المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 804 - بتاريخ: 29 - 11 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٨٠٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 804

- بتاريخ: 29 - 11 - 1948

ص: -1

‌مثل المهذبين من بني آدم

عندنا في دارنا الريفية عصبة من كلاب الحراسة مختلفة الأسنان والألوان والجنس تعيش في حال مدينة عجيبة: في الليل تتعاون على النباح وتتساعد في الهجوم، فإذا نبح أحدها سواد إنسان أو ريح ذئب استنبحها جميعاً واستعدادها جميعاً، لا تسأله ماذا نبح ولا لماذا عدا. وفي النهار تركض متقابلة في ظلال الشجر، أو ترقد متجاورة على قش الأرز، تتهارش حيناً وتتفلى حيناً، والصغير يعمد إلى الكبير فيعضه وهو هادئ مستسلم، والضعيف يجرؤ على القوي فيركبه وهو وادع مستكين.

ثم هذبناها فتهذبت، ودربناها على النظام فتدربت؛ وألقى في روعها أن تأخذ بطرف من مدينة الكلاب الأوربية فأحسنت لثم الفم، وأتقنت ملق العين، وأجادت بصبصة الذيل؛ ثم أسرفت في الرقة وأغرقت في التظرف حتى ليكاد كل كلب منها أن يقول: ضعوا على رأسي القبعة!!

تلك حال كلابنا ما دامت خارجة من سلطان البطن عالية وسافلة؛ فإذا قدم إليها الكلاب وجبة الغداء، أو عثر أحدها على عظمة في حواشي الفناء، انقلب التراحم قسوة، والتعاطف جفوة، والتهارش حرباً، والتفلية عضاً، والمدنية وحشية، والإيثار أنانية؛ فالأم تنكر ولدها، والأخ لا يعرف أخاه، والطعام الوافر المختص والمشترك تتنازعه المخالب الحداد والأنياب العصل، فيخرج بالخطف من فم إلى فم، وينتقل باللقف من يد إلى يد؛ والكلاب الضعاف والجراء الصغار يقفن منكمشات على بعد، يسألن بالحق ويتوسلن بالقرابة فلا يرين إلا النظر الشزر، ولا يسمعن إلا الزئير المهدد؛ حتى إذا غاب الطعام في الأجواف، ولعقت الألسن آثاره على الخراطيم، أقبلت الأم على ولدها، وأقبل الذكر على أنثاه، وعطف الأخ على أخيه، وعادت إلى الكلاب حياتها المدنية من مرح الهراش وحنان التفلية وألفة النباح!!

ذكرت بهذه العصبة عصباً أخرى في (ليك ساكسس) وفي (قصر شايو) تلبس الفراك، وتحذق المواضعات، وتحفظ الرسوم، وتفتن في الظرف، وتبالغ في المجاملة؛ فإذا لمس أحدهم ثوب الآخر من غير قصد اعتذر، أو لفظ جملة من غير ابتسام تأسف! يقضون أيامهم في التشاور الرقيق، ويمضون لياليهم في التزاور البهيج؛ ويأدب بعضهم لبعض المآدب الفخمة، يتساقون فيها الوسكي على نقل (الكافيار) ويتناوبون الرقص على نغم

ص: 1

(الجاز)، ويتبادلون باللسان المعسول ألفاظ السلام والأمن والعدل والإنسانية والحرية والديمقراطية والعهود والمواثيق؛ حتى إذا جلسوا إلى مائدة السياسة، وقدم إليهم الطعام العربي المريء والشراب الشرقي الهنيء، تحلبت الأشداق، واحمرت الإحداق، وانقلبت حلل الفراك جلود نمور، وتحولت الأصابع في القفافيز مخالب صقور، ووقف المتسلحون بالحق والمنطق على بعد من المائدة ينظرون بالأعين العبري إلى مالهم المنهوب وتراثهم المغصوب، ولا يملكون إلا أن يحتجوا راغمين، ثم يقولوا نادمين: يا ويلتنا! ما لسيف الحق لا يقطع، وما لبرهان المنطق لا يفيد؟!

يا قوم، لقد قلنا لكم: إن القوة هي الحق وما سواها باطل؛ وأن ابن آدم على الرغم من دينه وعلمه ومدنيته لا يزال عبد العصا وضيعة الدينار. فمن شاء أن يعيش مرهوب الجانب محفوظ الحق فليدع سماحة موسى وبلاغة هارون، وليتخذ قوة شمشون وغنى قارون!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌أين كنا وأين صرنا؟

للأستاذ نقولا الحداد

كنا قبل عصر برنادوت لا نقبل دولة إسرائيل المزعومة ولا حديث لنا إلا عروبة فلسطين فإذا بنا الآن لا لنا إلا الهدنة. وكل يوم نذهب إلى مجلس الأمن باكين ناحبين صارخين: (اليهود خرقوا الهدنة). نسنا مشروع التقسيم ونسبة اليهود أيضاً. نحن رضينا بالهدنة الدائمة، واليهود لم يرضوا بالهدنة المؤقتة. الهدنة علينا لا عليهم. الهدنة لهم لا لنا.

لنا وفود سبع دول رسمية في مجلس الأمن وليس لليهود وفد واحد رسمي، لأن دولة إسرائيل لا تزال مزعومة، وقد نسينا مشروع التقسيم الذي كنا نجحده ونرفضه رفضاً باتاً وأصبح همنا الآن هل نقبل مشروع برنادوت أو نقبل هدنة بونش الأبدية التي تسمى صلحاً.

أن مصيبتنا هذه جاءت أولاً وأخراً من الإنجليز - فتباً لها من دولة فاسقة مارقة.

كان جيشنا المصري على أهبة أن يحتل تل أبيب؛ وإذا اليهود يستغيثون لأنهم أصبحوا على شفا الهلاك، فأنجدهم مجلس الأمن بأن أقترح هدنة 36 ساعة، وإذا المندوب الإنجليزي كادوجان يقول لا 36 ساعة لا ماذا تنفع؟ يجب أن تكون الهدنة 4 أسابيع. وإذا بها صارت أسابيع، لأن إنجلترا تهددت بأنه إذا كان العرب لا يقبلونها فيحرمون السلاح فقبلوها ولا سلاح واليهود لم يقبلوها وهم يخرقونها كل يوم وهم طلبوها لكي يقبلها العرب ويخرقوها هم. وهكذا كان.

وانتهت الأربعة أسابيع ولكن اليهود لم يبلغوا كل مأربهم فالتمسوا تجديدها فجددها لهم برنادوت هدنة دائمة. ففعلوا فيها ما شاؤوا لمصلحتهم حتى إنهم قتلوا برنادوت لأنه ارتأى أن يكون النقب للعرب وهم لا يريدون أن يبقى شيء للعرب حتى ولا بقعة الرمل هذه.

ففي الهدنتين جاءتهم الأسلحة من كل ناحية حتى صاروا في مأمن والعرب صابرون ويقولون لا نقبل إلا عروبة فلسطين ودولة فلسطين العمومية ولا دولة لإسرائيل. وبنو إسرائيل يصادقون على هذا القول بالقول. ولكنهم بالفعل هم على غير هذا القول. والإنجليز يقولون لنا: لا بأس، أقبلوا هذه الهدنة الدائمة واعتبروها صلحاً، ولكن لا توقعوا على شروط صلح.

ص: 3

لنظر هذه البراعة البريطانية. اقبلوا الهدنة كما هي وخلوا جيوشكم في أماكنها ولا تتقدموا. يوم كان اليهود ينهبون سلاح الألمان وغير الألمان بعد معركة العلمين ويرسلنه تحت ذقوننا إلى فلسطين كنا نقول للإنجليز أن هؤلاء اليهود اللئام ينهبون السلاح من معسكراتكم وأنتم غاضبون الطرف. لماذا؟

أليس لكي يحاربوننا به؟

ولكن الإنجليز كانوا يرمون إلى هذا بدليل أنهم إذا أمسكوا عربياً معه بندقية شنقوه، وأما يهودي يسوق مركبة مصفحة ملأى بالسلاح فيقولون له باسمين مبروك.

والآن يستورد اليهود السلاح من كل مكان رغم أنف مجلس الأمن، وإذا استورد العرب سلاحاً من أي مكان حال الإنجليز وغير الإنجليز دونهم.

إذا قلت لكم أيها العرب أن العالم كله يحاربكم، فهل ظننتموني مهولاً؟ ها قد وصلنا لها.

أيها العرب عيب أن تنوحوا وتنحبوا لمجلس الأمن. وعيب أن تتذمروا من دول أوربا لأنها تمنعكم أن تتسلحوا، وأن تتغيظوا من دول أوربا لأنها مستبدة بكم ولأنها غير منصفة لكم.

نعم دول أوربا وأمريكا غير منصفة، ولا يمكن أن تكون منصفة، لأن لإنصاف ليس من مصلحتها. تقولون أنها لا تخجل أن تكون جائرة. نعم لا تخجل ولا تستحي ولا يهمها أن تعيروها بقلة الحياء. كان يجب أن تعلموا هذا الدرس؛ وأن تضحوا بكل شيء في سبيل مصلحتكم لأنكم في وسط هذه أخلاقه. . . نعم العالم كله ضدكم لأنكم أكلة دسمة سهل طبخها. فلماذا أنتم هكذا؟ أتتوقعون من إنجلترا أن تسلحكم؟

لماذا لا تنشئون آلات ومعامل لصنع السلاح؟ أليس عندكم مال؟ أليس عندكم عقول؟ أليس عندكم عضل؟.

أمس كتب الملحق التجاري للسفارة الأمريكية أن بترول الشرق الأوسط هو 60 بالمائة من بترول العالم. فهل هذا قليل وأي سلاح أمضى من البترول. هل تطير طائرة أو تسير سيارة أو تدب دبابة أو تتحرك سفينة إلا بهذا البترول.

بعد 3 سنين تتهافت المدنية الشائخة على بترول العراق والحجاز والبحرين وإيران وبترول الصحراء الذي لم يستنبط بعد تهافت النمل على قصعة عسل أو تهافت الذباب على المزابل. بعد بضع سنين يرتقع ثمن لتر البترول من شلنين إلى عشرة شلنات. ولو

ص: 4

شاء أصحاب البترول لأمكنهم أن يرفعوه الآن ولا أحد يمتنع عن دفع الثمن لأنه ضروري للحياة وللحرب.

يا ناس عندنا سلاح قوي جداً ولا نستعمله - ليس في أمة تخاذل كهذا التخاذل وجبن كهذا الجبن.

واليهود من أين يأتون بالبنزين لسياراتهم وطياراتهم و. . . الخ أليس من بترول العراق والحجاز. يأخذون بترولنا ويحاربوننا به.

يا قوم تيقظوا. أن الويل اليهودي القادم عليكم لا تحسون به الآن لأنه لم يقع بعد. ومتى وقع فلا ينفعكم لو ولا ليت.

قيل أن اللاجئين في شرقي الأردن أصبحوا في درجة من اليأس لا يحتمل وهم يفكرون في مفاوضة اليهود. وهذا ما يتوقعه اليهود. فإذا حدث سقطت فلسطين كلها في أيدي اليهود، ثم تلتها شرق الأردن. ثم. . . ماذا وماذا؟ الويل ثم الويل. . .

نقولا حداد

ص: 5

‌لمحة من سيكولوجية الطفل

عود على بدء

للدكتور فضل أبو بكر

شرحنا في المقال السابق باختصار - آمل ألا يكون مخلاً - ناحية من سيكولوجية الطفل ووعدنا القارئ الكريم بالعود على ما بدأناه. ولما كان وعد الحر دين - كما يقولون - فأنا نفي بوعدنا في مواصلة البحث حتى يكون القارئ فكرة واضحة جلية على قدر الإمكان عن هذا النوع من الدراسات النفسانية.

أن إدراكنا لحقائق الأشياء يأتي عن طريق الملاحظة والتجارب بواسطة الحواس كالسمع والبصر، أو عن طريق المقارنة والاستنباط بواسطة العقل والبصيرة. وهذه التجارب مادية كانت أو معنوية تكتمل عندنا شيئاً فشيئاً كقطرات الماء تتساقط على الإناء الفارغ فتحتل فراغه وتفعم سعته. وكما أن الأواني تختلف من حيث السعة والطاقة كذلك التجارب عند الناس مختلفة فمنها الواسع المترامي ومنها الضيق المحدود الجوانب.

والتجارب نفسها لا بد لها من أسس ودعائم ترتكز عليها ومن ضمن تلك الدعامات نذكر اثنتين هما الذاكرة والخيال وهما موضوع بحثنا في هذا المقال الموجز.

الذاكرة عند الطفل:

ذكرنا فيما سبق كيفية ملاءمة الطفل - أو غيره من الأحياء - للبيئة التي يعيش فيها وقلنا أن ذلك لا يتم إلا عن الإخضاع والتمثيل وطريق الخضوع والتكييف

والذاكرة - كما سيتضح لنا - يكون عملها عن طريق الإخضاع كما أن الخيال يكون مفعوله من ناحية الخضوع.

وذاكرة الطفل - كما هو متوقع - تختلف اختلافاً أساسياً عن ذاكرة الكبار لأن الذاكرة جزء من (كلية) العقل والعقل محدود الجوانب، صغرها عند الأطفال يتناسب مع صغر أعمارهم وأجسامهم وهي ظاهرة فسيولوجية طبيعية.

وطريقة عمل الذاكرة على وجه العموم تكون بواسطة الطرق الأربع الآتية:

1 -

تثبيت الذكريات

2 -

بقاء الذكريات

ص: 6

3 -

مكان الذكريات

4 -

استدعاء الذكريات

هذه هي العوامل الأربعة اللازمة للذاكرة حتى تؤدي وظيفتها وسنشرح فيما يلي كل عامل على حدته:

1 -

تثبيت الذكريات: إذا عرضنا أمام ناظر الطفل بعض الأشياء أو الصور أو روينا له حكاية بسيطة مسلية وطلبنا منه بعد حين قصير أن يصف لنا ما شاهده أو يقص علينا ما سمعه تبين لنا أن قوة التثبيت ضعيفة عنده كما أن الماديات تكون أثبت في ذاكرته من المعنويات وأنها تعتمد كل الاعتماد على الحس.

2 -

بقاء الذكريات: يكون عنده بطريقة غير متساوية من حيث المدة فقد ينسى ما تقصه عليه منذ ساعات قلائل ثم يتذكره بعد مضي بعض الوقت كما أن بقاء الذكريات يكون مرهوناً بغريزة تمركز اهتمام الطفل حول نفسه ويبدو الطفل هنا أنانياً مغرضاً كما هو الواقع بدليل أن الأشياء التي تهمه دون غيره أو يرى فيها إرضاء لرغبته تكون أبقى في ذاكرته وإن كان هذا البقاء نفسه قصير الأمد، ولكنه عند الأطفال يخضع لسلطان (الوعي) بخلاف الحال عند الكبار إذ يكون بقاء الذكريات عن عمل (اللاوعي).

3 -

مكان الذكريات: ونقصد بذلك المكان الذي تحتله بالنسبة لزمن حدوثها وتتابعها وفقاً لدرجة أسبقيتها، وفي هذه الحالة يتضح لنا ضعف ذاكرة الطفل لأنه يجهل فكرة (الزمن) ومن هنا يتعذر عليه ترتيب الذكريات ومن هنا كان لغطه وخلطه للحوادث، ولا ينتظم ترتيب ذكريات الطفل وإحلالها المكان اللائق لها إلا ما بين العام السابع والحادي عشر من عمره إذ يكون وقتئذ قد كون فكرة عن الزمن.

4 -

استدعاء الذكريات: هو نوع من الاجترار لما يختزنه مستودع الذاكرة إذ يتسنى للكبار أن يستدعوا ذكرياتهم، وقد تسعفهم في كثير من الأحيان لأنه في استطاعتهم أن يوجهوا تفكيرهم في ناحية خاصة ويتحكموا فيه بخلاف الحال عند الأطفال إذ يكون بطريقة تلقائية غير إرادية كالببغاء وهذا ما يحدث عند الطفل ما بين سن الثانية إلى الخامسة وهو ما نشاهده عند الأطفال حينما يسمعون قطعة من المحفوظات فيكون إلقاؤهم لها بصوت على وتيرة واحدة لا تتغير نبراته بطريقة حرفية تلقائية خالية من الفهم والوعي لما يلقونه.

ص: 7

أسباب ضعف ذاكرة الطفل:

قلنا أن تثبيت الحوادث وبقاءها وترتيبها حسب الزمن واستدعاءها عند اللزوم في ذاكرته كل ذلك إنما يكون بطريقة بدائية غير مكتملة، وذكرنا الأسباب المؤدية لذلك. وهنالك عاملان يؤديان إلى ضعف ذاكرة الطفل وهما:(1) النسيان. و (2) تشويه الذكريات وتبديلها في ذاكرته.

1 -

النسيان: يحدث عند الكبار لعدة أسباب: منها (الفسيولوجية) بمعنى أن يعتري الذاكرة نوع من (التأكسد) وعدم القابلية للاستيعاب بسبب التعب الجسمي أو العقلي. وهنالك أسباب (سيكولوجية) كالصدمات النفسية العنيفة التي تحدث في النفس نوعاً من القبض فينشل التفكير ويغيض معين الذاكرة. وأسباب (باثولوجية) كما يحدث في بعض الأمراض العقلية كالذهان والعصاب، أو بعد نوبة الصرع، أو لأمراض معدية أو وبائية كالحمى التيفودية والالتهاب السحائي، كل هذه الأمراض تسبب ضعفاً في الذاكرة ينتج منه النسيان.

