المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 802 - بتاريخ: 15 - 11 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٨٠٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 802

- بتاريخ: 15 - 11 - 1948

ص: -1

‌أسرة طيبة

- 2 -

أقلعت الحمى المزعومة عن جسد عائدة الرشيق الغض، فشعرت شعور الفتاة الصحيحة بأن رجلاً أجنبيا في غرفتها فنهضت بحكم الغريزة تتعهد مواضع احتشامها، وتجمع بيدها ما تشعث من هندامها. ثم نظرت إلىَّ بطرفها الساجي نظر المطمئن الشاكر.

فقلت لها: كيف تجدينك الآن يا آنسة؟

فأجابت في ابتسامة خجلة وصوت خريد:

- أجدني والحمد لله كأن لم يكن بي شئ. وأنا لنعتذر إليك يا سيدي من إزعاجك في مثل هذه الساعة. والحق أني لا أعرف كيف جرى ذلك! شكوت أول الليل فترة في جسدي لعلها مسة من البرد؛ فلما قاس أخي حرارة جسمي وقال إنها ثلاث وأربعون درجة اعتقدت أني مشرفة على الموت، لأن فهمي لا يمزح في مثل هذه الحال، والميزان لم يغشنا قبل هذه المرة؛ وحينئذ شعرت بدمي يفور، وبنفسي يتتابع، وبنبضي يسرع، وبروحي تذوب، وبجسمي ينحل؛ ثم نزلت بي غشية الموت فرأيت ثلة من القديسين وفي أيديهم الأناجيل. يرتلون من حولي آيات الغفران وأدعية الرحمة. فلما أوشك السرج أن ينطفئ سمعت قديسا من بينهم يقول ضاحكا: إن حالتها تكاد أن تكون طبيعية، وإن حرارتها سبع وثلاثون درجة ونصف! ففتحت عيني فإذا بك واقف على سريري وفي يدك الميزان؛ ثم فهمت من الحديث الذي جرى أن حرارة المصباح الشديدة هي التي رفعت الدرجة حين أدناه أخي من لهيبه وقلبه طويلا على حره. حينئذ فتر الدم الغالي وأبطأ النبض السريع وتماسك الروح والقلق وخف الجسم الثقيل، فنهضت أشكر عائدي الكريم وأعتذر إليه، وجلست أطمئن بيتي المرتاع وأسري عنه.

فقلت: نحمد الله على أن جعل مرضك وهما لا حقيقة، ونسأله ألا يصيبك المرض إلا بهذه الطريقة. ثم هممت بالانصراف، فأقسم المعلم فهمي ألا أخرج حتى أشرب قدحا من شاي شحاتة، أو كأساً من عرق (عزور).

فقلت له وأنا أمكن لنفسي في الكرسي المخلع:

- لا بأس أن أيز يمينك بأخف الضررين. هات الشاي نشربه على صحة الآنسة.

ص: 1

فذهب شحاتة يطبخ شايه وسرعان ما رجع خزيان يعتذر بأن زجاجة المصباح الأصفر قد تحطمت في الفزعة التي سببها المصباح الأكبر.

فقلت لهم: وماذا يضطركم إلى الاستضاءة بالنفط والعمارة كلها تستضئ بالكهرباء؟

فأجاب المعلم في لهجة الأستاذ وهيئة العبقري:

- خلاف بيني وبين شركة النور على التأمين الذي نأخذه مقدما من المشترك، هي تريد أن (أدفعه)، وأنا أريد أن أمنعه. ومعاذ الله أن أكون مغفلا كجميع مشتركيها فأنزل لها عن بعض مالي بغير حق. إن التأمين مال ميت، لأنك لا تستفيد منه ما دام النور، والنور لا تستغني عنه ما دامت الحياة. وقد تحدثت في ذلك إلى رئيس الوزراء فاقتنع ووعد بن يطلب من الشركة إما أن تأخذ التأمين بأجر، وإما أن تكتفي منه بالتأمين على استهلاك شهر.

ومنذ تلك الليلة تفتحت بيننا الأبواب وتكشفت دوننا الحجب، فأصبحنا نتذاكر فضول النحو في مكتب فهمي، وأمسينا نتناقل شهي الحديث في مجلس عائدة. وأنفقت لي مع الآنسة الطيبة خلوات أنست فيها النفس بالنفس، واطمأن عليها الضمير إلى الضمير، فعلمت من دفائن صدرها أنها أحبت، وأن حبيبها كان من أهل الرؤاء الباهر والثراء القليل، كان يعمل في تقطير (العرق) وجلب (الملوحة)، ويطمع منها في صداق ضخم يوسع به معمله، ويبني عليه مستقبله؛ وكانت هي ترجو أن تدبر له هذا الصداق من تجارة أبيها الرابحة في القطن والزيت. ومضى على هذا الحب العنيف العفيف ثلاثة أعوام كانت في خلالها تلقى فتاها في إيابها من المدرسة، أو في ذهابها إلى الكنيسة، فيضحان هواهما المكظوم المحروم بما تيسر من أناشيد الغزل وأحاديث المنى، ويتشاوران في مستقبل هذا الحب الجائش النامي: متى يعرف الأبوان، ومتى تعلن الخطبة، ومتى ينعقد (الجبنيوت)، ومتى يكون الزفاف؟ وانتهى التشاور بينهما ذات يوم إلى أن يتقدم الخاطب في الأحد القريب إلى أبويها فيطلب يدها ويعلن خطبتها. ومضت هي تهيئ سمع أمها إلى هذا الخبر؛ وكانت الأم قد عرفت عن طريق غريزتها وأمومتها سر هذا الحب فلم تدهش حين صارحتها ابنتها به. ووعدتها أن تظفرها في وقت واحد برضا الأب وضخامة الصداق. ولكن أمها مرضت في ذلك الأسبوع مرض الموت فتأجلت الخطبة. ولحق بها أبوها بعد عام فتجدد التأجيل. ولم يمل الخاطب

ص: 2

الحبيب هذا الانتظار، لأن حظ عائدة من الجمال يتسع له الصبر، ونصيبها من تركة أبيها يستحيل منه العوض، ولكن تركة المرحوم تكشفت بفضل المضاربة في البرصة عن دين فادح كان يستره بجمال المظهر وحسن السياسة، فلم يجد بنوه شيئا في البنوك ولا في الدفاتر. فخرج فهمي من المتجر وتبطل، وانقطع شحاته عن المدرسة واشتغل، واعتكفت عائدة في بيتها عن الناس فلم تزر أحدا ولم تقبل أن يزورها أحد. ثم قصرت جهدها على أخويها وحبها على المسيح؛ فهي تعمل طول الأسبوع في البيت ولا تخرج إلا يوم الأحد إلى الكنيسة. ثم استعاضت عن عشرة الناس بعشرة الحيوان، فهي تربى الأرانب في المطبخ، وترعى الدجاج في بالصالة، وتقتني كلبها في الغرفة، وتصطحب هرة في السرير. ولكنها منذ عرفتها وتألفتها نظفت البيت ونظمت الأثاث وجملت المنظر واكتفت من خلطائها العجم بالكلب والهرة.

ثم تعاقبت السنون وتبدلت الأحوال فانتقلنا من حي إلى حي، وتحولنا من ناس إلى ناس، فانقطع علم ما بيني وبين هذه الأسرة الطيبة، فلم أعد أرى فهمي البطين، ولا شحاتة الأعجف، ولا عائدة الرشيقة.

وفي يوم من عطلة الأضحى الماضي كنت واقفا أجيل النظر في المعرض الزجاجي لمكتبة من مكاتب الفجالة، فرأيت بجانبي رجلا أشمط الرأس معروق العظام، يحمل قرطاسا من البلح الأمهات ويديم النظر إلى وفي عينه استفهام وعلى شفته كلام. فلما حدقت ببصري إليه عرفت فيه شحاتة أفندي، فسلمت عليه بشوق، وسألته عن أهويه بلهفة. فقال لي والأسى يقطر من وجهه ويظهر في كلامه: قضى فهمي بالشلل، وقضت عائدة بالسل، وقضى الله أن أعيش بعدهما لأبكي عليهما وحدي، ثم لا أجد من يبكي عليهما ولا على بعدي!

فشجعته ثم ودعته وانصرفت وفي نفسي أن أحي ذكرى هذه الأسرة الطيبة بهذه الكلمة في (الرسالة).

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌من معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:

المدرسة الصلاحية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

كان التعليم في مصر قبل مقدم صلاح الدين إليها، في الجوامع والمساجد، وأول ما عرفت مصر إقامة درس من قبل الخليفة بمرتب ثابت كان في عهد خلافة العزيز بالله الفاطمي، فقد سأله وزيره يعقوب بن كلس صلة رزق جماعة الفقهاء، يقومون بالتدريس في الجامع الأزهر، فأطلق الخليفة لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، كما كانوا موضع عطف الخليفة وحبه.

ثم أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة وجعلها أشبه بجامعة نلقى فيها الثقافة العالية من فقه ونحو وحديث وأدب ولغة وهيئة وطب ورياضة ومنطق وفلسفة، وأجرى على أساتذتها الأرزاق الواسعة وجهزت بمكتبة ضخمة.

وكان الهدف من التعليم في الجامع الأزهر ودار الحكمة مبادئ الشيعة ونشر مذهبهم. ولم تذع المدارس في مصر في عهد الفاطميين، بل لم ينشأ فيها سوى هذه المدرسة التي أنشأها ابن السلار وزين الظافر العبيدي وكان من غلاة السنيين، فبنى بالإسكندرية سنة 546 مدرسة للشافعية أسند أمرها إلى العالم الشهير أبي طاهر السلفي. وقبل هذه المدرسة أنشأ أحد وزراء الحافظ مدرسة لتعليم الشريعة بالإسكندرية أيضا.

فلما جاء صلاح الدين عمل على تأسيس المدارس المختلفة، ليشيع في البلاد مذهب أهل السنة ويعيدها إلى طريق الجماعة؛ فأنشأ بجوار الجامع العتيق مدرستين: إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية، وحول قصر الوزير المأمون البطائحي مدرسة للحنفية اتخذت اسم المدرسة السيوفية؛ لأن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها، وبنى مدرسة مجاورة للمشهد الحسيني، وأخرى بالإسكندرية ومدارس بالقدس ودمشق.

ويظهر أن أعظم ما شيده هو المدرسة الصلاحية التي أقامها بجوار قبر الإمام الشافعي؛ ولعل صلاح الدين، وكان شافعيا، أراد بإنشائه هذه المدرسة أن يحي بها ذكرى الشافعي من

ص: 4

ناحية، وأن يكون انبعاث مذهبه قريبا منه حيث يرقد؛ فوكل أمر إنشائها إلى نجم الدين الخبوشاني، فنهض ببناء مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها؛ لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء؛ وكان يخيل لمن يطوف بها أنها بلد مستقل بذاته، بازائها الحمام وغيره من مرافقها، فكانت أشبه بمدينة جامعية؛ ولم يضن عليها صلاح الدين بمال، بل كان يقول لنجم الدين: زد احتفالا وتألقا، وعلينا القيام بمئونة ذلك كله. ووقف عليها حماما بجوارها، وفرنا تجاهها، وحوانيت بظاهرها، والجزيرة التي كانت تسمى جزيرة الفيل بالنيل خارج القاهرة. ولعلها بعد أن تم بناؤها سنة 572 أصبحت أعظم مدرسة في العالم الإسلامي كله، فكانت لذلك تدعى: تاج المدارس.

وجعل صلاح الذين أمر التدريس، والنظر فيها لنجم الدين الذي تولى أمر بنائها، ورتب له في الشهر أربعين دينارا عن التدريس، وعشرة دنانير عن النظر في أوقاف المدرسة، وجعل له من الخبز في كل يوم ستين رطلا، وراويتين من ماء النيل، ولما مات وليها شيخ الشيوخ محمد بن حمويه الجوبني في حياة صلاح الدين. فلما مات السلطان ولى النظر في وقفها بنو السلطان واحدا بعد واحد، ثم خلصت بعد ذلك، وعاد إليها الفقهاء والمدرسون.

ويدلنا على ما لهذه المدرسة من القدر أن جماعة من أعيان العلماء قد تولوا التدريس فيها، نذكر من بينهم شيخا الأول نجم الدين الخبوشاني، وهو فقيه شافعي ولد بناحية نيسابور سنة 510، وتفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكانت له معرفة بنجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين، وعندما قدم إلى مصر نصب نفسه لذم الفاطمين وثلبهم، وجعل تسبحه سبهم؛ ويقال إن الفاطميين حاولوا استمالته فلم يقبل. ولما عزم صلاح الدين على قبض العاضد وأشياعه واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك، وكان أكثرهم في الفتيا نجم الدين الخبوشاني، كما كان أول من خطب بن العباس.

ولنجم الذين كتاب تحقيق المحيط في شرح الوسيط الذي ألفه الغزالي في فقه الشافعية، وكتب الشرح في ستة عشر مجلدا وقد اختلف المؤرخون فيه؛ فالسبكي يراه إماما جليلا ورعا آمرا بالمعروف. وشاهده ابن جبير وأثنى عليه. وابن خلكان يقول: رأيت جماعة من أصحابه وكانوا يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وابن أبي أصيبعة يراه ثقيل الروح متقشفا في العيش يابسا في الدين يأكل الدنيا بالناموس.

ص: 5

والذي يظهر من أعماله أنه كان شديد المغالاة فيما يعتقد، وكان بينه وبين الحنابلة فتنة قائمة يكفرونه ويكفرهم؛ رمسه الذي كان بجانب قبر الشافعي قائلا لا يتفق مجاورة زنديق لصديق. ولكن كرهه للفاطميين وشدة إخلاصه للأيوبيين هي التي جعلت صلاح الدين يثق به ويكرمه ويقربه؛ برغم أنه مات وجدت له ألوف الدنانير، فلما سمع ذلك صلاح الدين قال: يا خيبة المسعى! وتوفي نجم الدين سنة 587.

وفي عهد صلاح الدين أيضا درس فيها محمد بن هبة الله البرمكي الحموي، وهو فقيه فرضي نحوي متكلم أشعري العقيدة مرجع أهل مصر في فتاويهم، وله نظم تعليمي كثير: ألف أرجوزة في العقائد لصلاح الدين وأخرى في الفرائض أهداها إلى القاضي الفاضل.

ودرس بها كذلك سيف الدين الآمدي أذكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية والمذاهب الشرعية والمبادئ المنطقية.

وأفضل الدين الخونجي ممن قام بالتدريس فيها، وهو فقيه شافعي يقول عنه ابن أصيبعة:(سيد العلماء والحكماء أوحد أهل زمانه وعلامة أوانه، قد تميز في العلوم الحكميه، وأتقن العلوم الشرعية)؛ وجعله الصالح أيوب قاضي قضاة مصر؛ ولنميزه في المعقولات كانت أكثر آثاره فيها؛ فله مقالة في الحدود والرسوم، وكتاب الجمل في علم المنطق، وكتاب كشف الأسرار في علم المنطق أيضا، وكتاب الموجز فيه كذلك. وكان الخونجي عالما بالطب أيضا وله فيه: شرح ما قاله ابن سينا في النبض، وكتاب أدوار الحميات. ولما مات سنة 646 رثاه عز الدين الإربلي بقول:

قضى أفضَّل الدنيا فلم يبق فاضل

ومات بموت الخونجي الفضائل

فيأبها الحبر الذي جاء أخرا

فحل لنا ما لم تحل الأوائل

ومستنبط العلم الخفي بفكرة

بها اتضحت للسائلين المسائل

فليت المنايا عنه طاشت سهامها

وكانت أصيبت عن سواه المقاتل

فإن غيبوه في الثرى عن عيوننا

فما علمه خاف ولا الذكر خامل

ومنهم قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الذي ولى المناصب الجليلة، واجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره، فأسند إليه نظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاء وتدريس قبة الشافعي، والصلاحية والصالحية، والخطابة. وكانت له منزلة كبرى عند الظاهر بيبرس

ص: 6

ومات في رجب سنة 665.

ودرس بالصلاحية، وتولى قضاء القضاة أيضا ابنه عمر، فسار على طريقة أبيه، بل أربى عليها شدة هيبة. وسلك في ولايته طريق الخير والصلاح، وتحرى الحق والعدل، وتصلب في الأحكام. قال السبكي:(ولا يوجد أهل بيت بالديار المصرية أنجب من هذا البيت، كانوا أهل علم ورياسة وسؤدد وجلالة)؛ ثم عزل نفسه واقتصر على تدريس الصلاحية وتوفى سنة 680.

