الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 807
- بتاريخ: 20 - 12 - 1948
في سبيل سياسة إيجابية للجامعة العربية
للأستاذ عمر حليق
من الأخطاء التي ارتكبها العالم المتمدن اعتقاده أن العلة الأساسية التي جعلت تاريخ الإنسانية في الخمسين سنة الأخيرة سلسلة من الحروب الداخلية والخارجية هي فساد المذاهب السياسية، وأن الدواء الوحيد لها هو تغيير هذه المذاهب. ومن هنا تولدت الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية والديمقراطية المعاصرة والاشتراكية، ومن هنا كذلك تألفت عصبة الأمم المنحلة، وهيئة الأمم القائمة.
هذا الاعتقاد خاطئ لأن التجارب المريرة التي مرت بها الإنسانية في ظل هذه النظم - نازية أو ديمقراطية أو شيوعية في عصبة الأمم أو في هيئة الأمم المتحدة - كلها لم تُشف الإنسانية من علة الحروب ومن علة الشقاق الداخلي ومن علة التناطح في العلاقات الدولية.
هذا الاعتقاد خاطئ لأنه يعالج النظم قبل أن يعالج الفرد الذي يتبنى هذه النظم ويتولى تنفيذها أو يعمل على تقييد نفسه بالتزاماتها. وهو خاطئ لأنه في حماسته لتحقيق الأهداف ينسى أو يتجاهل خطورة السبل والوسائل.
فمصيبة النازية والشيوعية والديمقراطية الغربية، ومصيبة عصبة الأمم وهيئة الأمم ليست فقد في المبادئ والفلسفات التي بنيت عليها، فكلها مبادئ تتوخى - نظريا على الأقل - إسعاد المجتمع الذي تعمل فيه وتوفر له الاستقرار والرخاء.
ولكن المصيبة في الأفراد الذين تولوا ويتولون العمل لها، ومصيبة الوسائل والسبل المتخذة لتحقيقها.
وجامعة الدول العربية هي واحدة من هذه المذاهب السياسية التي شعر سكان الشرق العربي بحاجتهم إليها في هذه المنطقة الخطيرة من العالم؛ وفي هذه الفترة الدقيقة التي تمر بها المجتمعات الصغيرة المتقاربة المتشابكة التي تنطق بالضاد.
وفي هذه الأزمة النفسانية العاصفة التي تجتاح العالم العربي، وفي أعقاب هذه النكسات السياسية في هيئة الأمم العسكرية في الميدان تتناول ألسنة الرأي العام الجامعة العربية بالنقد اللطيف حينا والعنيف أحيانا. وفي هذه الأزمة تتعرض المبادئ والفلسفة التي بنيت عليها الجامعة العربية لخطر جسيم. ولعل هذا الخطر هو أو هي ما يواجه الشرق العربي
في تاريخه الحديث، وفترة فاصلة في مستقبله.
وفي هذه الأزمة النفسانية قد يقع العرب في نفس الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون حين ألمت بهم أزمات مشابهة، فهم في بلبلتهم الفكرية والعاطفية يميلون لأن يجسموا موطنا واحدا من مواطن الضعف في نظرة ضيقة، بل هم أميل إلى البحث عن لون من الحياة جديد. وتكرر المأساة من جديد وهكذا دواليك.
فليس من الغريب إذن أن يتخذ بعض الناس هذه النظرة نحو جامعة الدول العربية وفكرة الوحدة العربية إجمالا فأن هذه النزعة وليدة شعوبية متأصلة، ولكنها في أغلبها مخرج من أزمة نفسية.
ولهذا، فإن الأزمة التي تواجهها الجامعة خطيرة خطورة الفكرة التي تحملها. ولنقرر قبل كل شيء أن الفكرة والبادئ التي بنيت عليها وتدعو إليها الجامعة العربية هي مبادئ سليمة. هذه أمور أساسية مستمدة من صميم الفكر السياسي والاقتصادي المعاصر، ومن صميم المقدمات الثقافية (وهي تشمل السياسة والاقتصاد والعاطفة) التي يعيش عليها الناطقون بالضاد في الشرق الأدنى.
هي مستمدة من صميم الفكر السياسي المعاصر لأنها دعوة إلى التآلف الإقليمي والتكتل السياسي، على أساس المصلحة الحيوية المشتركة في السياسة والاقتصاد والعصبية الثقافية وجميعها دعائم ضرورية للحياة الشريفة.
والجامعة العربية هي أول محاولة جدية للتعاون الإقليمي على أحدث ما أنتجته الفلسفة السياسية المعاصرة. والتعاون الإقليمي منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ويحتل مكانة بارزة أشد البروز في تكوين هيئة الأمم المتحدة الداخلي وفي نشاطها ونشاط فروعها والوكالات الخاصة الملحقة بها.
فمحاولة حلفاء الغرب توحيد أوربا الغربية ومحاولة الروس في شرقي أوربا، ودول العالم الجديد في مشروع الحلف الأمريكي مسبوقة بمحاولة الجامعة العربية للتكتل على دعائم أمتن وأبعد شأوا وأرفع في مقاييس الخبر والشر في العلاقات الدولية.
ومع ذلك فإن الجامعة العربية تواجه أزمة من طراز حاد، والسبب في ذلك لا يرجع إلى مبادئها وأهدافها ولكن إلى الأفراد والسبل التي تحمل الدعوة إلى هذه المبادئ وتعمل
لتحقيقها.
وقد أصبح التنديد بالزعماء والقادة من قبيل الكلام المبتذل، ولقد جسمته ألسنة الرأي العام العربي، فجعلته السبب الوحيد في هذه الأزمة التي يمر بها العرب اليوم، ومن النادر أن نرى في هذا التنديد دراسات منتقدة للسبل والوسائل وللنواحي الاجتماعي والاقتصادية والثقافية التي تتحداها هذه الأزمة.
وعلة الجامعة العربية هي في افتقارها إلى إدارة رشيدة وخطط عملية ووسائل مرضية لتحقيق الهدف والفكرة التي تعمل لها فإنك لن تستطيع بلوغ هدف قبل أن تضع للوصول إليه خططاً وبرامج عملية وجهازاً إدارياً حازماً لتنفيذها.
والجامعة العربية في حالتها الحاضرة تحتاج إليهما جميعاً.
ولقد اعتدنا في الشرق العربي أن نتناول القادة من حيث (وطنيتهم) وما إلى لك من بقايا عهد النضال ضد الحكم الأجنبي. وقل أن نتناول القادة والزعماء من حيث مقدرتهم وصلاحيتهم ومؤهلاتهم العلمية واستعداداتهم النفسية. وكل توجيه سياسي لا يتوخى دراسة القادة على مثل هذا الضوء توجيه مشوه ضعيف.
والجزء الأكبر في هذه المقدمة الحادة التي جلبتها الجامعة العربية على نفسها التي خلفتها ظروف وملابسات طارئة، هي فقدان الكفاية والمؤهلات والاستعداد العلمي والنفساني في الجهاز الإداري ومراكز التوجيه والمسئولية فيها.
فالجامعة لا تزال تنظر إلى نفسها، ولا يزال الناس ينظرون إليها على أنها رمز للوحدة العربية، بدل أن تنظر إلى نفسها كبرنامج للوحدة وكمشروع إنشائي.
والجامعة عربية (بدوية) من حيث أنها تتناول الأشياء في نظرة شاملة على حين يتجه العالم نحو التحليل والتخصص. والجامعة في نظرتها هذه لا تجاري النزعة (العلمية) التي أخذت تتمكن من العقلية العربية المثقفة.
في هذه السنوات الثلاث التي مرت على الجامعة منذ تأسيسها أحرزت تقدماً سياسياً ملحوظاً وملموساً، ولكنها قصرت تقصيراً مخجلا في الاقتصاد والمواصلات الفكرية والتعاون الثقافي والاجتماعي، وذلك لأن المشرفين عليها يبدو أنهم لا يقدرون قيمة هذه النواحي في التعاون الإقليمي الصحيح، والسياسة ليست وسيلة للتعاون الاقتصادي والفكري
ولكنها نتيجة لها.
هذه الأصوات الناشزة التي تصدر هنا وهناك وهذا الركود السياسي البادي في المملكة السعودية واليمن هي وليدة قصور الوسائل في الجهاز الإداري للجامعة العربية.
وهذا القصور لا يرجع إلى الصخور الشماء التي تقف في سبيل برامج الدوائر الثقافية والاقتصادية في الجامعة. ولكنه يرجع إلى فقدان هذه البرامج.
لقد عجز مثلا الإدارة الاقتصادية في الجامعة عن أن تضع لها إصبعاً رفيعاً في هذه الثورة الصناعية التي تجتاح نجداً والكويت وتكاد تفصل شرقي العالم الغربي عن غربة وأواسطه، اقتصادياً واجتماعياً. فلا غرابة إذن أن سياسة البترول (وهي سلاح خطير في العلاقات الدولية) في الجامعة العربية مقيدة باعتبارات سياسية محلية.
إن طائفة من الدراسات وسلسلة من المؤثرات وثغرات الخبراء تفيد الجامعة في هذه الثورة الصناعية الخطيرة في طهران والبحرين والكويت فوائد جسيمة للتعاون السياسي والاقتصادي ولمستقبل الوحدة العربية إجمالاً.
فهو أولا: محاولة لتعريب آبار الزيت تدريجياً فتوفر العمل والانتفاع المادي والمهني لألوف السعوديين والسوريين والمصريين وغيرهم من العرب في هذه المنشآت التي يمتص بها الأمر الأمريكان ذهب الصحراء، ولربط قلب الجزيرة بالهلال الخصيب ووادي الكنانة من طريق استيطان هؤلاء العمال. وأي خطر على المستقبل الاجتماعي والثقافي - ولا نقول السياسي - للوحدة العربية وللتعاون الإقليمي جاثم في هذه الألوف من العمال الأمريكان والطليان وغيرهم الذين أنشئوا في قلب نجد والكويت قطعة من أمريكا ومستعمرات إيطالية و (جوالي) أجنبية الثقافة والولاء لا تبدو خطورتها إلا حيث ترسخ جذورها هنا وهناك كما رسخت في الإسكندرية وفلسطين.
وهي ثانياً: تحيط البيت السعودي بمجموعة عربية مستنيرة تعرف ما يفعله الاستغلاليون الأمريكان في ذهب الصحراء وترقبهم في ذكاء العالم الخبير بدل أن تترك البترول والبيت السعودي المالك والمجتمع السعودي إجمالا والتعاون الاقتصادي العربي فريسة في يد الاستغلاليين العالميين ومعهم حفنة من المرتزقة العرب الذين ضربوا نطاقاً حديدياً على البلاد السعودية وأثار هذه العزلة الاقتصادية في البلاد السعودية علاوة على أضرارها
السياسية الوخيمة (كما تشهد قضية فلسطين) كونها نقطة أمريكية استراتيجية فإن لها خسائر اقتصادية جسيمة على باقي أقطار العالم العربي؛ هذه الخسائر لا يقدرها إلا الذين أتيح لهم الاطلاع على فخامة التبادل التجاري الذي تمتص به عشرات الشركات التجارية في نيويورك الدخل القومي للملكة السعودية في جميع أوجه التبادل التجاري وبعملة صعبة كالدولار الأمريكي الذي يحتاج إليه الاقتصاد العربي في سوريا ومصر والعراق ولبنان وفلسطين حاجة ماسة. والقصور في هذا التعاون الاقتصادي ملموس في أكثر من ناحية، وليست سبب موانع سياسية فقط. ولكنه في أساسه قصور في التعريف بفوائد ودراسة لفوائده المادية والعلمية دراسة علمية وتعميمها بنباهة وعلى نطاق واسع. هو قصور في الوسائل والسبل. والواقع أن الجامعة العربية قد أهملت استعمال أمضى الأسلحة لتدعيم كيانها والأهداف التي تدعوا إليها، وهي دعائم الرخاء والاستقرار في هذا الجزء الهام في العالم.
هذه الذئاب التي تجثم على أطراف الشرق العربي لتنهش منه وتعيش على خيراته ما الذي يدفعها إلى ذلك؟ ما سر تنافس الروس والأمريكان والبريطانيين على هذا الشرق؟ وهذه الثعالب الراقدة بين ظهرانينا تستثمر الملايين في الشركات (المصرية) وفي مشاريع اليهود في فلسطين، أليست وليدة المعرفة بالإمكانيات المغرية الكامنة في الشرق العربي؟ كم يعلم المواطن العربي عن هذه الإمكانيات؟ لمحات خاطفة في الصحف السيارة لا تشفي الغليل ولا توقظ في النفس وعياً اقتصادياً صحيحاً. الفائدة التي تجنبها الجامعة العربية والفكرة التي تعمل لها عظيمة لو أن الدوائر المختصة في الجامعة جمعت أو كلفت من يدرس هذه الإمكانيات في إسهاب ودقة لتعممها على أوسع نطاق؛ ولم تترك ألسنة الرأي العام العربي والمثقفين العرب في معلوماتهم عن الوضع الاقتصادي في الأقطار العربية فريسة للمعلومات المشوهة المغرضة التي تصدرها المصادر اليهودية والشركات الأجنبية في عشرات البحوث والنشرات. ولماذا يكون المواطن العربي أجهل الناس بوضع بلاده وخطورتها في الاقتصاد الدولي؟ قد لا تلام الجامعة العربية وحدها على هذا التقصير. فالخبرة الفنية متوفرة في معاهد العلم والدوائر الحكومية والحكومات والأوساط العلمية العربية والمثقفون الخبيرون يشاركون الجامعة وزر هذا الإهمال الضار.
وخذ مهزلة التعاون الثقافي. كأن الثقافة صرف ونحو وترجمة. ليس للجامعة العربية نشرة واحدة محترمة تحمل رمز هذا التعاون ورسم المناهج له، وليس لها وسيلة واحدة في وسائل المواصلات الفكرية لتنقل إلى بيروت وبغداد أنباء البحث ونجد والكويت، والصحف العربية لا تزال فريسة الدعاية الأجنبية الخبيثة عن طرق وكالات الأنباء الأجنبية حتى فيما يتعلق بالشؤون العربية الصرفة. وكم من بلبلة أوجدتها هذه الوكالات في الحياة العربية الداخلية بوسائلها الخبيثة. وشكراً لمصر التي تكاد تحتكر الإنتاج الفكري والصحفي فتؤلف نوعاً مشوهاً من الوحدة في الاتجاهات الفكرية والعاطفية، مشوهاً لأنه يفقد عناصر التوجيه القومي المنظم الذي يجب أن يقع عبثه على الدوائر المختصة في الجامعة العربية. وفي نشاط جامعة الحلف الأمريكي (الولايات المتحدة وجاراتها اللاتينية الجنوبية) في هذا المضمار دروس وخبرة تصلح للاقتباس والقدوة المفيدة. وبعد، فهذه وغيرها من أوجه العجز لا تنفي مطلقا متانة المبادئ التي تدفع العرب إلى الوحدة والتعاون الإقليمي إلى أبعد حدود التعاون. ولكنها ألوان في القصور مرجعها فقدان الاستعداد لدى القائمين على شئون هذه المنظمة الإقليمية التي تحتل اليوم على الرغم من كل ذلك مكانة خطيرة في الأوساط الدولية. والذين أتيح لهم الاتصال عن كثب بهيئة الأمم والوكالات الفنية العالمية يقدرون هذه الخطورة حق التقدير. هو قصور في الاستعداد وضعف في الوسائل والسبل لتحقيق هذا التعاون.
وإذا كان التحدي سبيل إلى الرقي والتقدم، فإن هذا القصور - الذي هو جزء من الأزمة التي تواجه الجامعة ومعها العرب في مختلف أقطارهم - هو نوع من التحدي. والأزمات في جملتها أنواع من التحدي. وتاريخ التمدن كما قال المؤرخ توينبي تحد وإجابة
نيويورك
عمر حليق
أول أبطال الحروب الصليبية:
عماد الدين زنكي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم يكن الصليبيون يستطيعون أن يحدوا وقتاً أنسب من هذا الوقت الذي اختاروه للانقضاض فيه على بلاد الشام؛ فقد كان النظام الإقطاعي يومئذ يمزق وحدة هذه البلاد، ويوهن من قواها؛ فلم يستطع أمراء الإقطاعيات المتفرقون أن يصدوا هذا الجيش اللجب الذي بعثت به أوربا لالتهام تلك القطعة من الأرض، فسقطت فلسطين وجزء من سوريا بين أيديهم، وأسسوا بها إمارات صليبية هي إمارة الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس؛ وبرغم ما بذله أمراء البلاد مجتمعين حيناً، ومتفرقين حيناً، من الجهود في حرب الصليبين لم يستطيعوا استخلاص البلاد من أيديهم، أو صد عدوانهم؛ ورأينا الفرنج وقد امتدت حدودهم من ماردين وأنطاكيا في الشمال إلى مدينة العريش لدى حدود مصر. وأخذت جيوشهم تضخم وقسوتهم على من بجوارهم من العرب تشتد، وتهبهم ما يطيقون نهبه يزيد في كل يوم، وأصبحوا يرتكبون كل عظيمة لا يهابون قصاصاً ولا عقوبة، واحتملت البلاد المجاورة لهم كل ما لا يستطاع حمله من الذي والإرهاق، ففرضت عليها الضرائب الثقيلة لا تميز في لك بين مسلم ومسيحي.
