام المؤرخ على الرحيل، ودخلت سنة (1144هـ) بتكبير وتهليل، حضرنا بقية الشهر في المسجد، وتوجهنا غرة صفر الخير إلى زيارة علي بن علي نرتجي المير، وكان حضرنا الأخ الشيخ رضوان الزادي والشيخ إبراهيم العرابي، وسرنا معهم جملة إخوان منهم الأخ الشيخ مصطفى أسعد (اللقيمي)، وكانت الحمى الربعية لم تفارق، لأمر إلهي نوره بارق، وبتنا في القر الشمويلي الأنزه، وقلت: ألا أيها الطلاب سيروا إلى اللقا عساكم يه تسقون كأسا مروقا وتوجهنا على بني جمار ومنها إلى (سبطاره) التي تشن العرب حولها الغارة، وجلسنا فيها مع الأخ اللقيمي نتذاكر بأنس يأتي بكل قرية خير. وكان الأخ المذكور أثر فيه برد البلاد فتغير مزاجه وفي (يازور) زاد، وتوجه صحبة شريكه النجار إلى (يافا) ولحقناه فيها نتصافى، ثم سرنا منها إلى المقام العليلي الندي، ووردت علينا فيها الخ الحاج حسن المقلدي، وبعض مضى أوقات الزيارة، سبقنا الأخ اللقمي لوادي نابلس الفياح وتنقلنا إلى أن وصلنا (كوثر) والقلب مشتغل، والفكر فيه بالحمى فتور، وجاءنا الخبر أن الشيخ عبد الرحمن السمان جاء نابلس للزيارة القدسية وصحبته المنلا عباس تلميذ شيخنا المرحوم المنلا الياس المتوفى سادس عشر شعبان سنة (1138هـ). ثم أن ورد علينا بمن معه (كور)، وعدنا جميعا إلى نابلس في حبور، وبعد ثلاثة أيام من الإقامة فيها ودعنا الخ اللقيمي وبقية الأحباب وسرنا إلى (جماعين). ورأى جامعها السمان فسر به وقال إنه وعهد واف لجامع في قاف، لكن ذلك كبير واسع وماؤه فيض له هتان. قلت له: أتدري إمامه الذي فيه يصلي مفره يصان. قال: نعم، رأيته والقوم كلهم له في ذي المقام. ثم عدنا للديار المقدسة، وبقي خاطرنا عند الأخ اللقيمي، وجاءنا الخبر بتوحهه إلى وطنه الصبيب (أي مصر). وكان ورد البلاد العالم الفاضل المراد الشيخ عقيلة المكي الوطني اليمني الأصل والمولد، يوم الخميس من شهر ربيع الأول الأنيس، واجتمعت به في منزله للسلام، وحضرت درسه العام باستسلام، وأخبر عن تأليفه الإحسان. ولما اوقفني عليه قرظته:
يا راقيا لمدارج الإحسان
…
أحسنت في الإحسان بالإحسان
أحمد سامح الخالدي
(النهاية في العدد القادم)
في موكب العيد:
من وحي اللاجئين
للأستاذ إبراهيم الوائلي
لكم العيد نعيما وهناء
…
ولنا العيد جحيما وشقاء
لكم العيد كأنفاس الضحى
…
ألقا يبسم حسنا وبهاء
ولنا العيد ظلاما دامسا
…
لم نطالع فيه للفجر ضياء
لكم العيد نشيدا ورؤى
…
وأهازيج ولحنا وغناء
ولنا العيد حنينا واسى
…
ومناحات وشجوا وبكاء
لكم العيد ابتهاجا ومنى
…
ضاحكات وانطلاقا وازدهاء
ولنا العيد قلوبا ذوبت
…
فأذالتها مآقينا دماء
لكم العيد قرى فارهة
…
وبيوتا تملأ النفس رجاء
ولنا العيد تهاويل دجى
…
تبعث الرعب صباحا ومساء
نحن ما نحن أفي أوطاننا
…
نلبس التشريد والذل رداء؟!
