المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 808 - بتاريخ: 27 - 12 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٨٠٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 808

- بتاريخ: 27 - 12 - 1948

ص: -1

‌الأسرة المنبوذة

- 2 -

نعم يا سيدتي أذكر أني كنت وأنا صبي أمر في طريقي إلى الكتاب بمنزل المعلم يوسف النجار فأجده كل صباح جالساً تحت جداره في يمناه قدومه وفي يسراه يد فأس يسويها، أو بسخة محراث يقويها، أو ورش طنبور يجدده؛ وأصحاب هذه الأدوات من شباب القرية قيام من حوله أو قعود ينتظر كل منهم دوره ليقدم آلته أو ليسأل حاجته. وكان مظهر النجار المرح ومنظر حلقته الصاخبة يغريان صبيان الكتاب بالوقوف فيقفون ليسمعوا هذا يستحثه بالسب لأنه عوقه عن الخولي، وذلك يبادره بالعتب لأنه غشه في خشب الزحافة، وبذلك يركبه بالدعاية لأنه غبنه في ثمن النورج؛ ثم ليروا المعلم يوسف مكباً على عمله، ووجهه متهلل بالضحك، ولسانه متحرك بالمزاح، يجزي على السباب بالنكتة اللاذعة، ويحتج على العتاب بالحجة البارعة، ويرد على الدعابة بالسخرية المرة. حتى إذا انصرف الفلاحون إلى حقولهم، انصرف هو إلى دورهم، فتسأله هذه إصلاح المطرحة، وتسأله تلك تثبيت الباب؛ وهو يجيب كل طالب بابتسام، ويؤدي كل عمل باهتمام؛ لأنه يقوم لأهل القرية جميعاً بنجارة البيت والغيط مستأثرة فيأخذ من كل أسرة كيلتين في موسم القمح وكيلتين في موسم الذرة. ومن هذه الجباية السنوية يجتمع له ثروة من الحب تظهر بركتها في عيشه الرضي وباله الرخي وزيه الجميل واستبد النجار الوحيد بخير البلد وارتفع به الغنى إلى طبقة أعيانه. ونظر يوسف في أمره فلم يجد في نفسه حاجة يتمناها على الله غير زوجة تكون لعشه الحالي سكينة وزينة. والتمسها في فتيات القرية فلم يغلها، لأن الفقيرة أقل مما يبني، والغنية أكثر مما يستطيع. فأشارت عليه أمه العجوز أن يتزوج من قرية أخواله وهي على بعد كيلين من قريته؛ فعله نصيبه على فتاة رأيناها بعد زفافها عليه ودخوله بها فإذا منظرها يملأ العين ويشغل الفؤاد: جسم بض ممتلئ يكاد الثوب من ربه يلتصق به، وقوام سبط معتدل يتثنى تثني الغصن الأملد، ووجه مشرق اللون كأن على كل صفحة من صفحتيه وردة جورية، أو تفاحة أمريكية، وساعدان عبلان يحليهما، من الرسغين إلى المرفقين، أساور من الزجاج الأحمر المذهب، ويدان رخصتان تزينهما أسطار من الوشم الأخضر المنمنم وهندام مدني جريء، ظل حديث الدور والمصاطب مدة طويلة!

ص: 1

كثر الفضول حول دار النجار، فكل امرأة تريد أن ترى وكل رجل يحب أن يسمع، ومضت الأيام وحال بعض الجارات على بعض يقلن وهن يملأن جرارهن من النهر: إن لامرأة المعلم يوسف لوناً حين يتنفس الصبح، ولوناً حين يمتع الضحى؛ لونها في طلعة الشمس أسمر حائل، ولونها في ميعة النهار أزهر مشبوب!

ثم مضت الأيام وقالت جارة لصواحبها وهن يحملن الحطب إلى البيوت: لقد رأيت بعيني محمد العطار يقف على باب النجار ويعطي زوجه شيئاً في السر فأخذته مسرعة وهي تتلفت، وغيبته في ثوبها وهي تهمس، ومحمد العطار هذا بائع جوال ينتقل بحماره وخرجه بين القرى المتجاورة، فيبيع اللبان اللدن والصابون الممسك والمناديل المزركشة والغوائش الملونة، وسلعاً أخرى تتصل بالزينة والتجميل يسار بها النساء، فينفرن منها ويطول حديثهن عنها.

ثم مضت الأيام وجاءت جارة أخرى تعرض على جارتها وهن يخبزن رغفانهن في الفرن المشترك. حقة صغيرة من الصفيح الأخضر على غطائها المستدير مرآة، وفي جوفها الفارغ آثار من صبغ أحمر؛ وتقول أنها التقطت هذه الحقة خفية من دار النجار؛ وهي تؤكد أن هذا الأحمر هو (حسن يوسف) الذي طالما أغراهن به العطار؛ ونرجح أن هذه المرأة الفاجرة تصبغ به وجهها؛ ولا يجرؤ على تغيير خلقة الله إلا الغوازي في القرى وبنات الهوى في المدن. ولابد أن تكون هي من هؤلاء أو من أولئك.

وانتشر الخبر في القرية انتشار الظلام، فلم يبق من لا يعرف أن زوجة المعلم يوسف تستعمل حسن يوسف.

ثم مضت الأيام وغدوت ذات صباح إلى الكتاب ومررت في طريقي إليه بدار النجار فإذا الحال غير الحال والمنظر غير المنظر: تقوض المجلس وأقفر المكان، فلا الرجل قاعد تحت جداره ينجر ولا الجمع حاشد من حوله ينتظر! وأسأل نفسي وأسائل الصبيان: ماذا صنع الدهر بالمعلم يوسف؟ لم يعد رجل يستأجره لعمل، ولم تعد امرأة تزوره في حاجة! فيقولون لقد قاطعه القريب وتحاشاه البعيد، لأنه تزوج من الخبيزة! والخبيزة كما علمت من بعد، اسم يطلقه أهل المنصورة وضواحيها على المواخير، ولمواخير الفسق ما لمواخير اليهود من تعدد الأسماء في مختلف الأنحاء، على مسماها القذر الواحر.

ص: 2

وطال احتباس الرجل في بيته وتعطله عن عمله حتى صدئ قدومه ومنشاره، وبيع في الدين متاعه وعقاره. فاقترحت عليه أمه أن يطلق زوجه إبقاء على سمعته وصحته وصنعته؛ فقال لها في إباء وألم: وما ذنب هذه المسكينة يا أماه، وإنك لتعلمين كما أعلم أنها طاهرة الثوب قاصرة الطرف، وإنما جنى عليها هذه الجناية تقليدها البريء لابنة عمها المتزوجة في القاهرة. وقد حرمت على نفسها منذ أن شاع ما شاع أن تتزين حتى بالزجاج، وأن تتجمل حتى بالكحل. وأرى عندي أن نهاجر تحت الليل إلى عزبة من العزب المنشأة في أطرف بلقاس فنستأنف هناك حياة جديدة وعسى الله أن يجعلها بفضل براءتها واستكانتها موفقة سعيدة.

وأصبح الناس فإذا دار النجار مفتوحة بعد أن ظل بابها مغلقاً أثناء الأنهار سنة وشهرين لم يدخل منه داخل ولم يخرج منه خارج. فنفذ المارون بأبصارهم إلى دهليزها فلم يلحظوا حركة تبدوا ولم يسمعوا صوتاً ينبعث؛ فتسللوا إليها حذرين مستطلعين فلم يجدوا وا أسفاه إلا ربعاً أوحش بعد أن أنس، وروضاً صوح بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع.

ثم مضت الأيام وتعاقبت الأعوام وفعل الزمن فعله في العقول والميول فأصبحنا فإذا الرجل هو الذي يشتري الأحمر لزوجته لتصبغ، ويخلع المعطف عن ظهر أمه لتعرى، ويشعل السيجارة لأخته لتدخن، ويقدم المراقص إلى ابنته لترقص!!

ما أقربنا من ذلك الزمن وما أبعدنا عن تلك الحياة!! كان الولد يشب ثم يتزوج ثم يولد له ويبتليه الله بالتدخين فلا يستطيع أن يعلن ذلك لأبيه، ولا يجرؤ على أن يدخن في حضرة من يكبره. وكان الأخوة لأب وأم يعيشون في دار واحدة ثم لا يرى أحدهم زوجة الآخر. وكانت المخدرة إذا سهلت من حجابها، أو تبرجت بين أترابها، انتفت منها العشيرة وتحامتها الجيرة. ثم أمسينا فإذا المرأة هي التي تدبر الأمر وتسير العرف وتحجب الرجل. وإن مجلسي منكما هذا المجلس، وظهوركما على هذا الظهور، لشاهدان على هذه الحال!

فقالت جارتاي بلسان أوشك أن يكون واحداً في لفظه: تلك سنة الحياة يا أستاذ! قدم ينسخه تجدد، وتأخر يدفعه تقدم، ورق يخلفه تحور! فقلت لهما إن ألفاظ التجدد والتقدم والتحور كألفاظ الحق والعدل والاستقلال، لها في كل ذهن معنى، وفي كل نظام صورة، وفي كل أمانة دلالة. لقد تقدمنا في التعليم ولم نتقدم في التربية، وجددنا في الصور ولم نجدد في

ص: 3

الفكرة، وتحررنا من السوط ولم نتحرر من الهوى، - وهنا سحبت جارتي اليسرى من محفظتها سيجارة أخرى، ثم بحثت عن علبة الثقاب فلم تجدها، فاضطررت إلى أن أقطع الحديث وأدور بين الجماعة، لألتمس لها من بعضهم ثقاباً أو ولاعة!!

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌سيكولوجية الحظ والنجاح

للدكتور فضل أبو بكر

أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً=والحظ عني بالجهال في شغل

(الظفراني)

الحظ أو البخت أو الجد أو غير ذلك من المترادفات العديدة التي تعني حسن الطالع والمصادفة الموفقة، إنما هي ألفاظ كثيرة الانتشار تجري على كل لسان بل وفي كل زمان ومكان.

والاعتقاد في الحظ من سعيده أو سيئه ليس مقصوراً علينا نحن معشر الشرقيين دون غيرنا من أمم الأرض؛ فالغربيون بالرغم من دعوتهم بأنهم أكثر منا واقعية - وإن كانوا أجنح إلى المادية - يؤمنون أيضاً بالحظ وربما سبقونا في هذا المضمار.

كلمة الحظ يرددها خاصة الناس وعامتهم. يرددها الغني في لهفة وجشع يود المزيد ويخشى الفقر والإملاق، وهو يشكر للحظ ابتسامته في كثير من الأحيان، لأن الثراء يجذب الثراء من غير كبير عناء، وإنما العناء والمشقة هما في بداية الأمر عند وضع حجر الأساس لصرح ذلك الثراء. والأمل وما فيه من حياة لمحتضر، ومال لعوز، وسعادة لشقي، وأنس لشجي؛ هذا الأمل يخول الفقير المعدم أن يترقب ابتسامة الحظ وإن كانت ابتسامة شاحبة حيناً وعبوساً وتنكراً من جانب في معظم الأحيان فيتبرم بحظه ويشكو من قسوة دهره.

ظاهرة الحظ قديمة كالأزل، فقد ندب آدم عليه السلام حظه وشكا من سوء طالعه الذي أوقعه في الخطيئة بأكله من الثمرة المحرمة وما ترتب على ذلك من عقوبة وحرمان هما فقدانه الفردوس وخروجه منه، فكانت جناية جناها على نفسه وعلى بنيه من بعده.

والإنسان من أقدم العصور قد شخص بصره إلى السماء يرصد نجومها ويترقب ما يجري في عالمها، يسائلها عما يخبئه له الغيب من حظ سعيد أو نحس يحل به. وقد تمخض عن ذلك علم (التنجيم) ثم تطوره بمرور الزمن إلى علم ثابت الأساس هو علم الفلك الحديث. ولأسباب مشابهة - إن لم تكن مطابقة - بحث عن (حجر الفلاسفة) الذي إذا ما لامس معدنا ما صيره ذهباً فجلب بذلك السعد والغنى؛ وقد كان ذلك من أكبر العوامل في وجود

ص: 5

علم الكيمياء القديم الذي تطور منه علم الكيمياء الحديث. . .

وتلك التمائم والأحجبة التي لجأ إلى استعمالها الإنسان منذ أزمان بعيدة، وما زالت بعض الشعوب البدائية تستعملها إلى يومنا هذا، إنما ترمي كلها إلى غاية واحدة هي جلب الحظ السعيد ودرء النحس والأذى.

كذلك العرب، كانوا في جاهليتهم يتفاءلون ويتشاءمون، يؤمنون بحسن الحظ ويتقون شر النحس وسوء الطالع، يتشاءمون من بعض الحيوانات وخاصة الطيور مثل البوم والغربان. وهاهو شاعرهم يقول من قصيدة يعاتب فيها قومه ويفاخر بتسامحه وبكونه يدرأ السيئة بالحسنة:

وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي

زجرت لهم طيراً تمر بهم سعداً

بيد أن بعض الناس، برغم فكرة الحظ السائدة - أو ظاهرة كما يحلو لي أن أسميها - لا يؤمنون بالحظ، ويعتقدون بأن الإيمان بالحظ فيه شيء من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وإن كنا لا نشاركهم هذا الرأي، إذ أن الاعتقاد في القضاء والقدر لا ينافي بحال من الأحوال الإيمان بوجود السعد والنحس.

وهناك بعض من الناس يفكرون بالحظ ويحسبونه ضرباً من الخيال والخرافة ورأيهم فيه هو رأيهم في (الفول والعنقاء) وينعتون من يؤمن بالحظ (بالمشعوذين) والمهووسين.

وفئة أخرى تؤمن بالحظ في قرارة نفسها وتنكر ذلك أمام غيرها لأن في ذلك خروجاً عن العرف على سبيل (خالف تعرف) كما أن في ذلك - كما يتوهمون - دليلاً على القوة والاعتماد على النفس والاعتداد بها.

بعض ظواهر الحظ ومتناقضاته:

نشاهد في كثير من الأحيان أن نفراً من الناس قد يلازمهم الحظ السعيد طيلة حياتهم فيفوزون بالجاه والثراء ويصلون إلى القمة من أقصر طريق وبغير عناء شديد، مع أن مؤهلاتهم لا تتناسب مع ما حصلوا عليه بل تتنافى معه في بعض الأحيان، وقد يختلف الناس في تعليل ما يشاهدون ولكنهم يتفقون جميعاً بأن ذلك النفر محظوظ سعيد.