كل ما ذكرنا من أسباب إنما هي شخصية تعتري الشخص نفسه فتسبب له النسيان. وهنالك أسباب أخر خاصة بالأشياء تتصف بها تلك الأشياء فتسبب أو تساعد على نسيانها. مثال ذلك تفاهة الأشياء والأثر الضعيف الذي تتركه في الذاكرة فلا يلبث أن يزول وتختفي معالمه. ومنها كون الأشياء بغيضة على النفس غير محببة لها فتلفظها لفظ النواة وتسقطها من حسابها.

أما عند الطفل فأكبر سبب للنسيان ناشئ عن انحطاط درجة تفكيره الذي يشمل الذاكرة أيضاً ولأن إدراكه للأشياء خاطئ وقد سبق أن شرحنا ذلك وبينا الأسباب المؤدية للنسيان عند الكبار.

2 -

تشويه الحوادث وتبديلها في ذاكرة الطفل: تأخذ الحوادث والأشياء صورة ممسوخة مشوهة في ذاكرة الطفل وهو يعتقد بصحتها، كما أنه من الصعب بل المتعذر في كثير من الأحيان الوصول إلى تغيير هذا الوضع الخاطئ في ذاكرته.

ولنضرب لهذا مثلاً وهو إذا روينا قصة لطفل ورجوناه بعد قليل من الوقت أن يروي لنا ما سمع أو يقصها على طفل آخر ورجونا هذا الأخير أن يقصها على طفل ثالث تبين لنا في النهاية أن القصة الأولى قد مسخت وكادت معالمها أن تزول؛ وذلك أن كل طفل يزيد عليها

ص: 8

من الحواشي والتعاليق بما يتفق وهواه؛ كما نلاحظ ظاهرة أخرى وهي نزعة الطفل إلى (الخرافة) كما قد تبقى آثار هذه الظاهرة عند الكبار ولكنها تصدر منهم عن (وعي) بخلاف ما يحدث عند الأطفال إذ تصدر من (اللاوعي).

الخيال عند الأطفال:

علمنا مما سبق بأن الذاكرة عامل لا بد منه لملاءمة البيئة وهي عند الطفل تخضع لظاهرة الإخضاع ملؤها التحيز والأنانية والمادية، وهي صفات فسيولوجية وسيكولوجية لأزمة لنمو الطفل.

إن الذاكرة والخيال يعملان معاً ويكمل كل منهما الآخر؛ ولكن في بدء حياة الطفل يكون أثر الذاكرة أوضح ظهوراً وأقوى مفعولاً من أثر الخيال الذي يكون في بادئ الأمر ضئيلاً جداً، ثم ينمو بنمو جسم الطفل وعقله وهو بلا شك أسمى مرتبة من الذاكرة، ويعد خطوة واسعة إلى الأمام في سبيل التطور العقلي، وهو بالعكس من الذاكرة يخضع لظاهرة الخضوع والمصانعة وهو العالم الثاني اللازم لملاءمة البيئة، وظاهرة الخضوع والمصانعة هي ظاهرة شاقة عسيرة على الطفل وفيها نوع من التضحية من جانبه.

والخيال - على وجه العموم - هو المقدرة على رسم صور لما وعيناه أو تأملناه من فكر وأشياء، ثم الربط بين تلك الصور والأفكار وإبرازها جليه واضحة في مخيلتنا في شبه (لوحة) كاللوحات الزيتية التي يصورها ويرسمها الفنانون والرسامون.

والخيال ضد الواقع، وإذا قيل عن إنسان إنه خيالي فمعنى ذلك أنه ليس واقعياً، وكما يعرف الفيلسوف الفرنسي (باسكال) بأنه قد يكون مصدراً للأخطاء والأغلاط.

يختلف خيال الكبار عن خيال الأطفال لا في وسعه وخصوبته وذكائه عند الكبار فحسب، ولكن في نوعه وطريقة عمله، فهو أجنح إلى المادية يعنى بها أكثر بكثير من عنايته بالمعنويات كما أنه تلقائي يصل إلى الهدف عن أقرب طريق.

فإذا ما شاهد الطفل مثلاً قطرات الندى في الصباح الباكر تكلل الحشائش أو تتدلى من أعطاف الورد فقد يتبادر إلى ذهنه فوراً بأن الورد حزين باك يذرف الدمع؛ وإذا رأى فراشاً ملوناً يتطاير في الحقول فقد يظنه زهوراً طائرة.

فمن هنا نرى أن خيال الطفل يصل إلى هدفه من غير كبير عناء. وقد يتراءى لنا في هذه

ص: 9

الحالة بأن الطفل مسحة شاعرية لأن الشاعر مثل هذه المواقف وبعد أن يكد خياله ويتذوق ما في المشهد من جمال وروعة لا يقول أكثر مما قاله الطفل بأن الورد قد أحمر خجلاً أو بكى حزناً، أو أن الزهور تتطاير فرحاً أو هلعاً، وكل ما هنالك من فرق هو أن الشاعر يحلم ويتذوق والطفل يجزم ويجسد ما يقع تحت ناظره ويرتسم على خياله.

يقول الفيلسوف (أوجست كمت) مؤسس مذهب الإيجابية بأن الخيال يمر بثلاثة أطوار:

الطور الأول: هو الطور الديني فقد تخيل الإنسان الأول فكرة الدين والآلهة، وهي فكرة مرماها الفسيولوجية، والسيكولوجي هو ملاءمة الإنسان لبيئته وأمله في الخلود تتجلى فيها ظاهرتا الإخضاع والخضوع بصورة جلية واضحة. يخضع للآلهة ويتقرب إليها حتى إذا ما فاز منها بالخطوة والرضا استعمل بدوره تلك الخطوة وذلك الرضا في إخضاع بيئته من طبيعية واجتماعية وأصبح أقوى نفساً وأشد مراساً في حربه الدائمة السرمدية مع تلك البيئة.

ذكرنا أيضاً في المقال السابق بأن (الحيوية) هي من مميزات عقلية الطفل يشاركه الإنسان الأول في هذه الصفة إذ كان يعير الأصنام والجمادات شيئاً من الحيوية والإرادة والتفكير ومن هنا كان يخشى بأسها ويرتجي معونتها. كذلك الطفل في سنه المبكرة يرى في بعض الجمادات حياة وإرادة، فأنظر إليه يناجي لعبته ويناغيها حيناً، ثم لا يلبث أن تتغلب عليه صفة القلق السريع والتحول المفاجئ فينبذها ويقصيها. وقد تتغلب عليه غريزة (الإخضاع) والسيطرة وحب الذات إذا لم تسر على هواه أو تتكيف على صورة خاصة كما لو كانت ذات وعي وإرادة.

الطور الثاني: هو أن الطور (الرومانتيكي) والوهمي يظهر فيه الطفل تقدماً محسوساً، فبعد أن كان في الطور الأول يعتقد في حيوية بعض الجمادات من أدوات لعبه تتضح له ماهيتها الحقيقية، ولكنه في هذا الطور يلجأ إلى (الغرض) ويستعمل (المجاز) فيتخيل مجازاً بأن لعبته كائن حي لأن في ذلك لذة شاعرية نفسانية وهذا الغرض نفسه إنما ينتج عن (الوعي). ويمكننا أن نعتبر هذا الطور بداية الشاعرية والخيال الحقيقي. كذلك بعد أن كان الطفل في الطور الأول يعتقدون في وجود (بابا نويل) ولا يرتابون في أمره وبأنه هو الذي يهبط من السماء في صبيحة رأس السنة الميلادية وعيدها ويأتيهم بالهدايا والتحف يبدءون

ص: 10

يتشككون في أمره بل ينكرون وجوده وإنما هي حيلة ودعاية من والديهم وذويهم يقصد منها جلب السرور إلى أنفسهم. غير أن هنالك نوعاً من خيبة الأمل تحدث للأطفال حينما تتبين لهم حقيقة (البابا نويل) أو غيره من الأشياء التي كانوا يتخيلونها على هواهم؛ لهذا يفرضون مجازاً وبمحض وعيهم وخيالهم بأن (البابا نويل) يهبط من أعلى السماء ويأتيهم بما يشتهون لأن في الوهم الرومانتيكي لذة نفسية، كما أن في ذلك يحلو للكبار ويشعرون بشيء من السرور لبقاء آثار هذا الطور الرومانتيكي عالقة في أذهانهم وأن كنا لا ننكر بأن غبطة صغارهم هي العالم المباشر لجلب السرور إلى أنفسهم. وهذه اللذة النفسية يشعر بها مؤلفو قصص الأطفال والأمثال الخرافية مثل أمثال لافونتين الخرافية.

الطور الثالث: يتولد فيه عند الطفل كبير من الوعي وينقد فيه ما كان يسلم به تسليماً آلياً تلقائياً كما يجنح إلى الواقعية ويصبح خياله مرتبطاً منظماً بعد أن كان مفكك الحلقات مفقودها في أغلب الأوقات وهو ما يظهره خطأ أو يتراءى للإنسان وسعه بالنسبة لعقلية الطفل هذا الخيال الذي كان واسعاً سطحياً - لتفككه يصبح عميقاً - لتركزه وربطه - محدود الجوانب. كما تبدو عند الطفل آثار قوة الملاحظة.

كما أن آثار الطور الثاني لا تزال تبقى لدى الطل ولكنها تضمحل شيئاً فشيئاً ويحل محلها الخيال العلمي وهو كما يلقبونه (بطور البناء) هو بداية الإنتاج والابتكار لدى الطفل.

هذا وقد يعتري الخيال نوع من الشذوذ في سن المراهقة وهي كما نعلم أخطر الأطوار في نمو الطفل جسمياً وعقلياً ونفسياً نذكر بعضها باختصار.

1 -

(الميثومانية) وهي نزعة يجنح فيها لخلق الأكاذيب والقدرة على حذفها وتصبح له عادة وهواية لا ينفك عنها بل تلازمه طيلة حياته إذا لم يبادر بعلاجه منها.

2 -

(البوفارزم) نوع من (الميقالومانيا) هو تخيل المراهق بأنه ذات مصونة وشخصية مرموقة.

3 -

(الشزويدية) وهو أخطر أنواع الشذوذ والأمراض النفسانية التي قد يصاب بها المراهق. ومن خواصها وعوارضها أن المراهق يستسلم (لأحلام اليقظة) ويستحل الاستغراق فيها يطلق لخياله العنان ويسبح في ملكوت الأوهام ثم يجنح إلى العزلة يهاب المجتمع أو يحتقره في بعض الأحيان ويبني (قصوراً في الهواء) كما يقول المثل.

ص: 11

هذا الشذوذ قد يصاب به بعض الفلاسفة والفنانين ولكنه يقف عندهم عند هذا الحد. أما لدى الطفل فقد تشتد وطأته ويفضي به إلى ما هو أدهى وأمر، ونقصد بذلك داء (الفصام)

ومن علامات ظهوره عند المراهق هي اشتداد عوارض (الشزويدية) فينطوي الطفل على نفسه انطواء تاماً ويبدو خجولاً متكتماً ولا سيما في حضرة من هم مثل سنه، وإذا أرغم على مجالسة غيره فقد يفضل أن يكون ذلك مع الكبار.

يصور له خياله آفاقاً بعيدة وأهدافاً عالية تصبو نفسه إلى تحقيقها ولكنه لا يبدي مجهوداً لتحقيقها لأن المجهود يتطلب مواجهة الواقع ومصارعة الصعاب وهو ما يفر منه فراراً فيفضي به الحال إلى الإخفاق فيحز ذلك في نفسه ويريد من فصامه في شكل (دائرة خبيثة) وكلما ازداد تحفزه وطموحه وتوثبه ازداد إخفاقه وابتعاده عن غايته على حد قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

أو كما تقول الحكمة القائلة (السائر على غير هدى كلما ازداد جداً ازداد عن غرضه بعداً).

هذه لمحة مختصرة من سيكولوجية الطفل علّ القارئ أن يجد فيها بعض الفائدة.

(باريس)

فضل أبو بكر

عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا

ص: 12

‌بين البحتري وشوقي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

انتهت المؤامرة التي دبرها المنتصر مع الأتراك، بقتل الخليفة المتوكل سنة ثمان وأربعين ومائتين من الهجرة، وكان البحتري الشاعر في المجلس الذي تم فيه ذلك الاغتيال، فثارت عواطفه، فأنشأ قصيدة يرثي بها مولاه القتيل، ويقرع فيها ابنه ولي العهد رأس هاته المؤامرة، ويقول:

أكان ولي العهد أضمر غدرة

فمن عجب أن ولي العهد غادره

فلا ملّى الباقي تراث الذي مضى

ولا حملت ذاك الدعاء منابره

ولا وأل المشكوك فيه ولا نجا

من السيف ناضي السيف غدراً وشاهره

فكانت تلك القصيدة من عوامل الجفوة، بينه وبين الخليفة الجديد. والظاهر أن الشاعر قد اضطهد في بدء ذلك العهد، فنبت به بغداد وسر من رأى، وأزمع الرحيل حتى يعود إلى الجو نقاؤه وصفاؤه، وحتى ترجع حياته إلى سابق عهده بها، لينة سهلة وادعة، فاختار أن يرحل إلى المدائن عاصمة دولة الفرس القديمة، راجياً أن يجد في تلك الرحلة العظمة والتسلية. ولقد أثمرت رحلته تلك القصيدة رائعة قل نظائرها في الأدب العربي كله، وكان لها صدى في نفس شاعرنا المغفور له شوقي، فقد نفى في أيام الحرب العظمى الماضية إلى الأندلس، وظل بها حتى وضعت الحرب أوزارها، فرأى واجباً عليه قبل العودة إلى وطنه، أن يزور آثار العرب التي خلفوها بتلك الديار، وكان البحتري رفيقه في الترحال، وسينيته التي خلد بها إيوان كسرى تملك من شوقي نفسه، قال (فكنت كلما وقفت بحجر، أو أطفت بأثر، تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها، وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:

وعظ البحتري إيوان كسرى

وشفتني القصور من عبد شمس

ثم جعلت أروض القول على هذا الروي، وأعالجه على هذا الوزن، حتى نظمت هذه القافية المهلهلة.

بدأ الشاعران قصيدتهما محنقين مما رمتهما الأيام به؛ أما البحتري فسر حنقه خوفه على رزقه أن يطفف، وخشيته على عيشه أن ينقص:

ص: 13

بلغ من صبابة العيش عندي

طففتها الأيام تطفيف بخس

وبعيد ما بين وارد رفه

علل شربه ووارد خمس

وكأن الزمان أصبح محمولاً هواه مع الأخس الأخس.

وهنا يثور فيه الحنين إلى وطنه الشام، فيرى أنه لم يكن حكيماً، يوم باع هذا الوطن، واشترى به العراق، ولكنه لا يسرف في هذه الثورة، ولا يطيل، بل يكتفي بقوله:

واشترائي العراق خطة غبن

بعد بيعي الشآم بيعة وكس

أما شوقي فيبدأ بالحنين إلى الشباب وملاعب الشباب، والحنق على هؤلاء الذين حرموه الإقامة في وطنه، وأبعدوه عنه، ويرق شوقي في حديثه عن قلبه الذي لم يسل بلاده، فهو متنبه مستطار، إذا استمع إلى البواخر مقلعة أو عائدة، فيقول:

وسلا مصر، هل سلا القلب عنها

أو أسا جرحه الزمان المؤسي

كلما مرت الليالي عليه

رق، والعهد في الليالي نفسي

مستطار إذا البواخر رنت

أول الليل أو عوت بعد جرس

راهب في الضلوع للسفن فطن

كلما ثرن شاعهن بنفس

فهذا القلب يكاد يطير من بين أضالعه كلما أصغى إلى باخرة تصيح في هدأة الليل، وهو كالراهب المتبتل يدق ناقوسه، كلما ثارت سفينة، تزمع الرحيل؛ وهنا يأسى شوقي لحرمانه من وطن ينعم به حتى غير أهله وذويه:

إحرام على بلابله الدوح، حلال للطير من كل جنس.

وإذا كانت ثورة البحتري على بعده عن وطنه قد وقفت عند حد إعلانها، فلم يحدثنا عن هذا الوطن قليلاً ولا كثيراً، فإن الذكريات تتهال على شوقي، وصورة بلاده تتمثل أمامه، فيطفئ شوقه بالحديث عن طبيعتها حيناً، وعن آثارها حيناً آخر، وإنه ليسمو إلى أبعد الغايات في تصوير هذا الشوق إذ يقول:

وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي

وهفا بالفؤاد في سلسبيل

ظمأ للسواد من عين شمس

شهد الله لم يغب عن جفوني

شخصه ساعة ولم يخل حسي

وينتقل خيال شوقي بين الإسكندرية، وعين شمس، والجزيرة، والنيل، والجيزة، وبين

ص: 14

الأهرام وأبي الهول، وإذا كنت لا أستسيغ بعض أخيلة شوقي هنا: كتصوير الجزيرة عرساً:

قدها النيل فاستحت فتوارث

منه بالجسر بين عرى ولبس

أو تشبيه الأهرام بميران فرعون.