تلك كانت حال البلاد عندما ولى عماد الدين زنكي إمارة الموصل. وقد لوحظ في اختياره لهذه الإمارة ما عرف عنه من الكياسة وحسن الإدارة، والشجاعة في حرب الصليبين؛ فرأى الأمير الجديد أنه لا يستطيع النهوض بهذا العبء، وشمل الأمة ممزق، ووحدتها مبعثرة، فوضع نصب عينيه أن يوحد البلاد تحت قيادته، ويجمع أمرها في يديه، حتى يحمل على عدوه حملة رجل واحد، ويستخلص من بين براثنه الوطن المغتصب؛ فضم إلى إمارته معظم بلاد الجزيرة، ثم عبر الفرات واستولى على حلب وكثير من بلاد الشام، وحاول الاستيلاء على دمشق حتى تتم له وحدة البلاد ولكنه لم يوفق.
ورأى عماد الدين أن إمارته - وقد اتسعت رقعتها - في حاجة ماسة إلى الإصلاح الشامل؛ فنصب نفسه أباً لشعبه وسهر على إصلاح شئونه المالية، حتى يستند إلى دعامة قوية من المال فيما صمم عليه، وكانت البلاد قد خربت قبله، لطول غارات الصليبين عليها، وصار
كثير منها غير مزروع، وانقطعت التجارة لتعرضها لنهب الفرنج، فبذل زنكي جهوداً جباوة في إحياء الزراعة، وإعادة الرخاء إلى إمارته؛ فرجع الفلاحون إلى أرضهم، وبنيت المدن المخربة، وعاد إلى التجارة الحياة، كما أخذ العابثين بالنظام، وقطاع الطرق بالشدة والقسوة، وحكم إمارته بعين يقظي تنقل إليه عيونه كل ما يجري فيها وفيما حوله من البلاد، حتى لا يؤخذ على غرة. ونهض بالبلاد نهضة ثقافية، فكان هو ووزيره جمال الدين الجواد من حماة رجال العلم والثقافة. وأحاط نفسه بنخبة ممتازة من الرجال أغدق عليهم خيره، ولم يكن من صفاته التلون والتغير على أصحابه، فكانوا لذلك يخلصون له في النصح، ويبذلون نفوسهم في سبيله، وبهذا كله استطاع أن يجمع قوى هذه الإمارة ويوجهها إلى الصليبيين يحطم بها ما استطاع من قوتهم
كان الفرنج ينظرون إلى هذه الإمارة الناشئة بعين الريبة، فما هو إلا أن صمم عماد الدين على لقائهم عند حصن الأثارب سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وهو حصن قريب من حلب، اشتد ضرره على أهلها، فلا يكاد يمر يوم من غير غارة عليهم، أو نهب لأموالهم. حتى جمع الفرنج فارسهم وراجلهم يريدون أن يسددوا إلى تلك الإمارة ضربة قاضية، لا تقوم لها بعدها قائمة. ولعل الخوف من هذا الحشد الذي جمعوه قد داخل نفس بعض أصحاب العماد؛ فأشاروا عليه بالعودة، ولكن الحماسة المتدفقة في صدره ملأت نفوس جنده همة وإقداماً، فأقبلوا على أعدائهم في إيمان وبسالة يريدون أن يظفروا بالشهادة في سبيل الله. ولقد صبر الفريقان وأبلوا في المعركة أشد البلاء، ثم ظفر المسلمون بأعدائهم وانتصروا عليهم، وانهزم الفرنج هزيمة منكرة. قتل منهم عدد ضخم، ووقع الكثير من فرسانهم في الأسر وأذاقهم المسلمون من بأسهم ما أدخل في نفوس عدوهم الرهب والوهن، فلم يستطع الفرنج لقاء عماد الدين عندما مضى مجداُ بجنده إلى قلعة حارم بالقرب من أنطاكيا، وبذلوا له نصف دخل المدينة على أن يعقد بينه وبينهم هدنة، فأجابهم إلى ذلك، حتى يعطي جيشه الناشئ فرصة للراحة والاستعداد، وعاد بعد أن رأى الفرنج أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب وصار قصارى همهم أن يحفظوا ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك جميع البلاد.
رأى الفرنج هذا الخطر فأرادوا تحطيمه، ومضى ملك بيت المقدس إلى أعمال حلب
يهاجمها، وجاءت طائفة من فرنج الرها تغير عليها، فاستقبلهم عامل حلب وهزم الأولين، وأباد الآخرين. وأراد عماد الدين أن يثأر من عدوه، فانقض بجنده على اللاذقية وأثخن في الفرنج قتلا، وأسر منهم سبعة آلاف أسير، وكانت الغنائم أكثر من أن تحصر، وأخذت الروح المعنوية تقوى عند المسلمين، بينا دب الوهن والخوف إلى نفس أعدائهم، فلم يثأروا لأنفسهم، ومضى زنكي يكيل لهم الضربات المتلاحقة، ويأخذ منهم القلاع والحصون، ويسترد المدن والقرى، ويمنح أهلها الأمان والسلام حتى ضج الفرنج، وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به، ويحرضنه على أن يصل لينقذ البلاد قبل أن تملك، فأقبل على عجل، ثم مضى إلى حلب يريد أن يستولي عليها فلم يجد فيها مطمعاً، فذهب إلى قلعة شيرز، ولم تكن خاضعة لزنكي، يريد أن يجعلها قاعدة يشن منها هجومه. ولعل ملك الروم ظنها سهلة المنال، وأن العدو اللدود زنكي لا يعني بأمرها فحاصرها، ونصب عليها سبعة عشر منجنيقاً، ولكن صاحبها أرسل يستنجد بعماد الدين فجاء إليه مسرعاً بجيشه؛ غير أن ملك الروم كان قد جمع من الجند عدداً ضخماً؛ فرأى العماد أن يستخدم الحيلة في هزيمته؛ فكان يسير كل يوم إلى شيزر هو وجنده، ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل سرايا تأخذ من ظفرت به منهم، ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم بي استرحتم، وأخذتم شيزر وغيرها. فأشار فرنج الشام على ملك الروم بلقائه، فلم يفعل، وقال: أتظنون أن ليس له من الجند إلا ما تريدون؟ إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين مالا حد له. وكان زنكي يرسل إلى ملك الروم يوهمه أن قلوب الفرنج متغيرة عليه وأنهم سينفضون من حوله إن هو أقبل على الحرب، ويرسل إلى الفرنج يخوفهم من ملك الروم، ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً. فخاف كل من صاحبه، ورحل ملك الروم عن شيزر وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها؛ فتبع زنكي جند عدوه وظفر بالكثير منهم، ووقع في يده جميع ما تركه الفرنج غنيمة باردة، وقد بهر هذا النجاح شعب عماد الدين وخلده الشعراء في قصائدهم.
وكان أعظم ما قام به عماد الدين، أنه حطم إمارة كاملة من إمارات الصليبيين، تلك إمارة الرها، ففي جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة سقطت المدينة في يده بعد أن
حاصرها حصاراً عنيفاً. وقد فكر في أن ينزل عقوبة مخيفة بالصليبيين انتقاماً لما اقترفوه من مذابح عندما دخلوا بيت المقدس وأنطاكيا وغيرهما، ولكن إنسانيته غلبت غضبه، فلم يقتل عدا المحاربين أحداً، ولم يأسر رجلا ولا امرأة ولا طفلا. ولم يستول على ممتلكات أحد، وأمر جنده بإعادة ما أخذوه فعاد البلد آمناً عامراً
كان لسقوط الرها دوى عظيم في جميع الأرجاء. وكان فتحاً عظيماً ملأ قلوب المسلمين غبطة وبهجة، وأقبل الشعراء يهنئون عماد الدين بهذا الفتح وأكثروا وأطالوا؛ فمن ذلك ما قاله ابن منير:
صفات مجدك لفظ جل معناه
…
فلا استرد الذي أعطاكه الله
يا صارماً بيمين الله قائمة
…
ووفي أعالي أعادي الله حداه
أصبحت دون ملوك الأرض منفرداً
…
بلا شبيه، إذ الأملاك أشباه
فداك من حاولت مسعاك همته
…
جهلا وقصر عن مسعاك مسعاه
أين الخلائف عن فتح أتيح له
…
مظلل أفق الدنيا جناحاه
فتح أعاد على الإسلام بهجته
…
فافتر مبسمه واهتز عطفاه
أبقاك للدين والدنيا تحوطهما
…
من لم يتوجك هذا التاج إلا هو
ترك عماد الدين الزنكي حامية قوية في الرها، وأخذ يتابع انتصاراته على الصليبيين ويستخلص من أيديهم ما بقي من إمارة الرها، وبينما هو يحاصر إحدى القلاع اغتاله وهو نائم أحد مماليكه بإغراء أعدائه وذلك في ربيع سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
كان زنكي إلى جانب شجاعته وبسالته سياسياً ماهراً، يهادن عدوه، ويلين إذا رأى ذلك ضرورة أو كان محتاجاً إلى وقت يجمع فيه شمله، وبعد عدته فإذا رأى الفرصة مواتية انقض لا يلوي على شيء، ويفرق بين خصومه بالحيلة والمكر حتى يأخذ كلا على حدة، وساعده على النجاح في حروبه ما بثه من العيون في بلاد عدوه تأتيه بالأخبار وتنقل إليه حقيقة الحال.
مات عماد الدين وألقى عبء إكمال جهاده على عاتق ولده نور الدين، وأرجو أن أوفق في كلمة أخرى إلى بيان المدى الذي بلغه الابن العظيم في تحقيق آمال والده البطل الكبير.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول
علم النفس والقضاء الجنائي
للأستاذ حسين الظريفي
ما من أحد يحضر مجلس القضاء إلا تملكه الشعور بالحرمة والكرامة اللتين تغمران جو المكان. لا فرق في ذلك بين من كان من المتقاضين أو السامعين والقاضي نفسه، وهو على منصة القضاء، ليمازجه نفس الشعور الذي يشعر به سواه ويدخل مع الداخلين في ذلك الجو الخاص الذي تفرضه طبيعة القضاء على كل من حضر مجلسه. فالجميع سواء في تلقي المعنى الخالد الذي يوحي به حكم القانون فيما يعمل العاملون.
إن هذه الحرمة التي كانت وما تزال؛ وستبقى إلى الأبد، وهي أقوى شعور يمتلك أنفس الناس وهم وقوف أمام عدل القانون - قد صاغت الكلمة القديمة التي تقول بأن روح القضاة من مصدر إلهي، وجعلت قضاة القرون يعتقدون في أنفسهم القدرة على استجلاء غوامض الأشياء، مهما تعقدت العقد، وامتد بها الأمد، ولم يقوا عليها من أحد. ولكننا نجد اليوم أن تلك الكلمة القديمة قد أصبحت كلمة جوفاء لا تدل إلا على معنى تاريخي ولا تزال إلا إلى لك الشعور الذي كان يمتلك الإنسان في زمن كان. فعصمة القضاء من الأخطاء لم تعد مما يدعيها أحد على أحد. والقضاة أنفسهم لا يدعونها على الناس ولا يرتضون أن ينسبها لهم الناس. وهم في أعماق نفوسهم يشعرون بثقل أمانة العدل المودع إليهم توزيعه على المتقاضين، ويحققون ويدققون فيما يحكمون، لعلهم أنهم مثل غيرهم عرضة للخطأ، وإنهم قد يضلون السبيل، ويفقدون الدليل، وينوءون بالعبء الثقيل.
والقوانين الأصولية تفصح في إجراءاتها عن مدى حفظ حقوق المتقاضين من أخطاء القضاة، فالحكم لا يصدر إلا وله معقب ممن صدر عليه، ومحكمة أعلى يلوذ بها ذلك المعقب لتفادي أخذه بما لم تقدمه يداه. ثم إن الحكم يعلن في جلسة علنية وعلى ملأ من الناس، ومن حق كل سامع له أن يستعرضه ويعرضه وأن يبدي الرأي فيه، وتلك تعليقات الفقهاء على أحكام القضاة دلائل مواثل على مدى ما يمكن أن يخطأ فيه القضاة.
والقاضي الجنائي، كالقاضي المدني، قد يخطئ في فهم النص وفي تطبيقه على الوقعة، ولكنه ينفرد عن القاضي المدني بما قد يقع فيه من الخطأ في معرفة الجاني، وفي تعيين مدى أخذه بجريرته ونوع وشدة العقاب الواجب فرضه عليه، فتلك ميادين فسيحة لا يجري
فيها القاضي المدني، ويلزم بالجري فيها القاضي الجنائي ليتخطى الخطأ ويصيب الصواب فيما يقضي به على الأضناء.
ومما لا ريب فيه أن الشهادات المدلى بها أمام القضاة وسائر البينات المعروضة عليه، لا تكفي وحدها دليل نفي أو إثبات، فهناك الشخصية التي تدور عليها هذه البينات، وهي شخصية المتهم، ولا بد من إيضاح الخطوط الدقيقة التي تتجاذب أو تتنافر عندها تلك الأدلة مع شخصية المتهم لتقوم حجة له أو عليه، وهذا ما يضطلع به علم النفس وما تسديه يداه. ثم هناك ماهية الجريمة، فإنها هي الأخرى لا تقدر حق قدرها إلا بعد إيجاد نقط اتصالها بشخصية المجرم، وذلك ما يعنى به علم النفس أيضاً ويقوى عليه. بل إن الأدلة نفسها لا بد من النظر إليها على ضوء هذا العلم قبل الأخذ بها أو طرحها، حتى إذا ثبتت إدانة المتهم وعد مجرماً وأريد فرض العقاب عليه، برزت أمام القاضي الجنائي مسألة خطيرة هي تعيين درجة مسئوليته عن جريمته، وهنا تنفتح أما القاضي الجنائي أبواب علم النفس الحديث لتفتح مغالق هذه المسؤولية في الأعماق البعيدة من نفسية المجرم.
والواقع من الأمر أن المجرم يحمل في جوانحه نفسية شاذة معقدة قد ترسبت فيها أعقاب وراثة طويلة، واستقرت عندها تربية منزلية واجتماعية عليلة وبيلة، وبتفاعل هذه بتلك وتلك بهذه، نشأت عنده الميول الإجرامية، ثم أتيحت لها فرصة العمل بشكل اعتداء على المجتمع.
إن العمل مهما كان شكله وموضوعه لا بد أن يكون ناشئاً عن حافز داخلي، ولا بد لتقدير هذا العمل وإعطائه القيمة الحقيقية له، وتعيين درجة مسؤولية صاحبة عنه، من إزالة الستار عن ذلك الحافز الذي يكمن وراءه. والمجرم مهما كان مالكا لروعه وهدوئه عند مقارفته الجريمة، لا بد أن يكون خاضعاً لتأثير خفي في نفسه، فهو رجل شقي غير سوي، ومقدار شقائه يجب أن يقدر بمقدار ما له م حرية إرادة تجاه ذلك العامل غير الشعوري الذي يمكن أن ندعوه بعامل الجريمة.
إن تحقيق العدالة في تطبيق الإجراءات الجنائية على الوقائع والجناة بحيث تؤدي إلى معرفتهم لا تكفي وحدها دون أن تضم إليها العدالة تطبيع قانون العقوبات على الجناة، بحيث تفرض على كل جان العقوبة المؤثرة فيه، فتنزل عنده بمنزلة الدواء وتمنحه الشفاء
من علة ما فيه من الميل إلى الإجرام.
وقد يقع الفعل الذي يمنعه القانون ويعاقب عليه دون أن يؤاخذ عليه الفاعل، وذلك فيما إذا كان في حالة يعفى فيها من العقاب، تلك حالة تستوجب حسن تطبيق القانون، ولا سبيل إلى حق هذا التطبيق إلا عن طريق دراسة نفسية الفاعل مضافة إلى دراسة طبيعة الظروف الذي وقع فيه الفعل.
ذلك بعض ما أمكن الإشارة إليه في هذه الكلمة القصيرة، وهي تفصح عن المدى الذي يصل إليه ويتغلغل فيه علم النفس من مباحث المجرم والجريمة في القوانين الإجرائية الجنائية والعقابية. ولاختلاف هذه المباحث في موضوعاتها وتشعب أصولها وفروعها ذهب علماء الفقه الجنائي لا إلى إحداث علم نفس خاص يعني بموضوع المجرم والجريمة، ويتقل بمباحثة عن علم النفس العام، ولكن بتقسيم هذه المباحث إلى موضوعات، وإفراد كل موضوع منها بعلم نفس خاص له أسلوبه وأغراضه ودوره الذي يؤديه في ساحة القضاء.
وهكذا وجد علم النفس القضائي، وهو العلم الذي يحلل فيه القاضي الجنائي نفسيات جميع أفراد الدعوى العامة من شاك بمثل الهيئة الاجتماعية في شخصية النيابة العمومية، ومن متهم، ومجني عليه، وشهود إثبات، وشهود دفاع وخبراء ووكلاء، ثم هو قبل ذلك وبعد ذلك يحلل نفسيته تجاه أدلة الدعوى وتجاه أفرادها ليأمن شر ما يكمن وراء شعوره من منازع ودوافع الانحياز إلى جهة التجريم أو البراءة، فيحتفظ بحياده القضائي في كل مرحلة من مراحل الدعوى وفي كل إجراء من إجراءاتها ولا يغفل عما يفعل.
