المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 805 - بتاريخ: 06 - 12 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٨٠٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 805

- بتاريخ: 06 - 12 - 1948

ص: -1

‌حقوق الإنسان في هيئة الأمم

للأستاذ عمر حليق

سنتان والنقاش مستمر في هيئة الأمم المتحدة حول إقرار ميثاق لحماية حقوق الإنسان.

وأمام الجمعية العمومية بباريس الآن اقتراحات بعضها مشوه وبعضها متناقض في مبادئ أساسية في تقرير الحرية والحقوق والواجبات التي لابد منها لكل ميثاق يوضع لحماية حقوق الفرد نحو الفرد والفرد نحو المجتمع، والفرد نحو الدولة والدولة نحو الفرد. ولا تزال هذه الحقوق موضوع بحث ومناقشة وتعديل في لجنة حقوق الإنسان التي أسسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لهيئة الأمم المتحدة في أواخر عام 1946.

وفي خضم الجدل السياسي العنيف الذي يشوب اجتماعات الأمم المتحدة يكاد مشروع ميثاق حقوق الإنسان لا يجد من ألسنة الرأي العام من ينوء به ويشير إليه بما يستحقه. ذلك لأن إقرار ميثاق عالمي لحماية الحرية والحقوق والواجبات سيكون معلمة خالدة من معالم الحضارة المعاصرة.

ولكن روح السخرية التي جلبتها هيئة الأمم المتحدة على نفسها بعد مهازلها السياسية في فلسطين وإندونيسيا وحيدر أباد وكشمير واليونان وكوريا وغيرها جعلت مجهود الأمم المتحدة في سبيل هذا الميثاق لوناً من ألون الجدل البيزنطي العقيم.

على أن الآراء التي أبداها مندوبو الثماني عشرة دولة التي تؤلف لجنة حقوق الإنسان فيها طرافة وانعكاسات عميقة في ناحية مهمة من نواحي التفكير والاتجاهات والمذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة. وسأحاول هنا أن أعرض بعض هذه الآراء وطرفاً من الجدل الذي احتدم حولها بين مندوبي هذه الدول. أمام اللجنة الدولية التي وكل إليها وضع ميثاق حقوق الإنسان صيغة تحضيرية لا يزال المندوبون يتناولونها فقرةً فقرة بل كلمةً كلمة.

خذ مثلاً المادة الثانية التي تنص على أن لكل فرد الحق في جميع ما ينص عليه الميثاق من حقوق وواجبات (بدون تمييز في الجنس واللون واللغة والعقيدة والمذهب السياسي ومميزات الثروة أو العراقة أو المحتد.

هذه المادة كانت موضوع جدل عنيف جداً؛ لأن مندوب الاتحاد السوفييتي أصر على إدخال

ص: 1

كلمة (الطبقة الاجتماعية) في هذه المميزات المحرمة، والطبقة كما لا يخفى تحتل مكانة أصيلة في الفلسفة الماركسية.

وأصر الروس على إجراء هذا التعديل وتألفت لحل هذا الإشكال لجنة فرعية مؤلفة من أمريكا وفرنسا وروسيا واتفقوا بعد جدل عنيف على إضافة كلمة النسب إلى الأنظمة الاجتماعية التي يجب أن لا تكون مميزة للفرد على الفرد.

وبالرغم من أن جميع مندوبي الدول وافقوا مبدئياً على روح الميثاق إلا أن الخلاف على تفاصيله وصياغته كانت من أصعب الأمور التي كانت الأمم المتحدة القيام بها.

وهذا ما اشتكى منه الدكتور شارل مالك أستاذ الفلسفة في جامعة بيروت الأمريكية سابقاً ومندوب لبنان في هيئة الأمم، فهو المقرر للجنة حقوق الإنسان بالإضافة إلى رئاسته للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ذلك لأن الخلاف على الصياغة وحرفية الميثاق يستمد عنفه من التباين في المذاهب السياسية والاقتصادية والفكرية التي تدين بها دول الجيل المعاصر.

خذ مثلاً خطبة الإنتاج التي استهلت بها المسز فرانكلين روزفلت مندوبة الولايات المتحدة ورئيسة لجنة حقوق الإنسان.

قالت مسز روزفلت: (إن هذا الميثاق (ميثاق حقوق الإنسان) يجب أن لا يفرض التزامات قانونية على الدول، مع العلم بأن مبادئه هي أسس الحرية التي يجب أن يكون السعي لتحقيقها هدف جميع الدول والشعوب). ووافقها مندوب السوفيات الدكتور بافلوف ذلك. ومع هذه الموافقة كان نقاش مسز روزفلت والدكتور بافلوف من أعنف ما شهدته اللجنة.

وبروح السخرية الخفية قالت المسز نيولاندز مندوبة نيوزيلندة بأنها وإن كانت تواقة لأن ترى الدول توافق على ميثاق عالمي لحقوق الإنسان إلا أنها ترى من الأهم، قبل كل شيء، أن يوضع مشروع عالمي مماثل يضمن إخلاص الدول في تنفيذ هذا الميثاق. وتابعت مندوبة نيوزيلندة الكلام مشيرة إلى أن الدول والشعوب تتفاوت في مستوى التقدم الفكري والرقي الاجتماعي والمناهج السياسية والأنظمة الاقتصادية، وإن لكل منها كياناً خاصاً يختلف في كثير من الأوجه عن كيان الدول الأخرى وأن أية محاولة لحملهم على التقيد بميثاق موحد يفرض عليهم فرضاً دون تعديل وتحوير محاولة لن تسفر عن النتيجة

ص: 2

المتوخاة، وأن التراث الثقافي والتاريخي الذي تستمد منه الدول مبادئها وآراءها وفلسفتها في الحياة يستوجب التريث قبل أن ترتبط الدول بالتزامات أدبية ودولية تقتضيها روح ميثاق حقوق الإنسان ونصه. وأن على كثير من الدول أن تعيد النظر في مدار هذا الميثاق على ضوء الأنظمة القانونية والتقاليد والعادة والعرف التي تدين بها المجتمعات التي تعيش فيها.

واتخذ مندوب اليونان حقه في النقاش وسيلة إلى التنويه بالديمقراطية التي نشرت الثقافة اليونانية في عصور الجهالة القديمة، وقال إن الأمم المتحدة مسؤولة أمام الحضارة عن إقرار هذا الميثاق.

وانتقد كثير من المندوبين الصيغة التحضيرية للميثاق لأنها لا تصر إصراراً كافياً على واجبات الفرد بنفس الحماسة التي تصر بها على حماية حقوقه. وكان مندوب جمهورية كوبا في أمريكا الجنوبية هو بطل الحملة في هذه النقطة المهمة. وتكلم مندوب الاتحاد السوفيتي معقباً فقال إن الدستور السوفيتي والنظام الشيوعي، وتعاليم ماركس ولينين تصر جميعاً على إقرار حقوق الفرد بنفس القوة التي تطلب بها منه القيام بالواجبات.

وتابع المندوب الكوبي الدكتور جينوروز ' تفنيده الميثاق مشيراً إلى أن حقوق الفرد الاجتماعية (بالمقارنة إلى حقوقه السياسية والاقتصادية) ليست تحتل المكانة التي يجب أن تحتلها في الميثاق، وأن تعديلات أساسية لإثبات حقوق المرأة وحمايتها يجب أن تدخل في صلب الميثاق المقترح.

وعند بحث هذه النقطة تكلم مندوب المملكة العربية السعودية السيد جميل البارودي فلفت النظر إلى أن الميثاق على الجملة لا يلائم المبادئ والعادات ومفهوم الحقوق والواجبات التي يدين بها المجتمع السعودي، وهي مبادئ وعادات تختلف - في بعض الأحوال - اختلافات جوهرية عن المبادئ التي نص عليها الميثاق والمستمدة من الحضارة الغربية والتراث الثقافي الغربي. ومن الطريف ذكره أن السيد جميل البارودي مندوب المملكة السعودية مسيحي من لبنان يستوطن الولايات المتحدة، وقد استخدمه الوفد السعودي ليمثله في بعض أعمال هيئة الأمم، وقد دافع عن وجهة نظر السعوديين في أهمية الثقافة الإسلامية بالرغم من أنه لا يدين بها. وكذلك فعلت السيدة إليس فندلفت مندوبة سوريا في

ص: 3

لجنة حقوق المرأة في مناسبة مماثلة.

وأثار مندوب اتحاد جنوبي أفريقيا مسألة حقوق الأقليات فقال إن حكومته لا توافق على نص الميثاق بخصوص الأقليات. فإن ممارسة الحقوق - في رأيه - يجب أن تكون مصحوبة بتوفر المؤهلات. وهو بذلك يعني تقييد حقوق العبيد والهنود في اتحاد جنوبي أفريقيا الذين لا يزالون يصارعون في سبيل الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك.

وتكلم مندوب الاتحاد السوفيتي الدكتور بافلوف بإسهاب في إحدى الجلسات الأخيرة فقال إن في لجنة حقوق الإنسان ثلاث جبهات: جبهة تقول بأن الميثاق المقترح يذهب إلى أبعد مما يجب. وجبهة ثانية أظهرت بعض الحماس لبعض مواد الميثاق وأهملت البعض الآخر، ولكنها على الإجمال راضية عنه. أما الجبهة الثالثة فلا تعتقد أن الميثاق المقترح يلبي الحاجة ويسد الفراغ، وأنه يجب أن يعدل ليكون أكثر ملاءمة للتطور التقدمي الذي يكتسح العالم، والاتحاد السوفياتي منضم إلى الجبهة الأخيرة.

واشتكى المندوب الروسي بأن بريطانيا تحاول أن تتخلص من قبول الالتزام بشأن شعوب مستعمراتها، وأن الدول المستعمرة إجمالاً قد تحالفت في اللجنة وأسقطت من الميثاق المقترح الحقوق الأساسية التي قد تستطيع الدول الخاضعة للاستعمار بواسطتها التخلص منه.

وأجاب المستر مايهو البريطاني على تعليقات المندوب السوفيتي مذكراً بالالتزامات الأدبية التي يفرضها الميثاق المقترح إذا اتخذ مثلاً عالمياً أعلى لحقوق الإنسان. وقال إن بريطانيا ستطبق مبادئ الميثاق على الدول الواقعة تحت حكمها أو انتدابها.

وأجاب إجابة مباشرة على اتهامات المندوب السوفيتي قائلاً: إن اتهام بريطانيا باستغلال حريات الشعوب هو من قبيل الدعاية التي يلجأ إليها الروس في المحافل الدولية بين آن وآخر، وأن خير مثل على استعباد الشعوب واستغلال حرياتهم هي الشيوعية وحملتها من السوفيت، فإنها أعنف أنواع الديكتاتوريات التي عرفها العالم. إن الأحرار الذين نالوا الويلات على يد الفاشية والنازية وجدوا الآن أنفسهم مضطرين إلى النجاة بأرواحهم من طغيان الشيوعية في أوربا الشرقية. وتابع المندوب البريطاني قائلاً: إن مندوب السوفيت

ص: 4

الذي يقف هنا نصيراً للحرية يجدر به أن يتذكر بأن حكومته هي الدولة الوحيدة من بين دول العالم التي حققت توسعاً استعمارياً إقليمياً في السنوات الأخيرة. وقال إن الشيوعية قد شنت حملات شعواء على الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا وفي جميع البلدان خارج منطقة النفوذ السوفيتي.

وجاءت هذه الحملات ارتجالية دون تحد سابق إلا العداء الكامن الذي تكنه الشيوعية لجميع المبادئ التي تخالفها في الغايات والسبل. وإن من الإنصاف أن ترد بريطانيا التهمة عن نفسها.

وقال مندوب جمهورية كولومبيا في أمريكا الجنوبية إن هدف هذا الميثاق هو في الواقع تقرير مبادئ أساسية لا للتدخل بين الدول ورعاياها أو بين الفرد والمجتمع.

وأصر مندوب بولندا على أن تكون بعض المبادئ الجوهرية للميثاق مستمدة من الفلسفة الماركسية وتقدم بأربع نقط ليدعم بها الميثاق وهي:

1 -

أن الحقوق السياسية عديمة الجدوى إذا لم تعزز بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

2 -

يجب أن يكون القيام بالواجبات شرطاً لإعطاء الحقوق للفرد وحمايتها.

3 -

للشعوب الواقعة تحت الحكم الأجنبي أن تتمتع بمزايا الميثاق تماماً كما تتمتع به الشعوب المستقلة والدول الحاكمة.

4 -

يجب أن لا تكون موافقة الدول على الميثاق مدعاة إلى التدخل في شؤونها الداخلية.

وعقب مندوب بلجيكا الكونت دي وييارت نقطة الواجبات مطالباً بأن يتضمن الميثاق نصاً بالتزامات حسن الجوار، واقترح لهذا النص إحدى الوصايا العشر التي نص عليها الكتاب المقدس وهي (أحب لجارك ما تحب لنفسك).

وأبدى بعض المندوبين روح تسامح وسعة أفق ورغبة صادقة في التغلب على الخلافات الحادة. فقال مندوب جمهورية الشيلي في أمريكا الجنوبية مثلاً.

إن تحضير لميثاق عام كميثاق حقوق الإنسان أمر يتطلب الصبر والأناة وسعة الأفق والتسامح والرغبة الصادقة في التعاون وتقريب وجهات النظر. فإذا عجزنا أن نحمل السوفيات وحلفاءهم والدول الغربية على التسامح والتنازل عن بعض الخلافات الحادة، فلن يجدي جدلنا هذا نفعاً. ويجب كذلك أن تسعى لتقريب وجهات النظر في المبادئ الجوهرية

ص: 5

بين حضارة الغرب وبين حضارات الشرق وبين الأنظمة القانونية التي تختلف جوهرياً في العالم الأنجلو سكسوني مثلاً عنها في العالم اللاتيني.

وناشد الدكتور كريم عزقول مندوب لبنان اللجنة بأن توافق على الميثاق لتعيد إلى الإنسانية البلبلة الفكر المتوترة الأعصاب إيمانها بالقيم الروحية ومكانة الفرد وعزته.

ولا تزال اللجنة تواصل النقاش حول مواد الميثاق.

(نيويورك)

عمر حليق

سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية

ص: 6

‌قائد الأسطول المصري في عهد صلاح الدين:

حسام الدين لؤلؤ

للأستاذ أحمد احمد بدوي

حسام الدين لؤلؤ من جند مصر في عصر الدولة الفاطمية، أعجب صلاح الدين بشجاعته، فأسند إليه قيادة الأسطول، وكان السلطان قد عنى بأمر الأسطول، وأفرد له ديواناً خاصاً، وعين للإنفاق عليه موارد ثابتة، فكان الاختيار موفقاً، لأن حسام الدين كان شجاعاً خبيراً بالبحر والقتال فيه، فسار النصر في ركابه، وصاحب خطاه النجح والتوفيق، وسجل له التاريخ معارك انتصر فيها على الفرنج عند ساحل الشام.

وكان صلاح الدين يرسل إليه كي يهاجم أسطول الفرنج حيناً، أو يحاول بينه وبين إيصال المدد إلى من بالشام من الصليبيين حيناً آخر، أو ليضطر جيشهم إلى الدفاع عن الساحل بينما صلاح الدين يهاجم جيوش الفرنج بالبر، فيلزم عدوه أن يقسم قوته، ويصد هجومين في وقت واحد معاً، وهكذا كان الأسطول وعلى رأسه لؤلؤ إحدى يدي صلاح الدين وجناح جيشه.

واشتهر لؤلؤ في معركة عكا، وساهم فيها بالنصيب الأوفى، فعندما حاصرها العدو سنة 585 أرسل صلاح الدين في طلب الأسطول فقدمت منه خمسون قطعة على رأسها البطل البحري، فانقض على أسطول الصليبيين وبدده، وظفر ببطستين كبيرتين بما فيهما من الأموال والرجال والقلال، وقويت نفوس أهل المدينة بقدوم الأسطول واستظهروا برجاله على العدو، وكانوا زهاء عشرة آلاف، وظل الأسطول يكافح في المعركة، يحارب حيناً ويجلب المسيرة والإمداد حيناً آخر.