أو قناطيره، تأنق فيها

ألف جاب وألف صاحب مكس

فإن حديثه عن أبي الهول حديث معجب حقاً، يبعث في النفس تعظيم الأثر، ومقيمي الأثر.

ورهين الرمال أفطس إلا

أنه صنع جنة غير فطس

تتجلى حقيقة الناس فيه

سبع الخلق في أسارير إنسي

ثم يقف شوقي مستلهماً العظمة من حوادث الأيام، فيرى دولاً تقوم، وأخرى تسقط، وملوكاً ينهضون بالملك ثم لا تلبث شمسهم أن تتوارى. وهنا ينتقل انتقالاً طبيعياً إلى حديث إلى الحديث عن دولة العرب في الأندلس، فيقف عند آثارهم الأكاسرة يستلهمها، وهنا يبدو تأثير البحتري واضحاً في شوقي، فقد وصف البحتري ما رأى بعينه، وصور له الخيال ماضي تلك الآثار، فرسم ما تخيل، ووازن بين الماضي والحاضر، وكانت تلك الموازنة مصدر التأسي والاعتبار، وعلى هذا النسق سار شوقي في قصيدته الأندلسية.

راع البحتري ما رأى من خالد الأثر، فأنطلق يعلن إعجابه، معترفاً بأن تلك الآثار الجليلة لا يمكن أن يوزن بها أطلال العرب ولا آثارهم في صحاريهم المقفرة:

حلل، لم تكن كأطلال سعدي

في قفار من البسابس ملس

ومساع لولا المحاباة مني

لم تطقها مسعاة عنس وعبس

ولقد كان البحتري متفنناً مارهاً، يحاول أن ينقل إليك الأثر الذي أحس به عندما وقف أمام آثار الفرس، فيلجأ إلى التشبيه حيناً، والى تصوير ما رآه حيناً آخر، والى الخيال يكمل به الصورة، حتى تصبح واضحة مؤثرة: فهذا الجرماز - قد صار مقفراً مهجوراً، يوحي إلى النفس بالوحشة التي تملؤها عند رؤية القبور، وإن في هذا القصر من العجائب ما يدل على عظمة منشئيه، ومن بن ذلك صورة تسجيل معركة حربية دارت بين الروم والفرس عند مدينة أنطاكية، وقد وقف الشاعر أمام هذه الصورة مذهولاً لما فيها من الدقة والإحكام؛ فهذا أنوشروان يقود الجيش، مدفوعاً إلى القتال بهذا العلم المنصوب، ويحفز الهمم ويحث

ص: 15

العزائم، وقد ارتدى المليك لباساً أخضر، وامتطى صهوة حصان يزدهي عجباً، ويختال تحت راكبه، وهذا الجيش قد أقبل على المعركة يصطلي نيرانها، ولا تكاد تسمع إلا صوت السلاح، فهذا جندي يقبل على عدوه بالرمح، وذاك يثقي السنان بالترس، ولقد بلغ من أحكام تلك الصورة أنها تخيل لرائيها أن ما يراه جيش حقيقي لا صورته، كما ملأ الوهم نفس البحتري، فأقبل يلمس الصورة بيده، ليتأكد أنها صورة لا حقيقية، قال:

فإذا ما رأيت صورة أنطاكية

ارتعت بين روم وفرس

والمنايا موائل، وأنو شروان

يزجي الصفوف تحت الدرفس

في اخضرار من اللباس على

أصفر يختال في صبيغة ورس

وعراك الرجال بين بديه

في خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوي بعامل رمح

ومليح من السنان بترس

تصف العين أنهم جد أحياء

لهم بينهم إشارة خرس

يغتلي فيهم ارتيابي حتى

تتقراهم يداي بلمس

وهذا الإيوان في القصر الأبيض عجيب الصنعة تراه فيخيل لهذا الكآبة التي تغمره أنه مزعج بفراق إلف عزيز عليه، أو مرهق بتطليق عرس، فكأنه يشعر بأحداث الزمان، ويحس بثقله عليه، ولكنه يحتمل متجلداً، وبرغم ما أصيب به من استلاب زينته، وعرائه من بسط الديباج، وستور الدمتس، لد يزده ذلك إلا عظمة وجلالاً؛ وبجمل الشاعر إعجابه الذي لا حد له في قوله:

ليس يدري، أصنع إنس لجن

سكنوه، أم صنع جن لإنس

وهنا يسبح الخيال بالبحتري، فيعود به إلى عهد العظمة والمجد، الذي ظفر به القديم هذا القصر الموحش الضخم، فها هو ذا المليك بين حاشيته، وقد جلسوا في مراتبهم، يستقبل الوافدين عليه في إجلال وخشوع، بينما القصر يموج بمن فيه: قيان يملأنه بالغناء، ويعمرنه بالسرور؛ أما اليوم فقد انقضى كل شيء، وصار موضع عظة وعبرة، ولا يبخل البحتري على القصر بدموع يذرفها، برغم أن الدار ليست داره، ولا الجنس جنس قومه، ولكنه يحفظ للفرس هذه اليد التي أدوها إلى اليمنيين أهله، يوم أعانوهم على التخلص من غزو الجيش الذي بعثوا إليهم بجيش يقوده أرياط، ونشتم رائحة الشعوبية من بعض أبيات

ص: 16

القصيدة كما مضى، ومن هذا البيت الأخير الذي ختمها به، وفيه يعلن إعجابه بالأمجاد من جميع الأجناس، لا فرق بين عربي وعجمي، قال:

وأراني بعد أكلف بالأشراف طراً من كل سنخ وأس ويسير شوقي هذا النهج تقريباً؛ يصف الأثر في حاضره، ويمضي به الخيال إلى الماضي، فيصف ما كان له من أبهة وجلال.

زار شوقي قرطبة فراعه ما آل إليه أمر تلك العاصمة القديمة فقد انتقص الدهر أطرافها فعادت قرية حقيرة لا شأن لها، بعد أن كانت في القديم على عهد العرب، أعظم بلاد أوربا وأرقاها، يقول شوقي:

لم يرعني سوى ثري قرطبي

لمست فيه عبرة الدهر خمسي

يا وقي الله ما أصبح منه

وسقى صفوة الحيا ما أمسي

قرية لا تعد في الأرض كانت

تمسك الأرض أن تميد وترسي

غشيت ساحل المحيط وغطت

لجة الروم من شراع وقلس

وإذا كان البحتري قد تخيل قصور المدائن وجلالها، فقد تخيل شوقي قصور قرطبة وأبهتها، وقلده في تصويره الناصر تحت الدرفس. ويعود البحتري إلى يقظته فيرى الدار خلاء، كما عاد شوقي إلى يقظته فوجد الدار ما بها من أنيس، وخص البحتري الإيوان بجزء من قصيدته بمجده، وشوقي قد خص المسجد العتيق بجزء من شعره يخلده، وأرى هذا الجزء أروع أجزاء القصيدة وأقواها، إذا استثنينا تشبهه أعمدة المسجد بألفات ابن مقلة، إذ هو أشبه بوزن الجبلة بالنملة. أما الأثر الذي أحس به شوقي عندما وقف أمام هذا المسجد العتيق، فقد نجح في تصويره تصويراً ينقل هذا الأثر إلى نفوسنا، إذ يقول:

ورقيق من البيوت عتيق

جاوز الألف غير مذموم حرس

أثر من (محمد) وتراث

صار (للروح) ذي الولاء الأمس

بلغ النجم ذروة وتناهى

بين (ثهلان) في الأساس و (قدس)

مرمر تسبح النواظر فيه

ويطول المدى عليها فترسى

وسوار كأنها في استواء

ألفات الوزير في عرض طرس

فترة الدهر قد كست سطرَيها

ما اكتسى الهدب من فتور ونعس

ويحها، كم تزينت لعليم

واحد الدهر واستعدت لخمس

ص: 17

وكأن الرفيف في مسرح الع

ين ملاء مدنرات الدمقس

وكأن الآيات في جانبيه

يتنزلن من معارج قدس

منبر تحت (منذر) من جلال

لم يزل يكتسبه أو تحت (قس)

ومكان الكتاب يغريك رياً

ورده غائباً فتدنو للمس

صنعه الداخل المبارك في الغرب، وآل له ميامين شمس ومما لا ريب فيه أن الذي أصبح خلاء مقفراً، خلده شوقي في شعره؛ ويقف شوقي حزيناً كئيباً، يتخيل العرب وهم يغادرون بلاد آبائهم في ذله وضعف فيقول:

خرج القوم في كتائب صم

عن حفاظ كموكب الدفن خرس

ركبوا بالبحار نعشاً وكانت

تحت آبائهم هي العرش أمس

رب بان لهادمٍ، وجموع

لمشت، ومحسن لمخسّ

إمرةُ الناسِ همة لا تأتي

لجبان، ولا تسنى لجبس

وإذا ما أصاب بنيان قوم

وهي خلق، فإنه وهي أس

وكما ختم البحتري قصيدته بشكر الفرس على ما كانوا قد أسدوه إلى قومه اليمن، من سابق اليد، ختم شوقي قصيدته بشكر الأندلس على ما قدمت إليه من كرم الضيافة له ولا بنيه.

أحمد أحمد بدوي

ص: 18

‌محمد إقبال شاعر الشرق والإسلام 1389 - 1873

‌1257 - 1938

للأستاذ مسعود الندوي

(تابع)

6 -

(مسافر): مجموعة شعره الذي قاله أثناء سفره إلى أفغانستان سنة 1932 على دعوة من مليكها الشهيد الغازي نادر خان. وفيه نصائح لشبان بلاد الأفغان ورجالهم. ومما يسرنا ذكره بهذه المناسبة أن شباب الأفغان يدرسون شعره ويستفيدون من حكمه مثل شباب الهند. وقد بين لنا ذلك أستاذنا الجليل، العلامة المحقق السيد سليمان الندوي - أمتعنا الله بطول بقائه - الذي كان زميل شاعرنا في هذا السفر. وذكر لنا الأستاذ - أدامه الله - شيئاً كثيراً من مزايا محمد إقبال مما لا يتسع المقام لذكره. ومما ذكره الأستاذ برجه خاص أنه حينما زار محمد إقبال جلالة الملك نادر أول مرة في كابل جعلا يبكيان ساعة من الزمن، والقوم صامتون ينظرون إلى مسلمين مخلصين، أحدهما حكيم والآخر ملك، يتكلمان بدموع العين، لقد صدق من قال:

لساني عيى في الهوى وهو ناطق

ودمعي فصيح في الهوى وهو أعجم

7 -

بال جبريل (طير النا جبريل): كان الشاعر بادئ ذي بدء يقرض في الأردية، ولذلك ترى جميع عيون شعره من الأدوار الأولى في هذه اللغة. ولما سمت فكرته ونضجت آراؤه اتخذ من الفارسية آله لإبداء أفكاره وجعلها وسيلة لإداعة شعره في جزء غير يسير من أنحاء العالم الإسلامي، ولذلك جاءت جميع دواوينه بعد (بانك درا) في اللغة الفارسية. وقد شدا يذكرها في بيت له من (؟؟ مشرق) ولله دره حيث قال:

تنم كلي زخيا بان جنت كشهر

دل أز حريم حجاز ونواز شهر ازاست

إن جسمي ريحانة من رياض الجنة الأرضية كشمير، والقلب منيته بلاد الله الحرام وأفانين الكلام مقتبسة من ألحان شهراز.

لكن اللغة الفارسية، حينما وسعت نطاق المعجبين بشعره في خارج الهند، قللت من قرائه والمستفيضين من ينبوع حكمته في داخل البلاد، وطالت شكوى أهلها من شاعرهم، حتى

ص: 19

أن بعض حماة الأردية أرادوا أن يغضوا من شعره الفارسي، وتقول غيرهم أن الشاعر أختار الفارسية ليكون في مأمن من قوانين الحكومة الصارمة. لأجل هذا وذاك أراد الشاعر أن يعود (والعود أحمد) إلى الأردية، فنشر سنة 1932 هذا الديوان الذي بذ جمع دواوين شعره في الحكمة وتعمق الأفكار ومعظم كلماته فيه نتيجة ما شاهده وتأثر به خلال أسفاره إلى بلاد أوربا. . . لندن وباريس وروما والأندلس. . . وبلاد العرب عام 1931، ولقد أجمع النقاد على أن صاحبنا كان شاعرنا أو فلسفياً في مجاميع شعره السابقة، لكنه حكيم في هذا الديوان، لا غيره. ومن خصائص هذه المجموعة أن صاحبنا تناول المشايخ (المعروفين بـ (ملا) في الهند) والمتصوفين بالنقد اللاذع في غير واحدة من كلماته. شيء لم نره في مصنفاته السابقة. ومن ميزاته أنها تشتمل على معجزات القصائد التي ألهمها صاحبنا في الأندلس وفلسطين حينما تكشفت لعينيه الحجب الظاهرية ورأى بعينه ما لا يتيسر لغيره أن يراه. لكن هذا الديوان، على ما فيه من بدائع الحكمة ومشاهدات الأندلس وفلسطين، ينقصه شيء عظيم، وهو أن معظم المولعين بشعره لا يقدرون على إدراك مغزى كلامه، لكونه مصبوباً في قالب من الشعر المتأنق والحكمة العميقة البالغة، وإنما يتذوق المتأدبون والذين لهم ذوق في الشعر متأصل.

8 -

ونظراً إلى ذلك عني بنشر ديوان آخر سماه (ضرب كليم)(ضربة موسى كليم الله) أودعه آراءه في جميع شعب الحياة العصرية، مجردة عن الفلسفة وزخارف الشعر، بحيث يفهمه كل من له أدنى إلمام بالدب، أن كان له حظ في المسائل الدينية والسياسية المعروضة على بساط البحث والنقد.

وقد فسر الشاعر الحكيم بنفسه أسم هذا الديوان (ضرب كليم) بأنه (إعلان حرب على العصر الحاضر) وقد صدق رحمه الله، في هذا التفسير، لأنه فند فيه آراء أهل الغرب والمتفرنجين وقطعها إرباً إربا، وانتقد جميع نظرياتهم السياسية؛ فلا ريب أن (ضرب كليم)(إعلان حرب على العصر الحاضر) وقد أجمع المتأدبون بأدبه والمتذوقون لشعره وحكمه على أن شارع الإسلام لم يجمع هذه الأفكار الثمينة في كتاب واحد. ومن خصائص هذا الديوان أن حكيم الإسلام تعرض فيه لانتقاد القاديانيين وغلامهم الكذاب، فذكرهم غير مرة وكشف الغطاء عن دجلهم وكيدهم للإسلام والمسلمين. وذلك بأسلوبه المعجز المدهش.

ص: 20

9 -

ارمغان حجاز (هدية الحجاز): عنوان ديوانه الذي ظهر بعد وفاته، رحمه الله، (باللغتين الفارسية والأردية)، وقد سماه هدية الحجاز، لسبب خاص. وبيان ذلك أنه سافر إلى بلاد أوربا مراراً وزار بعض بلاد العرب أيضاً، لكنه ما قدر له أن يتشرف بزيارة الحرمين الشريفين، على ما به من تباريح الوجد والشوق إلى زيارة بيت الله الحرام وقبر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أمنيته أن يتمتع بها، وقد وطد العزم على ذلك، وجعل يقرض أبياتاً ومقطوعات شعرية، مواجهاً بها بيت الله الحرام ومثوى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأني به كان يعد عدته لذلك السفر الميمون ويهيئ الزاد الذي يقدمه إلى عشاق أدبه والمفتتنين بحكمه، حين قفوله من الزيارة المباركة، إلا أن مرضه الأخير قد أنهك قواه، وبقى يتقلب على أحر من الجمر زهاء عامين يتجرع غصص النوى حتى وافاه الأجل المحتوم، ولما يقض لبانته. وفي أيام المرض العصيبة قد جادت قريحته بأبيات ومقطوعات لا تنسى أبد الدهر. وإن ننس لا ننس البيتين اللذين رثى فيهما نفسه، وأنبأ المولعين بأدبه وشعره بدنو أجله:

سرود رفته باز آيد كدنه آيد

نسمي از حجاز حجاز آيد كدنه آيد

سر آن روزكار أين فقري

دكر وأنات راز آيد كدنه آيد

ليت شعري، هل للنغمة المفقودة من رجعة؟ ولا أدري، هل أجد بعد اليوم نسيم الريح التي تهب من جانب البطحاء؟

أما هذا الفقير إلى الله فقد آن أوانه ودنا أجله، فلا يعلم إلا الله، هل ينبغ في هذه الأمة حكيم آخر عالم بأسرار الكون ودقائق الأمور؟

وكذلك قوله على فراش المرض قبل وفاته بأيام:

بيشتي بير أرباب يمم آست

بيشتي بير با كان حرم آست

بكوبا مسلم هندي كدخوش باش

بيشتي في سبيل الله بيم آست

هناك في الدار الآخرة جنة للذين يجودون بآمالهم ويضحون بذات يدهم، وجنة للزهاد والنساك المتقطعين إلى ذكر الله. وقل للمسلم الهندي أن لا يحزن ولا يتألم، فإن هناك جنة أخرى غيرها، ألا، وهي التي ينعم بها على الذين يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.