وترى أيضاً بعض ذوي الأعمال من الرجال يغامرون في مشروعات ضخمة ينفقون فيها المبالغ الكبيرة من المال من غير وجل ولا خوف مستبشرين متفائلين، يكاد الواحد منهم

ص: 6

يجزم مقدماً بنجاحه في شيء من الإلهام وقد تسفر النتيجة في معظم الأوقات عما توقعوه، مع أن نجاحهم قد لا يكون ناتجاً عن تفكير أو تبصر في عواقب الأمور، ومثل هذا النفر يرسم لهم الحظ خطاً يسيرون عليه سيراً (آلياً) بخطوات ثابتة.

كذلك ما نشاهده حول (الموائد المستديرة) للعب الميسر ترى بعض اللاعبين قد تكاثرت أرباحهم وقد يكون ذلك ناتجاً عن كونهم أمهر من خصومهم، ولا سيما في بعض الألعاب التي تحتاج إلى مهارة مثل النرد والدومينة و (البردج)، ولكن هناك أنواعاً من الميسر لا تحتاج إلى حذق أو دراية في كثير أو قليل مثل أوراق (اليانصيب) إذ من الناس من يفوز بربحها مرات عديدة مع أن غيره قد يكون أكثر مواظبة على شرائها، وقد يشتري منها الشيء الكبير ومع ذلك يخسر على الدوام.

ومن الناس من يلازمهم النحس طيلة الحياة، رغماً عما يتصفون به من كفاية ودماثة أخلاق؛ وإذا حصلوا على شيء من الجاه، فهو أقل بكثير مما يستحقون. والكاتب البلجيكي (ماترلنك) وهو كاتب درامي مشهور نال جائزة نوبل سنة 1913 يضرب لنا مثالاً ناطقاً لبعض منكوبي الحظ في وصف جاء منه:(أتيح لي أن أتتبع عن كثب حياة صديق يائس خانه الحظ ولازمه النحس في كل خطوة خطاها. كان مثالاً لدماثة الخلق ورجاحة العقل، ورغما عن ذلك فقد أخفق في معظم ما تصدى له من عمل، كما كان يجيد العاب الفروسية، ويحسن استعمال المهند القرضاب ومع ذلك فقد هزمه خصم هزيل ثلاث مرات متوالية وجرح في كل مرة، وكان ذلك على أثر خصومة سياسية أفضت بهما إلى المبارزة وألجأتهما إلى تحكيم السيف، كما تخلى عنه معظم أصدقائه رغماً عن وفائه لهم إذ الناس ينفرون ممن ينفر منهم الحظ، ويقبلون على من يقبل عليهم. ولم تكن حياته الغرامية بأسعد حظاً من حياته الاجتماعية، فقد أحب وأخلص في الحب ولكنه لم يجن من حبه إلا الخيانة ولم يحصد غير الغدر).

ظاهرة قانون التسلسل والتتابع:

يقول المثل (إن المصائب لا تأتي فرادى)، وهو يطابق تماماً المثل الفرنسي نشاهد في كثير من الأحيان بأن المصائب تتلاحق ويسبب بعضها بعضاً، كما أن النجاح والسعادة يفضيان إلى غيرهما في شبه سلسلة ذات حلقات سعيدة.

ص: 7

ويمكن أن نطبق هذا القانون على سيرة بعض عظماء الرجال مثل هتلر ونابليون وغيرهما من كبار الناس. ولنأخذ مثلاً لذلك نابليون بونابرت.

لما كان نابليون طالباً في المدرسة الحربية بباريس قال يوماً بعض أساتذته: (إن هذا الطالب القرصقي جنسية وأخلاقاً سوف يتبوأ مكاناً عالياً إذا واتاه الحظ). وقد صدقت نبوءة ذلك الأستاذ وسطع نجم نابليون وتألق.

امتاز نابليون في حصار ميناء طولون سنة 1793، وهزم الإنجليز وأنصارهم من الفرنسيين الملكيين، ورقي إلى وظيفة جنرال على اثر ذلك، كما انتصر انتصاراً باهراً في حملته على الإيطاليين سنة 1796 ثم فوزه على النمساويين سنة 1804، ثم هزيمته للروس سنة 1805، وبروسيا الشرقية سنة 1806، ثم هزيمته لإسبانيا والبرتغال بعد ذلك، وهكذا أضحى نابليون سيد أوربا وأعظم رجل بها.

ثم بدأ يخونه الحظ ويأفل نجمه رويداً رويدا وكان بدء ذلك بعد حملته الغير موفقة ضد الروس سنة 1812، إذ حلت بجيوشه هزيمة منكرة في سهول روسيا المترامية الأطراف المكسوة بالجليد ففتك البرد بجيوشه التي لم تجد مأوى ولا قوتاً؛ وبعد ذلك هزيمته في (ليبزج) سنة 1813 واحتلال فرنسا سنة 1814 ونفي نابليون في جزيرة (ألبا)، ثم فراره منها وجمعه لفلول جيوشه التي هزمت هزيمة نكراء في واقعة (واترلو) سنة 1815 ونفيه في جزيرة (سنتهيلانة)، حيث ظل بها يعاني من قسوة الطقس آلاماً جسيمة، ومن قسوة الهزيمة والإخفاق آلاماً نفسية، حتى قضى نحبه سنة 1821.

إن سيرة هذا البطل تخضع لقانون التتابع في صورة واضحة. نجاح متلاحق متواصل يجذب بعضه بعضا حتى إذا ما وصل إلى القمة أعقبه هبوط متواصل أيضاً كما لو كانت الجاذبية تعمل عملها بجذبها إلى مركزها كل جسم من الأجسام، وكما تفعل مع جسم قذفته إلى أعلى طبقات الجو فهو يصل إلى غايته القصوى، ثم بفعل الجاذبية يهبط في خط أقرب إلى الشكل البيضاوي على حد قول الشاعر:

إذا تم أمر بدا نقصه

توقع زوالاً إذا قيل تم

أو قول الآخر:

ما طار طير وارتفع

إلا كما طار وقع

ص: 8

تبدو هذه الظاهرة أي ظاهرة قانون التتابع غريبة حقاً، وأكبر عامل يمكننا أن نعلل به هذه الظاهرة هو الثقة بالنفس والإيمان بمقدرتها. إن الثقة بالنفس أساس كل نجاح، والنجاح بدوره يزيد من تلك الثقة ويقوي الإيمان، فيتضاعف المجهود ويصدق العزم، وهكذا يجذب النجاح بعضه بعضاً في معظم الأحيان كما يحدث عندما تضعف الثقة بالنفس؛ يحدث الإخفاق وتتوالى المصائب والإخفاق بدوره يزيد من إضعاف الثقة بالنفس والروح المعنوية، وهكذا في شبه دائرة خبيثة حتى تنعدم نهائياً الثقة بالنفس حيث لا يكون غير الهبوط والإخفاق.

الأحاسيس التي تبشر بالسعد أو تنذر بالنحس:

هذه ظواهر مشاهدة لدى الكثير من الناس وقد قصت علينا سيدة تشتغل بالتجارة أنها تشعر مقدماً بما إذا كان التوفيق سيحالفها في عملها أم سوف يخونها الحظ، فزعمت أنها في الحالة الأولى تشعر بنشاط يغمرها ويشر يشع من محياها كما تجد في نفسها مقدرة على التعبير والإقناع وقلما يفلت الزبون - في مثل هذه الأحوال - من قبضتها كما أن توفيقها في إبرام صفقة رابحة يرفع من روحها المعنوية ويكثر من تفاؤلها.

كذلك تروي لنا السيدة المذكورة أنها تشعر في أحيان أخرى بانقباض في النفس وقلق - علمتها التجارب بأنهما مقدمة لعدم التوفيق والنحس فيما تقوم به من أعمال، وإنها لتجزم مقدماً - في مثل هذه الأحوال بالخسارة، أو على الأقل بقلة الربح.

ومثل هذه الأحاسيس يشعر بها لاعبو الميسر، بل هم أعرف بها من غيرهم.

وهنالك ظاهرة (التخاطر) التي أثبت علم النفس وجودها كما أعترف وأقر بها (بيرجسن)، وهي أن ترى رأي العين صديقاً أو قريباً بمناسبة حادث خطير وقع لهما أو تسمع صوتهما وأنت في كلتا الحالتين متمتع بجميع قواك العقلية، وفي حالة صحو تام.

كذلك قد يكون هذا التخاطر في صورة أحلام، وقد تنبئ هذه الظاهرة - سواء كانت في حالة يقظة أو في نوع من الأحلام - بما سوف يحدث من خير أو شر.

بعض الطرق المؤدية للنجاح:

1 -

الاعتماد على النفس: هو أساس كل نجاح في الحياة وهو ناتج عن القوة والثقة

ص: 9

بالنفس، كما أن عدم الثقة بالنفس هو علامة الضعف ومدعاة للتردد؛ والتردد لاشك فاشل على حد المثل الإنجليزي القائل

2 -

تجنب سوابق الإخفاق: إن الإخفاق سابقة تجر إلى غيرها لأن في ذلك إضعافاً للثقة بالنفس، وإذا تكررت فقد تخلق عقدة نفسية عصية الحل ومركباً للنقص يصعب الخلاص منه كما يحدث في (فسيولوجية) الهضم مثلاً إذا أصيب إنسان مرتين أو ثلاث مرات متوالية بسوء الهضم فقد يخلق في نفسه نوعاً من الخوف كفيلاً بإحداث اضطراب قد تطول مدته.

لهذا كان على الطالب الذي يريد أن يدخل في امتحان عام - كالمسابقات - ألا يقدم على ذلك إلا بعد تحضير كاف يكفل له النجاح وألا يقول - كما يقول الكثيرون -: دعني اجرب حظي.

دكتور فضل أبو بكر

عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا

ص: 10

‌إسماعيل في شعر شوقي

للأستاذ أحمد احمد بدوي

لأسرة شوقي صلة قديمة بإسماعيل سمحت له في إحدى قصائده أن يقول إنه ولد ببابه، وكان لأبيه وجده من قبل، صلة بآباء إسماعيل، وقال الشاعر في مقدمة كتابه الشوقيات:(أخذتني جدتي لأمي من المهد، وكانت منعمة موسرة فكفلتني لوالدي وكانت تحنو علي فوق حنوهما، وترى لي مخايل في البر مرجوة حدثتني أنها دخلت بي على الخديو إسماعيل وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديو بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه فوقعت على الذهب أشتغل بجمعه واللعب به، فقال لجدتي: اصنعي معه مثل هذا، فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض قالت: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي؛ قال: (جيئي به إلى متى شئت. إني آخر من ينثر الذهب في مصر) وتلك القصة تدل ما كان بين أسرة الشاعر وعاهل مصر الكبير من رباط وثيق. ومن المؤكد أن لو كان امتد الزمن بإسماعيل في مصر، حتى نضجت مواهب شوقي في الشعر لكان شاعره الأثير، فقد عرف هذا العاهل برعايته للأدب وحبه للشعراء، ولكن الأيام لم تلبث أن أبعدته عن العرش سنة تسع وسبعين وثمانمائة وألف، وشاعرنا طفل لا يعدو العاشرة من عمره بكثير أخذ الزمن يمضي، وإسماعيل مبعد عن بلاده حتى وافته منيته في مارس سنة خمس وتسعين وثمانمائة وألف، واستقبلت مصر جثمانه؛ وهنا يثور الشعر في صدر شوقي أمام هذا المشهد الفذ من مشاهد الحياة، فيضع قصيدة إسماعيل، يحدثنا فيها عن حياته أو عن العبرة في حياته؛ وإن الجو الذي تخلقه هذه القصيدة، وتحيط به القارئ جو حزن وأسى، والشعور الذي تبعثه في النفس شعور أسف على أن تكون هذه الخاتمة خاتمة ملك ملأ عين الدنيا وسمع الزمان حيناً طويلاً من الدهر.

ليت شعري أكانت تلك الحياة غير حلم امتد ما شاء له أن يمتد حتى إذا انقضى الحلم لم يجد صاحبه شيئاً منه في يديه.

حلم مده الكرى لك مداً

وسُّدى تبتغي لحلمك رداً

وحياة ما غادرت لك في الأحي

اء قبلاً، ولم تذر لك بعداً

ص: 11

ولم لا تكون حياة إسماعيل تلك الحياة، وقد جمعت الضدين: السعادة والبؤس، وعظمة السلطان، وارتفاع الشأن، ثم الانزواء في مكان ناء حيث لا أمر ولا نهي، ولا تاج، ولا صولجان:

لم ير الناس مثل أيام نعما

ك زماناً ولا كبؤسك عهداً

كنت إن شئت بدل السعد نحساً

وإذا شئت بدل النحس سعداً

قائماً بالعطاء والسلب فينا

كالليالي أو أنت أكبر أيداً

يتمشى القضاء خلف نواهي

ك حديد الأظفار يطلب صيداً

ويظل السراة منك كريم

رضيت رفده العناية رفداً

ومعز يصير القيد تاجاً

ومذل يصير التاج قيداً

أنت من مثل السعادة لو لم

يك ذاك النعيم أخذاً وردًَاً

ولقد أنصف شوقي إسماعيل وكان صريحاً عندما وصف نفسية إسماعيل بأنها نفسية أبية تبغض أن تجد يداً أجنبية تحاول أن يكون لها نصيب في ملكه وسلطانه، فالعاهل العظيم لا يؤوده الدين، ولو كان في ضخامة الجبال، ولكن الذي لا يستطيع احتماله، ولا يطيق عليه صبراً، أن يجد دائنه يحاول أن يقوض عليه سلطانه أو أن يسلبه شيئاً من حرية الرأي والعمل:

قصد الشاعر منك ركن المعاني

ورمى طودها الذي كان طودا

والأبي الذي أبى العصر في الملك

شريكاً لو أن ذلك أجدى

لم ينؤ بالجبال ديناً ولكن

ودَّ منه الغريم ما لم يودَّا

ولقد رجع شوقي القهقرى، فعاد إلى ذلك العهد الذي استقبلت فيه مصر ارتقاء إسماعيل عاقدة عليه كبار الأماني والآمال وهاهو ذا الأمير النبيل يحقق آمال وطنه فيه بتلك الهمة العالية التي تريد أن تحيل الجهل علماً، والضعف قوة؛ فهاهي ذي يده تشيد في كل يوم للعلم صرحاً، وتنشئ للوطن جيشاً، وتقيم مظاهر الحضارة والعمران لتصبح مصر جديرة بأن تنال ما هي أهل له من عظمة وجلال، وهاهو ذا العاهل العظيم يصغي إلى أمنية بلاده في الحكم النيابي، فتنال الأمة ما تتمناه، ويصون لها مظهرها الخارجي، فوفوده تترى إلى الملوك تنبئهم بأن مصر استيقظت تريد أن تظفر بمكانها نبيلة كريمة، وإذا كان لسلاطين

ص: 12

الترك على مصر شيء من الأمر، فهدايا إسماعيل تعرف كيف تستخلص حقوق مصر من أيديهم، والمال في سبيل الآمال رخيص مهما كان كبير المقدار. استقبلت مصر إسماعيل يوم ولايته بقلب عامر بالآمال:

لبس الشرق من لقائك تاجاً

وتلقى أعوام رشدك عقدا

وجرت فيه بالسعود جوار

لك منشين مصر ملكاً ومجدا

كل يوم صرح مشيد للعل

م، وظل يمد في مصر مدَّا

ولواء، وعدة، وعديد

ونظام نرى به للشهب جندا

وغزاة في البيض والسود تبقى

مصر فيها مجدداً مستردا

وبريد لها تسيل به القض

ب، وثان بالبرق أجرى وأهدى

وخطوط بها التنائي تدان

وبخار به الأقاليم تندى

وبيوت لله ترفع فيها

وقصور تشاد للحكم شيدا

وأماني للرعية توفى

وحقوق في كل يوم تؤدى

ووفود إلى الممالك ترجى

وثمين إلى الحوانيق يهدى

وفي هذا البيت الأخير سياسة إسماعيل نحو سلاطين آل عثمان يهدي إليهم ثمين الهدايا، ليظفر منهم بما يحقق آماله وأمانيه.