نحن ما نحن أعن تربتنا
…
للطريدين غدونا طرداء؟
الطفولات عراها ما عرا
…
من أذى اليتم ولم تلق عزاء
والأيامى سلوا تاريخها
…
هل أباحت لسنا الشمس سناء
هيمن الثكل عليها ومضت
…
تعبر البيد وتطويها حفاء
هي بالأمس تزى سيدها
…
حارس البيت كما شاءت وشاء
وهي اليوم تراه شبحا
…
لثم التربة واشتاق الثواء
كلما نادت به لم تستجب
…
غير دنيا القفر للثكل نداء
زمر باتت على مسغبة
…
تحصد الشوك وتقتات الغثاء
فيتيم أفلت اليتم به
…
من وحوش ملئوا الليل عواء
وفتاة أسندت راحتها
…
طفلة تبكي وأما نفساء
ورضيع كلما اشتد به
…
ألم الجوع احتسى الدمع غذاء
لم يجد في الثدي - إذ يلمسه
…
بيد واهنة - إلا ذماء
لكم العيد مروجا تزدهي
…
ونسيما في مجاليها رخاء
ولنا العيد رمالا تلتظى
…
وأعاصير وشوكا وعراء
لكم العيد تضحون به
…
ما تشاءون من الضأن فداء
ولنا العيد وما فديته
…
غير أحرار تفانوا شهداء
كتبوا تأريخ جيل ثائر
…
ما ونى يوما ولا ارتد وراء
واستجابوا لأماني وطن
…
كافح الظلم وداس الكبرياء
البطولات وما أعظمها
…
قد خبرناها رجالا ونساء
والميادين وكم قد حجبت
…
بدخان الثورة الكبرى سماء
قد ولدنا نحن والحرب معا
…
واحتملناها فلم نشك العياء
وخضدنا شوكة (البغي) التي
…
غرستها (لندن) في الشرق داء
وتسابقنا فلم نخش الردى
…
يوم أن أثرنا ولم نحذر فناء
ثورة الشرق وما ازدادت لها
…
شعل إلا لنزداد مضاء
أيها التأريخ هذى صفحة
…
سوف تطويك خلودا وبقاء
قد كتبناها ولكن بدم
…
ونشرناها على الدهر لواء
ونضال طال لكن ما رأى
…
غيرنا فيه الضحايا الأبرياء
عبر الوحش فألفى تربة
…
خصبة المرعى وأفياء وماء
ومضى يكرع ما شاء وقد
…
كان يشكو في التيهات الظماء
وعلى (المانش) يد عاتية
…
كلما أوغل زادته احتماء
يد (جنبول) ويا دنيا اشهدي
…
كم أساءت يد جنبول وساء
هذه التربة ماذا كابدت
…
منذ أن كانت تقل الدخلاء
صيروها مزقا خاوية
…
وأحالوها عظاما ودماء
فإذا نحن حيارى فزعا
…
نستجير البيد والفقر الخلاء
ونرود الماء لكن ما نرى
…
غير أوشال فنرتد ظماء
أيها العدل سلاما فلقد
…
صيروا عهدك في الكون هباء
ملئوا العالم رعبا ومضوا
…
يدعون الحق كذبا ومراء!
فإذا (الأمن) خيال كاذب
…
وطيوف تتجافانا ازدراء
جفت الأرض من الري فيا
…
خالق النبتة أمطرها السماء
إبراهيم الوائلي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
سر الحاكم بأمر الله:
مسرحية تاريخية، ألفها الأستاذ علي أحمد باكثير، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا في مفتتح موسمها التمثيلي. وتدور القصة حول الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي، وتصور شذوذه وغرائب أفعاله، والحادثة الهامة فيها أو (العقدة) هي ادعاء الحاكم بأمر الله الألوهية، وقد تخيل المؤلف - لكشف سر هذا الادعاء - أن (المجمع الفارسي) بعث جماعة على رأسهم رجل اسمه حمزة الزوزني، للعمل على هدم الدين الإسلامي في مصر، فراقب حمزة الحاكم حتى ألم بأحواله وعرف أنه يروض نفسه على الحرمان من طيبات العيش والتخلص من الرحمة وسائر العواطف الإنسانية التي يسميها ضعفا بشريا، فيتصل به ويوهمه أنه إله ويستعين على ذلك بتلفيق كتاب يدعي حمزة أنه مخطوط قديم ورثه عن آبائه، وينبئ الكتاب بظهور ملك في مصر يحل فيه روح الله، وتنطبق أوصافه على الحاكم بأمر الله، فيضطرب الحاكم أولا ثم يقتنع بأنه إله، ويتخذ حمزة رسولا له. وتسير الحوادث على هذا الخط حتى يفتضح أمر الفارسي بوقوع رسالة آتية إليه من المجمع الفارسي في يد الحاكم بأمر الله، فتتكشف له الحقيقة ويكفر بنفسه. .
ويبدو للمتأمل أن المؤلف لا يريد بيان سر الحاكم بأمر الله، وإنما يرمي إلى تحليل شخصيته، فتخيل خداع الفارسي للحاكم لا يتجه إلى حقيقة تاريخية، من حيث إبداء رأي تاريخي في الباعث للحاكم على ما كان منه، وإنما هو حبكة مسرحية غايتها خلق المواقف وترتيب الحوادث للوصول إلى تصوير هذه الشخصية الغريبة وبيان ما أحاط بها، واستغلال كل ذلك في تقديم فن ممتع.