- 5 -

ص: 21

آراؤه وأفكاره:

نريد الآن أن نترجم بعض آرائه في مختلف المسائل في ديوانه (ضرب كليم)، ليعرف الفراء وجهة نظرة في السياسة والدين والأخلاق، إلا أنه لا يمكن أن يبقى في الترجمة عشر معشار الروعة والتأثير اللذين امتاز بهما شعره.

الاجتهاد:

أني لأحد أن يتعلم أسرار الدين في الهند

لأن العمل والأفكار العميقة مفقودة فيها؛

فلا تجد في المشتغلين بالعلم والتعليم حرية الفكر والتفكير السديد.

فتباً وتعساً للعبودية وعدم التحقيق؛

لا يغيرون أنفسهم فحسبُ، بل يريدون أن يبدلوا كلام الله ويحرفوا الكلم عن مواضعه؛

ما أبعد عن الحق هؤلاء الشيوخ والفقهاء وما أضل سبيلهم!

يرى هؤلاء (العبيد) أن كتاب الله ناقص

لأنه لا يرشدهم إلى طريق العبودية.

المسلم الهندي:

يقول الهنادك إنه خائن لوطنه

ويرى الإنكليز أن المسلم متسول ومتكفف

وشريعة أصحاب النبوة، تفتي

بأن هذا المسلم (العتيق البالي) كافر

فلا أدري متى يرتفع صوت الحق ومن أي وجهة؟ وقلبي حائر قلق أمام هذه الأقوال المتضاربة.

الجهاد:

لقد أفتى الشيخ بأن هذا عصر القلم، وأما السيف فلم يبق له اليوم عمل يذكر؛

ولكني أسائل حضرة الشيخ: أولاً يعرف أن هذه الموعظة لا تجدي اليوم بشيء في المساجد، فأين السيوف والمدافع بأيدي المسلمين؟

وأن كانت فالقلوب قد ذهلت عما في الموت من لذة؛

ص: 22

ومن لي بالذين قلوبهم خشية الموت؛

حتى لا يرضوا أن يضحوا بنفوسهم تضحية الكفار؛

من لي بهم أن ينفضوا عنهم غبار الجبن والخمول؛

ويبذلوا مهجهم وأرواحهم بذل المسلمين المخلصين؟

وما أحرى الذين يرتعد العالم خوفاً من آلاتهم الجهنمية، أن يلقنوا الأمن والسلام ويدعوا إلى ترك (الجهاد)، (جهادهم) الباطل.

أو لا ترى أن أوربا قد غرقت في بحار من حديد

للمحافظة على الباطل وجنوده، واستعداداً للحرب الضروس القادمة

ونحن نود أن نسأل الشيخ المتزلف إلى الكنيسة الغربية والاستعمار الغربي: أليست الحرب شراً في الغرب، إذا كانت كذلك في الشرق؟

وأن كنت تريد الحق، فهل يليق بك أن تحاسب الإسلام وتضرب صفحاً من أعمال أوربا وفظائع مقترفاتها؟

الإسلام الهندي:

حياة الأمة منوطة بوحدة الأفكار،

وما الوحي الذي يمزق هذه الوحدة إلا ضلال وخرافة، ولا ضمان لهذا الوحدة إلا القوة؛

أما العقل والحكمة فلا يحركان في هذا الشأن ساكناً، لأن المسألة القوة؛

ولكنك أيها المسلم، لست في شيء من تلك القوة، فاجمل بك أن تلتجئ إلى كهف أو مغارة، وخير لك أن تجتهد في إيجاد إسلام آخر، يدعو إلى الفقر، والعبودية، واليأس الدائم. وبما أن الملا، (الشيخ) قد أبيح له في الهند أن يركع ويسجد.

يزعم الأبله أن الإسلام حر في هذه الديار (كأني به لا يعرف من الدين إلا الركوع والسجود فقط).

محمد علي الباب:

كانت خطبة (الباب) بين يدي العلماء غريبة؛

كان المسكين يحرف أعراب (السماوات) عن موضعه؛

ص: 23

وكان العلماء يبتسمون، ساكتين على خطأه؛

فأجابهم إنكم لا تعرفون درجاتي العالية؛

كانت آي القرآن محبوسة في قفص (الأعراب)؛

والآن حل إسارها لوسيلة (إمامتي).

(البقية في العدد القادم)

مسعود الندوي

ص: 24

‌طرائف من العصر المملوكي:

رسالة الدار عن محاورات الفار أو فن القصة

الأستاذ محمود رزق سليم

بقية ما نشر في العدد الماضي

اتبع كذلك المؤلف طريقة الحريري والهمذاني في ابتداع شخصيتين في القصة، شخصية راوٍ هو (حسان) ومروي عنه وهو (الحكيم حسيب) الذي أشرنا إليه فيما سبق. فيقول مثلاً (قال الراوي حسان. معدن الظرافة والإحسان: فتوجه الحكيم حسيب الأديب الأريب إلى إيراد الأخبار. عن الهداة الأخيار. فحكى أن ملكاً من ملوك الأمصار. وسلاطين العجم يدعى (شهريار). . . الخ). وذلك شبيه بما كان يقوله مثلاً أبو قاسم الحريري: حدثنا الحارث بن همام. . . ثم يقص قصته عن أبي زيد السروجي.

وقد توخى المؤلف في كتابه، مفاكهة الناس على اختلاف درجاتهم وتباين مشاربهم، من الحديث المشوق الذي يجذبهم إلى سبل الخير. وأسلوبه وإن كان مزدحماً بالبديع وبخاصة السجع، لأنه من المولعين به، من الحق علينا أن ننصفه، وأن نذكر أنه أخف مئونة من أسلوب المقامات العباسية حين بلغت أوجهاً على يد الهمذاني والحريري. وهو أكثر حكمة وأوفى مثالاُ وأدق تعبيراً وأكثر تحليلاً لخفايا النفوس، وإظهاراً لهواجسها، فلم يقتصر على الأوصاف الحسية بل حلل وتعمق وأمعن ودقق. فليست البراعة الأسلوبية رائدة الأول أو دافعة الأكبر على تدبيج قصصه وتأليف كتابه. وبهذا كله يفترق عن كتاب المقامات.

أما المقامات فقد عرفناها منذ عصر بني العباس، قصصاً وصفية يعني فيها بإظهار البراعة في الصناعة البديعية. وقد اتجه من أدباء العصر المملوكي إلى إجادة هذا الفن من القول. وقد تعددت موضوعاتها واتسع نطاق الوصف فيها، وخرجت عن سمت الاستجداء، واستوت المقامات فأصبحت في مقدمة الأغراض الكتابية في العصر المذكور، ومظهراً من مظاهر الصناعة البديعة، مع قلة تعسف، وخفة مئونة. وقد قرأت أربع مقامات لزين الدين بن الوردي (748هـ) التزم في أولها أن يقول:(حدث إنسان. من معرة النعمان) أو نحو ذلك. ولعله يقصد بالإنسان نفسه، وأولى هذه المقامات (المقامة الصوفية) وقد صور لنا فيها

ص: 25

رجلاً لقي عشرة رجال كانوا يتجادلون في أمر الصوفية فطفق الرجل يشرح لهم ما خفي عنهم من أمور الصوفية وأسرارهم وشروطهم وما إلى ذلك. فكأنما هي درس تعليمي لا قصة كما نفهم القصة في العصر الحديث. وضمن منثوره شيئاً من النظم المناسب للمقام. وفي مقامته الثانية (الأنطاكية) حدث عن مدينة إنطاكية وما فيها من مظاهر طبيعية جميلة، وقد لقي فيها وإليها، فجلس إليه، وأخذ الوالي يبثه شكواه من البغيظة الضاربة الرواق بين عجم المدينة وعربها. وخلل نثرها على عادته بأبيات عدة. ومن وصفه فيها قوله عن المدينة: (سورها منيع، وعاصيها مطيع. وأطيارها تحن إلى نغماتها الجوارح. وأنهارها مطردة وعيونها سوارح. ونسمها يبطل رائحة المسك السيق. وساكنها يزهي على الغصن الوريق. يصدأ بهوائها السلاح، وتجلى به القلوب والأرواح برية بحرية. سهلية جبلية. منثورها منثورها:

متكامل فيها السرور لمن بها

يوماً أقام كما تكامل سورها

وخلت قلوب قصورها فاستضحكت

إذ عاش شاكرها ومات كفورها. . . الخ

وأنت ترى أن هذه مقامة وصفية. وعلى هذا النسق تقريباً جرى في مقامتيه الأخريين (المنبجية) و (المشهدية). وله مقامة أخرى تعرف (بصفو الرحيق في وصف الحريق) بدأها بقوله (حدث غيث بن سحاب عن ندى بن بحر) واشتملت على وصف حريق شب في مدينة دمشق.

ومن كتاب المقامات صلاح الدين الصفدي (754هـ) وله مقامة وصف حريق أيضاً. وبدو من سياق حديثه فيها أنه نفس الحريق الذي وصفه ابن الوردي في مقامته.

ولتقي الدين بن حجة الحموي (837هـ) مقامة عارض بها المقامة الزورائية للحريري. وللشاب الظريف (688هـ) مقامة وصف بها شاباً برح به الغرام. ولشرف الدين أسد المصري (738هـ) مقامة فكاهية روي فيها حكاية أحد النحاة مع أحد الأساكفة. . .

ومن فرسان المقامات جلال الدين السيوطي (911هـ) الذي ضرب في كل فن بسهم. وله عدد ضخم من المقامات فمنها (بلبل الروضة) وصف فيها جزيرة الروضة. والمقامة (الوردية) وهي قصة تمثيلية أبطالها الأزهار! فقد افترض الكاتب أن الأزهار اجتمعت عساكرها وعقدت مجلساً حافلاً للجدل والمناظرة لاختيار أحقها بالملك فصعد كل منها المنبر

ص: 26

وحاور وجادل. فتحدث الورد أولاً ثم النرجس فالياسمين فالبان فالنسرين فالبنفسج فالنيلوفر فالريحان، ورشح كل منها نفسه وزكاها ببيان أوصافها وذكر مزاياها. . . ثم أسلم الجميع للريحان وخضعوا لسلطانه.

وعلى نمط مقامته الوردية دمج عدة مقامات أخرى وصف فيها أنواعاً من الثمار أو الأحجار الكريمة أو نحو ذلك مثل المقامة (المسكية) و (التفاحة).

ومن أطراف مقامات السيوطي مقامته (رشف الزلال من السحر الحلال) وتسمى أيضاً (مقامة النساء) وقد وصف فيها عشرون عالماً في فنون مختلفة - ما بين نحوي ومفسر وفقيه وأصولي. . . الخ - ما جرى لكل منهم بينه وبين عرسه ليلة دخوله. . . دوري كل منهم في حديثه بمصطلحات علمه وفنه. . .

وعلى نمط المقامات تعددت وتنوعت مظاهر القصة الأخرى من رسائل ومحاورات وموازنات ومفاخرات كالموازنة بين النار والتراب، والمفاخرة بين السيف والقلم.

أما سير الأبطال وتراجم الرجال فما أكثرها في هذا العصر وما أجلها وأعظم شأنها، غير أنها أقرب إلى النزعة التاريخية منها إلى النزعة الدبية. ومن بينها موسوعات ضخمة، ومن بينها تراجم فردية مستقلة. ومن أمثلة الأخيرة وهي التي تقص سيرة رجل واحد، كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) لشهاب الدين بن عريشاه (854هـ) الذي أشرنا إليه من قبل. و (التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر) وهي سيرة السلطان جقمق كتبها ابن عريشاه أيضاً. وكتاب (تاريخ الناصر بن قلاوون) لمؤلفه شمس الدين الشجاعي و (ترجمة الأوزاعي) لابن حجر العسقلاني (854هـ) و (سيرة نور الدين زنكي) لبدر الدين بن الشهيد الدمشقي كتبه عام (874هـ). وغير هذه المؤلفات كثير.

وقبل أن نختم هذا المقال نحب أن ننوه بشيئين هما من القصة بسبيل: أحدهما الشعر القصصي، والثاني الشعر التمثيلي وهما من الأدب العربي - إلى عهد قريب - نادران. ومن العجيب أن ترى في العصر المملوكي نشاطاً من القراء في ميدان القص، وقد نوهنا في مقالتنا عن (البردة) عن مجهود أصحاب البديعيات، وعن أدباء البردة الذين عارضوها، ومنظوماتهم عبارة عن قصة الرسول عليه الصلاة والسلام. وللشعراء في غيرها جهود محمودة، فمن منظوماتهم (سيرة بيبرس) لمحي الدين بن عبد الظاهر (692هـ) و (سيرة

ص: 27

برسباي) لبهاء الدين الباعوني (910هـ) وهي أرجوزة في 557 بيتاً. والجوهرة في سيرة المؤيد شيخ نظمها بدر الدين العيني (855هـ). والعجيب أن ترى هذه النزعة القصصية لدى الزجالين، وقد نوهنا بذلك في مقالنا عن الزجل والزجالين وأشرنا إلى جهود القيم خلف الغباري، والقيم بدر الدين الزيتوني.

أما الشعر التمثيلي فليس له وجود بالمعنى الذي نفهمه في العصر الحديث أو عنه في العصور القديمة في الآداب الأجنبية. غير أن بعض أدبائنا عثروا عن كتاب (طيف الخيال) لمؤلفه الشاعر الناثر الماجن الطبيب شمس الدين بن دانيال الموصلي (710هـ) الذي كان يعيش بالقاهرة، وقد تصفحنا هذا الكتاب في دار الكتب المصرية. وهو مطبوع في أوربا وبه مقدمات مكتوبة بالألمانية. ولعل المطبوع منه قسم من المؤلف الأصيل. ونستطيع القول إنه عبارة عن مقامة تمثيلية طويلة يصف فيها المؤلف لعبة (خيال الظل). وينطق فيها أبطال التمثيل على مسرح أمام النظارة، خلف ستار يضاء بالشمع. أما الأبطال فشخوص متعددة منها ما يمثل آدميين، وما يمثل حيوانات. ومن الآدميين: الريس، وطيف الخيال وهو شخص أحدب، وحويش الحاوي، وعسيله المعاجيني، ونباتة العشاب. . . الخ ومن الحيوانات. الأسد والدب. . . الخ. ولكل من هؤلاء جميعاً دور يؤديه وحديث يلقيه. يتقدم فيحدث ويحدث ويحاور ثم يتوارى ويترك الميدان لغيره، وهكذا دواليك. ويتخلل الحوار المنثور أبيات وأغاني وأناشيد عدة. والقطعة المطبوعة من طيف الخيال تتألف من جملة فصول أو مناظر، لكل منها حديث وحوار. واعتقادنا أن ما أورده أبن دنيال في طيف خياله هذا، ما هو إلا نمط من أنماط عدة كثيرة، ورواية من روايات مختلفة كانت تمثل بين الناس في تلك العصور الخالية للهو والتسلية والعظة والاعتبار؛ فالكتاب على ما فيه من مجون وفكاهة فيه أيضاً مثل وحكمة. وعلى أية حالة فهو يومي إلى أن التمثيل المسرحي والرواية التمثيلية والشعر التمثيلي كانت كلها تدور في مخيلات القوم في ذاك الزمن السحيق، ولو إلى حد ما.

ولا يتسع حديث واحد كحديثنا اليوم لاستيعاب القول عن مظاهر القصة في العصر المملوكي. فكل مظهر منها يحتاج إلى دراسة، فلعلنا - أو لعل غيرنا - يعود إليها في فرصة أخرى.

ص: 28

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية

ص: 29

‌أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية

للأستاذ حسني كنعان

- 2 -

شاع في الفيحاء ما بين سمار الأندية ورواد المجالس، أن الفتى الشاغوري نابغة بني أقبيق قد أقصاه شيوخه عن دروس المسجد الأموي، وطرده والده من داره لنزعته الموسيقية والتمثيلية لئلا تكون هذه الأسرة المرموقة المنظور إليها في حي الشاغور المحافظ على تقاليده وعاداته غرضاً للنقد والغميزة الممضة.

وانتشر ذلك كسرعة البرق بين رواد الحلقات، فأسف على حرمانه من الدرس أناس وفرح آخرون، أسف الذين كانوا يرقبون له مستقبلاً لامعاً من انصرافه إلى العلم، وفرح الذين كانوا ينفسون عليه نبوغه، ويعدون وجوده بينهم حائلاً دون ظهورهم، وكان من أشد الناس أسفاً على حاله، خاله أبو سعد النشواتي. فأدناه من مجالسه، وكفل معيشته، وجعله وكيلاً عنه في قاعة النشا، ولما ارتاش وانتعشت حالته المادية عند خاله بدا له أن يستقل في عمله، فاشترى من وفره (قباناً) واستأجر محلاً في سوق البذورية وهو من أشهر أسواق دمشق التجارية، وجعل يتكسب من هذه الصناعة، وأمسى يكنى بالقباني، فتغلبت هذه الكنية، فيما بعد على أسرته وغدا يطلق عليها أسرة القباني، وكان خاله يعتقد أن إزالة صخرة كبيرة من مكانها أهون عليه من إزالة هذه التحيزة المتأصلة في نفس هذا الفتى النابغ العجيب. ومما جعله يعطف عليه هذا العطف كله أن أبصره أكثر من مرة يجمع حوله في مقام الحسين في القسم الخارجي من الأموي جماعة المؤذنين والمذكرين، وأبطال المراسلات في آذان الفجر وفي الأسحار في ليالي رمضان، فيعلمهم الأذان والمراسلات من نغمة الصبا، والحجاز، والجهاركاه، والسيكا، وكانوا لا يعرفون سوى نغمتي الراست والبياتي، وكان ذلك وهو في الثانية عشر من سنى حياته، وكان صوته على مأذنة عيسى القائمة في جانب من جوانب المسجد الأموي يفتن السامعين وقت السحر وهو في هذه السن ويجعلهم في حيرة من أمره وذهول. والى هذه المواهب التي لا ينضب معينها، نراه منصرفاً إلى العلم والتجارة والكسب، حيث لا تمر عليه ساعة من نهار دون أن يفيد منها.