وكان مما خلد ذكر هذا القائد ما دار بينه وبين الصليبيين في البحر الأحمر سنة 578، ذلك أن صاحب الكرك، وهو من ألد أعداء المسلمين، وأشدهم نكاية فيهم، فكر في مهاجمة المسلمين في البحر الأحمر، ظناً منه أنهم غير مستعدين فيه، وتأديباً لحامية أبلة التي كانت تغير عليه، ولا سبيل له عليها، لأنها تقيم بقلعة في جزيرة وسط البحر، فبنى سفناً، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل، وجمعها في أسرع وقت، وشحنها بالمحاربين وآلات القتال، وسارت السفن وقد اقترنت فرقتين: أقلت إحداهما على حصن أبلة تحصره وتمنع

ص: 7

أهله ورود الماء، فأصاب حاميته شدة وضيق، ومضت الثانية، وهي فرقة فدائية، إلى عيذاب فأحرقوا في البحر ستة عشر مركباً، وأخذوا في البر قافلة كبيرة كانت قادمة من قوص إلى عيذاب وقتلوا جميع أفرادها، واستولوا على مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على الساحل كانت معدة ليرة مكة والمدينة، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع بمثلها في الإسلام، فقد فاجئوا الناس على حين غفلة فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً لا تاجراً ولا محارباً. وأرادت الحملة أن تقطع طريق الحج، فقد كانت الغزوة في شهر شوال سنة 578، وأن تمضي إلى المدينة المنورة لتنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنقل جسده الشريف إلى بلادها، وتدفنه هناك، ولا تمكن المسلمين من زيارته إلا بجعل. فسارت الفرقة إلى بلاد الحجاز، وجاء الخبر إلى مصر، وبها الملك العادل نائباً عن أخيه صلاح الدين، فأمر قائد الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ أن تبع هؤلاء الغزاة، فأخذ الأسطول وانقض على محاصري أبلة انقضاض العقاب وقاتلتهم فقتل بعضهم، وأسر الباقي.

ثم مضى إلى عيذاب وأخذ يتتبع مراكب العدو حتى عثر عليها بعد أيام، فأوقع بها، وأطلق المأسورين من التجار فيها، ورد عليهم ما أخذ منهم.

ورأى العدو قد أوغلوا في طريق المدينة حتى لم يبق بينهم وبينها إلا مسافة يوم، فمضى خلفهم على حيل أخذها من الأعراب وحاصرهم هناك في شعب لا ماء فيه، حتى استسلموا، فقتل أكثرهم وأرسل بعضهم إلى منى ليقتلوا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله، وعاد بالباقين إلى مصر.

فكان لدخولهم يوم مشهود، وطيف بهم في القاهرة والإسكندرية، ورآهم ابن جبير بالإسكندرية وقد تجمع الناس حولهم، عندما أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق.

وأرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل يثني على أسير البحر ويغبطه، ويأمل بقتل أسراه، ويقول له على لسان القاضي الفاضل:. . . وقد غبطناه بأجر جهاده، ونجح اجتهاده، ركب السبيلين براً وبحراً، وامتطى السابقين مركباً وظهراً، وخطا فأوسع الخطو، وغزا فانجح الغزو، وحبذا العنان الذي في هذه الغزوة أطلق، والمال الذي في هذه الكرة أنفق؛ وهؤلاء

ص: 8

الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها، وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها. . . ولابد من تطهير الأرض من أرجاسهم، والهواء من أنفاسهم، بحيث لا يعود منهم بخبر يدل على عورات المسلمين).

وأرسل صلاح الدين بنبأ هذا النصر إلى بغداد، وانتهى الأمر بقتل الأسرى، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة.

خلدت هذه المعركة ذكرى بطلها، وأقبل الشعراء يشيدون بذكره ويمجدون جهاده، فأنشأ أبو الحسن بن الذروى أشعاراً كثيرة يمدحه بها، منها قوله يصف أسرى المعركة:

مر يوم من الزمان عجيب

كاد يبدي فيه السرور الجماد

إذا أتى الحاجب الأجل بأسرى

قرنتهم في طيها الأصفاد

بجمال كأنهن جبال

وعلوج كأنهم أطواد

قلت بعد التفكير لما تبدى

هكذا هكذا يكون الجهاد

حبذا لؤلؤ يصيد الأعادي

وسواه من اللآلئ يصاد

وقوله يصف هذا الجهاد:

يا حاجب المجد الذي ماله

ليس عليه في الندى حجبه

ومن دعوه لؤلؤاً عندما=صحت من البحر له نسبه

لله ما تعمل من صالح

فيه وما تظهر من حسبه

كفيت أهل الحرمين العدا

وذدت عن أحمد والكعبه

كما قال فيه الرضي بن أبي حصينة المصري يخاطب الفرنج:

عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه

والدر في البحر لا يخشى من الغير

فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم

فالدر مذ كان منسوب إلى النحر

ويظهر أن صلاح الدين والعادل قد أغرقا العطاء على القائد المقدام فأثرى ثراء ضخماً.

غير أنه لم يشأ أن يستأثر وحده بهذا الثراء، فإنه بعد أن زوج بناته، وكن أربعاً وجهزهن بجهاز كاف، وأعطى ابنيه ما يكفيهما، شرع يتصدق بما يبقى معه على الفقراء، قال العماد الكاتب: ومن دلائل سماحه ما شاهدته بالقاهرة، في سنة إحدى وتسعين من مبراته الظاهرة، إنه لما حط القحط رحله). . . وتم الغلا، وعم البلاد، ابتكر هذا الحاجب الكبير مكرمة لم

ص: 9

يسبق إليها، وبذلك أنه كان يخبز كل ليلة أثنى عشر ألف رغيف، فإذا أصبح جلس على باب الموضع الذي فيه حشر الفقراء. . . فما يزال قاعداً حتى يفرق الألوف على الألوف.

وكان هذا دأبه في هذا الغلاء، حتى هب رخاء الرخاء، فحينئذ تنوعت صدقاته، واستغرقت بالصلاة أوقاته؛ وكان بهي الشيب، نقي الحبيب، قد جعل الله البركة في عمره، وخصه مدة حياته بإمرار أمره، فأنجده في أوان ضعفه بتضعيف بره). وكان هذا الكرم مثار إعجاب الشعراء كذلك فمدحه ابن الذروى بقوله:

لئن كنت من ذا البحر يا لؤلؤ العلا

نتجت، فإن الجود فيك وفيه

وإن لم تكن منه لأجل مذاقه

فإنك من بحر السماح أخيه

وفي اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة 596 وارت مصر التراب بطلاً من أبطالها، وقائداً من أبرع قوادها، قال عنه العماد وهو يؤرخ وفاته:

كان في الأيام الصلاحية أشجع الشجعان، وأفرس الفرسان، وله مقامات في الغزاة، ومواقف مع العداة.

(حلوان الحمامات)

أحمد احمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 10

‌محمد إقبال

شاعر الشرق والإسلام

1389 -

18731357 - 1938

للأستاذ مسعود الندوي

(تتمة)

مكة وجنيف:

لقد عمت في هذا العصر مجالس الأمم

لكن الوحدة الإنسانية بقيت مختفية عن الأنظار،

والهدف الذي ترمي إليه حكمة الأفرنج، هو تفريق الأمم وغاية الإسلام إنما هي الوحدة الإنسانية.

فقد بعثت مكة إلى جنيف بهذه الرسالة:

ماذا تريدين: (عصبة الأمم) أم عصبة بني آدم؟

المرأة والتعليم:

إذا كانت الحضارة الغربية مهلكاً للأمومة.

ففي الرجال ليس ليا أثر غير الخسران والموت الخلقي؛

والعلم الذي يجعل المرأة مجردة من خصائص الأنوثة. ما أجدره أن يسمى بالسم النافع وما أقربه إلى دواء الموت منه إلى العلم النافع.

وإن كانت مدرسة النساء خالية من الدين، فلا يكون العلم والصناعة إلا موتاً للحب والوداد.

مسجد باريس:

كيف أنظر إلى ما فيه من بدائع الصناعة

فإن هذا الحرم الغربي بعيد عن الحق؛

بل ليس هذا بحرم؛ وإنما أخفى صناع الإفرنج

روح الوثنية في جثمان الحرم؛

ص: 11

وإنما أسس هذا المعبد أولئك السفاكون

الذين دمروا دمشق بأيديهم.

سياسية الإفرنج:

رب! إن سياسة الإفرنج أصبحت قربتك في الملك

اللهم إلا أن عبادها الأمراء والأغنياء والملاك؛

لقد خلقت من النار إبليساً واحداً

وخلقت هذه من الطين ألوفاً من الأبالسة.

أمر إبليس لأبنائه السياسيين:

الرجل الصعلوك الذي لا يهاب الموت أصلاً،

أخرجوا روح (أي تعليم) محمد صلى الله عليه وسلم من بدنه؛

وأصبغوا أفكار العرب بصبغة الإفرنج أولاً،

ثم أخرجوا الإسلام من الحجاز واليمن؛

والدواء الناجع لغيرة الأفغان الدينية،

أن أخرجوا (الملأ) من جبالهم وفيافيهم.

أوربا وسورية:

منحت أرض سورية للإفرنج.

نبي العفة والمواساة والرفق في المعاملة؛

وجاء من أوربا إلى سورية، مكافأة بصنعها

الخمر والمقامرة وكثرة المومسات.

الشام وفلسطين:

أدام الله خمارة الأحرار الفرنسيين،

حيث نرى كؤوس حلب مملوءة بالصهباء؛

إن كان لليهود حق على فلسطين،

فلماذا لا يكون للعرب حق على إسبانيا؟

ص: 12

هذا غيض من فيض وبرض من عد وقليل من كثير من أفكاره وآرائه الحكيمة المبثوثة في ثنايا دواوين شعره. ومما يجدر بالإشارة إليه ثانياً أن هذه الأفكار والآراء مقتبسة من ديوانه (ضرب كليم) الذي نشر قبل نشوب الحرب العالمية الثانية ببضعة أعوام.

- 6 -

سياسة:

لم يكن صاحبنا في شبابه من رجال السياسة، ولم يشاطر بني جلدته سراء الجهاد وضراءه، وإنما اكتفى بالقريض الحافز للأمة والنافخ فيهم روح الحياة، كما أعرب عنه بنفسه في بيت له: إن إقبالاً (مبلغ) كبير تأخذ أحاديثه بالألباب.

لكنه يغزو بالأقوال فقط ولم يتيسر له أن يكون عاملاً محايداً.

وبقى شاعرنا كذلك منقطعاً عن الحياة السياسية مرمياً من قومه بالجمود والازورار عن الجد والكفاح، إلا إنه ترشح سنة 1936 (للمجلس التشريعي) الذي قال فيه قبل ذلك:

(مجالس التشريع والإصلاح والحقوق

(كلها أدوية حلوة المذاق اخترعها الطب الغربي لتنويم أهل الشرق.

وأول ما عرفنا من مشاركته في السياسة العملية سنة 1930 حينما راس المؤتمر السنوي لعصبة المسلمين مؤتمر المائدة المستديرة منعقد في (لندن). وإنما انعقد مؤتمر عصبة المسلمين وقتئذ ليبين لأعضاء المائدة المستديرة مطالب المسلمين، ويؤكد استمساكهم بها. فانتخب محمد إقبال رئيساً للمؤتمر، لغياب الزعماء السياسيين وسفرهم إلى لندن بمناسبة انعقاد المؤتمر وحضور جلساته، فخطب خطبته الرئيسية التي أحدثت ضجة عظيمة في الهند والدوائر السياسية في (لندن)؛ والتي تناولتها صحف الهنادك والوطنيين بالنقد اللاذع وأعادت وبدأت فيها. وذلك أن صاحبنا بين فيها نظرية جديدة للسياسة الإسلامية وهي أن تتكون مملكة إسلامية مؤلفة من ولاية كشمير ومقاطعات بنجاب والحدود الغربية الشمالية والسند في ضمن المملكة الهندية الكبرى، لأن مسلمي الهند - في رأي صاحبنا - أمة مستقلة مغايرة للهنادك في الدين والثقافة واللغة والأوضاع والتقاليد.

وهذه هي النظرية التي جعلها بعض الشبان المقيمين في (لندن) أساساً لحركة (باكستان).

ص: 13

ثم تبدلت الأحوال وتقلبت الظروف إلى أن جعلت عصبة المسلمين تطالب بتقسيم الهند، وتأسيس مملكة مستقلة باسم (باكستان) وقد تحققت هذه الأمنية فعلاً. ولست في هذا المقام بصدد البحث في السياسة الهندية وقضاياها المتشعبة، فإن لها موضعاً آخر من البحث والكلام. والذي أردت ذكره في هذا الموضع أن صاحبنا هو الذي كان أبا عذرة هذه النظرية الجديدة وأظهرها لأول مرة في خطبة عامة للصحف، وإن كان يحلم بأمثالها كثير من السياسيين المسلمين. والمسألة أشهر من نار على علم. ومما لابد من ذكره في هذا الصدد أن خطبته هذه غيرت مجرى مؤتمر الدائرة المستديرة، حيث كان الأعضاء مكبين على إيجاد حل للمشكلة الطائفية، فأبى أعضاء الهنادك قبول مطالب المسلمين وتوجسوا منها شراً. وقال الدكتور (م. ر. جيكار) بصراحة:(أنا قد اطلعنا الآن على ما تضمره أفئدة المسلمين، ونشكر للدكتور إقبال صراحته وصدق لهجته). وعلى كل، فإن هذه الخطبة كانت فاتحة باب جديد في السياسة الهندية. وقد صدق الدكتور ذاكر حسين، عميد الجامعة الملية الإسلامية، حيث قال لصاحبنا، طالباً إليه أن يكف عن الوقوع في حمأة السياسة:

(لقد خطبت خطبة تكفي المسلمين لمائة سنة).

ثم ظل صاحبنا يعمل بضع سنين مع الذين كانوا يناوئون الحركات الوطنية إلا أنه لم يقدر أن يسايرهم زمناً طويلاً، لأن أولئك كانوا يعارضون الحركة، حباً في الاستعمار والتطفل على مائدته. وأما شاعرنا فكان يناوئها بغضاً في الهنادك ورجال سياستهم، فأعتزل جميع الحركات السياسية، إلا أنه كان يعطف على عصبة المسلمين ويؤيد قضيتها بنفوذه وتأثيره البليغ في الشبيبة الناشئة. ومن أعماله التي تذكر وتشكر موقفه الجليل في الآونة الأخيرة من حياته بازاء القاديانيين. فإنه حمل عليهم حملات شعواء قصمت ظهرهم في معقلهم (بنجاب)، ولولا مساعدة الحكومة لهم لانعدموا، لأن أئمة الكفر منهم كانوا يدعون من قبل، أن المشايخ (والمولوبين) هم الذين يكفروننا لتعنتهم وجمودهم. ولما آن صوب ملك شعراء آسيات كما كانت تدعوه دائماً جريدة الاحمدية اللاهورية سهام محاضراته الفلسفية إلى نحورهم، سقط في أيديهم وجعلوا يسبونه ويصبون عليه وابل الملام والشتم، وبدءوا ينقصون من شعر الرجل الذي كانت تلهج ألسنتهم بالثناء عليه صباح مساء، ولقبته مراراً صحيفتهم الأسبوعية الثائرة بـ اللقب الذي لقبته به أولا الشاعرة الهندية الطائرة

ص: 14

الصيت سروجني نائيدو ولم يقتصر على الحملات اللفظية بل استقال من رئاسة جمعية (حماية إسلام) وكلياتها الملحقة بها حتى تتطهر - حسب تعبيره - من كل من لا يقول بختم نبوة النبي العربي صلى الله عليه وسلم.

- 7 -

خدماته العلمية:

قد سبق لي الكلام أنه قضى عهد الطالب في وطنه مدينة سيالكوت ولاهول، ثم عين معلماً في الكلية الأميرية بلاهور؛ وبعد أن اشتغل بالتدريس بضعة أعوام، سافر إلى كيمبردج وبرلين ونال شهادات المحاماة والدكتوراه في الفلسفة.

وبعد الرجوع من أوربا، تعاطى المحاماة، لكنه لم ينجح لاشتغاله بالتفكير الفلسفي والتحقيق العلمي. فانقطع إلى العلم والتفكير ورزق فيما نجاحاً باهراً وقبولاً عظيماً، فألقى محاضرات عديدة في مختلف جامعات الهند وأوربا، منها محاضرته التي ألقاها في جامعة مدراس (جنوبي الهند)، ونشرتها جامعة اكسفورد بعنوان:(التشكيل الجديد للفكر الديني في الإسلام)، وهو كتاب دقيق فلسفي لا يقدر على فهمه إلا من أوتي حظاً وافراً من الفلسفتين الجديدة والقديمة، والعلوم الإسلامية. وكذلك انتدبته جامعة اكسفورد لإلقاء محاضرة (رودس) عن (الزمان والمكان) وجدير بالذكر أنه أول شرقي انتدب لإلقاء محاضرة (رودس). ولم نعرف مدى ما بلغ فيه من الحذق والإجادة لعدم الإلمام بالموضوع. وكذلك ألقى محاضرات عديدة علمية عن الإسلام والأدب الفارسي والفلسفة الجديدة في جامعات (حيدر آباد) و (علي كره) والجامعات الأخرى. ونظراً إلى مكانته العلمية منحته الحكومة ومنحته جامعات (بنجاب) و (علي كره) و (رهاكه)(شرقي بنغال) شهادات شرف بالدكتوراه في الحقوق والدكتوراه في الآداب

هذا ما أردت إجماله في سيرة محمد إقبال وشعره وتوسعت فيه قليلاً، لعدم معرفة قراء العربية بمواهبه. فإن نجحت في مهمتي، أي مهمة التعريف بشعره البليغ وحكمته الرائعة، فذاك حظي؛ وإلا فليس هذا بأول مجهود ما قدر له النجاح والقبول. وحسبي أني بذلت جهدي حسب ما كنت أستطيعه، والعبد لا يكلف إلا ما يطيقه. وآخر دعوانا أن الحمد لله

ص: 15

رب العالمين.