هذه هي غاية القصة كما أفهم، وقد وصل فيها المؤلف إلى درجة لا بأس بها، فقد صور الصراع بين الحاكم بأمر الله وأخته ست الملك، وصور الصراع بين الحاكم وبين نفسه، ووجه طاقته إلى إبراز الأحاسيس وخوالج النفوس، فنجح في كل ذلك، وإن كنت ألاحظ أنه جانب الألوهية وقوى حجة ما سماه التخلص من الضعف الإنساني، فأظهر - مثلا - الحاكم بأمر الله في ذبحه الغلام بمظهر الفيلسوف المنطقي، وكان لا بد من عمل شيء
للسخرية من هذا المنطق. ومن ذلك أيضا الحجة الدامغة التي أجراها على لسان حمزة الزوزني عندما رد على الرجل الذي اعترض على الحاكم لأنه يسأله ويجب أن يكون عالما بما يسأله عنه أن كان إلها حقا. . . رد حمزة بأن الله يسأل عباده يوم القيامة عما فعلوا بدنياهم وهو عالم به!
وما هو (المجمع الفارسي) الذي يعمل لهدم الإسلام في مصر؟ أليس إبهامه في الرواية يوهم بأنه كان هيئة رسمية في الدولة الفارسية الإسلامية!؟.
وحقا أن الشعب المصري كان إذ ذاك ضعيفا مسكينا مسالما، ولكن لم إبراز ذلك على المسرح والتنويه به على أنه صفة دائمة له وفضيلة راسخة فيه؟
وتنتهي المسرحية بختام يبدو غير طبيعي، فإن ست الملك أخت الحاكم بأمر الله التي كانت تقاوم جبروته وتعمل على أن ترده إلى صوابه ولما يئست منه دبرت قتله - تلتقي به في خلوته بجبل المقطم فيجري بينهما حوار يبدي فيه الحاكم ندمه ويستغفر ربه ويطلب منها الصفح عما بدر منه في حقها، وكان هذا يقتضي أن ترق له وتحول دون تنفيذ القتل بعد ما بان لها صلاح أمره. ولست أدري هل المؤلف هو الذي جعل الحاكم يصحح موقفه أمام أخته ثم تقتله، وهي عنصر خير في الرواية، أو حدث تعديل هذه النهاية في الإخراج ليكسب يوسف وهبي (ممثل الحاكم) محبة الجمهور وعطفه. . .؟
ويدل الإخراج والتمثيل على الكفايات المختلفة التي تضمها الفرقة المصرية الآن، وقد أعجبني بل أطربني أن ممثلي الفرقة ينطقون اللغة العربية نطقا طبيعيا كأنها اللغة اليومية العادية، فلا تكلف إلقاء ولا نبرات خطابة ولا تعثر في التلفظ، وهذا شيء آخر غير النطق السليم فلا تخلو الحال من بعض الخطأ في الضبط مما لا يسلم منه لسان. وقد أثبتوا أن الفصحى هي لغة المسرح الراقي وأنها تفي بكل أغراضه حتى التهكم والتفكه، مما يزعم بعضهم أنه لا يؤدى إلا بالعامية، وقد برع فؤاد شفيق في ذلك حنى تكاد عربيته تقطر ظرفا وفصاحة. أما رنين جرس العربية على ألسنة الممثلات فهو المطرب حقا. . ولله در أمينة رزق! فهي عروس هذه المسرحية، وقد أدت دور (ست الملك) فأجادت في مواقفه المختلفة، وخاصة عندما دخلت على الحاكم مع قواد الجيش، وطعنها الحاكم في شرفها، فمثلت الانفعالات النفسية أدق تمثيل. وأعتقد أن أمينة رزق أجدى على اللغة العربية من المجمع
اللغوي! وهي في ذلك قوة لا يستهان بها ولا تقل عن أم كلثوم في غناء شعر شوقي.
وقد تعاون المؤلف والممثل (يوسف وهبي) في تصوير شخصية الحاكم بأمر الله وتحليل نوازعه. وقد تحول يوسف وهبي في هذه المسرحية، عن طريقته المعروفة، تحولا محسوسا، وذلك لطبيعة الدور، فهو يمثل شخصية جبار متألمة يتكلم في رقة ممزوجة بالاستخفاف لأنه يملك كل سيئ ولا يحتاج إلى العنف والتهريج، وقد كان يوسف وهبي يكتسح ويتغلب بالكلام والصياح، أما الآن فهو يطيح بالرؤوس ويزهق الأرواح وهو هادئ وديع رقيق، ولماذا يصخب وهو القادر على كل شيء؟! وهذه هي طبيعة الموقف ولا شك. ولكن لم لم يستخدم يوسف وهبيأو الحاكم بأمر الله قدرته في (تكبير) الممثلة الفتاة التي مثلت (أم الحاكم)؟ لقد كانت تسرع إلى حضنه رشيقة لفاء خفيفة الحركة. . له في ذلك حكمة!
والغلام الذي أتى به الحاكم ليذبحه في أثناء رياضته للتخلص من الضعف البشري - لم يكن يشبه ابنه عليا كما اشترط ذلك إمعانا في الرياضة، ولم يكن يشبهه تمام الشبه كما قال عندما شاهده. وأظهر فرق بين علي وبين الغلام (مرجان) أن الأول أبيض والثاني أسود فاحم؛ وقد مثل الاثنين بنتان. . . وكان صوت علي صوت بنت هي التي مثلته.
