الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 803
- بتاريخ: 22 - 11 - 1948
هل نجح خادم اليهود؟
للأستاذ نقولا الحداد
لم ينجح ترومان ولم يفشل دبوي. وإنما نجح الحزب الديمقراطي وفشل الحزب الجمهوري؛ لأن أكثرية الشعب الأمريكي الساحقة هي ديمقراطية المبدأ. إن المبدأ الجمهوري يميل إلى تعضيد الرأسمالية، وجميع أعوانه ماليون وممن يلوذون بالماليين وأصحاب الأعمال الكبرى المساهمون والمضاربون وكل من يشتغل بتثمير المال. وأما المبدأ الديمقراطي فيعضد العمل وأعوانه الزراع والصناع وأهل الحرف والمهن والصناعات والمستخدمون ومتوسطو الحال. وهم لاشك السواد الأعظم من الشعب. ومع ذلك صوت كثيرون منهم مع دبوي اعتباراً لشخصيته لا لمبادئه. ولكنهم لم يكفوا الترجيح كفنه.
ولطالما غرس الصهيونيون الأفاكون في عقول الناس أن الرعاية الأمريكية في أيديهم وأنهم إذا راعوا ترومان كان ترومان، وإذا راعوا غيره كان غيره. . . ولعل ترومان كان يظن هذا أيضاً. ولكن لما حميت معركة الانتخابات انحاز يهود ولاية نيويورك (وتعدادها 18 مليوناً ويهودها ثلاثة ملايين وهم لصف يهود أمريكا كلها) انحازوا إلى دبوي لأن مصالحهم المالية تكون مضمونة في عهد رياسة دبوي ولاتهمهم فلسطين عشر معشار ما تهمهم ماليتهم. وكان رجال العلم والسياسة والأعمال والمال والاقتصاد يراهنون مائة إلى واحد مع دبوي ليقينهم أن دبوي رجل الساعة. وهو أكفأ ألف مرة من ترومان. ولذلك صوت معه كثيرون من الديمقراطيين (من خصوم حزبه). ومع ذلك خاب وخسروا الرهان. وقد نسى هؤلاء المراهنون عواطف الأمة. الأمة لا تسعى وراء العلم والمقدرة السياسية ونحوهما، وإنما تسعى لمن يضمن لها مصلحة الفرد أولا ومصلحة الجمهور أخيراً. ولذلك انتخب ترومان بل لأنه كفيل بتنفيذ المبادئ الديمقراطية. فليس ترومان هو الذي انتصر، وإنما الديمقراطية هي التي انتصرت. وستظل تنتصر مادام الحزب الجمهوري يناصر المال وأصحاب المرافق وأسباب الأرزاق يتحكمون فيه.
هذه سنة الاجتماع الأخيرة. والحزب الجمهوري لن تقوم له قائمة بعد الآن إلا إذا نقح مبادئه وعد لها كثيراً بحيث تستهوي طبقة المتعيشين بكدهم وكدحهم.
كان الحزب الجمهوري متفوقاً على عهد تيودور روزفلت السابق الذي تولى رئاسة الجمهورية مرتين، وكان في سياسته يخالف مبادئ حزبه أحياناً ليمالئ الحزب الديمقراطي. وكان كثيرون من الرؤساء السابقين جمهوريين لأن الصولة كانت للماليين وأرباب الأعمال الكبرى أيام كانت سياسته الولايات المتحدة الأمريكية عرضة للرياح السياسية الخارجية ويخشى عليها منها يوم كانت الولايات المتحدة لا تزال الثالثة بين الدول الكبرى فكانت تحتاج إلى قيادة رأسماليين وأرباب أعمال - قيادة متيمة قوية. ولكن لما خرجت من الحرب الكبرى الأولى وأسطولها الثاني شرعت تستقل في كيانها وتطغى في بنيانها. وما شبت الحرب الثانية الأخيرة حتى صار أسطولها البحري الأول وأسطولها الجوي الأول وقوتها البرية ترعب. حينئذ صارت تطمح إلى الاستعمار التجاري والبترولي. فلم تعد تستند إلى حزب جمهوري رأس مالي بل إلى حزب شعبي عملي صناعي زراعي. فقويت فيها الديمقراطية. فمن يكن مرشح الحزب الديمقراطي يحرز قصب السيق ولو كان مغفلاً.
ولعل القارئ يعجب ويتساءل: لماذا صوت يهود ولاية نيويورك لدبوي وهم نصف يهود أمريكا؟ والجواب أن اليهود رأسماليون، فيهرعون إلى حيث تكون خيانة المال. فصوتوا مع الجمهوريين لأن الضمانة هناك أشد، وما كان تشدق الصهيونيين بأن ترومان يسترضيهم لكي يصوتوا له إلا أفكا وبهتاناً. ودعاية في الشرق فقط.
ولا ريب أن ترومان كان يراعي خواطرهم إلى حد ما لكي يكسبهم في معركة الانتخابات؛ ولكنه لم يحتج إليهم وعنده معظم الشعب وأخيراً عرف نفاقهم حين صوتوا لدبوي. فهل يا ترى يبقى مغفلاً يخدم أغراضهم كما يزعمون، أم أنه يشيح بوجهه عنهم بعد الآن وينظر إلى مصلحة بلاده قبل مصلحتهم وأمامه أربع سنين هو فيها غني عن اليهود، على فرض أنهم ينفعونه بشيء؟
مع كل ذلك لم يخدمهم الخدمة الجلي كما كانوا يتوقعون. كانوا ينتظرون أن يجهز لهم قوة عسكرية كافية لتنفيذ مشروع التقسيم. ولو فعل لتم التقسيم فعلا في يوم واحد. ولكن لم يشأ أن يفعل ولم يستطع أن يفعل لأن الكونجرس لا يوافقه على أن يرسل أبناءه الشبان الأمريكان لكي ينشئوا دولة لبني إسرائيل.
أما الآن فلا ندري هل يصر ترومان على أن يحول دون مشروع العقوبات لنا قضي الهدنة
وهو يعلم أن اليهود لا العرب كانوا ولا يزالون ينقضونها. فكان يود أن ينقذهم من العقوبات.
على أن الأمر المضحك في هذه الهدنة أنها تنقض كل ساعة ومجلس الأمن يتهدد كل ساعة ناقضيها بالعقوبات. وإلى الآن لم نر عقوبة وقعت على ناقض هدنة.
وأغرب من كل غريب أن مندوب أمريكا في مجلس الأمن يقترح تأليف لجنة لبحث إجراءات تنفيذ الهدنة، حتى إذا خالفها أحد الطرفين كان على الجنة أن تبادر إلى دراسة ما تراه إجراءات تأديبية لتوقعها على المخالف. ووجه الغرابة هو وضع الحصان وراء العربة لا أمامها؛ لأن العادة في كل تشريع أن يكون إعلان العقوبة قبل ارتكاب الجناية أي بعد أن يعلم أي الفريقين نقض الهدنة.
والهدنة تنقض كل يوم ويبلغ خبرها إلى مجلس الأمن ولا تكون نتيجة البلاغ إلا تكرار دعوة مجلس الأمن العرب واليهود إلى احترام الهدنة، وهو يعلم أن اليهود لا العرب هم الذين ينقضونها. وإلى الآن لم يعترف مجلس الأمن بأن الهدنة غير محترمة. فما معنى إصدار أوامر لا تحترم يوماً بعد يوم؟ والله لو كان صبيان يتولون الأمر لربأوا بأنفسهم أن يكرروا إصدار هذه الأوامر السخيفة.
وختام نذكر الهدنة بالخير ولم نعرف الهدنة ساعة واحدة. ما نحن إلا في حرب. فعلى جامعتنا العربية إن كانت تحسن عملا أن تنعى الهدنة لمجلس الأمن وتبلغه أننا في حرب ما دام اليهود يتهجمون ونحن مضطرون أن ندافع - حتام تمثل هذه المهزلة؟
والمهزلة الكبرى أن مجلس الأمن (الموقر) لا يريد أن يلتفت إلى مسألة اللاجئين الذين أشفوا على الهلاك كأن آمرهم لا يعنيه وكأن نكبتهم ليست من نتائج القضية التي ينظر فيها أو يتولى أمرها أو كأنها ليست من مخلات الأمن التي هي في دائرة اختصاصه.
اليهود الملاعين طغوا وبغوا وقتلوا ونكلوا وأخرجوا الناس من بيوتهم إلى العراء ومجلس الأمن الموكل بالأمن يترك أمر المشردين لأهل البر والإحسان.
فما هو الأمن الموكل به مجلس الأمن؟
إن أقذار اليهود واقعة على رأس مجلس الأمن وقد تورط كل بدنه فيها. ومع ذلك لا يزال يزعم أنه يحافظ على الأمن.
أي أمن هذا يا هؤلاء؟ أليس لكم عيون تبصر وآذان تسمع وقلب تفقه؟ ألا تخجلون أن يركبكم الصهيونيون وينخسوكم بالمناخيس؟
أن كان في عروقكم دم يجري بالنخوة والمروءة فحصلوا من يهود العالم المتضامنين الأموال التي نهبها الصهيونيون من العرب وأنفقوها على اللاجئين والمشردين، وإلا فمجلس الأمن وهيئة الأمم لليهود شركاء، وهم جميعاً في العدوان والطغيان سواء.
نقولا الحداد.
قصة شاعر.
للأستاذ علي الطنطاوي.
لقد وعدت الأستاذ أنور العطار بهذه المقدمة منذ خمس وعشرين سنة من يوم أسمعني أول مقطوعة له. قلت له ستصير يا أنور شاعراً كبيراً وسأصير أنا كاتباً وأكتب مقدمة ديوانك.
ولقد صار أنور شاعراً كبيراً فهل صرت أنا كاتباً؟ إنني كتبت إلى اليوم أكثر من خمسة آلاف صفحة، أنشأتها إنشاء ولم أجمعها جمعاً، ونقلتها عن قلبي لم أنقلها عن الكتب، ولكني لم أصر كاتباً. لأنني أعجز الليلة عن إنشاء أحب الفصول إلى، وأوجبها علي: هذه المقدمة التي وعدت بها أنور من خمس وعشرين سنة!
لقد قعدت لأكتبها، فأحسست أنها قد عادت لي أيامي المواضي التي افتقدتها وأيقنت أنها لن تعود، ورفع لي الستار عن عالم كله حب وطهر وجمال. عالم عشت فيه أنا وأنور أمداً، ثم أضعناه وضللنا طريقه. عالم كان حقيقة فصار (مع الأسف) ذكرى، وكان واقعاً فغدا خيالا، وكنا فيه فصرنا غرباء عنه، لا نراه إلا بقلوبنا من خلال ضباب الماضي.
فتحت على أبواب الذكريات، وكر علي هذا الماضي، كأنما هو (فلم) حافل بكل جميل ونبيل، فلم طويل عرض في لحظات وقد تصرمت في تأليفه وإخراجه ثلاثون سنة، فلم كنا نحن أبطاله وكنا نحن ممثليه، فصرنا نرى فصوله تعرض علينا من بعيد:
رأيت الفصل الأول من هذا الفلم وكان في المدرسة الثانوية الوحدة في دمشق (مكتب عنبر) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما أبصرت أنور العطار أول مرة. أبصرت تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر، من غير أن يبدو عليه أثر الغنى، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران خفيف الوطء، حالم الخطى، كأنه طيف يمر على خيال نائم، يعتزل التلاميذ لا يكاد يثب وثبهم، ولا يلعب لعبهم، فسألت عنه من يعرفه، فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار. وما كنت يومئذ أومن بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين ولا أرضى لنفسي أن أقرأ شعر المتنبي ولا يرضى ذلك لي مشايخي، لئلا تفسد (قالوا) ملكتي، ولم أسمع بعد باسم شوقي ولا باسم المنفلوطي، فما أبهت لهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار، ولا طلبت صحبته، ولا ظننت أنه سيكون بيني وبينه اتصال، حتى كانت تلك المصادفة المسعدة التي كان لها في حياتي وفي حياته أبلغ الأثر:
كانت هذه المصادفة على باب (المدرسة البادرائية) في ليلة من ليالي رمضان، أيام كان رمضان يزور دمشق حقاً، وكانت تدري دمشق بزيارته وتحتفل بلقياه، وكنت خارجاً منها فواجهت أنور داخلا إليها، فوقف يحييني ووقفت أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع، حتى جاء ذكر شوقي، فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمس بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببته. وأنت تلقى المرء أول مرة فتحس بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً. سر ركبه الله في نفس الإنسان.
وفهمت منه أنه يسكن في (السمانة) وكنت أقيم في (الديمجية) فاصطحبنا، وذكرت له موت والدي في تلك الأيام، فطفق يحدثني عن موت والده وهو صغير، واجتزنا سوق العمارة، والعمارة في دمشق كحي الحسين والأزهر في مصر، إن ضاع منك رمضان ببهائه وجماله وجدته في الحسين أوفي العمارة، وإن خفيت عنك معالم حسنه في كل مكان وجدتها في العمارة أو في الحسين، ولكن ما أدركت تلك الليلة شيئاً من هذا البهاء: لقد كان ما أسمع من أنور أبهى عندي مما أرى، وجعلنا طريقنا على (الدحداح)، وهنالك، على قبر أبيه وقبر أبي، ولدت هذه الصداقة التي أثمرت شعراً وحباً وإخلاصاً، وكانت من أسعد الصداقات. وهنالك في مدينة الأموات، عاشت هذه المودة التي لا يستطيع أن يعدو عليها الموت، لأن الأدب أكسبها الخلود.
وكرت فصول الفلم تتتالى، فرأيتني غدوت صديقه وغدا صديقي، يبثني شكاته وأبثه شكاتي، ويجد في حياتي مشابه من حياته وأجد في حياته مشابه من حياتي، قد ألف بيننا الأدب وألف بيننا اليتم، وإننا كنا مستورين، على حالة هي فوق الفقر ودون الغنى. . حتى كأنني هو وكأنه أنا.
وصار يسمعني شعره، فأجد بواكير شاعر متمكن، لا محاولات طالب مبتدئ، وأجد في هذه (البواكير) قوة في التعبير، وجدة في التفكير، وأبياتاً سائرة، وصوراً رائعة، فهو يقول في الدموع:
عجبي من لغة غامضة
…
تطرب الناس على شتى لغاها
وهو بيت نبيل في مبناه وفي معناه.
ويقول في وصف العمر (عمر البائس):
والعمر يحكي مستغيثاً علا
…
أنينه ثم تولى صداه
وطفق أنور يرسل قطع الشعر، شعر القلب، تتراً. يستقيه من معين صاف لا ينضب، فتتناقله الألسنة، وتمشي به الصحف، وتستقبل فيه العربية شاعراً جديداً ملهماً، ويفتح له أستاذنا محمد كرد على أبواب المجمع، فيقيم له ولإخوانه الثلاثة حفلة تكريمية ينشد فيها أنور قصيدة من الشعر الجيد، عنوانها (الشاعر)، يحسن اختيار موضوعها وألفاظها ومعانيها، وتشق له هذه القصيدة الطريق إلى مجلة (الزهراء) التي كان يصدرها في مصر خالي محب الدين الخطيب، والتي كانت أرقى مجلة أدبية في تلك الأيام، وكنت أود أن ينشرها الشاعر في هذا الديوان (الذي لم يضم إلا الأقل من شعره) ليعرف منها القراء كيف كان أنور ينظم الشعر قبل عشرين سنة، وكنت أود إذ لم تكن في الديوان أن أرويها كلها، ولكنها طويلة تملأ صفحات من هذه المقدمة.
وشعر أنور في تلك الفترة آهات أبدعها الفن صوراً، ودموع صاغها البيان شعراً، ومقطعات حلوة، ما أدري ماذا زهد الشاعر فيها فلم يثبت منها في هذا الديوان إلا مقطوعة (الحمامة).
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى. . . فرأيت فيها كل دقيق وجليل من حياة أخي في الصغر وفي الكبر، ورفيقي في السفر وفي الحضر، وأنيسي في المسرة وفي الكدر: أنور.
رأيت أيامنا في المدرسة، ونحن تلاميذ نعيش من الأدب في دنيا الخيال، إذ أعجزتنا دنيا الواقع أن نجد فيها ما نصبو إليه ونتمناه؛ لا نصدق متى ينقضي النهار، وننجو من هذيان جماعة الرياضيات، وطلاسم أصحاب الكيمياء، حتى نفر إلى كتب الأدب، نقرأ كل بارع من القول، ونتدارس كل رائع من البيان.
ورأيت أنور وقد بذ الأدباء جميعاً في (العلم. . .) بالرياضيات، حتى لقد عرف قطر الدائرة، وأضلاع المثلث، ولم يبق عليه ليبلغ نهاية العلم إلا أن يعرف القاسم المشترك الأعظم الذي لم يسمع به امرؤ القيس. . رأيته دائباً يكد ذهنه، ويمسح عرقه، يحاول أن يفهم سر المعضلة الكبرى التي لا يفهم لها سر، ويحل المشكلة التي لا يعرف لها حل: الجذر التكعيبي. وأشهد أني جزت الأربعين من عمري، ورأيت أياماً سوداً ولقيت شدائد
ثقالا، وسلكت البوادي المقفرة، وركبت البحار الهائجة، وعلوت متون السحب، فما رأيت في البر، ولا في البحر، ولا في الجو، شيئاً اشد ولا أصعب، من هذا الجذر التكعيبي.