تلك هي نظرة القاضي إلى نفسه، وأما نظرته إلى أفراد الدعوى الآخرين، فإنها توقفه على حالة المتهم الماثل أمامه أبرئ هو أمسيء، وهل يصدق هذا الشاهد أو ذاك في شهادته هذه أو تلك، أم هو يكذب فيها عن عمد أو غير عمد؟ وهل هناك مؤثرات شعورية أو غير شعورية لامست ولا بست الخبراء والوكلاء فتأثروا بها عن شعور أو عن غير شعور فأعرضا عنها أو استجابوا لها، ومدى تأثير ذلك في أقوالهم وأعمالهم في جميع درجات التحقيق والمحاكمة؟
وُجد علم النفس الجنائي، وهو العلم الذي يفسر الجريمة بالتفسير العلمي، ويحلل نفسية المجرم، ويمج يده إلى جذور الإجرام فيه.
ووجد علم النفس القانوني، وهو العلم الذي يضمن للقاضي حسن تطبيق نصوص القانون العقابية على الوقائع الجرمية من حيث تعيين درجة المسؤولية التي يمكن إلقاؤها على عاتق الجاني
وهكذا نجد علم النفس القضائي يسير في ركاب القاضي الجنائي من أول مراحل الدعوى إلى آخرها فيحفظه من مغبة الحكم على البريء والإفراج عن المسيء ويعين من هو الفاعل.
ونجد علم النفس الجنائي يظهر في قاعة المحاكمة عندما ينتهي علم النفس القضائي من تعيين الفاعل فيقوم فيه بدور التحليل ورد الجريمة إلى أصولها وبواعثها لتعيين كونه مجرماً أو غير مجرم، ثم يأتي الدور لعلم النفس القانوني، وهو دور غير حتمي، وفيه يضع القاضي مواد القانون في الموضع الذي أراده الشارع بالقياس إلى تعيين موقف الفاعل من الظروف المبيحة لارتكاب الفعل أو المعفية من العقاب، ويقرر كون الفاعل مسؤولا أو غير مسؤول
تلك هي العلوم النفسية الثلاثة التي لا غنى عنها لكل قاض جنائي يهمه الاضطلاع بأعباء الدعوى العامة على الوجه الذي يحقق العدل ويربح الضمير ويزيد من ثقة الناس بالقضاء.
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 4 -
يرجع السر في أن قبيلة تميم نالت قسطا كبيراً من عناية الرواة وغلب ذكرهم لها ومعرفة الكثير مما انفردت به إلى أنها كما قدمت في مقال سابق كانت تسكن جانب نجد المجاور للعراق.
ومعلوم لنا أن التنافس العلمي والسبق فيه كان ميدانه البصرة والكوفة المواجهتين لصحراء العراق حيث يخرج منهما - وعلى الأخص البصرة - العلماء والمتأدبون إلى البادية ليأخذوا اللغة من أفواه أربابها الذين لم تفسدهم العجمة. وكان إليهما يقصد الراغبون في رواية الشعر ومأثور القول وضبط اللغة وغربيها على أعلام شيوخهما كأبي عمرو وأبي عبيدة، والأصمعي وأبي زيد، وخلف وحماد، والمفضل الضبي وابن الأعرابي، وغير هؤلاء وأولئك ممن كانت لهم في العربية وعلومها قدم راسخة فلا عجب أن كانت تميم - وبطونها كثيرة - هي أول ما يروي لها ويؤخذ عنها. يضاف إلى هذا ما قدمته في المقال الأول من أن البصرة والكوفة قد شملتا في مبدأ إنشائهما عددا كثيرا من تميم، وهذه من تكملة ما خالفت فيه غيرها وبخاصة الحجازيين:
1 -
(عسى) من أفعال المقاربة تستعمل تامة بمعنى أن ما وليها يعرب فاعلا لها وذلك إذا ما جاء بعدها (أن والفعل) كقول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم).
وتستعمل ناقصة بمعنى أن يكون لها اسم وخبر مشبهة (كان) في العمل وذلك إذا ما جاء بعدها اسم ظاهر أو اتصل بها الضمير فيعرب اسماً لها، وبعده (أن والفعل) فيعرب خبراً لها كقول الله تعالى (عسى الله أن يأتي بالفتح). إلا أن أهل الحجاز لا يلحقون بعسى الضمائر ولا التأنيث. يقولون: هند عسى أن تقوم والمحمدان عسى أن يقوما، والمحمدون عسى أن يقوموا. . .، لذلك تعتبر عندهم في مثل هذا التركيب مكتفية بفاعلها غير محتاجة لخبر. أما التميميون فيلحقون بها التأنيث والضمائر يقولون: هند عست أن تقوم والمحمدان عسيا. . . والمحمدون عسوا. . .، فتكون في مثل تركيبهم هذا ناقصة. وإذن فتميم
تستعملها ككان الناقصة دائماً، وأهل الحجاز لا يجعلونها كذلك إلا في حالة ما إذا تلاها اسم ظاهر وبعده (أن والفعل).
والقرآن الكريم في أغلب قراءاته لم تقع فيه الضمائر مع عسى إلا في موضعين (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) و (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراُ منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) بالإضمار فيهما على لغة تميم (عسوا أن يكونوا عسين أن يكن. . .).
ثم إن عسى فيها لغتان: (أ) أن تكون على وزن سمى، (ب) أن تكون على وزن لقي. غير أن الثاني منهما هجر استعماله على إطلاقه واقتصر فيه على اتصاله بتاء الفاعل أو نون النسوة أو (نا). ومن العجب أن أبا حيان في البحر نقل عن أبي بكر الأذفوي وغيره قولهم: إن هذا الكسر لغة الحجازيين. وقد رأينا أن ذلك لا يكون إلا حين الاتصال بالضمائر السابقة وأن الحجازيين لا يلحقونها فإذا صح ما نقله أبو حيان عن الأذفوي يكون إلحاقهم الضمائر بعسى منتقلا إليهم من تميم إذ الأصل في الاستعمال ما قدمته نقلا عن تفسير أبي حيان نفسه وعن الأشموني وليس استعمال قبيلة للغة قبيلة أخرى بالأمر البعيد وعلى الأخص الحجازيين الذين خالطوا كل القبائل واقتبسوا من لغاتهم ما راق لهم. ومواسم الحج وأسواق العرب المشهورة لها أكبر الأثر في تقارب اللغات وتفهم الألفاظ والتراكيب المنتشرة بين القبائل المختلفة. قال أحمد بن فارس بعد أن تكلم في كتابة الصاحبي على اختلاف لغات العرب ما يأتي: (وهي وإن كانت لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت تعاورها كل).
هذا وقد قرأ نافع المدني (عسيتم) في موضعيها السابقين بكسر السين وقرأ الباقون بفتحها.
2 -
في اسم الإشارة المفرد للمذكر لا تلحق به تميم اللام في حالة البعد بل تلحق به كاف الخطاب فحسب. لكن الحجازيين يلحقون به اللام مع الكاف. فعند تميم (ذاك وتيك) للبعيد وعند الحجازيين (ذلك وتلك) ومن هذا يتبين لنا أن بعض النحاة حين يقولون. هذا للقريب، وذاك للمتوسط وذلك للبعيد، فيه خلط بين لغات القبائل إذ وجدوا صيغا ثلاثا فعللوا لها وفرقوا بينها. ونحن إذا لاحظنا مثلا كلمة (ذاك) في إشارتنا نجدها أوضح في البعد من
(ذلك) لما فيها من إطالة لحرف المد وافية بالغرض. وما تزال المهملة في الإشارة البعيدة للمذكر، و (ديك) للمؤنثة البعيدة. والواقع أن الشيء إما قريب منك حسا أو معنى، أو بعيد منك كذلك. وفي اللغة الإنجليزي وفي الفرنسية
ومما يلحق بهذا أيضاً (هناك وهنالك)، فالحجازيون هم الذين يلحقون اللام وتميم لا تلحقها جريا على قاعدتها من أنها لا تلحق اللام. وكذلك أولاء يمدها الحجازيون غير أنهم يلحقون بها الكاف فقط في حالة الإشارة إلى البعيد، وتميم تقصرها وتلحق بها الكاف أما قبائل قيس وأسد وربيعة فإنها تقصر أولاء كتميم لكنها تلحق بها اللام مع الكاف، وقد ورد على لغتهم:
أولا لك قومي لم يكونوا أشابة
…
وهل يعظ الضليل إلا أولا لكا
ومما يلحق بهذا أيضاً أن تميما لا تقول (هذه) في وصل الكلام وإنما تقول (هذي) فاذا وقفوا قالوا (هذه)، أما الحجازيون وقيس فيقولون (هذه) في الوقف والوصل. ولم يرد في القرآن الكريم استعمال (هذي ولا ذاك، ولا تيك ولا هناك، ولا أولا لك ولا أولاك) بل كل ما جاء فيه على لغة الحجازيين (إن هذه تذكرة)، (وذلك هو الفوز العظيم)، (الك الرسل)، (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، (هناك الولاية لله الحق).
ويضاف إلى ما تقدم أن قبيلتي تميم وقيس تقولان (ها هِنَّا) بكسر الهاء وتشديد النون وغيرهما بضم ففتح بدون تشديد.
3 -
(إما) التي للتفصيل تنطقها قبائل تميم وأسد وقيس بفتح الهمزة، ففي مثل (أنت كريم وإما بخيل) يفتحون همزتيهما وبعض منهم يقلب ميمها الأولى مع ذلك ياء. وقد روي لرجل من عبد القيس يقال له سعد وكان عاقا لأمه:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها
…
أما إلى جنة أما إلى نار
وروي أيضا (أيما إلى جنة أيما إلى نار).
فاذا استعملت تميم (أما) الشرطية المفتوحة الهمزة قلبت ميمها المدغمة الأولى ياء. ويبدو أن الشعراء في صدر الإسلام كانوا - تظرفا منهم أو لانتشار اللغات - يقحمون لغة قبائل أخرى ليسوا منها لشهرتها بين العرب ومعرفتهم لها، لذا نجد عمر بن أبي ربيعة وهو حجازي يروي بيته الآتي على لغة تميم:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت
…
فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
4 -
ما فتئ وما يفتأ فلان يعمل كذا - من أخوات كان - تقولهما تميم ما أفتأ فلان وما يفتئ فتجعله رباعيا. ولم يرد في كتاب الله إلا قوله تعالى (تا لله تفتأ تذكر يوسف) ولم يقرأ بها أحد على لغة تميم.
5 -
لعل - من أخوات إن - تنطقها تميم لغن بالغين المعجمة والنون قال الفرزدق:
قفا يا صاحبي بنا لغنا
…
نرى العرصات أو أثر الخيام
وليس في القراءات الصحيحة هذا الاستعمال
6 -
(الههة): تأثرت بعض بطون تميم بالفرس، كما تأثرت بذلك قبيلة لخم وما جاورها، فبنو سعد بن زيد مناة من تميم ولخم ومن قاربها يبدلون الحاء هاء قال النعمان بن المنذر لرجل ذكر عنده رجلا: أردت أن تذمه فمدهته. وقال رؤبة بن العجاج وهو من بني سعد بن زيد مناة:
لما رأتني خلق المموه
…
راق أصلاد الجبين الأجله
بعد غداني الشباب الأبله
ومنها: لله در الغانيات المدة. أراد: الأجلح والمدح.
وقد وردت ألفاظ كثيرة في كتب اللغة مترادفة وليس من فرق بينها إلا أن هذه بالحاء وتلك بالهاء مع أن الوزن والترتيب واحد. فكل ما ورد من ذلك، إنما هو نطق القبائل المتأثرين بالفرس. وفي رأيي أن جميع الألفاظ التي أبدلت حاؤها هاء يجب أن تحفظ كأثر أدبي تاريخي ولا ينبغي أن نستعملها في أساليبنا. ولذلك يجدر أن يلاحظ هذا من يقومون بوضع المعاجم فينخلوها ويضموها إلى أصولها المتفرعة منها، مشيرين إلى عدم جواز استعمالها ولا ينبغي أن يضعوها في مواد مستقلة. وأعتقد أنه لا يجوز لنا أن نقول فلان مليه حينما نريد أنه مليح. ومدهت فلاناً حينما أقصد أنني مدحته ولا معنى لأن نجعل ملح أو مدح في باب الحاء فصل الميم ومله أو مده في باب الهاء فصل الميم في معاجم اللغة وأذكر أنني كتبت في هذا الشأن بحثاً واسعاً نشر أغلبه وفيه قواعد وضوابط يمكن الاسترشاد بها لمن شاء.
7 -
العنعنة: تحرص القبائل النجدية على أن توضح الهمزة وبخاصة في أول الكلمة أو آخرها خشية أن يجور عليها بدء النطق أو الوقف فيقوون الهمزة إلى أن تكاد تقارب العين
وفي بعض الأحيان ينطقونها عيناً، وهذا ما يسمى حينئذ عنعنة وقد نسب إلى تميم وقيس أنهما تقولان في أن عن وفي أسلم عسلم وقد جاء من ذلك:
فما أبن حتى قلن يا ليت (عننا)
…
تراب و (عن) الأرض بالناس تخسف
ويبدو أن تميماً تقلب الهمزة الأخيرة في بعض الأحيان عيناً فقد ورد أن قبيلة تميم تقول في الخباء خباع.
8 -
الكشكشة والكسكسة: وكما تحرص القبائل النجدية على توضيح الهمزة تحرص كذلك على إبراز الحركة الأخيرة إذا كان في الوقوف عليها لبس وذلك في كاف المخاطبة إذ أن الوقف عليها بالسكون يجعلها تلتبس بكاف المخاطب فللفرق بينهما قلبوا كاف المؤنثة شيناً ثم توسعوا في ذلك فقلبوها في حالة الوصل أيضاً، وهذا ما يسمى كشكشة، وقد روي لقيس أبن الملوح:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها=سوى عن عظم الساق منش دقيق
وأصله عيناك وجيدك ومنك. وفي البيت شاهد آخر وهو همزة أن التي أبدلت عينا. ومن كشكشتهم ما يكون بالحاق شين ساكنة بكاف المخاطبة حين الوقف عليها (رأيتكش). وهه الكشكشة وتلك في قبائل تيم وقيس وأسد وربيعة. وبعض بطون هذه القبائل يجعلون بعد كاف المخاطبة أو بدلها سينا وذلك ما يسمى الكسكسة.
قال الزبيدي في مقدمة شرح القاموس: الكشكشة في ربيعة ومضر والكسكسة فيهم أيضاً. وقال الأشموني: الكشكشة في لغة تميم والكسكة في لغة بكر من ربيعة. وفي شرح الرضي على كافية ابن الحاجب: ناس كثير من تميم وأسد يجعلون مكان كاف المؤنث شينا.
غير أننا نجد صاحب القاموس - وشارحه الزبيدي أيضاً - تارة يقول الكشكشة لتميم والكسكسة لبكر. ومرة يقول الكسكسة لغة تميم لا بكر وقيل الكسكسة لهوازن وهي من قيس، ومرة يقول: كشكشة أسد وكسكسة ربيعة ويوافق في ذلك أحمد بن فارس في كتابه الصاحبي. ومرة يقول الكشكشة في بني أسد أو في ربيعة. ومرة يقول إن إبدال الكاف التي للخطاب شينا لغة بني عمرو من تميم. وعلى كل حال فإن بطون تميم جمعت بين النوعين ما ذلك إلا لمجاورتها كما سبق أن قدمته في مقال سابق - لمختلف هذه القبائل من أسد وقيس وربيعة.
لكن أهل اليمن يجعلون الكاف شينا مطلقا وسمى ذلك شارح القاموس (الوتم) وسماه الأستاذ هاشم عطية في كتابه الأدب العربي نقلا عن بعض المصادر (الشنشنة) والقلقشندي في صبح الأعشى، قصر أهل اليمن على حمير، وقصر الكاف على التي للخطاب. هذا ولم تقع في القراءات الصحيحة تلك الأنواع من قلب الكافات شينا أو سينا أو إلحاق شين أو سين. وقد سمع في قراءة شاذة: قد جعل ربش تحتش سريا
9 -
العجعجة: اشهر عن قضاعة وهي يمينة من قبائل حمير أنها تقلب الياء المشددة الأخيرة جيما وذلك لضعف الياء فقلبوها حرفا قويا وهو الجيم لكن (فقيما) من دارم من تميم كثيراً ما نقلب الياء وسطا أو آخر مشددة أو مخففة جيما تقول في أيِّل المشدد أجل وفي أزيم المخفف أزجم وفي غلامي غلامج وفي تميمي تميمج ما ذلك إلا حرصاً على إبانة الحروف، وقد سمع في المشدد:
خالي غويف وأبو (علج)، المطعمان اللحم (بالمشج)
وسمع في المخفف:
لا هم إن كنت قبلت (حجتج)
…
فلا يزال شاحج يأتيك (بج)
ولم ترد هذه اللهجات المستكرهة في قراءة صحيحة لكتاب الله الكريم.
(للبحث بقية)
عبد الستار أحمد فرج
محرر بالمجمع اللغوي
طرائف من العصر المملوكي:
صلاح الدين الصفدي المؤوخ
للأستاذ محمود رزق سليم
إذا عُنينا في هذا المقال بالحديث عن صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي مؤرخاً، فليس معنى ذلك أن هذه الصفة وحدها خصوصيته التي بها امتاز، ولأجلها ذكر وفضل بين أعلام الأدب العربي. ذلك لأنه كان كاتباً مترسلا له منهج، وأدبياً كيساً له ذوق، وشاعراً قادراً ذا نزعة. وهذا إلى جانب أنه من هواة التأليف، بمعنى أنه ذو فن في اختيار موضوعاته، وله ولوع بتلمس مادتها من بين الغرائب التي تند عادة عن الأذهان، أولا تفطن إليها في هوادة ويسر. وكل خصوصية من هذه، جديرة بالدرس والبحث والتمحيص حتى تبرُز نفاستها للعيان.