وثمة كلمة أخيرة يقتضيها إنصاف المؤلف، فقد نشرت الإعلانات عن الرواية بالصحف والمجلات وعلقت بالجدران، وأظهر ما فيها يوسف وهبي وصورته في دور الحاكم بأمر الله ثم اسم زكي طليمات مخرج الرواية. أما المؤلف فلم يبد اسمه إلا في بعض الإعلانات. . . وفي الآخر وبـ (بنط) صغير. . . حتى الإذاعة. . . لما أذاعت الرواية لم تكتب في برنامجها اسم المؤلف!
وأذكر أن يوسف وهبي أعلن أنه يمد يده إلى الأدباء ليعاونوه بالتأليف على النهوض بالمسرح، فهل هو يمد يده إلى الأدباء ليبتلع إنتاجهم ويطوي أسماءهم، ويأكل لحمهم ويرمي عظامهم؟. . .
ذكرى الزين:
في مثل هذا الأسبوع من العام الماضي توفي الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين. وطالما لقيت هذا الصديق الفقيد في خلال هذا العام. . .
نعم، لقيته ولا أزال ألقاه في كل مكان صاحبته فيه، وعند كل ما يذكرني به. تحوم ذكراه على نفسي، فآنس بها، وأستوحش لبعده المادي أنسا ووحشة مجتمعين. . . وكثيرا ما أتمثله يحدثني حديث المحلق فوق الحياة، الساخر من سخف الأحياء وتفاهة مراميهم، ولا أكاد أجد ما أحدثه به، إذ أراه واقفا على كل ما هنالك. . . وأستغرق في هذا الشعور حتى تتجلى عني الذكرى لأمر مما يشغلني، فأنصرف إلى ما أنصرف إليه وفي نفسي من الأسى طعم شديد المرارة!
كنت أسير في يوم من الأيام الماضية بشارع يقع فيه منزل رجل من الأعلام ممن كان الزين يسعى لزيارتهم مدفوعا بدافع الصداقة، وإذا هو كأنه يسير بجانبي وقد أحطت ذراعه بذراعي، وكأننا نقصد منزل ذلك العلم كما كنا منذ سنوات. ولكنه يقول لي: لا. لن نزوره، قلت فيه شعرا، ثم تقطعت الأسباب!
وبهذا الإيجاز أدرك ما يعنى، فقد كان الزين يحرص على مودة أصدقائه من أهل الفكر والأدب، وكان ينفق عليهم من شعره وهو الضنين به على غيرهم من ذوي الجاه والسلطان، وكانوا يحتفون به ويحسنون استقباله. . . ثم مضى. . ومضى معه كل شيء. . . تقطعت الأسباب!
ومضى عام ولم يوف حقه من تأبين ورثاء، ولم يطبع ديوانه المخطوط، ولم يصنع لليتيم شيئا ذو بال. ولم يكن للزين ذنب إلا أنه كان شاعر كبيرا، وكان موظفا (باليومية) في دار الكتب المصرية، وقد ظل بها أكثر من عشرين عاما يخرج لها وللناس كتب الأدب مصفاة دانية القطوف، فلم تفكر هذه الدار في أن تصنع له شيئا، ولم يكن أقل من حفل للتأبين أو للاحتفاء بذكراه بعد مرور عام على وفاته.
والديوان المخطوط قررت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبعه بالمجان لابن الشاعر الفقيد، وراح الصديق الوفي الأستاذ إبراهيم الابياري يطلبه، فوجد أن أخاه الشيخ محمد الزين قد أخذه، فاتصل به وأبلغه قرار اللجنة، فوعد بتسليمه ولا يزال لديه إلى الآن. وفي الديوان قصائد لم تنشر، وفيه قطع رقيقة فيها وصف دقيق وتعبير طريف، فهي من أحسن ما يقدم لتلاميذ المدارس.
ويسرني أن أذكر أن وزارة المعارف الآن (استمارة) لإعفاء أسامة أحمد الزين التلميذ
بإحدى المدارس الابتدائية من المصروفات اليومية. وسترسل مذكرة إلى مجلس الوزراء للموافقة على تعليمه بالمجان في جميع مراحل التعليم. وهي تحية طيبة من معالي السنهوري باشا لذكرى الشاعر الكبير.
