الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 809
- بتاريخ: 03 - 01 - 1949
الإسلام دين القوة
الإسلام دين القوة؛ وهل في ذلك شك؟
شارعه هو الجبَّار ذو القوة المتين؛ ومبلغه هو محمد الصبار ذو العزيمة الأمين؛ وكتابه هو القرآن الذي تحدى كل إنسان وأعجز؛ ولسانه هو العربي الذي أخرس كل لسان وأبان؛ وقواده الخالديون هم الذين أخضعوا لسيوفهم رقاب كسرى وقيصر؛ وخلفاؤه العمريون هم الذي رفعوا عروشهم على نواصي الشرق والغرب. فمن لم يكن قوي البأس، قوي النفس، قوي الإرادة، قوي العزيمة، قوي العقيدة، قوي الإنسانية، قوي الأمل، قوي العدة، كان مسلما من غير إسلام، وعربيا من غير عروبة!
الإسلام قوة في الرأس، وقوة في اللسان، وقوة في اليد، وقوة في الروح.
هو القوة في الرأس لأنه يفرض على العقل توحيد الله بالحجة، وتصحيح الشرع بالدليل، وتوسيع النص بالرأي، وتعميق الإيمان بالتفكر.
وهو قوة في اللسان لأن البلاغة هي معجزته وأداته؛ والبلاغة قوة في الفكر، وقوة في العاطفة، وقوة في العبارة.
وهو قوة في اليدلأن موحيَه - وهو الحكيم الخبير - قد علم أن العقل بسلطانه واللسان ببيانه لا يغنيان عن الحق شيئا إذا ما اظلم الحس وتحكمت النفس وعميت البصيرة؛ فجعل من قوة العضل ذائدا عن كلمته وداعيا إلى حقه ومنفذا لحكمه ومؤيدا لشرعه. كتب على المسلمين القتال في سبيل دينهم ودينه؛ وفرض عليهم إعداد القوة والخيل إرهابا لعدوهم وعدوه؛ وأمرهم أن يقابلوا اعتداء المعتدين بمثله. ولكن القوة التي يأمر بها الإسلام هي قوة الحكمة والرحمة والعدل، لا قوة السفه والقسوة والجور؛ فهي قوة مزدوجة، أو قوة فيها قوتان؛ قوة تهاجم البغي والعدوان في الناس، وقوة تدافع الأثرة والطغيان في النفس.
والإسلام بعد ذلك قوة في الروح لأنه يمحص جوهرها بالصيام والقيام والاعتكاف والأرتياض والتأمل.
وأنت إذا عرضت على الفكر السليم الحكيم مرامي العقيدة الإسلامية، وجدتها كلها تتجه إلى القوة، أو إلى ما تحصل به القوة؛ فالصلاة نظافة جسدية بالوضوء، وطهارة روحية بالذكر، ورياضة بدنية بالحركة. والزكاة تقوية للضعيف بالتصدق، وتنمية المال بالتطهير، وتمكين للمجتمع بالتعاون. والحج قوة اجتماعية بالتعارف والتآلف، وقوة سياسية بالتشاور
والتحالف، وقوة اقتصادية بالبياعات والتسوق. وان أشد ما تجتمع به القوة وتتسق عليه الحال هو الوحدة والجماعة، وهما لباب الدعوة الإسلامية. فالوحدة هي الأساس الذي حمل، والجماعة هي الصرح الذي قام. كانت الوحدة هي الأساس لأنها توحيد لله بعد إشراك، وتوحيد للعرب بعد شتات، وتوحيد للرأي بعد تفريق، وتوحيد للغة بعد تبلبل، وتوحيد للقبلة بعد تدابر. وكانت الجماعة هي الصرح لأنها جمعة القلوب التي ألف بينها الله، وجملة الشعوب التي رفع شأنها محمد. ثم قامت سياسة الإسلام على استدامة القوة بالمحافظة على الوحدة والحرص على الجماعة. فالفرد الذي يكفر بوحدة العقيدة والأمة يقتل، والطائفة التي تبغي على جماعة المسلمين تقاتل. والصلاة إنما يعظم أمرها ويضاعف اجرها إذا أديت في جماعة. وهذه الجماعة تتكرر خمس مرات كل يوم، ثم تكبر في صلاة الجمعة كل أسبوع، ثم تعظم في صلاة العيدين كل عام، ثم تضخم في أداء الحج مرة - على الأقل - في كل عمر.