والصفدي إلى جانب هذا وذاك - مكثار في نثره وشعره وتأريخه، لا يرضى في عمله الأدبي بالموجز المقنع أو القليل النافع، ولم يعمل قط بتلك الحكمة التي تقول:(خير الكلام ما قلَّ ودلَّ). وكأنما كان يشعر أن ليس وراء الإيجاز إعجاز، ولا غب الاقتضاب إعجاب. وأن المقل إما أن يُبقي شيئاً في ضميره، أو يعبر عن عجزه وتقصيره. وإذا كان الأديب بعد أن يبعث خواطره مقالة باهرة، أو ينفث مشاعره قصيدة عامرة، يشعر أنه لم يبعث في جميع ما في فؤاده، ولم ينفث كل ما في نفسه، وأن شيئاً في أعماقه لا يزال يقلقه ويؤرقه، التمسنا العذر لصلاح الدين الصفدي في هذا الإكثار الذي لم يبغ من ورائه إلا أن يبرز أكثر ما يستطيع إبرازه من خفيات خواطره، ومدخرات نفسه، جاهداً في أن لا يبقي في طواياها بقية يقلقه بقاؤها - وهذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الأديب، حتى يمتع الناس بأكثر أدبه وفنه. وفي سبيل ذلك الإمتاع يتناسون له غثه وسقطه. وإن كان الأديب الموهوب معجباً في إكثاره أو إقلاله.
كان الصفدي إذاً مكثاراً، طبعه في ذلك طبع الأديب المليء لا يهدأ لسانه لهجاً بالأدب وترديداً له، وفي نفسه مشاعر تجيش، وفي أطوائه أحاسيس تثور. وكان له مذهب في الكتابة والشعر يلتزم فيهما أموراً وقيوداً على رأسها الجناس، فقد كان متعصباً للجناس مخالفاً في ذلك مذهب أدباء عصره الذين كلفوا بالتورية ولم يشغفوا بالجناس إلا إذا خرج
مخرج التورية. وكان مولعاً - كما أعتقد - بمداعبة أدباء عصره، ومن مسالكه إلى تلك المداعبة أن يسطو على شعر أحد أنداده، فيسرق معانيه أو ألفاظه، أو يسلبه شيئاً منها، حتى يثيره ويهيج خاطره. وفي مقدمة هؤلاء الأنداد شاعر العصر وفحله الجمال بن نباتة المصري؛ فكان من جراء لك كله، أن شغل الصفدي أهل عصره وأثار ثائرة أدبائه، بل والأدباء من بعده. فألف فيه ابن نباتة كتابه (خبز الشعير) الذي جمع فيه سرقاته من شعره. وحمل عليه ابن حجة من بعده في خزانته، ونعى عليه جنونه بالجناس حتى ألف فيه كتابه (جنان الجناس). وأنشد ابن أبي حجلة المغربي يقول عن الصفدي وسرقاته مورياً:
إن ابن أيبك لم تزل سرقاته
…
تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه
…
جهلا فراح كلامه في الريح
وهكذا ترى بين قدامى النقاد من لا يرحمون الأديب، ولا يتكيسون في نقده، ولا يترفقون بسقطاته، ولا يعتذرون لغثه
على أن الصفدي، قد قدم المعذرة لنفسه بين يدي نقاده وقرائه، عما اجترح، فقال في مقدمة كتابه (ألحان السواجع) ما يلي:
(وليعذر الواقف على ما هو منحط العمل، غير راق إلى درجة الكمال بدره، ولم تشرق شمسه في الحمل؛ فإن فيه أشياء لم تهذبها الروية، وأعجلها الارتجال وألقاها الفكر من رأس القلم فجاءت فيه بُنَيَّاتالطريق لعدم الوصول إلى ربات الخدور والحجال
وليس يعاب المرء في يوم جبنه
…
إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس)
هذا كله كلام يقال عن الصفدي إذا كان الحديث عن كتابته الفنية أو شعره. أما إذا كان الحديث عن كتابته في التاريخ ومؤلفاته فيه، فإن مسلك الكلام يتغير، ومجرى القول ينحرف. فالمؤرخ المكثار له جلاله وخطره. حقاً قد يسوق مثل هذا المؤرخ قارئه إلى شيء من الشك، يدفعه إلى حسن النظر ودقة التمحيص، كما قد يختلط في قوله، التافه والمرذول، بالنافع والمقبول. ولكنه، حتى في هذه يستطيع الباحث فيه والمعقب عليه أن يستنبط أموراً لها قوتها وقدرتها في مجال الاستدلال التاريخي.
وقد برز في العصر المملوكي جملة من كبار المؤرخين المكثرين الذين لم يقنعوا بالقليل، فوضعوا في تاريخ بلادهم وغيرها الموسوعات الجامعة. منها ما هو في التاريخ السياسي
العام، ومنها ما هو في تراجم الأعلام، ومنها ما هو في الخطط والآثار، إلى غير ذلك. ويرى المطالع في مستطرداتها، طرائف جمة معجبة مطربة، في نظم البلاد وإدارتها وآدابها وتقاليدها ومزاج أهلها وروح مجتمعها. وتوالوا على هذا الغرار زمراً بعد زمر، وجيلا إثر جيل. وقد كان من نصيب القرن الثامن الهجري أن لمع فيه نجم الصلاح الصفدي مؤرخاً، فضلا عن لمعانه أديباً وناقداً.
ولد الصفدي بصفد عام 697هـ. وشرع منذ حداثته يتعلم صناعة الخط حتى مهر فيها. ومال إلى الأدب وسماع الحديث. ونبه في الكتابة والنظم. وأخذ يطوف في طلب العلم بين آفاق مصر والشام، حتى برز بروزاً واضحاً بين أدباء البلدان ونهج من دونهم منهجه الخاص الذي أشرنا إلى طرف منه. وراسل وساجل وداعب وعقد لواء المحبة والصداقة بينه وبين كثيرين من أفذاذ جيله. واشتغل بالتأليف وجمع الأدب وبخاصة آثار معاصريه. وولى عدة مناصب منها: كتابة السر بحلب، وتصدى للتدريس بجامع دمشق في أخريات حياته، وتوفى بها عام 764هـ.
وتنقسم مؤلفات الصفدي إلى نوعين: 1 - مؤلفات أدبية 2 - مؤلفات تاريخية. وفي الحق أن من الصعب أن نفرق بين النوعين؛ ولك لأن كتبه الأدبية - وإن كانت فياضة بصنوف الشعر والنر والنقد، يروى فيها ويقرن وينقد وينوع ما شاءت له مجموعاته الفريدة - لم تخلص لوجه الأدب، بل تتخللها السير والأخبار، ويملؤها ذكر الحوادث وقص الوقائع. وكتبه التاريخية - وإن كانت في صلب التاريخ وذكر حوادث الرجال وسرد أنبائهم - لم تخلص لوجه التاريخ، بل يتخللها الكثير من الشعر والنثر. فهي مدد عظيم للأدب، كما أنها معين فياض للتاريخ.
وكتبه التاريخية كلها في تراجم الرجال. وهذا يدلنا على تأصل الروح الأدبية فيه، لأن كتب التراجم تمت - عادة - إلى الأدب بصلة قوية كما تمتُّ للتاريخ. ولولا أن تراجمه تحتوي على سير الملوك والأمراء والقادة ومن لف لفهم من أهل السياسة والإدارة والحل والربط، لعددناها من الكتب الأدبية الخالصة. فهي بلا ريب منهل عذب لتاريخ الأدب ورجاله - وليس معنى ذلك أن الرجل بعيد عن ميدان التاريخ الصراح. لا! بل إننا لنشعر شعوراً قوياً - كلما تصفحنا مؤلفاته - بأصالة النزعة التاريخية فيه.
وأفضل ما تمتاز به مؤلفات الصفدي بنوعيها العناية بتراجم معاصريه وتسجيل نصوص من شعرهم ونثرهم مع نصوص من شعر المؤلف ونثره. وهكذا ترى أنها مصادر فريدة لأدب جيله وتاريخ رجاله وأن من كتب بعده في أخبار الرجال اعتمد عليها اعتماداً ملحوظاً عند حديثه عن الجيل المذكور. كما أنها تدلنا دلالة ملموسة على ذيوع الروح الأدبية فيه، وعلى تعدد آفاتها التي سرحت إليها، وذلك لكثرة ما سجل من تلك النصوص فيها، مع تنويعها.
وأبرز موسوعات الصفدي التاريخية كتابه (الوافي بالوفيات) ولعل الصفدي قرأ كتاب ابن خلكان (681هـ). (وفيات الأعيان) وهو جزآن في التراجم، فرآه ضئيلا لم يف بتراجم كثير من الأعلام. فأحب أن يستدرك عليه ويعقب بما وسعه علمه. فألف لذلك كتابه (الوافي بالوفيات) وهو اسم متأثر بتسمية ابن خلكان غير أن فيه دلالة على فكرة مؤلفه.
وقد ذيل ابن شاكر الكتبي كتاب وفيات ابن خلكان، بجزأين صغيرين في كتاب سماه (فوات الوفيات) أقل شأناً من وفيات ابن خلكان في كثير من خصائصه.
ولكننا لا ندري بالضبط أي الرجلين: الصفدي أم ابن شاكر سبقت إليه فكرة التعقيب والاستدراك. ونحن نعتقد أن الصفدي أسبق، لأن ابن شاكر كلما ذكره الصفدي في (فواته) قال رحمه الله. ونذكر هنا - بهذه المناسبة - أن الرجلين ماتا في عام واحد هو (764هـ). كما جاء في درر ابن حجر. غير أنه من الغريب أن ابن شاكر انتهى من تأليف (فواته) عام 754هـ. فهل مات الصفدي في هذا التاريخ أو قبله وغلط في ذلك ابن حجر؟ أم أن إضافة رحمه الله إلى الصفدي من صنع النساخين أو الطابعين؟.
ومهما يكن من شيء، فقد ألف الصفدي كتابه (الوافي) - وهو من أسبق مؤلفاته - ليفي فيه بتراجم الأعلام من كل صنف بدون تفريق بينهم في العصور أو الأمصار أو الفنون أو الحرف. وبلغت أجزاؤه نحو الخمسين، بها من التراجم بين موجز ومطول. ومن سوء الحظ، أن الأحداث بددت هذه الأجزاء وفرقت شملها، ولو جمعت وطبعت لألقت أضواء ساطعة جديدة على أدب مصر والشام وتاريخهما.
وفي دار الكتب المصرية منه سبعة عشر جزءاً بالتصوير الشمسي عن مخطوطة. وبها أيضاً الجزء الأول في طبعة أنيقة ممتازة، طبعت في الآستانة عام 1931م بإشراف جمعية
المستشرقين الألمانية.
وقد تحدث المؤلف في خطبة الكتاب عن الأمة الإسلامية ورجالها ومآثرهم. ونوه بالغرض من كتابه. واختتم بذكر أسماء من ألفوا في السيرة مع بيان مؤلفاتهم فيها.
واتبع الصفدي في إيراد التراجم الترتيب الهجائي. غير أنه ابتدأ بالمحمدين ثم الأحمدين تيمناً باسم الرسول عليه الصلاة والسلام. ويهمنا أن ننوه بشيئين: أولهما أن الصفدي قدم مؤلفه بمقدمة عظيمة القيمة جليلة النفع. وهي مثبتة في الجزء المطبوع. وقد رأيتها مطبوعة على حدة في كتيب، وكان طبعها عام 1012م بباريس تحت إشراف (إميل أمار) ومعها ترجمة لها وتعليقات عليها بالفرنسية. وتتكون هذه المقدمة من أحد عشر فصلا، ويبدو أنه متأثر في بعض فصولها بما كتبه أو الفداء في مطلع كتابه (المختصر). وقد تحدث في الفصل الأول عن السنين التي أرخت بها العرب، كموت كعب بن لؤي، وعام الفيل. وانساق في خلاله إلى ذكر اشتغال العرب بالنجوم، وخلق آدم وظهور الاسكندر، وما قيل في ذلك. والطوفان وذي القرنين، وما بين المرسلين من السنين إلى غير ذلك. وفي الثاني تكلم عن مادة (أرخ) من الناحية اللغوية وما اشتق منها وطريقة العرب في التعبير مؤرخين بالأيام والليالي. وفي الثالث تكلم عن كيفية كتابة التواريخ وتحديد الأيام. وفي الرابع تكلم عن (النسب) من الناحية الصرفية، ثم بين أهميته التاريخية مشيراً إلى مفارقات طريفة وقعت للتشابه في صيغ النسب. وفي الخامس تكلم عن العلم والكنية واللقب، وترتب كل منها على النسب. والفصل السادس هو فصل هام في علم الإملاء ورسم الحروف. وتكلم في السابع عن مناهج المؤرخين في ترتيب التراجم أو الحوادث، وعن طرق ضبطهم لحروف المعجم والمصطلحات الخاصة بذلك. وفي الثامن تحدث عن لفظ (الوفاة) وما يشتق منها (والأجل) واختلاف المذاهب في تحديده. وفي الفصل التاسع، تكلم عن فوائد التاريخ من ناحية ضبطه للحوادث، وأورد طرائف تاريخية ظهرت فيه ضرورة تحديد تاريخ كل حادثة. وتكلم في العاشر عن أدب المؤرخ وما ينبغي له من علم وخلق. وفي الفصل الحادي عشر ذكر عدداً ضخماً من كتب التاريخ وأسماء مؤلفيها. فهو سجل هام من هذه الناحية.
أما الشيء الثاني الذي أحببنا أن نشير إليه، فهو أن المؤلف اختص معاصريه بسبعة أجزاء
من أجزاء كتابه (الوافي) جعلها على حدة وسماها (أعيان العصر وأعوان النصر) وهو مؤلف ممتع جداً، ترجم فيه الصفدي لمئات من أهل عصره سواء منهم من لقيه ومن لم يلقه. وأودع تراجمهم نصوصاً من أشعارهم أو نثارهم، ندر أن تجدها في سواه. فهو - في نظرنا - أهم كتب التراجم لأعلام النصف الأول من القرن الثامن وإذا علمنا أن ابن حجر العسقلاني ألف كتابه القيم (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) في أربعة أجزاء، وأن مؤلَّف الصفدي (أعيان العصر) ثلاثة أمثاله، بأن لنا قدره وعظيم أهميته. وأجزاء هذا الكتاب، لا تزال مغتربة عن وطنها، وفي دار الكتب المصرية منه ثلاثة أجزاءهي الثالث والسادس والسابع يقع كل منها في مجلدين. وهي مصورة تصويراً شمسياً عن نسخة مخطوطة.
ومن أمتع كتبه التاريخية كتاب (نكت الهميان في نكت العميان). وهو مطبوع وذو موضوع طريف، وهو الحديث عن العميان وبيان أحوالهم شخصية وغير شخصية، وشرعية وغير شرعية، وما يدور حولهم من نوادر وفكاهات وحوادث أدبية طريفة، وترجمة النابهين منهم. ويحتوي الكتاب على عشر مقدمات ونتيجة واحدة. وفي المقدمات المذكورة جملة بحوث نافعة في فنون العربية المختلفة وتعتبر المقدمة الأولى ذات قيمة في فقه اللغة إذ بحث فيها عن مادة (العين والميم) وما يتصل بها من الحروف، وما تدل عليه من المعاني، ورأى أن هذه المادة مهما اتصل بها من الحروف تدل على التستر أو نحوه. وبحث عن مادة (أعمى). وتكلم عن تفضيل السمع على البصر أو العكس وفسر قوله تعالى:(عبس وتولى أن جاءه الأعمى)، وقوله (وما يستوي الأعمى والبصير). وتعرض للحديث الشريف الخاص بقصة الأقرع والأبرص والأعمى، الذين آتاهم الله ما يريدون، فلم يشكره منهم إلا الأعمى. وتحدث عن بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالعميان كالإمامة في الصلاة، ووجوب الجمعة إلى غير ذلك.
أما النتيجة فهي في صلب التاريخ إذ ترجم فيها لنحو ثلثمائة وخمسين كفيفاً، سواء منهم من ولد أعمى، ومن كف بصره بعد ولادته. وأورد في كل ترجمة الحوادث البارزة في تاريخ صاحبها وشيئاً من شعره أو نثره إذا كان أدبياً وهكذا.
ولهذا المؤلف خصوصيات نافعة فمنها أن فيه تراجم لأعلام معاصرة الصفدي وأنه جرى
في ضبط كثير من الأعلام مجرى ابن خلكان في ضبطها، أي أنه ضبط نطقها بالحروف، وأنه حدد مواقع بعض الأماكن ، وأنه أودعه شيئاً من آثاره الأدبية وآثار بعض معاصريه.
وعلى نمط من هذا المؤلف، أخرج كتابه (الشعور بالعور) وهو في تراجم هذا الصنف من الرجال. ومنه مخطوطه بدار الكتب. وللصفدي كتاب (التذكرة الصفدية) في أكثر من خمسين جزءاً، في دار الكتب منها خمسة مخطوطة، في خلالها فصل عن تاريخ الآداب العربية وفنونها ونشأتها، وفصل آخر فيمن ولي دمشق من أول عهد بني العباس إلى عصر المؤلف. وهي مليئة - إلى جانب ما تفيض به من النصوص الأدبية بأخبار الأعلام وحوادثهم.
وترى هذه الروح سارية من الصفدي في معظم مؤلفاته، مثل كتابه (ألحان السواجع بين البادي والمراجع) وهو مخطوط بدار الكتب كذلك، وبه أخبار وسير ووقائع بجانب ما يعج به من أنباء المراسلات ونصوصها، مما كان بين الصفدي وأنداده.