من طرف المجالس:
نحن اليوم مع جماعة من الأدباء أغشى مجلسهم في بعض الأحيان بإحدى القهوات الكبيرة. وأكثر ما يكون حديثهم عن الأشخاص في نواحي النقص التي ينفذون إليها فيمن يتحدثون عنه، وكثيرا ما يكبرونها على طريقة (الكاريكاتير) وعدتهم في هذا التفكير أو هذا التشنيع ألسنة ذلقة حداد. . ولا يعفون من لواذع هذا (الفن) صاحبا غائبا ولا جليسا قام فمضى. . وإنه ليخيل إلى وأنا منصرف عنهم وقد صرت في الطريق أني أسمع ما يقولون عني. . وأتذكر من كان يحدثنا أنه طلب إليه أن يكتب مقالات لإحدى للصحف الكبيرة، وألح عليه صاحب الصحيفة، فكتب مقالتين دفع إليه لقاءهما عشرة جنيهات. . وانصرف المتحدث، فقال واحد من الجماعة: إني أشك في صحة هذا الذي قال. فتحفز آخر للكلام، وخلته قد تحمس للغائب، وإذا هو يقول. إني أجزم بأن فلانا (صاحب الصحيفة) لا يعرفه!
وأصغيت مرة إلى أحدهم يتحدث عن شاعر من (أصدقائه) بأنه تزوج فتاة من غير مهر، وأراد المتحدث أن يعبر عن انخداع الفتاة فقال إنها اغترت بما في شعره من ألفاظ كالظلال. . والحرور. . ومد ألف الظلال وواو الحرور حتى خلتهما يصلحان مهرا. . .
وفي الجلسة الأخيرة (وقع) ذكر شاعر (صديق) فقال قائل: تصور أنه تغزل في امرأته! وقال آخر: حسبك. . إنه ليس شاعراه وقال شاعر من الحاضرين: أنا قد هجوت زوجتي! وأنشد ما قال وفيه إقذاع، فقالوا: هذا هو التعبير الصادق، وهو الشعر لا ذلك الزيف. وروى أحدهم أن أعرابيا سئل: كيف بغضك لزوجتك؟ قال: تكون بجانبي وتكد يدها علي فأود لو أن أجرة من السقف فقدت يدها وضلعا من أضلاعي!
ثم قال الأول: أتدرون كيف يتغزل الشاعر في زوجته؟ إنه يتغزل فيها كما يحرص على ألا يسهر في الخارج ويعود إلى المنزل متأخرا. . وإن كان بالأول يستجلب العطف ويتقي بالثاني سوء العاقبة. . .
استقبال عضوين جديدين في المجمع اللغوي:
انتخب مجمع فؤاد الأول للغة العربية في دورته الماضية، عضوين جديدين به هما الأستاذ محمد رضا الشبيبي عن العراق مكان المغفور له الأب أنستاس ماري الكرملي، والأستاذ خليل سكاكيني عن فلسطين ولم تكن ممثلة من قبل في المجمع فرؤي أن يحل عضو منها محل المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق.
وقد قرر المجمع أن يحتفي باستقبال العضوين الجديدين في حفلة افتتاح مؤتمره السنوي، وهو الذي يحضره الأعضاء إلى الأجانب من شرقيين وغربيين، وسيكون ذلك في يوم السابع من ديسمبر القادم، وسيقدم الأستاذ العقاد الأستاذ الشبيبي، ويقدم الدكتور منصور فهمي باشا الأستاذ سكاكيني، ويتناول كل منهما صاحبه بتعريف ودراسة شاملة. ويتحدث كل عضو من العضوين الجديدين عن سلفه، وقد أرسل المجمع إلى كل منهما بذلك.
عباس خضر
البريد الأدبي
بين توفيق الحكيم وقرائه:
تحت هذا العنوان تلقيت عن طريق مجلة الرسالة إحدى الرسائل التي تحمل توقيع (عبد الحميد فاضل المحامي)، ولقد تفضل المحامي المهذب فخصني بفيض من التجريح الرخيص بمناسبة المقال الذي كتبته في عدد مضى من الرسالة عن الأستاذ توفيق الحكيم!. . أما نص الرسالة التي وجهها إلي فأنا على استعداد لنشرها والتعقيب عليها، ولكنني أود قبل أن أقدم على النشر والتعقيب أن يتفضل الأستاذ المرسل بذكر عنوانه الذي تعمد أن يغفله، لأنني أشك في أن يكون له في نقابة المحامين مكان!
إن مما يضاعف من شكي في ما ذهبت إليه أن الرسالة التي وجهها إلي مكتوبة على الآلة الكاتبة وليس بها من خط يده غير توقيعه. . . ولقد عودنا المحامون أن تحمل رسائلهم أسمائهم مطبوعة وإلى جانبها عناوين مكاتبهم وأرقام التليفونات، ولكن هذه الرسالة العجيبة تخلو من هذا كله خلوا مقصودا يثير الظنون!. .