ولما مات ولى أخوه عبد الرحمن المدرسة الصالحية والتربة الصالحية عوضا عن أخيه مضافا لما بيده من نظر الخزائن. وفي أيام قلاوون عرضت على عبد الرحمن الوزارة فأبى ثم قبلها بعد إلحاح، فلما نقلت عليه تركها. وكان للكارهين للملك الأشراف خليل، وبينه وبين وزيره ابن السلعوس تنافس وعداء، فعمل الوزير وسعى حتى عزله عن كل ما بيده من المناصب، وكانت سبعة عشر منصبا، وبالغ في إهانته؛ ثم سعى له بعض الأمراء فعين بالمدرسة الصلاحية، ولكن ذلك لم يرض ابن السعلوس فعقد له في ذي العقدة سنة 691 مجلسا وندب له العلم ابن بنت العراقي الذي نسب إليه كثيرا من العظائم فاعتقل ووعد بالقتل، وظل في بلاء إلى أول شهر رمضان سنة 692، حيث أفرج عنه، ومضى مع الركب إلى الحج، وزار النبي صلوات اله عليه، وأنشده قصيدة يمدحه بها ومات عبد الرحمن سنة 195.

ووكل أمر التدريس فيها سنة 678 إلى قاضي القضاة محمد ابن الحسن بن رزين بعد عزله من وظيفة القضاء؛ لأنه توقف في خلع الملك السعيد، وقرر له نصف المرتب الذي كان يتقاضاه الخبوشاني.

ولما مات ابن رزين وليها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد على أن يأخذ ربع المقرر، فلما عين بها الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري قرر له المرتب كله، وقد عين الخضر قاضيا للقاهرة والوجه البحري، وجلس للحكم في المدرسة المنصورية بين القصرين، ورسم له أن يجلس في دار العدل فوق قاضي القضاة ابن بنت الأعز، ومات فجأة في 9 صفر سنة 686.

وكانت هيئة التدريس في هذه المدرسة مكونة من مدرس وعشرة معيدين، ومر بها ثلاثون

ص: 7

سنة خلت فيها من مدرس واكتفى بالمعيدين. ولسنا ندري بالضبط تحديد تلك الفترة التي خلت فيها المدرسة من المدرسين، ولعلها سبقت تولية تاج الدين ابن بنت الأعز أمر التدريس فيها؛ لأن سلسلة مدرسيها متتابعة منذ ولايته، كما لا ندري السبب الذي دفع أولى الأمر إلى الاستغناء عن مدرس بها.

وعرفنا من بين من قام بالإعادة في هذه المدرسة محمد بن علم الدين بن القماح الذي استقر معيداً بتوفيع شريف سنة 680، وجعفر ابن يحيى التزمنتي الذي كان شيخ الشافعية بمصر في زمانه وأخذ عنه فقهاء عصره، وألف شرح مشكل الوسيط، وكان مدرسا بالمدرسة القطبية وتوفى سنة 682؛ وشمس الدين الأصفهاني العالم المشهور في المنطق وأصول الدين وأصول الفقه والمؤلف فيها، والمعروف بالهيبة والوقار في دروسه. وقد أنف هذا الأستاذ أن يكون معيدا بالمدرسة عندما عين ابن دقيق العيد مدرسا بها. قال لاسبكي:(ونحن نقيم عذره، من جهة مشيخته وقدم هجرته، وإلا فحقيق به وبأمثاله الاستفادة من إمام الأئمة تقي الدين).

ومن المعيدين فيها عماد الدين عبد الرحمن بن أبي الحسن الدمنهوري وهو فقيه شافعي ألف على التنبيه في الفقه كتاباً له دعاه النكت وتوفي سنة 694.

وبقيت هذه المدرسة عامرة بالدراسات المتنوعة إلى أن لاشتها الحوادث في أوائل القرن التاسع.

(حلوان الحمامات)

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 8

‌4 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام:

القانون والمجتمع

للأستاذ هـ. ا. ر. جب

(تتمة)

ولما كان من الواضح أنه يستحيل مناقشة الآلاف من الكتب والنشرات، وتلخيص محتوياتها؛ فإن الأفضل شرح الاتجاهات العامة، وتلخيص الفصل الذي كتبه سيد أمير علي عن مركز النساء في الإسلام.

والحق أن الكاتب كان شيعيا، واتخذ وجهة نظر عقلية تجاه القرآن، بيد أنه أظهر عمليا ما بلغة المجدد المعارض حول الموضوع، وقد اتبعه كثير من الكتاب المتأخرين الذين كرروا تأكيداته في كل لغة إسلامية بدرجات أقوى وأشد. قال سيد أمير علي:(في مراحل خاصة من التطور الاجتماعي، يكون هناك ما يبرر تعدد الزوجات، فلا يمكن تجنبه. وإن حروب القبائل المتكررة، وما يعقبها من مذابح تقضي على الذكور من السكان، مع السلطة المطلقة التي يملكها الرؤساء، كل هذا خلق تلك العادة التي نعتبرها بحق شرا لا يطاق في الأزمنة الحديثة).

إن النزعة العلمية في العبارة الأولى خطيرة، تتبعها مجموعة ملاحظات موجزة عن تقاليد الزواج عند مختلف الأجناس القديمة، ثم مناقشة حول سماح الكنيسة المسيحية الأولى بمزاولة تعدد الزوجات سراً وعلانية، (حتى أن القسس استفادوا من عادة الإبقاء على عدة زوجات ثانويات (غير شرعيات) بواسطة الحصول على ترخيص من المطران أو الأسقف).

وقد كان أعظم خطأ ارتكبه الكتاب المسيحيون، هو قولهم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، خلق تعدد الزوجات أو جعله قانونياً، فإنه لم يجده منتشراً بين العرب فحسب، بل كنت منتشراً بين اليهود مع سائر العادات والتقاليد الكثيرة التي تحط من قدر النساء.

(إن نبي الإسلام (ص) قد أوجب احترام النساء كقاعدة عامة من أحكامه الرئيسية المقدسة؛ وحباً في ابنته الشهيرة وتخليداً لها قد أطلق أتباعه عليها (سيدة الجنة) كممثلة لبنات جنسها.

ص: 9

إن سيدتنا هي جماع كل ما هو مقدس في النساء، وكل طهر وقدسية في جنسها. إنها أنبل مثل للخلق الإنساني (لا تنس أن أمير علي كان شيعياً) وقد اتبعها سلالة طويلة من النساء اللائى شرفن جنسهن بفضائلهن. من ذا الذي لم يسمع برابعة الطاهرة، وألف من أترابها؟).

ثم يذهب المجدد ويضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمن النساء حقوقاً لم يكن يملكهن من قبل. أي أنه وضعهن على قدم المساواة التامة مع الرجال أمام القانون، كما حد من طغيان تعدد الزوجات، وذلك بتحديده النهاية الكبرى للزوجات المشتركات بأربع، ولكن إذا تعذرت عليك المساواة والعدل بين النساء وجب عليك أن تتزوج واحدة فقط. وهذا الأمر هام جداً، إذ أن العدل المطلق في المسائل العاطفية من الأمور المستحيلة؛ فجاء القرآن وفصل فيها.

لكن تعدد الزوجات يعتمد على ظروف كثيرة. . . وإن تلاؤم القوانين أعظم اختبار لمدى فائدته ونفعه.

(هذه أحكام القرآن، وهي لا شك - ملائمة لمعظم المجتمعات المتحضرة وغيرها. أما الضربات والسهام التي صوبت نحو الأمم الإسلامية، فمرجعها سوء استخدام مبدأ الاجتهاد. وليس ببعيد ذلك اليوم الذي يتبع فيه كلام الله في حل المشكلة. سواء اتبع المسلمون محمداً (ص) أو مشايخهم الذين أغضبوا الله ليشبعوا رغباتهم أو يستجيبوا لمطالب الخلفاء والسلاطين - وكانوا خدما لهم).

وهذا ينتج من التنوع في نظرة الحقائق، والفهم الصحيح للسنة النبوية: وقد أصبح الشعور ضد تعدد الزوجات عقيدة اجتماعية أكثر منها أخلاقية. وجرى العرف بين مسلمي الهنود على أن يشترطوا شرطا في عقد الزواج من شأنه أن يمنع الزوج من استخدام حقه في الزواج الثاني أثناء استمرار الزواج الأول. وفي الوقت الحاضر يشيع الزواج بالواحدة (مونوجامي) بين 95 % من مسلمي الهنود. والأمل أن يعلن شيوخ المسلمين نظرياً، أن تعدد الزوجات - مثل الرق - يعارض أحكام الإسلام.

وأعقب هذه المناقشة صفحات عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعارض وكذب ما قيل عنه من أنه يرجع إلى إشباع رغبات النفس، ثم اتجه نحو الطلاق، واتبع نفس الأسس التي اتخذها في مناقشة موضوع تعدد الزوجات قال:

ص: 10

(ليس من شك في أن أحكام القرآن في معاملة النساء في الطلاق (وليس في الطلاق نفسه) رحيمة تتمشى مع العدالة).

ومع أن النبي (ص) كان يكره الطلاق، وجد أنه يتعذر القضاء على التقاليد نهائياً في ظروف المجتمع السائدة. وبالتدريج سمح للأزواج بأن يطلقوا زوجاتهن بشروط خاصة. وقد أبرزت الإصلاحيات المحمدية مرحلة جديدة في تاريخ التشريع في الشرق. فينبغي أن تقرأ نصوص القرآن في ضوء اتجاه المشرع. ولقد تجاهل أئمة المسلمين مبادئ كثيرة في العدل الإلهي. ومهما يكن من شئ فإن هذه القوانين أكثر عدالة ورفقا بالنساء من نصوص القانون الروماني الذي نشأ في رعاية الكنيسة (المسيحية).

وأخيرا يهاجم حجاب النساء أو البررة كما يسعى في الهند. وبدأ بأنها من بقايا التقاليد العتيقة التي من شأنها أن تعوق نهضة الأمم الإسلامية. مع أنه يقرر أن هذه البردة لها مزايا مختلفة عند المجتمعات غير المتحضرة، والبدوية.

(ولم يجئ في القرآن أي نص على أن الحجاب جز من أحكامه الجديدة. ولما ظهرت البروتستنتية، قضت على جميع القوانين الاجتماعية، والاختلافات في نظرة المشرعين إلى مركز المرأة. وقد عامل المسيح عليه السلام المرأة بكل رفق ورحمة، في حين أن أتباعه أخرجوها من نطاق العدالة. وهذا الاتجاه الذي شاع في الأزمنة الحديثة يرجع إلى فرسان الصحراء وقد انتقل إلى الغرب بواسطة الصليبيين والتروبادور، وأنتشر في عصر المتبربرين في أوربا، وفي القرون الأولى للإسلام. كانت المرأة تشغل مكانها اللائق - كما في المجتمع الحديث. ومع التحسينات التي أدخلت على المركز الاجتماعي للغربيات، فإن مركزهن الشرعي لا يزال منحطاً في أعظم المجتمعات تمديناً في العالم المسيحي).

إن المشرع الذي يعطى حقاً للمرأة، عذراء أو متزوجة، أما أو زوجة - في عصر ليس فيه مجتمع ولا دولة ولا نظام - قد حرمت منه في الأمم المتمدنة، هذا المشرع جدير بأسمى صفات الإنسانية. ولو أن محمداً (ص) لم يفعل أكثر من هذا لكان بلا جدال مصلح الإنسانية.

فإذا كانت هذه الخلاصة لم توضح شخصية أمير علي في مناقشته، فليس هذا مقصوداً.

وفي محاضرته السادسة يناقش التفاعل بين القانون والمجتمع، وبعد أن يشير إلى (النظرة

ص: 11

الديناميكية للقرآن) التي لا تتعارض مع فكرة التطور، يقرر أنه في مجتمع كالإسلام لا يزال استعادة التعاليم القديمة قائما. وقد نجح الإسلام إلى حد كبير - بأحكامه الواضحة - في خلق ما يشبه الإدارة أو الشعور الجمعي، بين مختلف الجماهير من معتنقيه.

ثم يقول إقبال ويقول:

(إني أعلم أن الإسلام يحتجون في النهاية بالمدارس العامة للشريعة الإسلامية؛ ولكن ما دامت الأشياء قد تغيرت، وأثر في العالم الإسلامي قوى جديدة، نشأت من تطور التفكير البشري في جميع الاتجاهات، فأنى لا أرى سبباً في أن يظل هذا الاتجاه ثابتا للآن).

ثم يرجع إلى موضوعنا ويترك مسألة الطلاق ليناقش مشكلة الميراث، مشيراً إلى قصيدة زيا جوك ألب، التي سبق نقلها:

. . إن المساواة في الطلاق والانفصال وفي الميراث، ليست ممكنة في الشريعة الإسلامية. ولست اعلم ما إذا كان للنهضة النسائية في تركيا، مطالب لا تناقش من غير تفسيرات خاصة وأسس ثابتة. وقد ارتبط القضاة من الهنود المحافظين بالأعمال المفتنة، والنتيجة أن الناس يتحركون، في حين يظل القانون ثابتاً!.

وبالتأمل في مطالب الشاعر التركي، فإنى أخشى أنه يجهل قانون الأسرة في الإسلام، وأنه لم يفهم الأهمية الاقتصادية لقانون الوراثة في القرآن. فما ينبغي أن تفهم من عدم المساواة هذه أن القانون يفرض تفوق الذكور على الإناث، فإن مثل هذا الفهم لا يتفق وروح الإسلام؛ فقد جاء في القرآن: ولهن مثل الذي عليهن. فليس نصيب البنت في الميراث على أساس التقليل من شأنها أو تحقير أمرها، ولكن باعتبار الفرص الاقتصادية التي أمامها، ومركزها الذي تشغله في الجماعة، وهي جزء منها.

ولا بد أن يلاحظ - كما قلت - أنه يمكن استخراج حكم عام من رأي إقبال وهو (أنه مع عدم المساواة الظاهرة في الميراث، فإن المشرع قد ضمن المساواة التي ينشدها الشاعر التركي). ولكن إذا حاولنا أن نثبت ذلك، لا نحصل من القرآن على نص يضع من شأن الإناث بجانب الذكور. وقد غض الطرف عن الحقيقة. وهي أن العبارة الآتية التي وضعت لهذا الغرض هي:(وللرجال عليهن درجة).

فإذا اتجهنا إلى الناحية العملية عند المجددين، وجدنا بعض اختلافات. فإني أشك فيما إذا

ص: 12

كان يوجد في العالم الإسلامي - خارج تركيا - أي طبقة محترمة من المجتمع، تتمتع نساؤها بما يشبه المساواة الاجتماعية التي ينشدها المجددون - إلا الطبقات المتوسطة المتفرنجة في مصر! حقاً إن تعليم البنات في كثير من الأقطار الإسلامية يخطو خطوات واسعة، وأنه يوجد اتجاه عام نحو التحرر الاجتماعي للنساء، ولكن حتى في مصر، لا يزال مجال الفرص الاقتصادية محدودا. ولا يزال النقاب محتفظا به قال مستر سميث. بل إن عدداً كبيرا من المثقفين، والمسلمين الأحرار والأثرياء الهنود، ينظرون إلى البرقع بعين الإجلال والإكبار، ويجعلون نساءهم وبناتهم يحتفظن به. وعلى ذلك فالتراجع من تعدد الزوجات إلى الحجاب يقف في مرحلته الأخيرة؛ عندما يصل إلى انفصال الجنسين

ولم يكن إقبال شاذا في هذه القاعدة العامة.

(وقد عارض هؤلاء الذين يعتقدون أن النساء قد يشاركن في العالم المغامر الجديد. وقد تصور الأوربيات بلا قلوب، يكرهن الأمومة والحب والحياة! أراد أن تظل النساء (طاهرات) في حماية وأمن، ولم يرد لهن نشاطاً ولا حرية. . يجب أن تظل المرأة كما كانت في صدر الإسلام محتجبة في عزلة، مطيعة للرجال. . . يجب أن تبقى وسيلة إلى غاية. ولقد جعل إقبال نساءه يحتفظن بالبردة، وأخرج للعالم رأيه في المرأة المثالية فاطمة الزهراء:

هي ربة الشرف الرفيع،

خير النساء وفخرهنه

والأمهات كما أرى

في النبل فاقت جمعهنه

وكأنها بفعالها حص

لت على سر النار والجنة

وببعلها تبدو لن

اخير النساء أبرهنه

كانا كفرد إن بدت

لهما على الأيام محنه

أيما تكون ترنمت

بكلام ربك مطمئنة

ومع ذلك فإن إقبال وجب عليه أخيراً أن يعترف بخطئه في أمر النساء. وقد ختم قصيدة صغيرة له بقوله.