وكثيراً ما كان يرى في أوقات الفراغ ممسكاً بيده مطرقة من حديد يطرق بها جانب قبانه

ص: 30

طرقات موقعة على الأوزان الموسيقية ينشد الموشحات والأهازيج على حسب الإيقاع إنشاداً يفتن به الألباب ويخلب عقول أهل السوق، فيتكونون حوله يرقصون كأنهم سكارى لعبت إبنة الحان بعقولهم، فيصفقون ويستديرون على أنفسهم بدون شعور من شدة النشوة والطرب، مما جعلت هذه المواهب القلوب على محبته وجلبت إليه الرزق فذاع أسمه في المدينة وتحدث عنه الخاص من؟؟ والعام.

وكانت تقام له حفلات السمر لدى صحبه وعاشقي فنه في كبريلت الدور، يمتد فيها وصحبه المجاورات والروايات الساذجة المؤلفة من أربعة أشخاص أو خمسة، تعرض فيها فصولاً بالمفاضلة ما بين الكسلان والمجتهد، والتاجر والعامل، والعالم والجاهل، ولما طال الأمد عليه وهو يدب في هذه الصناعة دبيب الطفل الزاحف الذي يحبو على يديه ورجليه ويتحفز للوثوب خطر بباله أن يأخذ دور عنترة ويجعل دور عبلة لصديق من أصدقائه مقلداً في ذلك أستاذه الأول علي حبيب الذي كان يتخذ من الصور الخيالية أشخاصاً فيكلمهم خلف الشاشة ويحاورهم ويداورهم كما مر معنا في البحث الماضي، فنجح في هذا الباب نجاحاً كتب له فيه الظفر، وفاق فيه أستاذه. إذ أن ذاك كان يحاور صوراً خيالية، وهذا يحاور ويمثل مع أشخاص حقيقيين.

وفي عهد ولاية المرحوم الوالي (صبحي باشا) حضرت إلى دمشق من فرنسا فرقة تمثيلية ومثلت في مدرسة (العزارية) روايات اجتماعية وأخلاقية في باب توما، وهي أقدم مدرسة لدينا كانت تقوم ولا تزال قائمة حتى الآن بتعليم اللغة الفرنسية، وكان القباني قد شهد هذه الروايات جميعها وأخذ فكرة عن المسرح والتمثيل والممثلين وتوزيع الأدوار (والمكياج)، فتمم بذلك ما كان ينقصه من فكرة التمثيل والمسرح، وأمسى أكبر همه أن يؤسس في دمشق مسرحاً، ويؤلف فرقة، بيد أن الذي عاقه عن المضي في سبيله، قضية ظهور الفتيات على المسرح، وما يعتور هذه الفكرة من طرق شائكة وصعاب وعقبات.

فالمرأة التي كانت حبيسة بيتها. وكان لا يسمح لها في الخروج منه سوى مرة واحدة في العمر تلك هي المرة التي تخرج فيها من البيت مزفوفة إلى بيت بعلها، ومرة واحدة بعد الموت، تلك هي المرة التي تخرج فيها محمولة على الأعناق إلى مقرها الأخير. . . فكيف تستطيع أن تظهر على المسرح وحالتها حالتها، ومحبسها محبسها، أن دون ذلك خرط الفتاد

ص: 31

وإراقة الدماء وإسالة النفوس.

بقى القباني يفكر في تذليل هذه العقبة وتسهيلها مدة من الزمن حتى بدا له أن يمضي في طريقه غير وجل ولا هباب، ويستعيض بدلاً عن النسوة الفتيان (الغرانق) ذوي الشارات الحسنة والمياسم المغرية. ولما شرع في عمله، ورأى الإقبال عليه والتشجيع والتنشيط من كل صوب وناحية وأصبح العارضون أنفسهم عليه من الفنانين أصحاب المواهب ومن الفتيان ما يفيض عن الحد المطلوب طار من إهابه فرحاً، لا سيما وأكثرهم عرض نفسه عليه بدون أجرة تشوقاً ولذاذة، فألف على الفور فرقة تمثيلية كانت تمثل الروايات في بدء عهدها، في البيوت والقاعات، الخاصة، فذاع خبر هذه الروايات في الشام حتى بلغت مسامع (الوالي) التركي (صبحي باشا)، وكان ممن يقدرون الفن والمواهب، فحضر بنفسه تمثيل رواية من الروايات في حفلة أقيمت على شرفه بصورة خاصة في بيت ثري من أثرياء الشام وهو كثر في ذلك العهد، فدهش مما سمع ورأى، وهام بحب أحمد كل الهيام وأدناه من مجالسه، وجعله موضع عنايته، فصار شفيعاً ووسيطاً ما بين الحاكم والرعية، ما من أحد عرضت له مهمة لدى الوالي وقصد أحمد بها إلا قضاها له.

رأى الباشا في هذا النابغ الدمشقي الشروط المتوفرة للقضاء على الجمود الفكري في الشام وتهذيب النفوس الجامحة بواسطة التمثيل والموسيقى، فأوعز إليه أن يؤلف جوقة وأن يقيم مسرحاً في المكان الذي يختاره.

ولقد رمى الوالي بهذه الفعلة إلى غاية سياسية الجملة تملك أهمية صرف الشعب المتوثب عن الحياة الطليقة التي كان أوجد نواتها في البلاد قادة الثورة الفكرية الشيخين المصلحين الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

فتم له بذلك ما أراد، وكان إقبال الشعب على مشاهدة روايات القباني يفوق حد الوصف ويشب عن الطوق، فأقام مسرح في خان من خانات البذورية، وأول رواية عرضها على الجماهير الحاشدة رواية ناكر الجميل، فأحرزت شهرة فائقة ونالت نجاحاً عظيماً في الأوساط، ثم اتبعها برواية وضاح فلم يكن افتتان الناس بهذه الرواية أقل من افتتانهم بسابقتها، وهكذا دواليك أخذ هذا النابغة الموهوب يتدرج بفنه من حسن إلى أحسن ومن جيد إلى أجود، حتى طارت شهرته في جميع الأنحاء السورية، وتخطتها إلى الأقطار المجاورة،

ص: 32

فصار حديث القباني الممثل المطرب والمنشد البارع والملحن الأوحد مالئ دنيا الشام وشاغل أهلها.

ولما أقبلت عليه الدنيا إقبال الأتي المنهمر، وبسم له الدهر وصلحت حاله، أخذ محلاً في (خان الكمرك) في العصرونية بالقرب من المدرسة العادلية، وأقام مسرحه هناك في منتصف المدينة. وهنا استفاض الحديث في المنازل والمجالس عن عظيم مواهبه وسحر فنه، وكثر رواد مسرحه، وعشاق موسيقاه، وتمثيل رواياته، فلا حديث في المدينة إلا حديثه، ولا ذكر إلا ذكره. . .

وكان كلما تدفقت عليه الأموال ينفقها في سبيل تحسين مسرحه وجلب الحاجات الفنية الغامضة إليه، ففتن الناس وخلب عقولهم حتى بلغ من شأن الاهتمام برواياته أن صار الفقير منهم الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول يبيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها ويجتلي طلعته فيها، وكان لشدة الازدحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد الرواية، فإذا ما انقضت اللذة بمشاهدة رواية تولدت شهوة ولذة بمشاهدة غيرها. ومن شدة الازدحام على أبواب القاعة المقام فيها المسرح أسس الدخول إليها لا يكون إلا تحت إشراف السلطات المحلية، وصارت تباع التذاكر لدى مكاتب المتعهدين قبل ثلاثة أيام، ومن يتأخر عن حجز مكان له في أسبوع قبل ثلاثة أيام أو أربعة أيام يضطر مكرها للخطوة بمشاهدة هذه الروايات في الأسبوع الذي يليه.

وكان الوالي في قاعة المسرح مقصورة يقصدها كل ليلة ويمتع سمعه وبصره بهذا الفن الأخاذ بالرغم من جهله باللغة العربية التي يمثل فيها القباني رواياته.

ومن عادة الدهر ألا يبقى على حالة واحدة، وأنه إذا ضحك إنسان يوماً ما سيتجهم له إذا دالت دولته وولى زمانه وشالت نعامته، وخانه صحبه وأوطانه، وقديماً قال الشاعر:(من سره زمن ساءته أزمان. . .).

(للبحث صلة)

حسني كنعان

ص: 33

‌الضمير العالمي

للأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو

طالت على الأيام رقدته

وخلا من الوجدان والمهج

فمتى ترى تفتر مقلته

وتقرَّ عين العالم اللهج؟

ثملت من الإغفاء عيناه

أم ذاب تحت جفونه البصر؟

يا ليت شعري أين مثواه

بين الجوانح أيها البشر؟!

تصحو المظالم إن جرى الوسن

في مقلتيه ويمحى العدل

وإذا تنبه نامت الفتن

بين الورى واستأمن الكل

فيم (المجامع) أيها الناس:

قول يسر ومنطق عجب؟

و (مواثق) يتعجب الماس

من حسنها والدر والذهب

فيم (المجامع) راح ينهزم

حق بها ويعز بهتان

لو صحت النيات والذمم

لم يشق تحت الشمس إنسان

لو لم تك الأهواء رائدكم

يا من ملكتم قبضة الكون

ما أحتاج حق أن يناشدكم

- عبثاً - له قبساً من العون

لو لم تك الأهواء غالبة

ومطامع تعدو وتستبق

لم تخذلوا للعرب واضحة

غراء مثل الشمس تأنلق

تاه السلام وحار بينكم

ويكاد يقضي نحبه طفلاً

تتمشدقون به وفعلكم

يردي السلام ويورثُ القتلا

أو قدمتموها بيننا شعلاً

حتى قهرتم طاغياً حرناً

ومن العجائب: كل ما فعلا

معكم فعلتم شبهه معنا

سيظل بين جوانب الأرض

تعس الوجوه وضيعة الأمل

ما شمت طي جوانح البعض

أسطورة الذئب والحمل

عبد الرحيم عثمان صارو

ص: 34

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

اليونسكو في بيروت:

ينعقد الآن في بيروت المؤتمر العام الثالث لهيئة (اليونسكو) وقد افتتح يوم 17 نوفمبر الحالي بكلمة لرئيس الجمهورية اللبنانية موضوعها (القيم الروحية والقوة الهوجاء) وقد تتابعت الجلسات في الأيام الخمسة الماضية إلى وقت كتابة هذا، وحفلت هذه الجلسات بكلمات من المندوبين وتلاوة التقرير السنوي للهيئة الذي وضعه المدير العام، وقد أثيرت مسائل مختلفة في الاجتماعات الماضية، أهما موضوع تمثيل الهيئات اليهودية الذي أعلنت لبنان رفضه وأيده سائر البلاد العربية، ولكن مندوبين غربيين قالوا إن المؤتمر الثقافي هيئة إنسانية لا طائفية ولا عنصرية ودعوا إلى التسامح بقبول ممثلي الدولة المزيفة في المؤتمر، فرد بعض المندوبين العرب بأن البلاد العربية ترفض لا لسبب عنصري أو طائفي بل لمعارضتها السياسية في قيام دولة يهودية. وبعد نقش حاد قرر المؤتمر أن تمثل الهيئات الدولية غير الحكومية بمراقبين لا حق لهم في الاقتراع. وقال مذياع بيروت إن الأستاذ يوسوف خاطر مندوب لبنان قام بعمل بارع إذ اقترح أن يقصر تطبيق ذلك على الهيئات التي أرسل إليها فعلاً وأجابت بالموافقة، فأيد المؤتمر هذا الاقتراح وعلى هذا ينطبق ذلك القرار على 36 هيئة ليس بينها هيئة صهيونية. . .

ومن المسائل التي أثيرت مسألة تعليم الشبان الفلسطينيين اللاجئين إذا أقترح مندوب استراليا أن تقوم اليونسكو والدول الأعضاء فيها ببذل المعونة في ذلك، وقد شكره شفيق غربال بك مندوب مصر، ثم أعلن الرئيس الموافقة على الاقتراح فأحيل إلى لجنة التعمير الفرعية لدراسته.

ويعمل مذياع بيروت في المكان المخصص له بمدينة اليونسكو، فيذيع أهم ما يدور في الجلسات، كما يسدل كلمات المندوبين ويذيعها، وقد سمعت منه كلمة شفيق بك غربال ومما تضمنته الإشارة إلى بعض المسائل التي يتم الاتفاق عليها خارج اليونسكو وهي أولى ببحثها وتنظيمها كمسألة موجات الإذاعة التي وزعت بطريقة غير عادلة.

وقال مذياع بيروت في التعقيب على اجتماعات اليونسكو: أن هذا المؤتمر العالمي يجتمع

ص: 35

بلبنان في جو سمح حر بعيد عما يلابس المؤتمرات العالمية من محاولة البلاد التي تجتمع بها التأثير في مجرى أعمالها لتوافق هواها.

وقد لوحظ في تأليف وفد مصر إلى المؤتمر أنه يشمل إلى جانب الأعضاء الرسميين بعض الخبراء غير الرسميين كالدكتور بشر فارس وقد دعت حكومة لبنان الدكتور طه حسين بك إلى حضور المؤتمر بصفة شخصية، على أن يكون ضيفاً لديها، فلبى الدعوة ويسافر من القاهرة إلى بيروت في 25 نوفمبر، ويلقى هناك محاضرة عن الحضارة العربية وما أسدت الحضارة الغربية.

تعقيب:

يخيل إلى من يستمع أو يقرأ ما يجري في اجتماعات اليونسكو أن البحر قد أصبح (طحينة) كما نقول في أمثالنا العامية، فنشر الفكر وحرية الأنباء وإنماء الثقافات وتعاونها على إقرار السلام يتحدث عنها أولئك المفكرون الأفذاذ من مندوبي العالم وهم مستغرقون في الخيال. . . والمسألة كيف ينتقل ذلك كله من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة أو كيف يمكن نقل هذه الأشياء إلى مجال العمل والتنفيذ، ثم كيف يوجهون التيارات الثقافية إلى صالح السلام ونصف القوة العالمية غير ممثل في اليونسكو، وهو روسيا؟ وسينفض هذا المؤتمر الثالث، ونرجو عند اجتماع المؤتمر الرابع أن يكون العالم بخير. . .

صديقنا الزين يتراءى لنا:

كتبت في عدد مضى من الرسالة منذ قليل، كلمة في ذكرى الصديق الكريم، والفقيد العظيم الشاعر الراوية أحمد الزين؛ وما أحب إلى أن أعود الآن إلى الحديث عنه في التعبير عن خاطرة تتعلق به، وهو جدير بأن تؤلف في أدبه وشخصيته المؤلفات، فلا أقل من كلمات.

قلت أن اللقاء لم ينقطع بين الصديق الفقيد وبيني على رغم وفاته، ألقاه في كل مكان صاحبته فيه وعند كل ما يذكرني به. إلى آخر ما عبرت به عن هذا الإحساس. ثم كتب بعد ذلك في مجلة (الثقافة) الأستاذ عبد الفتاح البارودي كلمة طيبة في ذكرى الزين، فلم يكن من الغريب، وهو من أصدقاء الشاعر الفقيد، أن نتفق في الإحساس نحو صديقنا الراحل، قال: أن (طيفه الرقيق الوديع قلما يبرح مخيلتي إلا ليعود إليها) ثم بنى مقالة على

ص: 36

رؤيا رآه فيها.

ومنذ بضعة شهور رأى الأستاذ محمود لطفي أمين مكتبة المجمع اللغوي، وهو أيضاً من أصدقاء الزين - رأى فيما يرى النائم أنه يقف أسفل سلم، والزين على إحدى درجات هذا السلم، وبينهما ست درجات. وقال العالم بتأويل الأحلام: إنك لا تزال في الدنيا، وقد صعد الزين منها، وتلحق به بعد ستة أيام أو ستة أشهر أو ستة أعوام. . . فانزعج صديقنا لطفي وأخذ في الحساب. . . الستة أيام مضت، والسنة الشهور يبقى منها نصف شهر. . . وأعد عدته وجد في تحسين خاتمته، ولكن الله سلم؛ فهل كسب الصديق في عمره ستة أعوام. . .؟

وليس بعجيب أن يتراءى لنا صديقنا الخالد، في المنام وفي غفوات اليقظة، فقد كان صافي النفس، خالص الوجدان والفكر مما يصطنعه الناس من الرياء والنفاق، لا يعلق قلبه بما تعلق به أحابيل المرائين والمنافقين من غايات. وكان روحه ينسرب في نفوس أصدقائه خلال حديثه إليهم لصدقه وصراحته ونظراته إلى الأمور نظرة إنسانية عالية.