وبعد فهذا رجل من رجال العصر المملوكي، يضيق مقال واحد عن أن يستوعب أخباره وأسفاره، آثرنا أن ننوه هنا بإحدى خصوصياته، لعلها تنم عن علمه وفضله، وأدبه ونبله.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
التفكير بين الإنسان والحيوان
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
كشفت البحوث النفسية في مجالي الإنسان والحيوان عن حقيقة قد تطامن من غرور الإنسان بعض الشيء، تلك هي أن الحيوان لا يسلك سلوكا آلياً بحتاً كما ظن ديكارت الفيلسوف الفرنسي، بل ولا يسلك سلوكا غريزياً بحتاً كما اعتقد الكثيرون زمناً طويلا، وإنما سلوكه في كثير من المواقف ينم عن قدر من الذكاء العملي يمكنه من التصرف إزاء ما يجد من مواقف تصرفاً كفيلا بتحقيق أغراضه. فهو لا يهتدي بالفطرة وحدها التي تسم السلوك بطابع الجمود؛ وإنما هو يعدل سلوكه ويبتكر الوسائل الجديدة، حتى ليسهل علينا أن نلحظ - لدى الحيوانات العليا على وجه الخصوص - أنماطا من السلوك تتصف بالمرونة وتنم عن قدر من الذكاء لا يقل كثيراً عن ذكاء الأطفال في نفس المواقف. ومن التجارب العلمية ما يثبت قدرة الحشرات على الاستفادة من التجارب الماضية في التكييف للظروف الجديدة، وفي هذا تكمن البذرة الأولى للذكاء.
وكلما صعدنا في السلسلة الحيوانية زاد ذلك القدر من الذكاء العملي الذي يبلغ أقصاه لدى الكلاب والقردة. وبذلك تتلاشى الأسطورة القديمة التي تفصل فصلا حاسماً باتاً بين عالم الحيوان المحكوم بالغريزة، وعالم الإنسان المحكوم بالعقل، وتسفر الحقيقة التي لا مراء فيها: ألا وهي أن الكائنات الحية تنتظم سلسلة متصلة الحلقات من أسفل إلى أعلى، منطقها التطور من الأشكال الدنيا للحياة إلى الأشكال العليا في غير ما اختلاف حاد يكسر وحدة الحياة على ظهر الأرض، وتضيق الشقة الفاصلة بين الإنسان والحيوان. فكلاهما يسلك سلوكا غريزيا وكلاهما يسلك سلوكا عقلياً رائده الذكاء. فما الفارق إذن بين ذكاء النوعين؟
الإنسان من حيث السلوك العقلي في قمة الحيوانات؛ فهو أقدرها على السلوك سلوكا عقليا. هو في حياته يصارع الطبيعة وأحداثها، لا بحكم الفطرة فحسب، بل يفوق الحيوان قدرة على استغلال ذكائه في صراعه هذا مع الطبيعة. تقسو عليه ببردها وقيظها وأمطارها فيهرع إلى الأشجار يتخذ من أغصانها بيوتاً. تتوالى عليه فصول السنة بعضها فيه الخصب ووفرة الغذاء، وبعضها جدب لا طعام فيه، فيبتكر الوسائل يتجنب بها المجاعة، ويهتدي بعد تدبر وإعمال روية إلى ما نعرفه من مختلف أساليب خزن المياه وحفظ
الأطعمة، وعدم الاكتفاء بما تدر الأرض بطبيعتها؛ فيزرع ويستغل كامن قواها. يخشى هجمات الوحوش الضاربة، وعدوان القبائل المعادية؛ فيتخذ العدة لذلك بصنع الأسلحة مستخدماً كل ما تقع عليه يده من أحجار وأشجار ومعادن. وهو إذ يفعل ذلك يهتدي بذكائه، بتفكيره العملي الذي يتطور مع الزمن تطوراً يكشف عنه ما لاحظه العلماء المنقبون عن آثار العصور البائدة من تطور الآلة الإنسانية من الآلة الحجرية القديمة إلى الحجرية الحديثة إلى المعدنية؛ والأسلحة من الأحجار إلى النبال فالخنازير والسيوف فالبنادق حتى القنبلة الذرية في العصر الحديث.
وهكذا في كل ميدان من ميادين الحياة يستخدم الإنسان تفكيره وسيلة لتحقيق أغراضه، وهذا هو الأصل في التفكير: وظيفة حيوية عملية تعين الحيوان على الصمود في الحرب الخالدة بينه وبين قوى العالم الطبيعي التي لا تعرف التراجع، وذلك أن الفطرة وحدها لا تكفل انتصاره.
بيد أن اختلاف التفكير الإنساني عن التفكير الحيواني ليس اختلافاً في المرتبة أو الكمية فحسب؛ بل هو اختلاف في النوع أو الكمية أيضاً. فتفكير الحيوان عملي كله، هو برمته وسيلة إلى العمل، إلى الحياة والبقاء. لا يستغل الحيوان قدرته العقلية المتواضعة إلا في إرضاء مطالبه الغريزية: من الاغتذاء، والاحتماء، وحماية الصغار، والتناسل الخ. أما الإنسان فبعد إرضاء مطالبه الغريزية يستغل قواه العقلية في الكشف عن أسرار ما يدركه من ظواهر الكون والبحث عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، وتفسير التغيرات التي تطرأ على مختلف الكائنات. ولا شك أن الحيوان كالإنسان فطر على حب الاستطلاع لكل جديد تجنباً لما قد ينطوي عليه من خطر، أو طمعاً فيما قد يدره من خير ونعمة؛ ولكن الإنسان يتجاوز هذه الحدود النفسية فيستطلع أحياناً من أجل المعرفة في ذاتها، ويجني من وراء ذلك لذة لا تقل عن اللذات الجسدية التي يجنيها من وراء إشباع ميوله الغريزية الأخرى.
لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر أحياناً من أجل التفكير في ذاته، بل والذي يجاوز ذلك إلى التفكير في التفكير: يحصي أساليبه ويفتش عن مصادره، ويسجل أخطاءه، وينقب عن أسباب الوقوع في الخطأ، ويعدد السبل الموصلة إلى المعرفة. والإنسان عند ما
يفكر هذا النوع من التفكير نقول إنه يفكر تفكيراً نظرياً لا غرض له إلا المعرفة. على أن هذه المعرفة تعود عليه بالنفع العملي وتزوده بأمتن الأسلحة التي تكفل له النصر في معركة الحياة على قوى الطبيعة الغاشمة التي لا تبالي بغير المضي في الطريق المرسوم وفق قوانين جامدة لا تتزحزح ولا تتزعزع. وسأحاول في مقال قادم أن أكشف عن فارق جوهري آخر هو السر في طفرة الإنسان وتربعه على عرش الكائنات الحية، وتمرده على الطبيعة تمرداً بلغ به حد استغلال قواها لمصلحته والسيطرة عليها بفهم أسرارا وفضح خباياها.
عبد المنعم المليجي
من وحي السودان:
أشواق النيل!
(إلى أخي المجاهد في الجنوب!)
أخي يا أخي. . . يا أخي بالجنوبْ
دماءٌ تراقُ وشعبٌ يُهان
لقد صرَخ النيلُ والشاطئان
متى يا أخي ينعم التوأمان
ففي قلب مصر. . . أخي رغبتان
جلاء الدخيل. . . ومجد الجنوب
أخي يا أخي طال عهد الجمودْ
وضلت بنا خادعات الوعودْ
وهل يصدق العهد قلبٌ حقود!
يدسُّ مع الوعد سُمَّ الوعيدْ
أخي يا أخي آن حطم القيودْ
وحان الجلاء. وبعث الجنوب
أخي موكب الدَّهر ماض يسير
وويلٌ لمن لم يجد المسيرْ
ليلحق بالرَّكب قبل المصيرْ
وسيَّان هام العلا. والقُبور!
لمن يا أخي مل عيش الأسير
فثر. يا أخي. يا أخي بالجنوب.
حسين محمود البشيشي
أيها العابرون
عبرت والخضم يصخب والمو
…
ج مخيف يطبق الأسماعا
ومضت تمخر البعاب وفي الأف
…
ق أعاصير تستفز القلاعا
موجة إثر موجة تترى
…
كجبال قد اقتلعن اقتلاعا
وعلى الفلك ساهرون ولكن
…
لا يطيقون في الخضم دفاعا
أيها العابرون كيف أمنتم
…
ثورة البحر فاندفعتم سراعا
دون زاد وفي الطريق خطوب
…
جامحات فهل حملتم متاعا
ثورة اليم لا تطاق إذا لم
…
تحمل الفلك عدة وشراعا
وقلوباً من الحديد تشظت
…
فاكتسحت قوة وجلّت صراعا
لا نفوساً إذا الأعاصير هبت
…
فزعت خيفة وطارت شعاعا
أين ربانك يا فلك وأيان المصير
وعلى الدفة من لا يدرك الأمر الخطير
زخر اليم للموج اصطخاب وهدير
فأصبحي كالطير أو عودي كما شاء القدر
إن دنيا البحر، يا فلك، عناء وخطر
وانبرى من مجاهل الغيب صوت
…
هادئ النبر خافت الألحان
هاتف مثلما تموج على الثغر
…
تسابيح شاعر حيران
أيها العابرون قد عسعس اللي
…
ل ثقيل الخطا على الأجفان
والخضم الرهيب كالرعد في الأف
…
ق، وكالنار في فم البركان
وطواغي الأمواج تعبث فيالبح
…
ر كخيل طليقة الأرسان
ورأى الفلك لا تطيق اتزانا
…
بين موج معربد غضبان
سخر اليم من بقايا شراع
…
يتلاشى كقبضة من دخان
ومسامير خاويات ولوح
…
كشموع تلح في الذوبان
وإذا ما استبد بالفلك موج
…
أفلت الحبل من يد الربان
أتراها وهي بين الموج تطفو وتعوم
وعلى الأفق أعاصير ورعد وغيوم
ونسور تتلظى كالمنايا وتحوم
تعبر اليم وتطوي موجة البحر الغشوم؟
أم تراها تتوارى بين طيات العدم
فينال الحوت ما شاء وينتاش الرخم؟
إبراهيم الوائلي
ألحان الساكن الثائر
بين المآسي ساكن وسنان
يبدو عليه الصبر والإيمان
قد يضاعف الأسى الكتمان
ورب كتمان هو البيان
معذبٌ مستسلمٌ لما به
همومه تصهر من شبابه
وهْو يطيل الصمت غير آبه. .
يقول مفصحاً لسان حاله:
كذلك الزمان معْ رجاله. .
وما جلا أو مرَّ من فعاله. .
لا بدَّ للمرء من احتماله!
تحسبه - يا صاح - في سُباتِ
فلا تعير أيَّما التفات
لغارق في لجة الحياة
يستعرض الأهوال في ثبات!
لا يشتكي لصاحب حميم. .
ولا يئنُ وهْو في الجحيم. .
فلا ترى من سرِّه المكتوم. .
إذا اختبرته سوى الوجوم!
تثورُ في هيكله الرزين
جحافلٌ شتَّى من الشجون
فيلتقي الشدَّة بالتهوين
ويحجبُ الثورة بالسكون!
لم تغتمض في راحة عينَاهُ
فكلها متاعبٌ دنياهُ
إذا سعى أخفق في مسماهُ
وإن أوى نبا به مأواه!
حامد بدر
نظرات في كتاب الفكر الاجتماعي
للأستاذ كامل كيلاني
- 1 -
في فترة عارضة من فترات السآمة والملل، أعقب ساعات جاهدة من العمل، فتحت هذا الكتاب كما اتفق، فكان أول ما وقعت عليه عيناي تلك الصورة التي قبسها المؤلف، حين عرض لعبادة العرب للأشجار والحجارة، وهي تمثل للقارئ لونا عجيباً من أخيلتهم، وترسم صورة رائعة مما استقر في إخلادهم، وتجلو بعض ما كانوا يتناقلونه من الأساطير عن معبودتهم (العزى) التي كانوا يتخيلونها شيطانة ثائرة، تبدو - لمن يراها في صورة حبشية غضبى -، تأتي ثلاث سَمُرات (شجرات من أشجار الطلح) نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، وهي تصرُف بأنيابها (تسحقها وتحك بعضها ببعض حتى يسمع لها صوت).
وما كدت أبلغ قول المؤلف المفضال:
(وكذلك كانت عبادتهم لذات أنواط، فقد اعتقدوا أن معبوداتهم الحية كانت تحل تلك الأشجار والأحجار).
حتى طويت الكتاب، على عادتي كلما بلغت من المطالعة فترة يحسن الوقوف عندها، والتفرغ لها. وسرعان ما استغرقني التفكير، وأسلمني التأمل إلى عوالم فسيحة من الحقائق التي تفوق الخيال في غرابتها، ولم أتمالك أن رجعت القهقري حتى بلغت العصر الجاهلي الذي طالما عشت فيه، تارة في صحبة مؤرخي العرب والفرنجة، وتارات في صحبة المبدعين من الشعراء والكتاب ويا طالما نعمت بالتجوال في ذلك العصر الغابر، وأنست بارتياد روائعه في رفاقة أستاذي (المعري). وطالما انتفعت بإشاراته في رسالة الغفران وما إليها من بديع آثاره. كما انتفعت بصحبة العلامة (دوزي) في ارتياد كثير من تلك المجاهل السحيقة، حين ترجمت طائفة من فصوله الممتعة التي أودعتها كتاب:(ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام).
فلا عجب إذا عاودني الحنين والشوق إلى استئناف الدرس حين طالعت تلك الفقرات:
(وذو الشوق القديم - وإن تعزى -
…
مشوق حين يلقى العاشقينا)
ولا عجب إذا تواثبت الخواطر، وتدافعت الذكريات، فلم أدر أيها أثبت وأيها أدع، ولا
عجب إذا نسيت أن على أكتب مقدمة موجزة في بضع صفحات، لا دائرة معارف في عشرات من الأسفار المطولات:
ورأيتني أستعرض - عن غير قصد - طائفة من أمال هذه الأسطورة العربية الشائقة التي أثبتها المؤلف المفضال في كتابه النفيس، متمنياً أن تعاون معه طائفة من أعلام القصة لاستغلال أمثال هذه الأسطورة العربية البارعة، بعد أن تظاهرهم طائفة من كرام الباحثين على درس هذا التراث الحافل، وتعرف رموزه وحل معمياته، وتجلية ما غمض من حوافيه وأسراره، وأن يُعنوا بإحيائه كما عنى غيرهم من شعراء الغرب وأعلام كتابه وباحثيه، وأفذاذ علمائه وقصاصيه، باستغلال ما ظفروا به من الأساطير الإغريقية وما إليها من أساطير الأمم القديمة.
ولم أتمالك أن شكرت للمؤلف عنايته المحمودة بهذا اللون الفكري البديع. ورأيتني أجري على عادتي في التعليق على هامش ما أقرأ من نفائس الكتب.
وأنثالت المعاني والصور وتتابعت، حتى خشيت - كما أسلفت - أن تدفعني إلى تأليف سفر ضخم. فاجتزأت بإثبات بعض ما قاله (المعري) في هذه الشجرة المحظوظة التي أطلقوا عليها (ذات أنواط)، فقد أشار إليها في رسالة الغفران إشارة نافعة حين عرض للحديث عن أشجار الفردوس فقال:
(وذات أنواط شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط).
وهنا قبس (المعري) قول أحد الشعراء:
(لنا المهيمن يكفينا أعادينا
…
كما رفضنا إليه ذات أنواط)
وفي بعض هذا دليل على ما بلغته ذات أنواط من خطر الشأن ورفعة المنزلة.
وقد شغل المعري - في أكثر من موضع من نفائس كتبه - بهذه الشجرة، التي ظفرت - على حقارتها - بمثل هذا التكريم، وأفردها الحظ بما لم يظفر به غيرها من إجلال وتعظيم، فأضفى عليها عبادها من القداسة هالة باهرة، فتنتهم وسحرت ألبابهم واستعبدتهم. فأكبروا من أمرها ما صغر، ومجدوا من شأنها ما حقر، ولم يكتفوا بعبادتها في جاهليتهم، فراحوا يكاثرون الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ويطلبون إليه أن يهيئ لهم شجرة تماثلها
وتساميها في قداستها وشرفها.
وهكذا أدركها الحظ - على عمقها من الثمر - كما يدرك بعض الأغمار التفهين من الناس، فيضفي عليهم ألواناً من النباهة والرفعة، على ما ركب في طباعتهم من العقم والحقارة والعجز.
وفي هذا يقول المعري:
(والجد يدرك أقواماً فيرفعهم
…
وقد ينال إلى أن يُعْبَد الحجرا
وشرفت ذات أنواط قبائلها
…
ولم تباين - على علاتها - الشجرا)
وكانت (ذات أنواط) سمرة (شجرة طلح)، لا تكاد تختلف عن تلك السُمرات الشائكة الثلاث التي كان الجاهليون يتخيلون معبودتهم (العزى) قادمة عليها في صورة حبشية.