مسعود الندوي

معتمد دار العروبة للدعوة الإسلامية

ص: 16

‌عيادة المطالعة

للأستاذ إيليا حليم حنا

أنواع القراء:

(عيادة المطالعة!) ربما يدهشك هذا العنوان وتراه عجيباً ولكن رجال التربية في أمريكا وجدوا أن القراءة فن مهمل فألحقوا بكلياتهم عيادات يعالجون فيها الذين لم تغرس فيهم عادة القراءة أو الذين لا يعرفون كيف تكون المطالعة المجدية.

والآن أقدم لك أيها القارئ دكتور روبرت مدير (عيادة المطالعة) في كلية درثمورت يحدثك عن عيادته:

عيادة المطالعة - أسم غريب ولكنه في الحقيقة ليس بغريب. . . . فالكثيرون من المتعلمين مرضى ولا يعرفون أسس القراءة الصحيحة. وأما مرضهم فهو أنواع؛ فمن الناس من يعجز عن تركيز الذهن فيما يقرأ. ومنهم من يحاول أن يسابق زملاءه كما تحاول السلحفاة أن تلاحق الطائرة. ومنهم من يشعر بدوار كواكب البحر بعد أن يقرا صفحات معدودة. ومنهم من لا يقرأ مطلقاً. . . أجل عيادة المطالعة وما أحوجنا إلى عيادات).

ويحدثنا الكاتب الفرنسي (أندريه موروا) عن أنواع القراء فيقول: (من الناس لهم ولع شديد بالقراءة يدفعهم إلى التهام كل شيء يقع عليه بصرهم من الكتب والصحف والمجلات وغيرها فراراً من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال، وهؤلاء لا يستفيدون إلا القليل التافه من قراءتهم.

ويقول نورمان لويس أستاذ القراءة بعيادة المطالعة بجامعة نيويورك: (إن القراءة أهم ما نتعلم ونحذق، فإنه لا يوجد عمل إلا وهو يحتاج إليها. وفي بعض البلدان يقل عدد البالغين الأميين ولكن ستين في المائة في الأقل ممن يعرفون القراءة لا يحسنونها)

وعندنا يتخرج الطالب في مدرسته أو كليته وهو يكره الكتب وإن قرأ فهو لا يقرأ إلا الصحف والمجلات ويهمل مسائل العالم الأخرى من سياسية واجتماعية وثقافية. وكلما تقدم في السن ازداد تعلقاً بآرائه الأولى التي شب عليها فهو في ركود نفسي لا يتطور مع الزمن ولا يساير الآراء الجديدة في الأخلاق والاقتصاد وأنواع الثقافات الأخرى المختلفة.

لماذا لا يقرأ المتعلمون؟

ص: 17

ويرجع كره المتعلمين للقراءة إلى الأسباب الآتية: -

‌1 - إغفال المدرسة لأساليب التربية الحديثة واعتبار

‌الطفل كإناء فارغ واجب المدرس أن يصب فيه

‌المعلومات التي أشار بها واضعو المناهج، ويبقي

‌الطفل هذه المعلومات غفي رأسه خوفاً من العقاب أو

‌الرسوب في الامتحان ويظل يكافح في إبقائها على

‌مضض حتى يأتي يوم الامتحان فيفرغ ما امتلأ به

‌رأسه ويخرج حامداً الله على أنه أطلق من أسره

‌وتخلص من عبئه؛ ثم يقسم على أنه لن يفتح كتاباً

‌فكفاه ما لاقى في قراءة الكتب المدرسية من آلام

‌وعذاب؛ وهو بذلك لا يقبل على القراءة لأن جهازه

‌العصبي قد تكيف بالألم من جراء الطريقة التي

‌وصلت بها المعلومات إلى رأسه بدون مراعاة ميوله

‌ورغباته وإثارة تشوقه.

2 -

القراءة فن جميل لم يتعلمه الطلبة في المدرسة، ولذلك لا يتذوقون الكتب عند قراءتها كالشخص الذي لم يتمرن على كيفية العزف على إحدى الآلات الموسيقية ويجد أن أنامله لا

ص: 18

تنتج إلا أنغاماً لا ترابط ولا انسجام بينها تصدع رأسه. هكذا الكتب لا يتذوقها إلا الذي درس فن القراءة الصحيحة وأصولها.

3 -

لأن الطلبة لا يفهمون ما يقرئون من الثقافات العالية لأنهم لم يتعودوا التفكير فيما يطالعون ولم ينضجوا ذهنياً فاكتفوا بقراءة مجلات اللهو والتسلية وتركوا الكتب الدسمة لأن عقولهم لا تقوى على هضمها.

4 -

لأن المشرفين على تربيتهم لم يوجهوا غرائزهم إلى الناحية السامية فانقلبت هذه الغرائز إلى النواحي الدنيا فمال كثير من المتعلمين إلى الأدب المكشوف الذي لا يثير في قرائه إلا أحط الرغبات.

5 -

لم تتكون فيهم عادة القراءة لأن منزل الطفل يخلو من الكتب، وأمه أمية أو لا تكره غير الكتب، وأبوه لا يحب الكتب، وهو لا يجد كتباً في منزله يتناولها ويقلبها لعله يجد ما يلذه مطالعته واخوته وأخواته الكبار يتصفحون كتبهم المدرسية بغير اشتياق أو عناية.

ولذا نرى أن البيت والمدرسة مسئولان إلى حد كبير عن هذا الكره، والحل يتطلب تغيراً أساسياً في المدرسة وفي حياة الطلبة لكي يتهيأ لهم الجو الذي يحببهم في القراءة ويجعلها عادة فيهم. والحاجة ماسة إلى بيئة منزلية تعينهم على تعهد هذه العادة حتى لا تنقرض أو تضعف.

ايليا حليم حنا

دبلوم عال في التربية

الأبيض - السودان

ص: 19

‌بين الأدب والأخلاق:

الصداقة في رأي ابن المقفع

للشيخ محمد رجب البيومي

(ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه يبثه، وإذا فرق بين الأليف وأليفه فقد سلب قراره وحرم سروره، وعشي بصره)

(ابن المقفع)

بيني وبين ابن المقفع صداقة أعتز بها كل الاعتزاز، فقد كان أول كاتب تثقفت بأدبه في العربية، ولا أزل أذكر قصصه الشائقة الممتعة التي قرأتها في كتابه الخالد (كليلة ودمنة) وكنت حينئذ لا أتجاوز العاشرة، ولكنه كان يجذبني - بوضوحه المشرق - إلى متابعته دون سآمة أو ملل، وكنت أستوعب روائعه في لذة وشغف، فإذا ما خلوت إلى الناس كانت محور السمر، وأداة الحديث، ومهما يكن من شيء فقد جعلتني أعتبر ابن المقفع - في سن الطفولة - نادرة الكتاب، وأستاذ البلغاء. وما زلت أنظر إلى الرجل هذه النظرة العالية حتى اليوم، فلا غرو إذا تحدثت عنه حديث الدارس المستوعب، فغير كثير عليه أن تسطر في أدبه الصحائف، وتهتم بآثاره الأقلام!!

وقد لاحظت إن أديبنا الكبير قد اكثر من الحديث عن الصداقة إكثاراً يدعو إلى الدهشة والعجب، فما يكاد فصل واحد من كتابه يخلو من التصريح أو التلميح بما يشتجر في نفسه من العواطف الأنيسة الرفيعة، مما دفعتني إلى التنقيب في حياة الكاتب، ودراسة تاريخه دراسة فاحصة.

وقد اتضح لي أن عبد الله كان صديقاً وفياً لصفوة مختارة من الأدباء والشعراء، فكان يقضي الأمسيات الضاحكة في سمر ممتع لذيذ، فإذا عاقته ظروفه - يوماً ما - من منتدى أصفيائه حن إليهم حنيناً ينبئ عن وفائه وولائه، وقام يراعه البليغ بالتعبير عن عواطفه النبيلة فنفث السحر، وأدار السلاف!. . .

وقد تحدث كثير من الكتاب عن الصداقة والأصدقاء، فما وجدت لأحاديثهم جاذبية تدفعني إلى التعليق عليها، وما شعرت بارتياح تام إلى تحليلها وتشريحها، لأن جل هؤلاء في الواقع يقولون مالا يفعلون، فهم يسهبون في الحديث عن الوفاء والتسامح والإيثار، فإذا

ص: 20

رجع الباحث إلى تواريخهم المظلمة، وجد ما تنطق بالقدر والحقد والكيد.

أما أديبنا الحكيم فذو تاريخ نبيل مجيد، تقرأه فتخفض رأسك إجلالاً لصاحبه وتتساءل - كما أتسائل الآن - عن هذا الذي ملك عواطفه، وحكم مشاعره، فلم يخضع يوماً إلى منطق الحقد، ولم تتخطفه نوازع الهوى، بل سار في مهبع لا حب مستقيم تحدوه الكرامة والعزة ويرفرف عليه ظل وارف من النبل والوفاء.

وإذا كانت حياة الإنسان أعز شيء لديه، ثم يليها في المرتبة ما يملك من مال وعتاد، فإن ابن المقفع قد نظر إلى حياته وماله نظرة هينة رخيصة، فذكرا اكثر من مرة أن التضحية بالنفس والمال أقل ما يجد على الإنسان نحو صديقه الأمين، ونحن نسمع هذا الكلام من كل كاتب، ولكن عبد الله لا يسطر الرأي إلا بعد أن يعتقده ويقوم بتنفيذه دون تردد وإحجام، فقد شاء القدر العنيد أن يمتحنه أمام الناس، ليظهر في ثوبه الشفاف، ولقد انتهى الامتحان الرهيب بنجاح ابن المقفع وانتصاره في ميدان الكرامة أبهر الانتصار.

كان عبد الله صديقاً حميماً لعبد الحميد الكاتب، فقد تراسلا حقبة من الدهر، وأعجب كلا الرجلين بصاحبه إعجاباً زائداً، وحين عصفت رياح الزمن بالدولة الأموية، وهب العباسيون يتعقبون أولياءها في كل مكان.

فر عبد الحميد إلى صديقه واختبأ في بيته مدة كان فيها موضع التكريم والإكبار، وشاء طالعه الأشأم أن يقف أرباب السوء على مكانه، فأبلغوا الخبر في أسرع من البرق إلى الخليفة السفاح وفاجأه الطلب الصاعق في منزل ابن المقفع فقال رسول الخليفة للصديقين: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما (أنا)، خوفاً على صاحبه، وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لولا أن صاح بهم عبد الحميد، قائلاً: ترفقوا بنا، فلكل منا علامات يعرف بها أتم تعريف، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر إلى من وجهكم فيذكر له تلك العلامات، ففعلوا كما أشار، وأتضح لهم عبد الحميد فقتلوه!!

فهذه الحادثة وحدها كافية لإثبات رجولة ابن المقفع، وهي تدل دلالة ناطقة، على أن الرجل يتقيد بما يوجبه على غيره من حقوق الصداقة والوفاء. وناهيك بمن يبذل نفسه تضحية رخيصة في سبيل صديقه، وكما قيل: الجود بالنفس أقصى غاية الجود!!

وبديهي أن الذي يقدم نفسه ضحية لصاحبه، لا يتردد لحظة في إنفاق ماله عليه، ولقد كان

ص: 21

عبد الله في سعة من الخير، ورفاهية من العيش، وكم بذل من الثروات الطائلة في سبيل أصدقائه وعارفيه، وأخباره في هذا الباب لا تندرج تحت حصر، ويكفي أن تذكر على سبيل المثال موقفه مع صديقه (عمارة بن حمزة) وهو كعبد الله كاتب أديب، وقد كان عاملاً لأبي جعفر المنصور على الكوفة، وكان ابن المقفع إذ ذاك بها.

فبينما هو ذات يوم عنده ورد على عمارة كتاب وكيله بالبصرة، يعلمه أن ضيعة جوار ضيعته تباع وأن ضيعته لا تصلح إن ملكها غيره، وثمنها ثلاثون ألف درهم، فقرأ عمارة الكتاب وقال: ما أعجب هذا!! وكيلنا يشير علينا بالابتياع، ونحن في جدب وإملاق، ثم كتب يأمره ببيع ضيعته والتوجه حثيثاً إليه، وسمع عبد الله الحديث فقام إلى بيته وكتب إلى الوكيل على لسان عمارة، (أما بعد فقد كنت أمرتك ببيع الضيعة ثم حضر لي مال فلا تبعها واشتر الضيعة الأخرى وهاك ثمنها) ففعل الوكيل ما أراد، وجاء الخبر إلى عمارة، فأخذه العجب من ذوق ابن المقفع كل مأخذ، ثم قال له مداعباً: بعثت بثلاثين ألف درهم إلى الوكيل، وكنا في حاجة إليها؟ فقال له من فوره: وإن عندنا لفضلاً، وبعث إليه بثلاثين ألفاً أخرى)؛ فهل ترى بعد ذلك صديقاً كعبد الله يدفع عن أصفيائه الغوائل بنفسه وماله؟ وهل يليق بنا أن نغفل حديثه عن الصداقة بعد أن ضحى في سبيلها بأكثر من الواجب وجعل نفسه المثل الأعلى للصديق النبيل!

ومهما اختلفت الآراء في الصديق، فقد كان الأديب الحكيم يرفعه إلى منزلة عالية ويضعه في مرتبة فوق مرتبة الشقيق، وكثيراً ما عقد بينهما موازنة طريفة تنتهي بتفضيل الصديق عمن عداه. ولقد قال له بعض الناس أنا بالصديق آنس مني بالأخ، فعرف السرور في وجهه، وانبرى يدلل على صحة ما سمع، فقال لصاحبه: صدقت، فالصديق نسيب الروح، والشقيق نسيب الجسم!! وكثير من الحكماء يؤيدون الكاتب في دعواه بل ربما يسرفون إسرافاً يميل بهم إلى التحامل على القرابة بدون موجب. ومنهم من يقتصد في حكمه اقتصاداً لا يخرج به عن الإنصاف، فقد قيل لبزرجمهر، من أحب إليك؟ أخوك أم صديقك، فقال ما أحب أخي إلا إذا كان صديقي. وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة.

وينبغي ألا نغفل عن حقيقة ملموسة، وهي إن ابن المقفع ومن سار معه في طريقه، لم

ص: 22

يضطروا إلى الموازنة بين الصديق والشقيق إلى حين وقرت في نفوسهم منزلة الأخ.

وعجزوا أن يحولوا عنها الأنظار، فكان كل همهم أن يعارضوها بمنزلة الصديق، وهيهات أن يبلغوا ما يريدون؟ فالأخوة رباط رباني صنعته يد الخالق، والصداقة رباط إنساني عقدته يد المخلوق، وإنما كثر التحامل على الأخ والتشهير به أكثر من الصديق، لأن الشقيق مظنة الإيثار والعطف، فكل هفوة تصدر منه فهي كثيرة الكبائر وأر الذنوب.

أما الصديق فمهما سمت منزلته فلن تستغرب منه الهفوات لأنه بوضعه الطبيعي أجنبي بعيد، ومن هنا سكت عنه اللائمون - إلى حد ما - واتجهوا باللائمة القارضة على الأخ الشقيق!

وما نقوله في المفاضلة بين الصديق والشقيق نقوله أيضاً في الموازنة بين الصديق والعشيق، فقد طاب لبعض الناس أن يرفعوا الصديق إلى منزلة العشيق فقال الحسن بن وهب: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة.

وقال آخر: النفس بالصديق آنس منها بالعشيق، وأمثال هذه الأقوال قد تجد جانباً من الرواج لدى العاطفيين البله، ولكنها تتبخر أمام التحليل النفسي العميق، فالعشيق في مرتبة دونها الصديق والشقيق معاً، فكيف نفهم هذا الكلام العجيب؟ ولقد خدع الشريف الرضي نفسه بهذه الأقوال المرتجلة، فانبرى يقول في صديقه مالا يقال في غير العشيق، ولا أدري كيف تقبل منه صديقه الأديب الشاعر أبو الحسن البتي قصيدته التي يقول فيها بدون مبالاة.

أغار عليك من خلوات غيري

كما غار المحب على الحبيب

ولي شوق إليك أعل قلبي

ومالي غير قربك من طبيب

أكاد أراب فيك إذا التقينا

من الألحاظ والنظر المريب

وهي قصيدة طويلة تتجلى فيها غفلة الشريف إلى حد ما، وله من صفاء نفسه ورقة قلبه شفيع أي شفيع، ولعل من الأدباء من يوافق مذهبه كل الموافقة، وإن كنت وإياه على طريق نقيض!