وكان يبدي رأيه في الأشخاص صريحاً، وكان يرغب عن مصانعة من يتنازل بعض الناس عن حريته في مصانعتهم، ضناً بأدبه أو كرامته أن يكون لهما ثمن من حطام أو سراب. . . مما جر عليه حقد أولئك الناس وجحودهم قدره، وكان حرياً بكل تقدير وإعزاز.

ذلك هو الإنسان الذي يتراءى لنا طيفه، لأنه خالد في نفوسنا وما أسعدنا به حياً وميتاً.

الشعب ينفق على تلهية الأغنياء:

جاء في مقال للدكتور طه حسين بك في (الأهرام) قوله: (فكان من الديمقراطية مثلا، في أواسط القرن الخامس قبل المسيح، أن يفرض على الأغنياء تلهية الشعب بتنظيم حفلات التمثيل على اختلافها، فكان الأغنياء وحدهم هم الذين ينفقون على إعداد القصة التمثيلية وإخراجها، يأجرون الشاعر الذي ينشئها، ويأجرون الممثلين الذي يعرضونها، ويأجرون الذين يشرفون على هذا الإخراج، ويؤدون كل ما يحتاج إليه الموسم التمثيلي من نفقات).

كان ذلك في أوربا منذ خمسة وعشرين قرناً، أما الآن فالأمر عندنا في مصر على عكس ذلك، أي أن الشعب هو الذي ينفق على تلهية الأغنياء. . .

الحكومة تمنح الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى نحو خمسة عشر ألف جنيه في العام،

ص: 37

وتنفق على استقدام فرق التمثيل الأجنبية مالا يقل عن ذلك المبلغ، ولا أعرف بالضبط ما تنفقه على دار الأوبرا الملكية، ولكنا نعلم أنها دار فخمة لها مدير ووكيل وفيها موظفون فنيون وإداريون وسعاة وفراشون وما إلى ذلك، عدا مرافقها المختلفة وما يتطلبه إعداد الروايات من أثاث وثياب ورسم مناظر وغير ذلك، فلا بد أن لها (ميزانية) كبيرة. وهناك أيضاً لجنة ترقية التمثيل، وجوائز مالية تمنح في مباريات التأليف للمسرح.

وكل ذلك يصرف من خزانة الدولة التي تتكون من الضرائب التي يدفعها الشعب على اختلاف طبقاته، ويقصد منه إحياء فن التمثيل وتحقيق المتعة والفائدة، ولكن من يستمع ويستفيد؟ الأغنياء طبعاً لأنهم هم القادرون على (دفع ثمن التذاكر) أما الفقراء ومن يليهم من المتوسطين فحسبهم النظر إلى الإعلانات وصور الممثلين والممثلات في الصحف وعلى الجدران، لقاء ما ساهموا به من الإنفاق على التمثيل باعتبارهم (دافعي ضرائب).

أليس معنى ذلك أن الأغنياء يشاهدون التمثيل على نفقة الفقراء؟ ولعل ذلك بعض الجواب عن تساؤل الدكتور طه: أين نحن الآن من معنى الديمقراطية.

كثرة التأليف من علامات الساعة:

هكذا يقول أثر من الآثار المصرية القديمة يرجع عهده إلى 4000 سنة قبل الميلاد، إذ وجد منقوشاً على حجر من هذه الآثار أن (من علامات الساعة أننا صرنا إلى زمن لا يتورع فيه كل من هب ودب عن التطلع إلى التأليف والتصنيف).

وإذا كان الكاتب القديم في ذلك الزمن السحيق يقول ذلك فماذا نقول نحن الآن وقد صار كل إنسان يستطيع أن يكون مؤلفاً ما دام يملك نفقات الطبع ويستطيع أن يؤلف أي كلام. . حتى انصرف الناس عن قراءة الكتب، وأصبح الكتاب في أزمة شديدة بفضل (المؤلفين) الذين كان يمكن أن ينتفع بهم في إنتاج سلع أخرى؟

فإن كان قدماؤنا قد هالهم ما رأوا من إقبال غير الأكفاء على التأليف حتى عدوه من علامات الساعة، فيظهر أنا وقعنا، مما نرى من فوضى التأليف، في (الساعة) نفسها! والله المستعان.

من طرف المجالس:

ص: 38

كان الحديث عن هؤلاء (القصاصين) الذين يوالون الإنتاج بسرعة عجيبة، حتى ملؤا الصحف وأخرجوا العديد من مجموعات القصص والأقاصيص. سأل أحد الجلساء: كيف يتسنى لكاتب أن ينشئ في أسبوع واحدة عدة قصص، عاش في أجوائها وهضم فكراتها واستوت له عقدها و. . . فقطعت عليه الإجابات سبيل استرساله، قال الأول: رويدك! رويدك! أي أجواء وأية عقد؟ إنها حكايات و (حواديت) يجتذبون القراء إليها بسرد وقائع الشباب الفائر وعرض الأنوثة الصارخة!

وقال الثاني: بارك الله في قصص الغرب. فما على الواحد منهم إلا أن يجرد القصة من القبعة ثم يضع عليها الطربوش أو العمامة ومع ذلك تبدو عليها ملامح السحنة الغربية.

وقال الثالث: ولكن هناك كثيراً من هذه القصص تكتب غربية بحوادثها وأشخاصها وأماكنها وليس على القصة إلا أسم أخينا المصري، وما أحسبه يدعى تأليفها، فمن ترجمها أو اقتبسها أو لخصها؟ الواقع أن هذا النوع من. . . التأليف. . . أو من الترجمة أو مما لا أدري أسمه - قد حيرني!

وأمسك الجميع حين رأوا ذلك الأديب الكبير الذي يتصدر المجلس - متهلل الوجه تدل هيئته على أن عنده شيئاً طريفاً في الموضوع، قال:

تلقيت من فلان المجموعة القصصية التي أصدرها أخيراً، وقد أرفقها برسالة يرجو فيها (عدم المؤاخذة) لما في الكتاب من أخطاء نحوية ولغوية سببها أنه طبع في بلد بعيد فلم يستطيع مباشرة التصحيح. . . فعجبت لهذه المطبعة التي تعصي الفيروز ابادي وتخالف أوامر سيبويه! ولكن عجبي ذهب عندما رأيت قوله (لعلكم تتفضلون بتشجيع الخطوات التي يخطوها (الناشئين) وتذليل ما (يجدوا) من صعوبات).

ثم ظهرت على فم أديبنا الكبير ابتسامة ساخرة وقال: وقد هان على الخطب لأنني اطمأننت على الطباعة!

الجامعة والمعاهد العالية:

جاء في الجزء الخاص بالتعليم من خطاب العرش ما يلي:

(وتعتزم حكومتي إنشاء مجلس موحد لمعاهد التعليم العالي، يكفل القيام على شؤونها

ص: 39

المشتركة، لما تبين من صواب قيام هذه المعاهد بجانب الكليات الجامعية، لغلبة الصبغة العملية عليها، ولتمكين طائفة غير قليلة ممن أتموا التعليم الثانوي من إتمام التعليم العالي بها).

وقد نشرت الصحف أحاديث لمدير جامعة فؤاد الأول، يشكو فيها من تضخم الجامعة لكثرة من قبلتهم من الطلبة في هذا العام، وهم مع هذا ليسوا كل المتقدمين إليه من الناجحين في (التوجيهية) وقد بين سعادته ضرر زحمة الطلاب بالجامعة؛ من حيث صعوبة إشراف الأساتذة والمدرسين على العدد الكبير من الطلبة واستحالة قيام العلاقة المرجوة بين الطالب والأستاذ.

والواقع أن الإقبال أشتد على التعليم العالي في السنوات الأخيرة، وليس كل المقبلين راغبين في التعليم ذاته، فهناك كثيرون يريدون شهادات ذات (كادرات) وليس كل الراغبين في التعليم صالحين للتعليم الجامعي، فليس من وضع الأمور في مواضعها إثقال كاهل الجامعة بكل هؤلاء.

وعلى ذلك فأن الاتجاه إلى الإكثار من معاهد التعليم الفني العالي اتجاه سديد، إذ تنصرف إليها طائفة كبيرة من الطلبة إعدادهم إعداداً فنياً عملياً في مختلف الشؤون والفنون، ويتجه إلى الجامعة ذوو الاستعداد الملائم لها.

عباس خضر

ص: 40

‌البريد الدبي

إلى الأستاذ شفيق أحمد عبد القادر

جاءني أيها الأخ العزيز بضعة وعشرون رسالة من طراز رسالتك التي تكرمت مجلة الرسالة بنشرها في عدد 15 نوفمبر الحالي صفحة 1306، وقد تفضل كاتبوها كما تفضلت وأسبغوا على من ثنائهم الكريم ما أغرقني في بحر من خجل. بعضهم كتبوا إلي عن يد الرسالة وبعضهم كتبوا إلي رأساً. ولم أشأ أن أنشر رسائلهم لئلا يؤخذ على أني أطنطن بخدمة عربية هي واجبة علي كالخدمة العسكرية. ولو كنت في شرخ السباب خالياً من المسؤولية لحملت بندقيتي ومشيت وراء المثل الأعلى الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة مع المتطوعين ممن قادهم إلى ساحة القتال يوم توالت الخطب في الجامع وكانت خطبته كلمتين:(ليست خطبتي إلا أن بندقيتي وأمضي إلى الميدان فمن شاء أن يتبعني فهلم).

وقد سمعت الأستاذ أحمد حسين غير مرة يخطب فما خيرت عنه المغفور له مصطفى باشا كامل. ولكن هاتين الكلمتين اللتين خطبها في الجامع كانتا أوقع في نفوس السامعين.

ولو لم أكن قد بلغت من العمر عتياً، ولم يبق الوهن في جسدي من القوة شيئاً، لحملت بندقيتي وجريت وراء الأستاذ طائعاً مجاهداً رضياً، وإنما ترك لي الوهن قلباً سوياً، يهز قلماً عربياً يزلزل لواء صهيونياً، ويدك عرشاً إزرائيلياً.

ولكن يظهر يا عزيزي أن مهاجمة الصهيونية لم تعد نافعة بل صار من الواجب (مواخزة)(من الوخز) الجامعة العربية عسى أن تتدارك الموقف وقد صار روياً، إن الله كان بعباده المؤمنين مخلصاً وفياً.

نقولا الحداد

حول سوداء وسودا:

جاءني في (البريد الأدبي) تعقيب على كلمة كتبها الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد المفتش بالأزهر حول نصب (سود) صفة (لحلوبة) في بيت عنترة:

فيه اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم

ص: 41

السواد صفة للحلوبة المفردة - لفظاً ومعنى - لكان الصواب أن يقال (سوداء) وصفاً للمفردة وليس (سودا) وصفاً للجميع ومن ثم لا يكون (سود) - في البيت - صفة للحلوبة، وإنما هو صفة للجميع على المعنى وهو اثنتان وأربعون).

ونصحح البيت أولاً فنقول: إن صلة (فيها اثنتان وأربعون حلوبة. . .) وليس كما ذكر (فيه اثنتان. . .).

ثم نقول: إن (سودا) هذه فيها أربعة أوجه: وجه بالرفع وثلاثة بالنصب، وأحد هذه الثلاثة أن تكون (سودا) صفة لحلوبة، وليس يلزم أن نقول (سودا) لتكون وصفاً لحلوبة المفردة، لأن (سودا) بالجمع تصح أن تكون وصفاً لحلوبة حملاً على المعنى.

وليس هذا المعنى هو (اثنتان وأربعون) كما قال الأستاذ المعقب، وغنما المعنى هو أن (حلوبة) بمعنى (حلائب) فصح وصفها بالجمع وهو (سود).

(الإسكندرية)

حسن صادق حميدان

1 -

اللباب في الأنساب لابن الأثير:

يشترك كثير من العلماء: من أدباء ومؤرخين وفقهاء ومفسرين ومحدثين، وغيرهم، في نسبة واحدة، كالنسبة إلى بلد أو جد أو صناعة أو قبيلة أو غير ذلك. فإذا ذكر أحدهم بنسبته في مرجع من المراجع ربما التبس بغيره ممن يشاركه في هذه النسبة لذلك ألف بعض العلماء كتباً باسم (الأنساب) جعلوها كمعاجم لذلك، يضبطون النسبة ثم يسردون أسماء من أشهر بها، مع المهم من ترجمته، ولا سيما مولده ووفاته، ويذكرون سبب شهرته بهذه النسبة، إلى غير ذلك.

ومن أعظم هذه المعاجم كتاب الأنساب للسمعاني، لكنه توفي قبل تهذيب الكتاب فجاء فيه أغلاط كثيرة في الضبط، وأهمل كثيراً من الأنساب، ونسب العلماء إلى بلد أو جد، وهم في الحقيقة ينتسبون إلى غيرها، إلى أوهام في تعيين مواضع بعض البلاد، وغير ذلك.

فغدا الكتاب في حاجة إلى عالم بارع نقاد يستدرك ما فات السمعاني من الأنساب ليكون المعجم كاملاً، ويصحح أوهامه، فقام بذلك شيخ المؤرخين عز الدين بن الأثير، الذي أشتهر

ص: 42

عنه أنه أملى كتابه (أسد الغابة في الصحابة) من حفظه، بلا مراجعة كتاب، ولم يستطع من بعده من المؤلفين في هذا الباب من كبار الحفاظ أن يستدركوا عليه إلا أشياء يسيرة.

أنني أذكر جميع تراجم كتابه لا أخل منها بترجمة واحدة، إلا أحوال الشخص التي لا حاجة إلى ذكرها ولا تزيد النسب وضوحاً، وأن كثيراً منه لم آخذ منه سوى ما ذكرت لأنه لم يحتمل الاختصار؛ وإذا عثرت على وهم في كتابه بينته وأظهرت الحق فيه، لا قصداً للتتبع العثرات ولا إظهار لعيبه، وإنما فعلت ذلك إرادة لإظهار الحق، وأن أنزه نفسي عن أن يقال رأي الخطأ فلم يعرفه. . . وتبلغ تحقيقاته واستدراكاته على السمعاني نحو ربع المعجم.

وقد نشرت (مكتبة القدسي) جزأين من هذا المعجم في 870 صفحة، والباقي منه نحو 300 صفحة أي ربع الكتاب جزاها الله خيراً.

2 -

مد أنابيب البترول السعودي (عبر سورية):

يقع مثل هذا التعبير في الصحف بين الحين والحين؛ وقد اختلف أهل اللغة المعاصرون في صحة هذا الاستعمال، ولكني وقفت على شاهد له في (تأريخ الإسلام وطبقات الأعلام للذهبي ج1 ص123 المطبوع حديثاً بالقاهرة) وهو قول سواد ابن قارب:

فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت

بي الذعلب الوجناء (عبر السباسب)

الذعلب: الناقة السريعة، السباسب جمع سبب وهي المفازة.

3 -

من سمى عمراً من الشعراء:

قال الأستاذ التنوخي في الجزء 9 من المجلد 15 من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: لمحمد بن داود بن الجراح مصنفات ممتعة جمة، منها كتاب الشعر والشعراء، وكتاب من سمى عمراً من الشعراء في الجاهلية والإسلام، وكتاب الوزراء، ولم نعثر على غير كتاب الورقة. (ويترجم فيه لكل شاعر في نحو ورقة واحدة).

مع أن في دار الكتب المصرية كتابه (من سمى عمراً من الشعراء) وقد جرد جل أو كل ما فيه الإمام المرزباني في كتابه (معجم الشعراء) المطبوع بمصر.

محمد أسامة

ص: 43

الأسبتاريه لا الأستباديه:

في كلمتي عن الهدنة في الإسلام بالبريد الأدبي في العدد الماضي وقد تصحيح في كلمة الاسبتاريه فأضحت الاستباديه.

والأسبتاريه هي طائفة من الفرسان أسسها جيرارد سنة 1113م. وقد آلت إلى جيرارد هذا إدارة مستشفى بالقدس، لعلاج الفقراء والمرضى من الحجاج اللاتين. ومن هنا أطلق عليهم الـ ونقل المؤرخون العرب ومنهم القلقشندي هذه الكلمة مع بعض التحريف البسيط فأضحت الأسبتاريه.

ولما توفي جيرارد سنة 1118م، آلت إدارة المستشفى إلى ريموند الذي نقل عن فرسان المعبد الكثير من نظامهم العسكري وأدخلهم على الأستباريه. هذا وقد لعبت هذه الطائفة من الفرسان دوراً كبيراً في الحروب التي أثارها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي في الأراضي المقدسة.

شفيق أحمد عبد القادر

كلية الآداب - قسم التاريخ جامعة فؤاد الأول

ص: 44

‌القصص

الجد

للأستاذ عبد المغنى علي حسين

من كان يرتاد أحد المتنزهات الكبيرة بالقاهرة كان يرى في ضحى أيام الصيف يتكرر يوماً بعد يوم وفي رتابة ودقة موعد، ويسترعي نظر من تستهويه نواحي الجلال والجمال والعاطفة.