ورأيتنا قد فرقت بيننا الأيام أمداً، فاشتغلت أنا بالصحافة، وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم، فكان مدير المدرسة الأولية في (منين)، في هذه القرية النائمة في حجر (القلمون) الأدنى، نرى مواكب الأحلام بأجمل (عين) وأشدها سحراً، وأكثرها فتوناً: عين منين من لم عين منين، ما عرف سحر العيون، ولا رأى جمال الينابيع، ولا رشف خمر الجمال على مائدة الطبيعة. . فكنت أزوره فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النعم، أسكر فيها سكرين: سكر الجمال، وسكر البيان؛ وأخضع فيها لسحرين: سحر الطبيعة، وسحر الشعر؛ وأجمع فيها الماضي البهي ذكرى حلوة، والأتي الشهي أملا مرتجى، في حاضر ضاع في نشوة اللذة حتى لم يبق لنا منه حاضر نحسه وندركه. نقضي الإصباح نستمع إلى أشعار السواقي المتحدرة من الينبوع وأشعار أنور، ونقطع الأماسي عند الصخور التي أفضنا عليها من قلوبنا الحياة فصارت تحنو علينا، وتولينا الحب؛ وأرقنا عليها البيان فأمست تحدثنا، تتلو علينا أحاديث الغابرين، وتقص قصص الأسلاف، من غسان أصحاب المجد المؤثل، فنحس أن قد عاد الماضي، ورجعت (القصور البلق) عامرة، وبعث المجد، وعاش الحب، حتى لكأننا نسمع همس العشاق وآهات نشو اتهم ووسوسة قبلاتهم، ونرى خيالات العناق من وراء الأستار!
أيام سعدنا بها، وما سعدنا بالصخر ولا بالماء، ولكن بأحلام الشباب. رحمة الله على شبابنا، وعلى تلك الأيام!
ورأيتنا وقد صرت أنا معلماً في الجبل من دمشق (في المهاجرين)، وصار هو معلماً في السفح (في الصالحية)، فكنا نرتقب المساء ارتقاباً، فإذا حل انحدرت أنا من هنا، وانحدر هو من هناك حتى نلتقي عند (العفيف)، نفرح بهذا اللقاء فرح حبيبين التقيا بعد طول الفراق!
ورأيت أيام العراق، زهرة أيامنا أنا وأنور وزينتها، أيام بغداد! سلام المحبة والوفاء منا على بغداد! وسلام على أهاليها! وسلام على الأثري والجوادي وروح الراوي وعلى إخواننا وعلى تلاميذنا فيها. . . ويا ما كان أحلى أيام بغداد، ويا ما أبهى لياليها، ويا ما أطيب ما
حملنا منها من ذكريات. . . على دجلتها سلام بردى، وعلى نخيلها سلام الحور، وعلى أبوذيتها سلام العتابا، وعلى أعظميتها وكرادتها ورستميتها سلام الربوة والمزة والشاذروان.
لقد كنا فيها معاً أبداً، يدرس أنور في صف وأنا في صف، وربما دخلت فدرست مكانه وقعد فاستمع؛ وربما دخل فدرس مكاني وقعدت فاستمعت. ونمشي على الجسر معاً، وما في الأرض مكان أحفل بذكريات المجد والشعر والغرام من جسر بغداد - ونتبع الشط، ونرتاد الرياض، نزور قصور الخلفاء، ومواطن الشعراء، وخلوات المحبين، نؤم الديارات والأطلال والمقابر، نتنسم عرف الأجداد، ونستروح رائحة الماضي، نستنطق دجلة، ونستخبر الآثار، ونسأل النخيل، ونسمع من الأرض ومن الناس أخبار الماضي الفخم، وأحاديث الجدود العبقريين، وقصص المجد الذي لم ترى عين الزمان ولم يحمل متن الأرض مجداً أجل منه ولا أعظم، ولا أرسغ أساساً ولا أعلى ذرى. ولم يكن يرانا الناس إلا معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي، وعلي وأنور، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي. . .
لقد كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور، ففيها أختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد هو عهد الشعر القومي: شعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة السحرية وتراً جديداً، خرجت منه أطيب النغمات.
رأيت هذا كله فأحسست أن الدنيا تدور بي، واختلطت عليّ الصور وتداخلت المشاهد، فلم أعد أستطيع أن أتبين شيئاً، ولم أستطع أن أكتب شيئاً. . .
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى، فإذا نحن في سنة1930، وقد بقيت بلا عمل (عقب عودتي من سفرتي الثانية إلى مصر)، فأخذني أنور إلى إدارة فتى العرب، فقدمني إلى معروف الأرناؤوط لأعمل معه في الجريدة، وقد عملت معه شهوراً، وصارت الجريدة ملتقانا أنا وأنور، وصارت مدرستنا الثانية نأخذ فيها من نفس معروف، ومن أدب معروف. وما رأينا في الأدباء من هو أحلى حديثاً، وأظهر صفاء، وأملأ بالأدب الحق من فرعه إلى قدمه من معروف، إذ كنت تشعر وأنت معه أنه يعلو بك عن المادة، ويسمو عن المطامع، ويوصلك بحديثه وابتسامته وطفولته إلى عالم كله وعاطفة وتجرد. وشيء آخر كنت أحسه ولا أملك التعبير عنه، شيء مثل الذي تحسه وأنت تقرأ في رواية معروف (عمر بن الخطاب)،
ومثل الذي تحسه وأنت تسمع حديث أنور، عندما يكون أنور في سبحاته الشعرية.
ورأيتنا، ونحن في مطلع سنة 1933، وقد لقيت أنور، فقال لي: لك عندي مفاجأة تسرك. قلت: وما هي؟ قال: لا، إلا أن تتغدي معي في الدار، فذهبت معه فإذا هي مفاجأة تسر حقاً: العدد الأول من مجلة الرسالة.
ومن ذلك اليوم دخل بيننا (نحن الاثنين) صديق ثالث، أحببناه وأحبنا، وهو الزيات ورسالته، وصارت الرسالة مدار أحاديثنا، وصارت مستقر أدبنا، وصار الزيات أخاً لنا كبيراً، وصديقاً عزيزاً، وإن كنت لم أره إلا بعد ذلك بثلاثة عشرة سنة، ولم يره أنور إلى الآن.
ورأيت أيام المعجزة التي ظهرت على يد الصديق منير العجلاني وكانت تظن من باب المستحيلات، أيام المجمع الأدبي، حين ألف بين رجال ما كنا نتخيل أنها تؤلف بينهم الأيام، لاختلاف مذاهبهم في الأدب وتباعد مسالكهم في التفكير، وتباين طرقهم في الحياة، وكانت أيام ألفة ونشاط وأمل، فأعقبها أيام افتراق وكسل ويأس. . . فيا ليت منيراً الوزير يكمل ما بدأه منير المحامي!
رأيت هذا كله، فحرت ماذا أصف وعم أتكلم، وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا من العواطف، وعالماً من الذكريات، وآلافاً مؤلفة من المشاعر، كانت أثبت من الزمان لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر؟
رأيت (هذا) كله وما (هذا) إلا تلخيص لحياة أنور الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلص الملهمون شعراء القلب والروح واللسان، لا شعراء الألفاظ وحدها والبيان الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال المترع بالخير الممتلئ بالحب، وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالبيان، وينفث السحر الحلال.
وفي هذا التلخيص تحليل شاعرية أنور، فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري فبكى الأحلام الضائعة كما بقي الأوراق المتناثرة في (الخريف). وخلد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة؛ فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غير ذلك، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكون مشاعره في طفولته، قبل أن يشعر هو ليكون مشاعره كما يريد؛ ولو
استطاع أن يصغر فمه أو يجمل أنفه لاستطاع أن أن يبدل قلبه ويحول عواطفه.
وقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا، وفتح عينه على الدنيا والحرب العالمية قائمة، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان، فكان يرى الازدحام كل صباح على الفرن، ولم يكن يفتح منه إلا كوة صغيرة يبرز منها رأس الخباز ليعطي السعيد من الناس كتلة سوداء لا يعرف ما هي على التحقيق وإن كان يعرف أن اسمها (الرغيف)، والجياع ينبشون المزابل ويأكلون قشور البطيخ، والنساء يعملن من دون الرجال لأن رجال دمشق قد أكلتهم الحرب، والاسم المرعب أسم جمال باشا يملأ القلوب فزعاً. ثم رأى المشانق وشهد المآتم، فامتلأت نفسه بهذه الصور القاتمة حتى لم يبق فيها مكان لغيرها. وإذا هو رأى الأعراس والأفراح أيام فيصل، فان هذه الأيام لم تكد تبدأ حتى انتهت، ولم نكد نستمتع بفرحة الاستقلال في حفلة التتويج، حتى ذقنا غصة الانتداب في مأساة (ميسلون).
فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وأن الفرح فيه مثل الفجر الأول لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل فهذا هو السبب.
ولا تلوموه إن تغزل، فتكلم عن الرؤى والأحلام، وترك الحقائق وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجمجم، فلم يخصص ولم يصرح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلا (ذنبا) على صاحبه أن يستغفر الله منه، وأنا أؤكد أن أنور، كنصيب الشاعر الذي سمى قوسه ليلى ليتغزل بها. إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل شباب اليوم، وإنه كان أعف وأِشرف من أن يفكر في هذا أو يحاوله، فمن هنا جاء الذي تلومونه عليه.
ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة وقصر عليها شعره ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعش في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس، فإن أنور أمضى صباه كما أمضيت صباي في عالم ضيق كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى مكتب (عنبر)، وتلك الساقية الصغيرة المطيفة بمقبرة الدحداح، وذلك الطريق الموحش الذي كان ينتهي عنده العمران، ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان أسمه (قفا الدور) فصار يسمي اليوم (شارع بغداد) أفخم شوارع دمشق الجديدة.
إن أنور يخشى اليوم أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه، أو يتجاوز حدوده كما كان يخشى
من قبل أن يتجاوز (قفا الدور)، أو يتخطى (مكتب عنبر) ولكن عالم أنور الشعري، عالم واسع على ضيقه لأنه عالم القلب، ولأنه متصل بالله؛ وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن أقتصر عليها، ولا يضيق عليه شبر واحد سما حتى اتصل بالسماء.
وعاش أنور في عهد جد ويقظة، وإقبال على العلم والعمل، وحفظ أنور أكثر من عشرة آلاف بيت من جياد أشعار العرب،
فجاء أسلوبه كالماء الصافي فيه عذوبة ولين، وفيه إن تدفق قوة ومضاء. وكان شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات وطالبي لعجاب العوام. وكان نسجه كالحرير المتين المفوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسج الرخيص الذي يتمزق من اللمس، وتذهب ألوانه من رؤية الشمس.
ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له من قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده. وكان أنور إمام جماعة الشباب ولم يكن مؤتماً تابعاً. ولولا نفس من شعر شوقي في مثل (ليل الحزين) من بواكيره، وروح من الأدب الفرنسي في بعضها، لقلت بأن أنور لم يقلد في أسلوبه أحداً أبداً، وهل لشاعر مثل الذي لأنور في وصف الطبيعة وفي وصف البلدان وفي وصف الرؤيا والأحلام، حتى يقلده أنور؟
وبعد فهذا ديوان الوفاء للعربية: نخل مفرداتها فاختار أطيبها، وعرض أساليبها فاصطفى أحلاها؛ وديوان الوفاء لأقطارها: جرى بردى منذ الأزل، وقام لبنان، فهل قال شاعر في بردى مثل الذي قال أنور؟ هل نظم في لبنان مثل ما نظم؟ وهل يعرف القارئ في الشعر العربي كله قصيدة في وصف الطبيعة أعظم من (لبنان) التي اشتمل عليها هذا الديوان؟ أنا لا أبالغ ولا أغالي، وهذا الشعر العربي بين أيدي الناس فمن عرف أعظم منها فليقل. . . ولكن المعاصرة حرمان، وأزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون هذا الشعر وهذا النثر، وتميز الزجاج من الجوهر، والنحاس من الذهب؛ وهنالك بعد أن يذهب الرجال، وتنقطع الصداقات والعداوات، ولا يبقى إلا الأدب الذي يستحق الخلود، تعرف قيمة (لبنان) وقيمة (بردى)، وهنالك بعد أن يعفى النسيان على أسماء كثيرة تملأ اليوم الأسماع، وتشغل الناس، يحتل اسم أنور العطار مكانه مع أسماء الشعراء الخالدين.
(دمشق)
علي الطنطاوي.
دفاع عن الأدب
للأستاذ أنور المعداوي.
الأدب الذي أعنيه هنا هو أدب الاعترافات، أو أدب التراجم الذاتية، أو أدب البوح والإفضاء كما يسميه الفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه.
ومن العجيب أنني حين تناولت القلم لأكتب عن أدب الاعترافات، وقعت على رأي لكروتشه يهاجم فيه هذا الأدب هجوما عنيفاً، ويرميه بالتأنث والسفاهة وقلة الحياء والضعف والانحلال!. . ولو أن رجلا غير كروتشه قد أبدى هذا الرأي في مثل هذا اللون من الأدب لما أثار في نفسي شيئاً من العجب أو شيئا من الإنكار؛ ذلك يبدو أمام المتتبعين لنظرياته في فلسفة الفن متناقضاً مع نفسه، مترجحاً بين اليمين والشمال، لا يكاد يستقر على رأي ينادي به حتى يعود فيتحول عنه. . . إن من يقرأ رأيه في أدب الاعترافات منفصلاً عن رأيه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، ليتبادر إلى ذهنه أن كروتشه من أنصار هذا المذهب والداعين له، مع أنه من أكثر خصومه إلحاحا في الخصومة، وإغراقاً في التحامل، وإسرافا في الهدم والتشهير!.
يقول كروتشه في تعليل ازدياد عدد الكاتبات من النساء: وعندي أن علة ذلك الحقيقية هي هذا الطابع الإعترافي الذي اصطبغ به الأدب الحديث، فبهذا الطابع إنما فتحت أبواب الأدب على مصراعيها أمام النساء اللواتي يمتزن بالانفعال والنشاط، فإذا قرأن كتب الشعر لاحظن فيها ما ينطبق على مغامراتهن الشخصية وفواجعهن العاطفية، فلم يصعب عليهن أن يفرغن ما في قلوبهن بدون أن يعنين بالأسلوب (والأسلوب كما قال بعضهم بحق لا يأتي من امرأة). فلئن أصبح للنساء إذن نشاط ملحوظ في حقل الأدب فلأن الرجال قد تأنثوا بعض الشيء من الناحية الفنية؛ ومن علامات هذا التأنث قلة الحياء في عرض مبائسهم، وهذه الحمى من الصدق التي ما دامت حمى فليست صدقا، وإنما هي شيء من التصنع الذي يوصل المرء بالسفاهة إلى اكتساب ثقة الناس على نحو ما فعل روسو لأول مرة). . .!
هذا هواري الفيلسوف الإيطالي في أدب الاعترافات. . . تأنث وسفاهة وقلة حياء، ويزيد على ذلك قوله بأن هذا اللون من الأدب يتسم بالضعف في طريقة التعبير، فهو على
التحقيق أدب لا أسلوب له! وقبل أن أعرض لرأي كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، كاشفا عما فيه من تناقض مع رأيه في أدب روسو وكل أدب آخر يحمل ذلك الطابع الاعترافي، قبل هذا كله أود أن أقول إن تلك الحملات التي شنها الفيلسوف الإيطالي على هذا اللون من الأدب تبعد كل البعد عن جوهر الواقع الملموس؛ لأننا لو وضعنا اعترافات رسو أو يوميات أندريه جيد في ميزان النقد، لاكتملت لها كل الصفات التي ينشدها الباحثون عن حقيقة الفن. . . الفن في كلمات هو أن يعيش الفنان في أعماق الحياة، وأن يستخدم كل حواسه في تذوق هذه الأعماق، وأن يملك القدرة على التعبير الصادق عما شهد وأحس حين يتناول ريشته ليسجل انعكاس الحياة على الشعور، وتلك أشياء يلمسها الناقد في اعترافات روسو ويوميات جيد.
الاعترافات واليوميات صورة واقعية من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية؛ فإطلاق الرأي فيها بضعف الأسلوب أمر لا ينطبق على الواقع؛ لان الصدق في التعبير صفة من صفاتها الرئيسية وسمة من سماتها الأصيلة. . . وليس هناك أسلوب مهما اتصف بالقوة أو بالجمال يستطيع أن يشق طريقه إلى القلوب والآذان، ما لم يستند إلى أقوى دعامة يمكن أن يستند إليها، ونعني بها الصدق في التعبير! ومع ذلك فأن صدق التعبير وجماله يتهيآن لروسو في أكثر فصول كتابه، وبخاصة في تلك المواضع التي تشير إلى علاقته الوجدانية بمدام دي فارنس.