وإذا كان الصديق في رأي ابن المقفع مفضلاً على النفس والشقيق، فإنه ينصح دائماً بالتؤدة في اختياره، ويدعو إلى التريث الزائد في اصطفاء الأصحاب، وكأني به وقد أدرك ما في

ص: 23

الطبائع الإنسانية من لؤم وغدر، فحرص على الامتحان العنيف حتى يتميز الخبيث من الطيب، فلا يختار العاقل غير من كان في درجة عالية من الكمال، ليكون أهلاً للفداء والتضحية من أجله إذا دعت الحال. وقد يسرف الكاتب في الحيطة والتؤدة إسرافاً يدعو إلى التملص من الصداقة بادئ ذي بدء، فهو يقول (إذا أقبل إليك مقبل فسرك ألا يدبر عنك فلا تنعم الإقبال عليه والتفتح له، فإن الإنسان طبع على ضرائب لؤم، فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه، إلا من حفظ بالأدب نفسه وكابر طبعه) وهذه الحيطة في البداية مقبولة معقولة، لاسيما وابن المقفع يرى أن الصداقة (زواج كاثوليكي) لا انفصام له، وهو لا يرى خلة أبشع من الهجرة والجفاء. ويعجبني جداً قوله في هذا السياق، (ولتعلم أنه لا سبيل لك في مقاطعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمملوك الذي تعنفه متى شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك وشرفك، وإنما مروءة الرجل إخوانه وأخواته، فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلاً من إخوانك، - وإن كنت معذراً - نزل ذلك عند أكثرهم فمنزلة الخيانة للإخاء، والملال فيه، وإن أنت مع ذلك تصبرت على مقارنة غير الرضى عاد ذلك إلى العيب والنقيصة، فالأنثاد الأنثاد والتثبت التثبت!!).

ولا يقتصر الحكيم الفارسي على إبداء رأيه في هذا الموضوع بل يلجأ إلى الافتراض والتعليل، ومع أنه لا يمثل الإطناب في القول فإن حرصه على تدعيم رأيه، يلجئه إلى الإسهاب والتكرار، ولا ينسى أن يضرب الأمثلة التطبيقية ليهلك من هلك بينه ويحيى من حي عن بينة. وفي كتاب كليلة ودمنة أقاصيص عديدة تدور حول هذه النقطة الهامة، وما أبرع عبد الله حين يقنعك بأقصوصة فرضية يختلقها اختلاقاً، فتقوم مقام ألف دليل، وتغنى غناء تاماً عن التحايل والتأويل؛ وإليك المثال.

قال الكاتب (إذا استضافك ضيف ساعة من نهار وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك) وهذا رأيه السالف في الاحتراس من الناس، ولكنه يتبعه بمثال فرضي يقطع به كل اعتراض، فيقول بعد ذلك (ولا تأمن أن يصلك من ضيفك أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث) ثم يسرد في إيجاز قصة وهمية عن قملة استضافت برغوثاً دون أن تعرفه، وأسكنته في فراش نائم سمين ثم أوصته أن يتريث فلا يلدغ النائم قبل أن يتأكد من رقاده،

ص: 24

ولكن الضيف الأحمق يتسرع فيلدغ الرجل ويهب من فراشه مذعوراً ليبحث عن الجاني فيطير البرغوث، وتصدع القملة بجريرة ضيفها الأثيم) فأي عاقل يسمع هذا المثال الحكيم ثم لا يجعل آراء ابن المقفع دستوراً حكيماً يطبقه على نفسه فيتشدد تشدداً تاماً في اختيار الرفيق.

وقد يفهم القارئ من آراء ابن المقفع أنه يدعو إلى التؤدة والتريث مع كل إنسان وهذا ما يتضح جلياً مما قدمناه؛ ولكن يخيل لنا أن هناك فرقاً بين إنسان ربطتك به جامعة أو إدارة أو بلد، فلم يصل إلى سمعك من أخباره ما يسود صحيفته، ويسئ سمعته، وبين إنسان نجم أمامك فجأة فلم تعلم عنه ما يزين أو يشين؛ فالمبالغة في الحيطة مع الأول قد تكون تعنتاً لا مبرر له، ومع الثاني يجد ما يسوغها بل يفرضها فرضاً لازماً على كل عاقل. ولقد أبدع الكاتب حين أسهب في الحديث عن صداقة الجرذ والغراب، فقد اطلع القارئ على ما يجب عليه من التريث التام في قبول الصديق بادئ ذي بدء، حيث صور الغراب في صورة مستكينة ذليلة وقد وقف أمام الجرذ يخطب وده ويرغب في مصاحبته؛ وهنا يبرز عبد الله حيطة الجرذ ناطقة في قوله للغراب، (ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل ينبغي أن يتلمس ما يجد إليه سبيلاً، ويترك التماس ما ليس إليه سبيل، فإنما أنت الآكل وأنا طعام لك) ويطنب أديبنا الحكيم في هذا المعنى فيقول مرة ثانية على لسان الجرذ (إن العداوة التي بيننا ليست تضرك وإنما ضررها عائد علي؛ وإن المال لو أطيل إسخانه لم يمنعه من إطفاء النار إذا صب عليها. وإنما مصاحب العدو ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه. والعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب) وما أظن بعد ذلك تهذيباً لمهذب وإرشاداً لمسترشد. ويجدر بنا أن نشير إلى أن ابن المقفع قد اختار الجرذ والغراب بالذات ليمحو ما قد وقر في بعض الأذهان من أن العداوة إذا وقرت في القلب لا تمحى منه، فهو يريد أن الإنسان بكياسته وحزمه قادر على أن يخلق من عدوه صديقاً مهما تغلغلت جذور البغضاء في قلبه، وهذه دعوة سافرة إلى التسامح الإنساني والرجوع إلى مبادئ الإخاء والتواد، فالمرء لا محالة مدني بطبعه، وإن خيمت في الأفق غيوم قاتمة من الإحن العاتية فعن قريب ستتبدد في هوج الرياح.

على أن حديث الغراب والجرذ لم ينقطع بعد، فقد شاء الأديب الكبير أن يجعل الحجة

ص: 25

للغراب في مطلبهن فيذكر على لسانه من الحكم الغالية ما يستنزل به العصم من معاقلها الشم، كأن يقول للجرذ، لا تصعب علي الأمر بقولك ليس إلى التواصل بيننا من سبيل، فإن العقلاء الكرام لا يبغون على المعروف جزاء، والمودة بين الصالحين سريع اتصالها بطئ انقطاعها، ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب، بطئ الانكسار سريع الإعادة، هين الإصلاح إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطئ اتصالها ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار، سريع الانكسار ينكسر من أدنى عيب، ولا وصل له أبداً. والكريم يود الكرم، واللئيم لا يود أحداً لا عن رغبة أو رهبة) ثم تنتهي القصة الممتعة بمصادقة الغراب والجرذ، وتعاونهما على النوائب في الحياة، تعاوناً يصل بهما شاطئ السعادة الهنيئة. وإذن فقد بلغ الكاتب ما يريده، حيث صور أولاً ما ينبغي بادئ الأمر من الحيطة والاتئاد، وكشف ثانياً عن خطأ ما يتوهمه الناس في أعدائهم المتناحرين، إذ أن من السهل الهين على هؤلاء أن يصبحوا بقليل من الكياسة، أحبة متوادين كأحسن ما يكون!!

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي

ص: 26

‌موقعة نصيبين

24 يونيه سنة 1839

للأستاذ السيد كمال درويش

أجمع المؤرخون على أن موقعة نصيبين هي بلا جدال اكبر انتصار أحرزه البطل الفاتح إبراهيم باشا في حروبه ضد الدولة العثمانية.

حدثت هذه الموقعة في اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيه سنة 1839 وبدأت في الساعة الثالثة بعد الظهر ولم تدم سوى ساعتين، انجلى بعدهما الميدان عن انتصار ساحق للمصريين وهزيمة شنيعة للجيش العثماني، ذلك الجيش الذي لاذ أفراده بأذيال الفرار بعد أن تركوا أربعة آلاف قتيل في الميدان وما يتراوح بين أثنى عشر ألف وخمسة عشر ألف أسير. أما الذخيرة التي استولى عليها الجيش المصري فقد قدرت بما يقرب من عشرين ألف بندقية وأربعة وسبعين مدفعاً. ومع ذلك فلم تكن هذه الغنائم على كثرتها شيئاً يذكر بجانب العثور على خزانة الجيش العثماني التي لم يتمكن العثمانيون في فرارهم من أخذها؛ وكان بها من النقد ما قيمته ستة ملايين فرنك؛ وأخيراً الاستيلاء على خيمة حافظ باشا قائد الجيش بما كان فيها من الأرائك التركية المطعمة بالصدف والأوراق الرسمية وحتى الأوسمة التي كان يتحلى بها ذلك القائد وقعت هي الأخرى في يد إبراهيم.

ولئن دلت هذه الغنائم على مدى أهمية ذلك الانتصار من الناحية الحربية والعسكرية البحتة، فقد كان لتلك الموقعة الحاسمة من النتائج السياسية ما أدى إلى أن أصبح محمد علي قاب قوسين أو أدنى من الجلوس على عرش السلطنة العثمانية بعد أن فقدت سلطانها الذي مات قبل أن تصل إليه أخبار الهزيمة، وجيشها الذي انهار في نصيبين وأسطولها الذي انضم بقائده إلى محمد علي؛ لولا التدخل الأوربي وتطور المسألة الشرقية نتيجة لهذا التدخل.

هذه لمحة سريعة عن أهمية هذه الموقعة التي كان بطلها إبراهيم. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن خطورة ذلك الدور الذي قام به إبراهيم خلال تلك الموقعة حتى أحرز ذلك النصر الحاسم. ولكي يتبين لنا أهمية ما قام به إبراهيم يكفي أن نعلم أن السلطان العثماني كان قد استعد لهذه الموقعة استعداداً كبيراً بولاية مصر إذا تم له الانتصار. وكان الجيش العثماني

ص: 27

هو البادئ بالتحدي وباجتياز الحدود المتفق عليها. وكان السلطان قد استعان بمجموعة من الضباط البروسيين لتنظيم الخطط الحربية للجيش العثماني وإقامة تحصيناته وإعداد وسائل دفاعه وهجومه على أحدث النظم الأوربية. وهكذا أخذ الجيش العثماني يواصل استعداداته وبناء استحكاماته في نصيبين حتى إذا انتهى من ذلك بدأ قائده يدس الدسائس ضد إبراهيم تمهيداً للاشتباك في موقعة فاصلة حاسمة.

وأدرك إبراهيم حقيقة الموقف فلم يأل جهداً في الاحتياط وفي تنسيق خطته هو الآخر؛ حتى إذا أشار عليه محمد علي بتأديب العدو وتعقبه كتب إلى حافظ باشا يقول: (إذا كنتم قد تلقيتم الأمر باستئناف القتال فما بالكم تدسون الدسائس؟ هلموا إلى ميدان القتال بصراحة وخوضوا غمرات الحرب كما يجب أن تخاض).

كان جيش العثمانيين يبلغ حوالي أربعين ألف مقاتل وكذلك كان جيش إبراهيم. وكان يقود الجيش العثماني حافظ باشا ويعاونه أركان حربه من كبار الضباط البروسيين وكان من بينهم هلموت فون ملكته (الذي قاد فيما بعد الجيش الألماني فهزم به فرنسا أثناء الحرب السبعينية المشهورة وخلد ذكره في موقعة سيدان) وكان من بينهم فون ملباخ. وعلى ذلك يمكن القول أن الجيش العثماني كان يمتاز على جيش إبراهيم بأركان حربه الألمان، وبقوة استحكاماته في نصيبين، وبخبرته بميدان القتال، وبابتداء الهجوم والعدوان، وبوفرة الجند والذخائر. أما إبراهيم فكان يعتمد على حماسة الجيش المصري وتماسك أفراده وشجاعة جنوده وحبهم للطاعة والنظام ثم على عبقريته الحربية كقائد.

وأيقن إبراهيم أن عليه إذا أراد النصر أن يفاجئ الجيش العثماني قبل أن يفاجأ هو بالهجوم. وكان الجيش المصري مرابطاً في الغرب من نصيبين. وأدرك إبراهيم أن الهجوم على العثمانيين في نصيبين مع التعرض لاستحكاماتها مجازفة خطيرة، لذلك قرر مهاجمتها من جهتها الشرقية بعيداً عن الاستحكامات المقامة في غربها. وقام إبراهيم بالالتفاف بجيشه جنوب نصيبين حتى وصل إلى شرقها وعبر في سبيل ذلك القنطرة المقامة على النهر ثم بدأ ينظم موقعة في شرق المدينة. والواقع أن إبراهيم وهو صاحب فكرة القيام بحركة الالتفاف هذه كان يدرك مدى خطورتها إذ كان يحتمل أن يخرج العثمانيون من استحكاماتهم لمهاجمته أثناء القيام بها في الجنوب من نصيبين أو أثناء عبوره القنطرة المقامة على

ص: 28

النهر؛ لذلك أتقن تلك الحركة وقام بتنفيذها بمنتهى الدقة والحرص والنظام حتى قال الضباط الألمان عنها فيما بعد: (لقد كانت حركات الجيش المصري تسير طبقاً لخطط الجيوش الأوربية المدربة على أرق فنون القتال العلمية).

وكما كان النجاح في تنفيذ تلك الحركة دليلاً على دقة إبراهيم وسرعة بديهته وحسن تصرفه وانتهازه للفرص وإدراكه الصحيح لما يتطلبه الموقف؛ نجدها أيضاً كانت دليلاً على جمود الجيش العثماني وجمود قائده وتردده في انتهاز فرصة الهجوم على الجيش المصري أثناء التفافه معارضاً بذلك نصيحة مستشاريه الألمان الذين غضبوا فقدموا استقالاتهم ولم يسحبوها إلا حين قيل لهم: (إن الجندي لا يستقيل قبل الموقعة). لقد كانت خطة حافظ باشا ترمي إلى تفضيل البقاء في نصيبين بدلاً من القيام بالهجوم في تلك المنطقة المكشوفة، ولذلك أخذ في إقامة استحكامات جديدة وعلى عجل في الجهة الشرقية حتى يعتمد عليها جيشه أثناء الموقعة.

ونظر إبراهيم فوجد القائد العثماني في تسرعه قد أهمل تحصين أكمة مرتفعة تجاه جناح جيشه الأيسر، وتقع في الشمال الشرقي من نصيبين. عند ذلك اغتنم تلك الفرصة فأرسل فرقة من جيشه فاحتلتها وبدأت تقيم فيها الاستحكامات وتنصب المدافع. ولم يتنبه حافظ باشا إلى أهمية تلك الأكمة غلا بعد فوات الأوان فأرسل فرقة عثمانية لاسترجاعها ولكنها ردت في الحال على أعقابها.

وواجه إبراهيم بجيشه شرق نصيبين وأدرك أن الجيش العثماني قد ركز قوته كلها في الميمنة والقلب. ولذلك كانت ميسرته أضعف جهاته. وكانت الأكمة التي أحتلها إبراهيم قد كشفت ذلك الجناح بأسره فجعلته تحت رحمته. وفي ذلك الحين أدرك إبراهيم أهمية احتلال تلك الأكمة كما أدرك ذلك أعداؤه، لاسيما المستشارون الألمان الذين قالوا عنها فيما بعد:(لقد كانت حركة احتلال الأكمة هي مفتاح النصر في هذه الموقعة).

عند ذلك قرر إبراهيم تركيز الهجوم على الميسرة في الوقت الذي يهاجم فيه العدو من جميع الجهات.

وبدأت الموقعة، ودوى صوت المدافع، واشتد الضرب من الجانبين وسقط القتلى والجرحى واستبسل العثمانيون. وتقدمت في أثناء ذلك ذخيرة المدفعية المصرية، فخفتت أصواتها

ص: 29

انتظاراً للإمداد فانتهز العثمانيون الفرصة، فصبت المدفعية التركية نارها بشدة على مواقف المشاة المصريين، فتقهقرت الصفوف الأولى، وكانت فرصة نادرة لهجوم الأتراك على مواقع المصريين ولكن إبراهيم يظهر بنفسه ويقف بين الجنود في تلك اللحظة الحرجة فيثبت المنهزمين ويجدد الحماسة في النفوس فيبدأ الهجوم من جديد وتصل الذخائر فيشتد ضرب المدفعية المصرية ويستمر الضرب والهجوم حتى تشتت شمل الجنود غير النظاميين في الجيش العثماني؛ فأحدثوا الاضطراب بالجيش، وتحطمت صفوف الجند النظاميين وارتبك الجيش كله فلاذ أفراده وسط الذعر والخوف بالفرار، وكما فعل الجيش فعل قائده الذي فضل الفرار على الوقوع في أسر المصريين.