ولكن إسماعيل يسير إلى غاياته في غير تمهل، ويمضي إلى هدفه غير متلبث ولا وان كأنه كان يخشى - والعمر قصير - ألا يحقق آمال قلبه الكبير، وهنا يتحدث شوقي وكأنه يهمس إلى الأمير العظيم أو يناجيه بأن في التأني السلامة، وما كان أخلق الأناة أن تحفظ التاج لرب التاج، وأن نصون السعادة والمجد للراعي والرعية! وما كان أخلق الحذر بأن يصون العرش من تلك الأيدي التي امتدت رقيقة ناعمة، فلما ملكت أصبحت شديدة عسراء. ولنصغ إلى هذه المناجاة الحزينة:

يا كبير الفؤاد والهم والآ

راب مهلاً مهلاً رويداً رويدا

لم تكن حقبة أساءت علياً

في جنى عمره لتحفظ ودَّا

خذلت منه واحد الترك والعرب

، وساءت سيف المشارق غمدا

لا غراماً بحاسديه ولكن

رهباً أن يبلغ الشرق قصدا

ص: 13

ولأنت ابنه الذكي فهلا

جئت بالطلبة الطريق الأسدا

فتأنيت، والتأني فلاح

وهو يا ثاقب النهى بك أجدى

وحميت الأيدي العوادي أن تد

نو، وأن تمتلئ، وأن تتصدى

بالغت بعد لينها لك في العس

ر، وصار الوعيد ما كان وعدا

وإذا العصر والملوك خصوم

لك، والناس والمحبون أعدا

ويختم هذه المناجاة بهذا البيت الحزين المبدوء بلو:

ولو أنا صنا وصنت، لعش

نا الدهر في العز والسيادة رغدا

وكأن هذه المناجاة قد أثارت في نفس الشاعر الكبير ذكرى هذا اليوم الذي لا ينسى في تاريخ إسماعيل، وهو يوم افتتاح قناة السويس. وهل شهدت مصر في تاريخها الحديث مهرجاناً مثله، جعل اسم إسماعيل على كل لسان، وذكر مصر في كل مكان. أين هذا اليوم الذي جعل البحرين يلتقيان، وأضافت مصر فيه ملوك الزمن، وعظماء الأمم، يجدون عند إسماعيل، كرماً أندى من البحر، وأعذب من ماء النيل. ما بال هؤلاء الملوك قد تغيروا مع الدهر، وانقلبوا انقلاب الأيام! وما بال تلك الصور قد مرت كأحلام الليل، لا يلبث الصبح أن يتنفس حتى تمضي ولا تعود!

تهضت مصر بالزمان نزيلاً

وبأهليه يوم ذلك وقدا

خطروا بين زاخرين ولاقوا

ثالثاً من نداك أحلى وأندى

بين فلك يجري وآخر راس

ولواء يحدو، وآخر يحدى

وملوك صيد يراح بهم في

واسع الريف والصعيد ويغدى

صور لم يكن حقاً، وحلم

فجع الصبح فيه لما تبدى

وهنا لا ينسى شوقي أن هذا الجلال الذي بدت فيه في ثيابه البلاد قد دفعت مصر ثمنه غالياً، قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وكأن عقل الشاعر ضاق عن أن يدرك كيف أنفقت فتسائل قائلاً:

وقناطير يجفل الحصر عنها

كل يوم تعدها مصر عدا

ليت شعري؟ هل ضعن في الماء، أم هل

يضمر الماء للودائع ردا

ولكن الشاعر كان عظيم التفاؤل فأقسم ليعودون هذا المال غلينا كما ذهب، ولسوف تكون

ص: 14

تلك القناة مصدر سعادة الوطن كما كانت ينبوع بؤسه وشقائه فيقول:

ليعيدنها إلينا بوقت

زمن طالما أعاد وأبدى

إن ما أجرت يداك لنرجو

أن سيحيي البلاد من حيث أردى

ويخيل إلى أن سر هذا التفاؤل إنما هو التأدب أمام ذكرى الراحل الكريم، أما الحوادث التي مرت على الوادي بسبب القناة فقد أوحت إليه بالسخط على حظ مصر منها. وهاهو ذا يقول في قصيدته الكبيرة التي يؤرخ فيها لكبار الحوادث في وادي النيل

جمع الزاخرين كرهاً فلا كا

نا ولا كان ذلك الالتقاء

أحمر عند أبيض لليرابا

حصة الفطر منهما سوداء

وليس منشأ تلك النظرة السوداء إيمانه بأن تلك القناة عمل باطل لا خير فيه للوطن، بل هي - كما قال في أسواق الذهب - عز الغد، وكنز الأبد. والنجم الأحد، والوقف الذي إن قلت الوالد قلن يفوت الولد.

وإذا كان هذا المجاز - كما قال أيضاً - هو حقيقة السيادة، ووثيقة الشقاء أو السعادة، خيط الرقبة، من أغتصبه اختص بالغلبة، ووقف للأعقاب عقبة - فلن تكون مصر السعيدة الرائجة إلا إذا كان لها خالصاً، وسلطانها عليه تاماً. ولقد كان شوقي صادقاً في ثورته، شأن كل مصري يرى على ضفتي القناة جنوداً وعدة ليس لمصر فيها فتيل ولا قطمير، يقول شوقي لولديه انظرا ترى على العبرين عبرة الأيام، حصون وخيام، وجنود قعود وقيام؛ جنس غيرنا فرسانه وقواده، ونحن بعراته وعلينا أزواره، ديك على غير جداره خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره انفرد وراء الدار بالنباح.

ولازال هذا شعورنا إلى اليوم، فما دامت القناة ليست لنا فهي خطر البلاد الأغير، من التقاء الأبيض بالأحمر. ولعل ما تنبأ به شوقي يتحقق في القريب فتحيا البلاد بالقناة، وتصبح ينبوع عز ومجد ورخاء.

وإذا كان يوم افتتاح القناة من أيام إسماعيل التي لا تنسى؛ فهناك من آثاره الغر المخلدة ما لا ينساه التاريخ ولا تستطيع مصر أن تنساه يوماً؛ فقد أنشأ لها جيشاً مدرباً قادراً، فتح به أرجاء السودان وقسمه ونظمه، وإن أرض السودان لجديرة أن تفتدى بالمال والدماء. وقد امتدت الآمال بإسماعيل، وداعبته الأماني، تغويه أن يملك كل منابع النيل. فلم يكفه خط

ص: 15

الاستواء، وراح إلى الحبشة يغزوها، يريد تلك المنابع التي تجلب الخير إلى مصر مع طميها. وكم ود أن يركز فوق تلك المنابع رايته، فكانت غزوة مشئومة أودت بجيش مصر، ولننصت إلى الشاعر يحدثنا بزهو وفخار على جهود إسماعيل في السودان:

وملكت السودان في الطول والعر

ض، وفي شأنه المعظم عبدا

نلت بالمال والدما منه أرضاً

بجبال الياقوت والدر تفدى

ثم نظمته ممالك كانت

نار تنظيمها سلاماً وبردا

فهنئنا به السعادة عمراً

وأصبنا به للعين المهدا

وطريق البلاد نحو المعالي

وسياجاً لملك مصر وحدَّا

ولكن هذه النغمة الفرحة لا يلبث أن يشوبها الألم والحسرة عند الحديث عن غزوة الحبشة وما نال جيش مصر القوي فيها.

ليت لم تغش بعده في حماها

حبش المكر والخديعة أسدا

سلبوا مصر أي جيش كريم

كان للمجد والفخار أعدَّا

وما أشد الحسرة تنبعث من هذا البيت:

أنت أنشأته فلم تر مصر

جحفلاً بعده، ولم تر جندا

وهنا تنهار آمال إسماعيل في فتح تلك الديار.

ونفضت اليدين بأساً على الرغ

م كأن لم تجد من الصبر بدا

وإذا لم يكن من الله عون

فأطراح الآمال بالنفس أبدى

وحين انتهى شوقي إلى هذا الحد، وقف يتأمل العبرة في هذه الحياة المجيدة التي قلب الدهر لها ظهر المجن، (وما إسماعيل إلا قيصر لو أنه وفق، والإسكندر لو لم يخفق). ولقد راع شوقي أن رأى الناس يشبهون الدهر في غدره وتقلبه، فأين الملوك الذين وفدوا إليهن وأين السادة الذين تربوا ببابه، وأين الأصدقاء الأوفياء؟ لقد اعرض كل هؤلاء وجفوا، وكفر بالنعمة قوم لولا إسماعيل ما عرفوا معنى الحياة.

ما لمصر رآك في العز لا ير

سل دمعاً، ولا يبلل خدا

أين ود عهدت منه وعطف

وولاء مؤكد كان أبدى

وملوك له أتتك وسادا

ت حداها إليك وفداً وفدا

ص: 16

أبت الناس فيك للناس إلا

أن يجاروا الزمان وصلاً وصدا

فرأيت الحميم أول جاف

ووجدت الولي في البؤس ضدا

ورجالاً لولاك لم يعرفوا العي

ش أبوا أن يقدموا لك حمدا

ما رأوا بعدك الأمور ولكن

يحسنون الكفران حلاً وعقدا

ولقد مرت مصر من الأحداث ما كان مدعاة لأن يذكر الناس هذا العاهل، وما كان ينتظر منه لو أنه ظل على العرش يحوطه ويرعاه. ولقد كان الظرف الذي أنشأت فيه تلك القصيدة مدعاة لأن يثير في نفس الشاعر هذا المعنى، وما كان أخلق دهاء إسماعيل أن يمر ببلاده وقت العاصفة بسلام لو أنه لم يقص عن عرشه إقصاء

بان مجد البلاد إذ بنت والصف

و، وكان الرجاء حياً فأودى

ودعتك الخطب فينا فلم تت

رك صواباً لنا ولم تبق رشدا

ولقينا من الحوادث ما لم

يك يعيا به دهاؤك ذودا

فبكى البائسون منك حساماً

طالما قد هامة الخطب قدا

وبصيراً إذا المشورات لم تنجد

ذويها ساس الأمور مُسدا

والآن بعد أن قضى حقوق التاريخ، ووقف يستقبل هذا الجسد الهامد، عاد إلى وطنه بعد طول غيبة، ليرقد فيه رقدة الأبد، وليستريح بعد ما قاساه من عناء الغربة، وبعد البنين، وفقدان الصحة والشباب، والجاه والسلطان، وإن مصر لوفية وإن ظن منها الجفاء، مقبلة وإن خيل منها الإعراض، لا تحمل لخادمها بغضاً، ولا تكن له حقداً؛ وإذا كانت الظروف قد جرت على مصر ببعض المحن فقد غفرت مصر لإسماعيل كل شيء؛ فقد كان يبني لها المجد وضخامة السلطان، وترك لها ما خلد من جليل الآثار.

نازح الدار ما لبينك حد

ولقرب الديار زادك بعدا؟!

هكذا من قضى حنيناً وشوقاً

وأنيناً مع الظلام وسهدا

شاكياً للبنين والأمر والصح

ة والجاه والشبيبة فقدا

عد إلى مصرك الوفية وانزل

في ثراها واسكن من المهد لحدا

لا تقل أعرضت بلادي وصدت

مصر خير هوى وأكرم عهدا

وقبيح بالدار أن تعرف البغض

وبالمهد أن يباشر حقدا

ص: 17

غفرت مصر ما مضى لعلى

وبنيه وللحفيد المفدى

ولآثارك الجلائل فيها

ولجسم من نابها خر هدا

وختم شوقي قصيدته محاولاً أن يظهر سأمه من الحياة ويرمه بها، ولكنه ضعف ونزل عن مستوى قصيدته الأول: ولم يدل شعره على انفعال حقيقي حاد.

لقد أنصف شوقي إسماعيل في تلك القصيدة فذكر بإعجاب مآثره على هذا الوطن، ولم ينس أن يبين برفق فضل الأناة والإصلاح على مهل.

ولشوقي مقطوعة أخرى قالها حين أشرف في مدينة نايلي على الدار التي كان يقيم فيها إسماعيل، وهنا ذرف عبرتين أثارهما فيه هذا الزمن المتقلب وما مر بإسماعيل من إدبار بعد عز ونعيم، فهاهو ذا يضطر إلى مغادرة داره والرحيل عن بلاده، ويستقبل في كل يوم من الدهر آلاماً مبرحة حتى تنتهي متاعبه بالموت:

أبكيك إسماعيل مصر وفي البكا

بعد التذكر راحة المستعبر

ومن القيام ببعض حقك أنني

أرثي لعزك والنعيم المدبر

هذي بيوت الروم كيف سكنتها

بعد القصور المزريات بقيصر

ومن العجائب أن نفسك أقصرت

والدهر في إحراجها لم يُقصر

مازال يخلى منك كل محلة

حتى دفعت إلى المكان الأفقر

وشوقي في غير هذا الشعر الذي خصه بإسماعيل وأنشأه من أجله لا يكاد يعرض لذكره إلا مقترناً بأسمى آيات الإجلال والتكريم، فهو وفي لأبناء إسماعيل؛ لأنه ولد ببابه وارتدى آلامه فمن العار أن يخونه في بنيه.