ولعل في رمي الأدب الاعترافي بالتأنث كثيرا من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل، وذلك لأن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة والأمانة والصدق. . . صفحات عاربة لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير. ولعمري أن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم، دون أن يخشى في ذلك نقدا أو ملامة أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأيي ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء وليس متأنثا كما يدعي كروتشه. . . إن هناك كتابا يتظاهرون في كتاباتهم بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون
في حمأة الموبقات، فهل نستطيع أن نسمي أدبهم أدب قوة؟ كلا! ولا نستطيع أن نرفع قيمة هذا الأدب إذا ما قسناه بمقياس الفن الصادق، مقياس صدق التعبير عن الحياة؛ لأنه أدب يعبث بالحقائق، ويشوه الوقائع، ويكذب على الحياة والناس!. . . إن أندريه جيد لو لم يكن متأثراً في كتاباته بفيلسوف القوة نيتشه، لما تهيأ له أن يتناول قلمه ليكتب ما كتب في اليوميات!.
ونعود إلى تهمتي السفاهة وقلة الحياء لنرد عليهما بكلمات من نقد كروتشه للمذهب الأخلاقي في الفن ومنها يتبين مدى التناقض الذي وقع فيه الفيلسوف الإيطالي حين دافع عن حرية الفن في مكان، ثم عاد فهاجم الحرية في مكان آخر. . .
يقول كروتشه: (إن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً منحطة، فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولكن لن يكون فناً أبداً!).
ويقول: (لئن كانت الإدارة قوام الإنسان الفنان، فليست قوام الإنسان الفنان؛ ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإدارة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي. . . إنك لا تستطيع أن تحكم بأن فرانسسكا دانتي منافية للأخلاق، ولا أن جوردليا شكسبير أخلاقية، وما هما إلا لحنان من روحي دانتي وشكسبير ليس لهما إلا وظيفة فنية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي!. . . إن من تفرعات المذهب الأخلاقي قولهم أن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير، ويبث فيهم كره الشر، ويصلح من عاداتهم، ويقوم أخلاقهم، وإن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير وتقوية الروح القومي أو الحزبي في الشعب، أو إذاعة المثل الأعلى الذي يفرض على المرء أن يحيا حياة بسيطة جاهدة وما إلى ذلك. . . والحق أن هذه أمور لا يستطيع الفن أن يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة ذلك. فهل عجز الهندسة هذا يجردها من حقها في الاحترام؟ فليت شعري لم يريدون إذن أن يجردوا الفن من مثل هذا الحق في مثل هذه الحال؟!).
هذه الكلمات التي يسوقها كروتشه ليدافع بها عن حرية الفن لا تنفق بحال وما ذهب إليه في نقده لأدب الاعترافات. . . ومع ذلك فلا يمكن أن نجد خيراً منها في مجال الدفاع عن
اعترافات روسو ويوميات جيد!.
أنور المعداوي.
كتاب جديد لتوماس مان:
(دكتور فاوستس)
للأستاذ عمر حليق
هذا الإنتاج الفني الرائع لأمير البلاغة الألمانية مقالة عن الحضارة الألمانية المعاصرة كتبها عقل يمثل هذه الحضارة خير تمثيل ويستوحي فيها ألواناً من التحليل الفلسفي العميق لمناحي العظمة والضعف في العقلية الألمانية والخلق الألماني.
وأكبر الظن أن الشعب الألماني لن يقرا هذا الكتاب، ولن يتأثر به كما يريده مان أن يتأثر. فهؤلاء التيوتونيون الذين يملكون القول الفصل في حضارة أوروبا وسلام أوروبا وعظمة أوروبا مشغولون الآن بالجوع والحرمان والبلبلة السياسية والفكرية والسعي لإزالة هذا الحطام الذي تركته قنابل الأنجلوسكسون وجحافل الروس في أزقة المدن وحقول الأرياف، وفي الأنفس البشرية التي تحطمت معنوياتها في موجات متلاصقة من زوابع سياسية تعصف بهم تارة من موسكو وطوراً من العلم الجديد.
فكتاب مان الجديد أسطورة في تاريخ الأخلاق الألمانية وسجل لهذا الوضع المحزن الذي يكتنف الألمان من كل جهة فيسد عليهم منافذ الفكر والإبداع الفني مؤقتاً على الأقل.
وأكبر الظن كذلك أن الشعب الألماني لن ينتفع بالكتاب لأن مؤلفه اختار الوطن الأمريكي مقراً، وكان قد أستقر به في أوائل النازية لاختلافه معها على حدود الدولة في حرية الفرد وتفكيره وما يؤمن به ويدعو إليه من مبادئ، وما يفسر به شؤون العقل والحياة مما لا يجد في الفلسفة النازية مكاناً. وإذا صلح الحكم المطلق لتنظيم الفوضى السياسية والتفكك الاقتصادي في فترة من حياة أمة فإنه لا ينبغي مطلقاً أن يقيد الفكر كما يقيد الإنتاج الصناعي، ويحدد كما يحدد اتجاهات السياسة.
وفوق ذلك فإن توماس مان ظنين الولاء لوطنه. كان المعجبون بعبقريته (وألمانيته) ينتظرونه ليعود فيشارك هذا الشعب النشيط مسئوليته الجسيمة في فترة عويصة يحتاج فيها إلى رسالته الفنية كما تحتاج إلى رسالة (شاخت) الاقتصادية، ولكن مان - ولعله بتأثير زوجته اليهودية - لم يعد لألمانيا بعد، ويبدو أنه لن يعود، وهو يقطن الآن على بعد دقائق من هوليود مدينة السينما.
على أن ولاء توماس السياسي لا يعرف حدوداً إقليمية كمعظم المثقفين الممتازين، ولكن ولاءه الثقافي لا يزال ألمانياً، ولا يجاري هؤلاء اللاجئين من كتاب أوروبا الوسطى - ومعظمهم يهود - في تهالكهم على الاندماج في الثقافة الأمريكية المزدهرة اندماجاً فيه كثير من النفاق، وفيه كثير من (المادية) التي تفسد مقاييس الإعجاب الفني والإنتاج الفني.
هذا الكتاب الجديد دراسة للعلة الألمانية، وتوماس مان حريص على أن لا يوصي بمعالجتها أو بإيجاد حل لها، فإذا قرأته - وقراءته من أمتع القراءات في الأدب الغربي المعاصر - خرجت منه بشيء واحد، وهو أن هذه العلة الألمانية حقيقة ثابتة، لم تستمد وجودها من النازية ولكن من صميم الثقافة الألمانية والخلق القومي الألماني.
هو حوار بين توماس مان ونفسه، وهو تحليل لهذا الانفعال العقلي الشديد الذي ألم بتوماس مان بعد أن شاهد المحنة تلم بالثقافة التي ولد فيها وأحبها وأنشد روائعها في قوة وإجادة. وهذا الحوار قصة بطلها فنان ألماني معاصر هو (أدريان ليفركون) وهو مجدد موسيقي توفي في أوج المجد النازي عام 1940 قصها على القارئ أستاذ في مدرسة ألمانية أختلف مع النازية حول فلسفة التربية فأنزوي في الأرياف يكتب ويفكر، فلا هو منقطع عن الحياة الألماني - فإن له ولدين في الجيش - ولا هو قانع بالاتجاه الذي تسير فيه هذه الحياة الألمانية.
والظاهرة الخالدة التي تكرر في إنتاج توماس مان هو هذا التوازن في الوضعية، والصراع العقلي الذي ينشأ عن هذا التوازن - صراع الأمن في عزلته في الأرياف، والفنان الثائر على الوضع يحمل على أكتافه عبء المعرفة، الصراع بين (الصحيح) و (المعتل). خذ أي قصة من قصص توماس مان (جبل السحر)(بود نبروك)(يوسف وأخوته) يأسرك هذا الصراع، إذ أنه سبيل إلى تعليل كلا الوضعين في اتزان العقل الألماني المدقق الذي جعل من قصص مان إنتاجاً فلسفياً بالإضافة إلى كونها روائع أدبية خالدة.
ولقد حبك توماس مان هذه القصة في مهارة تنتزع منك الإعجاب.
فراوي القصة (الأستاذ المتقاعد) يعبد عبقرية بطل القصة أدريان، وهذه العبادة ليست وليدة التقدير الحق لهذه العبقرية، ولكن من قبيل عبادة الأبطال، وهي ظاهرة متأصلة في العقلية الألمانية تعمد توماس مان إبرازها لأنها من الأسس الراسخة التي تدفع الألمان أن لا
يسلكوا على نحو ما سلكوه مع هتلر ومع غير هتلر ممن تعاقبوا على الزعامة في التاريخ الألماني.
هذه العبادة هي مزيج من العقل والعاطفة، وهي المسؤولة عن هذه الولاء الشديد، هذا التفاني في المطاوعة والامتثال والتي تتأصل في الخلق الألماني.
فأدريان فنان مترفع - يعلم مقدار عبقريته وينزع إلى الغلظة والشراسة بفضل هذا العلم، وذلك لأنه تواق لأن يوفي هذه العبقرية الفنية حقها لا أن يجاري المعجبين.
وأدريان رجل يعيش في المجتمع ولكنه لا يتقيد به؛ ذلك لأنه نذر نفسه لأن يخدم هذه العبقرية وأن يوفي الفن حقه في الإنتاج والإبداع. فألقى في نفس أدريان أن يحل الإبداع إلى أبعد ما يستطيعه الخيال. وهذا الوضع الذي صاغ فيه توماس بطله أدريان وهو وضع العقلية الألمانية التي تميل إلى العزلة عن المجتمع الإنساني لأنها فخورة بهذا العمق الثقافي وهذه المهارة المادية، ولأنها تود أن تستغل هذا العمق وهذه المهارة لأنها تعتقد بأن البروز والتجلي يستلزمان واجبات للمضي قدماً في إعلاء هذا البروز وهذا التجلي.
ولك أن تفسر النداء الهتلري (ألمانيا فوق الجميع) بأنه خلاصة لهذا الاتجاه العقلي لدى الألمان لدى الألمان صبغ في لغة شعبية.
استمع إلى أدريان يحدث صديقه المدرس (راوي القصة) عن حرب ألمانيا الأولى (1914) ويدافع عنها بأنها الوسيلة الوحيدة لألمانيا لأن تحقيق ما هي خليقة به بحكم كيانها ومقوماتها العقلية والنفسانية والمادية:
(إن في قرار العالم مشكلة واحدة، وهذه المشكلة هي العالم نفسه، كيف يمكن للمرء أن ينفذ منه؟ وكيف يخرج منها إلى الفضاء؟ ما السبيل للمرء أن يشق الغشاء ويخرج إلى النور كالفراشة؟).
والجواب عن كل هذا راسخ في عقل أدريان ومستمد منه. فلم يشأ توماس مان أن يصيغ الجواب في شيء أقل عنفاً من مرض الزهري الخبيث.
فأدريان على ترفعه وعمق ثقافته وعبقريته أحب عاهرة نقلت إليه المرض. كانت الشيطان يزين له الخروج من محنته فآمن بها وتمتع ووجد مخرجاً ولكن إلى حين - وبثمن باهظ. استمع إلى أدريان يقول:
(إننا لا نخلق من العدم شيئاً جديداً - فذلك من شأن الآخرين. إننا نفرج عن أنفسنا فقط، ونطلق الحرية. إننا ندع العوج والشعور بوطأة النفس والشكوك وسواها تذهب إلى الشيطان. فعليك أنت أن تمهد السبيل، فاضرب في الأرض وشق الطريق إلى المستقبل فإذا الصبية يتبعونك، فهم ليسوا بحاجة إلى جنون ليفعلوا ذلك، فجنونك أنت كفاهم شر الجنون. فعلى جنونك يعيشون أصحاء، وعلى أكتافهم تعيش أنت صحيحاً. أفهمت؟ فإنك لن تشق لنفسك الطريق وسط صعاب الزمن، بل إنك تشق الطريق وسط الزمن نفسه. . . واحرص على أن تكون بربرياً مضاعفاً لأنك آت في أعقاب اللطفاء).
هذه محنة ألمانيا وسوادها مستمد من صميم القوى الألمانية نفسها.
وقصة توماس مان ليست على هذه البساطة، فالحبكة الفنية فيها بارعة. وهذه المحنة ليست محنة النازية فإن مان يكاد يتجاهلها. فهي محنة العقلية الألمانية كما هي وكما كانت، ولعل الألماني حين يتساءل كما تساءل أدريان:
(لماذا يبدو لي كل شيء في هذا الكون مشوه الأوضاع؟)
لا يصور انفعالاته فقط، بل يصور نفسه كذلك ومعه المجتمع البشري بأسره.
(نيويورك)
عمر حليق
سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية
طرائف من العصر المملوكي
رسالة الدار عن محاورات الفار
أو فن القصة
للأستاذ محمود رزق سليم
هذا عنوان طريف حقاً يثير الطرب، ويدفع السامع إلى تلمس الأثر واستطلاع الأثر. فكم للفار بين الدار من آثار، وكم للدار عند الفار من أخبار، وما ينبئك مثل خبير. فهو ربيب فتوقها ودعي شقوقها. أتخذ من أحجارها مأمنه، وبين جدارها مسكنه. فحفظ أخبارها وكتم أسرارها. والدور تتقلب بها الأيام كما تتقلب بالرجال. فتشقى مرة وتسعد أخرى. وتفيض تارة بالخير، وتبوء تارة بالفراغ منه. وعليها من خارجها طلاء يغشي جدرها، يبهر العين ويخدعها عما رواءها.
أما الفأر فهو بها الضيف المقيم، والزائر الذي لا يريم. يشاركها في سرائها وضرائها. يسعد إذا هبت عليها انسام السعادة، ويشقي إذا عصفت بها ريح الشقاء.
وكثيراً ما تضم دور الكرماء طوائف الفيران وجماهير الجرذان. ولها مما فضل نصيب، تمد منه الموائد، وتتنادى إليها ضيافن، لم يوجه لها نداء ولم يرسل إليها استدعاء، فحسبها أنها في دور الكرماء! فتملأ البطون وتعبئ الحصون، وتسهد إلى وقت سامرة، وتنقلب إلى مخادعها شاكرة ذاكرة - أما دور البخلاء - جنبت جنابها ووقيت أعتابها - فإنها لا فضل فيها لجائع، ولا ثمالة لظامئ، ولا ستر لمحروم. طالما نصب أهلها للفأر المصائد، ودبروا المكائد. فأنقلب عنهم ساباً شاتماً يذكرهم بكل قبيحة، ويرميهم بكل مذمة: ونفسه فياضة منهم بالعجب لأنهم يختزنون - فضلاً عن المال - ألواناً من الطعام والشراب. فإذا لم يكن للفأر فيها نصيب، فلمن يختزنونها، ولأي شيء يقتنونها؟
والعجب كل العجب أن يلتئم الغنى والبخل، وينسجم الفقر والبذل! أما الأغنياء فبخلاء، لا ينون بأس الأناقة والنظافة، والخوف من الداء وانتشار الوباء، يرأبون الصدوع، ويسدون الفرج، ويغلظون الدهان، ويبثون الفخاخ. وإذا طعموا فبالقسطاس، وإذا شربوا لا يبقون في الكأس. وإذا افضلوا فاليسير من الفتات الذي لا يصلح للأقوات؛ فلا يقوى عليه الضعيف،
ولا يسمن منه النحيف.
أما الفقراء فكثير منهم كرماء. ينضحون بالبر على بني الحيوان من الإنسان وغير الإنسان. يتهاونون في الحرص على أطعمتهم وأشربتهم، ويهملون الجدار حتى يمتلئ بالأحجار، فتعج بالزائرين من كل أمة.
والفأر بينهم من الأعيان، يجد في الدار مسرحه، وفي الجدار مطرحه. وله بين هذا وتلك ما شاء من طعام وشراب. . .
وتنعقد بينه وبين الدار صحبة يمتها المقام ويمكنها الألف، فلا يني كلما بان عنها يذكرها، وهي لا تفتأ كلما غاب تتفقده. . . ولو على رضا منه، وكره منها.
وكثيراً ما تنتقل الصحبة بينهما من الدار إلى أصحابها، ومن الجدر إلى أربابها. فتزول الوحشة، ويقوى الأنس، وتستأنس العين. حتى ترى وفود الفأر ترى زرافات لا تهاب ولا توجل. وتدير أعينها ف الحاضرين كأنما تتقاضاهم أجر الحراس وثمن الإيناس. . .