على ذلك كان إسلام محمد وأبي بكر وعمر؛ وعلى ذلك كانت عروبة خالد وسعد وعمرو. كان العرب والمسلمون حينئذ يحملون المصحف للحق والسيف للباطل؛ وكان خلفائهم يجمعون بين أسامة للصلاة وقيادة المعركة، حتى بلغوا من القوة فعل كتاب الرشيد ما يفعل الجيش؛ وبلغوا من المروءة أن سير المعتصم جيشا لإنقاذ امرأة. فلما شتت الوحدة، وتفرقت الجماعة، وصارت سيوف المسلمين خشبا يحملها خطباؤهم على المنابر، ومصاحفهم تمائم يعلقها مرضاهم على الصدور، أصبحت دولهم تبعا لكل غالب، وتراثهم نهبا لكل غاصب؛ وبلغوا من التخاذل والفشل أن الأندلسيين يجلهم النصارى عن أقطارهم بالأمس فلم يجدوا الرشيد؛ وان الفلسطينيين يشردهم اليهود عن ديارهم اليوم فلا يجدون المعتصم!
إن مسلمي هذا الزمن الأخير صاروا من جهلهم بالدين وعجزهم في الدنيا على أخلاق العبيد؛ يطأطأ أشرافهم فلا يندى لهم جبين، وتنقص أطرافهم فلا يحمى لهم انف، وتنزل بهم الشدة فيتخاذلون تخاذل القطيع عاث فيه الذئب، ويغير عليهم العدو فيتواكلون تواكل الاخوة دب فيهم الحسد، وتجمعهم الخطوب فيفرقهم الطمع والهوى، ويلجئون إلى جماعة الدول المتحدة فيخذلهم العدو والصديق؛ كان الإسلام الذي كان عامل قوة وائتلاف، قد انقلب اليوم علة ضعف واختلاف! وكان الذين كنا نقول لهم بلسان الجهاد: أسلموا تسلموا، يقولون لنا
بلسان الاضطهاد: تنصروا تنصروا!! ولكن الإسلام دين الله لا يغيره الزمن، ولا تجافيه الطبيعة، ولا يعاديه العلم، ولا تنسخه المذاهب؛ وإنما المسلمون اليوم هم أعقاب أمم وعكارة أجناس وبقايا نظم ورواسب حضارات وربائب جهالات وطرائد ذل، ففسدت مبادئ الإسلام في نفوسهم المشوبة كما يفسد الشراب الخالص في الإناء القذر.
إن جامعة الدول العربية كانت تعبيرا جميلا لحلم ساور النفوس الطيبة حقبة من الزمن. ولكن الحلم قد يقع وقد لا يقع، والتعبير قد يصدق وقد لا يصدق. ولو كان ميثاق هذه الجامعة قبسا من نور الله وهديا من سنة الرسول، لما رأيناها في نكبة فلسطين تعد ولا تنجز، وتقول ولا تفعل. ولو ظل أمرها قائما على الخطب الحماسية والوعود المغرية والتصريحات البليغة والاجتماعات المتعاقبة، أظلت في نفوس العرب والمسلمين مناط الثقة ومعقد الرجاء ومثابة الأمن؛ ولكن طالعها السيئ ابتلاها وهي لا تزال في زهو النشأة وصفو المآدب بحرب الصهيونية المهينة، فتحمست الدول السبع، وسيرت كتائبها المظفرة إلى عصابات اليهود في فورة من الأناشيد والخطب؛ فلما صار الأمر جدا والكلام فعلا وقفوا على أطراف الميدان وقفة الحائر القلق: هذا يتجه إلى بريطانيا وفي يده التاج الناقص؛ وذاك يلتفت إلى أمريكا وفي كفه العقد المبرم؛ والآخرون يهيبون الأمر وينتظرون في ظلال الهدنة المفروضة ما تلده الأحداث ويقرره مجلس الأمن!