كان يرى (سامي بك) ذلك الضابط القديم الذي يحتفظ في السبعين بقامته وسمته في الأربعين يعلوهما تاج من شيبة جليلة، شيخ طويل مهيب، وليس في بنيانه وقسمات وجهه غير التناسب الجميل، يقبل كل يوم في موعد لا يتغير، بمشيته التي وهنت قليلاً لكن لم يزايلها ثباتها وانتظامها العسكري، وعصاه الخفيفة بيمينه لا يتوكأ عليها بل لا يلمس بها الأرض إلا لماماً، ترافقه على الدوام حفيدة له، صبية في نحو العاشرة، فيقصدان تواً إلى مقصف المتنزه ويجلسان إلى نضد بركن منه، ويأخذ الشيخ يطالع صحيفته والصبية تتسلى بتقليب صفحات إحدى المجلات ومشاهدة المتنزهين والمتنزهات، واللاعبين على العشب الأخضر واللاعبات.

ولم يكن يماثل إعجاب الناظر بروعة منظر الشيخ وحسن سمته سوى إعجابه وعجبه من الصبية الصغيرة أيضاً. كانت ذات ملاحة وظرف وحسن، لكن محاسنها لا تبدو إلا لمن يرقبها عن كثب لانطوائها وراء هدوء وصمت ورزانة تكتر سن الصبية بكثير، وتكاد تضارع فيها جئها الكبير. . كانت تمشي بجانب جدها في خطو متزن وقامة معتدلة، ثوبها طويل محتشم وحقيبتها اللطيفة تتدلى من كتفها، ووجهها الصغير المستدير صامت جاد، ونظرتها إلى الأمام. . فإذا جلسا لم تكن تهز رجلاً أو تتلفت أو تبادئ جدها بحديث. فإذا طوى الجد الصحيفة نظر إلى حفيدته في فرط حنان وإشفاق، وقال لها شيئاً، لعله يسائلها إن كان ثمة ما ترديد، أو يريدها أن تطرح بعض احتشامها وتنزل إلى العشب لاهية مثل لداها، فتجيبه بهزة نفي من رأسها الصغير وابتسامة شكر على ثغرها الرقيق.

هذا ما كان يطالع منهما عين الناظر العابر، لكن عين الناظر لا تستطيع أن تقرأ ما وراء الصور العابرة من قصص الحياة. . إن سامي بك تزوج في صباه من سيدة ذات محتد

ص: 45

وعاشا عمرهما لم ينجبا غير ابن وحيد. وتزوج الابن فأنجب ابنة هي هذه الحفيدة، وقسا القدر فمات الابن، ثم لحقت به زوجته بعد قليل، وخلفا الطفلة الصغيرة لا راعي لها إلا جداها الكبيران ثم قسا القدر على الشيخ قسوة أخرى كبرى فماتت زوجته، وخلفته في شيخوخته يرعى نفسه ويرعى الحفيدة الصغيرة وحده، ينظر إلى شجرة الأسرة التي أنشأها فلا يرى باقياً منها إلا هو وفي طرف الحياة من عند نهايتها وهذه الصغيرة في الطرف الآخر عند المبدأ.

أن فرط حنان الجدود على الصغار من أحفادهم وحبهم لهم أمر معروف، أما الحنان والحب من شيخ كبير وحيد لحفيدة صغيرة وحيدة يتيمة الأبوين لا راعي لها إلا هو فهما لا شك يبلغان الغاية أو يتجاوزانها. أن حنان سامي بك وحبه لحفيدته (عزيزة) مما تعجز الكلمات عن تصويره.

إنه ينظر إلى الرصيد القليل المتبقي له من أيام الحياة. ترى هل يمتد به حتى يرى (عزيزة) زوجة سعيدة؟ لقد كان في صباه لا يرهب الموت، وعلى الأهبة في كل لحظة لبيع حياته بيعاً سمحاً عندما يقتضيها الواجب. كان ذلك والحياة قيمة، والشباب قشيب، وبساط الأمل زاه فسيح، وأفق المستقبل متألق بسام. واليوم وقد انقضت الحياة إلا نفاية من وهن وأوصاب، وبساطها قد انطوى إلا طرف يرتعش للانطواء، والأفق نحبو أضواؤه مؤذنة بانسدال الستار، يجد الشيخ نفسه أشد ما يكون حباً للحياة وحرصاً عليها. . من أجل (عزيزة).

وكانت له في الحياة أماني أشتات، تزدحم بنفسه في بعض الأوقات بالمئات، تحقق منها ما تحقق وأخفق منها ما أخفق، واليوم لا يعرف غير أمنية وحيدة، هي أن يعيش ليرى عزيزة ولجت باب الحياة، وثبتت على أرضها قدميها، ولم تعد بحاجة لقبضته الواهنة تأخذ بيدها، ويستطيع أن يستودعها ركناً آمناً هانئاً، ويستقبل المصير الحتم لكل حي بقلب رخي وبال خلي.

لكن هب أن الأجل أمتد به وتحققت الأمنية، وذهبت عنه عزيزة في زيجة سعيدة فكيف تكون حياته بعد ذهابها؟ إنه حقاً إنما يعيش من أجلها، لكنه في الوقت نفسه لا يعيش إلا بها. كانت في حياته أنجم وأقمار وشموس فأفلت كلها إلا كوكب واحد هو هذه الصغيرة،

ص: 46

فإذا زخرحت هي الأخرى من سماء حياته ففي أي ديجور بعدها سيعيش؟ ليس في الوجود أرق نغماً من صوتها، ولا أعذب لفظاً ونطقاً وأظرف معنى من حديثها، والحوار معها في دروسها المدرسية متعة عقله وروحه وعود جديد إلى عهد الصبا الجميل، والنزهة معها سبح مع ملاك في فراديس، ووجودها في البيت يجعل فقره الموحش روضة من جنات النعيم. . أي بيت يكون هذا بغير وجودها، حيث لا رفقة تبقى لذلك الشيخ غير الخدم والشيخوخة والأوصاب؟ رفقة أشباح ودميمة في قاعات مظلمة بدار عذاب!

لكن هل شيء من هذا يهم. وهل لشيء مما يتعلق بذاته الغاربة تلقاء ما يتعلق بذات (عزيزة) أي وزن، وكيف لعاطفة من الحنان والحب والواجب؟ أن محيط نفسه الزاخر تلغط جميع أمواجه هاتفة بتلك المنية وصوت الأنانية ضئيل هزيل في موضع سحيق بقاع المحيط لا يصل إلى أذنه ولا يستبين.

ومضت سنون، وأنهت عزيزة دراستها، واستوى قدمها، واكتملت أنوثتها، تلك الهمسة الحقية التي تسرها الطبيعة في نواة جسم الأنثى فإذا حان الحين نبت السر متلوياً في قاعة هيفاء لدنة كغصن البان، وحقاق على الصدر مرمرية في استدارة الرمان، والمفاتن الأخرى التي لا يتغنى فيها بيان عن عيان. . لكن الأنوثة وأن كانت واحدة إلا أنها تختلف كاختلاف لون الورود وعطرها. لقد نمت عزيزة إلى فتاة ممشوقة نحيلة القوام، صامتة جادة حيية، في بياض بشرتها شفافية لطيفة عاجية، وجهها حلو القسمات صغير مستدير، وعيناها جوهرتان أصفى من الندى أشربتا بلون عنبري عميق.

ولم يكن العريس الحبيب عليها بعزيز ولا منها ببعيد. . . إنه شاب وسيم يكبرها ببضع سنين، يشغل وظيفة طيبة في مؤسسة مصرية كبيرة، يمت إلى عزيزة بقربى من ناحية الجدة، ويمت إليها بما هو أقري، تماثل في العقلية والطبع الهادئ الجاد الرزين، وأسمه (فريد).

لقد تقدم لخطبتها غيره كثيرون، لكن ما منهم أرتاح إليه البك الارتياح كله لأسباب أرتآها، أو هفت إليه عزيزة بكامل قلبها لأسباب لا تعرفها، إلا فريد فقد حل من نفسيهما معاً في المكين.

وتمت خطبة عزيزة لفريد، وراح يعد العدة لاستكمال نصفه الذي صحا ذات يوم على

ص: 47

افتقاده. كم هي حافلة تلك الأيام يخطو فيها الشاب خطواته ليصبح رباً بعد أن كان فرداً، ويأخذ إلى فلكه كوكباً ليدورا معاً وكان يدور حول نفسه فقط. . . وكان لفريد داره (فيلا) صغيرة راح يعدل فيها ويهيئ كي تصبح العش الجميل له وللألف الحبيب

وأخذت عزيزة تتهيأ لتقلد وظيفتها وأداء رسالتها، رسالة الحب وما يؤدي إليه من صنع خيوط جديدة في نسيج البشرية.

وجاء فريد ذات يوم ليتفق مع البك والعروس على يوم الزفاف وحدده، وانصرف الشاب، وشبعه البك وهو يشد يده في تهنئته دافئة ودعابة لطيفة.

والتفت البك إلى حفيدته العزيزة ليهنئ ويداعب، فلم يرعه منها إلا نظرة إليه بعينيها الفاتنتين تترقرق فيها دمعتان كقطرتي ندى على نرجسيتين.

قال الشيخ مندهشاً: ما بك يا ابنتي؟!. هل تبكين؟!

قالت: يا جدي لا أدري كيف أبعد عنك وأتركك تعيش وحدك!

فأحس الشيخ برجفة نفسانية، وكاد أول وهلة أن يشاطر الفتاة الجزع لكن لم يلبث أن تجلد وربت كتف عزيزته وهو يقول: يا أبنتي لن تكوني بعيدة. أما عن عيشي وحدي فلا تنسي أني جندي، والاخشيشان والاستكفاء الذاتي بعض ما عرفته وألفته، ومهما تقدمت بس السن فلن أضيق بشيء من ذلك ولعلي أتوق إليه.

هذا ما قاله لها. أما ما دار بخاطره فهو: ترى ماذا يمنع من أن تعيش وحيدتي العزيزة هذه معي هنا هي وفتاها بعد زواجهما حتى أموت؟!. لم لا أخاطب فريداً في هذا فقد يرضى به؟. . لكن لا. لقد كنت يوماً شاباً خاطباً مثله، ولم يكن يخطر ببالي إذ ذلك، ولي بيت أن أعيش بزوجتي مع أهلها في بيتهم، ولو طلب إلى ذلك ما كنت أفعله إلا كارهاً. . كلا، ليس أحب إلى عروسين صغيرين من عش خالص لهما، يمرحان فيه على هواهما، ويضحكان بطلاقة، ويتحابان بلا تحرج، ويختلفان إذ لزم الأمر بغير كبت. حرام علي أن أنشد هناتي على حساب شيء من هنائهما. كلا، لن أثقل عليهما بظلي في شيخوختي مثقال ذرة.

وجاءته عزيزة في يوم آخر متهللة الوجه، تجر وراءها فريداً من كمه، قالت: يا جدي، لقد أقنعت فريداً بأن يترك فلته ونعيش معك هنا في بيتنا. . . ورضى.

- أقنعته؟!. . ورضى؟!

ص: 48

قال الشاب: إني على استعداد يا سيدي ألبك لأن أفعل أي شيء يكون فيه راحتك وهناء عزيزة.

فأطرق الشيخ برهة، ثم قال. يا بني أن فلتك جميلة جداً، وأنا أتطلع إلى اليوم الذي أزوركما فيه هناك وأجلس في شرفاتها اللطيفة وأستمتع بما يحيط بها من مناظر بديعة. إني شيخ كبير وأصبحت أسأم المكان الواحد وأحب تغيير المناظر.

فأطرق الشاب مرتبكاً ولم يدر ماذا يقول. وحدقت الفتاة أمامها وقد أسقطت في يدها هي الأخرى. وزفت عزيزة لفريد، وسافرا لقضاء شهر العسل في مصيف لطيف.

فلما حل يوم عودتهما كان الشيخ الكبير في انتظارهما بالمحطة، ولو قبع في داره مستريحاً لخفا إليه حال عودتهما، لكنه لم يستطع صبراً، ولم يكن يدري هل غابت عنه عزيزة شهر أم دهراً. وبعد أن ضمها وقبلها في الجبين عرف من أحاديثها الفرحة أن السعادة التي كان يحلم بها لها صارت حقيقة. وتركهما يذهبان وعاد إلى داره قرير العين.

وفي الغد زاره في داره: بعد الغد أخذ سمته إلى فلتها لزيارتهما، فراحا يحتفيان به ويجلسان في كل غرفة وكل شرفة ليمتعاه بالفيلا الجميلة والمناظر البديعة كما كان يقول: وكان وجهه يتهلل بشراً وسعادة، وقل صمته وجده، وكثرت دعاباته اللطيفة وملحه الطريفة. وغادرهما في المساء وعاد إلى داره.

وداعب خادمه النوبي لأول مرة في حياته حتى أبتسم الخادم من نواجذه البيض أمام سيده لأول مرة أيضاً. . وتناول عشاء خفيفاً، بعض الفاكهة وفنجاناً من القهوة، ثم أوى إلى فراشه.

وأستيقظ بعد انتصاف الليل على ضيق في التنفس وحزة في القلب واسطة الجسم وصميم الحياة. فتح عينيه وتقلب كيما يخفف الألم وتسترجع الأنفاس، لكن الألم لم يخف والضيق أزداد. فمد يده وأضاء النور، ثم تحامل حتى جلس متكئاً، فلم يغنه ذلك شيئاً. فمد يده ودق الجرس مستدعياً خادمه، وكان الخادم قد أحس يقظة سيده في تلك الساعة من الليل على غير عادة، فخف إليه فرآه ممسكاً بصدره مكروباً.

- ما لك يا سيدي؟!. . سلامتك يا سيدي!. . هل أستدعي الدكتور؟

- لا. . أعمل لي شيئاً من شراب ساخن. . فنجاناً من الينسون.

ص: 49

وعندما عاد الخادم بفنجان الينسون ألقاه على نضد وقد كاد أن يسقط من يده.

- سلامتك يا سيدي!. هل أستدعي سيدتي عزيزة هانم؟

- لا تزعجها. . بلغها. . سلامي.

وتشهد. . وانتهى.

عبد المغني علي حسين

ص: 50

‌الكتب

معنى النكبة

تأليف الدكتور قسطنطين زريق

(معنى النكبة) هو كتاب جديد للدكتور قسطنطين زريق وكتاب الدكتور هذا يذكرنا بكتاب سابق له هو وإنما ينزعان إلى رأي واحد كتاب (الوعي القومي). وليس الكتابان في موضوع واحد وفكرة واحدة، هي الفكرة القومية، التي يرى فيها الدكتور من دون غيرها فكرة الخلاص للشعوب العربية في جميع أقطارها ومع أن كتاب (معنى النكبة) يقوم على الفكرة القومية إلا أنه كتب عن الوضع الحضر في فلسطين. وعنوان الكتاب يدل على أن الدكتور يعتقد (ونحن نوافقه) أن ما وقع في فلسطين كان نكبة بكل ما في الكلمة من معنى. بل هو يقول: إنها جاءت (محنة من أشد ما أبتلي به العرب في تأريخهم الطويل على ما فيه من محن ومآس).

ويتناول الدكتور في كتابه هذا الصغير، الذي ينشره في وقت ملائم، مواضع تدل عناوينها بعض الدلالة على ما فيها؛ فهو يبدأ بالحديث عن (فداحة النكبة) ثم يتحدث في فصل آخر عن (معنى النكبة) في هذا الباب وعن (الحل الأساسي) و (المعالجة القريبة) لدرع هذه النكبة التي حلت بالعرب.

وكان المؤلف قد كتب قبل أن ينشر هذا الكتاب فصلين أذاعهما قبل ظهور الكتاب: أحدهما عن (الصراع بين المبدأ والقوة في قضية فلسطين) والآخر عنوانه (لماذا نجاهد في فلسطين).

وأنت تقرأ الكتاب كله فتشعر بميزتين أو ثلاث له، تبرز بروزاً واضحاً لا غموض فيه: فأما واحدة من هذه الميزات فهي أن الكتاب يعبر تعبيراً تاماً عما يجول في خاطر الناس بعدما وقع في فلسطين. فالناس بعد هذا الذي وقع تبلبلت أفكارهم وتحيروا ماذا يقولون. وقد عبر المؤلف تعبيراً صادقاً وآلم به إلماماً موفقاً. وميزة أخرى للكتاب هي أنه ينظم البحث تنظيماً يدل على فكر منظم وعقل مدبر. وقد عرف هذا عن الدكتور زريق في تأليفه، ويظل ما عرف عنه صحيحاً في هذا الكتاب الصغير. وميزة ثالثة للكتاب نوردها لأننا نتحدث عنه لا لأنها كبيرة الأهمية وعي الوضوح في التعبير، والجمال الطبيعي في

ص: 51

الأسلوب والجدة في الأداء؛ صفات تستهويك حين تطالع فصول الكتاب فتكسبه عند عامة القراء قوة على إبلاغ الرأي الذي يراه المؤلف إلى ذهن القارئ في يسر وإمتاع.