وهذه الدار التي تنشر رسالتها وتقص للناس قصتها، وتحب أن تحدثهم عن الفار ووفوده إليها، وتبسط لهم ما دار بينها من الحوار عن عهد رخائها وبؤسها، وأيام عزها وليالي تعسها، هي دار شاعر! عاش في العصر المملوكي. وهو عصر، كما علمنا، لم يدر للشعراء دره، عاشوا فيه عيش الحرمان، بينما سال سيل خيره في غير مجاريهم، وفاض ثريره دون وديانهم.
أما الشاعر فهو صفي الدين الحلي الذي طوحت به الأيام فنزح عن بلاده، وحمى آبائه وأجداده، إلى ملوك بني أرتق بماردين، وتنقل في مساكنها من دار إلى دار، حتى استقر في (دار ابن الدكناس) وكتب على لسانها هذه الرسالة.
ولهذه الرسالة أو المقامة سبب اتخذه الشاعر الناثر وسيلة لأن يكتبها على لسان داره.
وقد أفصح عن هذا السبب بقوله:
(وأنشأ عن لسان الدار التي أسكنها بماردين، وتعرف بدار ابن الدكناس، إلى القلعة الشهباء. وأرسلتها إلى السلطان الملك الصالح أبي المكارم شمس الدين. أشكو بفحواها مماطلة نائب له بدين، كان بضعه لي، وبعضه على يدي، بمبلغ طائل كتبه على نفسه، وأخرجه على مصالح الدولة، وتعذر عليه وفاه. ولم أؤثر مخاشنته لسابق صحبة بيننا. فأنشأتها على سبيل
الخلاعة والمزاج. فلما وقف السلطان عليها أطلق المال من خزانته العالية.) الخ.
وقد بدأت الرسالة بأن تكلمت الدار. فسمت، وتقدمت وتسمت. وأخذت تخاطب القلعة الشهباء مقام الملك الصالح فمدحتها وأثنت عليها. ثم انتقلت إلى الشكوى مما أصابها من هجر مالكها الأول، بعد أن رأت ضروباً من العز والنعيم والتمتع. ثم مما كابدت من بعده من هم وبؤس. حتى هال فيرانها بؤسها، فتحدثت عنه فيما بينها، وأهمها أمرها، فتناقشت فيه واتخذته موضوعاً لجدال جاد.
فقام من بين الفيران خطيب سرد قصة الدار على سامعيه، ثم أوصاهم بالساكن الجديد خيراً - والساكن الجديد هو صفي الدين! - ثم تحدثت الدار عما كان من أمر صفي، وكيف أنه أعاد إلى رحابها عهد السرور والأنس، ومد فيها موائد الحبور والبهجة، حتى ضاقت ذات يده، وتغيرت به الأحوال، وتقلب عليه الليل والنهار. حتى جأرت الدار بالشكاية له ورثى لحاله فيرانها، وعاد أمره بنها مثاراً لجدل جديد. . .
ثم بينت أن سبب نكبته، ذلك الدين الذي أقرضه لنائب السلطان. . . وتضرع الدار في الخاتمة إلى القلعة الشهباء أن ترثي لحالها وتقبل شفاعتها في ساكنها، حتى يرد إليه دينه فتسعد حاله.
هذا ملخص سريع لمقامة صفي الدين. ومما قالته الدار في مفتتحها:
(بسم الله الرحمن الرحيم. المملوكة والمحرومة المرحومة، الموحشة بعد الإيناس، دار ابن الدكناس، تقبل الأرض بين يدي القلعة الشريفة، والذروة المنيفة. العزيزة الثناء سيدة القلاع، وواسطة عقد البقاع، وإنسان عين اليفاع، التي قلائدها النجم، ومطارفها الغيوم، وقرطاها الفرقدان، وقلباها السما كان. ونطاقها الجوزاء. وعجولها العواء. وفرقها المجرة، ونثر إكليلها إلا كليل والنثرة، حصن النجباء وكهف الغرباء وكعبة الأدباء. القلعة الشهباء.). . . الخ ومن شكواها قوله:
(وتنهى أن المملوكة، والمظلومة المضنوكة، يسكتها الحياء والأدب. وينطقها الإعياء والنصب. وشكوى الجماد إلى الجماد، كشكوى العباد إلى العباد. وإن المعهود، من تقادم العهود، أن الله إذا خص مخلوقاً بنعمه، عم بها أبناء جنسه، وأشركهم فيها مع نفسه). إلى أن قالت نصف حالها بعد ساكنها: (فلما طوحت بساكنها الأيام، إلى أقصى الشام، جفاها
الإخوان حيناً طويلاً، وهجرها الرفاق هجراً طويلاً، فكابدت بعده هما وبوسي، وأقامت فارغة كفؤاد أم موسى. لا تجد أنيساً في عراصها القفار، ولا تسمح حسيساً غير صهيل الفار. حتى رثت لها أكثر البيوت، وخيم على وجهها أسرة العنكبوت). . . الخ.
ومن كلا م الجرذ الخطيب في إخوانه، قوله بعد حمد الله والصلاة على النبي بتطويل وتنويع، موصياً إخوانه بحسن لقاء الساكن الجديد - صفي الدين - راسماً لهم سياسة هذا اللقاء:(هذه الدار المباركة أول تربة بركم أترابها. وأول أرض مس جسمكم ترابها. فلا يمكن على أيديكم خرابها. ألا وإنها منذ خلا مسكنها من ساكنها، وتمكن العفاء من أماكنها، جعلتموها ندوة نهاركم وليلكم، وحلبة رجلكم وخيلكم، والآن فقد أنجابت عنها أيام البئوس، وأفلت طوالع النحوس، ولحظها الدهر بعين الرضا، وقضى بسعدها فصل القضا. وتولاها نعم المولى. وابتدر لسكناها الصفي الحلي. وفي يومكم هذا يرسل إليكم من يلم شعتها، ويطهر خبثها. ومتى رآكم بها ساربين وفي قرارتها راسبين. كره مغناها، واتخذ لنفسه سواها. فعاد ربعها كالرمس. ومتى تقبلها إذا قابلها، أخصب ربعها، وتعدى إلينا نفعها. ألا وإن من استرشد بحكمتي، واتبع كلمتي، أثبته في أمتي، وأتممت عليه نعمتي). . .
والرسالة تقع في نحو سبع صفحات من القطع المتوسط. وهي فكاهية المنزع إلى حد كبير، جميلة الأسلوب رقيقة العبارة تمتاز عن رسائل صفي الدين الأخرى، بالوضوح والسلاسة بالرغم من قيود البديع التي راعاها؛ ولكنها سلمت من التعسف والثقل. وبها بعض الملتزمات اللفظية التقليدية المرعية في رسائل العصر من نحو (المملوكة) و (تقبل الأرض)
و (تنهى). واجتمعت بها أغراض كتابية عدة منها الدعاء والشكوى والمدح والوصف والمجون والحكمة0
وقد عرضنا في هذا المقال لهذه الرسالة لكي تبرز إحدى خصوصياتها الهامة، وهى القص والحوار0 ونستطيع أن
نفهم منها أن فكرة النثر التمثيلي كانت تتراءى في مخيلات بعض الكتاب في ذلك العصر0 وان نقصها شئ من الإطالة ،
والتناسق وحسن الترتيب وقوة الحبكة وروعة الوقائع ودقة الاتصال بينها.
حقا! أصبحت القصة في عصرنا الحديث في مقدمة فنون القول ، وكذلك التمثيليات. وألف من هذه وتلك، وترجم عدد
لا بأس به. وتناولها النقاد على اختلاف نزعاتهم بالنقد والتنويه والتعليق والتوجيه. وهم يبذلون محاولات جاهدة لكي يقننوا نقدهم، ويضعوا له الأسس والمناهج، حتى يعاونوا على تشييد صروح القصة والتمثيلية على دعائم متينة تسمق بفضلها إلى الكمال المنشود.
غير أننا نكلف الأيام ضد طباعها، ونرهق الزمن بما لا يطيق إذا نحن حاسبنا الأقدمين وفق شروطنا، ووزنا أعمالهم بموازيننا، ضاربين الذكر صفحاً عن الفروق بين ملابساتنا وملابساتهم، واتجاه الزمن بنا وبهم.
والذي نحب أن ننوه به هو أن القصة كانت لها حياة، وكان لها وجود، في العصر المملوكي، ولو إلى حد ما. وأن من مظاهر حياتها - فضلاً عن القصة الصريحة - المقامات والمحاورات والمفاخرات والموازنات والرسائل والوصفية، وتراجم الرجال والأبطال.
وفي مقدمة ما نشير إليه من ذلك كله كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء).
ومؤلف هذا الكتاب هو شهاب الدين أحمد بن عربشاه الطبيب والمؤرخ الأديب صاحب كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) أصله دمشقي أنصاري، ولد بدمشق عام 791هـ، وقد هاجر مع أسرته منها حينما دهمها تيمور لنك التتري، وطوحت به الأيام حتى طاف بآفاق أسيوية عدة، ثم عاد إلى بلاد الأتراك العثمانيين واشتغل في ديون إنشائهم، وأتقن عدة لغات، ومهر في جملة علوم. واعتزل العمل بأخرة، وعاد إلى وطنه. ويمم شطر حلب، وزار في عهد سلطانه جقمق العلائي وقال السخاوي إنه لقيه بها عام 850هـ. وقد لبث بمصر حتى وافاه أجله عام 854هـ ودفن بالخانقاه الصاحية.
نعود بعد هذا إلى كتابه (فاكهة الخلفاء). فهو مؤلف قصصي بديع، اجتمعت فيه الأمثال واكتنزت به الحكم وتجلت لبه ضروب الدهاء والحيل، وغير ذلك من عدالة وصدق وأخلاق إنسانية، لا بأسلوب فج جامد خشن صريح، ولكن بأسلوب قصصي جذاب ممتع فيه خيال وتصوير، فروي على ألسنة الحيوان مما يمشي على أربع، ومما يطير بجناحين، ومما يزحف على بطنه، فهو إذاً غير مبتكر لهذا الضرب من القص، فقد سبقه به في
العربية عبد الله بن المقفع أول من سن هذه السنة الحسنة لمن جاء بعده من الأدباء والقصاصين في كتابه (كليلة ودمنة) غير أن ابن عربشاه كان مبتكراً في صلب القصص ومتن الحكايات. وقسم الكتاب إلى عشرة أبواب في كل منها قصة طويلة يستطرد خلالها إلى قصص جزئية أخرى. ومن أبوابها - على سبيل المثال - باب في نوادر ملك السباع ونديميه أمير الثعالب وكبير الضباع. . .
وقد جمع ابن عربشاه في أسلوب قصصه بين طريقة ابن المقفع وطريقة كتاب المقامات وبخاصة الهمذاني والحريري.
فابن المقفع ابتدع - شخصية (دبشليم) الملك أحد ملوك الهند، يجلس في محفله ويطلب إلى شخصية أخرى هي (بيدبا) الفيلسوف أن يحدثه ويضرب له الأمثال، فيحدثه بيدبا ويقص قصصه على ألسنة الحيوان. وكذلك فعل ابن عربشاه فإنه افترض ملكاً عظيماً يحدثه رجل حكيم. ولكن بفارق يسير. ذلك أن الملك والحكيم كليهما أخوان لأب واحد كان من قبلهما ملكاً عظيماً خلف أبناء خمسة. وملك من بعده كبيرهم هذا وعاش الأربعة تحت ظله في وئام وطاعة، حتى عصفت بينهم ريح الشقاق والخلف. فتنافرت القلوب وتجافت النفوس وتفرقت الأهواء، فهال الأمر أصغرهم واسمه (حسيب) وكان حكيماً فيلسوفاً زاهداً. ولك يتركه أهل النم والوقيعة حتى أفسدوا ما بينه وبين أخيه الملك. فجمعه الملك في حفل من أعيان دولته، وأخذ يستطلع علمه وحكمته رغبة في التشهير به وتسفيهه. ففاض بينهم بحكمه وأمثاله، وساق قصصه على ألسنة الحيوان، وتكرر الحفل وتعدد القص، حتى اعترف له الجمع بالفضل والنبل.
(البقية في العدد القادم)
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 2 -
تكلمت في المقال السابق عن تميم مشيراً إلى أنها كانت تسكن جزءاً من نجد.
وأذكر أنها مع القبائل التي تجاورها يشتركون في بعض اللهجات، وإذا ما وردت لهجة في كتب النحو والقراءات واللغة خاصة بنجد كانت شاملة ضمناً لها. كما يغلب أن تشترك القبائل النجدية الأخرى فيما يذكر لهذه القبيلة، لتجاورهم في المسكن وقرب اتصالهم. وتميم شاركت أحياناً قبيلة أسد لمجاورتها لها من ناحية وشاركت بكر بن وائل من ربيعة لمجاورتها لها من ناحية أخرى وشاركت لخماً لا متأثرين بالفرس لمجاورتها لهم من ناحية ثالثة، وما ذلك إلا لأن تميما منها بطون كثيرة كيربوع وطهية ودارم ومازن وحنظلة. وقد تنفرد كل قبيلة مجاورة لتميم بما يؤثر عنا من لهجات وذلك ما نراه حادثاً حتى الآن في بلدين متجاورين من اختلاف في معاني الألفاظ أو طريقة أداء الكلمات.
وسأعرض للهجة كل قبيلة مستقصياً ذلك ما أمكن مشيراً إلى ما كان للهجتها من أثر في القراءات أو اللغة ونحوها وصرفها وأولى اللهجات التي سأذكرها هي لهجة تميم.
1 -
ما الحجازية وما التميمية
تعمل (ما) عمل ليس في لهجة الحجازيين فترفع الأسم وتنصب الخبر بشروطها. أما عند التميميين فلا تعمل ويكون الاسمان بعدها مرفوعين. وجاء في القراءات على لغة الحجازيين: (وما منكم من أحد عنه حاجزين)(ما هذا بشراً) و (ما هن أمهاتهم) وقد قرأ عبد الله بن مسعود على لغة التميميين برفع بشر وقرأ المفضل عن عاصم برفع أمهاتهم على لغتهم. وقد تظرف أحد الشعراء النحاة حيث يذكر لنا أنه طلب من محبوبه الانتساب إلى قبيلته فلم يجبه بصريح القول، وإنما ذكر له تعبيراً فهم منه القبيلة التي ينتسب إليها فقال:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب
…
فأجاب: ما قتل المحب حرام
فإجابته (ما قتل المحب حرام) أفادت أنه تميمي لأنه لم يجعل (ما) تنصب الخبر، ولو قال: ما قتل المحب حراماً، لفهم منه أنه حجازي.
2 -
لغة تميم وكثير غيرهم عدم الفك في المضارع المضعف المجزوم والأمر: مثل شد ولم يشد قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وفي القرآن قوله تعالى: (من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) في قراءة القراء ما عدا نافعاً وان عامر وأبا جعفر الذين قرءوها بفك الإدغام وقوله تعالى (لا تضار والدة بولدها) في قراءة من جعل (لا) ناهية وتضار من الضرر وهم ما عدا ابن كثير وأبا عمرو ويعقوب وابن محيصين واليزيدي الذين جعلوا (لا) نافية فرفعوا وأبا جعفر في بعض طرقه الذي جعل تضار من ضار يضير وما عدا الحسن الذي فك الإدغام فقرأها لا تضارر. وقوله تعالى: (وأن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) بالجزم وتشديد الراء رواية أبي زيد عن المفضل عن عاصم، أما الباقون فبالرفع أو جعلوا الفعل من ضار يضير وجزموا، وقرأها أبي بن كعب يضرركم مجزومة، بفك الإدغام.
وقد ورد كثير في القرآن علة لهجة الحجازيين، منه قوله تعالى:(ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم)(أن تمسسكم حسنة تسؤهم. أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. أشدد به أزري. واغضض من صوتك. واحلل عقدة من لساني. . .).
وهناك من بني تميم من يحرك آخر الأمر في المضعف بحركة فاء الكلمة فيقول مُدُّ بضم الدال تبعاً للميم وعضًّ بفتح الضاد تبعاً للعين وعزَّ بكسر الزاي تبعاً لعين. إلا أن القبائل العربية جميعها اتفقت على الإدغام في هلم وحركت آخرها بالفتح ما عدا قبيلتي كعب وغني فإنهما حركتاه بالكسرة غاية ما في الأمر أن الحجازيين استعملوا هلم للمفرد والمثنى والجمع تذكيراّ وتأنيثاً بدون إلحاق ضمائر وبنو تميم ألحقوا بها ضمير المؤنثة والمثنى والجمع بنوعيه. كما اتفقت قبائل العرب على فك الإدغام في صيغة التعجب التي على وزن أفعل به فيقولون أحبب بمحمد.
3 -
يجوز الإبدال عند التميميين في الاستثناء المنقطع التام المنفي، والمنقطع هو ألا يكون الاسم الذي بعد إلا من جنس ما قبلها ومنه قول الشاعر:
وبنت كرام قد نكخنا ولم يكن
…
لنا خاطب إلا السنان وعامله
وقوله:
وبلدة ليس بها أنيس
…
إلا اليعافير وإلا العيس
فالسنان مرفوع وهو بدل من خاطب، واليعافير مرفوع وهو بدل من أنيس.