ولا تختلف عن السمرات التي أشار إليها امرؤ القيس في معلقته حين قال:
(كأني غداة البين، يوم ترحلوا
…
لدى سمرات الحي ناقف حنظل)
وشجر الطلح معروف، وقد أشار إليه المرحوم شوقي بك حين قال:
(يا نائح الطلح أشباه عوادينا
…
نأسى لواديك؟ أم نأسى لوادينا؟)
كما أشار إليه (المعري) ونبه إلى إجداب هذا الشجر، وعقمه من الثمر، في قوله:
(وأبغضت فيك النخل، والنخل يانع
…
وأعجبني - من حبك - الطلح والضال)
وقد ألف العرب أن يطلقوا على شجرة الطلح (أم غيلان) وإلى هذه الكنية أشار (المعري) في تهكم بارع:
(سل أم غيلان الصموت عن ابنها
…
وبنات أوبر، من أبوها أوبر؟)
- 2 -
والطلح - فيما يعلم القارئ - شجر عظام من شجر العضاه، الذي لا يثمر غير الشوك، ترعاه الإبل إذا أعوزها الزاد، فلا تكاد تستسيغه إلا مضطرة، وقلما تسلم من غصصه وعلله. فلا عجب إذا اتخذوه رمزاً للشر، وصاغوا من (السُمرة) لفظ:(السمرْ مرة): لقب الغول، وجعلوا من شجرها مزاراً لتلك الشيطانة الحبشية الغضبى التي تقدم السمرات الثلاث - كما تمثلها الأسطورة - نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، تحرُق الأرَّم (تحك أنيابها حتى يسمع لها صريف) من شدة الغيظ.
فلا عجب إذا استخرج العرب - من هذا الشجر وثمره - ألفاظاً تدل على طائفة من معاني الشر، فاشتقوا الطلاح (الفساد) من الطلح، كما اشتقوا من ثمره الشائك ألفاظاً منطوية على طائفة من معاني السحر والإفك والكذب والأذية.
فإذا سأل القارئ: (ولماذا خصوا هذه السمرة بهذا اللقب؟ وكيف أطلقوا عليها: (ذات أنواط)؟ همس في أذنه بعض مؤرخي العرب، ومنهم (ابن الأثير).
(إنها سميت كذلك لأن المشركين كانوا ينوطون بها سلاحهم (يعلقونه) ويعكفون حولها).
وربما همس في أذنه بعض الباحثين: (إنهم أطلقوا عليها ذلك اللقب، لما تميزت به مما كان يتدلى من أغصانها الكبيرة من أنواط).
والنوط - كما يعلم القارئ - هو القفة الصغيرة التي تحمل ثمار هذه الشجرة، السامقة العقيم.
- 3 -
وهكذا أسلمتني هذه الأسطر القلائل إلى طائفة من التأملات أزاحت ما كان مستولياً على نفسي من السآمة والملل، ونفضت عني غبار الفتور والكسل، وأعادت إلي النشاط، فأقبلت على الكتاب أقرأه من أول سطوره، متنقلا بين فصوله الشائقة، من صفحة إلى صفحة، حتى انتهيت إلى خاتمته، وأنا شيق إلى الاستزادة من حديث هذا الباحث الموفق المثمر الذي لا يمل البحث، ولا يمل قارئه من متابعته في عوالمه الفسيحة.
ورأيت المؤلف يتنقل بين مجاهل التواريخ التي طويت على مر الأزمان، وعفي عليها تطاول الأمد ذيول النسيان، فلم يبق الدهر - من آياتها وحقائقها وأحداثها - إلا ظنوناً وأحداساً وأخيلة، لا تكاد تثبت على الاختبار والبحث. ثم لا يزال مؤلفنا يتنقل في فصوله الشائقة حتى يبلغ المدى من رحلته الفكرية، وينتهي إلى عصرنا الحافل بألوان من الحقائق، تكاد - لغرابتها - تفوق عجائب الخيال.
- 4 -
وهكذا صحبت المؤلف وهو يتابع الإنسان، منذ أقدم العصور، حين كان يقيم مع قبيلته بين الأشجار، وفي الكهوف وقد اكتسى جسمه بشعر كث يصارع الوحوش ويطاردها في
الأدغال، ويقتات بالبذور، ويعيش على لحوم فريسته التي يمزقها بأظافره ويقطعها بأسنانه، كما يفعل إضرابه من الوحوش.
ثم لا يزال المؤلف يساير الإنسان القديم مرتقياً به، في أسلوب تصويري جذاب حتى يصل إلى العصر الحاضر، في قُرابة مائتين من الصفحات الحافلة بالملاحظات والتوجيهات، بعد أن ضمن التوفيق فيما قبسه وتخيره من الكتب: عربية وأجنبية، وفيما عرض له من تحليل ومناقشة، وتأليف بين أشتاتها، وتمحيص لرواياتها، منذ صحب الإنسان الأول إلى أن أبلغ العصر الحاضر: عصر الآلات والمناجم والبخار والكهرباء والطائرات والسيمى والراديو والتلفزيون. ولم ينسه ذلك المعرض الحاشد - الذي افتن في إقامته وتنسيقه - ما وراء تلك الصور المادية من السجايا والأخلاق الإنسانية ونشأة العادات، وأثر الأديان والشرائع والقوانين في الأفراد والجماعات، وأي قوة أمكنته من قهرها والتغلب عليها، بفضل ما منحه الله من عقل وتفكير. وكيف استقبل الإنسان فجر المدينة وهو - فيما يقول المؤلف -:(يتقدم ببطء من جمع الأطعمة إلى الصيد، ومن الجماعة المشتتة إلى القبيلة ومن ثم يتطور فيشكل نظاما اجتماعيا، ويوزع الوظائف بين الأفراد. كما لم ينسه أن يعرض لنهضات (مصر) و (بابل) و (فلسطين) و (الهند) و (الصين) و (واليونان) و (والفرس) و (روما).
- 5 -
وقد ألم المؤلف - على ذلك - إلمامة بارعة بأنواع الزواج في الجاهلية، وقبس طائفة من الأمثلة تبين اختلاف نظمها وتباين عاداتها ولم يفته أن ينبه إلى ما ألفته بعض قبائل العرب في زمن الجاهلية (من نسبة أولادهم إلى أمهاتهم قبل أن ينهاهم الإسلام، وكان نهيه صريحاً في قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله).
وهي - فيما رأى ويرى غيري من الباحثين - عادة جرى عليها الروم في قديم الزمان، واهلهم كانوا أسبق إليها من العرب.
وقد أشار المعري في لزومياته إلى هذه العادة، إشارة ساخرة قاسية، فقال.
(ولحب الصحيح آثرت الرو
…
م انتساب الفتى إلى أمهاته
جهلوا من أبوه، إلا ظنونا
…
وطلا الوحش لاحق بمهاته)
- 6 -
أما بعد:
فقد كانت مفاجأة سعيدة، حين تفضل مؤلف هذا الكتاب النفيس فعهد إلى بتقديمه، ولم يكن عمر التعارف بيننا يزيد على دقائق معدودة، كانت كافية للتآلف. ولا غرو في ذلك فإن الأرواح جنود مجنددة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
وهكذا أغنت اللحظات القليلة عن العشرة الطويلة، وكانت - على قصرها - كافية لانسجام روحينا، فخيل إلينا أننا تعارفنا منذ النشأة الأولى وكان من ثمرات هذا اللقاء العارض أن مرفق شغفت المؤلف بالبحث والاطلاع، وعنايته بتتبع آثار (ابن النديم) صاحب الفهرست والترجمة له في مجلة المجتمع العلمي العربي. وتوفره على درس الدعوة الإسماعيلية في رسائل إخوان الصفا وإقباله على كتابة فصول النقد وأعمال البنوك في كتاب: النظام الاقتصادي في فلسطين.
وكتابه: التطور الاجتماعي والاقتصادي لفلسطين العربية
وهكذا رأيت مؤلفنا ينتقل في بحوثه النافعة، من عالم الاقتصاد إلى عالم الأدب، كما ينتقل في حياته اليومية بين بنك الأمة العربية ومكتبته الضخمة الحافلة بألوان الثقافة والأدب، فيذكرنا قول ابن المقفع:
(أمران يحتاج إليهما من يحتاج إلى الحياة: المال والأدب)
ولا ريب أن الأمم - كالأفراد - لا غنى لها عن بناء نهضتها على أساس متين، يرتفع بناؤه على هاتين الدعامتين.
- 7 -
وكان من ثمرات هذا اللقاء السعيد أن أتاح لي الظفر بقراءة هذه الخلاصة الممتعة التي تأنق مؤلفها في عرض تاريخ الحضارة الإنسانية عرضاً تصويرياً أخاذاً، يخيل إلى قارئه أنه يشهد شريطاً من أبدع ما أخرجته السيمى في العصر الحديث.
وقد علم القارئ مما أسلفت أنني لم أكد أقلب صفحات كتابه حتى رأيت ما تفتحت نفسي له، وشجعني على البدء بقراءته من أوله، فلم تنته الجلسة حتى أتممته، وأنا شديد الأسف على
انتهائه، وبودي لو امتد هذا السفر التاريخي الحافل في أضعاف صفحاته، ليؤدي إلى رواد الثقافة أضعاف فائدته، ويحقق لهم الكثير مما تتوق إليه نفوسهم الظامئة إلى أمثال هذه البحوث، التي وفق أصحابها إلى جمع أشتات المعارف، وأحسنوا عرضها، بعد أن أحسنوا استيعابها وفهمها.
- 8 -
وازدحمت الخواطر في ذهني - كما أسلفت - وتواثبت التعليقات، كلما انتقلت من صفحة إلى صفحة، وخشيت أن أعاود قراءة الكتاب مرة أخرى فيضطرني ذلك إلى الوقوف عند كل فكرة طريفة - وما أكثر ما يحويه من طريف الأفكار - وربما اقتضاني ذلك أن أتوسع في الشرح والتعليق فتصبح مقدمة الكتاب أضعاف حجمه.
ورأيت أن مؤلف الكتاب كان قادراً على الاضطلاع بمفرده بهذا العبء الثقافي التوجيهي كله، لو أمكنته فسحة من وقته المزدحم بما ينوء به من شواغل الأعمال، وما يضطلع به من تبعات ثقال ولكنها الظروف القاهرة، أعجلت المؤلف كما أعجلتني ولعله قصد إلى الإيجاز فصداً ليحقق لقارئه في صفحات قليلة ما تستوعبه المطولات المستفيدة، وهو غرض نبيل، والحاجة إلى المختصرات مطلب جليل، لا يقل عن الحاجة إلى المطولات. وربما زاد عليها في بدء عصور النهضات، لترغيب الزاهدين في القراءة، وتعبيد ما توعر من طرائقها أمامهم.
وحسناً صنع المؤلف حين عني بتوجيه قارئه إلى أمهات الكتب ليحبب إليه البحث، بعد أن عني بتوجيهه وإرشاده وفتح آفاق جديدة له.
وأما أجدر المؤلفين بالأخذ بهذا المنهج، فهو من الأهداف النافعة، يتوخاها طالبو الإصلاح في مستهل النهضات، تستقبلها الأمم التي طال عهدها بالنوم، وآن لها أن تنفض عنها غبار الخمول
- 9 -
أكرر القول: إنني وجدت في كل صفحة من صفحات الكتاب بابا للمناقشة وجمالا للاخذ والرد والتعليق، ومثاراً للخلاف حينا، والموافقة أحياناً.
وهذه أول مزايا الكتاب المثمر الناجح. وحسبي دليلا على نفاسة ما أقرأ، أن يثير في نفسي ألواناً من البحث والتمحيص، ويحفزني إلى ارتياد مختلف الميادين الفكرية التي صرفتني عنها عوادي الزمن وشواغله.
وقد كان من حسن حظ المؤلف والقارئ أن يتضافر على كاتب المقدمة ضيق الوقت، وزحمة العمل، ووعكة الصحة، وقلة الصفحات المخصصة للتصدير، فتعجله كل هذه الأسباب مجتمعة عن التفصيل والإسهاب اللذين تحاشاهما مؤلف الكتاب.
وكان من حسنات عصر السرعة الذي نعيش فيه، وما أوجبته المطبعة التي لا تعرف التريث والبطء، ولا تبالي الوعكة ولا المرض ولا تحفل الشواغل وزحمة العمل، أن تعد المقدمة في حيز من الصفحات ثابت معدود، وزمن من الساعات مؤقت محدود. ولولا ذلك لامتد بي نفس القول كما امتد بـ (المعري) منذ ألف عام، حين أجاب عن رسالة (ابن القارح) برسالة الغفران، في أضعاف حجمها، وكما امتد نفس القول بالأمير (شكيب أرسلان) حين تصدى لتنديم كتاب (حاضر العالم الإسلامي)، فزادت صفحات مقدمته على مقدمة (ابن خلدون)، وتجاوزت شروحه وتعليقاته أضعاف حجم الرسالة التي عهد إليه مترجمها أن يقدمها.
ولا عجب في ذلك، فأن نفس القول إذا مددته امتد، وتداعى المعاني لا يعرف الوقوف عند حد:
(والفكر حبل متى يمسك على طرف
…
منه، ينط بالثريا ذلك الطرف
والعقل كالبحر، ما غيضت غواربه
…
شيئاً، ومنه بنو الأيام تغترف)
كامل كيلاني
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
في مؤتمر المجمع اللغوي
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الثلاثاء الماضي بافتتاح مؤتمره السنوي، وهو الذي يحضره الأعضاء الأجانب وستمر نحو شهرين، واحتفى في هذا الحفل باستقبال عضوين جديدين هما الأستاذ محمد رضا الشبيبي والأستاذ خليل السكاكيني.
افتتح الاجتماع معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع بكلمة حي فيها الأعضاء ورحب بالزميلين الجديدين، ومما قاله أن المجمع يعالج مشكلات اللغة وقضاياها باعتباره هيئة علمية بحتة ليس من شأنها أن تنفذ قراراتها إلا ما يكون من عرضها على الهيئات العلمية ونشرها في المطبوعات والمعجمات، وأبدى معاليه السرور بما يلاحظ في المجتمع العربي من الدلائل على الرغبة في تقبل أعمال المجمع بقبول حسن.
ثم ألقى الأستاذ شوق أمين، بالنيابة عن كاتم سر المجمع، كلمة أجمل فيها ما قام به المجمع من أعمال في العام الماضي وبرنامج العمل في هذا المؤتمر.
وبعد ذلك وقف الأستاذ عباس محمود العقاد فألقى كلمته ف استقبال الأستاذ الشبيبي فقال: إنه يدخل هذا المجمع من أكثر من باب واحد، لأنه شاعر ناقد باحث لغوي ناشر للعلم واللغة.
وعند ما تكلم عن شعره اكتفى بالعرض المجمل، فوصفه بفصاحة اللفظ ونصاعة المعنى وسلامة العبارة، وأنه ينظم اشعر في أغراض شتى ولا يقصره على غرض واحد، وألقى أمثلة من شعره بدأها بأبيات قال إنها من قصيدة نونية.
وقال الأستاذ العقاد: إن الأستاذ الشبيبي أعانه البحث الطويل في الأدب واللغة على تمييز الكلام وتصحيح النقد، وأورد ما قال إنه جاء في مقدمته لديوان الحبوبي تعقيباً على مذهب بقراط وابن خلدون في تكوين الطبائع والأخلاق، وهو (والذي أراه أن لاستعداد الفطرة والغريزة تأثيراً أكبر من تأثير البيئة والوسط، ورب سماء صافية الأديم وضاءة المنظر، وتربة جافة الهواء معتدلة الحرارة تنبت رجلا سمج الطبع والخلق. ورب إقليم شديد الحرارة قليل النور بليل الهواء يخرج رجلا سليم الطبع رقيق الشعور).
وفي انصرافنا من الحفل قال لي صاحبي الشاعر العراقي الأستاذ إبراهيم الوائلي: إن الشبيبي لم يكتب مقدمة لديوان الحبوبي، وإنما الذي كتب مقدمة هذا الديوان هو الشيخ عبد العزيز الجواهري، ويظهر أن النص الذي أتى به العقاد مأخوذ من (العراقيات)، وهي مجموعة تضم عشرة من شعراء العراق، فيها ترجمة للحبوبي بقلم الشبيبي.
ثم قام الأستاذ الشبيبي فألقى كلمة طيبة في تحية المجمع وشكر الأستاذ العقاد. ومما قاله أن للشعوب العربية في هذه المرحلة من مراحل يقظتها مطالب، من أحوج ما تحتاج إليه ائتلاف في الأرواح وتقارب في المشارب والأذواق، وتجاوب بين العواطف والأفكار، وهذا مطلب جليل لا يتيسر لنا إلا إذا جمعتنا من لغة العرب جامعة أدبية كبرى، واعتصمنا من هذه الفصحى بحصن حصين، وجدير بهذا الأدب العربي الحديث أن يرى عاملا فعالا من عوامل الإنشاء والبناء، وخليق به أن يتغلب على غيره من العوامل المفرقة الهدامة.
وقد جرت تقاليد المجمع على أن يتحدث العضو الجديد في حفلة الاستقبال عن سلفه حديثاً مسهباً، ولكن الأستاذ الشبيبي اكتفى بالإشارة إلى مكانة الأستاذ الكرملي وفضله، واعداً بأن يعود إلى تفصيل الكلام عنه في فرصة أخرى.
ثم كان من قسمة الأستاذ خليل السكاكيني أن يقدمه الدكتور منصور فهمي باشا، إذ كشف القناع عن ناحية قال إن الأستاذ السكاكيني لا يحب إثارتها. ولذلك حذره من الإشارة إلى أي ناحية من جهوده الأدبية الضاربة في ماض بعيد، ربما يستنتج منها مدى عمره المبارك المديد؛ وعلى رغم هذا التحذير مضى الدكتور منصور باشا في هذه الدعاية فروى أن مدرساً كهلا استقبل الأستاذ السكاكيني في حيفا من عدة سنين بخطبة قال فيها إنه سمع عاطر الثناء على فضله وأدبه من المرحومة حماته، وكانت صغرى تلميذات الأستاذ في دار المعلمات. . . ثم قال إن الأستاذ سكاكيني يخفى عمره لأنه يدين بفلسفة القوة في كل أمر من الأمور؛ فهو يناوئ الشيخوخة ويكره أن ينتمي إليها أو يذكر بها؛ فإذا انظر من خلال فلسفته إلى اللغة فإنه لا يروقه منها إلا ما اتسم بالقوة والسلامة. وأفاض بعد ذلك في بيان جهوده في الإصلاح العلمي ومكانته في عالم الأدب واللغة.