أأخون إسماعيل في أبنائه؟!

ولقد ولدت بباب إسماعيلا

ولبست نعمته ونعمة بيته

فلبست جزلاً وارتديت جميلا

وعند افتتاح الجامعة المصرية، وكان الفضل في إنشائها لابنة إسماعيل الأميرة فاطمة لا ينسى شوقي أن يشيد بولائه العظيم فيقول:

شمائل كان إسماعيل معدنها

قد يخرج الفرع شبه الأصل للناس

وكثيراً ما نراه في حديثه مع المغفور له فؤاد الأول يلقبه بابن إسماعيل ويدعوه أن يقفو في الإصلاح أثر المصلح الكبير:

ص: 18

هلم مثال إسماعيل وانسج

على منواله المنن الجساما

وأحب أن أشير إلى موضعين آخرين أطال فيهما شوقي الحديث عن إسماعيل. أما الموضع الأول فالقصيدة التي ودع بها اللورد كرومر، وقد أقام له رئيس الوزراء يومئذ مصطفى باشا فهمي حفلة وداع في دار الأوبرا، وخطب اللورد في هذه الحالة فأهان الأمة وأهان الخديو إسماعيل في وجه الأمير حسين كامل ولم يراع شيئاً من الأدب ولا المجاملة، فأنشأ الشاعر في ذلك الحين قصيدة ثائرة، تعبر عن نفس كليمة وقلب موتور. وليس المجال مجال تحليل تلك القصيدة الرائعة، ولكنني أكتفي هنا بدفاع شوقي عن إسماعيل، فقد تمدح المحتل بأنه جلب لمصر الغنى ومد لها أسباب الحضارة، وقضى على إسراف إسماعيل وتبذيره فخاطبه قائلاً:

قالوا جلبت لنا الرفاهة والغنى

جحدوا الإله وصنعه والنيلا

وحياة مصر على زمان محمد

ونهوضها من عهد إسماعيلا

ومدارساً ببني البلاد حوافلاً

حظ الفقير بهن كان جزيلا

قد مد إسماعيل قبلك للورى

ظل الحضارة في البلاد ظليلا

إن قيس في جود وفي سرف إلى

ما تنفقون اليوم عد بخيلا

أو كان قد صرع المفتش مرة

فلكم صرعت بدنشواي قتيلا

لا تذكر الكرباج في أيامه

من بعد ما أنبت فيه ذيولا

وما أجمل هذا التهكم يزجيه شوقي للمحتل الذي يعد من سيئات إسماعيل إكثاره من بناء القصور:

وامدح قصوراً شادهن بواذخاً

قد أصبحت مأوى لكم ومقيلا

لو أنه لم يبنها لتخذتمو

منها المضارب والخيام بديلا

والموضوع الثاني قصيدة أنشأها يحيي بها المؤتمر الجغرافي الذي وفد إلى مصر في عهد الملك فؤاد، وكان إسماعيل قد أنشأ في عهده سنة خمس وسبعين وثمانمائة وألف جمعية جغرافية وكان المؤتمر نزل بدارها فكان في ذلك ما يجدد ذكر إسماعيل قال يخاطب رجال المؤتمر:

كفى بدار تبوأتم أرائكها

من عبقرية إسماعيل عنوانا

ص: 19

ولقد هاجت به الذكرى فذكر أنه لو أدرك عهد إسماعيل لنال ما لم ينله المتنبي من سيف الدولة:

ولو مشت بي الليالي تحت كوكبه

غادرت أحمد نسياً وابن حمدانا

ولقد وجد شوقي المجال لإحياء ذكرى إسماعيل فأخذ يعد مآثره وجليل أعماله:

ذو همة كفؤاد الدهر لو نظرت

إلى بعيد دنا، أو جامح لانا

باني المآثر يعجزن الملوك بنى

بكل ارض لكسرى العلم إيوانا

مد الكنانة أطرافاً ووسعها

ملكاً وأترعها خيلاً وفرسانا

وفجر الماء في جنباتها فسقى

ما كان بين عيون النيل ظمآنا

ونص في ثبج الصحراء رايتها

كالنجم يهدي بأقصى الليل حيرانا

لا تبرح الخيل بالسودان ملبسها

حتى تغازل بالصومال أرسانا

ولا حقيقة من ملك ومن وطن

حتى ترى السيف دون الملك عريانا

وقد أفصح شوقي في هذه القصيدة فذكر أن الذي أحبط جهود هذا العاهل، فلم يجن ثمار عمله، هو إنجلترا أدعى الممالك وشيطان الدول، فأينما كان يتجه يجد منها ما يفسد عليه غايته:

شيطان ملك وفتح قد أتيح له

أدعى الممالك والدولات شيطانا

لم يمض في غارة إلا أصاب لها

كيداً ينازعه الغايات يقظانا

وهكذا ضاعت آمال إسماعيل التي بناها، يريد بناء ملك عريض وطيد:

خيال ملك تلمسنا حقيقته

فأخطأتنا، وكانت حظر (يابانا)

لم نصح من عرس دنياه وموكبها

حتى سحبنا على الأحلام نسيانا

وفي تلك القصيدة تعرض شوقي لتهمة إسراف إسماعيل، ودافع عنه بأنه إنما أسرف في سبيل بناء الملك والنهضة والإصلاح.

وبعد فهذه صورة إسماعيل في شعر شوقي الذي كان يرى فيه - فضلاً عن ذلك كله - خالق نهضة الفكر في مصر والشرق وبهذا العنوان أهدى إليه الجزء الأول من شوقياته.

أحمد احمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول

ص: 20

‌الرمزية في التفكير الإنساني

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

مهما سما حظ الحيوان من الذكاء، وأياً كانت قدرته على تعديل سلوكه والتصرف والاحتيال إزاء المواقف الجديدة تحقيقاً لأغراضه، يبقى برغم ذلك فرق جوهري هي السر في تربع الإنسان على عرش الكائنات الحية، وسيطرته على الطبيعة بقدر ما يكشف من أسرارها وقوانينها. وسأحاول في هذا المقال أن أشرح هذا الفارق والفروق الأخرى الفرعية. أما الفارق الأصلي هو: أن الذكاء الإنساني ليس ذكاء حسياً فقط بل ذكاء رمزياً أيضاً، فالوظيفة الرمزية في التفكير الإنساني هي الفيصل الحق بين عقل الإنسان وعقل الحيوان، ولذلك ينبغي أن نذكر أن كلمة تفكير لا تطلق على الحيوان إلا تجاوزاً - إنما التفكير الحق هو التفكير الرمزي.

بيان ذلك أن الحيوان يدرك الموجودات المادية إدراكاً حسياً، أي تتطبع صور الأشياء التي يحسها بحواسه على صفحة الذهن. فهو يدرك كائنات مفردة أو جزئية - حسب التعبير المنطقي - ويستعيد صورها في غيبتها، ويتعرف عليها إن رآها بعد ذلك. الكلب مثلاً: يرى صاحبه فيدركه إدراكاً حسياً، ويرى غريباً فلا ينقطع عن النباح مما يدل على أنه أدرك الغريب، وعلى أن يستطيع التمييز الحسي بين شيئين كما استطاع التمييز حسياً بين صاحبه وبين الغريب. وإذا تغيب صاحبه ردحاً من الزمن وعاد بعده إلى بيته، اندفع نحوه وقد بدت عليه علامات الارتياح التي تنم عن وجود القدرة العقلية الموجودة لدى الإنسان كالإدراك الحسي وترابط الصور، والتمييز والتخيل والتعرف والتذكر، بل إن بعض الحيوانات حتى العصافير تتحرك حركات استدل منها بعض علماء النفس الحيواني على وجود الأحلام لديها. بيد أن هذه العمليات جميعاً لا تتجاوز المستوى الحسي بأي حال، فما يكون في ذهن الحيوان إذ يدرك أن يتخيل أو يحلم ليس إلا صورة أو مجموعة من الصور الحسية لأشياء جزئية مشخصة، تتولى على صفحة الذهن، متداخلة متشابكة متفاعلة، كما تتوالى صور الفلم على الشاشة البيضاء.

إن المادة التي يعالجها عقل الحيوان هي صور الموجودات الجزئية الموجودة في زمان معين ومكان بالذات، والمتصفة بالصفات الحسية كاللون والطعم والرائحة والشكل والحركة

ص: 22

والصوت والملمس، وليس بمقدور الحيوان - أيا كان ذكاؤه - أن يسمو إلى إدراك المعاني الكلية التي يستخلصها الإنسان من مدركاته الحسية. فالإنسان لا يقف عند حد إدراك الأفراد إدراكاً حسياً وتذكرها وتخيلها، ولكن يدرك أيضاً ما تشترك فيه من صفات ويسقط أوجه الخلاف، ويجرد بذلك المعنى العام الذي يدل عليها جميعاً. يدرك عمراً وزيداً وفلاناً وفلانا من الناس، ويتغاضى عن الصفات التي يختلفون فيها من طول وشكل ودين وأخلاق، ويدرك فوق ذلك أنهم جميعاً - بصرف النظر عن حالاتهم الخاصة - يشتركون في صفة الإنسانية. لا يدرك الكلب والقط والعصفور فقط، بل ينتزع من أفراد كل نوع من هذه الأنواع معنى عقلياً - لا حسياً - هو معنى الحيوانية الذي ينطبق على أفراد الحيوان جميعاً بنفس الدرجة. يدرك الإنسان تصرفاً آخر ويحكم عليه بأنه شرير، فهو يدرك إذن معنى الخير ومعنى الشر إطلاقاً، أي بغض النظر عن الفاعل وظروف الفعل. يدرك الإنسانية والحيوانية، والخير والشر، واللذة والألم، والموت والحياة، والحرارة والبرودة، والسعادة والشقاء، دون نظر للأمثلة الجزئية التي تدل عليها هذه المعاني، ومن هنا كانت العملية العقلية التي تتغاضى عن الجزئيات بصفاتها المحسة التي تستخلص المعنى العام الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تدعى عملية التجريد.

وظيفة التجريد تزود الإنسان بالمعاني التي ترمز إلى ملايين المدركات الحسية، فتوفر عليه مجهوداً جسمياً أكبر. لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يتجاوز عقله المستوى الحسي إلى المستوى العقلي المطلق من قيود الزمان والمكان، وكان اقدر الحيوانات على التصرف والتكيف للظروف، فهو لا يحتاج إذ يفكر إلى تمثل صور الموجودات التي يفكر فيها، بل يكفي أن يستحضر معنى واحداً كالإنسانية يقوم مقام الملايين من الأفراد الجزئية المحسة. الحيوان يتعامل بالمواد المحسة، والإنسان قد يدع الموقف الحسي جانباً، ويرجع إلى عقله متعاملاً بالرموز التي تمثل عناصر الموقف. فهو إذ يريد أن يشيد بناء ضخماً، لا يستحضر المواد الأولية من حجارة وأخشاب وحديد وأسمنت ثم يعمل فكره في هذا الخليط مجرباً بانياً ثم هادماً ليصلح ما فسد ويقوم ما انحرف، ولكنه يتناول القلم والقرطاس ويسطر المربعات والمثلثات والدوائر وغير ذلك من الرموز الهندسية والمعادلات الجبرية والحيل الميكانيكية حتى يتم التصميم. وما التصميم إلا مشروع عقلي صرف، ثم نتيجة

ص: 23

التأليف بين رموز عدة، فهو بدوره رمز يمكن تنفيذه في الواقع في أي وقت وفي أي مكان وبأي نوع من المواد. ثم يشرع الإنسان بعد ذلك في تنفيذ التصميم بتشييد بناء هو حالة مفردة جزئية من حالات عدة في حيز الإمكان.

يتفرع عن القدرة الرمزية إذن قدرة إنسانية فريدة هي الاختراع الذي تخطى إن اعتبرناه مستنداً إلى الذكاء العملي اليدوي وحده، وهي السر كذلك في القوة الفكرية العظيمة والإنتاج الإنساني الصميم، أعني به (اللغة) فاللغة مجموعة من الرموز يحملها ما أدرك من صفات وما أحس من مشاعر وما يبغي من آمال، وينقلها إلى غيره عن طريق الإشارة أو الإيماءة أو اللفظ، فيكفي أن أتفوه بلفظ إنسان حتى تبرز في ذهنك الصفات التي ينطوي عليها معنى الإنسانية الذي يرمز إلى جميع أفراد الإنسان، وتتابع على صفحته صور حسية عدة، مختلطة مبهمة، مثيرة مجموعة من الذكريات والأخيلة والأحاسيس لا حصر لها.

طالما ردد الفلاسفة (إن الإنسان حيوان ناطق)، ورددنا نحن قولهم هذا دون تدبر لحكمة اختيارهم لفظ النطق للدلالة على التفكير. وبعد ما أسلفنا تبيين العلاقة الوثيقة بين اللغة وبين الرموز، بين اللفظ وبين الفكرة؛ فاللغة نتاج القدرة الرمزية، واللفظ المنطوق به حامل الفكرة المعقولة موشاة بخليط من المشاعر النفسية التي لا تنفصل بحال عن مجرى التفكير، ويتبين صدق الفلاسفة إذ جعلوا النطق - أي التفكير الرمزي - فيصلاً بين الإنسان وسائر الحيوان، يتبين صدقهم لسببين:

الأول: أنه رفع الإنسان فوق الزمن وحرره من قيود المكان وأكسبه قدرة عقلية قائلة لم تكن لتتيسر له أو اقتصر على التعامل بالجزئيات، وقدرة عملية ممتازة تتضح أكثر ما تتضح في المخترعات والمنتجات الصناعية والفنية المختلفة.

والثاني: أنه شكل حياة الإنسان الاجتماعية تشكيلاً راقياً؛ ذلك أن اللغة يسرت اتصال الناس بعضهم ببعض اتصالاً فكرياً وعاطفياً في آن واحد، فهي أداة التعبير عما يدور في الذهن من معان، ووسيلة الربط بين القلوب بما تنقل من مشاعر.