قال الزمخشري في قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) إنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم أما غير التميميين فيوجبون النصب في مثل هذا الاستثناء.
4 -
بعض بني تميم ومثلهم بنو عامر يجعلون إعراب الملحق بجمع المذكر السالم في آخره ويلزمونه الياء وينونونه إذا كان نكرة ولا يحذفون النون في الإضافة وذلك فيما عدا عشرين وأخواتها فإنها تعرب كجمع المذكر السالم وقد جاء عليه قول الشاعر:
دعاني من نجد فان سنينه
…
لعين بنا شيبا وشيبننا مردا
لكن القراءات جاءت على الأكثر: وما أدراك ما عليون الذين جعلوا القرآن عضين. عن اليمين وعن الشمال عزين. فلبث في السجن بضع سنين.
5 -
يربوع وطهية بطنان من تميم يبنون حيث على الفتح دائماً يقولون: حيث التقينا ومن حيث التقينا بفتح الثاء فيهما وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) بفتح الثاء والمشهور في حيث البناء على الضم وبعض القبائل تعربها.
6 -
لغة تميم ومثلهم في ذلك قيس وأيد وربيعة كسر حرف المضارعة إذا كان الهمزة أو التاء أو النون. وقد قرأ زيد بن علي ويحيى بن وثاب وعبيد بن عمير إياك نعبد بكسر النون، وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين العقيلي وأبو نهيك (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) بكسر التاء فيهما، أما بعض قبيلة كلب فإنهم يكسرون جميع أحرف المضارعة.
7 -
الإمالة لهجة تميم وعامة نجد من قيس وأسد، وهي الإنحاء بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء لأسباب تكفلت بها كتب النحو والقراءات وأشد القبائل حرصاً على الإمالة تميم وفي الحجازيين إمالة قليلة إلا أنها في الإنحاء بالفتحة نحو الكسرة وجميع القراء الأربعة عشر أمالوا ماعدا ابن كثير وابن محيصين المكيين. واللذين أمالوا لهم شروط خاصة وقد يتفقون وقد يختلفون. والفتح يقابل الإمالة في اصطلاح القراء. وفي القراء من تقل إمالته كابن عامر وفيهم من تكثر وألم
كثرون منهم من يميل إمالة صغرى كطريق الأزرق عن ورش ومنهم من يميل إمالة كبرى كحمزة والكسائي وخلف ومنهم من يكون بين الصغرى والكبرى كأبى عمرو، فمثلا حمزة والكسائي وخلف أمالوا كل ألف منقلبة عن ياء حيث وقعت في القرآن في اسم أو فعل وكل ألف تأنيث على فعلى بضم الفاء وكسرها وفتحها كطوبى والسلوى وذكرى، وألحقوا بذلك موسى وعيسى ويحيى وكل ما كان على وزن فعالي بالضم أو الفتح كسكارى ونصارى وكل ما رسم في المصاحف بالياء نحو بلى ومتى واستثنوا من ذلك حتى وإلى وعلى وما زكى فلم تمل بحال وأمالوا من الواوى ما كسر أوله أو ضم كالربا والضحا وأمالوا وأمال غيرهم من القراء غير ذلك مما لا يحصره بحثنا الآن.
8 -
النبر والتخفيف في الهمز:
أحرص العرب على تحقيق الهمزة تميم. وأهل الحجاز أكثرهم تخفيفا قال ابن منظور في لسان العرب (أهل الحجاز وهذيل وأهل مكة والمدينة لا ينبرون وقف عليها عيسى بن عمر فقال ما آخذ من قول تميم إلا النبر وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا). وفي الرضى على الشافية (فخفف الهمزة قوم وهم أهل الحجاز ولا سيما قريش) هذا وبعض تميم في الهمزة التي تكون آخر الكلمة وقبلها ساكن عند الوقوف عليها يبقون الهمزة ويتبعون العين الفاء في الرفع والنصب والجر فالبطء بضم فسكون والردء بكسر فسكون والخبء بفتح فسكون يقولون فيها هذا البطؤ بضم الباء والطاء والردىء بكسر الراء والدال والخبأ بفتح الخاء والباء، ومن تميم من يبقي الهمزة ويلقي حركتها إلى ما قبلها إذا كان ساكناً وذلك في حالة الوقف فيقولون هذا البطؤ بضم الباء والطاء ورأيت البطأ بضم ففتح ومررت بالبطيء فكسر، أما الحجازيون فإنهم يحذفون الهمزة وينقلون حركتها إلى ما قبلها إذا كان ساكنا إذا كانت آخر الكلمة حذفوا الهمزة ووقفوا على ما قبلها إذا كان ساكنا وفي حالة التنوين في المنصوب وقبل الهمزة ساكن يقلبون التنوين ألفا لا غير ويحركون السكون قبلها يقولون رأيت بطا وردا وخبا. والتي قبلها متحرك تدبر بحركة ما قبلها فالخطأ تقلب ألفا دائما رفعا ونصبا وجرا وأكمؤ تقلب واوا دائما وأهنئ تقلب ياء دائما وقد روى أن قوما من جهينة جاءوا إلى النبي صلى عليه وسلم بأسير وهو يرعد من البرد فقال لهم (ادفوه) أراد عليه السلام أدفئوه من البرد فحسبوا أنه يريد الإجهاز عليه من قولهم دفوت الجريح
أدفوه دفوا إذا أجهزت عليه فذهبوا به وقتلوه فدفع الرسول صلى الله عليه وسلم ديته.
وإن اختلاف القراء في التخفيف والنقل واسع جدا وأكثر ما يرد التخفيف من طريق القراء الحجازيين كابن كثير وابن محيصين المكيين ونافع وأبي جعفر المدنيين وأبي عمرو التميمي البصري لأن مادة قراءته عن أهل الحجاز. ومما يلحق بهذا أن التميميين يقولون في الأمر من سأل اسال وقد وردت كثيرا في رواية حفص عن عاصم: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب. واسأل القرية. فاسأل بني إسرائيل. فاسأل به خبيرا. واسألوا الله من فضله). أما الحجازيون فيقولون في الأمر سل، وقد جاءت في رواية حفص أيضا (سل بني إسرائيل. سلهم أيهم بذلك زعيم) وبعض القراء كابن كثير، يقرأ ما جاء في رواية حفص بلغة الحجازيين فيحذف الهمزة وينقل حركتها إلى ما قبلها فمثلا:(واسأل القرية يقرؤها سل القرية).
9 -
لغة تميم تسكين الوسط المتحرك تخفيفا قال السيوطي في كتابه الإتقان: قال أبو عبيدة: أهل الحجاز يفخمون الكلام كله إلا حرفا واحدا وهو عشرة إذا ركبت مع إحدى واثنتين إلى التسع فانهم يجزمونه، وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام إلا هذا الحرف فانهم يقولون عشرة بالكسر: وقد قرأ جمهور القراء بسكون الشين وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وابن أبى ليلى والمطوعي عن الأعمش بكسر الشين وذلك في قوله تعالى (اثنتا عشرة عينا). هذا وقد ورد في القرآن كثير من الألفاظ قرئت بإسكان وسطها وتحريكه كرسلنا وخطوات ونهر ولا يمكن حصرها وحصر قرائها في مقال، وقال جرير على طريقة التميميين:
سبروا بني العم والأهواز منزلكم
…
ونهر تيرى فما تعرفكم العرب
بإسكان الفاء من تعرفكم مع أنه لم يسبقه جازم.
ومما يلحق بهذا الإسكان ضمير الغائب والغائبة هو وهي، فالتميميون إذا سبقوا الواو أو الفاء أو اللام أو ثم، يسكنون الهاء. وهي تجري بهم. وهو بكل شيء عليم. فهو خير لكم. فهي خاوية. لهى الحيوان. ثم هو وقد قرأ أبو عمرو والكسائي ونافع من رواية قالون والحسن واليزيدي بالإسكان وأبو جعفر في أغلبها بالإسكان، أما الحجازيون فإنهم يتركون الهاء على حركته بدون تسكين وهو ما جرى عليه باقي القراء.
هذا ولا يفوتني أن أذكر أن إسكان الوسط يكون عند اجتماع ثلاث حركات وأن قبيلة أسد وبعض سكان نجد يشاركون تميما في ذلك كما أن بعض القراء لا يسكن الحرف ولا يحركه وإنما يجري على ما يسمونه اختلاسا وهو الإتيان بأكثر الحركة فمثلا (بارئكم) قرئت بكسر الهمزة وبإسكانها وباختلاس الكسرة.
10 -
لغة تميم في (أنا) ضمير المتكلم إثبات ألفه وصلا ووقفا أما غيرهم فإثبات الألف وقفا وقد قرأ نافع وأبو جعفر مع أنهما مدينان بإثبات الألف في الوصل في مثل قوله تعالى: (أنا أحيي وأميت). أما باقي القراء فبالحذف وصلا.
11 -
(هيهات) لغة تميم فيها بناؤها على الكسرة، وكذلك قبيلة أسد وبها قرأ أبو جعفر (هيهات)، أما لغة الحجازيين فبناؤها على الفتح، وبها قرأ الباقون.
12 -
اللذان واللتان وهذان وهاتان لغة تميم فيها تشديد النون وكسرها وبها قرأ ابن كثير مع أنه مكي أما باقي القراء فبكسر النون بدون تشديد.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي
محمد إقبال
شاعر الشرق والإسلام
1389 -
1873 1357 - 1938
للأستاذ مسعود الندوي
- 4 -
نعم، شعره منقسم إلى قسمين: نوع لا يدرك كنهه إلا الدين أوتوا حظاً وافراً من العلم، والذوق الأدبي، وهو الذي أخرجه للمتعلمين والمتأدبين خاصة، وفيه فلسفة وشعر وحكمة وانتقاد لنظريات فلاسفة الغرب وآرائهم. وقسم فيه الدعوة إلى الجهاد وإيقاظ النائمين من سباتهم وإماطة اللثام عن وجه الحضارة الغربية والسياسة العصرية وغيرهما من العظات وأسرار الطبيعة؛ وهذا يمكن فهمه والانتفاع به لكل من له إلمام بالشعر والأدب. وفوق ذلك أن بعض كلماته كالشكوى إلى الله (شكوه) وشكاة الأمة إلى نبيها (فرياد أمت) تنشدها العامة وتهتز لها طرباً، لأن الشاعر أعرب فيها عن عواطف جمهور الأمة فصادفت هوى في قلوبهم. وأضرب لك مثلاً بكلمته الشهيرة السائرة الشكوى إلى الله (شكوه) التي شكا فيها الأمة ورفع شكاتها إلى الله تعالى من إنعامه على الكافرين وإغداق النعم عليهم وسوء حال المسلمين في العالم وغيرهما من أمور يشكو منها المسلمون في هذا العصر ويتذمرون عليها في هذه الحياة الدنيا. وقد بدأها الشاعر بقوله:
(ربنا اسمع قليلا شكوى عبادك الأوفياء المخلصين، واستمع هنيهة لشكاة الذين تلهج ألسنتهم دائماً بالثناء عليك، ولا ريب أننا معروفون بالصبر والاستسلام للقضاء، لكنا نسمعك الآن نفثات القلوب المكلومة لأن نوائب الأيام أجبرتنا على ذلك).
إلى أن رفع عقيرته قائلا:
(كان يسكن هذه المعمورة السلاجقة والطورانيون، وكذلك كان أهل الصين في الصين والساسانيون في بلاد فارس وأيضاً كان يقطن اليونانيون بهذه الأرض الواسعة. ولكن قل لي بنفسك: أيهم تناول السيف بيده لإعلاء كلمتك؟ وأيهم قام لإصلاح المجتمع وقطع دابر الفساد من الأرض؟).
وهكذا ذهب به كل مذهب في هذه الشكوى حتى خاطب ربه متألماً:
(رحمتك تتوالى على الأجانب ودورهم، أما المسلمون فليس من حظهم إلا رعود النوائب وبروقها؛ والبلية كل البلية أن الكفار ينعمون بحور مقصورات وقصور مشيدة، والمسلمون المساكين يعللون بوعود الحور فقط). وتخلل هذه الشكوى كثير من مزايا الأسلاف وخصائص أعمالهم الجليلة التي افتخر بها الشاعر أمام ربه كقوله في وصف المجاهدين الأولين: (وكلما حانت الصلاة أثناء صليل السيوف، ولت الأمة الحجازية وجهها شطر القبلة وسجدت لله تعالى شاكرة.
ووقف محمود (الأمير) وإياز (المملوك) في وصف واحد فلم يبق هنالك عبد ولا مولى، وأصبحوا جميعاً عبيداً لله؛ واتحد العبد والمولى والفقير والغني، ولما وصلوا في حضرتك، صاروا وحدة جامعة وكتلة متراصة).
وكلمة (شكوه) هذه سائرة مسير المثل في طول بلاد الهند وعرضها. وكذلك يضاهيها في الشهرة والقبول جواب الشكوى (جواب شكوه) التي رد فيها الشاعر على كل بيت من شكواه وذلك بلسان الله عز وجل، وكلتاهما أشهر من (قفا نبك)، وقد ترجمت بلغات عديدة. ولكن العارفين بدخائل الكلام يرون أن الشاعر لم يكن موفقاً في الرد مثل نجاحه في عرض الشكوى. وذلك غير بعيد من شاعر مطبوع متألم من مصير بني قومه، وهو في ريعان شبابه. وعلى كل فإن الشاعر نجح إلى حد بعيد في إرشاد إخوانه إلى مواطن ضعفهم في الدين والأخلاق.
هذا وقد عرفت ما بلغه الشاعر الحكيم من علو الفكر، وسمو البيان في الدور الثالث من حياته الشعرية، نريد أن نعرف القراء بشيء من غرر شعره وفرائد حكمه في الدور الرابع من شاعر يته حينما جاوز حد الفتوة، وأصبح في عداد الحكماء أكثر منه في الشعراء. ولكن حكمه منتثرة في مطاوي دواوينه، كثيرة متنوعة في مواضيعها، بحيث لا يمكن تقدير إحاطتها وتنوعها بعدة من الأمثلة، ولذلك يجدر بالمقام أن نبتدئ أولا بذكر دواوينه والإشارة إلى مواضيعها، ليكون القارئ على بينة من كثرة منظومة وتنوع أفكاره وحكمه، ثم نلخص نتفاً من آرائه السديدة وحكمه البالغة. أما دواوينه الشعرية، فهاك بيانها:
باتك درا (صوت الجرس): مجموعة شعره (باللغة الأردية) في الأدوار الثلاثة الأولى،
وأكثرها دعوة إلى الجهاد وتذكير بالماضي واستهزاء بالحضارة الجديدة في التعليم العصري ونتائجه السيئة.
أسرار خودي (أسرار فلسفة الذاتية أي فلسفة الاستقلال بالرأي والعزم): وقف الشاعر هذا (المثنوي)(نوع من الشعر الفارسي) لإيضاح فلسفة (خودي) وبيان نتائجها، مستدلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية. وفيه تفسير لسورة الأخلاص نفيس في تبيين هذا المعنى، وذلك بلسان سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد ترجم هذه المجموعة الدكتور نكلسن بالإنجليزية وهذا الديوان أيضاً من آثار شبابه.
بيام مشرق (رسالة الشرق): نظم الشاعر هذا الديوان رداً على (الديوان المغربي) للشاعر الألماني الشهير (غوته) وبين فيه الحقائق والحكم التي تساعد الأمم على تربية عقولها وتثقيف أبنائها بثقافة ناضجة محكمة. وقد أضاف اليه الشاعر مقدمة ممتعة بين فيها ما كان للأدب الفارسي من تأثير في الأدب الألماني، وأن ديوان غوته المعروف (بالديوان المغربي) أيضاً نتيجة من نتائج هذا التأثير. وهذا أول الدواوين التي نشرها في الدور الرابع من حياته الشعرية. وقد تلقاه أهل الأدب في الشرق والغرب بالقبول. وكان الشاعر أهداه إلى الملك أمان الله خان، ملك بلاد الأفغان وقتئذ، حيث كانت الأمة قد عقدت عناصرها عليه وكان صاحبنا يرجو منه شيئاً كثيراً في سبيل أحكام أواصر الأخوة الإسلامية وتوطيد دعائم المجد الإسلامي.
زبور عجم (زبور العجم) للناس أقوال في تفضيل بعض دواوينه على بعض، حتى إن بعض الشبان الثائرين يفضلون ديوانه الأول (بانك درا) على جميع دواوينه لكونه مشتملاً على روح الثورة والجهاد. ولكن جميع الناقدين متفقون على أن (زبور عجم) شعر، كما أن (أسرار خودى) فلسفة و (بيام مشرق) حكمة. وفي هذا الديوان من مكنونات أسرار الحياة وغوامض الحكم ما تهش له النفس ويفرح به القلب،
(جاويد نامد) سلك فيه الشاعر مسلك المعري في رسالة (الغفران) و (دانتي الإيطالي في ديوانه حيث صاحب الحكيم العرف بالله جلال الدين الرومي وارتقى معه درجات السماء في عالم الخيال، فلقي هنالك أرواح المجاهدين وأسر إليها بذات نفسه ووصف لها أدواء الأمة واستفسر عن دوائها، فوصف له الدواء الناجع أمثال السيد جمال الدين الأفغاني و
(والسلطان الشهيد)(تييو سلطان ملك ميسور الشهيد) وسعيد حليم باشا، وحمل حملة شعواء على اللورد كتشنر بلسان المهدي السوداني وأنبه على نبش قبره تأنيباً شديداً. وفي الديوان كلمة حكيمة حماسية من السوداني إلى ملوك العرب، ابتدأها لسان الشاعر بقوله:
(فؤاد وفيصل وابن سعود). والتي قال فيها: (ذاك بطحا ديكر بزاي). يا ليت أرض الحجاز أنجبت خالداً آخر.