ويسير إبراهيم في ميدان المعركة فيجد خيمة حافظ باشا، وينظر منها فلا يجد أحداً من الأعداء أمامه، فيكتب إلى أبيه ليعلمه بالنصر ثم يقول له في ذيل خطابه:(وإني أود أن أقتفي أثر الأعداء ولكني لا أجد منهم أحداً).

حقاً؛ لقد كان إبراهيم قائداً حربياً ممتازاً. ولئن دلت موقعة نصيبين على مهارة الجيش المصري وكفاءته فإنها لتدل أيضاً على ما امتاز به قائده من عبقرية نادرة مكنته من إحراز ذلك النصر الحاسم الذي يعد بحق من أعظم الانتصارات الحربية في التاريخ.

كمال السيد درويش

مدرس بمدرسة الرمل الثانوية

وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جمعية فاروق

ص: 30

‌القبائل والقراءات

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

- 3 -

يخطئ من يحسب أن القبائل العربية كانت تجري في تعديتها للأفعال أو تصريفها على منوال رتيب. ومن العسير معرفة ما إذا كانت هذه القبيلة تتجه إلى زيادة مبنى الألفاظ أو تلك تميل إلى اختصارها؛ فمثلاً قبيلة تميم تقول أجزأ عني بمعنى قضى وأمضني هذا الأمر. وأسحنه الله وآلانه عن وجهه. وغيرها يقول جزى عني ومضني وسحته ولاته بينما تقول تميم جبرت فلاناً على الأمر. وهلك الله الظالمين وخلا فلان على اللين بمعنى اقتصر عليه وغيرها يقول أجبرته وأهلكهم وأخلى. ونجد تميماً تقول: حسب يحسب على وزن علم يعلم وبرئ المريض يبرأ على وزنه كذلك ويقول الحجازيون حسب يحسب بكسر السينين وبرأ يبرأ بفتح الراءين. هذا في حين إن تميماً تقول رضع يرضع وعرض له الأمر يعرض على وزن ضرب يضرب فيهما ويقولهما الحجازيون على وزن علم يعلم كما تقول القبائل بما فيها تميم جنح لكذا بفتح النون ويختلفون في نون مضارعها فتميم تفتحه وقيس تضمه وغيرهما يكسره. أما من حيث الزيادة والنقص فترى تميماً تقول اتخذت وهو الذي ينتقد الدراهم، والكراهية. وليله أضحيانة وغيرها يقول تخذت وهو الذي ينقد الدراهم وليلة ضحيانه. هذا في حين أن تميماً تقول مذ وأنتم لله بدون نون فيهما، وتفتح همزة أيم، وثنتان بدون ألف؛ وغيرهما: اثنتان ومنذ وأيمن الله ومن القبائل من يقول أيم بكسر الهمزة وهم بنو سليم. وأم بدون ياء وهم أهل اليمامة وأغلبهم بنو حنيفة.

ومن حيث الواو والياء والألف نجد تميماً تقول: القنوة وقلنسوة والقار ويقول الحجازيون القنية والقلنسية والقير في حين أن قبائل نجد ومنها تميم يقولون القصيا وتجمع تميم وضبة القنو على قنيان بالياء وضم القاف والحجازيون يقولون القصوى ويجمعون القنو على قنوان بالواو وكسر القاف وقبيلة قيس تقول القصوى وتجمع القنو على قنوان بواو وضم القاف، وقبيلة كلب تجمعه على قنيان بالياء وكسر القاف.

ومن حيث الحركات نجد تميماً وتشاركها في بعض ذلك قيس وأسد تقول: الزعم والفواق والأسوة ومرية بضم أول الكلمات ويفتح الحجازيون أول الأولين ويكسرون أول الأخيرين

ص: 31

في حين أن تميماً تقول عقر الدار والشهد وربوة بفتح أول الكلمات، والصحف والطرف والمغزل والرجز بكسر أولها ويضم الحجازيون أول الرجز وعقر الدار والشهد وربوة وتضم قيس أول المصحف والمطرف والمغزل.

فنحن كما نرى لا نجد لأي قبيلة طريقة واحدة في أوزان الأفعال وكيفية تمدينها ولا منهجاً مثقفاً في الميل إلى الزيادة أو النقص ولا خطة ثابتة تسلكها في صوغ الكلمات.

أما ما ذكرته سابقاً من الإمالة والتسهيل وتحزهما فذلك من العادة اللغوية التي لا تشذ عن قالبها الجماعة المرتبطة والبيئة المتفقة ولما كان حصر كل الألفاظ التي وردت في المعاجم والكتب منسوبة إلى القبائل مما لا يعنينا على وجه العموم فسأقتصر في الألفاظ على ما جاء في القرآن بقراءاته. ولست أزعم أنني قد حققت جميع ألفاظه؛ إذ أن كثيراً من الكلمات لم تنسب إلى قبائلها مع أن فيها لغات مختلفة تجعلها متغايرة الأوزان. ولما كنت قد أخذت على نفسي أن أذكر ما لكل قبيلة من لهجة كان لها أثر في القراءات أو اللغة ونحوها وصرفها فإني أكمل أولاً ما اختلفت فيه قبيلة تميم من جهة النحو والصرف ولو لم يكن له أثر في القراءات.

(1)

تنوين الترنم:

يقسم النحاة التنوين إلى (أ) تنوين التمكين. وهو اللاحق الأسماء المعربة. (ب) تنوين التنكير وهو اللاحق الأسماء المبنية. (ج) تنوين المقابلة وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم. (د) تنوين العوض وهو اللاحق للأسماء المنقوصة. (هـ) تنوين الترنم وهو يلحق أواخر القوافي المطلقة التي في آخرها حركة. وهذا التنوين في لغة تميم وقيس تلحقانه للمحلى بأل وبالفعل سواء كان ماضياً أم مضارعاً وبالضمير وبالحرف. والاصطلاح على أن اسمه الترنم مخالف لأثره الناشئ عنه إذ أنه في الواقع يقطع ترنم المنشد حين يشبع الحركة بما يجانسها من حروف العلة فينطق بنون ساكنة تصحب الحركة القصيرة ولهذا سماه بعضهم تنوين قطع الترنم ومن شواهده التي تروى لاحقاً للمحلى بأل والفعل قوله:

أقلي اللوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

ولاحقاً بالحرف قوله:

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما نزل برحالنا وكأن قدن

ص: 32

ولاحقاً بالضمير قوله: يا أبتا علك أو عساكن.

هذا وسماه صاحب الإتقان تنوين الفواصل إذا كان في القرآن وخرجوا عليه قول الله تعالى (وأكواب كانت قواريرا) قال الزمخشري وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة.

وكذلك قال في قراءة من قرأ (سلاسلاً) بالتنوين: إنه بدل من حرف الإطلاق أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر حيث يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم كما قال الراجز (يا صاح ما هاج للدموع الذرمن).

وقرأ أبو الدينار الأعرابي (والفجر. . . والوتر. . . يسر) بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين وإن كان فعلاً وإن كان اسماً فيه ألف ولام.

(2)

لغة تميم إهمال (ليس) إذا اقترنت بها (إلا) كقولهم: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله برفع طاعة والحجازيون ينصبونها. قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال يا أبا عمر ما شيء بلغني عنك تجيزه! قال وما هو؟ قال بلغني أنك تجيز (ليس الطيب إلا المسك) بالرفع قال أبو عمر ونمت يا عيسى وأدلج الناس ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع ثم قال أبو عمر وقم يا يحيى يعني اليزيدي وأنت يا خلف، يعني خلفاً الأحمر، فاذهبا إلى أبي المهدي فلقناه الرفع فإنه لا يرفع واذهبا إلى أبي المنتجع فلقناه النصب فإنه لا ينصب فذهبا فأتيا أبا المهدي فلقناه الرفع فلم يرفع وقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي، ثم أتيا أبا المنتجع فلقناه النصب وجهدا به فلم ينصب وأبى إلا الرفع. فأتيا أبا عمرو وأخبراه فأخرج عيسى بن عمر خاتمه من يده وقال. ولك الخاتم هذا والله فقت الناس.

(3)

كم الخبرية: تمييز كم الخبرية واجب الخفض ويكون مفرداً ومجموعاً إلا أن التميميين يجيزون نصب تمييزها إذا كان مفرداً وقد جاء في رواية لبيت الفرزدق:

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاه قد حلبت على عشارى

بنصب عمة إلى أنها تمييز لكم الخبرية على لغة التميميين، وقيل إن كم هنا استفهام تهكمي. واستعملت كم في القرآن بأن يقترن تمييزها بحرف الجر (من)، (وكم من ملك) أو يتصل الفعل بها مباشراً (كم تركوا من جنات وعيون).

ص: 33

(4)

أمس: يبني الحجازيون أمس على الكسر رفعاً ونصباً وجراً. ظرفاً وغير ظرف يقولون رأيته أمس وذهب أمس بما فيه وما رأيته مذ أمس. وقد ورد:

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

وطلوعها حمراء قانية

وغروبها صفراء كالورص

اليوم أعلم ما يجيء به

ومضى بفصل قضائه أمس

أما تميم فتبنى أمس على الكسر في حالتي النصب والجر وتعربه إعراب مالا ينصرف في حالة الرفع، وقد قيل:

اعتصم بالرجاء إن عن يأس

وتناس الذي تضمن أمس

ومن بني تميم من يعربه إعراب مالا ينصرف في حالتي النصب والجر أيضاً، وقد قيل:

لقد رأيت عجباً مذ أمسا

عجائزاً مثل السعالي خمساً

يأكلن ما في رحلهن همساً

لا ترك الله لهن ضرسا

ومن بني تميم من يعربه إعراب المنصرف فيبنونه في الأحوال الثلاث، والقرآن الكريم لم يستعمل أمس؛ إنما استعملها معرفة بالألف واللام مجرورة بالباء (فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه. قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون).

(5)

ما كان عاماً على فعال يعربه بنو تميم ممنوعاً من الصرف وبعضهم يصرفه وقد جاء:

قد مر دهر على وبار

فأهلكت جهرة وبارُ

أما الحجازيون فيبنونه على الكسر وأكثر بني تميم يوافقون الحجازيون فيما كان آخره راء كحضار وبعضهم يعربه أيضاً كإعراب مالا ينصرف وأغلب الأشعار جاءت على لغة الحجازيين قال لجيم بن صعب:

إذ قالت حزام فصدقوها

فإن القول ما قالت حزام

وقال النابغة:

أتاركة تدللها قطام

وضناً بالتحية والكلام

هذا وقد اتفق الحجازيون والتميميون وسائر العرب على بناء فعال المدول على الكسر إذا كان مصدراً إلا بني أسد فإنهم يبنون هذا النوع على الفتح تخفيفاً وقد جاء على الأكثر:

ص: 34

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي

(6)

المصدر النكرة الواقع بعد أما يجوز رفعه عند التميميين يقولون (أما علم فعالم)؛ إلا أن الأرجح عندهم النصب، والحجازيون يوجبون نصبه، وإذا كان المصدر بعد إما معرفة فالأرجح عند الحجازيين رفعه ويجيزون نصبه نحو أما العلم فعالم لكن بني تميم يوجبون رفعه، وقد روى على لغة الحجازيين بجواز النصب في المصدر المعرفة قول الشاعر:

ألا ليت شعري هل إلى أم معمر

سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا

بنصب الصبر بعد أما.

(7)

تقول العرب في كلامها: بعداً له وسحقاً أو قبحاً له وترحاً، أما تميم فإنها ترفع فتقول بعدٌ له وسحق كقولك غلام له وفرس.

(8)

من ثلاثة إلى عشرة تنصب عند الحجازيين على الحال إذا أضيفت إلى ضميرها تقدمها يقولون جاء القوم ثلاثتهم ومررت بهم ثلاثتهم (بنصب ثلاثتهم في الجميع أما بنو تميم فإنهم يتبعون ذلك لما قبله في الإعراب توكيدأ له فيرفعون في المثال الأول وينصبون في الثاني ويجرون في الثالث.

(9)

بنو تميم يتبنون مفعولاً من الياء فيقولون ثوب مخيوط ورجل مديون وقد ورد: (فكأنها تفاحة مطبوبة) وورد (يوم رذاذ عليه الدجن مغيوم) وقول الشاعر أيضاً:

قد كان قومك يزعمونك سيداً

وأخال أنك سيد معيوب

وبعضهم يجري ذلك في لواوي أيضاً وقد جاء: (والمسك من عنبره مدووف) وورد فرس مقرود وثوب مصوون ورجل معوود، أما غير تميم فإنهم يعلون ذلك بالحذف سواء أكان من الياء أم من الواو فيقولون مخيط ومدين ومصون. . . الخ.

(10)

لبني تميم في الحلقي العين الثلاثي تفريعات:

(أ) أن يكسروا الحرف الحلقي فإذا كسروه فقد يتبعون فاء الكلمة لعينها يقولون فَخِذٌ (اسماً) ونَهِلَ (فعلاً) بفتح الأول وكسر الثاني منهما، أو فخذ ونهل بكسر الأول والثاني منهما.

(ب) أن يسكنوا الحرف الحلقي يقولون فُخْذٌ ونَهْلَ بفتح فسكون فيهما.

(ج) أن ينقلوا حركة عين الكلمة وهي الكسرة إلى فائها ويسكنون عينها يقولون فخذ ونهل بكسر فسكون فيهما.

ص: 35

وما كان على وزن فعيل يكسرون فاء كلمته تبعاً لعينها إذا كانت العين أحد حروف الحلق وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء يقولون: زئير وشهيق وسعيد ورحيم وشخير ورغيف بكسر أولها وثانيها جميعاً. ومنهم من يفعل ذلك في فعيل ولو لم يكن عينه حرف حلق فيقولون كبير وجليل هذا وتشاركهم في أغلب ذلك قبيلتا قيس وأسد.

(للبحث بقية)

عبد الستار أحمد فرج

محرر بالمجمع اللغوي

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

على هامش اليونسكو:

يوالي مؤتمر اليونسكو عقد جلساته في بيروت، وتلقى في هذه الجلسات خطب تتضمن الإشادة بمثل الثقافة الإنسانية والتعاون العالمي في الميدان الفكري، وتقدم اقتراحات، وتؤلف لجان. ويلاحظ في تبادل التحيات بين ممثلي الدول المختلفة، ما يبديه رجال الغرب من تنويه بفضل ثقافة العرب على الحضارة الغربية، وعزم على توثيق الروابط الفكرية بين الشرق والغرب، ثم ثناء على كرم الضيافة العربية.

وكل ذلك جميل رائع، ولكن لست أدري أي شيطان بعث إلى تصوري بجانب ذلك صورة كلاب الحراسة التي ضربها أستاذنا الزيات مثلاً للمهذبين من بني آدم. . . قلت في نفسي، أو قال لها ذلك الشيطان: إنها نوبة التهارش! ألست تتمثل أولئك المندوبين العالميين في قصر اليونسكو تحت ظلال أشجار الأرز بلبنان. .؟ يكادون يذوبون من فرط الرقة والتلطف والمجاملة فليس هناك وجبة تقدم ولا عظمة في حواشي الفناء. . . . المسألة كلها خطب وفلسفات، فما الداعي إلى العراك وتحلب الأشداق واحمرار الأحداق؟ هذا مكانه (ليك ساكسس) و (قصر شايو) حيث يأكلون لحم الأمم الصغيرة وعظامها أيضاً. أما في مؤتمر الثقافة فلا بأس من التظاهر بالتعاطف والثناء على الشرق وكرم الضيافة العربية. وسينفض المؤتمر ويترك الحبر على الورق ويعود المندوبون رجال سياسة، كما يعود الزعماء والوزراء وغيرهم من الكبار إلى قصورهم ومكاتبهم بعد زيارة الفلاحين في حقولهم وتقديرهم لمجهود الفلاح وفضله، ورثائهم لسوء عيشه، ووعدهم بتحسين حاله ورفع مستواه.

وعد بنا إلى كلاب الحراسة تحت ظلال الشجر. . . هذه الكبار توطئ أكتافها للصغار وتبدي لها الود، وهؤلاء مندوبو الغرب يقترحون على اليونسكو مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في حدود اختصاصها، ويشكرهم مندوبو البلاد العربية. ويقول لي ذلك الشيطان: أترى في ذلك أكثر من العطف العقيم في أثناء التهارش تحت ظل الأشجار. . . أم ترى اليونسكو تعمل شيئاً جدياً لهؤلاء المساكين غير (التوصيات). . .!