وليس من هؤلاء الآخرين المنتظرين والحمد لله مصر؛ فقد قضت عليها حمايتها للإسلام ورعايتها للعروبة وأمانتها للجامعة أن تقف وحدها في الميدان الغادر تكافح في صدق وصبر جيوش اليهود وقواد الروس وأسلحة الأمريكان ومكر الإنجليز؛ ثم لا تتلقى من أخواتها الشقيقات إلا هتافا كهتاف الحمام وحنانا كحنان الإوز: يروق باسمة من غير غيث وصكوك ضخمة من غير رصيد!!
لقد تكشفت مأساة فلسطين - واسوأتاه - عن قلوب شتى ووجوه متعارضة والإسلام - كما رأيت - وحدة وجماعة. فمن فصم العروة بعد توثيقها، ونقض باليمين بعد توكيدها، وفرق الكلمة بعد توحيدها، فهو مسلم من غير إيمان، وعربي من غير شرف، وإنسان من غير ضمير!
أحمد حسن الزيات
شفاء الروح
لصاحب العزة محمود بك تيمور
أخي المؤمن:
قصارى ما يطمح إليه فؤادك أن تكون سعيدا، وإنك لتسعى جاهدا غير وان، باذلا كل مرتخص وغال لا قبلة لك إلا أن تحظى بتلك السعادة المنشودة.
ولكنك تظلم نفسك أن عددت السعادة فيما يتراءى لك من عروض الحياة، كالغنى والجاه. فهذه العروض التي يستعصي عليك منالها، والتي تحسب الخير أجمع فيها، ربما كانت هي باعثة الشقاء، ومدعاة العذاب.
وأنت فقد تجاهد وتجالد، حتى تبلغ مأربك من هذه العروض، وما هي إلا أن يتجلى لك ما خفي عنك، فتعرف بعد لأي انك كنت مخدوعا تظن السراب ماء، وان الغنى والجاه وما إليهما من مظاهر الحياة إنما هو زيف زائل وزخرف باطل.
ويوم تقف على القمة بعد أن صعدت في السلم الذي استهواك، ترى انك لم تظفر من جوهر السعادة بطائل، وان من حولك غيوم الحياة وظلماتها مطبقة عليك، وانك لم تنكشف عنك البأساء والضر. . .
ولو سمت نفسك إلى أن تستكنه سر ذلك، لعلمت على يقين أن المظهر قد غرك، فقفوت أثرهم، واسترسلت في طلبه، فلم تعن بالمخبر واللباب!
أخي المؤمن:
إن للسعادة لنبعا فياضا هو (الروح). . .
فمن تنكب عنه، لم يظفر برشفة منه، ولو أدلت إليه السماء بأسباب، ومن فطن له بلغ السعادة من أقرب باب!
ولا تبلغ الروح هذا المبلغ من إسعاد الإنسان إلا إذا توافر لها الصفاء والنقاء، فإذا هي تخف، وإذا هي تسمو إلا آفاق علوية ترفعت عن الشوائب والأدران
فهل لي أن أكاشفك بما اسميه (تجربة) أو (وصفة) تنيلك ما تريده لروحك من صفاء وتطهر، حتى تصل إلى شفاء النفس وتتوافر لك السعادة الحقة؟
لست أفجؤك بما يروعك سماعه، أو يعييك فهمه، أو يتعصى عليك إنفاذه. . .
إنها وسيلة بالغة الشيوع، قريبة التناول، بيد أن الناس قلما يلتفتون إلى سرها العظيم، أثرها الناجع، فهم لا يتخذونها على النحو الذي يحقق تلك الغاية العالية. . .