وكذلك الشاعر حد الإعجاز في تصوير الخيانة والغدر في أبشع صورة، حينما ذكر جعفراً وصادقاً، وقال إنه رآهما مطروحين من وراء النار، لأنها استنكفت من دخول الخائنين فيها. وأي بيت أبلغ في ذم الخائنين من قوله فيهما:
جعفر إذ بنكال وصادق أزدكن
…
ننك آدم، ننك دين وطن.
جعفر البنغالي وصادق الدكني
…
كلاهما عار للإنسانية والدين والوطن.
يتبع
مسعود الندوي.
عودة
للأستاذ حسين محمود البشبيشي.
إني رجعت وكل إحساس فؤاد شيق
في جانبيَّ تلهف وبناظريَّ تشوق
وعلى المحيا بسمة بحنين قلبي تنطق
ويفيض من عيني هيام جامح يتدفق
ويكاد قلبي بالتشوق والتوجع يشرق
وأكاد من فرط الصبابة يا حياتي أصعق
هيهات بعدك يا حبيبي فرحة تتألق
مذ غبت عني لم يزل قلبي بعهدك يخفق
والى ظلالك يا حبيبي لم يزل يتشوق
واليوم وحدي قد رجعت على سماك أحلق
ورجعت لست بمبصر شيئاً ولست بشاعر
تعتادني أوهام إحساسي وومض خواطري
ويهزني شوق تدفق ثائراً بذواكري
وتسوقني أصداء أيامي وعطر أزاهري
وتحيط بي ذكَرُ العهود توثبت بمشاعري
فهنا تضرعُ عاشق. وهنا تدلُّل ساحر
وهنا رماد الذكريات الزْهر عفو ناظري
ورجعت ليتك قد رجعت معي لعهد غابر
كانت لنا دنيا وكنت بها سعادة شاعر
واليوم وحدي قد رجعت فيا لقب سادر
في كل ركن ها هنا ذكرى تجن لمقدمي
وأكاد ألمس لفحها يجري ويصرخ في دمي
فبكل غصن كنت تبصره تلفت مغرم
وبكل طير كنت تسمعه حنين متيم
إني رجعت وفي دمي شوفي وشعري في فمي
وعبير ثغرك لم يزل يسري بعطر مبسمي
وحنانك الدفاق غامرُ قلبَي المتحطم
وسنا عيونك رغم بعدك لم يزل كالأنجم
شقت دواكن وحدتي وسرت بقلب مظلم
فكأنها الأمل البعيد بدا بأفق مبهم
سل عن سهادي كل نجمٍ في سمائك ساهر
الليل يصحبني وأصحبه لو هم سادر
وأبثه شوقاً بقلبي كاللهيب الساعر
ويلفني بسكونه وألفه بمشاعري
وأحس بين نجومه طيفاً يضيء بخاطري
ويعيد أيامي ويغمر بالعبير أزاهري
أنا واهم يا ليل، رفقاً بالشريد الحائر
أنا واهم أحسوا السراب بخاطري وبناظري
أنا واهم، أنا واهم، من لي بهدْى غامر
يلقي إلى قلبي الرجاء فلا تضل سرائري
أنا واهم. هل هذه الأطلال تعلم ما بيه؟
أنا واهم. ثارت بقلبي ذكريات ضاريه
وطغى على عيني السراب وطوقتني الغاشية
فحسبت أنك قد رجعت، وإن روحك حانية
يا ليت إني ما رجعت إلى ظلالك ثانيه
لم ألق غير توجعي. لم ألق غير الهاوية
لم ألق غير عهودنا تبكي وتصرخ ناعيه
في مهجتي خدع الظنون على سرابك جاريه
وبناظري لجج التشوق نحو ظلك ساريه
وأنا هنا. . . وظلال حبي في الفؤاد كما هيه
حسين محمود البشبيشي
الأدب والفن في الأسبوع
للأستاذ عباس خضر
أسلحة من براغ:
نشرت إحدى الصحف الأسبوعية لمراسلها من براغ، أن اللغة العامية المصرية وغيرها من اللغات العامية بالأقطار العربية تدرس في كثير من جامعات العالم وفي براغ، كما تدرس فيها اللغة العربية (الكلاسيكية) واسترعى انتباهي ما قصد إليه الكاتب من تعظيم شأن العامية على حساب الفصحى. . وخاصة قوله:
(ويعتقد كثير من إعلام المستشرقين الأوربيين أن اللغة الدارجة المصرية سوف تكتسح اللغة الفصحى وتحل محتها يومياً ما فتصدر الصحف وتطبع الكتب باللغة الدارجة التي يتكلمها الشعب وتبسط الكتب الدراسية وتنال اللغة العربية نفس نصيب اللغة اللاتينية وحظها بعد أن تفرعت عنها اللغات الإيطالية والفرنسية والأسبانية والبرتغالية).
وأنبه أولاً على أن هذا الكلام من (براغ) عاصمة تشيكسلوفكيا أو العاصمة الصهيونية الثانية بعد تل أبيب. . . كأن لم يكفها إمداد اليهود في فلسطين بالأسلحة والعتاد الحربي لمحاربة العرب، فأراد دعاة الصهيونية هناك أن يصوبوا سهماً إلى لغة العرب الجامعة بينهم، لتحقق أحلامهم في تفريق العرب، فهذا حلم يبدوا لهم جميلاً، وأي شئ أجمل لديهم
من أن تتهزم العربية وتتقهقر لتحل محلها اللغات العامية، ولكل شعب من الشعوب العربية
عاميته، فيصدر بها الصحف ويؤلف الكتب، فتنال اللغة العربية نصيب اللغة اللاتينية، وتنحل
رابطة اللغة بين أقطار العرب؟. . .
وذلك من غير شك سهم طائش، وليس هذا أول كلام قيل في هذا الموضوع، فقد سبقته محاولات خائبة، تتحد معه في الغاية والمرمى، وإن كان لكل منها مصدره وباعثه. . . فالغاية أن تنمحي اللغة العربية وتتفرع عنها لغات كالإيطالية والفرنسية. . . الخ، والبواعث شتى، فمن أعجمي لا يبين، ومن عامي يريد أن يكون شيئاً، ومن متظاهر بالتقدمية
الحمقاء، ومن شاعر في أحشائه بلذعة الفلفل من العروبة. . . فيتبرد مرة بالفرعونية،
ويتذرع أحياناً بالعامية. . . ثم جاءت الصهيونية في آخر الزمن تريد أن تساهم في هذه الخيبة. .
ولاشك في حسن نية الصحيفة التي نشرت ذلك الكلام أو - على التدقيق - في غفلتها. . . وكان عليها أن تتنبه له ولبض العاملين في تحريرها من ذوى المحاولات القديمة الخائبة. ومن يدرى فقد يغزو صحفاً أخرى مراسلون من براغ. .
ولتدرس جامعة براغ أو أي جامعة أخرى ما تدرس، ولتعلم بها العامية نفر من أبناء بلادها أو غيرهم، فهل هؤلاء هم الذين سيصدرون الصحف ويؤلفون الكتب باللغة الدارجة المصرية ويكتسحون ويفرعون؟. ثم من هم المستشرقون الذين يعتقدون أن اللغة الدارجة المصرية سوف تكتسح اللغة العربية الفصحى. . الخ؟ لم يذكر لنا الكاتب أسم واحد منهم، وأكبر الظن أن هؤلاء الذين سماهم (أعلام المستشرقون الأوربيين) أنا أنهم صهيونيون وأما أنهم أشباح تمثل أحلام ذوي المحاولات الخائبة والسهام الطائشة.
وبعد فكيف تنال اللغة العربية نفس نصيب اللغة اللاتينية؟ لقد تفرعت اللغات الأوربية الحديثة عن اللاتينية القديمة مع النهضة التي قامت اللغات الجديدة بأعبائها، وكانت مظهراً من مظاهرها، وهذا يختلف عن حال اللغة العربية كل الاختلاف، إذ وسعت اللغة الفصحى النهضة العربية الحديثة واستقلت بها، فهي لغة الآداب العصرية ولغة الكتابة والتأليف في سائر الفنون والعلوم، أي أنها واجهت النهضة وقامت بأغراضها وعبرت عنها وأصبحت لغتها وانتهى الأمر، فلم تخلي مكانها لتحل محلها لغات متفرعة؟ من أجل سواد عيون الوعول التي تكسرت قرونها. . أم لتحقيق أحلام الصهيونية في تمزيق الأمة العربية؟
عزيزتي الآنسة أم كلثوم
قرأت في أخبار اليوم أن محطة الإذاعة يتجه تفكيرها إلى الاتفاق معك على أن تدفع لك ألف جنيه في الشهر مقابل إذاعة أغنياتك المسجلة حسبما ترغب، بدلاً من أن تدفع خمسين جنيهاً عن إذاعة كل مسجل من هذه الأغاني.
ولم أتبين مقصد الإذاعة من ذلك، أهي تريد الاقتصاد. . . لأن عدد إذاعة المسجلات في الشهر مضروباً في خمسين جنيهاً يساوي أكثر من ألف جنيه. . . أم أن حاصل الضرب أقل من ذلك وتريد زيادة التقدير أو تلبية رغبة في الزيادة؟.
والواقع على أي حال أنها تدفع لك مبلغاً كبيراً لا يقل كثيراً عن الألف في الشهر مقابل أغنيات أخذت ثمن كل منها ثلاثمائة جنيه عند التسجيل.
وأنت تستحقين كل خير، وفنك العالي لا يقدر بمال. ولكن محطة الإذاعة. . . محطة الإذاعة مسكينة (غلبانة) أعني هؤلاء الفنانين والفنانات الذين يأخذ أحدهم مقابل الحفلة الغنائية خمسة عشر جنيهاً يقاسمه فيها أفراد (التخت) والمؤلف، وأعني الذين لا تعطيهم المحطة أجراً على إذاعة مسجلاتهم كما تصنع معك وحدك، وأعني الذين تضيق بهم المحطة رجالها وأن كانوا ممتازين في فنهم، وأعني كل فكرة أو مشروع إذاعي نافع يقف في سبيله ضيق الميزانية، ثم أعني هؤلاء الذين يسعون لإرضائك ويرضخون لقوة شخصيتك. فارحمي كل أولئك المساكين وكوني عادلة مقتصدة في معاملة الإذاعة، عامليها مثلاً كشركة (بيضافون) التي كان تعطيك ثمن التسجيل، ثم تبيع (الاسطوانات) ولا يدفع إليك كل من يدير (اسطوانة) في (الفونغراف) أي شيء.
يا كروان الشرق، أن كنت تريدين المال فبعض هذا يكفي، وأن كنت تريدين إعلاء الفن فلست في حاجة إلى إعلائه؟ فقد أعليته حتى بلغت به سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم. . وأعلمي أنك من الأعلام الخالدين وأنك لا تقلين إن لم تزيدي عمن خلدهن أبو الفرج في (الأغاني) مع الفاروق الذي به تفوقينهن، من حيث ما أضفاه عليك روح العصر من استقلال الشخصية والكرامة العامة.
فأسألك بالله وبحق الفن، أن ترأفي بحال الإذاعة، فهي لك مطواعة، وتبذل من أجلك ما فوق الاستطاعة، وغيرك لا ينال إلا بالشفاعة. وتفضلي بقبول تحيتي واحترامي.
(حسونة) الإنسان:
هو ذلك الشاب الأعرج بياع الصحف الذي ظهر في فلم (اليتيمتين) إنساناً ينبض قلبه بالعطف والحب والخير، برغم سوء بيئته ورقة حاله. يرى فتاة ضريرة ضالة فيشفق عليها. وتقع هي فريسة في يد أمه الشريرة الضارية، فتستغلها في بيع ورق (اليانصيب) وتعاملها بقسوة ووحشية، فيتألم لها حسونة أشد الألم ويبذل وسعه في التخفيف عنها ومقاومة أمه وأخيه الذي يعاونها على قسوتها، حتى يستطيع آخر الأمر أن ينقذها من براثنهما. وكم كان مشهده رائعاً وهو يحضر لها ما يقدر عليه من طعام ويهيئ لها شيئاً من
الفراش ويصنه لها على السلم درابزيناً لتتحسسه وليقيها السقوط في صعودها وهبوطها. كان حسونة في هذا الفم نبضة إنسانية رائعة، من النبضات التي تخلد الفنون، وهو مثل ينبغي أن ينظر فيه السينمائيون المصريون ليروا كيف يمكن أن تكون السينما فناً رفيعاً لا مجرد استعراض للتهتك الذي يتخلله الوعظ المكشوف.
وفلم اليتيمتين الذي عرض بسينما الكوزمو، لم يذكر له مؤلف، وأكبر الظن أنه مقتبس ممصر، من تلك الأفلام التي تنسب إلى المخرج فقط، وأن كانت حادثته تبدأ بلقيطة وتنتهي بلقاء الوالدة وابنتها بعد ما كبرت وجرت عليها حوادث القصة، فهذا قالب من القوالب المعروفة التي يتكرر صب القصة في كل منها بالأفلام المصرية؛ فإن كان هذا الفلم ممصراً فقد أجيد تمصيره حتى بدت فيه ملامح البيئة المحلية وقوامها كأنه مصنوع على قدمها. . . أما أن كانت القصة إنشاء مصرياً فمن هو المؤلف الفنان الذي أبدع حسونة الإنسان؟.
مؤامرة نفرين تتكرر:
ألقى البكباشي عبد الرحمن زكي محاضرة يوم السبت الماضي بنادي الاتحاد الثقافي المصري، عن لإبراهيم باشا في تأريخ مصر الحربي، فبين مزايا البطل العظيم في الناحية العسكرية بإلقاء نظرات على ميادين القتال التي خاضها، وعرض لحملته على الموره وبلاء الأسطول المصري في مياهها، فقال أن الجيش المصري كان يحارب في بلاد الموره أوربا كلها التي كانت تمد اليونانيين بالرجال والأسلحة والعتاد، وانتهزت إنجلترا وفرنسا وروسيا فرصة انشغال إبراهيم باشا بتنظيم الجيش البري وتآمرت على السفن المصرية فكانت موقعة نفرين المشهورة التي كانت في الحقيقة مؤامرة ولم تكن موقعة، لأن أساطيل هذه الدول أخذت الأسطول المصري والتركي على غرة.
والواقع أن موقعة نفرين حادث من الأحداث التي بدا فيها التعصب الغربي ضد الشرق، ومن قبلها الحروب الصليبية، ومن بعدها معارك فلسطين الجارية، فالغرب في القرون الوسطى هو الغرب في القرن التاسع عشر، وهو هو في القرن العشرين؛ وهو بعد الذي يرمي الشرق بالتعصب. .
عوائق الفكر المصري:
قال الأستاذ إبراهيم المصري في مقال بالعدد الخاص بعيد الجهاد من أخبار اليوم: (إن هناك ثلاثة أخطار تهدد مستقبل الفكر المصري هي: إغراء السهولة، وضعف النقد، ونقص الحرية) ثم فصل ذلك بقوله إن الكاتب قد شعر بقوة الصحافة فأصبح لا يحفل في الغالب بالفكر المتئد الناضج العميق، قدر احتفاله بالفكر البسيط السهل يذيعه في مختلف الصحف ويتقاضى عليه أجراً كبير لا يكلفه طويل عناء. والفكر لا ينهض بدون نقد، وظل النقد قد تقلص اليوم في مصر، فمعظم الصحف والمجلات تشير إلى الكتب الجديدة دون أن تبحثها وتحدد قيمتها وقيمة أصحابها، وحرية الفكر المصري ما تزال مقيدة، فهو إن مس التقاليد سخط عليه المحافظون، وإن نقد نظام المجتمع ثار عليه البيروقراطيون واستبدوا به واضطهدوه شر اضطهاد.
المعجم المفهرس لألفاظ الحديث:
يشرف (الاتحاد الأممي للمجامع العلمية) على إصدار (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين من مختلف الأقطار يبلغ عددهم اثنين وأربعين مستشرقاً، وتولى الدكتور أ. ي. ونسنك طبعه بمطبعة بريل في مدينة ليدن بهولندة، ونشر منه أحد عشر فصلاً يحتوي كل منها على تسعين صفحة من أكبر قطع، وبعد وفاته أستأنف العمل الدكتور ي. أ. ب. منسنج فوصل إلى لفصل السابع عشر.