لقد ظلت المرأة،

لذلك أعتذر لها

غير أن المشكلة معقدة

فلم يكن في الإمكان حلها

ص: 13

وليس من شك في أن منطق التاريخ سيغير تغيراً شاملا موقف المجتمع الإسلامي من هذه المشكلات. فقد تبين للمحافظين والأحرار على السواء، أن حرية الطلاق هي السبب في الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي. ومما يجدر ذكره أن المجددين - في معارضتهم للمدنيين الذين يرغبون في فصل التقاليد الاجتماعية عما يربطها بالأحكام الدينية - ظلوا يعترفون بالعلاقة الأساسية بين السلوك الاجتماعي والاعتقاد الديني، فأعلنوا أن المجتمع إذا أصلح، فينبغي أن يأتي الإصلاح من طريق ديني، أولا يكون مستقلا عن الدين أو معارضا له. وقد جهلوا الاختلافات بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الغربية في النشأة والأحوال الجغرافية والظروف الاقتصادية والاتجاهات الثقافية. وعندما تتطور مثل هذه التيارات الاجتماعية في الإسلام - بتأثير التطور المحلي، ستظهر للمشكلات حلول، ليس من الضروري أن تتفق مع الحلول في الغرب، بل ستؤسس على التجارب وحاجات المسلمين.

ترجمة

محمد محمد علي

ص: 14

‌محمد إقبال

شاعر الشرق والإسلام

للأستاذ مسعود الندوي

1389 -

1872 - 1357 - 1938

- 3 -

1908 -

1933

سحب من الدمار متراكمة تريد أن تمطر على طرابلس الغرب، وأخرى كسف من الغمام بدأت ترسل النجيع الأحمر مدراراً على سهول أدرنة، وفي الجو طائرات تريد أن تنقض على الدولة العلية - ودولة الخلافة - فتسلبها البقية الباقية من تراث أسلافها؛ وأجساد من شيوخ المسلمين وشبانهم مضرجة مطروحة على شارع من شوارع (كان يور) محمية بالجند ورجال الشرطة. . . مشهد مؤلم في طرابلس الغرب أهاب بالمجاهد العربي فهزته الحمية الإسلامية وجعل يهتف: الله أكبر، سيف الحق مسلول؛ ومأساة فاجعة في أدرنة أنطقت شاعر الكنانة وجعلته يرسل أنغامه درراً منظومة:

يا أخت اندلس عليك سلامٌ

هوت الخلافة عنك والإسلام

نزل الهلال عن السماء، وليتها

طُويت وعمَّ العالمين ظلام

وهذه المآسي المحزنة، وتلك الفجائع المؤلمة؛ وأخرى من مهازل الاستعمار في طول الهند وعرضها، جعلت صاحبنا شاعراً إسلاميا يتألم لك ما يصيب المسلمين من أذى أو مكروه، فتجود قريحته المطبوعة بما يربط جأش المجاهد ويعير الفقيه المنعزل في زاويته ويرشد المعتوه الأبله المنخدع بأضاليل الغرب وترهاته. وهو بين هذا وذاك مؤمن بالله لا يتسرب إلى نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان. فهو يقول:

إنك مسلم، فاجعل قلبك معموراً بالأماني والآمال واذكر دائماً وعد الذي قال:(إن الله لا يخلف الميعاد)

وتراه لا يجزع للنوائب والملمات:

(عشية الألم تسفر عن صباح العيد؛ هاهو ذا تبلج فجر الأمل من بين دياجير اليأس).

ص: 15

ولله قريحته حيث جاءت بهذا البيت النفيس:

هلم ننشر الأزهار=والرياحين على قبر الشهيد

الذي فعل المسفوح من دمه بأمتنا، فعل الغيث بالشجرة النابتة

وهذا المعنى - أي معنى الحياة بعد الممات والفرج بعد الشدة والنجاح بعد اليأس - مثله كمثل غرض تعاوره الرماة، فمنهم من هو مقصر دونه، ومنهم من هو واقع يمينا وشمالا، ولم أر أحدا أصاب المرمى كصاحبنا ممن تقدم وتأخر. ولكن من أين لي ذلك البيان الذي يضاهي بيان شاعرنا، شاعر الإسلام. وهذا عذري إلى من وجد الترجمة ركيكة. فمن أبياته الراقية في هذا المعنى:

ما لنا نحزن ونكتئب، إذا تتابعت النوائب على العثمانيين فإن الفجر لا ينبثق إلا بعد ما تهراق دماء مئات الألوف من الكواكب.

رجع محمد إقبال من أوربا، والهند الإسلامية تكاد تحس بتقهقرها في ميادين العمل والكفاح؛ ولزعمائنا المتفرنجين في دينهم وأخلاقهم والرجعيين في سياستهم، سلطان عليهم، فأتخذ من شعره البليغ المعجز آلة لإيقاظ النائمين من سباتهم وتثقيف الشبان العاملين وصرفهم عن الاغترار بمظاهر التمدن الحديث، ووسيلة لتربية ملكات المتعلمين النفسية والخلقية وتطهير نفوسهم من أدران الإقليمية واللون والنسب. وبدأ يقرض القصائد ويطبع الدواوين حتى أنبتت بذرته وأثمرت وآنت أكلها. وما هذا النهضة التي نشاهد اليوم آثارها إلا وميض من بروق إقبال وصنيعه من صنائعه:

صنائع فاق صانعها، ففاقت

وغرسٌ طاب غارسُه فطابا

وكان من حسن حظ الشاعر الحكيم - أجزل الله مثوبته في الدارين - أن قد شاهد هذا الغرس ينمو ويكبر أمام عينيه إلى أن أصبح شجرة باسقة الفروع، وهو حي يرزق.

في الطور الثالث من حياته الشعرية جاش صدر إقبال بشعر قومي بليغ، ممتلئ حكمة وقوة، نبه النائمين من غفلتهم القاضية عليهم وأرشدهم إلى الصراط السوي في حياتهم السياسية. ومن خصائص هذا الشعر أن صاحبه يفرغه في قالب من التحدي بليغ كأني به يلهمه إلهاما. أما معانيه السامية فمما لا يستراب فيه أنها لا تتسنى إلا لمن فتح الله قلبه لأسرار الطبيعية، وحوادث المستقبل. وأحسن كلمة له في هذا الطور (منارة الساري) أو

ص: 16

(دليل الطريق)(خضرراه) التي بين فيها الشاعر الحكيم بلسان الخضر مشاكل السياسة الأوربية وأسرارها، وحذر المسلمين وأهل الشرق من الوقوع في شركها، وأنار لهم فيها الطريق السوي الضامن لسعادتي الدين والدنيا، إلى غيرهما مما جاء في ثناياها من دور الحكم وغررها. وهاك ترجمة بعض أبيات منها. قال - برد الله مضجعه - يكشف النقاب عن وجه الجمهورية الغربية الدميم:

(ما هذه الجمهورية الغربية إلا تلك القيثارة العتيقة التي لا يظهر من أوتارها غير أصوات الهرقلية والكسروية؛ وهذه الملابس الجمهورية المزركشة يمرح فيها شيطان الاستبداد ويختال، وأنت تزعم أن عروس الحرية الجميلة تمس في برديها؛

وهذه مجالس التشريع والإصلاح ولجان الحقوق كلها أدوية حلوة المذاق، اخترعها الطب الإفرنجي للتنويم والتخدير) وسقى الله تلك القريحة المبدعة التي أرادت أن تصور حال العالم الإسلامي بعد الحرب العظمى فأحسنت وأبدعت:

(قد ذهب أبناء التثليث بتراث إبراهيم وأصبحت تربة الحجاز أساسا لتبيان الكنائس الأوربية؛

(وأضحت دماء المسلمين رخيصة كماء النهر الجاري؛ وما بكاؤك لهذه الحال المؤلمة إلا لأنك لا تعرف حكمة الله في عباده)

وفي الختام يصف دواء ناجعا لجميع أدواء الأمة:

(لا يمكن تخليص الشرق من براثن الاستعمار ونجاته منم سلطته إلا إذا اتحد المسلمون، واجتمعت كلمتهم، ولكن أهل آسيا لا يزالون يجهلون هذه الحكمة البالغة. وحذار أن، تبقى متلهياً بالنظريات السياسية الباطلة، وادخل في حمى الدين من جديد، فإن المملكة إنما هي ثمرة من ثمرات الدفاع عن الحرم.

فليتحد المسلمون وليكونوا كتلة واحدة متضامنة للذود عن بيت الله الحرام من شاطئ النيل إلى أرض كاشغر.

والذي يفرق في ذلك بين اللون والدم، سوف ينعدم وجوده من وجه الأرض.

سواء في ذلك التركي الأبي والعربي النبيل.

وإن آثرت أيها المسلم عنصرك وسلامتك على دينك، فلن يبقى لك عين في هذه الدنيا ولا

ص: 17

أثر).

وجدير بالاستماع والإدكار، رأي صاحبنا في الحضارة الجديدة من هذه الكلمة، لأنه ممن قتل بحثا ونخل علومهم نخلا. قال (لله دره):

(تعجبكم هذه الحضارة الحديثة ويبهر عيونكم جمالها وما هي إلا كفصوص موهتها يد الصناع وجلتها فاختطف الأبصار لمعانها الكاذب.

والحكمة التي يفتخر بها حكماء الغرب ويتشدقون ببركتها ها هي قد عادت بأيديهم سيوفا تقطر دماً.

أترون أن هذه الحضارة يكتب لها الخلود بالحيل التي يدبرها لها ساستها؟ لعمر الحق، أن كل حضارة أسس بنيانها على التنافس في الأموال والتكالب على الشهوات سوف تنهار ويتبدد شمالها).

وفي هذا الدور من شعره كلمات أخرى مأثورة مشهورة في (طرابلس الغرب) و (فاطمة الشهيدة) و (الشكوى إلى الله) وغيرهما القصائد المنثورة في ديوانه (نداء الرحيل)(بانك درا) لا يتسع المقام للاقتطاف من أزهارها.

بلغ الشاعر في المرحلة الثالثة من حياته الشعرية قمة مجده في الأدب، رحل من محل قلوب المتأدبين يتنافس فيه المتنافسون، وذلك أن شعره في هذه المرحلة كان مرآة لعواطف الأمة وأمانيها، وصورة صادقة لنهضاتها السياسية والدبية، فوجدت الأمة في زفراته وتأوهاته، صدى لآلامها المتتابعة والنوائب المتوالية المنصبة على رؤوسها، وفي دعوته وعظاته، ضالتها المنشودة وأمنيتها. وهو بعد كل ذلك شاعر يهز مشاعر النفس، وخطيب يذكى في أعماق الفؤاد جذوة العمل والكفاح، وحكيم يقيهم مهالك الغرب وخزعبلاته، ويرشدهم إلى طريق الخير والسعادة.

قد أدى شاعرنا مهمة كبيرة من حياته في هذه المرحلة الشعرية، حيث أبلغ الأمة دعوته أو رسالته؛ لكنه ما وهبه اله هذا البيان والحكمة ليكون شاعر شعب دون شعب، وإنما أراد ربك أن يكون شاعر الأمة الإسلامية جمعاء، يدعوها إلى التكاتف والتعاضد، ويريهم سبل الحق والسلام، وينير لهم المحجة البيضاء في ظلمات المادية الحالكة. أما شعره في الأردية فما كان ليخترق حدود الهند، فاختار اللغة الفارسية واتخذها وسيلة لتعميم دعوته أولا،

ص: 18

وتثقيف المتأدبين من أهل الهند ثانياً. وأول شعر نشره باللغة الفارسية مجموعة (أسرار خودي)(أسرار فلسفة الذاتية التي يؤمن بها (إقبال) ويدعو الأمة إليها دائماً). وهذه المجموعة من شعره تحتوي على أسرار وحكم مفرغة في قالب الأدب. تبين السبيل التي يمكن بها من ترقية ملكاته النفسية حتى تخضع الطبيعة لإرادته، وينزل القدر عند مشيئته. وهذه هي فلسفة (خودي)(تربية الملكات الذاتية) التي جعلها الشاعر قطبا تدور حوله جملة كبيرة من شعره البليغ في هذه المجموعة وغيره من الدواوين. فإنه اهتم به (خودي) كثيراً ورأى أنه لا يكرم في الدنيا إلا الذي يكرم نفسه، ويرى للعالمين ما في نفسه من إباء وسموهة وعلو فكرة. ويكفيني مؤونة التطويل في شرح الذاتية (خودي) ما بينه الشاعر من ثمراتها في بيت له:

اشحذ قوتك الذاتية (خودي) وأزردها في مكانة من القوة والعلو حيث يسأل الله العبد عن مرضاته قبل أن يجعل لشيء أجلا.

لا يريد الشاعر أن الله تعالى يسأل العبد عن مرضاته في الحقيقة؛ وإنما جعل ابتغاء الله لمرضات عبده مثلا في تربية القوة الذاتية. وإنما يريد صاحبنا من المسلم أن يربى قواه النفسية تربية تخضع لإرادته الأرض وما فيها من القوى المادية والأدبية. وليس معنى ذلك أن يختار المسلم في ترقية مواهبه سبيلا غير سبيل الكتاب والسنة. وبما أن فلسفة الذاتية (خودي) من أهم أجزاء دعوة حكيم الشرق، عنى بها أهل الشرق والغرب، وترجم الدكتور نكلسن، أستاذ صاحبنا، ديوان أسرار (خودي) بالإنجليزية. وكذلك عنى بها جميع من أهل الغرب في مسلمي الهند وقادة أفكارهم. وهاك في ما يلي نبذة من أقوال الدكتور (تائيتس) في كتابه الإسلام الهندي، أكثر المعاصرين نفوذا وأبلغهم تأثيراً في إسلام الهنود، هو الشاعر الفلسفي السر محمد إقبال الذي أبلغ أبناء دينه رسالة كان لها أثر في نفوسهم، فإنه بين لهم إمكان التجديد الفردي وترقية القسم العالي من الشخصية بتقوية الإرادة وبتأدية اسمي ما يمكن للمرء أداؤه في هذه الحياة الدنيا حسب ما أمر به الله ورسوله.

وكذلك جاء في كتاب دين الإسلام للعالم النزيه الشهير الدكتور آرنكد، وهو من أعرف الناس بمسلمي الهند ورجالهم ما تعريبه، وبذلك يعرف القارئ ما في شعره من فلسفة:

ووجدت الحركة الجديدة في الهند لسانا فصيحا في شعر السر إقبال، أحد من درسوا الفلسفة

ص: 19

الغربية بجد واهتمام وأحاطوا بها، ولقد أثر في الناشئة تأثيرا بليغاً، ولكن شعره ما استطاع أن يكون بطبيعة الحال أساسا لحركة دينية عامة منظمة للصبغة الفلسفية التي اصطبغت بها دعوته، ولعل ذلك لم يكن قط من إرادة الشاعر ولا مرماه.

(يتبع)

مسعود الندوي

ص: 20

‌الأزهر والإصلاح

للأستاذ محمد السيد أحمد الشال

- 2 -

تكلمت في المقال السابق عما أراه يحاك للأزهر مما ظاهره أنه توسع في التعليم وتشعب في الثقافة وإني لا أعتب على القائمين بشئون التعليم أن يفكروا مثل هذه التفكير ويتجهوا مثل هذا الاتجاه، فلهم في هذا بعض العذر أمام وقوف الأزهر وعدم مسايرته للتطورات الحديثة في الدراسات وطرقها، وإنما أعتب العتب كله على رجال الأزهر أنهم لم يرسموا لأنفسهم نهجا من الإصلاح يسيرون عليه. ولا يكفي أن يفكروا فيه في غدوهم، ورواحهم وأن يكون شغلهم الشاغل كما ذكر الأستاذ دنيا ما دام يظهر لهذا التفكير وهذا الشغل أثر ينم عليه.