أخي المؤمن:
نصحي إليك أن تضع مصحفا فوق وسادك، لا تتخذه تميمة من التمائم، ولا تعويذة من التعاويذ. . . وإنما تتخذه نبعا فياضا تستقى منه لروحك صفاء، ولنفسك شفاء!
ليكن من دأبك في إصباحك ألا تقع عينك أول ما تقع إلا على هذا الكتاب الخالد، فرتل منه ما تيسر وأملا سمعك بتلك الآيات البينات، تمتعك بسحر البيان، وروعة الإيقاع، واترك حكمتها البالغة تسري في وليجة نفسك، فتضئ من جوانبها ما أظلم، وتجلو منها ما صدئ، فإنك لا تلبث أن تحس روحك قد انسكب عليها فيض يكفل لها الطهر، ويثير فيها الانتعاش. . .
أنعم بذلك بدءا نهارك الوضاح!
لتصبحن وقد شاع في أساريرك بشر، وامتلأت نفسك بالثقة، ولتقبلن على عملك نشطا في تيمن وانشراح
وليكن كذلك من دأبك في ليلك أن يكون ذلك المصحف آخر ما تقع عليه عينك قبل أن تسلم أجفانها للمنام، فرتل من أي القرآن ما وسعك أن ترتل، تطهيرا لنفسك مما علق بها من غبار يومك؛ ونم على وقع تلك الأهازيج القوية سابحا في أحلام طيبة كلها روح وريحان. . .
أعمل بتلك السنة لا تنحرف عنها يوما، وأتخذها لك منهجا وإماما، وانظر كيف تصير من حال إلى حال، وكيف يتكامل لك حظك من سعادة النفس ونعيم الروح. . .
ولا تنس هذا القرآن العظيم في غدو ولا رواح. فإن ألمت نازلة، أو حزب أمر، فاجعل من آيهِ لك مفزعا تستظل فيه من حر ما تجد، وإنك لشاعر من ساعتك بأن الغمة لا سلطان لها عليك وأن لك جلدا لا يهن، وعزيمة لا تخور. . .
أخي المؤمن:
مزية جليلة لك أن يكون ذلك الذخر الخالد من كلام الله تراثا دانيا منك، تلتمس فيه علاج نفسك، وصفاء روحك، وتمتلك به ناصية السعادة بمعناها الأسمى، ذلك لأن هذا القرآن
الكريم ينأى بك عن مكاره الأرض، ليصل بينك وبين السماء!
محمود تيمور
الرأي العام في تعاليم الإسلام
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني
من أهم الدعائم التي تقوم عليها عظمة الأمة، وتستقيم بها أحوالها؛ أن يكون فيها (رأي عام) ناضج مهيب، يستلهمه قادتها والقائمون بأمرها، ويخشاه من تحدثهم نفوسهم بالبغي عليها، أو الانحراف عن الصراط السوي في تدبير شئونها.
وأهل السياسة، ورجال الاجتماع، يحكمون للامة أو عليها بحسب (الرأي العام) فيها، فإذا كان من عادة الأفراد أن يهتموا بالشئون العامة، ويحرصوا على أن يكون لهم توجيه فيها، ووزن لقيمتها، وتمييز بين الصالح والفاسد منها؛ كانت الأمة بخير، وكانت جديرة بان تعيش وتكافح في معترك هذه الحياة، وتتبوأ بين الشعوب مكانة حسنة. وإذا كان الأفراد معنيين بشئونهم الخاصة فحسب، يقصرون عليها جهودهم، وينفقون فيها كل نشاطاتهم، ولا يعنيهم بعد ذلك أصلحت أحوال المجتمع الذي يعيشون فيه أم فسدت؛ فالأمة على خطر عظيم، وهي صائرة بخطى واسعة إلى الفساد ثم الانحلال ثم الهلاك!