ص: 37

ذكرت بذلك حكاية جارية غنت في مجلس فأجادت، فقام إليها رجل من الجالسين وقال لها: بأبي أنت وأمي، وددت لو كان لي مال فوهبته لك. . ولكنني أرجو أن يجعل الله لك كل حسنة لي ويجملني عنك كل سيئة عليك. فأقبلت عليه الجارية وشكرته. فتقدم رجل آخر وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة طالق إن كان قد وهب لك شيئاً أو حمل عنك ثقلاً، فماله حسنة يهبها لك ولا عليك سيئة يحملها عنك، فعلى أي شيء تشكرينه؟

عزيزي الأستاذ محمد عبد الوهاب

أعبر لحضرتكم عن شعوري إذ أقول إن قلبي كان معكم حينما كتبت إلى الآنسة أم كلثوم في شأن تحكمها في الإذاعة، أو إغداق الإذاعة عليها، بمنحها خمسين جنيهاً في كل مرة تذاع لها أغنية مسجلة مأجورة عند تسجيلها، حتى يقدر مجموع ذلك بنحو ألف جنيه في الشهر.

كان قلبي معك يا أستاذ عبد الوهاب، لأن الإذاعة تخص أم كلثوم بتلك المعاملة الهائلة. . أما أغنياتك المسجلة فتشكو الأثير جراحاً. . ولذلك سرني ما نشر من أنك طلبت عدم إذاعة أغانيك، وأن الإذاعة رجتك أن تعدل عن هذا الطلب مؤقتاً إلى أن تعقد معك اتفاقاً جديداً.

فامض في طلبك وتشدد فيه، فإن هذه الإذاعة لا ينفع معها غير ذلك. وإنك لابد ظافر بألف جنيه في الشهر، وأعلم أنك وأم كلثوم الدعامتان اللتان يقوم عليهما فن الغناء والموسيقى في هذا العصر، وأن أمثالكما من كبار الفنانين في روسيا الشيوعية ينالون أكبر الأجور ويصيبون أوفر حظاً من الترف والنعيم، كما يترامى إلينا من وراء الستار الحديدي.

فاحرص أيها الفنان العظيم على ذلك الحق (الشيوعي) كما تحرص عليه أم كلثوم، وكما يحرص عليه كبار الموظفين في الإذاعة وإن لم يكونوا من الفنانين. . . وعلى كل مذيع بعد ذلك، وعلى الديموقراطية، وعلى الإذاعة، السلام. . . وسلام عليك.

نحو الحياد الثقافي:

نشرت (المصري) لمراسلها بباريس عن أنباء موسكو أنه صدر فيها بلاغ رسمي جاء فيه أن أكاديمية العلوم ستنشر 42 كتاباً في سنة 1949 عن الدراسات الشرقية منها كنب هامة عن العرب والأدب العربي الحديث، وقد كتب عن الموضوع الأخير المستشرق برجناني

ص: 38

كراشكوفسكي، وأهم ما كتب فيه يتعلق بالمؤلفين والكتاب العرب في خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وستنشر الأكاديمية أيضاً كتاباً عن تحليل ما بقي من اللغة العربية في اللغات التي يستخدمها سكان جمهورية أوزبك السوفيتية، وعنوان الكتاب (العرب في أسيا الوسطى).

وعلق المراسل على ذلك بأن هذا الاهتمام من جانب روسيا بشؤون العرب لا يقاس إلى جانب المعركة الخفية بين رجال الحزب الشيوعي وبين رجال الدين الإسلامي في جنوب الاتحاد السوفييتي وذكر المراسل كلاماً كثيراً دلل به على هذه المعركة، منه امتناع التلاميذ المسلمين عن المدارس لاعتقادهم أن في المواد الدراسية ما يتنافى مع الدين الإسلامي، ومنه استغلال بعض الكتاب حرية النقد في الطعن في الإسلام وإنكار وجود الله. . الخ.

ولا شك إن المقارنة بين اهتمام روسيا بشؤون العربية الأدبية والثقافية وبين المعركة الدينية الخفية، خلط ظاهر. . . فالخبر نفسه ذو أهمية كبيرة، فنحن نسعى إلى رواج أدبنا وثقافتنا في العالم ونحب أن نعرف بأنفسنا، وأن يتحقق التعاون الفكري العالمي بالأخذ والعطاء بيننا وبين سائر الدول شرقية وغربية. والأمم الرشيدة تعمل لنشر ثقافتها في خارج حدودها، وتبذل في هذا السبيل جهوداً كبيرة. فلا يجوز أن نواجه اهتمام أي دولة بآدابنا وشؤوننا الفكرية - بالتهوين من شأنها بمثل هذا الكلام. وهل نحن نقول للمستشرقين الفرنسيين إن جهودكم في خدمة التراث العربي لا قيمة لها لأن فرنسا تصنع بمسلمي المغرب ما تصنع؟ وهل نقول مثل ذلك للمستشرقين الهولنديين لتنكيل هولندا بمسلمي إندونيسيا؟ ثم إنجلترا التي تقفل جنوب السودان في وجه الإسلام وتيسر للمبشرين من إرساليات الكاثوليك والبروتستانت أن ينشروا هناك دعاياتهم الدينية - أنرفض التعاون مع مستشرقيها لذلك. . .؟

وإذا كنا ندعو إلى الحياد السياسي أو نختلف فيه، فما أظن الحياد الثقافي إلا جديراً بتأييده والإغداق عليه.

ضيعة الشباب في مصر:

تلقت وزارة المعارف كتاباً من اتحاد الطلبة لجامعات فرنسا يطلب فيه موافاته بما قامت به مصر في خدمة شبابها. وقد أخذت الوزارة في إعداد البيان المطلوب.

ص: 39

وخدمة الشباب هي استغلال أوقات فراغهم في إنماء ثقافاتهم وإبراز ملكاتهم الفنية وتعهدها، وتربية أذواقهم وأبدانهم، بالمطالعة والمحاضرة والسينما الثقافية والرحلات والألعاب وغير ذلك من مختلف الوسائل. وتقوم بها في مصر إدارة خدمة الشباب بوزارة المعارف وبعض الجمعيات الكبيرة كجمعية الشبان المسلمين وجمعية الشبان المسيحية وجمعية الأخوان المسلمين، والثانية أكثرها نشاطاً في هذا المضمار.

أما إدارة خدمة الشباب فهي إدارة صغيرة ناشئة تشق طريقها جاهدة في حدود (المستطاع) وهو قليل. وحسبك أن تعلم أنه لا ميزانية لها. . بدأت العمل وسارت فيها وقطعت أشواطاً وليس لها اعتماد مالي!

لم تقف أمام ضيق الميزانية جامدة، بل تلفتت حولها فلمحت إلى جانبها (إدارة التأمين الاجتماعي) وهي ذات صندوق يتكون ما فيه من النقود التي يدفعها طلبة المدارس الثانوية بقصد التعاون الاجتماعي بينهم، ينفق منها على من يحتاج منهم إلى المساعدة في الأغراض والحالات الضرورية. نظرت إدارة خدمة الشباب إلى أختها إدارة التأمين الاجتماعي، وهشت لها وتلطفت قائلة: ألسنا نتحد في الغاية وهي العمل لمصلحة الشباب؟ فلم تضن عليها بل وضعت نفسها وما تملك في خدمتها أي خدمة الشباب. . .

وبذلك استطاعت إدارة خدمة الشباب أن تعمل، فنظمت المهرجان الأدبي والفني، ودعت الشباب إلى مشاهدة الأفلام الثقافية في دارها، وتعاقبت أفواج منهم في الاصطياف بمخيماتها على شاطئ الإسكندرية في الصيف الماضي. وأخيراً تم إنشاء سبعة فروع منها موزعة بمدارس القاهرة، في كل منها ما يتيسر من وسائل التثقيف وأنواع الفنون والألعاب.

كل ذلك ليس بشيء إلى جانب ما ينبغي لخدمة الشباب في هذه البلاد التي تتسكع فلذات أكبادها في طرقاتها كالكلاب الضالة. . واذهب إلى الأحياء التي تسكنها الطبقات المتوسطة، وهي التي يتكون منها سواد الطلبة في المدارس، مثل عابدين وجنينة قاميش وبعض جهات شبرا والعباسية، وانظر ماذا يصنع الشباب في أوقات الفراغ. . فهذه جماعات على الطوار تحملق في الغاديات والرائحات، وتصطنع نوعاً من الغزل (الشوارعي) كثيراً ما يجر المشاكل والمعارك. والمحظوظون السعداء هم الذين ظفروا من

ص: 40

ذويهم ببعض النقود فاستبقوا إلى دور السينما والمقاهي. وهذه الطبقات تنعدم فيها أسباب الفائدة في قضاء أوقات الفراغ إلى ما هو معروف من الفوضى في حياة الأسر وسوء التربية المنزلية؛ ومن ثم ندرك الحاجة الماسة إلى الوسائل العامة لخدمة شبابنا، ومما يرثى له أن هذه الحاجة لا يقابلها ما ينبغي لها من الجهود والعناية، على حين نجد البلاد التي ليست حال الشباب بها كذلك لتقدم الحياة الاجتماعية فيها تهتم بخدمة الشباب اهتماماً لا يذكر بجانبه ما تظفر به هذه الخدمة في مصر، فلو أحصى من نصل إليهم من أسباب إدارة خدمة الشباب لم يزيدوا على ألف شاب من القاهرة، ويبقى بعد ذلك في العاصمة والأقاليم مئات الآلاف مضيعين، بل إن الذين يستفيدون فعلاً لا يتحقق لهم مما يرجى إلا القليل.

إنه إذا أمكن حصر الخدمات التي تقوم بها الدولة والهيئات للشباب بمصر في أي تقرير أو بيان، فإن ضيعة الشباب بها لا ينتهي الكلام فيها عند حد. . .

من ظرف المجالس:

كان موضوع الحديث مذهب (السريالزم) في الفنون الذي يرمي إلى الفضاء وصفها بالجمال. . فإنك تنظر إلى الصورة فلا تعرف لها معنى، وتستعين بصاحبها فلا تجد في شرحه غناء. والشيء الوحيد الذي تتركه هذه الصور في نفسك هو تأثرك من بشاعة منظرها وما فيها من العبث بالطبيعة. . . وقد سرب هذا الاتجاه إلى قليل من الشعر العربي الحديث، وإن كان يقف بهذا القليل عند من يأتي به!

نص أحد الأصحاب ما حدث أخيراً في أحد المعارض الأوربية إذ زاره رسام أمريكي وشاهد فيه بعض الصور مقلوبة الوضع، وراجع ما كتبه النقاد من أنصار (السريالزم) عن هذا المعرض فوجدهم قد أثنوا على صوره، وخصوا الصور المقلوبة بوافر الثناء ولم يلاحظ أحد منهم أن أعلاها في أسفلها وأسفلها في أعلاها!

قال آخر: العجيب أن (السريالزميين) يقولون إنهم ينتفعون بالنظريات العلمية والثقافات الحديثة، ولكن ما أثر هذه النظريات والثقافات في إنتاجهم هذا؟

قال ثالث: أثرها واضح يا أخي كل الوضوح. . ألست ترى ما فيها من آثار مذهب دارون في النشوء والارتقاء.؟

تركيب:

ص: 41

نظرت لجنة الألفاظ والأساليب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في هذا التركيب: (يحب ابنه كما لا يحب والد ولده) هل هو صحيح، وما هو التركيب الفصيح الذي يؤدي هذا المعنى؟

قال بعض الأعضاء إنه تركيب سليم وتخريجه: يحب ابنه مثل حب عظيم لا يحبه والد ولده.

فقال عضو آخر: إننا إذا فرضنا صحته فإن الركاكة بادية عليه ولم اللجوء إليه وإلى تصويبه والتعبير الفصيح المماثل له ورد في القرآن الكريم وهو (ومن كفر فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين)؟ وعلى ذلك يكون ذلك التركيب فصيحاً هكذا: يحب ابنه حباً لا يحبه والد ولده. فاستحسن الأعضاء هذا الرأي وأقرته اللجنة.

عباس خضر

ص: 42

‌البريد الأدبي

كاد (أن):

درجت أفهم في صحيح اللغة أن المضارع الواقع في موضع خبر (كاد) لا يقترن ب (أن) وذلك هو القياس المطرد، وكل ما جاء على خلاف فهو من الضرائر - إن كان شعراً - ومن الشذوذ - إن كان نثراً - كقول رؤبة:

ربع عفاه الدهر طولاً فانمحى

قد كاد من طول البلى أن يمصحا

قال سيبويه: وقد جاء في الشعر (كاد أن) يفعل شبهوه بعسى؛ قال رؤبة: (قد كاد من طول البلى أن يمصحا)؛ وكقول آخر:

وجدت فؤادي كاد أن يستخفه

رجيع الهوى من بعض ما يتذكر

فهو أيضاً من الضرائر الشعرية وليس بأصل كحد قول الآلوسي في (ضرائره). وقد كنت هكذا أفهم استعمال (كاد) وخلو خبرها المضارع من أن؛ حتى طلع علينا الأستاذ الزيات صاحب الرسالة وأستاذ البلاغة بالخبر اليقين حين قال: (إن حالتها (تكاد أن) تكون طبيعية. . .) فآمنت بخلاف ما كنت أؤمن، وقوي إيماني به في حينه ما ورد على الخاطر مما ورد في صحيح البخاري (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) ثم ما جاء في الحديث أيضاً - وهو نادر - (كاد الفقر أن يكون كفراً).

وبعد. فهذا الذي سبق هو مفهومي من القول الفصل مع قصر الباع والذراع. . . وعلى المريدين أن يدلوا بدلوهم في الدلاء كل على قدر شطئه ورسنه. . . والسلام.

عدنان

(الرسالة): الذي نذكره على البعد من كتب المراجعة، أن الأفعال الناقصة التي يجب أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً يحب اقترانه بأن في أفعال الرجاء، وممتنع في أفعال الشروع ويجوز في أفعال المقاربة على قلة في بعضها وكثرة في البعض الآخر، كما نذكر كذلك قول البحتري:

أتاك الربيع الطاق يختال ضاحكاً

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

المصحف المبوب:

ص: 43

ما كنت أظن أن تجد فكرة المصحف المبوب معارضاً، لأنها أمنية طالما تمناها كبار العلماء لتظهر بها كل سورة من سور القرآن الكريم متسقة المعاني، منتظمة المباني، معروفة الأغراض، محددة الأبواب، وليس هذا علم الله في القشور، وإنما هو لب اللباب، وحدث عظيم في ترتيب المصحف.

ولكن كيف يمر هذا من غير معارض، وقد طال بنا إلف كل قديم، حتى صار السكون عندنا بركة، وكرهنا كل حركة، وأسأنا الظن بكل جديد، وأخذنا الجديد النافع بذنب الجديد الضار.

وماذا في فكرة المصحف المبوب من الضرر؟ يقول الأستاذ الفاضل عمر إسماعيل منصور إنه يود أن يشعر المسلمون بأن كتابهم مقدس، وليس عرضة لكل مبتكر، إذ من الجائز أن يختلف والتبويب، فيظهر المصحف في عدة طبعات، فإذا بوبه اليوم فلان، فسيبوبه غداً غيره، فيقولون قرآن فلان، ومصحف فلان، وتكون فتنة، وكلما تفلسف شخص أضاف فكرة جديدة، ما دمنا قد فتحنا هذا الباب.

فالأستاذ عمر إسماعيل منصور في هذا يكره الابتكار لذات الابتكار، ولا يفرق فيه بين نافع وضار، ثم يوهم أن التبويب سيحدث تغييراً في نظم المصحف، مع أنه سيكون بهامشه ولا يدخل في صلبه، فمثله كمثل المصحف المفسر الذي ظهر منذ سنتين، وتناوله عدد من المفسرين، ولكل عدد منهم طريقته في تفسيره، وفي موضعه من المصحف باختلاف طرقهم في التفسير ووضعه، بل اختلفت القراءات بيننا، وقيل قراءة فلان وقراءة فلان، وهو اختلاف يرجع إلى لفظ القرآن، فلم يحدث منه فتنة أيضاً، وسيكون هذا شأن المصحف المبوب، إن شاء الله تعالى.

عبد المتعال الصعيدي

الحصار السلمي في الشرع الدولي:

هو منع السفن من الدخول أو الخروج من مرافئ الدولة التييفرض الحصار عليها؛ وأول مرة وقع فيها ذلك كان عامك 1827 حينما حاصرت دول فرنسا وبريطانيا وروسيا مرفأ نافنرين منعاً للقتال في بلاد اليونان، ثم تكرر ذلك عندما حاصرت بريطانيا سواحل اليونان

ص: 44

عام 1850 تأييداً لمطالب أحد رعاياها اليهود، فتوسطت فرنسا في هذا الشأن، وعرضت القضية على لجنة التحكيم التي ظهر لها بعد التحقيق أن مطالب اليهودي المذكور هي 150 فرنكاً؛ ووقع بعد ذلك للمرة الثالثة لما حاصرت الدول العظمى عدا فرنسا سواحل اليونان عام 1886 ولكن هذا الحصار كان مفروضاً على السفن اليونانية وحسب.