ولقد بدأ الأستاذ المراغي عليه رحمة الله الإصلاح ورسم له من الطرق ما أعتقد أنه ينهض بالأزهر ويجعله يؤدى رسالته؛ ثم مرت مدة من الزمن وقف فيها رجال الأزهر على الكثير من المآخذ على هذه النظم مما تسمع حديثه في الكثير من مجالسهم وترى آثار التبرم والسخط بادية على الكثير من رجال. ولكن هذه الأحاديث لا تعدو أن تكون تفريجا عما في النفوس ثم لا يكون لها من الأثر ما يتجاوز هذه المجالس. وقد يكون هناك فريق إذا ما ذكر أمامه الإصلاح أراح نفسه من حديثه بقوله أنه لم يمض على هذه النظم من الوقت ما يكفي للحكم عليها. وإذا استعرضنا قانون الأزهر كما قدمه المرحوم الأستاذ المراغي وصدر به المرسوم الأخير للإصلاح ونظرنا ما وضعه من النظم في مراحل التعليم المختلفة نجده بصفة إجمالية قد أثقل طالب الابتدائي بالعلوم الرياضية بعد أن منعها من القسم الثانوي. وفي رأيي أنه لو بقيت الرياضة موزعة بين الابتدائي والثانوي كما كان الحال قبل صدور المرسوم الأخير لكان أفضل وأجدى على الطالب وأنفع له. وأما توزيع باقي المواد سواء منها المواد الأزهرية أو المواد الاجتماعية في القسمين فهو توزيع حسن يتناسب مع مقدرة الطالب وكفايته في المرحلتين.

بقى علينا أن ننظر إلى توزيع المواد في الكليات المختلفة، فأقول أن هذا التوزيع قد راعى فيه واضع القانون جهة الاختصاص فقط وأهمل ناحية أخرى هامة وهي شدة الصلة وقوة

ص: 21

الارتباط بين المواد الأزهرية بحيث لا ينفعك البحث في إحدى من أن يجر الباحث إلى أن يتعرض إلى قضايا مختلفة من المواد الأخرى لا غنى له عن استيعابها حتى يمكن الباحث ملما إلماما تاما بما يعترضه من قضايا المواد الأخرى لا يمكنه أن يتم بحثه على الوجه الذي يتطلبه التحقيق العلمي. والأمثلة على هذا كثيرة يدركها جميع رجال الأزهر. فدارس التفسير لا يمكنه أن يستغني عن دراسة الأصول فضلا عن دراسة مواد اللغة. ودارس الأصول لا يستغني عن دراسة المواد اللغوية أيضا. وطالب كلية الشعرية وأصول الدين لا يكفيه في دراسة اللغة ما حصله في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ونحن نعلم أن الدراسة فيهما تكاد تكون تلقينية. أضف إلى ذلك تركه في هذه المواد في مرحلة الكلية، مما يجعله ينسى الكثير من قضاياها. والدارس في كليتي اللغة وأصول الدين لا يستغني عن دراسة الأصول بل هو في أمس الحاجة إليه حينما يدرس شيئاً من التفسير والحديث. ولا يكفي ما هو مقرر فيهما من المذكرات الموضوعة في هذه المادة فهي لا تعدو سرد القضايا دون التعرض لتفهمها وعرضها عرضا يتذوق منه الطالب جمال هذه المادة ويدرك حاجته إليها في الكثير من المواد.

ولا يليق بطالب كلية اللغة والشريعة أن يتخرج وهو لا يعلم شيئاً عن أصول الأديان والعقائد مكتفيا بما عرفه من دراسة القليل من علم التوحيد في كتبه الموروثة في المرحلتين السابقتين وهي كتب لا تشفي غلة ولا تبل صدى.

هذا من ناحية القصور العام في توزيع المواد في الكليات؛ وإذا انتقلنا إلى الدراسة في التخصصات ونظرنا إلى المواد المقررة في تخصص التدريس مثلا عجبنا كيف يرضى رجال الأزهر لناشئته أن يضيع من سني حياتهم سنتان في دراسة طرف من علم النفس والتربية وتاريخها وبعض المواد الأخرى مما يمكن أن يستوعبه الطالب بأقل مجهود أو بدونه في سني الدراسة في الكليات، وكان الأولى أن ينظم هذا التخصص وأن يزاد في سني دراسته سنة ثالثة وأن يقرر فيه دراسة بعض المواد الأساسية في الكليات المختلفة دراسة تمتاز عن دراسة الكليات بسعة البحث والتعمق فيه وتنوع طرقه مما يعد الطالب إعداداً كاملا؛ وأظن في وجود هذا التخصص على هذا النحو استغناء عن تخصص المادة.

وهكذا لا يعدم الباحث في شأن التخصصات الأخرى جميعها من أن يرى بعض النقص

ص: 22

الذي يستوجب تداركه.

وإني إن اذكر ذلك لا أدعو إلى إدماج الكليات والرجوع بالأزهر إلى نظامه القديم، ولكني أقول أن اللازم أن يراعي في تقسيم الكليات صلة المواد بعضها ببعض فوق ما هو مراعي من جهة الاختصاص، فلا يقطع بين الطالب وين جميع المواد الأساسية في كلية أخرى؛ بل يدرس في كل كلية ما لا يستغني عنه عالم أزهري رسالته الأولى الدعوة إلى هذا الدين والدفاع عنه. فيعمم في جميع الكليات دراسة أصول الأديان جميعها وما طرأ على فروعها المختلفة من تغيير أو انحراف أو جمود وأسباب ذلك، وحال المسلمين الآن والوسائل الناجعة لتوحيد كلمتهم ورجوعهم إلى دينهم. كما يدرس في كل كلية من القضايا الأساسية في كل مادة أصلية في كلية أخرى تمس الحاجة إليه دراسة توسع وبحث واستيعاب لا دراسة سرد قضايا وتعداد أحكام كما هو الحال في دراسة الأصول في كليتي اللغة وأصول الدين. وتدرس جميع المقررات في الكليات ولا يكتفي بدراسة البعض والامتحان فيه كما هو الحال الآن. بل تقسم المادة إلى قسمين قسم يقوم بدراسته أستاذ المادة يتناسب مع الزمن المقرر لها بحيث يلتزم الأستاذ بالانتهاء منه، وقسم يترك للطالب تحصيله واستيعابه بحيث يكون الامتحان في جميع المادة. وهذا العمل فوق فائدته التامة للطالب من ناحية دراسته لكل المادة له فائدة أهم وهي تعويده الاعتماد على نفسه في دراسة ما يترك له مما يكون له شخصية مستقلة لا تركن في كل ما يعن لها إلى السؤال والاستفهام. بل تركن إلى البحث والتنقيب.

ورأيي أيضاً أن ينظر إلى الكتب المقررة نظرة فاحصة ليختار لكل مادة من الكتب ما تكون بعيدة عن الحشد والتعقيد والاستطراد وسرد المسائل التي لا يستفيد منها الطالب إلا تضييع الوقت وتعويده التشكك في كل ما يعن له من بحث. وأى فائدة تعود على الطالب الذي يريد دراسة مادة من المواد من صرف جل وقته أو كله في تصحيح عبارة أو الوقوف على خطأ تعريف أو معرفة الأولى إلى غير ذلك مما يضيع عليه الكثير من معرفة قضايا المادة وحقيقتها. ولو كان هذا بقدر حتى ينبه الذهن إلى تجنب الخطأ لكان حسناً، أما أن يكون هذا سبباً في صرف كل المجهود إليه فهذا ما لا يقره منطق.

ونحن الآن نرى تطلع المسلمين إلى الأزهر وحاجتهم إلى علمائه يبصرونهم بدينهم

ص: 23

ويهدونهم إلى شريعتهم. وليس كل المسلمين ولا غالبيتهم ممن يعرفون العربية أو يفهمونها. فالأزهر الآن في أشد الحاجة إلى دراسة اللغات الأجنبية في جميع سني الدراسة حتى يمكنه أن يؤدى رسالته على الوجه الأكمل سواء في المحيط الإسلامي أو في المحيط العالمي. فالعالم الآن على متفرق الطريق يتطلع إلى خير النظم التي تكفل الاستقرار والسلامة لجميع الناس، ويتخبط المفكرون منهم في بيداء التفكير والبحث علهم يقفون على طريق يوصل إلى الغاية؛ وليس هناك من طريق موصل إلا طريق الإسلام.

وأني للعالم أن يهتدي إلى ذلك إذا لم يقم رجال الأزهر بنشر دعوته وتبيين حقيقته ودحض المفتريات التي يذيعها المغرضون أو الجاهلون عن الدين مما ينشر كل يوم باللغات المختلفة ولا نعلم من أمره شيئاً.

وفي السكوت على نشر مثل هذه المفتريات وعدم تجلية حقيقة هذا الدين للعالم تقصير عن أداء رسالة الإسلام. ولقد اتخذ كثير من كتاب الغرب حال المسلمين وما هم عليه من جهل بدينهم وانحراف عنه وتأخرهم وانحطاطهم حجة يقوون بها مفترياتهم ويؤيدون بها دعاواهم في أن هذا الدين لا يصلح لتنظيم المجتمعات ولا لإسعاد الجماعة.

هذه ناحية أخرى وهي أنه يوجد بين أضابير المكتبة الأزهرية كثير من الرسائل في المواد المختلفة تقدم بها إما طلاب منتهون لنيل الشهادات النهائية، وإما أجلة العلماء للحصول على عضوية هيئة كبار العلماء. ولقد عفى على هذه السائل الزمن وعلاها كثير من الغبار ولا يسمع أحد بها ولا يطلع أحد على ما فيها؛ ولم لا تتخذ هذه الرسائل نواة لإصلاح الكتاب؟ وهل هذه الرسائل لا يرتفع قدرها إلى قدر ما كتب منذ ثمانية قرون أو يزيد على طرق من البحث وأساليب من التفكير تتناسب والعصور التي كتبت فيها.

وإذا لم يكن لهذه الرسائل من التقدير ما يجعلها أرفع شأناً مما كتب في تلك العصور فلم قدرت من اللجان التي نظرتها تقديراً استحق صاحبها بسببه أن ينال شهادة أو يظفر بشرف العضوية؟

ولا أدري سبباً لإهمال هذه الرسائل اللهم ألا أن تكون هناك عقيدة لتقديس الآثار فظن من تمسك بها أن الخير كل الخير في التعليق بها، وأن الشر كل الشر في الخروج عليها، وأتباع ماجد من البحوث والأفكار. ولعل في الرجوع إلى هذه الرسائل وبعثها وتقدير ما

ص: 24

يصلح منها للدراسة تشجيعا لمن يريد البحث وحثا له على بذل كل في وسعه لوضع ما يقدر عليه فيما يرزفية فيكون في هذا العمل تشجيع للتأليف والمؤلفين وتوسعه للبحث وإنهاض للباحثين فيتسع مجال التفكير ويكثر الإنتاج الأزهري كما كثر الإنتاج الجامعي.

هذا قليل من كثير مما يتعلق بالبرامج العامة للدراسة وما يتعلق بالكتاب.

أما إصلاح الطالب فيكون بإصلاح نظم الامتحانات والرجوع به إلى رفع درجة النجاح إلى 60 % وعدم السماح للطالب بدخول الدور الثاني إذا قصر في أكثر من مادتين. وفي المادتين لا يسمح له بالامتحان إذا لم يحصل على نصف النهاية الصغرى لكل مادة. وأخذه بالحزم والشدة في جميع التشكيلات ويكون هذا بالعقوبات الرادعة النافذة.

وأما إصلاح المدرس ففي إصلاح البرامج ونظم الدراسة والكتاب ما يكفي لإصلاحه. وهناك ناحية كان لها شأنها في العصور الخالية واستمرت إلى عهد قريب وهي الصلة العلمية بين الطالب وأستاذه حتى كان الطالب يفخر بأنه تلقى العلم على فلان. وكان لكل أستاذ من الصبغة العلمية والفكرية ما يظهر أثره في مدرسته وتلاميذه. وخير شاهد على ذلك المدرسة القريبة العهد بنا وهي مدرسة الأستاذ جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الإمام الشيخ محمد عبده. ولقد امتازت مدرسة الشيخ محمد عبده بما امتاز به أستاذها من استقلال الفكر وتعمق البحث والتحرير من الجمود وعدم التقيد بالموروث. فإذا أمكننا أن نحيي هذه المدارس فأحياؤها لا يكون إلا على يد هيئة كبار العلماء بتكليف رجالها بإلقاء دروس للعلماء الناشئين، ولا يقل ما يلقيه كل منهم عن درسين أو ثلاث في الأسبوع يتخذ كل منهم مادة من المواد يدرسها دراسة توسع وبحث دون تقيد ببرامج أو خضوع لزمن، ويكون له في دراستها طابع خاص يمتاز به.

وفي هذا العمل من الفوائد ما لا يخفى على من أدرك الأستاذ الإمام وساعده الحظ بالجلوس في مجالسه والاستماع إلى دروسه.

ولا زالت الصلة العلمية بين الأستاذ وطلابه المنتهين موجودة في النظم الجامعية الغربية. وكانت هذه الصلة سببا في المحافظة على الطابع العلمي والجامعي وهذه بضاعتنا نبت زرعها وترعرع بين جدران الأزهر واستمر حقبا طويلة ثم تركها الأزهريون ففقدوا كثيراً من طابعهم الجامعي! فهلا رجعنا إليها حتى نصل ما انقطع ونجني ما درس.

ص: 25

ولا يكفي ما يقال من أن كل عضو من أعضاء الهيئة الموقرة يقدم بحثا في كل عام، وأي أثر ظاهر لهذه البحوث؟ وهل سمع بها أحد أو أطلع عليها أحد أو استفاد منها أحد؟ وهل هذه البحوث أصلحت كتابا أو هذبت مادة أو تعرضت لما يعن للعالم من مشاكل اقتصادية أو اجتماعية أو كشفت ما غشاه من إلحاد أو هدته إلى الخروج من حيرته.

وهل يكفى أن يقال إن تراثنا التشريعي غني بما حواه من أفكار القدامى وأبحاث السلف. وإذا كان غنياً فلم لم يتخذ منه الباحثون أداة للإصلاح التشريعي العام؟ ولم لم يعملوا على عقد الصلة بين هذه الأبحاث وبين ما يعرض للناس من نظم مالية واقتصادية وصلات عمرانية واجتماعية وتطورات أخلاقية؟

وهل يكفي أن نتغنى بأمجاد السلف ونأسف على أيامهم، ونقف حيارى لا نهتدي إلى سبيل والعالم بتقدم ويجد فيه من الأحداث ما يقتضي تطور التشريع وتغير الحكم؟ ونكتفي بأن نقول إن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان. وأي صلاحية تبقى له إذا تركناه كما هو يسرد قضايا قد ذهب زمنها وبعدد أحكاماً قد ولى رجالها وتختلف فيما بيننا هل باب الاجتهاد مفتوح أم ذهب زمنه ورجاله؟ لا، لا يليق بمن يبغي البقاء أن يقف والعالم يتطور. ولو بقى على حالة أخشى أن يذهب به إعصار أو يتخلف عن الركب.

ولعلي بهذا أكون أديت بعض ما يجب على نحو الأزهر الذي أعتز بالانتساب إليه وحققت بعض دعوة الأستاذ دينا. هدانا الله وإياه إلى معرفة طرق الإصلاح والأخذ بأسباب النجاح

محمد سيد أحمد الشال

مندوب الأزهر لتدريس الشريعة بكلية المقاصد الإسلامية

بيروت - لبنان

ص: 26

‌القبائل والقراءات

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

تمهيد:

لكل قبيلة أو جهة عادة لغوية تميزها عن غيرها وهي ما تعارف الناس الآن على تسميتها لهجة: تتحكم فيها عند نطقها بالألفاظ وأدائها للكلمات ويلحظها من استمع إلى المتكلمين بها فلا يكاد يخطئ في إلحاق المتحدث بقبيلته أو جهته إذا أوتي شيئا من الدراية بتلك اللهجات، وهذه العادة كانت تندرج قديما تحت كلمة اللغة حيث أطلقوها في الصدر الأول على عدة معان.

1 -

على الخلاف بين القبائل في إعرابها الكلمات وبنائها وصيغها؛ حكى علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يقول لأبي عمرو: خبرني عما وضعت مما سميته عربية أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال لا. فقلت كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ قال أعمل على الأكثر وأسمى ما خالفني لغات.

2 -

على تباين الألفاظ التي تترادف على معنى واحد. وذلك مثل ما يرد في معاجم اللغة كقولها: الزمهرير القمر بلغه هذيل.

3 -

على طريقة أداء الكلمات وإعطائها نغمة أو غنة تميزها عن غيرها من القبائل كالإمالة والتسهيل والتفخيم والترقيق. وذلك مثل ما يروى في كتب اللغة والأدب من قولها: وليست الإمالة لغة جميع العرب، وأهل الحجاز لا يميلون، وأشدهم حرصا عليها بنو تميم.