وهذا الأصل العلمي له شواهد من واقع الأمم في القديم والحديث، وله في عصرنا الحاضر على وجه أخص أمثلة من الأمم القوية والأمم الضعيفة لا احسبني في حاجة إلى الإطالة بذكرها. وإنما أريد أن أقول: أن هذا الأصل الذي آمن به علماء الاجتماع، واصبح من الحقائق المسلم بها، قد جاء به الإسلام، فقرره الكتاب الكريم، وبينته السنة المحمدية في جلاء ووضوح منذ أربعة عشر قرنا!
يقول الله تعالى في كتابه العزيز (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
وهذه الآية هي أساس المسئولية التضامنية بين جميع أفراد الشعب، إذ توجب على الأفراد أن يكونوا دعاة إلى الخير، وآمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، فيؤلفوا بذلك (رأيا عاما) يلزم كل إنسان بالاستقامة على النهج، والتزام الصراط المستقيم، فيما هو مولى عليه من شئون خاصة أو عامة.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن (من) في قوله تعالى (ولتكن منكم) للتبعيض، وأن المعنى على ذلك وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا كفائيا، أي
(إنها واجبة على الكل لكن بحيث أن أقامها البعض سقطت عن الباقين، ولو أخل بها الكل، أثموا جميعا) ورأى بعضهم أن (من) في الآية ليست تبعيضية، وإنما هي تجريدية، كما تقول: لقيت من فلان أسدا، وأنت تريد أن تقول لقيته هو، والمعنى على هذا، كونوا أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهذا الرأي الأخير هو الحق، وهو الذي نصير إليه، ونقول به وذلك لأمور: منها أن الله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وفي هذه الآية أسند الفعل صراحة إلى ضمير الأمة.
ومنها أن الله ذكر المنافقين والمؤمنين في آيتين من سورة التوبة فقال: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم)(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله).
جعل من صفات المنافقين ودأبهم الذي طبعوا عليه ملتوون عن سبيل الحق، يمقتون الصلاح والخير، ويميلون إلى الفساد والشر، فيأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن أعمال البر والتعاون فيبخلون، ولا يصح أن يكون الكلام على إرادة بعض من المنافقين دون بعض، فإنه في صدد ذكر خصائصهم وما يعرفون به، وفي مقابل ذلك جعل من صفات المؤمنين ولاية بعضهم بعضا، أي الاخوة والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى، وجعل من صفاتهم أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله، ولا يصح أن يكون الكلام هنا أيضاً على إرادة بعض من المؤمنين دون بعض، لاسيما وقد ذكر من الأوصاف إقامة الصلاة وما بعدها من الفرائض العينية التي تجب على كل فرد.
ومنها أن الله تعالى ختم الآية الأولى بقوله: (وأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بما قضت به سنته من النجاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وختم الآية الأخيرة بقوله:(أولئك سيرحمهم الله) أي سيشملهم برعايته وتوفيقه وفضله، ولا يصح أن يكون الفلاح خاصا بالقائمين بفرض الكفاية دون غيرهم، ولا أن تكون الرحمة مقصورة عليهم، مع أن الله قد أباح للآخرين أن يتركوا الفعل اعتمادا على كفاية حصوله ممن قام به، وإلا لكان بمثابة أن
يبيح أمرا لا يتصل به سبب من أسباب الفلاح والرحمة.
ومنها أن الله تعالى قال في سورة العصر (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فجعل الحكم بالخسارة عاما يشمل جميع الناس، ثم أستثنى المؤمنين العاملين المتواصلين بالحق والصبر، والتواصي بالحق هو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن لم يقم بها فهو في خسر، وهذا حكم عام لجميع الأفراد، يقابل الحكم بالفلاح، والوعد بالرحمة في الآيتين السابقتين.
من هذا يتبين أن القرآن الكريم يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأن المؤمنين ودأبهم، وأن كل مؤمن مكلف به تكليفا عينيا كما هو مكلف بالصلاة والزكاة وإطاعة الله ورسوله، وهذا طبعا في حدود الاستطاعة والقدرة والأمن من ترتب مفسدة أعظم ووقوع فتنة أكبر، وإلا سقط أو وجب الكف عنه.