تؤدى اللغة كل ذلك بأيسر وسيلة وأروعها، وهي لا تربط بين فردين في صعيد واحد فقط، بل تصل بين أفراد وأقوام تفرقوا شيعاً في شعاب الأرض قاصيها ودانيها؛ ولا تربطنا بالأحياء فقط بل بالسلف وفد واراه التراب، وطواه التاريخ في عصوره السحيقة. ألفت

ص: 24

اللغة إذن بين القاصي والداني، وبين الأحياء والأموات، وبين الصغار والكبار، وبين المتمدنين والبدائيين. وتيسر بفضلها خزن التجارب والمعارف نقوشاً على جدران المعابد ورموزاً في بطون الكتب سجلاً خالداً يغني عن تجشم الصعاب التي تجشمها غيرنا، ويوفر علينا جهداً هو حقيق أن يبذل في تحصيل معارف جديدة وكسب تجارب مفيدة، نضيف إلى تراث الإنسان ذخائر جديدة. ولما كانت اللغة بمثابة النافذة التي تطل منها على نفوس البشر وعقولهم كانت بحق أداة الوحدة الاجتماعية أو عامل التكامل الاجتماعي - على حد تعبير مدرسة علم النفس التكاملي - عامل التأليف بين عقول البشر وقلوبهم وأذواقهم حتى قال بعض المفكرين إنه إذا كان للأفراد متفرقين عقول خاصة، فلهم مجتمعين عقل عام يسمونه (العقل الجمعي) الذي يتولد عن اجتماع عقول الأفراد ويزيد عن مجموعها. فالأفراد مجتمعين يكتسبون كياناً مستقلاً عن كيان الأفراد، والمجتمعات منطق خاص يعلو على منطق الأفراد، وإرادة تفرض نفسها على إرادة الأفراد الجزئية، ونفوذاً يكسر من شوكتهم.

وغير خاف أن التكامل الاجتماعي، أو متانة البناء الاجتماعي ميزة حظى بها الإنسان - بفضل الوظيفة الرمزية - بينما الحيوان لا يزال في مرتبة دنيا من حيث الترقي الاجتماعي. ألا صدق الفلاسفة الذين فصلوا بين الإنسان والحيوان بوصفهم الإنسان بالحيوانية والمنطق.

عبد المنعم المليجي

مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية

ص: 25

‌أبو خليل القباني

باعث نهضتنا الفنية

وتقويض أركان مسرحه بدمشق

للأستاذ حسني كنعان

(تابع)

نقل الوالي (صبحي باشا) الذي كان يعطف على القباني ويشجعه في عمله الفني والترفيه عنه وتحسين مسرحه، وأقيم مقامه حمدي باشا في دمشق، ثم نقل هذا الباشا وأقيم مقامه غيره، وما من وال أتى دمشق إلا كان مناصراً ومشجعاً وآخذاً بيد هذا القباني.

وكان معجباً بعظيم فنه، ولكن الولاة هنا كانوا متفاوتين ومتباينين في التشجيع، فالبعض منهم كان يشجعه لنصرة الفن ونهضة البلاد وتغذية العقول وتنويرها، والبعض كان يشجعه لمرام وغايات سياسية القصد منها إشغال الشعب ولهوه وصرفه عن النظر للمعايب وكشف العورات، إلى أن آل الأمر في ولاية دمشق إلى الوالي (مدحت باشا) ذلك الداهية التركي المعروف صاحب حادثة الطائف وصاحب المواقف العظيمة في المناداة بالحرية والعدالة والمساواة.

والغالب على الظن أنه أقصى عن دار الخلافة إقصاء وأبعد إلى دمشق خشية استشراء حركته التحريرية وقتئذ.

وخنق في الطائف بتحريض الحاكم بأمره جبار بني عثمان. . .

وكان هذا الوالي من كبار ساسة الأتراك وعظماء رجالاتهم، وقد مكث في دمشق أربع سنوات على التحقيق عمل فيها من الإصلاح والتشييد والبناء ما خلد له في هذه الديار أعظم الذكر، وهو الذي خط (سوق مدحت باشا) جعل بدايته من باب الجابية ونهايته في أول حي الخراب الموصل إلى باب توما وحي اليهود، وإلى هذا فقد أصلح المساجد وعبد الطرقات ووسع الشوارع وأكثر من فتح المدارس، فازدهرت دمشق في زمانه أيما ازدهار، فأحبه أهلها وعرفوا فضله وما فتئوا حتى الآن يذكرونه بكل خير ومكرمة، ويتحدثون عن إصلاحاته وأعماله، ولا تزال السوق التي أقامها هنا تكنى باسمه إلى هذا اليوم وهي من

ص: 26

أكبر أسواقنا التجارية، وتضارع بشهرتها سوق الحميدية.

رأى هذا الداهية المجرب أهل دمشق غارقين في ليالي القباني وحفلاته فوجدها فرصة سانحة للإصلاح والعمران، وأراد أن يزيدهم مما هم فيه من لهو ومتعة، فأدنى القباني من مجالسه، وصار يتردد على مسرحه وينشطه كما كان يفعل سلفه (صبحي باشا) وكان يجلسه في مجالسه الخاصة بجانبه ويغدق عليه المنح والأعطيات حتى غدا لديه من أقرب المقربين يستشيره في أمور البلد ويركن له ويعول عليه، لأنه رأى فيه صفات الفنان المخلص لفنه المولع بعمله، وقد لقبه بلقب (كوميدي) الشرق. . .

لم يطل بقاء مدحت باشا في دمشق كما طال أمد سلفه، ولكنه في خلال هذه المدة الوجيزة التي وجد فيها خلف من الآثار العمرانية والأعمال والإصلاحية ما يعجز عن الإتيان يمثلها من أقاموا في دمشق السنين الطوال من الولاة والحاكمين، وفي سرحة من سرحات ذلك الفلم المدنف نقل مدحت باشا من دمشق، وأقيم مقامه (الوالي فاضل باشا).

وكان هذا الوالي ضعيفاً خائر العزائم مفلك الأعصاب يفزع من خياله، فاغتنم خصوم القباني فرصة ضعف هذا الحاكم، وأخذوا يدسون عليه، ويناوئونه في عمله حسداً ولؤماً وغيرة فوجدت وشاياتهم وتخرصاتهم عنده آذاناً صافية، وقلباً واعياً.

وكانوا من الأشرار الذين تآكلت أكبادهم من السل حسداً وخسة ودناءة.

فبدا القباني أن يترضى هذه الفئة الخطوة بالمال والرشوة وبإعطائهم بطاقات دائمية يدخلون بها المسرح من غير أجرة إسكاناً لهم وإخراصاً لأفواههم، فوجدوا بهذا الصنيع باباً للكسب، جرأهم على طلب المزيد منه، وجرأ غيرهم على اقتفاء آثارهم، وبعد أن كان القباني ينفق ثلاثة أرباع دخله على المسرح وترقيته وجلب الناقص إليه غداً ينفق هذا الفائض من الدخل على إسكات الخراصين الهمازين المفسدين، فطمع فيه الناس وهان على خصومه أمره، فأفسدت عليه هذه البادرة عمله، ولم تقتصر هذه الرشوات على تلك الفئة من أنباء البلاد والزكونية والقبضايات أمثال (أبو قاعود، وأبو زطام، وأبو اصطيف) بله تعدتهم إلى الشيوخ الانتهازيين المرتزقين الذين لا يراعون إلا ولا ذمة، فصاروا إذا ما بدا منه قصور في هذا الباب أثاروا الدهماء عليه من سواد الأمة وسوقتها باسم الدين، وقديماً كان وثر الدين في مثل هذه المواقف حساساً يستولي به الخاصة على العامة.

ص: 27

أما في هذه الأيام فقد قامت الوطنية مقام الدين في مثل هذه الأيام فقد قامت الوطنية مقام الدين في مثل هذه الحالات وتضاءل تأثير ولذا قال أحدهم في هذا المعنى:

أحبولة الدين راكت من تقادمها

فاعتاض عنها الورى أحبولة الوطن

وكان الوالي الباشا منهمكاً في تثبيت مركزه وإشغال أهل الشام عنه بغيره، فراق له هذا النزاع القائم في الشام ما بين جماعة القباني ومريديه وما بين خصومه وحساده، فأضرم النار وأذكاها ليلهيهم عنه على قاعدة فرق تسد، فانقسم الناس في هذا السبيل إلى قسمين، قسم بجانب القباني يناصره ويسانده، وهو الطبقة الراقية المثقفة في البلاد، وقسم يناهضه ويعاكسه وهي طبقة الرعاع والجامدين والرجعيين. فاشتد الأمر على القباني وعظم الكرب وحار في أمره.

وكانت المهاترات والتراشق بالحجارة والشتائم توجه إليه وإلى أنصاره كلما أبصره خصومه صبحاُ ومساء.

وكانت كثيراً ما تقع الواقعة ما بين أهل باب السريحة مسقط رأسه وباب الجابية التي نشأ فيها وترعرع، وما بين حي العمارة والقيصرية مواطن خصومه ومنافسيه، فيقتلون من أجله بالحجارة والمدى والخناجر، وتتقلب ساحات هذه الأحياء إلى ساحات قتال تنذر بأفدح العواقب وأسوأ الخواتم. . .

ولقد خرجت هذه الخصومات عن كونها داخلية صرفة، فانتقلت أخبارها إلى الخارج.

ولما رأى المنافسون أن لا قدرة لهم على تقويض أركان مسرح القباني، ودك معالمه ومنع صاحبه من مزاولة العمل نظراً لدفاع الرأي العام الواعي المثقف عنه ألفوا وفداً وعلى رأسه ابن الغبرة الشيخ سعيد، وكان شيخاً متحذلقاً ثرثاراً وهو أشد خصومه عليه قسوة ونقمة وكيداً وحسداً.

ركب هذا الوفد المتظلم المستعدي البحر ووجهته دار الخلافة العثمانية (استنبول) عاصمة الدولة، ولما وصل هذا الوفد إلى دار الخلافة مكث فيها مدة وهو يحتال للوصول إلى مقر السلطان دون جدوى، لأن الوصول إلى (عربسة) الأسد وقتئذ أهون من الوصول إلى مقر عبد الحميد نظراً لكثرة الاحتياطات والرقباء والعيون والأرصاد المنثبة حوله. . .

ولما يئس الوفد من مقابلة الداهية الجبار هم بالعودة من حيث أتى، بيد أن أعصاب رئيسه

ص: 28

السيد الغبرة الفولاذية لم تطاوعه على العودة إلى الشام دون أن ينال من صاحبه ويلحق به الأضرار التي ينتظرها له.

وبينما هو يفكر في أمره إذا به يسمع من أحد أطراف الحاشية التابعة (لبلديز) أن السلطان سيصلي صلاة العيد في أيا صوفيا، ففرح هذا المنافس الماكر فرحاً شديداً لهذا النبأ، وأزمع أن يرفع إليه شكواه وهو في طريقه إلى المسجد مهما كلفه الأمر، وقد أعد لهذا الأمر عدته وهيأ له أسبابه.

وبينما كان موكب المليك ماراً في عربته الفخمة التي يجرها الخيول المطهمة الرافلة في أبهى وأجمل أحلاس الدمسق والحرير والأطاس، وفي أعناقها القلائد الذهبية والفضية مدلاة تمشي بنعالها الذهبية مشية الطاووس زهواً وتيهاً بما تحمله، إذا بصوت يدوي كالرعد مرجحناً من أعلى شرفة مطلة على الموكب يجأر صاحب الصوت بقوله:

يا مليك الزمان وصاحب العرش والصولجان، يا خادم الحرمين الشريفين وإمام القبلتين، يا أمير المؤمنين وخليفة سيد المرسلين إن الشام التي أحبتك وذابت أكبادها تحناناً إلى ظليل عرشك أوفدت هذا الوفد إليك تستعديك على عدوك وعدو الله هذا القباني الأفاق المستعبد الذي أحدث خروقاً في الدين بترقيصه الفتيان المرد على المسارح وتهريجه وتمثيله مما لم تطق الشام على مثله صبراً، يحدث في عصر أنت فيه الإمام الأوحد والركن المشيد، فأنقذنا يا رعاك الله من هذا البلاء المحتم، وإذا لم تنقذنا منه لا يعبد الله في أرض الشام بعد هذا اليوم أبداً.

ولما ترجمت كلمة هذا المتحذلق المنافق إلى المليك بالحرف الواحد خشي سوء العاقبة وأصدر إرادته السنية بمنع القباني من العمل وإغلاق مسرحه، فحملها هذا الغبرة الذي غير على القباني ونكد صفو عيشه وعاد بها إلى دمشق يزف لأصحابه البشرى.

(دمشق)

(يتبع)

حسني كنعان

ص: 29

‌الشعر في السودان

للأستاذ علي العماري

- 5 -

على الرغم من وجود عدد غير قليل من الشعراء في السودان، فإن منزلة الشعر غير مرموقة، ورايته غير مرفوعة، وما زال كثير من الناس - حتى بعض المتعلمين - ينظرون إلى الشعر نظرهم إلى شيء ليس بذي بال، وقد كان الظن غير ذلك، فإن علماء السودان الأعلام قد احسنوا إحساناً محموداً حين نزلوا إلى ميدان الشعر، وهم أهل التقوى، وأهل الورع، فقالوه، وتناشدوه، ونشروه على الناس. وحسبنا أن نعلم أن من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي القاسم، والشيخ الضرير، والشيخ البنا الكبير، قد قالوا شعراً في النسيب، ومن هذا النسيب نسيب رقيق عذب، ربما كان يظن الجاهلون أنه مما لا يليق بمكانة العلماء. ولقد سرني أن رأيت عالماً فاضلاً هو شيخ علماء السودان الأسبق الشيخ أبو القاسم هاشم يقول نسيباً مستقلاً، على قلة استقلال هذا الغرض في شعر العلماء.

ولقد أحسن الأستاذ الفاضل سعد ميخائيل واضع كتاب شعراء السودان حين قال عن هذا العالم الجليل (ترى صورته وما عليه من برد الجلال والوقار فتظنه فقيهاً سيسمعك الشعر بروح الفقهاء، بينما هو يحمل بين جنبيه مع التقوى والنزاهة قلباً رقيق الحاشية) نعم إن أكثر شعره في المدائح النبوية، ولكن تشبيبه لا يصدر إلا عن نفس ذات أريحية وهزة. والحق أن التزمت ليس من صفات العلماء الفاقهين لحقيقة العلم، وإنما هو حلة أنصاف العلماء. قال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة، وكان من أعقل من رأيت:

يأيها السائل عن منزلي

نزلت في الخان على نفسي

يعدو على الخبز من خابز

لا يقبل الرهن ولا ينسي

آكل من كيسي ومن كسرتي

حتى لقد أوجعني ضرسي

فقال: أكتب لي هذه الأبيات، فقلت أصلحك الله، هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروي مثل هذه الأحداث، فقال: أكتبها، فالأشراف تعجبهم الملح. هكذا. . . الأشراف تعجبهم الملح، ومن تزمت ومن تزمت فإنما يتزمت على نفسه.

وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله

ص: 30

واليوم الآخر فلا.

وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن قوماً من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر! فقال: لقد نسكوا أعجمياً! وأنا فقد أعجبني أن أرى في علماء السودان من يخرج عن الأغراض الجافة المتزمتة إلى أغراض أخرى مقبولة طيبة، قرأت للشيخ أبي القاسم قوله:

سلاها فهل قلبي سلاها وهل جرى

حديث سواها في فمي ولساني

ألا إنني قد ضقت ذرعاً وشفني

صدود الذي أحببته فجفاني

وقوله:

ما على عشاقها من حرج

إن حب الحسن في الطبع كمين

وعدتني وصلها فازداد ما

بي من الشوق إليها والحنين

إلى أشعار أخرى في وصف المحبوبة، والشوق إليها، والحديث عنها، والحنين إلى وصلها والتمتع بها.

وقديماً مرت سكينة بنت الحسين على عروة بن أذينة - وكان على زهده وورعه وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره - فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق وأنت تقول:

قالت وأبثثتها وجدي فبحث به

قد كنت عندي محب الستر فاستتر

ألست تبصر من حولي فقلت لها

غطي هواك وما ألقى على بصري

والله ما خرج هذا من قلب سليم قط. . . فليكن. أليس ابن قتيبة يقول، وهو يتحدث عن الشاعر العربي وابتدائه بالنسيب ليميل نحو القلوب، يعلل ذلك فيقول: لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام).

ولكن، هل يمكن أن نعتبر النسيب فيشعر المدرسة القديمة التي نتحدث عنها، نسيباً معبراً عما في النفوس، حاكياً عواطفها وأحوال الوجد والصبابة؟

وقد سبق أن أجبت عن مثل هذا السؤال، فقلت: إن هذا النسيب نسيب تقليدي أكثر منه معبراً عن واقع الحياة، ذلك أن الشعراء في ذلك العصر حبسوا أنفسهم في الشعر القديم، وأطلوا على الحياة من نوافذه، فكانوا صورة منه لا من حياتهم، وقلدوه في الغرض والطريقة، وإن كان البون بعيداً في الديباجة والمعاني. ونحن نضع بين يدي القارئ صورة

ص: 31

للنسيب تكاد تكون عامة: ليس من البشر من تجافى الهوى قلبه، فإن الهوى كرم في الطبع، يمثله اللفظ الرقيق، والأخلاق الغر، وهو الحياة، والقلب من دونه بلقع من البلاقع لا ماء فيه ولا شجر، أو هو سرحة جرداء لا ظل ولا ثمر، وأما العاذل فهو غليظ القلب، جافي الطبع، والحبيب. . الحبيب كل المحاسن حارت في محاسنه، فما القمر، وما الكثيب، وما غصن البان؟

وهو مهفهف القد، ضامر الخصر، يكاد من ثقل الأرداف ينبتر، ريقه عذب، وثغره مؤثر، عابث بصبه، حانث في وعده، مسدود غدائره، يلج محاجره، دعج نواظره، في طبعه خفر، وهو يصبي الحليم، ويشفي السقيم، وهي الظبي جيداً ومقلة، وخدها الورد، وعيناها السحر.

وهكذا يدور النسيب كله في هذه الدائرة، ولا يخرج عنها إلا القليل. ولكل شاعر حظ منها قل او كثر، وهذه أوصاف قد ألفناها كلها في الشعر القديم، ولئن كنا نقرأها هناك مسوقة في صور بديعة فيها الصنعة والروعة، فإنا نقرأها هنا - في الأعم الأغلب - ساذجة غفلا.

قلت إن النسيب تبتدأ به القصائد، وقل من الشعراء خرج عن هذا التقليد، وأكثر الشعراء من المشايخ وهؤلاء قل أن يقولوا قولاً غزلاً مستقلاً، ومن عجب أن أكثر تخلصهم إلى أغراضهم يكون بإنكار الحب. هذا شاعر يدعي الهوى، بل يقول إنه لا حياة له بدونه:

فتركتني ما أستفيق من الهوى

ونصيبتي للعاشقين مثالا

وهذا الذي لا يستفيق من الهوى، والذي كان الغانيات أذنه، ويمتع بهن سمعه وبصره، هو الذي يقول:

أماطت لثاماً دونه الشمس زينب

ولاح لنا منها بنان مخضب

وحيت فأحيتنا ومال بعطفنا

حديث من الذي أحلى وأعذب

فأصبحت مشغوفاً وملت إلى الصبا

على أن رأسي يا ابنة القوم أشيب

لعمرك ما هاجت غرامي خريدة

ولا قادني نحو الغواية مطلب

ولكن وجداً بالفضيلة هاجني

فجاء بأبياتي هوى ونصيب

عشقت التي تدعى الفضيلة إنما

يقال لها في مذهب الشعر (زينب)

نعم. وقد يقال لها ليلى، أو مهدد، أو دعد، أو هند، أو ما شاءوا من هذه الأسماء التي هي من الكتابات في مذهب الشعر، ولا وجود لها إلا في ثنايا السطور.

ص: 32

وقد يجيء الشاعر بما لا يصدقه الواقع، فيدلنا بذلك على أن للصناعة في هذا الشعر مكاناً.

نحن نعرف أن المرأة السودانية كهى في صعيد مصر، محجبة متمتعة، دون الوصول إليها أهوال وأهوال، ولكني مع إعجابي بهذه الأبيات وإحساسي بحرارة الحب فيها، أرى أن صاحبها نهج في غير نهجه، وسلك غير الطريق:

أستغفر الله لي شوق يجدده

ذكر الصبا والمغاني أي تجديد

وتلك فضلة كأس ما دممت له

طعماً، على كبر برح وتأويد

أرنو لسالف أيام لهوت بها

مع الأحبة حيناً مورقاً عودي

إن زرت حياً أطافت بي ولائده

يفدينني، فعل مودود بمودود

وكم برزن إلى لقياي في مرح

وكم ثنين إلى نجواي من جيد

لو استطعن وهن السافحات دمي

رشفتني رشف معسول العناقيد

يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمى

ويا لذاذة أيامي بهم عودي

ولهذا الشاعر المبدع الشيخ محمد سعيد العباسي غزل رقيق، بل كل شعره رائع، يقول:

يا بنت عشرين والأيام مقبلة

ماذا تريدين من موءود خمسين

قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى

أطيعه، وحديث ذو أفانين

ولا مني فيك والأشجان زائدة

قوم، وأحرى بهم ألا يلوموني

أزمان أمرح في برد الشباب على

مسارح اللهو بين الخرد العين

والعود أخضر، والأيام مشرقة

وحالة الأنس تغري بي وتغريني

أفديه فاتر ألحاظ وقل له

أفديه، حين سعى نحوي يضربني

يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً

يا أنت، يا ذا، وعمداً لا يسميني

أنشأت أسمعه الشكوى ويسمعني

أدنيه من كبدي الحرى ويدنيني

وفي هذا الشعر تسجيل لتقليد عند إخواننا السودانيين، ذلك أن المرأة - مهما طال عهدها مع زوجها - فإنها لا تدعوه باسمه، فذلك حيث يقول (وعمدا لا يسميني). هذا ما أعرفه عن الزوجة، فهل تستحي العاشقة كذلك أن تدعو صاحبها باسمه؟ العلم عند الحب!!

ومن الشعراء من ينساق مع عاطفته، فيشبب تشبيباً مكشوفاً ويذكر ما نال من المتع مع صاحبته ولكنه يتلفت حواليه فيضطر إلى أن يذر الرماد في العيون، فيؤكد أنه لم يأت ما

ص: 33

يسخط المروءة والدين:

كلما استعذب الدعابة مني

لج في عتبه ليعجم عودي

وإذا اهتاج من حرارة قبلا

تي، أوما إلي بالتهديد

فإذا ما اندفعت ألثمه أس

لم لي ثغره الشهي الورود

يتغاضى عن احتكامي في الخص

ر، ويلتذ عند مس النهود

أليس هذا فعل امرأة صناع في الغزل؟ أليس هو حديث عاشق مدمن؟ ولكنه يسخر من القراء حين يقول:

لا تظنوا بي الظنون فإني

يعلم الله واقف في حدودي

بخ! بخ! قد عرفنا

ك فقف حيث شئت!

ولست في الواقع أقضي على الشعر السوداني بالتقليد في النسيب لأن الشعراء خلت قلوبهم من الحب، لا فإن لكل إنسان من الحب نصيباً، كما يقول ابن قتيبة، وإن حب الحسن لكمين في الطباع كما يقول شيخ علمائهم، ولكن شتان بين إنسان يحب حباً هادئاً رزيناً، لا يوحي بشعر، وبين إنسان يلذعه الحب، وتكوى الصبابة قلبه، فيعبر عن ذلك بشعر تحس وأنت تقرأه بأن فيه رائحة كبد تشوى على جمرة الهوى. وعند أكثر هؤلاء الشعراء لم يلق الحب في أشعارهم شيئاً من حرارة الجوى، أو رقة الوصال.

ومما يلفت النظر أنك لا تكاد تجد في هذه الأشعار وصفاً للغادة السودانية، فكل محبوباتهم يخجل البدر منهن، وقد سرق الورد حمرة خدودهن، وربما وجدنا لبعضهم لجة خفيفة. قرأت للشيخ إبراهيم أبو النور، وهو من علماء المعهد العلمي هذه الأبيات:

تخال الوجه منها بدر تم

وتحسب ثغرها حب الغمام

وقد زادت ملاحتها بشرط

على الخدين خطط بانتظام

محجبة فلم تبرز لشمس

ولم تعرف محطات الترام

والذي استوقفني في هذا الشعر أمور، فإنه ذكر الشرط، وهو ما يصنع في أوجه السودانيات من علامات الجمال، ولكل قبيلة من القبائل أشراط معينة، بحيث يمكن معرفة القبيلة بمجرد النظر في الوجه، وهي عادة لا تزال موجودة في كثير من القبائل. وطريقة صنعها أن يؤتى بموسى، فتخط ثلاثة خطوط مستطيلة في كل خد من خدي الطفل، وهذه

ص: 34

عامة. وبعض القبائل تضيف إليها شرطاً مستعرضاً أو شرطين، مستقيماً أو مائلاً ويعتدون ذلك من علامات الجمال.

وقد حدثني الشيخ أبو النور هذا - وهو عالم واسع الاطلاع - أنه قرأ في تاريخ عبد القادر الجزائري أنه لما ذهب إلى مكة سئل عن هذه الأشراط، أهي موجودة عند العرب، فأجاب بالإيجاب، وذكر على ذلك شاهداً قول شاعرهم:

رأيت لها شرطاً على الخد حوى

جمالاً، وقد زاد الملاحة بالقرط

فقلت أريد اللثم قالت بخفية

فقبلتها ألفاً على ذلك الشرط

ثم قال الشيخ: وتسمى هذه الشروط الشلوخ واللعوط، وهذه الأخيرة من لغة حمير، وأنشد على ذلك قول الشاعر:

وبي حبشية سلبت فؤادي

فلم يمل الفؤاد إلى سواها

كأن لعوطها طرق ثلاث

تسير به في النفوس إلى هواها

وعندي أن هذا الشعر أقرب إلى الصدق، من الشعر الذي يصف المحبوبة بأنها بدر السماء، أو زجاجة خمر:

أما الأمر الثاني الذي لفت نظري في شعر هذا الشيخ فقوله: ولم تعرف محطات الترام. وهل محطات الترام هنا كما هي في كثير من البلدان، ملتقى العشاق، ومكان لصيد الظباء الحرام.

وكدت أوقن بأن هذا شعر شاب عصري، لولا أن الشيخ دلني بباقي القصيدة على أنه من العلماء، وحسبك دليلاً على هذا قوله:

فمني بالزكاة على فقير

ومسكين كثيب مستهام

ولم ينس الشعراء النؤى والأحجار والأطلال، لتتم صورة التقليد للشعر العربي، فهذا شاعر يعيش في عاصمة البلاد يقول:

أما وقد شطت بمهدد دارها

ولقيت بعد فراقها الأهوالا

فتعال للأطلال نندب ماضياً

ولى وأياماً مررن عجالا

(وبعد) فإني على أي حال معجب بهذا النسيب سواء كان صدى لنفس مكلومة، أو كان تقليداً للشعر القديم؛ فإنه من حظ الشعر هنا أن يقيض هذا الغزل على ألسنة العلماء، وإنه

ص: 35

لكسب للأدب وللشعر، وللتاريخ.

علي العماري

مبعوث الأزهر في المعهد العلمي بأم درمان

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

بين أديبين

كان الأستاذ توفيق الحكيم قد كتب في أخبار اليوم كلمة بعنوان (الأديب المنقى)، قبل أن يعود الدكتور طه حسين بك من أوربا، أبدى فيها شعوراً رقيقاً نحو الدكتور، لما أذيع من أنه ساخط على بعض العلاقات والشؤون المتصلة به في مصر.

وبعد أن رجع الدكتور طه إلى مصر تحدث إلى الأستاذ بعض من يشتغلون بالإيقاع بين الناس أن الدكتور أول تلك الكلمة تأويلاً شيئاً وأتهم الأستاذ الحكيم بانعدام حسن النية فيما كتب، فلم يخف إلى لقائه وزيارته بعد العودة. . .

وتطوع الأستاذ أنور المعداوي لتصفية الجو بين الأديبين الكبيرين، فأنهى إلى الدكتور طه وساوس الحكيم، فقال الدكتور: الأمر على عكس ذلك فأنا قد قرأت الكلمة وسررت بها وبالطبع لم أجد فيها ما يحمل على سوء الظن، وإن هذا الذي نمى إلى الأستاذ توفيق هو من الدس الدنيء الذي نشكو من انتشار أصحابه في هذه الأيام. وقد كنت في إسبانيا قبل أن تصل إلي الكلمة، وألقيت في جامعة مدريد محاضرة عن الأدب المصري الحديث، كان لتوفيق الحكيم فيها أكبر من نصيب، فقد أظهرت فضله وسبقه في التأليف للمسرح وشغل ذلك نحو نصف المحاضرة ثم ابتسم الدكتور طه ابتسامته اللطيفة وقال: ألا ترى أن ما بلغ توفيق الحكيم كان يدعوه إلى أن يصحح الموقف ويعمل على إزالة ما علق به من غبار؟

والواقع أن مجالس أدبائنا عامرة بالإخلاص الذين يتقربون إليهم بأمثال تلك الدسائس، وقد يحمل بعضهم على ذلك رغبته في أن يظهر بمظهر المتصل المطلع الذي يعرف ما قال فلان والذي هو من الشأن بحيث يتحدث إليه فلان عن فلان!