وفي الحديث عن صفوان بن سالم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يحيى قيل له يا رسول الله تميل وليس هو لغة قريش؟ فقال هو لغة الأخوال بني سعد.

ويروى أن أبا عمرو كان أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغربيها، وأن سيبويه أخذ النحو عن الخليل ويونس وعيسى ابن عمر وغيرهم وأخذ اللغات عن أبي الخطاب الأخفش الكبير.

أما اللغة باصطلاحنا الحديث فقد كانت تسمى اللسان. والقرآن الكريم لم يستعمل غيرها عند إرادتها.

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) سورة إبراهيم. (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي

ص: 27

وهذا لسان عربي مبين) سورة النحل.

(التكون من المنذرين بلسان عربي مبين) سورة الشعراء.

(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم). سورة الروم.

(وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) سورة الأحقاف.

وقد سمى ابن منظور كتابه (لسان العرب) وسميت المدرسة التي كان يرأسها رفاعة بك الطهاوي (مدرسة الألسن).

هذا وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يقرءوا القرآن بلهجات العرب.

وتلك الإباحة تفهم من الحديث الذي رواه صفوان بن سالم ويرشد إليها الحديث المرفوع (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها).

وقد جاءت تلك الإباحة لأنها في الواقع لا تؤثر في المعنى ولا تخل بنظم الآية، وهذا النطق من القبائل مترتب على عادتهم اللغوية وطرية أدائهم للألفاظ؛ فالقبيلة التي اعتادت ألسنتها على الإمالة يكون العسير عليها أن تنطق بالفتح، التي تسهل الهمزة يكون من الشاق عليها تكلف النبر.

فليس من الممكن إذن التضييق على القبائل العربية يجعلها على نهج واحد وتسلك طريقا يعينها مخالفة بذلك عادتها اللغوية أو لهجتها؛ ودين الله يسر لا عسر؛ إلا أن اللهجات المستكرهة التي فيها إبدال حرف مكان حرف أو زيادته كطمطمانية حمير وكشكشة أسد وعنعنة تميم واستنطاء هذيل وسعد بن بكر والأزد والأنصار وغير ذلك من مستكره اللهجات تعتبر القراءة بها شاذة من الناحية الشرعية حيث لا تصح بها الصلاة والعبادات؛ أما من الناحية اللغوية والأدبية فلا خلاف في أنها منهل مورود لطلاب اللغة وآدابها.

ويرجع الخطر من الناحية الشرعية على اللهجات المستكرهة إلى ما اشترطه أئمة الشريعة في القراءة الصحيحة من أنها يجب ألا تخرج عن كونها.

1 -

صحيحة السند.

2 -

ووافقت العربية ولو بوجه.

3 -

ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا. فإذا جمعت هذه الشروط تعد واجبة القبول سواء كانت من القراء السبعة المشهورين أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين.

ص: 28

والذين انتهى إليهم من الصحابة سند القراء هم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس والحسين بن علي وعبد الله بن عياش المخزومي وعبد الله بن السائب المخزومي وهم قرشيون، وعبد الله ابن مسعود من هذيل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وهم من الأنصار، وأبو موسى الأشعري من الأشعرين وهي قبيلة يمنية، وأبو هريرة من الأزد، ثم صارت مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق مقراً لشيوخ القراءات في صدر الإسلام.

فبمكة عبد الله بن كثير من القراء السبعة، ومحمد بم محيصين من الأربعة عشر؛ وبالمدينة نافع من السبعة، وأبو جعفر من العشرة؛ وبالكوفة عاصم بن أبي النجود، وحمزة، والكسائي من السبعة، وخلف من العشرة، وسليمان الأعش من الأربعة عشر وبالبصرة، أبو عمرو من السبعة، ويعقوب من العشرة، والحسن البصري واليزيدي من الأربعة عشر؛ وبدمشق عبد الله بن عامر من السبعة.

وقد اشتهر غير هؤلاء جماعة بالأمصار الخمسة السابقة كحميد بن قيس بمكة، وشيبة بن نصاح بالمدينة، ويحيى بن وثاب بالكوفة، وعبد الله بن أبي اسحق الحضري بالبصرة، وعطية ابن قيس الكلابي بالشام. إلا أن رواية قراءاتهم كاملة لم تدون كما دونت قراءات الأربعة عشر ولا يعرف عنهم إلا ما تناثر في كتب التفسير والتراجم؛ وما كان لهم من استاذية على بعض القراء المشهورين حيث اختاروا من قراءاتهم لأنفسهم ما وافق شروط الاختيار.

وأول من تتبع وجوه القراءات وتقصى الأنواع الشاذة فيها وبحث عن أسانيدها من صحيح ومصنوع هو هرون بن موسى القارئ المتوفى سنة 170هـ إلا أنه لم يؤلف باستقصائه كتابا. ثم جاء أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ فكان أول من استقصاها في كتاب، يقال إنه أحصى منها خمساً وعشرين قراءة مع السبع المشورة.

أما أول من اختار السبعة المشهورين في عهدنا هذا فهو أبو بكر بن مجاهد وذلك في أواخر القرن الثالث الهجري ومفتتح الرابع.

ولم يكن الكسائي معدوداً من السبعة قبل عهد المأمون؛ وقد كان من الأئمة قبل ابن مجاهد من أخرج حمزة والكسائي من السبعة وأدخل بدلا منهما أبا جعفر ويعقوب؛ فلما جاء الإمام الشاطبي اختار من اختارهم ابن مجاهد وألف منهم منظومته حرز الأماني المسماة الشاطبية

ص: 29

فاقتصر عليهم المتأخرين تبعاً له اختصاراً واختيارا.

وقديماً كانت ثقافة القراء واسعة فلم ينصب أحد نفسه للإقراء بعد استنباط النحو ما لم يكن عالما بالعربية وأوجه الخلاف فيها، كما أنهم لم يعدوا المرء عالماً بالعربية ما لم يكن ملماً بالكثير من القراءات.

وفي بدء الإسلام لم تكن هناك حاجة إلى علم القارئ بالنحو الذي لم تستوف أصوله بعد وإن كان له مع ذلك إلماماً واسع بمأثور العرب في حين أن اللسان العربي صحيح والسليفة لم تفسدها العجمة. فإذا سرنا مع الزمن وجدنا كل قارئ إماما في العربية بجانب إمامته في القراءات.

فهذا أبو عمرو بن العلاء كان حجة في كلام العرب ولغاتها وغريبها.

وهذا الكسائي جمع إلى إمامته في القراءة إمامة الكوفيين في النحو.

وهذا ابن مالك صاحب الألفية صارت مرجع كل عالم في النحو كان حجة في القراءات وإماما. قدم الشام من الأندلس وصار الشيخ لإقراء بالمدرسة العادلية بدمشق وألف قصيدة دالية في القراءات السبع؛ أما الإمام الشاطبي صاحب المنظومة المشهورة في القراءات فقد كان أعلم الناس بالعربية وعلومها.

هذه نبذة مختصرة رأيت الإلمام بها قبل أن أعرض للقبائل ولهجاتها وأثرها في القراءات.

قبيلة تميم:

هي من أشهر القبائل التي كان للهجاتها أثر في القراءات والعربية أقامت قديماً بتهامة ثم نزحت في أواسط القرن الثاني قبل الهجرة نحو العراق واستقرت في باديته وما يليها جنوباً آخذة جزءاً من نجد، وتجاورها من ناحية الغرب قبائل أسد شمالا وقيس جنوباً، وتجاورها من ناحية الغرب بنو حنيفة من بكر بن وائل وعبد القيس من جديلة، وتفصل بين بعض بطونها قبائل من بكر ابن وائل. وقد توزع كثير من التمميمين في الفتوح الإسلامية وشملت البصرة والكوفة في مبدأ إنشائها عدداً كبيراً منها.

ديانتها:

كانت الوثنية شاملة لجزيرة العرب قبل الإسلام، وقد اتخذت القبائل بيوتاً للعبادة وأصناما

ص: 30

خاصة بها بجانب احترامها للكعبة. والأصنام المشهورة اللات والعزى ومناة، فما كانت تتفرد به تميم صنم اسمه تيم ولهذا قيل لتميم كلها في الجاهلية عبد تميم؛ وكان لها بيت للعبادة اسمه (رضاء) ولها يقول المستوغر بن ربيعة حين هدمها في الإسلام.

ولقد شددت على رضاء شدة

فتركتها قفر بقاع أسحما

وقد دخل جماعة من التميمين أيام الجاهلية في المجوسية لقربهم من العراق التابع للفرس. وعبد جماعة منهم نجما يسمى الدبران، وأسلمت تميم في حياة الرسول، فلما قبض إلى الرفيق الأعلى ادعت سجاح بنت الحارث فيهم النبوتة فتبعوها ثم عادوا إلى الإسلام مرة أخرى وأسلمت متنبئتهم سجاح.

نسبها:

تميم قسمان: الصغرى وهم أبناء تميم بن عبد مناة بن أد بن طانجة ابن إلياس بن مضر، ومنهم قطام صاحبة عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب التي اشترط في مهرها.

ثلاثة آلاف وعبد وقينسة

وضرب على بالحسام المصمم

والكبرى وهي صاحبة الشهرة التي تراد عند الإطلاق وهي التي نعنيها بالبحث والمقصود دائما في جميع الكتب هم أبناء تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، ولها بطون وعشائر كثيرة أصبحت شبه مستقلة في منازعتها ومفاخرتها بل وفي بعض لهجاتها.

عاداتها:

كان للعرب في الجاهلية عادات مختلفة شملتهم جميعا، منها وأد البنات وزجر الطيور والاستقسام بالإزلام، والعقر على القبور؛ غير أن أهل نجد ومنهم تميم قد يخالفون الحجازيين في بعض العادات كما يخالفونهم في اللهجات، فالسانح من الطير والظباء وهو ما مر من مياسرك إلى ميامنك تيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح وهو ما مر من ميامنك إلى مياسرك بعكس الحجازيين فيهما قال ذو الرمة وهو نجدي:

خليلي لا لاقيتما ما حييتما

من الطير إلا السانحات وأسعد

وقال النابغة متشائما بالبارح وهو نجدي.

زعم البوارح أن رحلتنا غداً

وبذاك تنعاب الغراب الأسود

ص: 31

وقال كثير وهو حجازي ممن يتشاءم بالسانح.

أقول إذا ما الطير مرت مخيفة

سوانحها تجري ولا أستثيرها

هذا هو الأصل عندهم؛ ثم قد يستعمل النجدي عادة الحجازي فمن ذلك قول عمرو بن فميئة وهو نجدي.

فبيتي على طير سنيح تحوسه

وأشأم طير الزاجرين سنيحها

رجالاتها:

اشتهر من تميم كثير من الحكماء والزعماء والعلماء والشعراء وغيرهم في الجاهلية والإسلام منهم أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية ومن قوله:

أيتها النفس أجملي جزعاً

إن الذي تحذرين قد وقعا

ومنها: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا ومن قوله:

ولست بخابئ لغد طعاماً

حذار غد، لكل غد طعام

ومنهم أكتم بن صيفي حكيم العرب في الجاهلية، ومن حكمه: مصارع الرجال تحت بروق الطمع، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، ومقتل الرجل بين فكيه. ومنهم حاجب بن زرارة من مشاهير فصحاء زمانه وفد على كسرى وضمن قومه برهن قوسه عنده، ولذلك قصة مشهورة. ومنهم الأقرع بن حابس وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنينا والطائف. ومنهم الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة وعروة بن جرير أول خارجي قال: لا حكم إلا الله يوم صفين، والمنذر بن ساري صاحب هجر وقطري بن الفجاءة الخارجي الأزرقي ومن قوله:

أقول لها وقد طارت شعاعاً

من الأبطال ويحك لا ترعي

فإنك لو سألت بقاء يوم

على الأجل الذي لك لن تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً

فما نيل الخلود بمستطاع

ومنهم عبد الله بن أباض رئيس الأباضية من الخوارج، وعبد الله ابن صفار رئيس الصفرية وجرير والفرزدق الشاعران ورؤبة ابن العجاج الراجز والسليك بن سلكة من العدائين المشهور بن ومية صاحبة ذي الرمة وسجاح المتنبئة.

أما علماؤها فمنهم زفر الفقيه الحنفي وأبو عمرو بن العلاء وسنفرد له ترجمة خاصة، وأبو

ص: 32

عثمان المازني النحوي والنضر بن شميل النحوي ويحيى بن أكثم قاضي المأمون غلب عليه حتى لم يتقدمه أحد من الناس جميعا، ولى أول الأمر قضاء البصرة وهو صغير فاستصغره أهلها وقالوا كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر فقال أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على اليمن.

(للبحث بقية)

عبد الستار أحمد فراج

محرر بالمجمع اللغوي

ص: 33

‌نفاق المخلص

للأستاذ ثروت أباظه

رجل أصابه الدهر بنكبات تصيب إحداها الشديد فتصرعه، غير أنه كان أقوى من الشدة فثبت، ومرت به الزعازع لم تصب منه مكسراً، ولم تقصف له عوداً، ولكن نفسه دون أن يمر بها الخطب ولا يؤثر فيها. . فانعقدت بها العقدة، وكره أن يرى السعادة؛ فحصص حياته الباقية لحرب الخير، ومناهضة الرفاهة، وتدعيم الشر، ومباركة الشقاء.

عرفته وهو يستقبل المصائب، وكان إذ ذاك لا يفرح لفرح الناس، ولكنه كان أيضا لا يفرح لحزنهم، ثم شهدته والمصائب تعتوره من كل جانب حتى لم يعد فيه مكان لإصابة، فصار إلى ما هو عليه.

ولنا صديق رأى سعادته وسعى إليها، فسارع إليه الرجل ذو العقدة يثنيه عما يروم، باذلا في سبيل ذلك ما شاء من خسة وكذب. وكان الصديق يعرف في الرجل عقدته وخسته، ولكنه لم يفكر يوما أن تصيبه هو هذه الخسة وهو الذي يبذل له الود الصادق والعطف الكريم. . . وظل يحسن به الظن حتى انكشف له لؤمه وكذبه، فرمى بقوله عرض الأفق، وأتم ما كان مقدماً عليه، وكفأ الرجل ذو العقدة على مرجله غطاء من ود ظاهر.

ظننت أن صديقي سوف يشيح عنه بحبه وعطفه، وأنا أعلم فيه صدقاً في وده، فلا يمنحه إلا صادرا عن قلبه. ولكن الصديق أخلف ظني، وراح يظهر للرجل مثل ما كان يظهر، حتى احتسبت الله في صفائه، واعتقدت أن الحياة علمته خداعاً كان يجهله، ولكنني لم أطق أن أودع فيه خلالا حمدتها زمناً قبل أن أسأله:

- أراك ما تزال تحبه، وهو الذي فعل ما فعل. وأعرفك لا تبذل حبك من لسانك!

- إن ما فعل لا يعرفه إلا أنا وهو أنت. فإذا تغيرت عليه ظهر ما لا أحب إظهاره.

- وتنافق!؟

وماذا في ذاك!؟

- كأني أكلم شخصا لا أعرفه. . . ألا تعرف ماذا في النفاق؟. . فيه أنه نفاق. خداع وكذاب، وإجراء نفسك على غير ما تحب، وظهورك بغير ما تظن.

- لعل دهشتي من كلامك أكبر من دهشتك. إن ما تقوله لفظ أنيق تخلى عنه منطقك

ص: 34

الواقعي. . إن النفاق شر إذا هدف إلى الشر، أما إذا حدث إليه عواطف الخير فهو خير هادف إلى خير. . أما اعتقادك أني أجرى نفسي على غير طبيعتها، فأني مرتاح إلى ذلك ما دمت لا أحمل في نفسي غضاضة الشر.

- وكيف أعرف نفاقك من إخلاصك ما دمت هكذا؟. كيف يتسنى إن أميز بين ودك خالصا وبين ودك مشوباً؟ - ودعني أسميه نفاقاً مهما يكن هادفا إلى خير - كيف يمكنني ذلك ما دمت تقدم على الإخلاص وغيره بهذا السمت البريء الذي عرفت به؟

- إن مقياسك في ذلك هو نفسك. . فإن كنت تضمر لي الشر وتبديه حتى أحسه منك، ثم تراني بعد هذا أقدم لك من الود ما عودتك فأنا معك منافق، أبقى على احترام الناس لك، وأخشى عليك قالتهم، راجياً منك الخير بعد الشر، والوفاء بعد الغدر.