وليصدقني القراء إذا قلت لهم إنني تعودت أن ألقى كل ما يكتب بحس الناقد قبل أن ألقاه بحس القارئ؛ ومن هنا فقد قرأت هذه الرسالة المريبة مثنى وثلاث ورباع. . . يخيل إلي أنني وصلت من وراء أسلوبها إلى أشياء هزت جوانب اليقين في نفسي، ومن ناحية أن يكون مرسلها هو صاحب التوقيع!. . مهما يكن من شيء فأنا أرجو أن يتفضل علي الأستاذ المحامي بذكر عنوانه لأتحقق من شخصه، وإذا لم يفعل فأغلب الظن أن هذه الرسالة من أديب تخلت عنه شجاعته حين راح يخاطبني من وراء الأسماء المستعارة!
هل يستطيع المحامي أن يذكر لي عنوانه حتى لا أذهب في الظن إلى أنه ذلك الأديب المعروف، الذي يستطيع كل متذوق للأساليب الأدبية أن يحكم بأن هذا هو أسلوبه؟!. . وسواء أكان الذي كتب إلي هو ذلك المحامي الذي لا اعرفه أم ذلك الأديب الذي يخيل إلي أنني قد عرفته، سواء أكان هذا أم ذاك فأنا استحلفه بحق الشجاعة الشهيدة أن يواجهني بحقيقة شخصه لأستطيع أن أنشر رسالته وأعقب عليها.
أنا في انتظار شيء من الضوء يبدد هذا الظلام. . . ومعذرة، فقدت تعودت أن ألقى خصومي في وضح النهار!
أنور المعداوي
القصص
المهرج
للكاتب الروسي ماكسيم جوركي
كانت النافذة المستديرة المرتفعة لزنزانتي تطل على فناء السجن. فإذا ما نظرت منها بعد أن أعتلي منضدة بجوار الحائط، أشاهد كل ما يحدث في هذا الفناء، وأراقب الحمام يبني عشه على الحافة العليا من النافذة، وأسمع هديله يتعالى فوق رأسي. وكان لدي من فسيح الوقت ما يسمح لي بالتعرف على نزلاء السجن كلما أطللت عليهم. وهكذا عرفت بوتش أكثر السجناء مرحا. كان رجلا وسطا، ضخم الجثة، أحمر الوجه، عريض الجبهة، براق العينين، يرتدي قلنسوة على مؤخرة رأسه، وقد التصقت أذناه على جانبي وجهه في شكل يلفت الأنظار. وكانت كل حركة من حركات جسمه تبين في جلاء أنه يمتلك روحا لا تبالي بالكآبة والحزن. لقد كان دائم المرح، كثير الضحك، محبوبا لدى رفاقه، يحوطونه فيمازحهم بمختلف الدعابات، ويضفي على أيامهم الباهتة، جوا من البهجة والسرور.
وفي ذات يوم خرج نوتش من زنزانته وقت النزهة وقد قيد ثلاثة جرذان بخيط، وجعل يعدو وراءها في الفناء وكأنه يقود مركبة. فاندفعت الجرذان وقد أرعبها صياحه، اندفعت منطلقة في ذعر وجنون. وضج السجناء بالضحك يشاهدون ذلك الرجل البدين وهو يقود (مركبته).
كان نوتش يعتقد أنه ما خلق إلا ليجذب إليه الأنظار. وكان لا يعوقه عائق في سبيل ذلك. لقد استطاع ذات مرة أن يلصق شعر أحد السجناء بالغراء بحائط الفناء. كان السجين صبيا مستلقيا على الأرض بجوار الحائط وقد أخذته سنة من الكرى. وعندما جف الغراء، أيقظه نوتش فجأة، فهب الصبي من نومه مذعورا وقام على قدميه، ثم أمسك رأسه بيديه المتخاذلتين، وأخيرا سقط على الأرض يبكي. وقهقه السجناء من ذلك المنظر وابتسم نوتش في رضاء. ولكني شاهدته بعد أن ابتعد رفاقه يرفه عن الصبي ويطيب خاطره.
وكان هناك هر سمين نحاسي اللون، محبوب لذى السجناء، ومدلل منهم. ينتهزون وقت نزهتهماليومية فيداعبونه فترة طويلة، ويمر الهر من يد إلى أخرى، ثم يعدون وراءه، ويدعونه يخدش أيديهم وأرجلهم وهو يلاعبهم.
وكان الهر محط أنظارهم عندما يبدو في الفناء، فيوجهون إليه اهتمامهم وينسون نوتش ومهازله. وكان نوتش إذا رأى ما رأى ذلك يجلس في ركن من الفناء يراقبهم وهم في غفلة عنه. وكنت أشاهده من نافذتي وأشعر بما يختلج في صدره من شعور وأحاسيس، فأعتقد أنه سيضطر أن عاجلا أو آجلا إلى قتل ذلك الحيوان عند أول فرصة سانحة تسنح له ولذلك كنت آسفا عليه. أن رغبة افنسان في أن يكون محط الأنظار غالبا ما تصبح وبالا عليه. فإنه لا يوجد ما يقتل الروح كتلك الرغبة في إدخال السرور على النفوس.