وعندما يتحدث الدكتور زريق عن (معنى النكبة) التي حلت بالعرب في قضية فلسطين، يقول شيئاً يجد القارئ العادي صعوبة في إدراكه، ولكنه صحيح وإن كان مطبوعاً بالطابع النظري المحض. فالدكتور يقول: أن النكبة تقاس بمقدار تأثيرها في نفسية الشعب العربي. فإن هي أرهقت هذه النفسية وشلت قدرتها على الصمود في وجه التعسف والإغراء، وإن هي مكنت لقوى الرجعية العربية من السيطرة انهزمت أمام هذه القوى، وإن هي لم تثر مواطن الضعف ولم تحتفظ بعناصر القوة فقد وقعت كنكبة، وإن كان الأمر على العكس من ذلك فلم يرهق النفس العربية ولم تشل قدرتها على الصمود في وجه الظلم ولم تهن أمام قوى الرجعية والإغراء، عادت وكأنها ليست نكبة وإنما كانت مناسبة لتنقية جوهر الأمة العربية وبلورة كيانها. وهذا مله صحيح وإن لم أشعر أن المؤلف الكريم وفق كل مرة إلى وصف الطريقة التي تمكننا من أن نصمد لما حل بنا، وأن تخرج منه بعبرة للمستقبل بحيث يخرج كما قال (من العسر يسر ومن النكبة بذور ظفر) وسأبين ذلك عن قريب، لأنني أحب في هذه اللحظة أن أتحدث عن أهم ما تناوله الكتاب، وأهم ما جاء به في نظري هو الحل الذي يراه للنكبة التي وقعت بفلسطين، وهو يقسم الحل إلى قسمين: أحدهما (المعالجة القريبة) والآخر (الحل الأساسي) وكلا الموضوعين هام تطالعه في شغف وسرعة وهو يرى أن المعالجة القريبة تقوم على أركان خمسة: هي تقوية الإحساس بالخطر، وتجنيد قوى الأمة الحربية بكاملها وتحقيق أكبر قسط من التوحيد الممكن بين الدول العربية في ميادين الحرب والسياسة والاقتصاد وسواها. والركن الرابع هو إشراك القوى الشعبية في النضال، أي لا يقتصر الجهاد على الحكومات والجيوش النظامية، والركن الخامس في الجهاد العربي لحفظ فلسطين هو استعداد العربي للمساومة، وللتضحية ببعض المصالح لدرء الخطر الأكبر.

هذه هي الأركان الخمسة عند الدكتور زريق للمعالجة القريبة لقضية فلسطين، وهو يشرح كل واحد من هذه الأركان شرحاً وافياً لا مجال للخوض فيه ههنا، وأنا أثق على كل حال أن القارئ الكريم سيعرف شيئاً من المقصود بهذه الأركان من مجرد ذكر عناوينها، وذلك

ص: 52

لثقافة الناس العامة الآن بقضية فلسطين وبقضايا بلادهم. ولا أتعرض لأي واحد من هذه الأركان اللهم إلا لركن المساومة السياسية هذه، التي يتحدث عنها الدكتور، على أساس موجب أشد الوجوب للنقد، وسأوضح لك ذلك عما قريب.

أما المعالجة البعيدة لقضية فلسطين، أو الحل الأساسي فيتطلب عند المؤلف (حرباً مديدة الأفق بعيدة الأجل) وتبدلاً (أساسياً في الوضع العربي، وانقلاباً تاماً في أساليب تفكيرنا وعملنا وحياتنا بكاملها) أنه يتطلب (كياناً عربياً قومياً متحداً تقدمياً)(وإنشاء هذا الكيان هو الركن الأول للجهاد العربي البعيد) ثم يمضي الأستاذ فيشرح كل واحدة من هذه الصفات التي يجب أن يتصف بها الكيان العربي. وهو يلاحظ أثناء هذا الشرح أن أساليب تفكيرنا ما تزال عتيقة وأننا لا نساير الزمن فنأخذ مما في الحضارات الإنسانية من قيم عقلية وروحية.

ولو أردنا تقريب الحل لقضية فلسطين من أذهان القارئ الكريم لقلنا إن الدكتور زريق يضع أركاناً خمسة لكل من الحلين القريب والبعيد لقضية فلسطين. ومجموع ما يريد من كلا الحلين يتلخص في خلق أمة عربية على طراز الأمم الغربية. ويشمل ذلك القوة العسكرية والقوة العلمية والخلقية والاقتصادية وبعض هذه القوى يحتاج إنشاؤه إلى زمن طويل. والذي أراه أن أعجل ما يمكن أن يأتي بنتيجة من آراء الدكتور هو ما أسماه (المساومة) فالواقع أن هذا سلاح ماض جداً في أيدي العرب إذا سددوه إلى ناحية أصاب الهدف وأصمى.

فالعرب يشبهون في حالهم السياسي الحاضر وضع اليهود بين حزبي الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا أو وضع حزب الأحرار بين حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا - فإذا مالوا بثقلهم مهما هان شأنه على ناحية من ناحيتي الكتلتين العالميتين اليوم، رجحت كفته بثقلهم وأنتصر على خصمه. وهذا السلاح الماضي لا يقتضي إلا اتفاق الرأي بين العرب في جميع أقطارهم على الناحية التي يرجحونها. وهم غير مضطرين حين يرجحون كف أن يظلوا على موقفهم زمناً طويلاً. بل الواجب يقضي أن يعدلوا موقفهم بحسب الظروف تعديلاً ملائم مصلحتهم كأمة. وهذا السلاح الماضي من أسلحة المعالجة القريبة يستطيع العرب أن يفيدوا منه منذ الآن، أنه لا يحتاج إلى مثل ما تحتاج إليه

ص: 53

الأسلحة الأخرى من استعداد طويل ووقت بعيد، ففي العرب اليوم فئة من الساسة المحنكين الذين يفهمون التيارات السياسية العالمية وما يحمل في طواياها من مغازهم قادرون إذا أخلصوا أن يوجهوا شعوبهم معهم إلى الناحية التي يجدون فيها الخير لهم.

وهنا أستطيع أن أوضح لك الخطأ الكبير الذي أرتكبه الدكتور زريق حين تحدث عن أحد أركان المعالجة القريبة وهو (المساومة)، وحين شرح لقرائه معنى كلمة (تقدمي) التي وصف بها الكيان العربي الذي يريده. قال الدكتور أن الخطر الصهيوني لا يرده إلا كيان عربي قومي متحد تقدمي. وهو حين تستعمل هذه الصفة (تقدمي) يقول (أن قوميين إذا أرادوا أن يحاربوا الشيوعية حقاً فسبيلهم الوحيد أن تكون قوميتهم مجارية لقوى الزمان (ص48) فمحاربة الشيوعية عند الدكتور إذن إرادة صميمة يدل الناس على السبيل الوحيد إليها. ولكنه حين تحدث عن أركان الجهاد العربي لحفظ فلسطين تكلم عن استعداد العرب للمساومة مع الدول الأخرى على أساس تبادل المصالح والمنافع. وهذا حق في نظرنا. فإذا أراد أن يبسط معنا للقارئ قال:(لا نحالف مثلاً الدول الديمقراطية على الشيوعية ونضطهد الأحزاب اليسارية في بلادنا لوجه الله وجرياً مع الصداقة أو لمجرد التخاذل) أن الاستعداد للمساومة على الحقوق المتبادلة عنصرها من عناصر الجهاد العربي كما ذكرنا والعرب يفتقرون إلى استخدامه كل الافتقار، والعالم الآن منقسم إلى قسمين فقط: الديمقراطية والشيوعية. فإذا نفى الدكتور قابلية المساومة مع الشيوعية لأننا يجب أن نحاربها كما سبق، فلم يبقى معنا من طرف نساومه إلا الديمقراطية، فإذا أدركت الديمقراطية أن المساومة لا تكون إلا معها بكل معنى المساومة وتعنتت الديمقراطية معنا فأخذت منا دون أن نأخذ منها، وهذا هو السر الأكبر للضعف في موضوع فلسطين في الوقت الحاضر، والدكتور لا يخلصنا منه، وأني أثق أن المؤلف فعل ذلك عن نية حسنة.

وبعد فقد قال الدكتور في مقدمة كتابه (لست أدعي أني في هذه الدراسة قد (اخترعت البارود) وإنما هي محاولة لتصفية تفكيري في هذه الأزمة الخانقة). والحق أن الكتاب لا بد وأن يكون قد أحدث صفاء في التفكير عند القراء الذين طالعوه في الوقت الذي يجب أن يطالعوه فيه. والفضل في ذلك يعود إلى المؤلف الكريم.

1 -

بناء دولة - مصر محمد علي

ص: 54

(للدكتور محمد فؤاد شكري الأستاذ بجامعة فؤاد الأول

وزميليه الأستاذين عبد المقصود العناني وسيد محمد خليل)

هذا كتاب كنا ننتظر صدوره من زمن بعيد، فقد أضاف إلى مكتبة (محمد علي) كتاباً جديداً حافلاً بالدراسة المستقلة من ناحية، وبالوثائق السياسية من ناحية أخرى. أما الدراسة المستقلة فقد عالج المؤلفون في القسم الأول من الكتاب موضوع أحوال مصر الداخلية في عهد محمد علي معالجة لم تعتمد على تكرار ما هو متداول فيكتب التاريخ، مما هو معروف ومشهور، بل أضافوا نواحي جديدة لم تظهر قبل في مؤلف عربي. وقد أتاح لهم ذلك إطلاع واسع على مكتبة (محمد علي باشا) الفنية في المؤلفات الأوربية. ولم يكتف المؤلفون بسرد آراء الأجانب على سبيل التدوين، وإلا كان الكتاب سجلاً تضيع معه قيمة التحقيق العلمي، ولكنهم كانوا يناقشون الآراء في اعتزاز وصح حكم حتى بدت على وجهها الصحيح.

‌أما الوثائق السياسية فهي خير علمي يضاف إلى ما

‌في الكتاب من خير كثير، فقد عمد المؤلفون إلى

‌ترجمة بضعة من التقارير المعاصرة لعهد محمد

‌علي وهو يهم ويمضي في بناء دولة مصر من

‌الداخل، وهي وثائق يطمئننا المؤلفون إلى أنهم رأوا

‌في اختيارها ما يجعلها جديرة بالاطمئنان إليها في

‌رسم صورة دقيقة للعصر الذي تتناوله. ومهما

‌يختلف الرأي في قيمة التقارير تبعاً لما تمليه أهواء

ص: 55

‌أصحابها أو عواطفهم فأنهم مما لا شك فيه أن

‌الأجانب كانت عيونهم مفتوحة على كل حركة

‌يصدرها العاهل الكبير، وأنهم لم يدعوا ناحية من

‌النواحي البنائية الإنشائية في مصر محمد علي إلا

‌درسوها دراسة جدية؛ حتى أن أحد هؤلاء وهو السير

‌جون بورنج لم يترك في تقريره عن مصر صغيرة

‌ولا كبيرة إلا أحصاها. فتحدث عن الزراعة

‌والصناعة والضرائب والإدارة والجيش والتجارة

‌والصحة العامة والقضاء والتعليم حديثاً مدعماً

‌بالإحصاء ومؤيداً بالملاحظة الدقيقة، ولما كانت

‌البيانات الرسمية غير مسعفة له فقد كان يتصيد

‌البيانات من مصادرها الأولى؛ كما فعل في إحصاءه

‌عن معامل السكر التي كان يملكها إبراهيم باشا؛ فقد

‌طلب البيان من ناظر المعامل وترجمه ليكون ضمن

‌تقريره.

ص: 56

وكان السير بورنج موفداً من قبل حكومته لوضع تقرير شامل عن حالة مصر، فقدم إليها سند 1837، واتصل بكثير من الموظفين فيها للحصول على بياناته، واستعان كثيراً بالقنصل الإنجليزي (كامبل) الذي زوده بكثير من الإحصاءات الزراعية والصناعية.

لقد كانت تقارير بورنج وكامبل وهودجسون ومن إليهم فيه غير متناول القارئ العربي، إلا ما كان من نتف هنا وهناك يترجمه المؤرخون المصريون في معرض الحديث عن شيء معين؛ ولكن مؤلفي هذا الكتاب قربوا هذه التقارير كاملة من القارئ العربي، بل سهلوا الحصول على تقرير بورنج الذي لا توجد منه في العالم إلا نسخ قليلة جداً.

2 -

الشمس الحزينة أو حياة غاندي

(تأليف الأستاذ محمد كاظم)

وهذا كتاب لطيف في حياة غاندي، وهو أول كتاب عربي ألف في حياة المهاتما بعد مماته. ويمتاز بسلاسة في التعبير كأن المؤلف يحكي حكاية عن شمس كانت ساطعة ثم جنحت إلى الغروب. وقد كانت أم غاندي تنتظر الشمس؛ عند شروقها فإذا ما رأتها ساطعة تهلل وجها بالبشر كما خفق قلبها بالدعاء؛ وكانت السحب الكثيفة حينما تلف وجه الشمس بالحجاب تبدو هذه الشعلة السماوية في ثياب الحزن، كما تحزن أم غاندي ويحزن معها ولدها الصغير لأن السماء مظلمة.

ولهذا سمى المؤلف كتابه (الشمس الحزينة).

لقد ظهرت كتب في العربية عن حياة غاندي كان المؤلفون يلتمسون منها المثالية كاملة في إنسان رفعته الإنسانية العالية إلى مراتب (السوبرمان). وظهر بعد وفاة غاندي كتاب الأستاذ كاظم هذا، وكتيب آخر للأستاذ طه السيد ظهر منذ بضعة من الأيام. فبدأ غاندي بعد مماته أروع مما كان في حياته؛ لأن الفكرة الخالدة لا تموت.

وكانت في حياتك لي عضات

وأنت اليوم أوعظ منك حيا

وكان غاندي - كما يقول المؤلف - يصوم (ليواجه غضب الطبيعة وجهل البشرية. . .)؛ أما الطبيعة فلا سبيل إلى إرضائها متى ثارت؛ لأنها تثور فوق إرادتنا، وتجري على غير مشيئتنا، فهل إلى تعقل البشرية الحمقاء من سبيل؟

ص: 57

عبد الغني

شلي بروميثوس طليقاً

ترجمة لويس عوض

(ماجستير في الأدب الإنكليزي من جامعة لندن والمدرس

بجامعة فؤاد)

دراما غنائية رائعة في أربعة فصول كتبها الشاعر الإنجليزي المعروف بيرش شلي ونقلها إلى العربية الأستاذ عوض، وقد قدم الكتاب بمقدمة عن الحركة الرومانتيكية لكنها مقدمة طويلة تحتل نصف الكتاب تقريباً، وهي رغم طولها طريفة شيقة تمهد لمعرفة جو المسرحية، وختم الأستاذ لويس كتابه بترجمة قصيدة أدونيس لشلي وهي تلك المرثية الرائعة التي نظمها في موت صديقه الشاعر جون كيت.

وقد تحدث في المقدمة عن الانقلاب الصناعي في إنجلترا، وأثره في دراسة الأدب، وتخرج الفوج الأول من المدرسة الرومانتيكية وهم: وردزورث وكولريدج رشدي وسير والتر سكوت والفوج الثاني منها وهم: بيرون وشيلي؛ وكيت وعرض عرضاً تاريخياً للنظم السياسية في إنجلترا، ثم أنتقل إلى كلمة الرومانتية وبين أصلها في اللغة ورأي الأدباء والشعراء في تعريفها في أوربا.

أما المسرحية فيمكن تلخيص فكرتها في تلك العبارة: (أن القوة المطلقة خطيئة) وهي عبارة قالها بروميثوس في الفصل الأول من المسرحية وتعرض لرأي شلي أيضاً في السياسة والأخلاق والاجتماع؛ فجوبتر ملك الأرباب والشياطين وسيد الأرواح نصب نصبه حاكماً مطلقاً وأخضع سائر الآلهة إلا برميثوس صديق البشر الذي سرق النار الإلهية وهي نار العلم وخلص البشر من الجهل فصلبه جوبتر على شفا هاوية سحيقة وأطلق عليه النسور الضواري تنهش جسده وربات الانتقام أو النوريات يصبن قلبه بجراج معنوية غائرة ولكن بروميثوس عول على محاربة جويتر بسلاح الخير فهوى جويتر من فوق عرشه العظيم وتقوضت أركان ملكه المكين، وظهر هرقل رمز القوة ففك أغلال بروميثوس رمز الحرية

ص: 58

في الوجود حيث أعرس من آسيا نور الحياة وصورة الجمال التي ليس لها نظير. . .

والمسرحية تصور ثورة الحرية على الطغيان وما هي إلا صدى للجهاد العنيف في سبيل حقوق الإنسان الذي تأثر به شلي، ولا يزال العالم يكتوي بناره حتى اليوم وأسلوب الترجمة يرتفع حيناً إلى آفاق البلاغة وينحدر حيناً إلى أعماق الركاكة ويرجع هذا إلى المؤثرات في مزاج المترجم من حين إلى حين، وفي الأسلوب بضعة أخطاء حرفية ونحوية واستعمالات لألفاظ وجمل مبتذلة تنبو عن أسلوب أستاذ جامعي كلفظة (أسطوات) و (عاشا في ثبات ونبات) ويمكن للمترجم السمو بأسلوبه بقراءة الكتب العربية القديمة ولكن أسلوب الترجمة لقصيدة أدونيس يرتفع عن المسرحية في بعض المواضع.

مهما يكن من شيء فجهد الأستاذ لويس جهد مشكور ونتمنى أن يتحف المكتبة العربية دائماً بنفائس الأدب الإنكليزي.

إبراهيم جمار الدين الرمادي

ص: 59