- أولا تعتقد أن الرجل شاعر بأنك تبدي له هذا الود عن غير إخلاص. . هل بلغ به الجمود حداً لا يعرف به أنه أساء إليك وأنت تحسن إليه!؟

- لا. . بل إن الرجل يعلم علم اليقين أن هذا الود الذي أبديه له أصبح وداً غير حقيقي، ويعلم أيضاً أنني أذكر له كل الشر الذي قدم.

ألا تعتقد أن صلتك إياه تؤلمه أكثر من قطيعتك له؟

- ربما جال هذا بنفسه إن كان بها بقية من ضمير، ولكنه من الذكاء بحيث يعلم أنني أفعل ما أفعل لأبقى عليه الستار الذي أسدله أمام الناس. . أما إذا كان ضميره قد انجلى عنه، فهو مسرور بما أفعل، مرتاح إليه، مقبل عليه كما كان يقبل.

وهكذا لم أودع في الصديق ما عرفت له من الخير، بل استقبلت منه تمرساً بالحياة، ومجاراة لها، وتحويلا من شرها إلى خير، ومن نفاقها إلى إخلاص. . إنه ينافق لا شك، ولكنه نفاق المخلص.

ثروت أباظه

ص: 35

‌رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر

‌الهجري:

4 -

ارادن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان

لمصطفى البكري الصديقي

(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

(تتمة)

إتمام البئر وانتشار الطاعون:

وبعد ما تم بناء البئر أردت أن أدخله في الحضير، فشرعت في تقييم الستارة، وابتدأنا يوم الاثنين في العمارة، وكان أفرط عند الطاعون، أحوج لاستعمال ما في الماعون، وتمرض الأخ محمد سيعد ليلة الثلاثاء بوارد شديد، وما زال الأمر يزيد إلى أن اصطفاه إليه ليلة السبت الحادية والعشرين من ذي الحجة شهيد، وترجمته في كراسة وسميتها (العقد الفريد النضيد في ترجمة محمد سعيد) وحصل له مشهد فريد، ودفن في مأمن الله.

سنة 1145هـ

ولما دخل عام (1145هـ) توجهنا والأحبة على عادتنا للزيارة (مقام علي بن عليل شمالي يافا) وأقمنا بعد ما قطعنا بلاداً مع السيارة وبتنا لدى المزار ليلتين، ومنه أتينا بعد التنزه في المروج ذات الزهور، مع الجموع قرية (كور) وكنا تخلصنا بامداد الشكور، من الحمى ذات العبور، إلى تجوم الجسد المنخور، وعطفنا على (نابلس) المحروسة، ولم ننزل إلا الدرويشة، لاتساع مبرور، وكان الحاج حمدان، قصد جامع النصر المعمور، والخلوة التي لديه وأذنا لولده الشيخ يوسف بالحضور، وسرنا بعد إكرام تام، وما زلنا بالبداءة والختم بالأوراد إلى أن وصلنا المنازل المقدسة. وكنا قد أكدنا مع الأخ الحاج حسن مقلد أمر الحج، ورجونا أنا بعقد جواهر نتقلد؛ وفي أوائل رجب جاءنا رجل مغربي سمى نفسه محمد

ص: 36

السابع، وزعم أنه عائم في بحر المعارف سائح، وحدثنا بعجائب من بنيات صدره، ووعدنا مواعيد عرقوب صانها في قدره.

وحين اشتد العزم على السير نحو الحجاز، وصله مودعاً إلى جيوض (السيلة) وفارقناه. وذكرت ما وقع في هذه الحضرة الكريمة في رحلة سميتها (الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية) ولما عدنا إلى الديار المقدسة صحبنا الأخ الشيخ محمد المكتبي الحلبي وكان بعد ما توجهت من حلب للقدس أرسل كتابا للفقير مطلعه:

ذاب من حرَّ فؤادي جسدي

وغدا فوأدي بياضاً مفعما

وبعد ما زار الأنبياء العظام والأولياء الاماجد، أقام لدينا نفسه مسلماً مصاحباً منادماً متيما ووالهاً في حبه هيما، وفي أثناء إقامته، ورد أول كتاب من الأخ مصطفى اللقيمي مطلعه:

وأمنيت للمسجد الأقصى وللحرم

بعد انقضاء أداء النسك بالحرم

وقد ذكر فيه أنه أحرم، ثم دخل من باب السلام، وطاف بالكعبة سبعا، وأسرع إلى عرفات، وبات بمزدلفة، وأصبح في المنى، ثم رمى بالجمرة، ثم قدم مكة وطاف طواف الإفاضة، ثم سعى، وحلق، ومضى لمضيء عمرة، وختمها بطواف، وسعى وتوجه تلقاء مدين قرب جدة، وعاد إلى المسجد الأقصى.

(ولما أقام الأخ الشيخ محمد المكتبي مدة أيام، وتلقن بعض أسماء حضر من الشام صديقنا الشيخ عبد الرحمن السمان، ومكث قليل أيام وزار المشاهد، وبعدها هم على الرحيل لوطن المقام وعزم على السير معه الأخ المكتبي فكتبت له إجازة بالإذن كما أرسل إجازة للأخ اللقيمي.

سنة 1146هـ

ولما هل شهر رجب 1146هـ ورد علنا الأخ الحاج ابراهيم بن حسن البكاني الحرستاني، وحرستي بلدة سيدي محمد بن الحسن صاحب النعمان (الرياني) ومعه رفيق من أهالي (بيت سوا) يدعى عبد الغني، وبعد أيام دخل الخلوة، ثم تشفع برجوعه بابنتي علما فقبلت شفاعتها فيه، وأجزته لما مدة إقامته انتهت.

وفي أواسط شعبان طلب الأخ الشيخ عمر العنبوسي عمل معراج نبوي مختصر مسميا له (اليم الفدا المواج في ذكر أحاديث الإسراء والمعراج) وشرعت في تسويد شرح على

ص: 37

المنفرجة المنسوبة لأبي عبد الله النحوي، وكان ذلك عن طلب السيد علي الحنفي، وسميته (الفقه النضيد المشيد الحجة، على القصيدة المسماة بالمنفرجة) وقابلته مع الشيخ محمد بن السيد عيسى الكردي، وأرسلته مع الشيخ المذكور، إذ مراده المسير إلى تلك القصور.

وكنت بعد العود من الحج بأشهر وأيام أرسلت للأخ الشيخ محمد الحفناوي (في مصر) إجازة وإذناً عاما بالإرشاد. وقد وردني في أواخر ذي الحجة منه كتاب جواباً على كتابي والإجازة.

صدور خط سلطاني بإصلاح قناة الماء للحرم القدسي:

في أوائل سنة 1146هـ صدر خط سلطاني معربا معجمه بأن الوالدة أثابها الله في الجنان، انتدبت لعمارة ما يلزم القناة القدسية، فعينت أحد أعيان الدولة، ووجهت له ما يحتاج إليه فوفد بصوله والمذكور (قبله لي زاده) فتوفى قرب حصول ما أراده، وكان حسن النية والإرادة، ثم ورد مباشراً على أغا بن حمود، وبعد تمام بعض نظام رجع لوطنه للزهو يقود، كتب أهل الولاية له محضراً بما جرى، شاهدين فيه أن ماء الكأس لمحله جرى، وحصل للناس فرج وفرح.

سنة (1147هـ) وفاة الشيخ محمد الخليلي:

وكان ورد على كتاب من الأخ الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي في عشرين محرم سنة (1147هـ) مصدرا بقصيدة ثانية مطلعها:

عيون بنى الصديق بالصحو قدَّت

عيون أولى التصديق بالمحو فدَّت

وفي اواخر ربيع الأول أرسلت كتاباً للأخ الشيخ مصطفى العمري مصدراً بقصيدة:

أيها المصطفى من الخلان

كن بمولاك داعياً للعيان

واجتمعت ليلة الحادية عشر من شهر ربيع الثاني (سنة 1147هـ) بالشيخ يسن الغزي الخلوتي، وكان الأخ الشيخ إبراهيم الشهير بابن صفر أغا أخبر أنه كان منكراً عليه ما يظهر منه من مخالفات تنسب إليه حتى استبان له الأمر فانقاد وزاد منه فيه الحب والاعتقاد.

وفاة الشيخ محمد الخليلي:

ص: 38

وفي منتصف جمادى الثاني ليلة الخميس، انتقل شيخنا العالم العامل المحدث الفقيه الشيخ محمد شمس الدين أبو الوفاء الخليلي إلى المقام الأرفع، فكانت ليلة ليلاء على أهل إيلياء، كان رحمه الله جاور في الجامع الأزهر، ثم ورد إلى بيت المقدس، فانتفع به أهلها، وقد أخذت عنه الإجازة في الحديث سنة 1122هـ لسند عال، ثم تأكدت المحبة بيننا وبينه لتكرر الخطوات القدسية، ثم نمت وزادت سنة (1131هـ) لتأهل في الديار القدسية، وقد ذكرته في النحلة النصرية في الرحلة المصرية) وقد تكررت صحبته في زيادة الخليل، والكليم، وقلت مرتجلا في امتداحه:

أيها الذات في حمى الذات قيلى

فلقد لدَّ لي لديها مقيلى

وبعد وفاة الشيخ بثلاثة أيام اندرج بالوفاة إلى رحمة الله صديقنا الشيخ برهان الجعفري الرفاعي الخليلي الأوطان، وكان المذكور اجتمع علينا في ثاني خطرة للزيارة الخليلية وأظهر المحبة كأخيه الشيخ أحمد السابق للمنازل الإحسانية، وقد ظهرت لهما على أخبر به بعض أتباعه، كرامات تعرف بمقامه.

وفي أواخر هذا الشهر ورد على كتاب من الأخ اللقيمي وفيه:

شوقي إلى علينا جنابك طافح

أخفيه وهو خفي سر فاضح

فأجابته بكتاب:

للعارفين خواتمٌ وفواتح

أنداؤها في العالمين فوائح

وفي أوائل شهر رجب شرعت في عمل مقامة مشيرة لفن الأدب سميتها (المدامة الشامية في المقامة) أودعت فيها من القصائد الجامعة، وشرعت في أخرى (مغربية) وسميتها (الغمامة الغربية في المقامة المغربية).

ثم شرعت في شرح قصيدة الإمام الحجة صاحب المنهاج.

الرحلة إلى الديار الرومية:

وفي ذي الحجة تحرك الخاطر إلى الديار الرومية، وما زال والعزم يتقوى إلى أن دخل محرم، فتوجهت إلى الشام لأجل أن يكون المسير مع ركب الحجاج، وشرعت في الرحلة الرومية الثانية وأسميتها (الخلة الغانية الدانية، في الرحلة الرومية الثانية) وعدنا منها ثاني

ص: 39

يوم من شهر الصوم.

مرض ابنته علما ووفائها:

وعدت فوجدت بنتي المحمية لسرى وقلبي، المقربة إن شاء ربى، متمرضة بأمر جرئي، فقاد كلبا ذيله طويل، وبعد أيام غابية لا قليلة، أحبت مجاورة مولاها بنفس ذليلة. فحصل بفراقها ألم مؤلم، وذلك في الليلة التاسعة من شهر رمضان.

وترجمتها في رسالة أسميتها: (الغيوب الملجمة، والغيوث المسجمة، في ترجمة ابنتي المنفية قدرا سما، الشريفة الصديقة العباسية علما) وقد كتبت على شاهدة قبرها مؤرخاً:

قصر الجنان من يدي

جدي هنا تسلماَّ

رضوان ربي دائما

يهمي عليها كالسما

وما زالت المدامع بعد بعدها سخية إلى تمام ذلك العام

سنة 1149هـ البدو يسلبون الشيخ التافلاتي:

وبعد دخول العام الجديد سنة 1149 ورد علينا الأخ الشيخ محمد التافلاتي، وأخبر أنه جاءنا على طريق التيه وأخذ منه أعراب الطريق بعض أثواب، وكتابا من الصديق الشيخ محمد الحفناوي في أوائل شهر ربيع شرعت في تأليف مولد نبوي وسمته (المولد الدري في المولد النبوي) وقرأته ليلة المولد على الإخوان متبركا

وجاءنا في هذه الأثناء السيد علي من بيت كريم الدين صاحب الجدود الخرفغببفاخرة، والحسب، وكان مجيئه في جمادى الأول بعدما طلع لأرض الروم، ونزل وتوجه من القاهرة، بوجود غير سافرة، ووصل إلينا مفصول العرا، كمن قرا ولكنه ما درى، وكنت أرسلت للأخ الشيخ محمد الحنفي كتابا محرضا له على الحضور لنزل قدس وافر السرور، فتيسر الأمر عليه وقدم والسعد بين يديه، منتصف جمادى الثاني سنة 1149 مصحوبا بالتهاني. وأرسلت ولدي يستقبله فرحا بقدومه، واشتغلت بنظم أبيات، أسمعتها له غب الإتمام فسر بها، وكانت ساعة التلاقي ميمونة. ومطلعها:

در كؤوسي من الرحيق الشهيَّ

ثم ثنى من العتيق البهي. الخ

ولما استقر به المقام، وحل الرحاب منه، سار ذكره كالمثل السائر، وكنت أكتب في شرح

ص: 40

الهمزية، المسمى (باللمح الفردية العزية، في شرح القصيدة (الهمزية)، فصرت مهما كتبت أعرضه على أسماعه، وقلت:

عروسة صوان بدا عطفها

على صبها مذ هدا عطفها

وقابلت معه المعراج، والمولد النبوي، وشرعت في أوائل شعبان في مقامة يمينة، وعرضتها عليه مقابلة فأحب أن ينسخها لنفسه، وسميتها (العمامة اليمنية في المقامة اليمنية)، وألحقت بها (المقامة الموسومة بالحمامة الورقا القصرية في المقامة العنقا المصرية) وأتبعتها (بالصمصامة الهندية في المقامة الهندية) وكنت وصفت (الكمامة النرجسية السندسية، في المقامة الأنسية القدسية).

الختام:

ولما دخل شوال تحرك المحب الرحال السيد موسى الكريمي إلى المسير ناحية (غزة) وطن الصبابة، ونزل الأعزة، فطلب الأخ الشيخ محمد التوجه صحبة المذكور، إلى الوطن الأصلي المشهور، فأردت إبقاءه إلى أن يقع لي الإذن بالذهاب، ثم خشيت أن أطول عليه أدان الفراق، والاغتراب، لعدم ظهور وقت المسير، إلى تلك الديار، على أني كنت وعدت الزائر بالعود لدياره صحبة الأهل والعيال وطول الإقامة في جواره، فرغب في إنجاز الوعد، فقلت لم يأت الإذن بعد، وحصل التوجه أواخر شوال المطير بمياه الأشجان، وخرجت معه للوداع إلى القرشي والدجاني. ولم يقسم له نصيب في زيارة الكريم والخليل، فقرأنا لهم الفواتح، وحرضت الأخ على إظهار خفي الطريقة في الديار المعزية والمصرية ذات الأطوار العبيقة، وكان يوم الفراق لدغ إحراق. ولما رجعنا من وداعه بقينا أياما في توحش اجتماعه، وما طال أمل الإذن بالتوجه إلى ذلك المنتزه النزيه وأقمنا نتدارك أمر السفر إلى أوائل صفر، واتضح لنا الإذن المشير بالمسير، وجاءتنا نصاح لنعدل عن الرواح، فاعتذرنا، ولما سهل الحق الأسباب، توجهنا غلس صبيحة يوم الاثنين الثالث من صفر المبارك إلى جهة فلسطين المسماة (بالرملة) البيضاء، ومنها القصد إلى (غزة) ذات اليد البيضاء.

وفي التاريخ ختمنا (الأردان) بطابع ختامه مسك وهكذا كان، فإن التوجه والنية المقصودة الحج. وهاتيك المعالم المشهودة.

ص: 41

وأن ممن ساعد وما قصر، لا كمن في ساعديه عنها قصر، إخواننا المنتمين للعصابة النجمية والخيرية وبعض أصحاب لهم محبة في الأمور الخيرية، وبدأنا من هذا الحين في جمع رحلة سميتها:(الرحلة الثالثة للرياض المصرية والحجازية والشامية، ذات الإمدادات النصرية السامية الإنجازية) والحمد لله. . .