إن أتفه الحوادث عندما يكون المرء وحيدا، منفردا، حبيسا في سجن، لتسترعي انتباهه، فيوليها اهتمامه. لذلك كان من السهل أن تفهم سبب اهتمامي بما أتتبعه من حوادث من وراء نافذتي، وتلهفي إلى معرفة نتائجها.
وفي ذات يوم صفت سماؤه، اندفع السجناء إلى الفناء. فلاحظ نوتش دلوا به طلاء أخضر، كان قد تركه من يقومون بطلاء سقف السجن. فتوجه إليه، وحام حوله، ثم غمس إصبعه فيه، ثم صبغ شاربه بالطلاء. فأثار منظره ضحك السجناء. وعمد صبي من الزمرة إلى تقليده، فجعل يدهن شفته العليا. وإذا نوتش يغمس يده كلها بالطلاء ويصبغ وجه الصبي، ثم جعل يرقص حوله. وضج السجناء بالضحك وهم يشجعون نوتش في صيحات تدل على رضائهم عما يفعله.
وفي ذات اللحظة أقبل الهر يتهادى في الفناء وقد رفع ذيله غير هياب ولا وجل، وسار بين أقدام الحشد المتزاحم حول نوتش والصبي الذي كان يحاول أن يزيل ما علق على وجهه من طلاء.
فصاح أحدهم - أيها الرفاق، أن ميشكا هنا!
وصاح آخر - آه أيها الأفاق الصغير!
ثم أمسكوا به، ومر في أيديهم الواحد تلو الآخر وهم يربتون على ظهره. .
وقال أحدهم - انظروا كم هو سمين!
- وكيف ينمو بسرعة!
- إنه يخدشني. يالك من شيطان صغير!
- أتركه. دعه يثب.
- سأحني ظهري له. اقفز يا ميشكا.
ونسوا نوتش، فوقف وحيدا يمسح الطلاء العالق على شاربه، وينظر إلى الهر يقفز على أكتاف زملائه. أخيرا قال في نبرات تشوبها التوسل والرجاء - أيها الرفاق، دعونا نطلي الهر.
فصاح واحد - ولكنه يموت.
فقال - من الطلاء!؟ هراء!
فقال رجل عريض الكتفين ذو لحية حمراء - يا لها من فكرة غريبة! إنك لشيطان حقا!
ولم ينتظر نوتش موافقتهم، بل حمل الهر بين يديه وسار به نحو الدلو وهو ينشد أنشودة مضحكة يصف فيها الهر. ويبتسم السجناء وابتعدوا يفسحون له طريقا. وشاهدته وقد أمسك بالهر من ذيله ثم غطسه في الدلو وهو يرقص وينشد. وقهقه الجميع، واهتزت الأجسام، وأطل النساء السجينات من جناحهن يبتسمن، وشاركهن الحراس الضحك. وأخيرا صاح ذو اللحية الحمراء - كفى أيها الرجل. فليأخذك الشيطان!
وازدادت حماسة نوتش بعد أن ألتف حوله رفاقه، وبعد أن أصبح محط أنظارهم ومبعث سرورهم. وغمر المكان ضحكات جنونية كانت الشمس تضحك وهي تشرف على البناء، والسماء الزرقاء تبتسم فوق السجناء، وحتى الحوائط القذرة فقد بدت وكأنها مهيجة بما كان يحدث في الفناء. وافترت ثغور النساء فتلألأت أسناهن تحت أشعة الشمس. وانزاح ذلك الفتور القابض الذي كان يبعث في المكان جوا من السأم والملل، وأصبح مشرقا تترد في أنحائه صدى الضحكات.
وأخيرا وضع نوتش الهر على الأرض، ثم واصل مرحه وهو يلهث والعرق يتصبب منه، وشيئا فشيئا تلاشى الضحك بعد أن تعب السجناء منه، وأخيرا ران على المكان الصمت لا يقطعه إلا صوت نوتش وهو ينشد ويرقص، وماء الهر وهو يزحف على الحشائش، ويتعثر في سيره بأقدام مرتعشة، ويقف بين الفينة والفينة كأنم التصق بالحشائش الخضراء التي اصبح من المتعذر تمييزه عنها.
وصاح ذو اللحية الحمراء - ما الذي فعلته أيها الوحش؟
وتطلعت إلى نوتش الأنظار شرزا. وصاح شاب وهو يشير إلى الهر - أنه يموء. فجعلوا
يراقبونه في صمت.
وقال آخر - أيظل أخضر اللون بقية حياته؟
فأجاب رجل ممشوق القامة أشيب الشعر وقد اقترب من ميشكا - أنه جف في الشمس، وسيلتصق شعره، وسيموت.