وكان الدكتور منصور فهمي باشا قد قال في مستهل كلمته إن حلول السكاكيني، وهو من أهل القدس، محل الشيخ مصطفى عبد الرزاق فيه ما يبشر بأن بركة فلسطين ستلتقي
بالآثار المباركة لسفله. . ولكنه لم يلبث بعد هذا الكلام أن رق في مداعبة معلم الغابرين والحاضرين، ومربي الحموات الفضليات. .
وألقى بعد ذلك الأستاذ السكاكيني كلمة طلية أودعها كثيراً من النظرات الفلسفية الرائعة، وقد قال في أولها: إذا كنتم تقيسون العمر بالسنين فقد بلغت من الكبر عتيا، وإذا كنتم تقيسونه بالأعمال فأنا لا أزال في دور الطفولة، وإذا كنتم تقيسونه بما يلقاه المرء من الهناء والسرور فإني لم أولد
ثم أخذ في الحديث عن الشيخ مصطفى عبد الرزاق فحلل صفاته ومواهبه تحليلا وافياً وأفاض عليه بما هو أهله من الثناء والتمجيد، ولكنه جنح في آخر الأمر إلى عبارات مألوفة في التفريظ والمبالغة؛ إذ قال لو لم يسبقه الخليل لكان أول من وضع العروض، ولو لم يسبقه أرسطو لكان أول من وضع المنطق، ولو لم يسبقه ابن خلدون لكان أول من وضع علم الاجتماع. واستمر في هذه الفروض، ماراً بعديد من العلوم والمعارف وأوائل واضعيها. . .
نظرات في أدبنا المعاصر:
أذاعت محطة لندن العربية يوم الجمعة الماضي حديثاً للدكتور طه حسين بك عنوانه (نظرات في أدبنا المعاصر) قال فيه إن الأدب العربي الحديث في مصر مر بثلاث مراحل، الأولى مرحلة الحرية التي دفع إليها الوعي الوطني بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الأدب في هذه المرحلة من حيث علاقته بالشعب ذا صبغتين اتصالية وانفصالية، فكان الأدباء متصلين بالشعب حين يعبرون عن مطالبه وحقوقه السياسية، وكانوا منفصلين عنه حينما كانت تتعلق كتابتهم ببعض النواحي الدينية والاجتماعية، ولكن الشعب لم يلبث بعد ذلك أن تطورت أفكاره وأصبح يستسيغ ما كان ينكره. والمرحلة الثانية تبدأ من حوالي سنة 1930 حين مال السياسيون إلى أخذ الأمور بالرفق والاعتماد في حل المشاكل على مضى الوقت، في ذلك الحين بدأ الأدباء أيضاً يتراجعون في ميدان الحرية الذي كانوا فيه يركضون، ويحاسبون أنفسهم فيما يكتبون قبل أن تحاسبهم السلطات، فاعترى الجمود الأدب، ولا يزال رانياً عليه. والمرحلة الثالثة جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، وفيها امتداد لجمود المرحلة الثانية ولكنها تتميز بنزوع الأدباء إلى الكتابة في الحال الاجتماعية
من حيث تصوير مظاهر الشقاء ومعالجة الأعداء الثلاثة، الجهل والفقر والمرض؛ وهو تصوير يبدو قاتماً لسوء الحال التي يصورها، ويغلب التشاؤم على الأدب لذلك. وهناك مع هذا أدباء هربوا من ذلك الجمود ومن هذا الأدب الاجتماعي البائس، إلى التاريخ: فهيكل يكتب في حياة محمد وحياة الخلفاء، والعقاد يؤلف العبقريات، ويتجاوزها إلى التأليف في الإله، وطه حسين (المتكلم لا يزال الدكتور طه) يكتب على هاش السيرة ويتجاوز ذلك إلى عثمان وأحلام شهرزاد. وذلك لأن الأديب يشعر بالحاجة إلى الراحة، وقد وجد أدباؤنا راحتهم في التاريخ.
بقية الهاربين:
هناك من كبار أدبائنا - غير من ذكرهم الدكتور طه - من هربوا من الأدب كله إلى الرد على رسائل القراء الشاكين من مصلحة التنظيم، وحل معضلات الحب التي تعرض لبعض الشبان والفتيات. .
الشخصية والجريمة:
في يوم الجمعة الماضي انعقدت مناظرة بقاعة يورت التذكارية موضوعها (الشخصية والجريمة) اشترك فيها الدكتور أمير بقطر والأستاذ سلامة موسى والسيدة سمية فهمي والأستاذ مظهر سعيد. وقد دارت المناقشة بينهم في الإجابة عن هذه الأسئلة: ماذا يقصد بالشخصية وبالجريمة؟ وهل الشخصية موروثة أو مكتسبة؟ وهل يورث الإجرام أو يكتسب؟ وإلى أي حد ينبغي أن يعفى المجرم من المسؤولية؟
ومجمل ما اتفقوا عليه أن الشخصية هي مجموعة الصفات الجسمية والوجدانية والأخلاقية وتفاعلها، وأن الشخصية الحسنة هي التي يلائم صاحبها بين تصرفاته وبين المجتمع ويتحمل تبعة أعماله، والسيئة هي غير الملائمة المتخففة من المسؤولية؛ وأن كلا من الشخصية والإجرام يتكون من الوراثة ومن البيئة، وقد اختلف المتناظرون في أيهما - الوراثة والبيئة - أكثر أثراً وإن كانوا متفقين على وجودهما في الشخصية والجريمة.
وقد اختلفوا في تعريف الجريمة، فبدأت السيدة سمية بأن الجريمة لا حقيقة لها، لأن ما يعتبره بعض البلاد جريمة قد لا يعتبره كذلك بلد آخر، وما يستنكر ارتكابه في زمن قد
يستساغ في زمن آخر، ومثلت لرأيها بفظائع الحرب ومعاونة العلماء على استحداث المدمرات التي آخرها القنبلة الذرية، مما يوصف بالبطولة والوطنية، وهو في الواقع وحشية منكرة. ووافقها الأستاذ سلامة قائلا إن الجريمة تتبع العرف وإنها ليست إلا الأعمال التي لا يقرها المجتمع. وخالفهما الدكتور بقطر والأستاذ مظهر ذاهبين إلى أن الجريمة كل تصرف يخرج على النظام ويقع منه ضرر على الفرد والجماعة وهي تكون في زمن معين ومكان محدد. واشتد الخلاف بينهم عندما عرضوا للسؤال الرابع وهو الخاص بإعفاء المجرم من المسؤولية، فقالت السيدة سمية والأستاذ مظهر بوجوب النظر في حال المجرم من حيث نوع شخصيته، فلا يعاقب ذو الشخصية المريضة كالذي يسمى (السيكوباتي) وغيره مما كونته ظروف البيئة تكويناً سيئاً، وخالفهما الدكتور بقطر والأستاذ سلامة، فقال الثاني إن المجرم من أي نوع متأثر في إجرامه بالوراثة والبيئة على اختلاف تقدير حظه من كل منهما، فكل مجرم لا بد له فيما يرتكب إذا أخذنا بقاعدة الإعفاء من الإجرام الاضطراري. وقال الدكتور بقطر إنه لاحظ في أثناء وجوده أخيراً بأمريكا، أن الجرائم هناك قد كثرت بفضل علماء النفس الذين يعللون دوافع الإجرام تعليلا يعفي المجرمين من العقاب أو يخففه عنهم، ويفسح القضاة لهذه التحليلات النفسية، ويصدرون أحكامهم بناء عليها.
تعقيب:
لقد تبينت في خلال هذه المناظرة بالمشاهدة والمثل العملي - أن العامية لا تصلح أبداً لغة للأفكار العلمية، وذلك أن المتناظرين وخاصة السيدة سمية فهمي والأستاذ سلامة موسى، كانوا يلجئون إلى التعبير العامي فلا يسعفهم في إبراز ما يجول بخواطرهم، فيستنجدون بالتعبير الفصيح، فم واتاه بلغ به، ومن استعصى عليه اضطرب وملكه العي، وقد وقعت السيدة من ذلك في حرج شديد، وإن بدا - على رغم تعثر لسانه - تمكنها من دقائق الموضوع، وقد كانت تشكو من ضيق الوقت وعدم اتساعه لمعالجة موضوع المناظرة، والواقع أن الوقت كان يضيع بالتلجلج وتكرار العبارات العامية من غير طائل، ولو أنهم أعدوا للمناظرة ودونوا أفكارهم في (تجربة) قبل الظهور على المسرح، لأتوا بما يرجى منهم في مثل هذه المناظرة، فهم معروفون بالدراسة والبحث وسعة الاطلاع، ولكن
الارتجال والاستهانة باللغة الصالحة للتعبير العلمي الدقيق، جعلاهم يقضون نحو ساعتين فيما لا يستحق هذا الزمن من أمثالهم، وقد شعر الحاضرون بذلك، وكانوا جمهوراً كبيراً، أتوا ليستمعوا إلى هؤلاء الأعلام، ولم يضنوا على عقولهم بثمن الدخول الذي تتقاضاه الجامعة الأمريكية ولعلها الوحيدة في مصر التي تفرض أجراً على سماع المحاضرات والمناظرات العامة.
عباس خضر
رسالة النقد
زوجات
ترجمة الأستاذ أحمد الصاوي محمد
كتاب رائع، ذلك الكتاب الذي يقدمه الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى قراء العربية. وبهذا الكتاب يثب الصاوي وثبة أخرى في الطريق الذي بدأه منذ سنين، حين راح ينقل شتى الألوان من ثقافة الغرب إلى الشرق، ويمزج بين هذه وتلك مزجاً موفقاً يقرب الشقة بين ذوق وذوق، وبين فهم وفهم، وبين شعور وشعور.
و (زوجات) يصدر معه كتابان آخران للصاوي وهما (فوشيه) و (الغيرة من الماضي). . . ثلاثة كتب ومن قبلها بضعة وعشرون كتاباً، تكون في مجموعها ثلاث مدارس كما يحلو للأستاذ الصديق أن يصنف كتبه فينسب كلا منها إلى مدرسة خاصة؛ فهناك مدرسة العبقرية، ومدرسة الحرب والسياسة، ومدرسة المجتمع. . . وإلى هذه المدرسة الأخيرة ينتسب كتاب اليوم (زوجات).
يقدم إليك الصاوي في هذا الكتاب ثمانية ألوان من الطبيعة الإنسانية، في كل لون منها امرأة. . هي زوجة. وعلى اختلاف الميول وتباين الأهواء وافتراق النزعات، تختلف الصور وتتباين الملامح وتفترق السمات، ويتمثل لناظريك معرض من معارض الصراع القوي العنيف؛ صراع العواطف والأفكار. . فيه لوحات نفسية، وفيه نماذج بشرية، وفيه ما فيه من حيرة العقل ولوعة القلب ووقدة العاطفة واشتعال الوجدان!
وأقف بك وقفة متأنية، متأملة، عند الزوجة الأولى صاحبة (الكراسة الحمراء)، تلك التي قضت العمر محلقة بالفكر على أجنحة الخيال، تحلم حلماً طويلا لا نهاية له. . حلم أرض الميعاد! هي قصة من روائع الأدب الفرنسي المعاصر لخصها الصاوي من قبل ثم عاد فنقلها إلى العربية نقلا أمينا، كاملا، احتفظ فيه بروح الفن في لغته الأصيلة؛ أما صاحبها فهو أندريه موروا عضو الأكاديمي فرانسيز وأما اسمها الحقيقي فهو (أرض الميعاد)، ولكن قلم الصاوي شاء أن يخلع عليها اسماً آخر هو (الكراسة الحمراء). . وقبل أن ألخص لك هذه القصة التي تشغل من الكتاب ما يقرب من ثلثيه، قبل هذا أود أن أشير إلى قصة أخرى ظهرت في أفق الأدب الفرنسي، هي قصة (الباب الضيق) لأندريه جيد صاحب
جائزة نوبل للأدب عن عام 1948. . في قصتي جيد وموروا ناحية جديرة باهتمام القارئ المتمكن والناقد الذواق؛ ناحية يلتقي فيها الكاتبان ويفترقان بعدها في كل شيء!
أندريه موروا في (أرض الميعاد) فنان، وأندريه جيد في (الباب الضيق) إنسان. . وكلاهما يبلغ القمة في ميدانه: هذا في إنسانيته وذاك في فنه. وكلاهما يمضي بعد ذلك في طريق؛ تنزع القصة الأولى إلى الناحية الموضوعية أكثر مما تنزع إلى العرض والتحليل، على حين تقتصر القصة الثانية على الناحية التحليلية الخالصة، هناك حيث تطغى الألوان النفسية والظلال الإنسانية على كل ما عداها من ألوان وظلال! وبعد ذلك أيضاً يمضي كل منهما في طريق. . . فبينما تجد موروا يصهر العواطف الإنسانية في بوتقة الشهوة الجسدية العارمة، تلقى جيد يصهرها في بوتقة اللذة الروحية الهائمة؛ هناك شيء من الإباحية السافرة المتجردة، هنا شيء من الصوفية القلقة الغامضة. . . وفي كلتا القصتين صراع ملح عاصف عنيف، هو في (الباب الضيق) صراع بين روح وجسد، وهو في (أرض الميعاد) صراع بين روح وأجساد! في نطاق هذا الصراع الروحي الشاذ تتفق القصتان ويلتقي الكاتبان، ولا أقول إنه اتفاق كامل أو التقاء كامل، ولكنه اتفاق والتقاء على كل حال، يتمثلان في شخصيتين وضعهما جيد وموروا تحت مجهر التحليل النفسي وهما (إليسا) بطلة (الباب الضيق) و (كلير) بطلة (أرض الميعاد). كلتاهما خلقت تنشد الحب الذي لا تدنسه شهوة، ولا يشوه من قداسته لذة، ولا يعبث بطهره إثم، وهذا هو الحب المثالي الذي تضيق به دنيا البشر، وكلتاهما لقيت في سبيل هذا الحب آلاماً مبرحة وعذاباً لا يطاق، وتلك حال من يعيشون على الأرض وقلوبهم متعلقة بالسماء، لا شيء غير الصراع. . صراع القلب والعقل، صراع الفكر والعاطفة، صراع الجسد والروح!. . . أما موروافقد شاء لبطلته أن تخضع لمنطق الحياة والناس على ما فيه من قسوة ومرارة، لكنه خضوع المجبر المغلوب على أمره حين تتألب عليه القوى فيلقي السلاح، وتظل المعركة إلى الأبد محتدمة في نفسه وشعوره؛ وهذا هو منطق الفنان!. . أما جيد فقد آثر لبطلته أن تقاوم حتى النهاية، وأن تحمل من الشقاء في سبيل مثلها العليا فوق ما يحمل طوق الأحياء. لقد استحال حبها الإنساني على مر الزمن حباً إلهياً في هـ من شفافية التصوف ما يقرب بينها وبين الله. . . وفي فص اليوميات من (الباب الضيق) تهتف (إليسا) من الأعماق
مشيرة إلى (جيروم): (يا إلهي، تمنيت لو نقبل كلانا عليك، تدفع أحدنا قوة الآخر! لو نمشي كل طريق الحياة حاجين يقول أولهما للثاني: استند إلى ذراعي يا أخي إذا تعبت، فيجيبه: حسبي أن أراك إلى حانبي! ولكن لا؛ إن الطريق التي توصينا بها يا إلهي طريق ضيقة، ضيقة حتى ما يستطيع سلوكها قرينان!. . . يا إلهي، لم اخترت لنفسي مرارة الحرمان! أتراني أطلب غير الحب فتنة أعذب وأقوى! آه لو نملك دفع نفسينا معاً بقوة الحب إلى ما وراء الحب نفسه!) وهذا هو منطق جيد. . منطق الإنسان!
وأعود بك مرة أخرى إلى قصة أندريه موروا. . . نشأت كلير منذ صباها المبكر تتطلع إلى الحب بعينين حالمتين وقلب ظمآن، ولكن مربيتها الإنجليزية ذات الطبع البارد والوجدان الفاتر كانت تحذرها دائماً من أخطار الحب، ونزوات العاطفة، وغواية الرجال. . كانت كلما حملتها أحلام اليقظة على جناح الأمل إلى أرض الميعاد، ردها صوت المربية العجوز إلى أرض البشر: إحذري يا فتاة إن الرجال ذئاب، تقودهم إلى مهاوي الرذيلة شهوات وغرائز! وشبت كلير عن الطوق ولا يزال في نفسها وسمعها من دروس المربية العجوز رنين وأصداء!. . . أما أبواها فقد تلقت عنهما من الدروس ما طبع نظرتها إلى الحياة بطابع القلق والحيرة والترجح بين قسوة الواقع ومثالية الخيال؛ كان أبوها ضابطاً كبيراً عوده جنود أن يأمر فيطاع، وعودته الطاعة العمياء أن يرى فيمن حوله آلات يدفعها فتندفع!