أحمد سامح الخالدي

ص: 42

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

على هامش مسابقات المجمع اللغوي:

1 -

رأت لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية إبعاد الشعر من المسابقات الأدبية لسنة 1949 - 1950، وقصرتها على القصة والبحوث الأدبية، لأنها لا ترى في الإنتاج الشعري الحالي ما يستحق أن يجاز. ويبدو لي أن هذا الرأي يتصل بما حدث في العام الماضي حين احتفل المجمع بإعلان نتيجة مسابقات سنة 1947 - 1948 بدار الجمعية الجغرافية، إذ وقف الأستاذ المازني عضو لجنة الأدب يقدم الفائزين في الشعر فقال: إن الشعر كسائر الفنون لا يخلد فيه إلا الأعلون، وذاكرة الدنيا لا تعي غير الأفذاذ، والوسط كالرديء في ميزانها، ثم قال: إن الدواوين التي تلقاها المجمع كلها من الشعر الوسط، وإنه آثر التشجيع وتسامح فأجاز أربعة دواوين منها.

وبين يدي اللجنة الآن بضعة دواوين مقدمة في مسابقات العام الحالي (48 - 1949)، وهي (آخر دفعة) من الشعر في مسابقات المجمع حتى يرد إلى الشعر اعتباره. . . .

ويرى المتأمل أن موقف المجمع من الشعر غير سليم، لأنه إما أن يكون قد حكم على جميع الإنتاج الشعري، ما يعرف منه وما لا يعرف، وما يقدم إليه وما لا يقدم، وهذا غير ممكن ولا ميسور له؛ وإما أن حكمه نتيجة النظر فيما قدم إليه، وهنا يسأل سؤالين

الأول: أليس من الجائز أن يقدم إليه في مسابقة العام القادم التي أخلاها من الشعر إنتاج يستحق الإجازة، فلم إذن يقفل الباب؟

والسؤال الثاني يأتي بعد ذكر حقيقة ملموسة، وهي أن هناك شعراً جيداً كثيراً لا يقدمه أصحابه للمجمع، وبعد ذلك يسأل: لم ضعف الإقبال على مسابقات المجمع حتى صار لا يقدم إليه إلا هذا الذي لا يعجبه وهو مع هذا قليل؟!

أرجو مخلصا أن ينظر المجمع في هذا السؤال مليا ويعالج علة ذلك الإعراض، فالأمر يوشك أن ينتهي بالقصة والبحوث إلى مصير الشعر. . . .

2 -

واشترط المجمع في مسابقة القصة لسنة (1949 - 50) أن تبحث مشكلة اجتماعية عربية من مشاكل العصر الحاضر، أو تعرض حياة بطل من أبطال العرب، أو موقفاً من

ص: 43

مواقف العرب الحاسمة في التاريخ. وهذا الاشتراط يوعز بتحويل العمل الفني إلى دراسات اجتماعية أو تاريخية، وأنا لا أدرك الحكمة في تحديد موضوعات القصة، أو ليس المطلوب قصة فنية ناضجة؟ وماذا يضير إن كانت ذات فكرة أو موضوع غير هذه الموضوعات ما دام المقصود هو التشجيع على الإنتاج الجيد؟

3 -

عمم المجمع مسابقة القصة فجعلها لجميع أدباء العرب، وهذا حسن؛ ولكنه خص بمسابقة البحوث أدباء وادي النيل، فلم لا تكون المسابقات كلها لجميع العرب؟ قيل إن هناك (لائحة) تنص على أن يخص أدباء مصر ستمائة جنيه من الثمانمائة المخصصة للمسابقات الأدبية كل عام. وأقول: لم هذه (اللائحة)، أولم لا تغير؟ وقد أمكن التوسع في منح الستمائة الجنيه فأصبحت في المسابقة الجديدة تشمل جميع أدباء وادي النيل. وكم أود أن يكون (مجرى الضاد) أوسع من مجرى النيل.

أساطين الإذاعة:

قام الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة المصرية، برحلته في أوربا وزار محطات الإذاعة في روما وباريس ولندن وقد عاد أخيرا من هذه (النزهة الإذاعية) ونشرت مجلة الإذاعة الأوربية فكان من أهم المسائل التي تناولها الحديث بل أهمها مسألة الكفايات المطلوبة فيمن يشرفون على الإذاعة؛ قال:(إن مسألة الآلات والبرامج وما إلى ذلك من الأمور التي تخطر على الذهن عادة، إنما تأتي في المرتبة من الأهمية، بعد أن أدركت أن المسألة الرئيسية في تنظيم الإذاعة هي اختيار الرجال الأكفاء للإشراف على أعمال الإذاعة المختلفة، وتحملهم المسئولية الكاملة في إدارة الأقسام أو الإدارات التي يعهد إليهم بها).

وهكذا عرفنا أن (النزهة الإذاعية) لم تكن عبثا. . . فقد استفاد سعادته منها حقيقة مهمة في مسألة الإذاعة الرئيسية. وأعترف أني يوم تساءلت عن فائدة هذه الزيارات وقلت إن البرامج يمكن سماعها في مصر - كنت غافلا عن أن زيارة سعادته ستتيح له الوقوف على أن المسألة المهمة هي اختيار الأكفاء لإدارة الإذاعة. . ولا اعتبار لما قد يقوله المحرمون أمثال هذه النزهات من أنه يمكن معرفة ذلك في مصر، وهو شئ لا زم لكل عمل لا للإذاعة فحسب، لا اعتبار لذلك لأن الحقائق المتعوب في الحصول عليها وجلبها من وراء البحار غير التي نصل إليها هينة بالبداهة في مصر!!

ص: 44

ثم لندع هذا وندخل في صميم المسألة الرئيسية في الإذاعة، وهي اختيار الأكفاء، فيفهم من كلام المدير أن إذاعتنا ينقصها الأكفاء، وهو مهتم بسد هذا النقص تطبيقا لما إستفاده من الرحلة. . وإن أريد إلا مصلحة إذاعتنا التي نرجوها لخير البلاد.

يشرف على تنظيم الإذاعة ثلاثة، هم المدير العام، والمراقب العام، والمراقب المساعد؛ أما المدير العام فهو من رجال التعليم قضى دهرا في وظائف التدريس ومناصب التربية عرف في خلاله بالخلق والكفاية، ولم تعرف له مشاركة ولا إنتاج في الأدب والفنون ولا ملابسة لشيء مما يتصل بالإذاعة التي تولى إدارتها أخيراً.

وأما المراقب العام فهو ذو ثقافة تجارية متوسطة، نشأ في محطة الإذاعة موظفا كتابيا صغيراً، وقد وصل مرتبه أخيرا إلى حوالي سبعين جنيها. وكان يحاول أحيانا أن يعزز مكانه ببعض نشاط إذاعي لم يوفق فيه بمقدار ما وفق في التقريب من الرؤساء.

وأما المراقب المساعد فهو من إخواننا الشعراء، يقول الشعر على نحو يسرح به مع عرائس الخيال ويبعده عن التمرس بفنون الإذاعة واداتها، ويشكو الأدباء المتصلون بالإذاعة من بعض تصرفاته.

أولئك هم أساطين الإذاعة المصرية الذين يشرفون على تنظيمها ويوجهون دفنها، وأنا لا أغمط أقدارهم، وإنما أقول - بعد أن بينت من صفاتهم - إنه حين ينظر في (المسألة الرئيسية) للإذاعة يجب أن يشملهم النظر. . فلا ينبغي أن تظل الإذاعة في مصر محرومة من كفايات أبنائها متخلفة عن نواحي النهوض فيها؛ وهذه وسائل الاتصال الثقافي والفني بالجمهورية في مصر قد ارتقت وتقدمت تقدماً كبيرا جذب إليها أنظار الشقيقات العربيات، وأصبحت فهيا مثلا تحتذى؛ وذلك على عكس الإذاعة فان الإذاعات العربية الأخرى أرشد من إذاعتنا، وما أحوجنا إلى احتذائها في كثير.

ومما يدعو إلى الأسف أن الإذاعة المصرية على تلك الحال ومصر تزخر بالعناصر والجهود الفكرية والفنية التي لم يتح للإذاعة إلى الآن أن تستفيد منها، لا في تنظيم الإدارة ولا في استغلال المواهب. ومما يضاعف الأسف أن ذلك واقع مع أهمية الإذاعة وبعد أثرها، باعتبارها أوسع أدوات التثقيف والإمتاع الفني انتشارا، وأقدرها على التنويع في تقديم الإنتاج، وأيسرها منالا للجمهور.

ص: 45

شاعر وثلاث من الحسان:

قال الدكتور إبراهيم ناجي (في مجلة الأستوديو) يمدح المطربة شهرزاد:

شهرزاد ويا ضياء الأهلة

زهرة أنت من خميلة مطله

ليلة أنت من جمال وحسن

قرأنها القلوب في ألف ليله

وقال سبعة أبيات في سامية جمال، ثم قال يمدح سهام رفقي:

إذا غفرت لشعري

فقلبي واستعيدي

ترين فيه (سهاما)

فان أردت فزيدي

مما يصيب ويدمى ال

قلوب قبل الجلود

وقد نفست عليه - والحق يقال - لانفراده بالثلاث الحسان. . . قرأت الشعر فوجدت فيه بعض الهنات، فرأيت في التعقيب عليه نوعا من المشاركة قد يغنى. . وكنت أتجاوز عن هذه الهنات لولا خطر المقول فيهن.

في بيتي (شهرزاد) عيب من عيوب القافية وهو نوع من السناد ففي أحد البيتين حرف ردف وهو الياء خلا منه الآخر. والشطر الثاني من البيت الأول غير مستقيم الوزن.

وفي أبيات (سهام رفقي) يستزيدها من السهام، ويحدد النوع الذي يريده منه بأنه الذي يدمى القلوب (قبل الجلود) والمتأمل يرى هذا النوع من السهام لا وجود له، أعني التي تدمى القلوب ثم تدمى الجلود، وهو بطبيعة الحال يريد سهاماً تدمى القلوب فقط. وأقول - على طريقة أسلافنا من النقاد - إنه لو قال (دون) بدل (قبل) لا سقام وسلم.

ومعذرة إلى الدكتور ناجي إذ وقفت منه موقف (العذول)

مؤتمر اليونسكو:

تنعقد الدورة الثالثة لمؤتمر اليونسكو ببيروت في 17 نوفمبر الحالي. ويمكن الجزم الآن بأن دولة إسرائيل المزعومة لن تشترك في هذا المؤتمر، وذلك بفضل الموقف الحازم الذي وقفته الحكومة اللبنانية، فقد أبدت تشددها في ذلك وأنها لن تسمح لممثلي اليهود بدخول لبنان. فوقعت بذلك هيئة اليونسكو أمام الأمر الواقع، إذ كانت قررت نهائيا عقد المؤتمر ببيروت، ولا سبيل لليهود إلى بيروت وسيجتمع مندوبو البلاد العربية في بيروت قبل

ص: 46

انعقاد المؤتمر وسيجتمع مندوبو البلاد العربية في بيروت قبل انعقاد المؤتمر لتوحيد الخطة العربية وبحث بعض المسائل كانتخاب أعضاء المجلس التنفيذي للهيئة والاتفاق على العضو العربي فيه بعد انتهاء مدة الأستاذ محمد شفيق غربال بك في هذا المجلس، فإما أن يجدد انتخابه أو يرشح بدله عضو عربي آخر.

وستشغل مصر جانبا كبيرا في المتاحف والمعارض التي ستقام في شهر اليونسكو ببيروت، فقد أعدت وزارة المعارف كثيراً من الأعمال المدرسية الفنية، وبعثت دار الكتب المصرية بمجموعة وافية من المطبوعات والمخطوطات والمنقوشات، وكذلك أرسلت بعض دور النشر في مصر مجموعة من الكتب التي أخرجتها، وستحتل الصحف والمجلات المصرية من معرض الصحافة جانبا هاماً

أما إقامة الحفلات الساهرة، فقد اتفق بشأنه على أن تقوم لبنان بحفلات الغناء والرقص، وأن توفد مصر الفرقة المصرية للتمثيل لتحي ثلاث ليال من 22 - 24 نوفمبر، تمثل في إحداها مسرحية حواء الخالدة لتيمور، وفي الليلة الثانية انتقام المهراجا، وفي الثالثة ثلاثة فصول من مسرحيات عالمية مثلتها الفرقة قبل ذلك

ويتألف وفد مصر المؤتمر من الأستاذ محمد شفيق غربال بك رئيساً، والدكتور أحمد زكي بك، وأحمد عبد السلام الكرداني بك، ومصطفى عامر بك، والدكتور محمد عوض محمد بك أعضاء أصليين، وستة أعضاء احتياطيين، وخمسة خبراء وثلاثة سكرترين.

وقد جاء في الأنباء الواردة من بيروت أن الحكومة اللبنانية شيدت مدينة ثقافية لتكون مقراً لاجتماعات اليونسكو، على مقربة من العاصمة تطل على البحر وتشرف على المدينة، وقد بذلت في إنشائها وتجميلها جهود فنية كبيرة، وأعدت فيها وسائل الراحة وما تتطلبه الاجتماعات من أدوات وأجهزة، ومكاتب للصحافة، وقاعات للمعارض، ومحطة للإذاعة، وغير ذلك.

وقد أصدرت هيئة اليونسكو في بيروت العدد الأول من نشرة (رسالة اليونسكو) باللغة العربية لمناسبة انعقاد المؤتمر في إحدى البلاد العربية، وقد نشر في هذا العدد مقالات لكبار كتاب الشرق والغرب كالدكتور شارل مالك، والدكتور طه حسين، والمستشرق لويس ماسينيون، وفيه مقال للسيد حميد فرنجية وزير التربية والخارجية اللبنانية، ومقال للمستر

ص: 47

جوليان هكسلي المدير العام لليونسكو

وقالت أنباء ببيروت إنه تقرر دعوة الأدباء العالميين مع الوفود الدولية لحضور المؤتمر، على أن يحلوا ضيوفاً على الحكومة اللبنانية، وكذلك رؤساء تحرير الصحف العالمية الكبرى. ولم يذكر هل تشمل هذه الدعوة أدباء العرب ورؤساء تحرير الصحف العربية أولا؛ ولا شك أن اجتماع كبار الكتاب والصحفيين العرب بأمثالهم من الغرب فرصة طيبة للتعارف وتبادل الأفكار، مما هو بسبيل تحقيق أهداف اليونسكو في التقارب والتعاون الفكري العالمي.

أمير غير لائق

نقل المذياع احتفاء (رابطة القراء) بعيد الهجرة من المسجد الحسيني، وهذا عمل صالح باعتبار المقصود منه وهو إذاعة ما يرتل القرآن الكريم، وما يترنم به من الموشحات الدينية بذلك الحفل في تلك الليلة المباركة. ليتسنى استماعه للجميع. ولكنا نسمع قارئ القرآن يقرأ فما يكاد يقف حتى ترتفع الأصوات وتتعالى الصيحات بمثل:(اللهل يا شيخ عمر) وما إلى ذلك من العبارات والكلمات.

وتدرك من سياق القراءة وطريقتها وصيحات أولئك الصائحين، أنهم ليسوا مأخوذين بمعاني الآيات وأغراضها، وإنما هم مأخوذون بالتطريب أو يقصدون (التمليح) فيثنون على القارئ ويدعون له. . .

ونتيجة ذلك هذا المظهر غير اللائق بقراءة القرآن خاصة وكرامة الدين عامة، من حيث التصايح المنكر والتخليط الذي يدل على جهل فاضح، والناس يستنكرون مثل ذلك في محافل الغناء، فما بالك بمجالس القرآن؟

وانظر أي (صورة سمعية) للمسلمين في مصر تنقلها الإذاعة بذلك إلى حيث يترامى صوتها في أرجاء العالم. .

عباس خضر

ص: 48

‌البريد الأدبي

1 -

إلى الأستاذ الفاضل نقولا الحداد:

تحيتي إليك وسلامي؛ وبعد فإن العروبة قاطبة لتعتز بقلمك الذي حملته وشهرته في وجه الصهاينة الباغين. ولقد كان دفاعك عن فلسطين دفاع العربي الأبي الذي يأبى الضيم والذل ويذود عن وطنه العربي.

لقد دافعت يا سيدي فأحسنت الدفاع وسللت الحسام من غمده وشحذمته.

وما حسام الكاتب إلا قلمه وبيانه إذا ما ادلهم الخطب ونزلت الفادحة.

ولقد كنت للعروبة لساناً وللحق مؤيداً ونصيراً، وكنت وما زلت بل وما

تزال وهذا عهدي بك للحق على الظلم معينا. ولقد صدق أستاذنا الكبير

عباس محمود العقاد حينما رأى دفافعك عن العروبة وحملتك الشعراء

على الصهاينة، وقد وقفت في الميدان وحيداً ترتدي جلد النمر وتكشر

للباغين عن أنياب الليث وتكيل لهم الضربات وترد على الادعاءات. .