ومما يدعو إلى الأسف أن أدبائنا يأخذون بهذه الترهات ويتأثرون بها في علاقاتهم. ومن العجب أنهم كفوا عن الخصومات الأدبية، ولكنهم لم يبرؤوا من الصغائر الشخصية. من أن الأولى هي الأجدر أن تكون من دون الثانية.

وتدل القصة السابقة على أنه من الممكن أن يقضوا على القيل والقال بالمواجهة والتواصل، ويتبينوا حقيقة ما يقال لهم. وهم أولى الناس بذلك، لأنهم الحصفاء الذين يمحصون الكلام ويعرفون زيفه من صحيحه.

ص: 37

مؤلف (نحو المجد):

طغيان رجال المسرح والسينما على المؤلفين، داء مفتش يشكو منه الجميع، فكثير من الأفلام لا يعرف الناس لها مؤلفين، كاللقطاء حرموا النسبة إلى الآباء، وكما يتبنى الراغب في الولد لقيطاً يغلب المخرج على الفلم، فيسنده إلى إخراجه ويسكت عن تأليفه. والأصل في ذلك - على ما يبدو لي - ذلك النوع من الإنتاج الذي يلفقه المخرج من الروايات الأجنبية، وتطور ذلك إلى استضعاف المؤلف وإرضائه ببعض النقود، وهذا النوع الضعيف التافه من المؤلفين متوافر في السوق مع الأسف، وقد استراح إليه المخرجون والممثلون ليتسموا بميسم الأدب والثقافة إلى جانب الإخراج والتمثيل، فيشيعون (مركب النقص) كيلا يقال إنهم غير مثقفين. . .

ولكن الأمر تطور بعد ذلك فقد دخل ميدان التأليف نفر من ذوي الكفاية والكرامة، ولا يزال أولئك المخرجون على ما عودوا، متمسكين بحق الانتحال، مدفوعين بدافع القصور الذاتي. . . وهنا بدأ الصراع، ورأى الناس أخيراً أمثلة منه، وتجمع بعض هؤلاء المؤلفين وتحدث بعضهم إلى بعض، قالوا: كيف يغمط حقنا ونحن أصحاب الخلق والإبداع في هذه الفنون؟ وكيف يقدم علينا كل من هب على الشاشة ودب على المسرح، وعملنا هو القلب ولا نخرج أعمالهم عن الإطار والتلوين؟

وآخر مثل من ذلك الصراع ما جرى في فلم (نحو المجد) الذي عرض يوم الاثنين الماضي في يوم الجامعة الخيري، وبدار سينما رويال تحت الرعاية الملكية السامية وبرياسة معالي وزير المعارف. مؤلف القصة وكاتب الحوار هو الأستاذ عبد الحميد يونس المدرس بكلية الآداب، ولكن ظهرت الإعلانات عن الفلم ليس فيه اسم المؤلف، وليس هذا فحسب، بل نجد أنفسنا أمام نوع جديد في ذلك المضمار فالمخرج لم يكتف بالاقتصار على إسناد الإخراج إليه، فأضاف جديداً في (الفن) إذ كتب في الإعلانات (تأليف وإخراج الأستاذ حسين صدقي) ومعنى ذلك أنه يدعي التأليف! فراع ذلك مؤلف القصة وكتب إلى المخرج ينبهه إلى هذا التصرف العجيب وبنذره، إن لم يقف سيل الإعلانات، ويغير (أكليشهاتها) أن يتخذ سبيله إلى القضاء.

ومن حيث أن الفلم تحت الرعاية الملكية السامية وبإشراف معالي وزير المعارف، ومن

ص: 38

حيث أن المؤلف مدرس بالجامعة والفلم جامعي يعالج مشاكل طلاب في الجامعة، ومعروض في يوم الجامعة الخيري، فلم يكن من اللائق أن تلابسه هذه المهزلة ويعتدى على حق مؤلفه هذا الاعتداء المنكر.

البكاء الجميل:

سمعت من المذياع في أحد أيام هذا الأسبوع، تمثيلية (الشهداء) وهي تتضمن قصة الخنساء وفجيعتها في أخويها معاوية وصخر، ثم إسلامها واغتباطها باستشهاد أولادها الأربعة في إحدى الحروب الإسلامية. وهي تمثيلية جيدة لست أدري كيف غلطت الإذاعة فقبلتها. . . وليتها تكثر من هذا الغلط. . .

وقد مثلت الخنساء فتاة ذات نطق فصيح وصوت عذب ونبر حلو حتى في البكاء. . . ومما أنشدته من شعر الخنساء هذا البيت:

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

والمعنى الذي قصدته الخنساء مفهوم، فهي ترى بكاءها على أخيها حسناً جميلاً لأنها تستعذبه وتلذه. ولكن الفتاة الممثلة أوحت إلى خاطري معنى آخر، فقد كانت تنشج بصوت لا أثر للحزن فيه لأنها لم تندمج في الدور، وكانت توقع كل بيت وكل كلمة على هذا النشيج المصنوع وهي كما أسلفت ذات صوت عذب حلو، فكان بكاؤها جميلاً في المسامع، لا كجمال بكاء الخنساء.

أو كما قال الدكتور طه حسين في إحدى مقالاته بالأهرام: إن الشاعر يقول البيت أو الأبيات تعبيراً عما في نفسه، ولا يدري ما سيحدثه وما سيثيره بعد ذلك من شتى الخواطر والمشاعر في مختلف النفوس على تعاقب الأزمان والأجيال.

القسم السوداني الإنجليزي:

(أقسم مخلصاً وأعلن صادقاً أنني أؤيد المؤسسات السودانية التي تأسست بمقتضى هذا القانون، وأن أبذل جهدي في كل الأوقات للعمل لمصلحة السودانيين).

هذا هو نص القسم الذي طلب إلى أعضاء الجمعية التشريعية بالسودان أن ينطقوا به. وليس من همي هنا أن أتعرض له، من حيث اعتراض بعض الأعضاء غليه، لأنهم

ص: 39

يرفضون التقيد بقوانين فرضت عليهم، وإنما يؤيدون ويحلفون على القوانين التي يضعونها، ولا من حيث غضب الحاكم العام على هذا الاعتراض.

إنما أريد أن أنبه إلى هذه الصيغة الإنجليزية في القسم. . . فالقسم في العربية يذكر فيه المقسم به فيقال - مثلاً -: أقسم بالله. أما الاكتفاء بفعل القسم فهو من عمل الإنجليز.

وهكذا تستهل الجمعية التشريعية السودانية، استهلالاً إنجليزياً حتى في القسم!

الهمزة الحيرى:

من المسائل التي يهتم بها الآن مجمع فؤاد الأول للغة العربية تيسير الإملاء. وتواصل اللجنة المنوط بها هذا العمل اجتماعاتها. لتفرغ من إعداده، وتقدمه إلى مؤتمر المجمع، بغية الموافقة عليه في هذه الدورة.

وفي أحد اجتماعات لجنة الإدلاء حمل الدكتور أحمد أمين بك على أوضاع الهمزة المختلفة حملة صادقة فقال: كيف تنفرد الهمزة بهذا التقلب فلا تستقر على حال، فترسم مرة على ألف، ومرة على واو، ومرة على ياء، ومرة مفردة. ويلقى الكاتب في تقليبها على هذه الأوضاع المختلفة عناء أي عناء. . . وما هي إلا حرف كسائر الحروف التي لا تتغير بتغير الحركات؟

وأذكر أن الأستاذ رفعت فتح الله المدرس بكلية اللغة العربية كان له بحث في هذا الموضوع نشر منذ سنين بجريدة الأهرام تحت عنوان (الهمزة الحيرى) ويغلب على ظني أنه أقترح فيه أن ترسم الهزة على ألف أو تكتب ألفاً في جميع الأحوال. وكم لهذا الاقتراح - لو نفذ - من أثر في كسب الأوقات والجهود التي تضيع في تعليم وتعلم رسم الهمزة التي احتارت وحيرت الناس معها، فأكثر مشاكل الإملاء من هذه الهمزة.

وما أخال المجمع إلا يرحب بمثل ذلك. فهل يرى الأستاذ رفعت أن يقدم بحثه إلى المجمع؟

من طرف المجالس:

كنا في مجلس أستاذ كبير، إذ أقبل أحد المكثرين من التأليف ومعه مجموعة ذات عدد من مؤلفاته، وقدمها للأستاذ الذي أخذ يلقي على كل منها نظرة، ثم فرغ منها والتفت إلى المؤلف قائلاً: أنت كل هذا؟ يظهر أنك (قاضي).

ص: 40

وتبادل الجالسون ابتسامة خفية ذات معنى لا أدري هل قصده الأستاذ أو جاءت التورية عفواً على لسانه. . .؟

الإذاعة بين البلاد العربية:

تضع الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، مشروعاً جديداً يقتضي تعاون محطات الإذاعة في الدول العربية على تعريف البلاد بعضها ببعض. وذلك بأن تختار كل محطة طائفة من المحاضرين تتعاقد معهم ليتحدثوا عن بلادهم في كل نواحي حياتهم: من ثقافية واجتماعية وسياسية. ثم تسجل هذه الأحاديث وتتبادل دور الإذاعة السجلات لإذاعتها فيتم بذلك التعارف بين البلاد العربية على نطاق واسع.

ومما يشمله المشروع أن تسجل كل محطة محبة مختارة من الألوان القومية للفنون في بلادها كالموسيقى والغناء والأزجال وغيرها وتتبادل مسجلاتها أيضاً.

عباس خضر

ص: 41

‌رسالة النقد

المآصر في بلاد الروم والإسلام

تأليف الأستاذ ميخائيل عواد

في مطلع عام 1948، أصدر الأستاذ ميخائيل عواد كتيباً صغير الحجم، طريف الموضوع، سماه:(المآصر في بلاد الروم والإسلام). ذكر في مقدمته: (أن مواده نشرت في ستة أعداد من مجلة المقتطف في سنتي 1944 - 1945م، وأنه رجع إليها بعد ذلك، فزاد فيها وهذب حتى استوى منها هذا الكتاب الجديد).

والأستاذ ميخائيل عواد باحث دقيق، واسع الحيلة، كثير الأناة، جميل الصبر على مشاق البحث، ومتاعب التنقيب، يعمل في هدوء وصمت وأدب، وهو مثل أخيه الأستاذ كوركيس عواد من تلاميذ مدرسة فقيد العربية الأب أنستاس الكرملي، أخذا عنه، وورثا طريقته في البحث والاستقصاء، والعناية الفائقة، والدقة والإتقان في كل ما يكتبان، وقد اخرجا منفردين ومجتمعين آثاراً قيمة، ونشر أبحاثاً دقيقة مما يذكرها لهما قراء العربية بالإعجاب والتقدير.

وكتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) الذي أصدره الأستاذ ميخائيل عواد أخيراً صغير الحجم في نحو تسعين صفحة مع فهارسه الخمسة التي استغرقت عشرين صفحة منه، ولكنه مع صغر حجمه بحث قيم، وموضوع جديد على المكتبة العربية. ويظهر من الاطلاع عليه أنه مجهود شاق، وعمل عظيم في بابه، وحسب القارئ الكريم أن يعلم أن مؤلفه رجع - في إعداده - إلى نحو تسعين مرجعاً قديماً بين مخطوط ومطبوع، وأبحاث ومقالات في المجلات.

وقبل أن نعرض لكتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام)، وتبين مقدار التوفيق الذي بلغه مؤلفه في بحث موضوعه نرى أن نضع بين يدي القارئ الكريم موجزاً في مفهوم (المآصر)، ومعناها في اللغة ومبناها من حيث التصريف، ثم ما يقصد منها عند الإطلاق حتى يكون على بصيرة، ويستطيع الحكم - وهو على بينة من أمره - على مجهود الأستاذ صاحب المآصر، ومقدار حظه من التوفيق.

فالمآصر جمع مأصر، والمأصر بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الصاد، اسم مكان على وزن مفعل بكسر العين من أصر يأصر بمعنى حبس يحبس، فالمأصر على ذلك موضع

ص: 42

الحبس ومكانه.

هذا معنى المأصر في اللغة، ومبناها في التصريف، ويطلق المأصر في كتب الأقدمين ويراد به مكان حبس السفن في البحار والأنهار، أو مكان حبس السابلة في الطرقات لتستوفي منهم العشور والضرائب، وبأسلوب آخر، فالمأصر قديماً مثل موضع استيفاء ضرائب الدولة في نظامنا الحديث، وقد يكون هذا الموضع على ساحل بحر أو شط نهر، وقد يكون على طريق عام.

ولابد لهذه المآصر - حتى تستطيع حبس السفن والسابلة - من وسائل تساعدها على ذلك الحبس والمنع، فهناك الجبال والسواحل التي تمد على مداخل الموانئ في البحار، أو تمد على عرض النهر، وهناك بعض السفن الصغيرة التي يستعان بها على ذلك الحبس والمنع. حتى يمكن استيفاء الضرائب. إلى غير ذلك من الوسائل التي لابد منها في مثل هذه الأعمال.

وهذه الوسائل التي يستعان بها من جبال وسلاسل وسفن تسمى مواصر. والمواصر جمع ماصر. والماصر اسم فاعل من مصر بمعنى حجز ومنع، ففي تاج العروس للزبيدي، في مادة مصر: والمصر بالكسر الحاجز، والحد بين الشيئين كالماصر، وفي التهذيب: والماصر في كلامهم الحبل يلقى في الماء ليمنع السفن عن السير حتى يؤدي صاحبها ما عليه من حق السلطان.

ومما تقدم يتضح جلياً أن المآصر مواضع حبس السفن في البحار أوالأنهار، أو مواضع حبس السابلة في الطرق العامة حتى تستوفى حقوق السلطان، وأن المواصر وسائل ذلك الحبس من حبال وسلاسل وسفن.