وهكذا عاشت كلير. . لا يسمح لها أن تبدي رأياً، ولا يؤذن لها أن نعلق على أمر، ولا يتاح لها أن تعترض على وضع من الأوضاع. . أما أمها فكانت امرأة شاذة غريبة الأطوار، لا تعترف بهذه العاطفة المقدسة التي يسميها الناس حباً، وكثيراً ما كانت تضم صوتها إلى صوت المربية العجوز في تحذير ابنتها من لعنة الحب، وخبث الطوية عند الرجال!. . ومما ترك أثراً عميقاً في نفس كلير أنها كانت كلما قادها الخيال إلى حلم كل عذراء، إلى ليلة الزفاف، ارتفع صوت مربيتها ليقول لها في دهشة مقرونة بالعجب والاستنكار:(ليلة الزفاف؟ ألا تعلمين ما هية ليلة الزفاف؟!. . . تصوري مذلة أن تتجرد المرأة أمام رجل، وأن تظل عارية تماماً رهن مشيئته، وطوع إرادته، وتحت رحمته!. . . آه من شناعة هذا كله!)
في هذا الجو الملبد بالقسوة، المفعم بالرهبة، الحافل بالشذوذ، عاشت كلير. . . ومن هذا الجو الخانق خرجت إلى الحياة لتواجه الحقائق بعقلية الأب والأم (ومس برنكر) المربية العجوز، عدوة الرجال! ولكنها كانت أبداً تحلم بأرض الميعاد، أرض العبقرية، أرض النبوغ. أرض الوحي والإلهام. . كانت تتمنى أن تصبح يوماً كاتبة عظيمة أو شاعرة عظيمة، وحين لم يتحقق لها شيء من هذا كله، راحت تحلم بأن تكون زوجة لكاتب عظيم أو شاعر عظيم، وما أجملها من أمان عذاب وهي تتخيل نفسها إلى جانبه، تعطف عليه فتوحي إليه، وتلهبه فتلهمه، ويذوقان معاً أول قطرة من قطرات الخمرة المسكرة. . خمرة الفن والمجد والخلود!
ولكن الأيام تمضي بها في طريق كل معالمه صخور وأشواك. . لقد دفعت بها إلى أحضان رجل لا يفهم لغة الفن، ولا موسيقى العواطف، ولا نبضات القلوب؛ وهكذا قدر لكلير أن تعيش في رحاب زوج لا يكاد يرى المرأة إلا من وراء منظار الشهوة المحترقة، الشهوة التي تنشد الجسد ولا تعبأ بنداء الروح، الشهوة التي لا تصغي لصوت غير صوت الغريزة، صوت الحيوانية المتأججة في الأعماق!. كان (ألبير لاراك) ملكا من ملوك المال، وفي بيته عاشت كلير كما تعيش الملكات، ولكن شيئاً واحداً كان يحيل النور في عينها الساحرتين ظلاماً، ويلهب روحها بسياط العذاب، ويفجر الألم في أعماقها تفجيراً. . . هو تلك العلاقة الجنسية (الشائنة) التي يفرضها عليها منطق الحياة والأحياء!. . . هذه الروحانية الشفافة التي كانت تحلم بها في أرض الميعاد، وهذا الهيام العلوي الذي كان يربطها بالسماء، وهذا الشعور المثالي الطليق المحلق في آفاق الخيال، هذا كله قد تحطم على أرض البشر. . . ويا ويح الخيال حين يرتطم بقسوة الحقيقة ومرارة الواقع! حتى هذا الطفل الذي أنجبته لم يثر في حنايا الضلوع عاطفة، ولم يشعرها يوماً بحنان الأمومة؛ لقد كان يذكرها دائماً بأنه أتى إلى الدنيا عن هذا الطريق الذي كانت تبغضه، وتنفر منه، ويرمض جوانحها بالعذاب. عن طريق العلاقة الجنسية (الشائنة)، علاقة (الشقاء المقدس) لا الرباط المقدس! هكذا كانت تشعر كلير، وتنظر إلى منطق الحياة والناس!
أرض الميعاد، ولا شيء غير أرض الميعاد. . أين من يقودها إلى هذه الأرض التي أقامت لها في معرض الفكر صوراً فاتنات، وحشدت لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان
وظلال!. لقد وجدته، وجدته أخيراً وكأنهما كانا على ميعاد، وجدته في شخص شاعر عظم فتنها برقته، وغزا قلبهابعبقريته، وسحرها بلطف حديثه، وكان اسمه. . (كريستيان منتربيه)!
وفي هذا الظل الظليل من عبقرية الحب وحنان الحبيب، نسيت كلير أن لها زوجاً وبيتاً وابناً. . كل خلوة مع الشاعر، وكل رحلة مع الشاعر، وله ألف نزهة تهيئها الأحلام تحت ضوء القمر!. وتصل أنباء الزوجة إلى الزوج بعد أن أصبحت حديثاً تجهر به الشفاه، وينتهي الأمر بينهما إلى الطلاق. ويعود هو إلى أشجانه، وتعود هي إلى كريستيان منتربيه!
وفي رحاب الزوج الجديد عاشت كلير. . عاشت في رحاب الرجل الذي ضحت في سبيله بالزوج والإبن وكل نعيم يهيئه للمترفين سلطان المال! وكم عطفت عليه فأوحت إليه، وكم ألهبته فألهمته، ولكنها لم تذق معه تلك الخمرة المسكرة. . . الخمرة التي عتقتها الأوهام في دنان أرض الميعاد!. لقد كان الشاعر وا أسفاه بشراً ككل البشر!! وفي تلك الرسالة التي بعثت بها كلير إلى كريستيان بعد اثني عشر عاماً من زواجهما، يصور أندريه موروا بريشة الفنان المبدع، كل ما كان يعتلج في نفس بطلته من صراع رهيب بين الروح والجسد، ظل إلى أن ودع الشاعر الحياة، أقباساً من وهج اللوعة وفنوناً من عبقرية الألم!.
ونقتطف هنا فقرات من هذه الرسالة الملتهبة:
(يا حبيبي الأعز، إنني منذ مقامي هنا قد بدأت ثم مزقت عشر مرات رسالة كنت أريد وكان ينبغي لي أن وجهها إليك منذ وقت طويل. إن ما لدي وعلي أن أقوله مؤلم لي، وأخشى أن يسبب لك الماً. . . إنني لا أظن يا كريستيان أنك تستطيع أن تتصور إلى أي حد قد تألمت منذ اثني عشر عاماً، لقد كنت معجبة بك، لقد كنت أحبك، لقد كنت غير راغبة في أن أكون لك. لا لك ولا لسواك. وما كان أسعدني لو بقيت إلى جانبك صديقة، أو لو استطعت خاصة أن أكون ملهمة، ولكنك لم ترد ذلك وقد استسلمت خافضة جناح المذلة لأني خشيت إذا أنا قاومتك أن أفقدك. . . لقد توقعت منك إذا أنا فرضت على نفسي تضحية إعطاء نفسي، أن أجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت مما لم يحدث، ولم ينكشف لي الزواج عن الوادي العجيب، ولم ألمح أرض الميعاد يا كريستيان!
إني أحبك يا كريستيان ولا أحب سواك، وإن من عناصر مأساتي أنني لك وسوف أكون مخلصة إخلاصاً لا يأتيه الشك ولا ينال منه شيء ولو بلغ بي اليأس والقنوط حد المنون. . إنك لو أردت فوضعت في زواجنا من الشعر بقدر ما تصنع في غراميات الأبطال الذين تخلقهم، فربما كنت أبلغ من الحرارة الدرجة العالية علواً خارقاً، الدرجة اللازمة لتصهر تحفظي وتذيب جمودي. . . إن في الحياة الزوجية - على النحو الذي يخيل إلى وكما أتصورها - شيئاً متكرراً، شيئاً فاحشاً يثلج بدني ? وإني أفترض أنني مخطئة، وأن المرأة الطبيعية العادية تجد شيئاً طبيعياً عادياً هذا (الهوى الجسدي الأعظم) كما هو عندكم أيها الرجال كل مساء، من دون أن تغلف هذه الحركات والإشارات في كل مرة بالشعر والقلق والجمال. لكن ما حيلتي وقد خلقت هكذا؟!. . إن أعصابي تحترق شيئاً فشيئاً من تكرار هذه المعاناة، بل إن عقلي نفسه قد اضطرب! وتتصاعد في كياني أبخرة الضغن والغيرة، وأحياناً الحقد، على تلك المخلوقات البريئة التي كل جريمتها عندي أنها تتذوق لذات تأباها على طبيعتي. . .!
بعد هذه الزوجة الشقية التعسة، تجد ست زوجات أخرى لخص الصاوي حياتهن عن قصص ومسرحيات مطولة في الأدب الفرنسي، وسترى أن واحدة منهن قد لقيت من الشقاء والتعاسة ما لقيت كلير، وهي (زوجة الكاتب). . . وأن أخرى قد لقيت من ذل الحياة وقسوة الأيام أضعاف ما لقيت بطلة أرض الميعاد، وهي (زوجة الضابط). . . وأن ثالثة قد واجهت العاصفة بصبر وثبات ورجاحة عقل حتى بلغت الشاطئ، وهي (زوجة الوالي). . . أما مسرحية (أزواجها الثلاثة) فقد كانت بمثابة البسمة المشرقة وسط مآسي الدموع ?. . . أما الزوجة السابعة والأخيرة فبطلة قصة مصرية كتبها الصاوي بقلمه تحت عنوان (زوجة الطبيب)، ولعل هذه القصة هي الثغرة الوحيدة في هذا الكتاب، الثغرة التي ينفذ منها الناقد إلى شخصية الصاوي الفنية ككاتب قصة. . . لقد كان فيها مجال رحب للخيال المفتن ولكن الصاوي وجه كل عنايته إلى الإطار دون أن يحفل كثيراً بتلوين الصورة، ومن هنا فإن الحركة النفسية قد اعتراها شيء من الهمود، مبعثه تلك اللمسات السريعة العابرة في مواقف تحفل بعنف الصراع وفورة العاطفة!
أنور المعداوي
القَصصُ
الخطاب
للكاتب الإنجليزي كولين هوارد
هتف الرجل الصغير قائلا وقد بدت على محياة دلائل الارتباك وهو واقف يجوار الصندوق - أني مسرور لرؤيتك ?
فتوقف وتلقت إليه قائلا - مرحباً. . . السيد سيمسن، أليس كذلك؟
كان سيمسن وزوجه حديثي العهد بالحي، ولم أكن قابلتهما أنا وزوجي إلا مرة أو مرتين.
وأجابني سيمسن قائلا (أجل - هذا صحيح!) وكان يبدو أنه مسرور لتعرفي عليه سريعاً. واستطرد قائلا (أني لأتساءل: هل أستطيع أن تقرضني ثلاثة أنصاف من البنسات؟) فدفعت بيدي أبحث في جيبي، وأنا أسمعه يقول (إن زوجتي قد سلمتني هذا الخطاب لألقيه في صندوق البريد، ولكني لاحظت الآن فقط أن المظروف خال من طابع البريد).
قلت مرفها - خل عنك. . . فكثيراً ما يحدث ذلك.
قال يجب أن يسافر هذا الخطاب الليلة - لابد أن يسافر ?
ولا أظن أني سأجد مكتباً للبريد مفتوحاً في هذا الوقت المتأخر من الليل. أتظن ذلك؟
كانت الساعة قد أشرفت على الحادية عشرة، فأمنت على أقواله.
واستطرد يقول - لذلك فكرت أن أحصل على طابع بريد من هذه الآلة، عندما وجدت أني لا أحمل نقوداً صغيرة
فقلت له بعد أن بحثت في جيبي عبثاً - أني شديد الأسف. أخشى ألا يكون معي مثل هذه النقود.
فصدرت عنه آهة تدل على الأسف، قلت - لعل عابر سبيل يمر. . . فقاطعني قائلا - لا يوجد أحد. . .
ونظرت إلى جهة من الطريق ونظر هو إلى الجهة الأخرى. ثم التفت إلى ناحيتي والتفت إلى ناحيته دون جدوى. وأخيراً هممت بالرحيل. ولكنه يبدو وحيداً مرتبكا وقد أمسك بيده مظروفا أزرق اللون فلم أقو في الواقع على تركه وهو في هذه الحال. فقلت له - دعني أخبرك ما الذي نفعله. من الأفضل أن ترافقني إلى داري. أنه على مقربة من هنا.
وسأحاول أن أحصل لك على نقود صغيرة.
فقال سيمسن - أنه للطف منك حقاً!
وفي الدار، استطعت بعد لأي أن أعثر على ثلاثة أنصاف من البنسات فأعطيتها إياه فأخذها مني شاكراً، ثم جعل يدون في مذكرته - بطريقة رجال الأعمال - قيمة القرض، ثم يعود إليّ. وقال لي - إني آسف لإزعاجك مرة أخرى. الحقيقة إني لا زلت غريباً عن هذا الحي، وهأنذا قد ضللت الطريق. لعلك ترشدني إلى مكتب البريد.
وحاولت إرشاده، وقضيت بعض الوقت أشرح له موقع المكتب دون جدوى. وأخيراً وجدت نفسي في حيرة كحيرته عندما صرح قائلا - أخشى أني لم أفهم. . . فقاطعته قائلا - من الأفضل أن أرافقك. فعاد يردد قائلا - إنه للطف كبير منك ?
وسرنا في طريقنا حتى وصلنا إلى مكتب البريد. ووضع سيمسن قطعة من النقود في ثقب الآلة، فسقطت داخلها في صليل عال دون أن يظهر للطابع أي أثر. ونظر إليّ سيمسن نظرة حائرة وكأنه يتساءل ما الذي يستطيع عمله. فشرحت له قائلا (أن الآلة فارغة من الطوابع) فتأوه في أسف. اتضح لنا أن طوابع أنصاف البنسات قد نفد أيضا. ووقف سيمسن مضطرباً حائراً. وإذا بالمظروف يسقط منه ويقع على الأرض فاستعاده وقد تلوث بالوحل. وصاح في انفعال (انظر، لقد تلوث بالوحل!) ثم طرق على الآلة الفارغة في حنق وهو يقول (حسن، ما الذي نستطيع عمله الآن؟) فاستنتجت من سؤاله هذا أنه قد أشركني في حيرته، فسألته) أمن الضروري أن يسافر هذا الخطاب الليلة؟). فأجاب (نعم! نعم إن زوجتي قد ألحت على أن ألقيه هذه الليلة. قالت ولكن من الأفضل أن ألقيه الليلة إذا كنت تعرف ما أعني).
وكنت أعرف ما يعنيه من قوله هذا، أو على الأقل أعرف زوجه مسز سيمسن. وتذكرت فجأة ما جعلني أقول له (أتعرف. أن عندي دفتر طوابع للبريد في داري!)
فقال في لهجة لا تخلو من التقريع (كان يجب أن تفكر في ذلك من قبل!).
فقلت (من الأفضل أن نسرع وإلا فاتنا موعد سفر الرسائل)
وأسرعنا الخطى، وكان هذا من حسن حظنا، لأنه أستغرق بحثنا مدة طويلة قبل أن نجد الدفتر وإذا به خال من طوابع البريد.
وجعل سيمسن يقلب الفكر وهو يقول (يا لخيبة الأمل!)
قلت (عجباً ? أكاد أقسم أن الدفتر كان ممتلئا بالطوابع!).
فسأل في حزن (ولكن. . . ماذا أفعل في خطابي؟).
قلت (سنضطر أن نلقبه دون طابع) وكان اهتمامي بذلك الخطاب قد بدأ يقل تدريجيا.
قال وقد عاوده الأمل (أوه - أأستطيع أن أفعل ذلك؟!)
قلت (ما الذي تستطيع عمله خلاف ذلك؟ كل ما هناك أن من يتسلم الخطاب يدفع ضعف قيمة إرساله في الصباح الباكر). قال (إني لا أود أن يحدث ذلك).
قلت (ولا أنا. ومع ذلك. فليكن. أنها متاعبه وليست متاعبنا. أسرع الآن وإلا فاتنا آخر موعد لاستلام البريد.)
وأسرع سيسمن في حماسة، فصحت به (انتظر. . . إن المكتب في الناحية الأخرى من الطريق).
فعاد وهو يلهث قائلا (آسف. أظن أني ضللت الطريق مرة أخرى).
ولم أحاول أن أشرح له ثانية، بل أمسكت بذراعه في قوة وقدته إلى مكتب البريد في اللحظة التي كاد يتم فيها استلام الرسائل - وكنت أعرف أني بمرافقتي إياه سأوفر على نفسي بعض الوقت - ثم ألقى بخطابه بين الرسائل الأخرى، وأخيراً عدت به إلى داره.
وقال وهو يودعني: (أشكرك شكراً جزيلا على كل ما فعلته أني لا أتمالك من التفكير. . . ما الذي كنت أفعله بدونك؟. .
أن ذلك الخطاب. . . أنه لا يحوي سوى دعوة للعشاء موجهة إلي. . . يا الهي!).
- ماذا. . . ما الأمر؟.
- لا شيء. . . لقد تذكرت أمراً. . .
- ما هو؟
ولكنه لم يفه بكلمة، بل اتسعت عيناه وهو يحدق فيّ طويلا؛ وأخيراً حياتي وأسرع إلى الداخل.
وعجبت وتساءلت وأنا أسير عائداً إلى داري ما الذي تذكره؟ ولكن. . . ما لبث أن زال عجبي في الصباح الباكر عندما دفعت لساعي البريد ثلاثة بنسات قيمة استلامي مظروفاً
أزرق اللون بغير طابع. . قد تلوث بالوحل!!
محمد فتحي عبد الوهاب