وكان العقاد وهو يعلم جد العلم أن أدلة الصهاينة لا تستند على أساس،

وأن حججهم واهية، وأن قضية العروبة مكسوبة، فأشفق عليك ونصحك

بأن ترفع مطرقة من مطارقك إلى حين حتى تكون قد صنعت بهم كما

صنع الحداد. وقد كان.

فو الله أنت للعروبة سند وللحق داع. وما أنت يا سيدي إلا عربي شهم كريم، وتقبل مني شكري مضاعفا على ما بذلت وتبذل لخدمة قضية العروبة من جهد.

2 -

الهدنة في الإسلام:

كتب الأستاذ الفاضل محمد أسامة عليية في العدد 738 من الرسالة الغراء كلمة عن الهدنة ووقف القتال فلم يتعرض للهدنة في التاريخ الإسلامي حتى بكلمة واحدة بل افاض في الهدنة من الناحية القانونية الدولية. وللحقيقة والتاريخ أقول (ليست الهدنة بجديدة على

ص: 49

التاريخ الإسلامي فلقد أطال أبو العباس أحمد القلقشندي في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا الكلام عنها وذلك في الجزء الرابع عشر من الصفحة الأولى إلى ص78 أي في قرابة ثمانين صفحة من الحجم الكبير، فذكر منشأها وتكلم عن أول هدنة في الإسلام وكانت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وذكر كذلك أقول الفقهاء فيما يتعلق بشروط الهدنة في الإسلام. ثم تكلم في الشروط التي تستقيم بها الهدنة وذكر عدة من الكتب التي تبودلت بين ملوك الإسلام وملوك النصارى ورؤسائهم ولا سيما طائفة الاستبادية وهي طائفة من الفرسان. ومن هذه الكتب العديدة التي وردت في الكتاب تستطيع أن تقول (أن الهدنة في التاريخ الإسلامي كانت لمصلحة المسلمين وكان المسلمون يخرجون دائما منها فائزين دون خسارة ولم يلحقهم بعقدها حيف أو ظلم وكانت تنفذ شروطها بقة وعناية. وها نحن اليوم وفي القرن العشرين نشاهد مهزلة الهدنة وإهمال مراقبي هيئة الأمم المتحدة وتحيزهم الظاهر ضد العرب. نعم إن في التاريخ لعبرة ولعل التاريخ يعيد نفسه يوم ما! وإن الظالم والاعتداء لن يطول.

شفيق أحمد عبد القادر

كلية الآداب - قسم التاريخ

مسابقات مجمع فؤاد الأول للغة العربية:

قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية توزيع جوائز لتشجيع الإنتاج الأدبي سنة 1949 - 1950 على النحو الآتي: -

أولا - لأدباء وادي النيل

تخصص مائتا جنيه لكل بحث من البحوث الآتية بشرط ألا يقل البحث عن مائتي صفحة من القطع المتوسطة (الذي لا تنقص كلماته الصفحة عن 180 كلمة): -

1 -

أحسن تحقيق لكتاب عربي قديم وضع على أساليب النشر الحديث سواء اطبع ام لا يطبع، على ألا يكون تاريخ المطبوع هقه سابقا ليناير سنة 1945.

2 -

أحسن دراسة لرفاعة بك الطهطاوي أو أحمد فارس الشدياق أو محمد قدري باشا وأثر كل منهم في وضع المصطلحات الأدبية أو القانونية.

ص: 50

3 -

أحسن بحث في نقد الشعر العربي في الفترة التي تبدأ من النصف العاني للقرن التاسع عشر إلى اليوم (ولا ينقد شعر الأحياء).

ثانيا - لأدباء العرب في وادي النيل وغيره

تخصص مائتا جنيه لأحسن قصة بالعربية الفصحى مخطوطة أو مطبوعة. بشرط ألا يكون تاريخ المطبوع منها قبل يناير سنة 1947، على ألا تقل القصة المقدمة عن مائتي صفحة من القطع المتوسطة (الذي لا تقل كلمات الصفحة عن 180 كلمة).

ويشترط أن يكون مدار القصة حول أحد الموضوعات الآتية:

1 -

بحث مشكلة اجتماعية عربية من مشاكل العصر الحاضر:

2 -

حياة بطل من أبطال العرب.

3 -

موقف من مواقف العرب الحاسمة في التاريخ.

وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع نسختين مطبوعتين أو مكتوبتين على الآلة الكاتبة من الموضوع المقدم للحصول على الجائزة في موعد لا يتجاوز أول أكتوبر سنة 1949 وسيحتفظ المجمع بنسختي الإنتاج الفائز. وللمنبارين أن يذكروا أسماءهم أو يختاروا أسماء مستعارة وعليهم أن يكتبوا عنوانهم واضحاً ويوقعوا على كل نسخة يقدمونها. ولا يجوز أن يدخل مسابقات المجمع الأدبية من سبق أن أجازه المجمع على انتاج له في فروع المسابقة المتقدم إليها، ولا أن يعاد تقديم أي إنتاج أدبي سبق أن، قدم للمجمع.

وترسل الموضوعات بعنوان: (لجنة الأدب - بمجمع فؤاد للغة العربية - شارع قصر العيني - القاهرة).

إلى الأستاذ المعداوي:

ماذا يعينك بمن أرسل إن كان لا يضيرك ما أرسل؟

واجه الحقائق، وثق بأنه (لا يهوش) وثق أيضا بأنه يشتغل في شركة موجود بها - والحمد لله - آلة كاتبة وكتبة و. . . إلخ! ولك العذر إن كنت تريد أن تجعل من الحبة قبة!

ومرة أخرى: واجه الحقائق!

عبد الحميد فاضل

ص: 51

ليانسية في القانون من ست سنوات

تعقيب

في العدد (274) من جريدة (الزمان) كتب الأستاذ الفاضل محمد محي الدين عبد الحميد - المفتش بالأزهر - كلمة حول بيت عنترة:

فيه اثنتان وأربعون حلوبةً

سوداً كخافية الغراب الأسحم

فقال عن الخزانة (يروى بنصب (سود)، صفة لحلوبة).

وأقول: لو صح نقل الأستاذ وكان السواد صفة للحلوبة المفردة - لفظاً ومعنى - لكان الصواب أن يقال (سوداء) وصفا للمفردة وليس (سودا) وصفا للجمع. ومن ثم لا يكون (سود) - في البيت - صفة للحلوبة، وإنما هو صفة للجمع على المعنى، وهو اثنتان وأربعون؟ لأن التمييز المفرد إذا وصف جاز أن يؤتى بالوصف جمعا تبعا للمعنى المتضمن عليه الكلام والسلام.

(الزيتون)

عدنان

ص: 52

‌القصص

الإشارة!. . .

للكاتب الفرنسي جي دي موبسان

كان المضجع الوثير، الناعم، يضم مدام مارجيونسي دي ريندون في كثير من الوله والحب!. . . وكانت المطلقة الحسناء: قد فتحت عينيها على صخب وضجيج ينتهيان إليها في غرفة الاستقبال، فأصغت بقليل في الانتباه، فإذا هي تميز صوت صديقها البارونة الصغيرة دي جرانجيريه مشتبكا في نقاش حاد مع الخادمة، تلك تريد مقابلة صديقتها لأمر خطير، هام، وهذه تأبى عليها مقابلة سيدتها، وإزعاجها في مثل هذه الساعة المبكرة!. . وعندئذ تسللت من فراشها، وأخرجت رأسها اللطيف، المكلل بثروة من الذهب الخالص، وهتفت متسائلة:

- ما بك يا عزيزتي. . . . لم قدمت في مثل هذه الساعة المبكرة؟ إنها لم تبلغ التاسعة بعد؟!

وأجابت البارونة الصغيرة الشاحبة الوجه الذابلة العينين من الانفعال، المرتجفة غضباً وانزعاجاً:

- أريد أن أحدثك يا عزيزتي عن مسألة خطيرة. . . لقد وقع لي ما لا يتصوره العقل!

- تعالي يا عزيزتي. . . تعالي.

ودخلت البارونة المخدع وراء صديقتها. . وتبادلتا العناق والقبل. وعادت مارجيونسي إلى مضجعها الوثير. بينما كانت الخادمة تزيح السجف الثقيلة عن النوافذ، ليتجدد في الغرفة الهواء، ويدخل إليها النور. . . ولما انصرفت الخادمة، قالت مدام رليندون: والآن يا عزيزتي. . . هات ما عندك من حدث!

وانفجرت مدام جرانجيريه باكية. . وانهمرت من عيناها الدموع. . هذه الدموع التي لو ترقرقت في عيون المرأة لزادتها فتنة على فتنة، وحسنا على حسن!. . . ولم تمد منديلها إلى عينها لتجفف دموعها، خوفا عليهما من الاحمرار. . . وقالت:

- إن ما حدث لي يا عزيزتي فظيع. . . فظيع، لم تغمض له عيناي طول الليل. . حتى ولا دقيقة. . أتسمعين؟. . ولا دقيقة آه. . ضعي يديك هنا على قلبي. رباه! إنه يخفق

ص: 53

ويضطرب! وأخذت يد صديقتها، ووضعتها على موضع القلب من صدرها هذا الصدر الجميل، الذي يفتن ويغرى. . ولكن قلبها الآن، كان حقا شديد الاضطراب والخفقان. ثم قالت

- حدث ذلك نهار الأمس. . . كانت الساعة الرابعة. . . أو النصف بعد الرابعة، لا أتذكر تماما. أنت تعرفين منزلي، وتعرفين غرفة الاستقبال منه، حيث تعودت أن أجلس، وانفرج بمراقبة الناس. وهم يروحون ويجيئون في شارع لازار. وبالأمس كنت أجلس في الفراندة على كرسي منخفض، وكانت النافذة مفتوحة، وأنا خالية البال من كل ما يشغل البال، ويبلبل الخاطر، أوه. . لعلك تذكرين كم كان جو الأمس لطيفا، والمناخ معتدلا.

وفجأة، رأيت امرأة ترتكز على مرفقيها، في نافذة البيت المقابل. . . وكانت ترتدي المايوه. . لباس البحر الجذاب.

لم يسبق لي أن رأيت هذه المرأة ذات الثوب الأحمر الخليع. ولكنني عرفتها جيداً لأول نظرة. كانت امرأة من ذلك الصنف الذي يتجر بنفسه!!

ووجدت نفسي أتابع حركاتها. كانت تنظر إلى الرجال، والرجال يبادلونها النظرات، وكانت تدعوهم إليها: ألا تشرفنا يا سنيور؟ فكان بعضهم يرد عليها: متأسف. . . الوقت ضيق!

- في فرصة أخرى.

- لا. . . ليس الآن

وكان بعضهم يردعها، ويعنفها: اخسئي. . . . حقيرة!

لو تستطيعين يا عزيزتي، أن تتصوري، كم كان عملها هذا مثيرا للضحك! وفجأة رأيتها تغلق النافذة. . . لقد وقع في صنارتها واحد من المغفلين!. . . ووجدت لذة كبيرة في مراقبة هذه المرأة الوضعية، وهي تقوم بعملها العجيب! وأحسست برغبة ملحة تدفعني لتقليدها. . . أتكون هذه الحمقاء، أقدر مني على اجتذاب الرجال؟. . . هيهات!!

وقلدت حركاتها، وغمزاتها، وإذا أنا أوديها أحسن منها بكثير. . . وعندئذ اتخذت مكاني من النافذة.

وانتصرت عليها. . . وجذبت نحو كل الرجال من كل صنف، بعضهم أجمل من زوجي. . . بل أجمل من زوجك. . . أقصد آخر أزواجك. . إيه يا عزيزتي. . . نحن النساء لنا

ص: 54

بعض عقول القردة المقلدة. . . هكذا قال لي أحد العارفين بالنفس. . . ألا نحب تقليد بعضنا بعضاً؟!

قلت لنفسي: لأجرب مرة واحدة. . . لمجرد التغيير. . . ترى، ما الذي سيحدث لي؟. . . لا شئ على كل حال. . . وسأنساها!

وبحثت عن رجل. . . رجل جميل. . . . أجمل من كل الرجال. وفجأة رأيت النموذج الكامل للرجل الذي أردته.

رشقته بنظرة ساحرة، وابتسمت له بطريقة خاصة، ففهم إشارتي، وإذا هو يتجه نحو الباب الكبير!!

وجننت. . . وتملكني خوف شديد، فإذا هو يتحدث مع الخادم يوسف. . يوسف المخلص لزوجي، فسيظن أنني على صلة بهذا الرجل من قبل!. . ماذا أستطيع أن أفعل يا عزيزتي. . . ماذا أفعل إذا طرق الباب؟

فكرت في أن أقابله بنفسي، وأخبره بأنه مخطئ، وأرجوه أن ينصرف. . . لعله يعطف على امرأة. . . ضعيفة، مسكينة:

وذهبت إليه أقول:

- انصرف بربك يا سنيور. . . أنصرف من هنا. . . أنت مخطئ يا سنيور. . . . أشفق علي يا سيدي!

- صباح الخير يا آنسة. . . لم كل هذا الدلال؟. . . فلست اجهل قصصكن. . . ستقولين إنك زوجة لرجل غيور وإنك معي لفي خطر شديد، وستطبين أربعين فرنكاً بدلا من عشرين. . ولكن لا بأس. . . سأدفعها لك، إذا أفسحت لي الطريق.

ولكنه لم ينتظر جوابي. . . بل دفعني إلى غرفة الاستقبال، وظل يتفحصها في دهشة، وقال:

- ما أجمل هذه الغرفة. . . لا شك أنك موفقة في عملك، وتكسبين كثيراً، وتوسلت إليه

- أرجو يا سنيور، تفضل بالانصراف. . أن زوجي سيكون هنا بعد دقائق. . . أقسم لك انك مخطئ.

فأجابني في برود شديد:

ص: 55

زوجك؟!. . سأمنحه خمسة فرنكات، يشرب بها كأسا من النبيذ في الحانة المقابلة.

ثم وقعت عيناه على صورة زوجي راؤول، فقال:

- أهذا هو زوجك؟

- نعم

- أوه. . رجل لا بأس به، ومن هذه؟. . واحدة من صديقاتك! كانت هذه صورتك - نعم. . . واحدة من صديقاتي!

- جميلة. . لعلك تقدمينها إلي

- في فرصة أخرى.

وعندئذ دقت الساعة خمس دقات. . . . لقد حان موعد قدوم زوجي إلى البيت. . . رباه. . . ماذا يحدث لو جاء راؤول ورأى عندي هذا الرجل؟

وفكرت في أن أحسن طريق للتخلص من هذا أن. . . أن أرضيه بأسرع وقت، وأصرفه عني. فهمت ما أعني يا عزيزتي هل فهمت ماذا حدث؟!!

وضحكت مدام ريندون. . واهتز السرير تحتها لشدة ضحكها، ثم قالت والدموع تترقرق في مآقيها:

- ولكن. . أكان منظره جذابا حقاً؟

- كان رائعاً. . . في غاية الروعة.

- من حسن حظك. . . ولكن، إذا كان رائعا كما تقولين، فلماذا جئت تشتكين؟!

- لأنه. . . لأنه سيعود ثانية، في نفس الوقت وأنا شديدة الخوف، فماذا أفعل لو نفذ وعده، وجاء مرة أخرى؟!!

- دعيه يعود

فتملكت المسكينة دهشة عظيمة، وتساءلت:

- ماذا؟ ماذا تقولين؟. . كيف أدعه يعود؟

- هذا شئ بسيط. . . اذهبي إلى مدير البوليس، وأخبريه بما حدث، وقولي له أن هذا الرجل يضايقك منذ مدة طويلة، وعندئذ سيبعث إليه ببعض رجاله، ويقبضون عليه متلبسا بالجريمة!

ص: 56

- ولكن يا عزيزتي. . . ربما اعترف.

- من يصدقه. . . أنت سيدة معروفة في البلد.

لا. . . لا أستطيع.

- أن لم تخبري البوليس. . . فسيعود إليك كل يوم!

- طيب. . . . والفرنكات التي تركها لي؟. . . ماذا أصنع بها؟

وبعد أن فكرت مدام ريندون قليلاً، قالت ضاحكة:

- عزيزتي. . يجب أن تخلدي هذه الحادثة في هدية صغيرة لزوجك العزيز راؤول. . نعم، هذه أحسن فكرة!!!

(البصرة: عراق)

يوسف يعقوب حداد

ص: 57