ويشترط في صحة الحصار أن يبلغ إلى الدولة المعتزلة (الحيادية) وتعاقب السفن التي تخترق خط الحصار طبقاً لإحدى النظريتين الفرنسية أو البريطانية؛ فالنظرية الفرنسية تفضي بالقبض على السفينة حتى ينهار الحصار، ولا يسمح بامتلاكها واغتنامها؛ أما النظرية البريطانية فتبيح امتلاك السفن التي تخترق خط الحصار، وتعدها غنيمة. ولكن النظرية الفرنسية هي المتبعة في الجمعية الدولية؛ وقرار مجمع الحقوق الدولية المنعقد عام 1887 كان موافقاً لها.

محمد أسامة عليبة

أوهام لغوية:

قرأت في الرسالة العدد 801 تحت عنوان سر الحاكم بأمر الله للأستاذ عباس خضر هذه العبارة (. . . والحادثة الهامة في القصة أو العقدة فيها ادعاء الحاكم بأمر الله الألوهية) واستعمال كلمة هامة في هذا المكان للدلالة على أهمية الحادثة وهم لغوي! وكان الصواب أن يقول: الحادثة المهمة؛ ففي قاموس الصحاح للجوهري ما يلي: المهم: الأمر الشديد؛ وأهمك من الأمر ما أقلقك وأحزنك. والهامة، في الصحاح أيضاً، الرأس والجمع هام وهامة القوم رئيسهم.

في عرض الدكتور علي حسن عبد القادر ل (كتاب البرهان في وجوه البيان) تحقيق مستفيض عن صاحب الكتاب. وقد كتب في موضع من بحثه القيم أنه تحقق من (نسبته لأبي الحسين) وهذا وهم لغوي أيضاً! والصواب قوله: (بسبته إلى أبي الحسين).

وللأستاذين الفاضلين الخضر وعبد القادر إعجابي وإكباري.

أحمد عزيز بيتوغن

تصويب:

ص: 45

ورد في افتتاحية العدد الماضي؛

وإن ابن آدم لا يزال عبد العصا وضيعة الدينار

والصواب: وصنيعة الدينار.

صاحب الدولة أحمد حلمي باشا:

في مساء الخميس الماضي شرف حضرة صاحب الدولة أحمد حلمي باشا رئيس مجلس الوزراء في عموم حكومة فلسطين دار مكتبة الأطفال وقد كتب دولته في دفتر الزيارات الكلمة التالية يحيي فيها جهود الدار في سبيل خدمة النشء العربي. . . .

مكتبة الكيلاني للأطفال

زرت مكتبة الكيلاني للأطفال فأكرم بها روضة علم وأدب، وخزانة حكمة ومعرفة. تشرق بمؤلفاته المفيدة، وتزدان بآثاره الفريدة، التي تدل على عبقريته، وحسن اختياره ودقته. كما تدل على عنايته بما ينفع أطفالنا ويغنيهم بالأدب الرفيع الذي يذكي عقولهم ويشرح صدورهم فهي منارة مصر. ومفخرة العصر.

حياه الله وأدامه مناراً للعلم والأدب في شرقنا العربي وأكرم به عالماً تحريراً، وأديباً كبيراً بزر برده على الوفاء، ويضم جناحه على الولاء. حفظه الله ورعاه وأدامه لأخيه وصديقه المخلص.

أحمد حلمي

أخطاء مطبعية:

وقعت في مقالي (دفاع عن الأدب) الذي نشر في العدد الماضي من الرسالة بعض الأخطاء المطبعية، وقد رأيت أن أصححها هنا ليستقيم المعنى المقصود من بعض العبارات؛ أما هذه الأخطاء فلتتمثل في العبارات التالية:

(لئن كانت الإدارة قوام الإنسان الفنان، فليست قوام الإنسان الفنان؛ ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإدارة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي) وصحتها: (لئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير، فليست قوام الإنسان الفنان، ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإرادة الخ. . .

ص: 46

(ولعل في رمى الأدب الاعتراف بالتأنث كثيراً من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل) وصحتها: (والإسراف في التحامل). . . (هذا هو أرى الفيلسوف الإيطالي في أدب الاعترافات) وصحتها: (هذا هو رأي الفيلسوف الإيطالي الخ)(يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر) وصحتها: (بما حفلت من خير وشر).

أنور المعداوي

ص: 47

‌رسالة النقد

موسى كليم الله

لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الحميد مطاوع المدرس بالأزهر

قصة سيدنا موسى، عليه السلام، معروفة إجمالاً وتفصيلاً للخاصة وللعامة من اليهود والمسيحيين والمسلمين شرقاً وغرباً؛ لأنه نبي معترف بنبوته في الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو أظهر أنبياء العهد القديم؛ شأناً وسيرة، وقد تحدث بسيرته (القرآن الكريم) في مواضع عدة حسب مناسبات مختلفة لم يتحدثه بأحد غيره من الرسل والأنبياء. وكذلك الأحاديث النبوية، وتبعتها أحاديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الإخباريين والقصاص والمؤرخين والمفسرين.

من أجل ذلك كانت الكتابة المفصلة في هذا الموضوع عرضة لخطر التكرار المملول الذي تضيق به الأسماع والقلوب، وكان تلمس الجدة عند محاولة الكتابة فيه أمراً بالغ الخطر واجب الرعاية. وما الجدة المراد تلمسها أمراً متعذراً ولا متعسراً على راغبيها المقتدرين، وهي ألزم ما تكون لمن يخاطبون بكتاباتهم الخاصة لا العامة كمؤلف هذا الكتاب.

ونقرأ هذا الكتاب فنجده خالياً كل الخلو من الجدة، فهو تأليف بكل معنى هذا اللفظ في أصله اللغوي العام وهو (الجمع): الجمع لمعلومات أغلبها تافه ملفق وأغلبها جليل صحيح، فكثيره احتطاب ليل وقليله اجتناء لا حيلة فيه ولا مناص منه، لأن المعول عليه في القرآن الكريم. ولم يحاول المؤلف الخروج عن الجمع الساذج إلى شيء إلا الوعظ الرخيص وتلمس العبر التافهة بأسلوب معوج، فنحو ثلثي الكتاب عظات واستنتاجات (خطابية) ونحو ثلثه تاريخ مجموع على النحو الساذج الذي أشرنا إليه لم يعن فيه جامعه بما يعني به المؤرخون على اختلاف مناهجهم وكفاءاتهم وأمزجتهم وأهدافهم.

فهو كتاب وعظ لا تاريخ مع أن صاحبه يتظاهر فيه بأنه مؤرخ لا واعظ، وهو في حديثه يسوق الكلام إلى ما يقبل العقل والذوق وما لا يقبلان. ترصد الصيد عظة رخيصة أو افتعالها. وتكاد تتكرر في كل صفحة (قيل) و (قال) ولا شيء بعدهما عدا العظات، ولو تأدى تصديق القيل والقال إلى التعرض في المحال والتطوح مع الخيال إلى أبعد حدود الضلال.

ص: 48

في الكتب الإسلامية قصص يسميها العلماء (الإسرائيليات) يدور أكثرها حول موسى خاصة وبني إسرائيل عامة، ولقد حذر (الفاهمون الغير من العلماء) من التورط في تصديق هذه (الأساطير) التي دسها (الإسرائيليون) في (الإسلاميات) رغبة العبث والضلال، ورواها عنهم بعض (الطيبين) من علمائنا، أو نحلها إياهم هؤلاء (الإسرائيليون) ثم نقلها الخلف عن السلف بأسانيدها أو بغيرها بنية (سليمة) ضرورة أن في القرآن آيات تتضمن قصصاً لابد من تفسيرها، ولم يكن لأحد الجرأة على الخوض في تفسيرها بالحق حيناً وبالباطل أحياناً، إلا علماء (يهود) الذين عندهم علم (كل) شيء كان وكل شيء (سيكون) فما من أمر في السماء وفي الأرض حدث أو سيحدث إلا وفي (ثوراتهم) ذكره ووصفه وميقاته وكل ما يتصل به لا مجملاً بل مفصلاً أوضح تفصيل وأدقه، ولا ريب أن من القراء من أتاهم نبأ (الإسرائيلي) الذي حدث عمر بن الخطاب فعل مقتله بثلاثة أيام بأن وصفه وأخلاقه وملبسه، بل يوم موته بالتحديد مدون في (التوراة). وإذن فلا ريب أن هذه التوراة قد أحصت كل شيء علماً، وأحاطت به خبراً، وأنها صورة من علم الله.

وهذا الكتاب قد حشرت له (الإسرائيليات) حشراً لم يترك منها فيما يتصل بهذا الموضوع حتى ما لم توح به نصوص القرآن ولا يرتضيه عقل مستقيم ولا يقبله ذوق مهذب. وإليك مثلاً من عشرات وقعت في الكتاب وصف الله فيها بصفات (توراتية) معاذ الله فالذي وصف فيها هو (يهوه رب الجنود) كما يسمي اليهود إلههم ويلقبونه. في هذا المثل ترى (يهوه رب الجنود) في أقصى جنونه الوحشي يدبر المكايد، ويتجنى على (الضعفاء) الذنوب ويدفع بفرعون دفعاً إلى الكفر والعناد ثم ينتقم منه أبشع انتقام ويشمت به أقبح شماتة: هذه مؤامرة يشترك فيها (رب الجنود) مع جبريل وميكائيل ضد فرعون الذي وقف مع جيشه على شاطئ البحر متردداً في اقتحامه خلف الإسرائيليين الهاربين من وجهه، ووزيره هامان ينصحه بالإحجام فيرسل (رب الجنود) جبريل أمامهم يغريهم، وميكائيل من خلفهم يرفعهم، ويحسنان لهم عبور البحر، ويوقظان فيهم شهوة النكال بموسى، ثم لم يكتفوا بذلك، فامتطى (جبريل فرساً أتاناً عريضة الكفل حسنة المنظر (تأمل هذين الوصفين) فتقدم بها جواد فرعون الفاره وضرب فرسه فتحركت أمامه وجرت تخايله فأندفع جواد فرعون (كذا) وتدافع قومه بعده بخيلهم ورجلهم) ص 89 وأتاه جبريل - وهو يشرف على الغرق

ص: 49

- وأراه فتيا كان قد خطها فرعون بيده مغزاها أن العبد الذي يجحد فضل سيده جزاؤه الغرق في البحر (فناوله جبريل إياها وأطلعه عليها والماء يلجمه ويغصهن فعرف خطه وبكى حظه، ثم ندم، ولات ساعة مندم.

أرأيت تفصيلات هذه المؤامرة الصبيانية التي لا تليق بإنسان رشيد له قلب بعطف أدنى فضلاً عن إله وملائكته؟ إن شئت غيرها فأمثالها في الكتاب كثير تبلغ عشراً وعشرات.

وفي الكتاب عشرات المحالات في غير ضرورة من دين أو عقل أو ذوق، وهاك مثلاًك أرسل موسى وهو في التيه - أثنى عشر نبياً من الإسرائيليين (البواسل) إلى أرض كنعان للتجسس، فلقيهم كنعاني (وهو عوج بن عنق، وكان فاره الجسم يطاول السماء بقامته - رأى النقباء أمامه فأخذهم في كمه مع فاكهة يحملها من بستانه، وجاء بهم إلى ملكه ونثرهم بين يديه. . .) ص 149 أين خيال الكاتب الإنجليزي مؤلف قصة (جلفر) وقصوره من خيال سادتنا العلماء (الطيبين) في هذه (الإسرائيليات). لقد اشتط القصصي المسكين في خياله هازلاً فما ظفر بغير هذه البدائع (المقدسة) التي أوردها سادتنا الأبرار جادين بل مسرفين في الجد والإيمان. إن لم تكن أعجبتك هذه ففي الكتاب عشرات أمثالها. ولقد زعمت لك قبل أن المؤلف لم يكن عمله في كتابه هذا إلا الجمع، وأنا أنزل عن هذا الزعم هنا مرة واحدة لأن المؤلف استعمل هنا عقله فسكت عما تذكره الإسرائيليات عن (عوج بن عنق) وهذا فقد ذكر ما ذكرته من أنه كان (يطاول السماء بقامته) ولكنه لم يقل ما قالته من أنه - لطوله هذا - كان يمد يده فيخرج الأسماك من أقصى قيعان البحر ويرفعها أمام الشمس فيشويها في حرارته ويأكلها هنيئاً مريئاً.

والمعجزات في الكتاب أكثر من أن يحيط بها عقل، وأعجب كيف حملها الكتاب، ففي كل حركة يتحركها موسى وقومه وأعداؤه بل في كل همسة معجزة ضخمة وفي كل معجزة ضخمة أصغر منها، وإن تكن المعجزات في (إقناع) العقل سواء فلا صغيرة فيها ولا كبيرة إلا من حيث المساحة، وفي الكتاب يبدو (يهوه رب الجنود) الذي اختار (يهود) شعباً له وفضلهم على سائر خلقه - يبدو قائماً قاعداً لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، ولا يهتدي إلى حل مشكلات (شعبه المختار) سواء ما شجر منها بين بعض أفراده وبعض وما شجر بينهم وبين الشعوب الأخرى التي قدر للشعب المختار أن يحتك بها ويساجلها الكراهة والتمازع

ص: 50

بل (يتطوع) بكرهها ومنازعتها لوجه (يهود) أو لوجه (الشيطان).

أورد المؤلف في كتابه بالتفصيل كل ما قيل في موسى من الإسرائيليات الواردة في الروايات الإسلامية، وألم بأطراف مما ورد فيه ذكر موسى من التوراة، فتحدث بنسبه ومولده ونشأته وهربه إلى مدين وعودته إلى مصر رسولاً، وخروجه منها ببني إسرائيل قائداً لهم، والطريق الذي سلكه بهم، وما جرى لفرعون وجنده في مطاردتهم، وما حدث له ولقومه في صحراء سيناء من سياسته الشاقة لهم، ونزول التوراة عليه وعبادتهم العجل في غيابه، وقصته مع هارون أخيه بعد رجوعه بالتوراة حين وجدهم يعبدون العجل، وقصته مع الخضر (العبد الصالح) وقصته مع قارون وإيذائه إياه وانتقام الله منه إذ خسف به وبداره الأرض ومقامه مع قومه في التيه أربعين سنة، وقصة بلعام بن باموراء العالم الإسرائيلي (وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محيرة للمتعلمين يكتبون عنه ويرصدون غزير علمه) فغضب الله عليه لأنه لم يشكره يوماً على ما أعطاه، وتحدث المؤلف بما حدث على يد موسى من معجزات في هذه المواقف كلها، ومن هذه المعجزات ما ذكره القرآن ومنها ما لم يذكره و (تطوع) أصحاب (الإسرائيليات) بذكره، وذكر المؤلف قصة هرون أخيه وموته ثم موت موسى ودخول (يهود) أرض الكنعانيين، تحت قيادة خليفته عليهم (يهود) إلى (الحجاز)، ولا موضع لمثل ذلك في سيرة موسى.

يقول المؤلف في مقدمة كتابه (اتخذت القرآن الكريم إمامي، والأحاديث النبوية عمادي، وآثار الصحابة والتابعين سندي، ورواية الثقات من المفسرين مرشدي، وما تراضى عليه المؤرخون واللغويون مصدري، ورتبت القول بما يتفق ومجرى الحال من ولادته حتى وفاته) ص6. وهذا تعريف بمصادر الكتاب ناقص من ناحية وزائد من ناحية، فهو ينقل عن التوراة وكتب علماء الآثار مثلاً معلومات كثيرة، ولا يرفض ككثير من (ثقات المفسرين) ما في (الإسرائيليات) من شطط ومحال. وتعريفه بالكتاب ومصادره وكيفية الانتفاع بها في مجمل غامض لا يفيد من يريد المراجعة والمحاسبة.

ومن أعجب العجب في الكتاب أن مؤلفه إذا ذكر آية من القرآن ذكر رقمها وسورتها، وينقل عن التوراة آيات برمتها فلا يذكر أرقامها في إصحاحاتها - إلا مرة واحدة نقل فيها نقلاً وأشار إلى أنه من سفر الخروج (ص 103) دون تعيين الإصحاح ولا رقم الآية فيه -

ص: 51

وينقل عن مصادره الأخرى ومنها كتب التفسير وكتب عبرية مخطوطة، وكتب لعلماء الآثار الغربيين، وكتب لمؤرخين وطنيين وأجانب فلا يشير مرة واحدة في هامش صفحة إلى اسم الكتاب الذي نقل عنه صفحة نقله إلا مرة واحدة ذكر فيها خبراً، وأشار إلى أنه من رواية (الإمام القرطبي والنسقي والنيسابوري، وسواهم من أئمة المفسرين) ص 27. وهذا سير عجيب بل سير مريب لأنه يفترض أن كل هذه المصادر البعيدة معروفة للقراء فلا داعي لذكرها ما عدا القرآن فهو مجهول ولذلك لا غنى عند ذكر الآية من ذكر رقمها في سورتها. هذا مع أن الكتاب ألف باللغة العربية كي يقرأه أقل من يعرفونها دون سواها، فهو يكاد يكون مؤلفاً لعامة المسلمين وحدهم.