وظل الهر يموء فيثير بذلك شفقة السجناء؛ وسأل الصبي قائلا - أيموت؟ إلا نستطيع أن نغسله؟ فلم يفه أحدهم بكلمة. كان الهر قد ارتمى تحت أقدامهم عاجزا عن التحرك. وتهالك نوتش على الأرض وهو يقول (لقد غرقت عرقا!)، فلم يأبه أحد. وانحنى الصبي على الهر وأخذه بين ذراعيه. ولكنه سرعان ما أن لاقاه على الأرض وهو يقول - إنه ساخن جدا. ثم نظر إلى رفاقه وقال في حزن - مسكين يا ميشكا! لن يكون هناك ميشكا بعد اليوم. لماذا تودون قتل ذلك المسكين؟
فقال ذو اللحية الحمراء - لعله يتغلب على الموت.
وواصل الهر زحفه على الحشائش تراقبه أعين عشرون. ولم يبد على وجوه القوم أي أثر لابتسامه. كانوا جميعا صامتين واجمين في حزن كأنما اتصلت بهم آلام الهر وشعروا بما يشعر به من عذاب. وقال الصبي - لا أظنه يتغلب على الموت. هالك ميشكا الذي كنا نحبه. لماذا تعذبونه؟ أنه لمن الأفضل وضع حد لآلامه.
فقال السجين ذو الشعر الأحمر غاضبا - ومن الذي فعل ذلك؟ أنه ذلك المهرج. ذلك الشيطان. فقال نوتش محاولا أن يهدئ من ثائرتهم - ألم نشترك سوية في ذلك الفعل؟ ثم احتضن نفسه كأنه يشعر بالبرد.
فقال الصبي - كلنا! عظيم جدا! إنك وحدك الملوم.
فحذره نوتش قائلا - لا تهدر أيها الثور!
والتقط السجين الكهل الهر وجعل يتفحصه جيدا ثم اقترح قائلا - ألا نستطيع إزالة هذا الطلاء إذا ما جعلناه الهر يستحم في البترول؟
فقال نوتش وهو يتكلف الابتسام - خذه من ذيله واقذف به من فوق الحائط. أن ذلك أبسط حل للمشكلة. فزمجر ذو الشعر الأحمر قائلا - ماذا؟ لنفرض أني قذفت بك أنت فوق الحائط، أيعجبك ذلك؟ وصاح الصبي - أيها الشيطان.
ثم أمسك بالهر وعدا به. وتبعه بعض الرجال. وظل نوتش وحيدا بين البقية الباقية من السجناء وهم ينظرون إليه شزرا. فصرخ فيهم مستغيثا لست أنا وحدي أيها الرفاق.
فقاطعه ذو الشعر الأحمر وهو يلتفت يمنة ويسرة - صه، لست أنت. إذا من؟
فصاح المهرج قائلا - ولكنكم مشتركون جميعكم في المسألة.
فقال الرجل - أيها الكلب. ثم لكمه على وجهه. فتراجع نوتش إلى الخلف ليتلقى ضربة أخرى في عنقه. وجعل يصيح فيهم متوسلا (أيها الرفاق. .) ولكنهم التفوا حوله بعد أن تأكدوا من بعد الحراس عنهم وأسقطوه على الأرض يشبعونه ضربا. كان كل من يراهم مجتمعين يعتقد أنهم مشتركون في حديث ودي، ورقد نوتش تحت أقدامهم، وكنت تسمع من وقت لآخر صوتا مكتوما كانوا يركلونه فيضلوعه، يركلونه في تؤدة وهدوء، وينتظرون حتى يظهر منه وهو يتلوى على الحشائش كأفعى فرجة تسمح لهم بركلة مرة أخرى. واستمر ذلك ثلاث دقائق صاح بعدها أحد الحراس فجأة: لا تبتعدوا كثيرا أيها الشياطين!
ولم ينفض السجناء في الحال، بل تركوا نوتش يركله الواحد تلو الآخر، وظل نوتش راقدا بعد أن رحلوا منبطحا على الأرض وكتفاه يهتزان، كان يبكي في حرقة، وظل يسعل ويبصق، ثم حاول أن ينهض في حذر كأنما يخشى السقوط وقد أرتكن على ذراعه اليسرى، ولكنه نبح كالكلب المريض، ثم تخاذلت ساقاه، وأخيرا تهالك على الأرض. وصاح ذو الشعر الأحمر مهددا: إياك أن تتظاهر!
فتحامل نوتش على نفسه وقام على قدميه، ثم سار يترنح في خطوات ثقيلة، وأخيرا أرتكن على الحائط، وقد انحنى ظهره ورأسه، وكان يسعل باستمرار، فشاهدت قطرات قاتمة تتساقط من فمه على الأرض وتتناثر على الحائط. وحاول نوتش جاهدا أن يمنع قطرات الدم من أن تلوث الحائط، فجعل يمسحها بطريقة مضحكة. وإذا بالابتسامة تعود فتشرق على وجوه من يراقبونه وإذا بالضحكات تعود فترن في أنحاء الفناء.
ولم أر الهر بعد ذلك. . . وأصبح نوتش محط أنظار رفاقه دون أن يكون له مزاحم آخر!
محمد فتحي عبد الوهاب