وهذا المعجم موضوع عن كتب الحديث الستة المعروفة وثلاثة أخرى هي مسند الدارمي وموطأ ابن مالك ومسند الإمام أحمد بن حنبل. وطريقته وضع جزارة لكل نقطة من ألفاظ الحديث الواردة في هذه الكتب التسعة ضمن الجملة التي هي فيها، ثم الدلالة على موقع هذه اللفظة من هذه الأصول التسعة بتوضيح أسم الأصل ثم أسم الكتاب ورقم الباب أو رقم الحديث سواء أكانت هذه اللفظة في أصل واحد أو أكثر. أما فيما يختص بمسند أحمد فبما أنه لم يطبع إلا طبعة واحدة، ففيه الدلالة على الحديث بتعيين رقم الجزء ورقم الصفحة.
وقد وصل العمل في آخر جزء ظهر إلى مادة صبر من حرف ص. ويقدر إتمام المعجم في مثل ما ظهر من الأجزاء أي نحو سبعة عشر جزءاً أخرى. وقد احتاج المشرفون عليه إلى إعانة مالية تمكنهم من مواصلة العمل، فجاء الدكتور منسنج إلى مصر في أغسطس سنة
1947، وقابل فيمن قابل معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس مجمع فؤاد الأول للغة العربية، بقصد أن يرعى هذا العمل ويمده بالإعانة، ثم سافر بغتة دون أن يتم الاتفاق ولما افتتح المجمع مؤتمره السنوي في أول هذا العام ذكر لطفي باشا في جلسة الافتتاح أن من ضمن أعمال المجمع القيام بعمل المعجم المفهرس للقرآن وللحديث. وعلى أثر ذلك تحدث معه الأستاذ فؤاد عبد الباقي، فأشار إلى أن الأولى بالمجمع أن يعين على إتمام معجم المستشرقين بدل أن يتكلف إنشاء العمل، فطلب منه الباشا أن يكتب إلى المشرفين عليه ليبينوا ما يلزم لإتمام طبع المعجم وما يحتاج إليه العمل من المال سنوياً ونصيب مصر مقابل الاتفاق على طبعه، فكتب، ولم يرد الرد المطلوب إلى الآن.
وفي انتظار الرد أحيل الموضوع إلى مكتب المجمع، فاعتذر بعدم كفاية الميزانية للقيام بالإعانة المطلوبة، ولكنه كتب إلى وزارة المعارف والجامعتين والجامع الأزهر، مقترحاً على كل منها شراء عدة نسخ من الأجزاء الصادرة على سبيل التشجيع، وكل ما تم من الإجراءات الإيجابية العملية في هذا الموضوع هو قرار الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف شراء خمسين نسخة.
عباس خضر
البريد الأدبي
سئلت ولم أجب فلا بد أن أعترف:
سألتني يا سيدي عما يوجه الشرع في زكاة مالك - وقد كثر عدده وطال أمده - فلم أجبك وسكت وفي نفسي من الخجل والخزي ما الله يعلمه نعم سكت ولم أجبك؛ وكيف أجيبك عن زكاة مالك ولا عهد لي بجنيهاتك في كتب الزكاة - لقد درست المتون والشروح والحواشي حنفيها وشافعيها، وعرفت (الدرهم والدينار والدانق والمثقال، وعرفت حكم الرائجة والصحاح، والبهرجة والستوقة) ولا تبحث عن هذه النقود عبثاً يا سيدي فهي لا توجد في غير خزائن الأزهر، أعني في مقصراته ومطولاته التي حملتها معي من مكتبة جدي الأكبر يوم أن دخلت الأزهر وما زلت أقرأها كتباً مقررة إلى الآن.
أما أوراقك الخضر، فلا تسلني كم نصابها وكم زكاتها؛ ولا لوم علي ولا تثريب.
- أنا واحد من آلاف طلاب الأزهر، ندرس الدين في أسفار أجدادنا الأقدمين كما حملت إلينا بدون تهذيب ولا تنقيح وبدون احترام لشريعة الرقي والتطور. أين نقود فجر الإسلام التي نحسب نصابها ونعدد زكاتها - وقد صارت في جوف التاريخ - من نقود عصرنا الحاضر التي لم يرسم قرش منها في كتاب لدينا.
- ويحي ما أحمقني! أقضي سنين طويلة في الأزهر، أجهد فيها ما أجهد، من أجل دراسة لآثار بالية لا تنفع ولا تشبع!؟
أجل. كتب الفقه في الأزهر ملأى بمسائل باهتة رثة، تحتاج إلى تنقيح وتوضيح. انشر أي كتاب من كتب الشافعية، وتجلد في مطالعته بعض الوقت فإنك لا بد قارئ:(وكثير الماء قلتان، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي تقريباً في الأصح) ثم يتكرم الشارح ببيان هذا الرطل البغدادي فيقول (والرطل البغدادي مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم تقريباً) وما أدري غفر الله له أنه فسر الماء بالماء كما يقولون، وسواء أدركت مقدار الماء الكثير أم لم تدرك، فحسبنا هذا الخيال البارع: قلة تزن مائتين وخمسة رطلاً!!
وكتاب العتق؛ الكتاب الأسود - كما يسميه بعض إخواننا - ما قيمة دراسته في هذا الزمان وجعله خاتمة كتب الشافعية؟ أليست خاتمة بيضاء؟ ذكروا فيه (أن الشارع متشوف إلى العتق) وقد عتق العبيد بحمد الله ولم يبق منهم واحد إلا في كتبنا وأدمغتنا كأنا لم نعرف بعد
أن أحط صنوف البشر قد أصبحت أحراراً طلقاء؛ أو كأنا نرجو أن يبعث الشارع (المتشوف إلى العتق) دولة العبيد ثانية فنطبق عليها الأحكام.
وبعد. فتلك ثورة هادئة أرجو بعدها الله أن يوفق أولي الشأن في الأزهر إلى تطهير موارد العلم وتنقيتها من القذى والفضول وذلك أمر سهل أن كانوا جد حريصين على تأدية رسالة الأزهر بصدق وإخلاص. وكم في الأزهر من جهبذ تحرير يعوزه التشجيع والتعضيد ليخرج للناس آيات بينات في التصنيف والتأليف.
إسماعيل أبو ضيف
في كتاب (النقد الأدبي):
قرأت للصديق الناقد الكبير الأستاذ سيد قطب كتابه الجديد في النقد (النقد الأدبي) ولا أغلو إذا قلت إنه كتاب فريد في بابه وأسلوبه وطرقته في تناول موضوعاته وعرضها عرضاً كله الروية والاتزان وحسن البيان.
وليس غرضي من كلمني هذه حول الكتاب البحث في محتوياته وبيان قيمته - تلك التي لا يلمسها إلا القارئ قراءة العين لا سماع الأذن - وإنما بحسبي أن أشير وألفت الأستاذ الصديق إلى مواضع زايلها الصواب نتيجة التطبيع أو التصنيع، أجملها فيما يلي:
1 -
من التطبيع ما جاء في قول القائل:
فأصبحت في الإثراء أزهد (زاهداً)
…
وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
…
ومن أين؟ (الغايات) بعد المذاهب
والتطبيع فيهما ظاهر؛ والأصل (زاهد) وفي الثاني (والغايات) بالواو.
2 -
ومن خطأ النقل نتيجة السهو قول من قال:
وسنان (أيقظه) النعاس فرنقت
…
في عينه سنة وليس بنائم
وصوابه.
وسنان (أقصده) النعاس فرنقت
…
في عينه سنة وليس بنائم
وكذلك قول الآخر:
وأرشفنا على ظمأ زلالاً
…
ألذ من المدامة (والنديم)!
وصوابه:
وأرشفنا على ظمأ زلالاً
…
ألذُّ من المدامة (للنديم)
وقول الثالث:
يقول بشعب بوان حصاني
…
(أمن) هذا يسار إلى الطعان؟!
وصوابه:
يول بشعب بوان حصاني
…
(أعن) هذا يسار إلى الطعان؟!
إذ ليس مراد الشاعر السير (من) محلة إلى نحلة، وإنما غرضه (التحول) عن شعب بوان إلى الطعان.
4 -
بيت ابن الرقاع:
وعلمت حتى (لست أسأل عالماً)
…
عن (حرف) واحدة لكي أزدادها
روايتها عندي وهي الرواية الثابتة المقبولة:
وعلمت حتى (ما أسائل واحداً)
…
عن (علم) واحدة لكي أزدادها
وكذا البيت:
أيها المنكح الثريا سهيلا
…
عمرك الله كيف (يلتقيان)
وفي الأصل وهو الصواب على قرب الملتقى:
أيها المنكح الثريا سهيلا
…
عمرك الله كيف (يجتمعان)
5 -
وقع في البيت:
لا أظلم الليل ولا أدعي
…
أن نجوم. . ليست تزول
تطبيع بالحذف، وصوابه:
. . . . . . . . . . . .=أن نجوم (الليل) ليست تزول
6 -
وهذان البيتان كل على حدة:
وغر الصدور إذا (وكنت) لهم
…
نظروا إلي بأعين خزر
ذكر الصبوح بسحرة فارتاعا
…
وأملَّه ديك الصياح (صياحا)
أحفظ لهما في صدري روايتين لست أزعم أنهما الأصل، ولكنهما يحتاجان إلى تحقيق ومناقشة لجزم بصواب الأصل أياً كان، والروايتان هما:
وغر الصدور إذا (ركنت) لهم
…
نظروا إلي بأعين خزر
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا
…
وأمله ديك الصياح (فصاحا)
7 -
أوردة الأستاذ المؤلف عن صاحب الوساطة لأبي تمام البيت:
ألم يقنعك فيه الهجر حتى
…
(بكلت) لقلبه هجراً يبين
ثم قال (يقول الشارح أنه لم يعرف لهذه اللفظة (بكلت) معنى ولم يجدها في ديوان أبي تمام ولم نجدها نحن!). وأقول يغلب على الظن أن تصحيفاً لحق باللفظة فأخرجها عن المعنى، ولعل الأصل (وكلت) إن لم يكن (ثكلت).
وبعد: فتلكم هنات عرضت لنا فألمحنا إليها مذكرين وليس منتقدين. ولعل الصديق الأديب يوليها بعض الاهتمام في الطبعات التالية للكتاب، والسلام.
(الزيتون)
عدنان
عود على بدء:
كنت قد أشرت في كلمتي (تحقيق تاريخي) المنشورة في عدد قريب من (الرسالة) الغراء إلى مرثية شاعر النيل حافظ بك إبراهيم في فقيد المعارف أحمد حشمت باشا، وقلت إنها من الشعر الذي لم يسجل في ديوانه المبتور!!
ولقد حدثني بعض الأدباء متعجباً لخلو الديوان من هذه القصيدة الفذة وما درى أن في باب المراثي وحده قصائد عديدة لشاعر النيل لم تسطر في ديوانه، ومن العجيب أن الذين ملأوا الصفحات بذكر شعره المنسي لم يقفوا عليها فيما رأوه، وأهم هذه القصائد ما يلي:
1 -
قصيدة في رثاء السيد مصطفى لطفي المنفلوطي ومطالعها:
رحم الله صاحب النظرات
…
غاب عنا في أحرج الأوقات
2 -
رثاء شهداء العلم والغربة الذين اصطدم بهم القطار في أوربا ومطلعه:
علمونا الصبر نطفي ما استعر
…
إنما الأجر لمحزون صبر
صدمة في الغرب أمسى وقعها
…
في ربوع النيل مشئوم الأثر
3 -
رثاء كريمة حشمت باشا ومطلعه:
يا درة نزعت من تاج والدها
…
فأصبحت حلية في تاج رضوان
وغير ذلك كثير!
علي أني أعجب كل العجب من أن الديوان قد أعيد طبعه عدة مرات وهو لا يضم قصيدة من القصائد المنسية التي يكتشفها القراء بين حين وآخر! فما فائدة التنبيه على الشعر المنسي إذن؟ ولم لا يلتفت إليه القائمون بإعادة طبعات الديوان؟ وهل كان حتم عليهم أن يحافظوا على طبعته الأولى فلا تلحق بما يكملها من روائع حافظ المغبون؟!
(الزقازيق)
إبراهيم عبد المجيد الترزي
المصحف المبوب:
قرأت ما كتبه الجليل عبد المتعال الصعيدي عن المصحف المبوب وقد صدر فضيلته مقاله بقوله:
(عصرنا هذا عصر تجديد في كل شيء وكان من الواجب علينا - معشر المسلمين - أن نجعل لطابع العصر أثراً في مصحفنا).
فهل يسمح لي فضيلته - وهو من نعلم عنه سعة في الصدر - أن أقول له: إن من الخير لنا أن نترك المصحف الشريف على حالته، وأن لا تمتد إليه أيدينا بشيء من التغيير في الطبع والإخراج - وإذا كان ذلك قد جاز لسلفنا الصالح فلأن مصلحة القرآن كانت تقتضي ذلك إذ كان مفرقاً فجمعوه. ومهملاً فأعجموه. واخترع الخليل الشكل للحاجة إليه. ونحن اليوم نقرؤه صحيحاً في طبعات جيدة أنيقة.
أقول هذا لأني أود أن يشعر المسلمون بأن كتابهم مقدس وليس عرضة لكل مبتكر؛ إذ من الجائز أن يختلف التعريب والتبويب فيظهر المصحف في عدة طبعات؛ فإذا بوبه اليوم فلان فسيبوبه غداً غيره. فيقولون قرآن فلان، ومصحف فلان وتكون فتنة. ويتبع ذلك أن يقول قائل فلنكتبه على الرسم الإملائي وكلما تفلسف شخص أضاف فكرة جديدة ما دمنا قد فتحنا هذا الباب.
فخير لنا أن نترك الكتاب الكريم، وأن تولي وجهنا شطر تعاليمه، فنجاهد في سبيل تحقيقها
ونعمل على نشرها والدعوة إليها في كل مكان، وأن نعتني باللب ونترك القشور، وإن الله لا ينظر إلى الصور وإنما ينظر إلى الأعمال. وما يضر المسلمين بعد أن يحققوا رسالة كتابهم أن يكون على ما هو عليه؟
وإذا تنطع مستشرق وفهم خطأ فالذنب ذنبه فأمامه كتب التفسير أن جهل شيئاً.
وبعد فأود أن لا أكون قد جاوزت حدي مع أستاذي الكبير.
عمر إسماعيل منصور
أزمة معلم اللغة العربية في المدارس المصرية:
تفيض جداول الصحف اليومية بأن هذه الأزمة يلفت حداً لا يصح أن يسكت عنه، لا من المسئولين فحسب بل من ذوي الرأي في العالم العربي؛ إذ أنها تتصل بلغته وهي ميراث الآباء والأجداد! فقد روت إحداها بقلم مدرس رمز إلى أسمه بالحروف أن أربعة فصول ثانوية بإحدى مدارس الشرقية لها معلم عربي واحد مما اضطر ناظرها إلى أن يشرك معه في تعليمها مدرسي (الأعجمية) من الرياضة وغيرها! وأنا كمعلم أعرف أن من مضاعفات هذه الأزمة إن لم يكن عاملها الأول هو سلخ وزارة المعارف تفتيش مكافحة أقسام الأمية عن تفتيش التعليم الأولي بالمراكز وتعيين معلمي العربية بالمدارس مفتشين خاصين بها! وفي وسع هذه الوزارة أن تعمد في الحال وبدون إمهال إلى أن تعيد هؤلاء إلى عملهم الأصلي في المدارس وأن تسند تفتيش المكافحة إلى (المعلم الأولي) فهو بمرانه وتجاريبه العملية أكثر خبرة في هذه الناحية من أي موظف آخر مهما تكن ثقافته العلمية والفنية. . . (ومجلة الرسالة) الحفيظة على تراث العربية المجاهدة في سبيل نهضتها وإعلاء شأنها مسئولة إلى جد كبير إذا لم تلق لم تلق دلوها لتفريج هذه الأزمة وإزالة تلك الغمة!!
خورشيد عبد العزيز
معلم دميرة
بيان:
تود الإدارة الثقافية بالأمانة العامة للدول العربية أن تلفت الأنظار إلى أن مسابقة التأليف
التي سبق الإعلان عنها في مطلع هذا العام، والتي أختبر لها الموضوعان التاليان:
أ - تأريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى خروج العرب منها، وما يتصل بذلك من الحوادث في بلاد الغرب.
ب - تأريخ الأمة العربية (العراق - الشام - مصر والسودان المغرب - جزيرة العرب) من سقوط بغداد إلى أول القرن الهجري (التاسع عشر الميلادي).
وقدر مبلغ 500 جنيه مصري جائزة لأحسن ما يكتب في كل من الموضوعين، قد امتد آخر موعد لتقديم الرسائل المكتوبة فيها إلى أول مايو سنة 1949 بدلاً من الموعد المحدد سابقاً وهوة أول مايو سنة 1948.