والمؤلف يسوق قصة موسى كما وردت في القرآن وقصته كما وردت في التوراة على أنهما متكاملتان، وهذا السياق يوقعنا في خطأ كبير، وهأنذا أقرر - ولا أدري أحداً سبقني إلى قراري هذا - أن الصورة التي يتبينها القارئ في نصوص القرآن لموسى تختلف اختلافاً كبيراً عن الصورة التي يتبينها له من تأمل نصوص التوراة رغم اتفاق القصتين في معظم الوقائع العامة، وأن الله في نظر موسى كما ذكر القرآن يختلف اختلافاً كبيراً عن (يهوه) في نظر موسى كما ذكرت التوراة، فإن موسى المؤمن بالله الواحد غير موسى الذي اختص هو وقومه بعبادتهم (يهوه) مرة، و (إلوهيم) - ومعناها الآلهة - مرة أخرى.

والمؤلف ينقل عن التوراة مسلماً بصحتها، ولا أريد أن أصدمه برأي الثقات من علماء المسلمين، ومبلغ ثقتهم بهذه (التوراة) كما فهموا من نصوص القرآن، لا أريد صدم المؤلف بذلك رغم أنه مسلم بل عالم من علماء الأزهر، ولكني أشير عليه أن يعيد قراءة التوراة كلها بفهم وتدبر، وأنا بواثق من أنه سيغير رأيه فيها كل التغيير، وليسمح لي أن أهمس في أذنه بأن الجهل التام شر من بعض العلم ولاسيما في هذه المسائل التي تؤخذ كلها. فليحط خيراً بما يريد الاعتماد عليه من المصادر، وإلا فحسبه مصادره الإسلامية وحدها، وشفيعه أنه من (علماء الأزهر) لا يثق إلا بما يثق به دينه وعلماؤه الفاهمون، فأما تقحم المعضلات بلا أهبة وخطف جملة من هنا ونبذة من هناك دون استيعاب ولا تمحيص فإثمه أكبر من نفعه.

لقد نقل المؤلف - كما أسلفت - عن كثير من علماء الآثار والمؤرخين الغربيين، وهو يهتم

ص: 52

بذكر التفصيلات التافهة فكان عليه - لذلك - أن ينظر فيما أصدروا من أحكام خطيرة هي في حاجة إلى إبداء رأيه فيها لخطرها وخطر أصحابها. فالعالم النمسوي المشهور سيجموند فرويد - وهو يهودي غير متهم - يذهب في ترجمته لموسى أنه مصري لا يهودي، ويرى غيره أن موسى مات قتيلاً لا حتف أنفه وأن اليهود هم الذين قتلوه حين ضاقوا به وبإصلاحاته، وغيره يرى أنه تعلم في (جامعة عين شمس) على أيدي كهنتها، ومنهم من يرى أن فرعون المشار إليه في التوراة والقرآن ليس ملكاً مصرياً بل أحد الحكام الصغار في أقاليمها الشمالية الشرقية، ومنهم من يرى أن بني إسرائيل لم يتوغلوا داخل حدود مصر، ولم يتجاوزوا حدود صحراء سيناء أثناء ضربهم في الأرض شرقاً وغرباً، ويستدل قائل ذلك على قوله بسكوت التاريخ القديم عن ذكر عن ذكر هؤلاء الإسرائيليين بأي اسم من أسمائهم المعروفة قديماً وحديثاً، ومن هذه الأقوال ما لا يتعارض مع نصوص القرآن ومنها ما يتعارض معها، فهل عند فضيلة المؤلف علم شاف بهذه الأحكام التي لم تصدر جزافاً، وهل عنده حجة للرد على ما يتعارض منها مع نصوص القرآن؟ أنا في انتظار الجواب، وهو أول من يدل برأيه في هذا المجال الذي اختص به وعرف فيه حتى ما ذكره الغربيون كما يدل عليه نقله عنهم، ولعل فضيلته لا يبخل علينا بالجواب، كي تتم فصول الكتاب.

والمؤلف يعلم - أو يجب أن يعلم - من دراسة الفرق الكلامية الإسلامية، أن منها من تأثروا أو دافعوا أهل نحلة تسمى (المانوية) وكنا المانويين يصدقون بنبوة عيسى ويرفضون نبوة موسى، لأسباب منها أن (الإله) كما وصفته التوراة، شيطان متوحش شرير شغوف بالخراب والفساد وإراقة الدماء، وقارئ التوراة إذا حاول أن يتبين صفات (يهوه رب الجنود) وسيرته مع (شعبه المختار) وجب أن يتصوره مخلوقاً شيطانياً لا حد لأنانيته في الحب والتدليل لشعبه المختار، وهو أعجز المخلوقات حيلة في سياستهم وسياسة خصومهم، فبينما هو راض عنهم كل الرضا إذا هو ساخط عليهم كل السخط، وهو مفرط الحقد والكراهة لأعدائهم، فهو لذلك ولأنه لا حد لقدرته ولعدم حيلته - ينزل ضرباته على هؤلاء الأعداء في إسراف وجنون وقسوة لا حد لها، وينتقم لأتفه الأسباب أبشع انتقام، وهو رغم قدرته التي لا حد لها - مخلوق (جبان) يهاب مالا يهابه إنسان له شجاعة عادية، فهو

ص: 53

ينكص عن محاربة بعض أعدائه وأعدائهم لأن لهم في الحروب عجلات قوية فهو يتركهم وشأنهم معهم، ولا يخوض معهم في حربهم خوفاً من هذه العربات. . . إلى غير ذلك من الفروض المستحيلة التي لا يستطيع العقل أن يحتفظ بوحدته معها، ويكاد ينسحق تحت وطأتها. وكنت أود أن أدلي بتفصيل شاف للقراء في هذا الموضوع وغيره مما ألمحت إليه هنا نولاً ضيق المقام وربما قدمت هذا البيان قريباً في كتابي (أصول الزندقة وتطورها).

ولقد آن لنا أن ننظر إلى قدماء حكام مصر في موقفهم إزاء قدماء الإسرائيليين نظرة ترضي الدين ولا تغضب الحقيقة ولست داعياً إلى ذلك عن عصبية للوطن ولا استخفاف بالدين بل عن رغبة في العدل ومتابعة أحكام العقل، وحسبنا التهم الباطلة التي ألصقتها اليهود بالمصريين منذ آلاف السنين ونقلتها عنهم الأمم الأخرى - حتى العرب - دون تمحيص، وأنا أدعو إلى ذلك عائذاً بالله من شر كل هوى أعمى يدفعني إلى ما يثلم عقيدتي، ويضلني عن الحق.

هذا وفي الكتاب عشرات المآخذ نكتفي منها بما أوردناه ونسكت عن بقيتها فلا نذكرها إجمالاً ولا تفصيلا.

أما بعد فدار الفكر العربي طابعة هذا الكتاب هي وغيرها من دور النشر، شديدة الضن بمالها وجهدها على المؤلفين الكادحين، وكنا نربأ بدار الفكر أن تنشر هذا الكتاب، فإن تكن غايتها الربح وحده ففي نشر (ألف ليلة) وأمثاله ما يكفل لها ربحاً أكبر، وإن كانت تهدف إلى خدمة الدين إرضاء للعامة ففي نشر (دلائل الخيرات وأمثاله) ما يكفل لها ربح رضاهم ومالهم أيضاً، ولقد آن للهازلين أن يجدوا، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

محمد خليفة التونسي

ص: 54

‌القصص

مجنون!!

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

هل أنا مجنون؟ أو لست إلا غيوراً؟ لست أدري! ولكني أعاني عذاباً شديداً. لقد ارتكبت فعلاً جنونياً، فعلاً وحشياً حقا. ولكنها الغيرة الجارفة، والحب الطاغي القادر الذي لا أستطيع منه فكاكاً، والألم الممض الذي أقاسيه، ألا يكفي كل ذلك لأن يدفعنا إلى اقتراف الجرائم وارتكاب الحماقات دون أن يكون الإجرام متأصلاً في قلوبنا أو في عقولنا.؟

أواه. . أني أتعذب، أتعذب عذاباً شديداً مستعراً، مضنياً، مخيفاً. لقد أحببت زوجتي حباً جنونياً. ولكن. . . هل هذا صحيح؟ هل أنا حقاً أحبها؟ كلا. لقد كانت تسيطر علي جسداً وروحاً، وتقيدني بأغلالها. كنت ولا زلت أحد ممتلكاتها، بل لعبتها. كنت عبد ابتسامتها، وشفتيها، ونظراتها ووجهها، وتلافيف جسمها. كنت ألهث تحت سلطان جمالها. ولذلك كرهت في ذلك الجسد المرأة، واحتقرتها، ولعنتها. ولا زلت أمقتها، وأزدريها وألعنها، لأنها خدعة، حيوانية مدنسة، آثمة. أنها الشيطان في صورة امرأة، والحيوان البوهيمي المجرد من الضمير، والوحش البشري الذي لا بعرف الرحمة. بل هي أدنى من ذلك، فلم تكن إلا جسداً بديعاً جميلاً تسكنه الرذيلة.

إن أوائل أيام صلاتنا كانت عجيبة جميلة. كنت أرقد بين ذراعيها في نشوة، وشفتاها القرمزيتان المنفرجتان ترتعشان، وعيناها تثيران في نفسي التعطش إلى الحب. لقد كانتا رماديتين ظهراً، ثم تميلان إلى الخضرة عند الغروب، وزرقاوين عند الشروق إني لست مجنوناً، ولذلك أقسم أنه كانت لهما تلك الألوان الثلاثة. وتنفرج جفونها الثقيلة في بطء فتكشف عن نظرة من العواطف المتقدة سرعان ما تتلاشى فأشعر برجفة تهز كياني، ورغبة قاهرة في قتل ذلك الحيوان الثاوي في ذاتها حتى تصبح لي. . . أنا وحدي.

وعندما كانت تخطر في غرفتي، كنت أشعر بوقع خطواتها يتردد في فؤادي؛ ثم تبدأ خلع ملابسها، ويسقط رداؤها فتبدو سافرة أمامي. وهنالك تندفع الدماء في عروقي، ويلهث صدري، وتتخاذل ساقي، وأشعر برهبة غامضة تجرف قلبي.

كنت أنتظر أول نظراتها كل صباح، أنتظرها وأنا في ثورة وكراهية واحتقار لذلك الحيوان

ص: 55

المتربع في كيانها الذي كنت عبداً له. أن مجرد تفكيري وخشيتي من أن تنكشف تلكما العينان الزرقاوان عن فتور وملل يجعلني أحس بنار سريعة تتقد في فؤادي فتحرقني وتزيد من حنقي وكراهيتي.

وفي ذات يوم لاحظت أنها فاترة نحوي، فنظرت إلى عينيها فوجدت فيهما تلك النظرة الباردة العابسة. وعندئذ عرفت، وشعرتن، وأدركت، لقد انتهى كل شيء، انتهى إلى الأبد. . . ولم يكن هناك أدنى شك في ذلك؛ لقد تبين لي الدليل في كل ساعة، بل في كل لحظة.

وحاولت، وناديت الذراعين والشفتين، فكانت تتحول عني في ضيق وهي تتمتم قائلة دعني. . . أنك ثقيل. . . ألا تترك لي فرصة للراحة؟!

وعندئذ شعرت بالغيرة المستعرة، وذقت مرارة الخديعة، وضاق صدري غيظاً، وعرفت جيداً أنها ملتني، وأن شعورها الحيواني الفاتر الآن سوف يلهبه رجل غيري يوماً ما. كنت غيوراً في جنون ولكني لست مجنوناً. . . كلا. . . بالطبع كلا.

وانتظرت وارتقبت ولكنها لم تخني. ومع ذلك ظلت باردة هادئة. وكانت أحياناً تقول لي (إني أنفر من الرجال) وعيناها تؤكدان ذلك عندما كانت ترنو إلي.

وصرت أغار من دلالها ومن برودها، وأغار من وحدة لياليها ومن حركاتها، وأغار من أفكارها الآثمة بل من كل شيء يتعلق بها.

كنت عندما أستيقظ صباحاً وأنظر إلى عينيها، تلكما العينين المطفأتين، يضيق صدري غضباً وأشعر بثورة جارفة في نفسي تعصف بي وبنزوة طارئة تدفعني إلى خنقها، وأن أضغط على عنقها الجميل حتى أرغمها على الاعتراف بما في صدرها من أسرار.

هل أنا مجنون؟. . . كلا. . .

وفي ذات ليلة وجدتها وقد غمرتها سعادة لا أدري كنهها. فاستنتجت أن عاطفة جديدة قد تولدت في ذاتها. بل تأكدت من ذلك تأكد لا يتزعزع. لقد كانت تنتفض انتفاضة من أشبع رغبته، ملتمعة العينين باسمة الثغر، مشرقة الوجه. وتظاهرت بعدم المبالاة. ولكني كنت أراقبها من طرف خفي، ومع ذلك لم أكتشف شيئاً وانتظرت أسبوعاً، ثم شهراً، ثم فصلاً، فكانت تزداد جمالاً في عاطفة غامضة وقد غمرتها نشوة من السعادة المبهمة. وفجأة وضح لي الأمر، واستنتجت، وعرفت! إني لست مجنوناً. أقسم إني لست مجنوناً.

ص: 56

ولكن. . . كيف أعبر، وكيف أشرح، وكيف أفسر؟!

كان ذلك في ليلة عادت فيها من نزهة ممتطية صهوة جواد. وترجلت عنه بوجنتين ورديتين، وصدر لاهث، وساقين متعبتين وعينين مجهدتين. ثم تهالكت جالسة على مقعد منخفض. ورأيتها في هذا الحال فعرفت أنها قد وقعت في حب غيري. إذن لم أكن مخدوعاً! وتحاشيت نظراتها وأنا في ذهول. والتفت صوب النافذة فرأيت الخادم يقود الجواد إلى حظيرته. ثم نظرت إليها، كانت تتبع الجواد بعينيها، وهو يسير في نشاط، حتى إذا ما اختفى عن ناظريها استلقت على المقعد وراحت في سبات عميق.

وقضيت الليل مسهداً أفكر. كنت أحاول أن أخترق سراً لا اشك في وجوده. من ذا الذي يستطيع أن يصل إلى أعماق نفسية المرأة؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يكشف دلالها الغامض وخيالها العجيب؟

وأصبحت ترحل فجراً وقد امتطت صهوة جوادها فيركض بها في السهول والغابات. وكانت تعود في كل مرة مجهدة كأنها مقبلة من موقعة غرامية. وفهمت، وأصبحت أغار من ذلك الجواد، وأغار من الريح التي تداعب شعرها، ومن الأفنان التي تهمس في أذنيها، ومن أشعة الشمس التي تقبل وجنتيها، من ذلك السرج الذي يلمس جسمها. أغار من كل هذه الأشياء التي غمرتها بالسعادة والبهجة والنشوة والتي تنهك قواها فتعود إلي في شبه غيبوبة.

وعزمت على الانتقام. وجعلت ألاطفها وأوليها اهتمامي. وأمسك بيدها أعينها على الترجل بعد عودتها من نزهتها. وكان الحيوان المتوثب يندفع نحوها، فتربت على رقبته وتقبله في خياشيمه دون أن تمسح شفتيها، وتمتزج رائحتها برائحته الغريبة.

وانتظرت اليوم والساعة، ساعة الانتقام. كانت تسير كل صباح في طريق يخترق غابة صغيرة فخرجت قبل الفجر وقد تزودت بحبل ومسدس أخفيته في صدري وكأنما أنا ذاهب إلى مبارزة وأسرعت صوب ذلك الطريق، وشددت الحبل بين شجرتين، ثم رقدت وسط الحشائش وأنا أرهف السمع، فسمعت صوت ركضات الجواد آتية من بعد، ثم لمحتها مقبلة تحفها الأفنان والجواد مندفع بها: أواه. أني لم اكن مخدوعاً. لقد كانت في سرور ظاهر، والدماء تتصاعد إلى وجنتيها، وقد تلألأت عيناها وهي تهتز فوق الجواد في نشوة جارفة.

ص: 57

واصطدم الجواد بالحبل فكبا ثم سقط على الأرض مكسور المقدمتين وتلقفتها بين ذراعي القويتين ثم أنزلتها على الأرض. واقتربت من الجواد. كان ينظر إلي في غضب. ثم حاول أن يعضني، فصوبت المسدس إلى أذنه وأطلقت عليه رصاصة كأني أطلقها على رجل. . . على منافس لي. وفي نفس الوقت سقطت على الأرض أثر ضربة من سوط وقعت على وجهي فنظرت فرأيتها تهم بالاعتداء علي مرة ثانية، فأطلقت عليها رصاصة أخرى فاخترقت صدرها الجميل. . .

. . . خبرني إذاً. . أأنا مجنون؟!.

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 58