ويظهر أن الأستاذ ميخائيل عواد مؤلف كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) اختلط عليه الأمر، فلم يدرك الفرق بين المأصر بالهمزة، والماصر بالألف، وظنها شيئاً واحداً. يدل على ذلك أنه لم يرجع إلى مادة (مصر) في مرجع من المراجع اللغوية التي نقل عنها واعتمد عليها في مادة (أصر)، مع أن كل تلك المراجع تكلمت على (المأصر) في مادة (أصر) وعلى (الماصر) في مادة (مصر). وإلى القارئ نبذة من تصدير المؤلف تؤكد اعتقاده بأن السلاسل والجبال والسفن تسمى المآصر، مع أنها من الوسائل التي من حقها أن

ص: 43

تسمى المواصر. قال: وأهم ما يسترعي الاهتمام في كثير من هاتيك الموانئ وجود سلسلة ضخمة من الحديد تعترض الميناء، فتحده من جهة البحر، رسخ أحد طرفيها في صخرة مرتفعة مشرفة على جانب الميناء، وربط طرفها الآخر بقفل محكم الصنع وضع داخل برج مطل على الميناء من جهته الثانية، ويجلس في البرج المذكور شخص يطلق عليه اسم صاحب القفل بيده الأمر والنهي في خروج السفن من الميناء ودخولها إليه، فيعمل على رفع السلسلة أو على خفضها. وشبيه بهذا ما كان يجري في بعض الأنهار؛ غير أنه كثيراً ما استبدلت السلاسل بالقلوس، والأبراج بالسفن النهرية كما سيجيء تفصيله، ويطلق على هذه كلها (المآصر) وكانت الثغور ذات المآصر تتمتع من جهة البحر بسلام لا يضارعها فيه إلا تلك المدن التي تحيطها الأسوار ويحرسها الحراس، فالمأصر إذن الحصن الحصين لبعض الموانئ، وسدها المنيع تدفع به عنها كل غزو يأتيها من جهة البحر).

وقد جره هذا الاعتقاد باتحاد معنى المأصر والماصر إلى أغلاط كثيرة في ثنايا الكتاب، فإنه قال في ص9: وقد نسب إلى المأصر نفر من الناس. ثم نقل من كتاب الأنساب للسمعاني ترجمة أبي بشر يونس بن حبيب الماصري بعد أن وضع الهمزة فوق ألف الماصر والماصري في تلك الترجمة في نحو عشرة مواضع!.

وصاحب كتاب الأنساب لم يعرض المأصر بالهمزة أبداً، ولم يذكر أحداً منسوباً إليه، وإنما ذكر مادة الماصر بالألف، وذكر أن المنسوب إليه هو يونس بن حبيب الماصري، وأورد ترجمته. ويونس بن حبيب الماصري معروف بهذه النسبة في كل التراجم والأنساب قبل السمعاني وبعده، فلم يقل أحد أنه مأصري منسوب إلى المأصر بالهمزة، بل الكل مجمعون على القول بأنه ماصري منسوب إلى الماصر بالألف. فهذا الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان المعروف بأبي الشيخ المتوفي في سلخ المحرم سنة تسع وستين وثلاثمائة عن خمس وتسعين سنة يذكر غي كتابه طبقات المحدثين بأصبهان يونس بن حبيب على أنه منسوب إلى جده الأعلى قيس الماصر، وترجمة أبي الشيخ ليونس ابن حبيب هي أقدم ترجمة له. ويظهر أن كل من ترجم ليونس بعده أخذ عنه حتى ليغلب على الظن أن نص السمعاني منقول حرفياً عن أبي الشيخ. وابن أبي الشيخ هذا ولد بعد وفاة يونس ابن حبيب بنحو سبعة أعوام، فهو أقرب المؤرخين عهداً من يونس بن حبيب،

ص: 44

وأعرفهم بأخباره وأحواله ونسبته.

وهذا مؤرخ آخر هو أبو نعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ يذكر يونس بن حبيب الماصري في كتابه أخبار أصبهان على أنه منسوب إلى جده الأعلى قيس الماصر، وترجمته ترجمة قريبة جداً من ترجمة أبي الشيخ.

هذا رأي مؤرخين جليلين ممن سبقوا السمعاني، وإلى القارئ بعد ذلك رأي مؤرخينآخرين ممن أتوا بعد السمعاني.

فهذا ابن الأثير يقول في كتابه (اللباب في تهذيب الأنساب): الماصري بفتح الميم وسكون الألف وكسر الصاد وفي آخرها راء، هذه النسبة إلى الماصر، والمشهور بهذه النسبة يونس بن حبيب الخ.

وهذا السيوطي يقول في كتابه (لب اللباب في تحرير الألقاب): للناصري بكسر المهملة وراء. إلى قيس الماصر الخ.

هذا، ومن المعروف أن نص كتاب الألباب للسمعاني الذي نشره مرجليوت مشحون بالأخطاء.

وقد ورد في النص الذي نقله الأستاذ ميخائيل عواد عن الألباب في ص9 بعض الأخطاء في نص الأصل، فلم ينتبه لها الأستاذ، ومر عليها مر الكرام، وتنبه لبعضها وحاول تصحيحها، فزادها فساداً! وتوهم الخطأ في بعض جمل الأصل مع أنها صحيحة فحرفها وأفسد معناها. فمن النوع الأول: في ص9 س14: العجلى المصري. وهو خطأ وصوابه: العجلى الماصري.

وفي ص9 س20: أمام الحجاج مع الفراء. وهو خطأ في الأصل صوابه: أيام الحجاج مع القراء.

ومن النوع الثاني ما صنعه في نص صاحب الأنساب في ص9 س18 الذي يقول فيه: وكان - الحديث عن قيس الماصر جد يونس بن حبيب - أول من مصر الفرات ودجلة. حيث قال: كذا. والصواب: مأصر الفرات ودجلة، وصنع هذا الصنيع نفسه في نص كتاب لب اللباب للسيوطي الذي نقله في ص10 س4، 5

ونص الأصل هنا صحيح لا غبار عليه، وقد ورد كذلك في طبقات المحدثين بأصبهان لأبي

ص: 45

الشيخ، وفي كتاب أخبار أصبهان لأبي اللباب في تحرير الأنساب للسيوطي؛ ومعناه صحيح أيضاً لأن كتب اللغة - كما تقدمت - تذكر المصر، والماصر بمعنى الحاجز، فمعنى مصر الفرات ودجلة خطأ، فأصلحه وجعله: مأصر الفرات ودجلة. فاخترع من عندياته فعلاً لم تذكره كتب اللغة، وليس له معنى صحيح، وأفسد نص الأصل مع أنه صحيح! ومن النوع الثالث ما في ص9 س18، 19، فقد ورد في نص الأصل ما يلي: فهي قليس الماصر. وهي جملة مضطربة يظهر عليها التحريف، فأصلحها الأستاذ ميخائيل إلى: فهي قلس المأصر. ولكن هذا الإصلاح زاد النص تحريفاً جديداً فوق تحريفه. والحديث هنا عن قيس الماصر. وصحة العبارة هي هكذا: وكان أول من مصر الفرات ودجلة، فهو قيس الماصر. فقد ورد في طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ هكذا: وكان أول من مصر الفرات ودجلة، فسمى قيس الماصر، وكذلك وردت هذه الجملة في اللباب في تهذيب الألباب) لأبن الأثير.

وهذا تحريف آخر وقع من المؤلف حرف فيه نص الأصل الصحيح الذي لا يجوز غيره. فقد جاء في نص السمعاني في ترجمة يونس بن حبيب: وهو ابن بنت حبيب بن الزبير الخ. وكذلك هو في طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ، وأخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني، ولكنه تحرف في وكتاب المآصر في بلاد الروم والإسلام ج9 ص15 إلى: وهو ابن أخت حبيب بن الزبير ولم يدركه المؤلف.

ويظهر أن الأستاذ ميخائيل عواد أصبح قوي الإيمان باتحاد معنى المآصر والمواصر، فمع أنه ينقل في ص20 عن كتاب (رسوم دار الخلافة) لهلال الصابي نصاً صريحاً بأن القلوس غير المآصر ذات السلاسل الحديد، والأبراج المنيمة الخ. وهذا صريح في أن الأبراج المنيمة والسلاسل الحديد غير المآصر أقول: مع هذا وذاك، إن الأستاذ ميخائيل عواد يسير في سائر الكتاب على اعتقاد الاتحاد في المعنى بين المآصر والمواصر.

هذا الغلط في الخلط بين المأصر بالهمزة والماصر بالألف عيب كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) البارز الذي يكاد يذهب بكل محاسنه. فإن القارئ لا يستطيع - وهو يقرأ أحد فصول الكتاب - أن يجزم: هل الحديث الذي يقرأه حديث عن المآصر حقاً، أم هو حديث عن المواصر. وإنما جعله الأستاذ المؤلف حديثاً عن المآصر لاعتقاده بأن المآصر

ص: 46

هي المواصر؟. وهذا الشك يرد على كل ما أورده الأستاذ في كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام). ويبدو أن أكثره حديث عن المواصر، وإنما جعله الأستاذ حديثاً عن المآصر. وإن الأستاذ ميخائيل عواد ليحسن صنعاً لو أعاد النظر في كتابه هذا، وأفرد المآصر في بحث خاص، والمواصر في بحث آخر حتى يكون عمله ذا قيمة علمية ويؤتي ثمراته الجنية.

هذه نظرة عامة في كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) أردت بها وجه الحق، والنصح للأستاذ المؤلف. وفي الكتاب بعد ذلك هنات هينات لا يمكن أن يخلو من مثلها كتاب. وأنا عارض بعضها فيما يلي عرضاً سريعاً حتى يتداركها الأستاذ المؤلف عند إعادة النظر في الكتاب:

(1)

بحث المآصر في كتب اللغة وما إليها. كان حقه أن يكون بحثاُ قائماً بذاته، لا أن يجعل ضمن الباب الأول المفقود للمآصر النهرية بالعراق.

(2)

أشار المؤلف في التصدير إلى ميناء أطرابلي العجيب، ونقل شيئاً مما قاله ابن حوقل واليعقوبي عن هذا الميناء، ولكنه لم يعرض له في صلب الكتاب.

(3)

وردت كلمة (الموانئ) في ص5، 6، 39 مرسومة هكذا:(الموانئ) وهو خطأ في الرسم.

(4)

يقول المؤلف في ص9: إن الجواليقي نبه إلى خطأ شائع في لفظ المآصر - يقصد المأصر - وقع فيه أكثر اللغويين الذين تطرقوا إلى ذكرها، فقال:(. . وهو المأصر بكسر الصاد، وفتحها خطأ الخ) والظاهر أنه نسى أنه نقل مثل هذا التنبيه على خطأ فتح الصاد على الحريري قبل ذلك في ص7.

(5)

في ص12 س12: حدثنا شعبة عن ابن اسحق. فقال المؤلف: لعله أبي اسحق. وقد ورد هذا الاسم صحيحاً في ص70، فلو أن المؤلف رجع إلى هذا الاسم هناك لما تردد.

(6)

في ص17 نقل النص الآتي: (وقد كان المكاري يبالغ في أذى الناس، وأخذ أموالهم، ويقول: أنا قد فرشت حصيراً في جهنم). فعلق على كلمة (حصيراً) في الحاشية بقوله: (الحصير الحبس: قال الله تعالى (عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) سورة الإسراء الآية 7.

ص: 47

وفي هذا التعليق غلطتان الأولى تفسير الحصير هنا بالحبس؛ لأن المقصود بالحصير في كلام المكاري هو ذلك الذي يفرش في المنازل ويتخذ من البردي والأسل. قال في تاج العروس: الحصير سقيفة تصنع من بردي أو أسل، ثم يفوش. سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وفي الحديث: أفضل الجهاد وأكمله حج مبرور ثم لزوم الحصر بضم فسكون جمع حصير الذي يبسط في البيوت قال الشاعر:

فأضحى كالأمير على سرير

وأمسى كالأسير على حصير

والغلطة الثانية في جعل الآية التي أوردها السابعة من سورة الإسراء مع إنها الثامنة.

(7)

في ص19 س3 وردت كلمة ملأ. وصوابها ملا بغير همزة مراعاة للوزن.

(8)

في ص19، 20، 60، 61، 64 وردت كلمة المصابيء مرسومة هكذا (المصابئ) وهو خطأ في الرسم.

(9)

في ص20 س7 قال: ولقد مر بنا غير نبأ. وهو يقصد: وقد مر بنا أكثر من نبأ، وقد تكرر نحو هذا الأسلوب منه في ص14، 11، 53، 62، 72.

(10)

في ص34 س4 نقل هذا النص: لما كان الثامن والعشرين من شعبان الخ، ولم ينبه إلى الخطأ في كلمة العشرين. إذ الصواب العشرون.

(11)

في ص60 س11 وردت جملة: منها لتثبيت الجسور وصوابها: منها تثبيت الجسور.

(12)

في ص12 س5 قال: ونسج البرجمي هذا في استيفاء المبالغ من الضرائب والمآصر ونحوهما. فما معنى المآصر هنا؟

(13)

في ص62 س17، 18 وردت جملة: وهو تحريف ظاهر. وصوابها: وهو تحريف ظاهر بغير واو.

(14)

في ص63 س11: قلت وراجع. صوابه: قلت راجع. بغير واو.

(15)

في ص65 س4: وخرج الطائع لله في تلقيه (لتلقي عضد الدولة). وصوابه أن يقول. (تلقى عضد الدولة) بغير لام.

(16)

في ص70 أعاد رواية خبرين عن مسروق سبق له ذكرهما في ص12. ومع أن رواية ص70 فيها زيادة هامة في أحد الخبرين تتمم المعنى، وتصحيحاً لاسم راو تشكك المؤلف في اسمه فيما سبق. فإن المؤلف لم يتنبه لشيء من ذلك ولم ينبه إليه.

ص: 48

وبعد فإن في كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) على صغر حجمه مجهوداً علمياً، وبحثاً قيماً، وعناء كبيراً، بذل في سبيل إعداده وإخراجه، ولا يقلل من قيمة كل أولئك هذه الملاحظات التي لاحظتها على عمل الأستاذ المشكور، فإنه أول بحث في بابه: لم يطرقه أحد من قبله، فكان حقيقاً أن يكون وعر المسالك كثير المخاوف والمجاهل. وقد وضع الأستاذ ميخائيل عواد بكتابه هذا المصور والمعالم على ذلك الطريق المجهول، فسهل مهمة الباحثين من بعده، فاستحق شكر قراء العربية على هذه الثمرة التي قدمها إلى المكتبة العربية. وإذا كانت هذه الثمرة غير تامة النضج فليس ذلك ذنباً يؤاخذ عليه، وحسبه أن بذل ما في طاقته، واستفرغ الجهد.

برهان الدين الداغستاني

ص: 49