القصص
رجل وامرأة
للكاتب الفرنسي لوي جربيو
(هذه ليست قصة بالمعنى المقصود منها، ولكنها صورة
صادقة من صورة الحياة التي نجدها في كل بقعة من بقاع
العالم وفي كل زمان من أزمنته)
(المترجم)
كان الدرج يؤدي إلى الفناء، وقد جلست المرأة بأسفله تبكي وتنتحب طول الصباح. كانت في منتصف العقد الرابع من عمرها سمراء ممشوقة القد ضعيفة البنية، وظلت تنشج بالبكاء، وتتمتم بكلمات مبهمة كأنها تتوعد من حولها. وكم ذهب إليها الجيران يحاولون الترفيه عنها وإرشادها إلى عين العقل دون جدوى. كانوا يقولون لها: لا يصح أن تثوري كل هذه الثورة. من الأفضل لك أن تصعدي إلى شقتك. إنك ستصدعين رأسك ببكائك المتواصل. (وهل يجدي البكاء؟) ولكها كانت تجلس وكأنها لا تعي كلماتهم. ما شانهم في ذلك؟ أليست هي حرة تفعل ما تشاء؟ وصاحت في أعماق نفسها (لقد سئمت كل شيء).
وكانت أحياناً ترتكن برأسها على السور الحديدي للدرج تحاول النوم دون جدوى. ثم تخفي وجهها بين يديها وتبكي في حرارة، فيسيل الدمع من بين أصابعها كما يسيل الماء من نبع لا ينضب. وتأوهت، ثم انتابها موجة من الصمت وهي تتلفت حولها بلا غاية. وأخيراً جلست دون حراك وقد أرتكن ذقنها على راحة يدها، ومرفقها على ركبتيها في ذلك الوضع الذي يفضله الرجل عندما يؤوب من عمله. أن هذا أول ناحية من نواحي انتقامها. لقد طافت بها الأفكار منذ أن بدأ الشجار إلى أن تحول هذا التحول على أية حال، ليس الآن إلا التفكير فيما قد حدث.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي لجأت فيها إلى الدرج. كم كان ذلك يغضبه أشد الغضب. ولكن. . . أليس هذه ما توده هي؟. . لم تستطع الإجابة على هذا السؤال. لقد كان من
المستحيل عليها أن تقوم بأي عمل آخر، فالتجأت إلى الدرج. إنه بالطبع يستطيع أن يهددها بأن يعتد عليها بالضرب. ولكنها كانت واثقة بأنه أن ينفذ تهديداته التي تصدر منه أثناء غضبه. فمهما فعلت فإنه لن يهجرها أبداً. لعل هذا هو السبب في أنها تزداد تهوراً.
كان الناس يصعدون ويهبطون ويمرون أمامها، فيلقون عليها نظرة إشفاق، أو يرنون إليها في دهشة، أو يهزون أكتافهم. وكانت تتظاهر بعدم رؤيتهم، ولا تتحرك، حتى لو اندفع شخص نحوها وتخطاها، ولطم إحدى يديها، لظلت ساكنة دون أن تتحرك. ولعلها كانت تود ذلك. قالوا لها إنه قد أزف الوقت لتعود إلى شقتها، فلم تجب، ولماذا تعود؟ وهل جلست هنا لتجيب على مثل هذه الأسئلة؟ وهل مكثت لتكون موضع شفقتهم؟. . كلا. . . أن شفقتهم لا تعنيها في شيء. لقد جلست هنا ليشاهدوها، وليعرفوا كيف أوصلها هو إلى هذه الحالة، وأي نوع من الحياة تحياها، وحتى يعرف هو الآخر أنهم قد شاهدوا وأدركوا حالها. نعم أن هذا هو ما ترغبه الآن. . . على الأقل. أن أول جزء من برنامج انتقامها. وكانت في كل مرة يتحدثون معها، تجيبهم بإطلاق العنان لعبراتها وهي تحاول أن تجد موضعاً صريحاً تسند عليه (رأسها المسكين) بشعره المهوش الذي لم تهتم حتى بترتيبه.
كان الشجار قد بدأ مبكراً، ولم تمر الساعة الثامنة إلا وكانت على الدرج. ولن تبرح مكانها فإنه لا يوجد ما يؤدي بها ال التفكير في مبارحته. ها هو ذا الظهر د أقبل، وسيعود هو بعد لحظات. ما الذي سيقوله لها؟ لعله سيحدث ما حدث في المرة السابقة، فيمر عليها دون أن يعيرها انتباهه. ولكنه لن يظل وحيداً في الشقة أنه لم يحتمل هذه الوحدة - آخر مرة - أكثر من ربع ساعة ثم عاد يبحث عنها. ومما لا شك فيه أن ذلك سيحدث ثانية.
لقد تركها والغضب يعصف به. وصفق الباب وهو يقسم أن هذه هي المرة الأخيرة. . . المرة الأخيرة. أنه لا يستطيع احتمال هذا المسلك الجنوني. ولكنه سيجد عندما يصل إلى مقر عمله من فسيح ما يسمح له بالهدوء والتفكير في تؤدة.
وفتح باب الفناء، وميزت وقع أقدامه. ولم تتحرك عضلة من عضلات جسمها، وانقلب كل شيء فيها ساكناً، وقد تركز كل كيانها في الاستماع إلى وقع خطواته، وبدت كأنها لا تشعر بما يدور حولها. واقتربت الخطوات. سرعان ما ستراه. ولكنها ظلت دون حراك وقد أرتكن رأسها على سور الدرج. وأغمضت عينيها نصف إغماضه وهي تنتظر. وكاد أن
يتعثر فوقها، وعرته دهشة بالغة، ثم تراجع وهو يحاول أن يستعيد رباطة جأشه وقد أغمض عينيه كان رجلاً بديناً في الحلقة الرابعة من العمر، يرتدي زي الكتبة، وقد أمسك بمظلة.
وتمتم قائلاً في صوت خال من الغضب - ما الذي تفعلينه هنا؟ فلم تجبه وابتدأ القلق يساوره، وغاض الدم من وجهه، وارتجفت اليدان وهما تقبضان على المظلة. ثم اكتسحه شعور من الضعة لا نهائي وإحساس بالاحتقار لا حد له. ووقف دون حراك بجوا المدخل. كان الضوء يسقط عليه من الخارج، فلم تستطع تمييز ملامحه. وظهر لها كأنه شبح بدين يحمل مظلة. ثم ردد في صوت خافت وكأنه يتحدث إلى طفل - ما الذي تفعلينه هنا؟ فلم تجب. لا بد أنها مكثت هنا ساعات. وهز كتفيه. إذن لا توجد نهاية لذلك. وجعل يفكر في شجارهما هذا الصباح، ويلوم نفسه. . . ولكنه كان يأمل.
- أتعتزمين البقاء هنا؟ فلم تجب. وكانت لهجته تنذر بانفجار بركان غضبه. وكان يلاحظ ما يختلج في نفسه من عواطف ثائرة، ويعرف أن غضبه ينهكه، فقال - هيا. . . دعينا نصعد إنه أنه لغباء. . .
وولدت كلمة (الغباء) في عينيه نظرة من الشراسة. وتنهد في حزن وقال: (يا لها ن حياة! كل ذلك لأجل ماذا؟) وجعل يتفحصها بنظراته بإمعان. وكأنما عزم أن يعمل ما في وسعه ليحل المشكلة فهز رأسه يمنة ويسرة ثم قال - حسن. . . ماذا؟ ما الأمر؟ ولم يكن هذا ما يود أن يقوله، ومع ذلك سيان عنده أقال ما قاله أو تفوه بشيء خلافه. وابتدأ يصعد الدرج. ولكنه سرعان ما استدار فجأة وصاح في صوت جفلت منه:(والطفلة؟) وانحنى فوقها، وشعرت بأنفاسه تهب على شعرها. الطفلة؟! لم تكن قد أعارتها أدنى اهتمام. أن نسيانها الطفلة كان ولا شك جزءاً من انتقامها. ومع ذلك شعرت بالقلق يستحوذ عليها.
- ما الذي فعلته بالطفلة؟
وخيل إليها أنه سيهم بضربها، ولكنها كانت قد صممت على ألا ترد عليه. ثم شعرت برأسها يدور. إنها حقاً لم تهتم بالطفلة.
- أجيبي! ها هو ذا قد انفلت منه زمام غضبه. ونزل الدرج، ثم وقف أمامها، وأسند مظلته على الحائط، ومد يده تلمس طريقها إلى وجهها التي تخيفه. ثم قال في صوت هادئ -
متى، متى ستكفين عن تعذيبي؟ متى. . . متى - أواه، يا إلهي؟. . .
كانت ثورة نفسه لا تحتمل. وعادت به الذاكرة فجأة إلى الليلة التي هربت فيها. تلك الليلة التي ظل يبحث عنها طويلاً وهو يخشى أن تكون قد ألقت بنفسها في النهر. .
- تكلمي! ووضع يده على ذقنها، فلم تقاوم، ورفع وجهها. وطغى على نفسه شعور من الشفقة، فقال لها - لماذا أنت هكذا؟ وابتدأت شفتاها ترتعشان، وارتفع كتفاها، وتمتمت بكلمات تعذر عليه سماعها فسألها - ماذا تقولين؟ فأجابت - لا شيء.
وفجأة تغير كل شيء، فقال. . . لا شيء! حقاً؟ إذن لماذا؟ لماذا؟ ألا تخبرينني بالله لماذا؟ ما الذي تقصدينه بما حدث في الصباح؟ وما الذي فعلته بالطفلة؟ لقد كنت عازمة على ذلك منذ الصباح.
وهزها وهو يصيح بعد أن عصف به غضبه، وقد كان يظن أنه ملك زمامه. إن هذه الانفجارات، وهذه التأسفات: هذا التحول من الشفقة والحنان إلى القسوة والشراسة تلتي تصحب دائماً مشاجراتهما، كانت كأنها تمثيل مرحي. وكم كانت تهده هداً وتستنفد قواه. ها هو ذا قد جرح شعورها، فهبت واقفة، تبتعد عنه وهي تصيح (أيها الوحش!).
وصاح صوت من أعلى الدرج قائلاً - أن الطفلة معنا. لا داعي للقلق. سنعطيها غذاءها.
ولم يجب في الحال على الرغم من شعوره بالطمأنينة. إن فكرة وجود جيرانه واقفين بأعلى الدرج يستمعون ويراقبون.
هدأت من غضبه. قالوا - ألا تسمع؟
فصاح - لقد سمعت. . . شكراً!
وبحركة آلية التقط مظلته وهو يتمتم قائلاً - (لقد عيل صبري، عيل صبري!) فالتفتت إليه زوجه بوجه متقلص وعينين جامدتين وقالت في صوت مختنق ورأسها يهتز (عيل صبرك، عيل صبرك، ممن؟) وكأنه قد عزم على الصمت، فظل ساكناً لا يفوه بكلمة.
- حسن، أني في انتظار ردك.
فقال - لقد سئمت الشجار.
- هل هذا كل شيء.
- نعم.
- إذن. . . هل أنا المسئولة عما حدث؟
فقال في تهكم - كلا. . . إنه صبي الجزار!
ثم انفجر ضاحكاً. كم كان جوابه مضحكاً! وسرعان ما تلاشى ضحكه عندما قالت - ماذا يهمك إذا كنت أتعذب؟
فأجاب - ليس هناك ما يجعلني أهتم. . . فتنهدت وتمتمت قائلة - إني أعرف ذلك. . .
وران عليها الصمت. هدوء مستمر. كان قد نسى تماماً أنهما لا يزالان على الدرج، وانه يشعر بالجوع وأنها لم تستعد بعد. . . نعم، لقد استسلمت نفسه مرة أخرى إلى سحر المشاجرة وسقط في الشرك طواعية. وأنشأ يتحدث ويشرح لها كم هو تعس، ويصف لها لواعج قلبه. وود لو استطاع أن يقنعها.
- ألا ترين؟. . . إنها لغباوة أن يحدث ما حدث. . . وكم هو مضيعة للوقت! ألا تكفي مشاكل الحياة المعقدة؟. . إذن. . لماذا؟ لماذا؟. . . خبريني؟
ووضع يده على كتفيها وجذبها إليه قائلاً - هل انتهينا من الشجار؟
فوضعت خدها على خده وأخذت تبكي.
- كفى. . . كفى لا تبكي. لقد انتهى النزاع.
إن هذا الهدوء والحنان، وذلك الحديث عن الحب، هو كل ما توده منه. لقد نسيت تماماً كل شيء عداها. وقالت - هنري. . . فربت على خدها قائلاً - هيا نصعد. . . لماذا نظل واقفين هنا؟
فتبعته وهي تقول - أليس من الأفضل أن نستحضر الطفلة؟
- دعيها. . . من الأفضل تركها حيث هي الآن.
كانت الشقة على حالها منذ الصباح دون نظام أو ترتيب، ولم تزل النوافذ مغلقة، وروائخح الليل تفوح في الشقة المظلمة. وخلع قبعته وظل ممسكاً بها لحظة، وتملكته الحيرة. . . أين يضعها؟ وأخيراً ألقى بها والمظلة على مقعد. ثم وهو يراقبها تتوسط الغرفة وقد تدلى ذراعاها (حسن. . . حسن. . . ماذا؟).
وعبست عبوسة صبيانها، كأنها على وشك البكاء مرة أخرى. ومرت بيدها على جبينها.
- لقد أصابك الصداع!
- نعم، إنه مؤلم.
- ألم ننته بعد؟
فبكت من قلبها وهي تقول - أواه. . . نعم.
وأخذها بين ذراعيه وضمها غليه في حنان. كان يود أن يظل ساكناً دون أن يفوه بكلمة. ولكنه انشأ أن يتكلم مدفوعاً بنزوة لا تقاوم. فقال في حنان - لماذا تفعلين ذلك. . . لماذا. . .
فقال - وأنت؟
- أنا؟!
- نحن اثنان. . . فإذا كانت هذه الهفوات من جانب واحد فقط.
- ولكنها ليست غلطة أحد منا ذلك هو السبب.
- السبب في وجود الشجار؟
- نعم، ربما.
- على أية حال، لقد انتهى الغضب.
فقالت في لهفة: أوه. . . نعم.
- أتستطيعين أن تذكري ما الذي دار عليه الشجار هذا الصباح؟ أني لا أستطيع أن أتذكر. إنه لم يكن إلا كلمات، كلمات تافهة. لقد نسيتها تماماً. . . تكفي مشاكل العالم المقبلة.
لقد كانت تعرف طريقته في الجدال فقالت:
- لننس ما حدث!
وتراخت أذرعتهما، وابتعد عنها. ثم تهالك جالساً على مقعد وقال وقد ابتدأ يعود غليه غيظه.
- إنك امرأة لطيفة. . . ألم تقرأي صحف الصباح؟
يا له من سؤال! لكأنها تهتم دائماً بالصحف!
واستطرد يقول: بالطبع هناك مشاكل. أني أقول الحقيقة.
- أعرف ذلك. . .
فانفجر قائلاً: حسن، إذا كنت تعرفين ذلك جيداً، فما الذي تعنيه من. . . من مكوثك بهذا
الشكل بالدرج تبكين على شيء لا يعلمه إلا الله. . .؟
- أوه. . اصمت.
ولكنه كان قد صمت قبل أن تتكلم، وجعل يفكر في كل ذلك وهو يتأملها. لقد كرهها. . . حقاً لقد كرهها. وأصبح يعافها ويشمئز من تهديداتها.
وسألها وهو يخرج ساعته من جيبه: ما الذي سنأكله؟
ثم هز رأسه قائلاً:
- لقد تأخر بنا الوقت.
فقالت: أستطيع تحضير بعض البيض والخضر أيكفي ذلك؟
- نعم.
واختفت في المطبخ، وتمدد على الفراش ينتظر. ما الذي قاله لها هذا الصباح حتى أثارها وجعلها على تلك الحالة؟ وجعل يفكر ويفكر دون أن يتذكر. وسمعها تقوم بأعداد الطعام بالمطبخ فناداها: مارسيل.
فأجابت وقد توقفت لحظة من عملها: نعم.
- ما الذي قلته هذا الصباح حتى. . .؟
ولم تفه بلحظة ثم قالت: لا شيء.
- بل هناك أشياء. . . خبريني!
- كلا. . . وما الفائدة؟
- فقال كنت أرغب. . .
فقاطعته قائلة: ألا يستحسن عدم التحدث عن ذلك؟
ولكنه ظل منتظراً. لماذا لا تريد أن تخبره؟ وشعر بحب استطلاع غريب يدفعه عدم تذكره ما حدث.
- ألا تتذكرين يا مارسيل؟
- أجل!
- حسن. إذن أخبريني!
- لماذا! إنه من الغباء أن نعود إلى ترديد هذه النغمة ثانية.
وأدرك إنها لن تخبره أبداً، فتمتم قائلاً: حسن على أية حال.
نعم، على أية حال. . . من الأفضل ألا يتذكر. فهو مرتاح إلى. . إلى هذه المعيشة!!
محمد فتحي عبد الوهاب