وقد جاءت السنة المطهرة بما جاء به الكتاب الكريم، فمن ذلك ما رواه المحدثون عن أبي بكر رضي الله عنه من أنه قام خطيبا فحمد الله أثنى عليه ثم قال: أيها الناس. إنكم تقرأون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتد يتم) وإنكم تضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول:(إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) وفي رواية (ليس من قوم يعمل فيهم بمنكر، ويفسد فيهم بقبيح، فلم يغيروه ولم ينكروه إلا حق على الله أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم)، ومن ذلك ما رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وغيرهم من قوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وما رواه مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
والحديث الأخير يعم بالخطاب سائر المؤمنين ويكلف بتغيير المنكر كلا على حسب استطاعته: باليد أو باللسان أو بالقلب، والتغيير بالقلب عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضى بفعله، وهو وسيلة صحيحة لردع أهل الفساد فإن شعور المفسد بمقت القلوب له ونفور النفوس من فعله، واحتقار الناس إياه؛ كفيل برده عن الإفساد من قريب أو من بعيد، وهو أشبه بعلاج الإيحاء لأنه بمثابة نهي صامت ملح يتمثله المرتكب للقبيح مدويا في إذنه،
مثابرا على تبكيته وتأنيبه.
وقد مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حال المؤمن لأخيه فقال: (المؤمن مرآة المؤمن) كما مثل لنا حال الأمة بحال راكبين في سفينة أراد بعضهم أن ينقروا فيها، فإن اخذوا على يده نجوا ونجا معهم، وإن تركوه هلكوا وهلك معهم.
هذا كله تربية للأمة وتكوين لشخصيتها، وخلق لقوة المقاومة فيها، تحصينا لها من الفساد، ودفعا بها في سبيل الرشاد. وقد قص علينا القرآن أمر بني إسرائيل لما أتهدم فيهم هذا الأصل، وسامحوا فيه وداهنوا، فقال:(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) واللعن عقوبة شديدة فظيعة، هي الطرد والأبعاد عن رحمة الله والحرمان من توفيقه ورعايته، ولا شك أن أمة تصاب بذلك هي أمة هالكة بائرة، وقد ذكر الله سبب هذا اللعن الذي عوقبوا به على لسان داود وعيسى بن مريم فبين لنا أنه العصيان والاعتداء وعدم التناهي عن المنكر ثم ذم صنيعهم في ذلك بهذه العبارة البليغة المؤكدة بالقسم:(لبئس ما كانوا يفعلون).
كما قصت علينا السنة النبوية ذلك لنعتبر به، فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيدة، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) وكان متكئا فجلس وقال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا. . . أو ليضر بن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم).
وقد تحدث الله جل علاه عن (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) فقال وعدا، واشتراطا عليهم:(ولينصرن الله من ينصره أن الله لقوي عزيز: الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
فبعث بذلك في كل فرد من أفراد المؤمنين رغبة النصر والقوة والعزة على شرائط يؤديها من بينها هذا الركن الأساسي العظيم، وقد وفى الله للمؤمنين بوعده حين وفى له تعالى بما شرط عليهم، فلما كان شأنهم قول الحق، والإنكار على الظلم، وبذل النصح، وتقويم المعوج، والدعوة إلى الخير والمعروف، أصلح الله شأنهم، وأعز دولتهم، وأخاف أعداءهم، ولما جاملوا في الحق، وتسامحوا في درء المفاسد، ودفع المنكرات، وضعفوا عن مجابهة المبطلين، ضرب الله بعضهم ببعض، وأصابهم بالانحلال، وأصبحوا أفرادا ممزقين، يتجاورون في الأوطان دون أن يجمعهم وصف الأمة المتعاونة المتكاتفة ذات (الرأي العام) الناضج المهيب.
(وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
محمد محمد المدني
المفتش بالأزهر
الإسلام في تركيا
للأستاذ محمد فريد وجدي
مر على تركيا عهد كانت فيه كسائر الأمم الشرقية تحت وصاية رجال الدين. فكان للدولة شيخ للإسلام له رأي مسموع في الشئون الحكومية والسياسة الدولية، وكان له ألوف من الأتباع منبئين في جميع الولايات يؤيدهم الشعب في إملاء إرادتهم على الولاة. وكان يقوم إزاء هؤلاء الممثلين للدين رجال انتحلوا لأنفسهم صفة التصوف، وليس أكثرهم منها في شيء، يطعمون عقيلة الناس بوجهات نظر في الدين قد تنافيه أو تحد من سماحته. وكان الشعب التركي في الثلاثة القرون الأخيرة قد تعب من مواصلة الجهاد، ولكن التارات التي لأوروبا عليه لم تخمد جذوتها، بل زادت اشتعالا انتهازا للفرصة، فكان هذا الشعب الجريء الصبور يتحمل الشدائد ولا تلين له قناة نحو قرنين متوا ليين.
في هذه الأثناء أكثرت تركيا من البعوث العلمية لأوروبا، وأكثرت من حصة ألمانيا في الناحية العسكرية، وألمانيا كانت معشش الفلسفة المادية في القرن التاسع عشر كله، حيث نبع شيوخ الإلحاد وممثلوه، فاقتبس منهم شبان الأتراك أكثر نظرياتهم، ولما عادوا إلى أوطانهم أشاعوا، فوجدت رواجا بين المتعلمين، وساعد على هذا الرواج تشدد بعض الشيوخ قي رجعية ظاهرة البطلان.
فلما حدثت الحرب العامة في سنة 1914 وانتهت بهزيمة ألمانيا وأنصارها، وكانت تركيا منهم، وتقرر الصلح، شعرت تركيا بان خصومها يريدون الإجهاز عليها، فثارت ثورة استبسال تيقظت فيها جميع مصادر قوتها وبسالتها، وتجلت فيها روح عزتها وكرامتها، ووقفت للدول المنتصرة إلى حدود بلادها والسيف في يدها تذود عن وجودها بدماء من حياة بقيت لها. فأخضع الله أعداءها لهذا المظهر الرائع من حوادث البطولة النادرة، وكان جزاؤها أن أعطيت كل ما طالبت به من حقوقها الاجتماعية كافة، وحدودها الطبيعية كدولة. فكان هذا حادثا فذا لم يشهد له التاريخ نظيرا.
أدركت تركيا أن ما كانت قائمة عليه من الأصول، ونايئة تحت أعبائه من التقاليد، لا يصلح أن يقيمها على طريق الأحياء كدولة عصرية، فعمدت إلى إزالته جملة بما فيه من خير وشر، لتنتحل شخصية الأمم الراقية طفرة، وغاب عنها أن ذلك إنما يمكن أن يكون
والدماء لم تهدأ من غليانها بعد، ولكن بعد أن يسكن جأش الأمة، ويهدأ بالها، وتطمئن على كيانها، تتيقظ مطالبها الروحية، وحاجاتها الوجدانية، وأخصها الدين، وأين هو؟ ألتمس اليأس حفاظه فوجدوهم قد لبسوا القبعات واندمجوا في الشعب يعملون لكسب قوتهم!
نعم، وجدوا المساجد مفتحة الأبواب تستقبل جماهير المصلين، ولكن أين الدروس الدينية، وأين الوعاظ والمرشدون، وأين القضاة والمفتون، بل أين الطلبة المعممون، وأين أساتيذهم الموقرون؟!
الثورة قد أتت على كل هذه التقاليد، حتى إنك كنت لو سألت عن مصير هذه الحالة، قيل لك أن الحكومة ستصنع للدين وتدريسه نظاما لا يمكن معه أن تستغل سذاجة العامة للدس عليه ما ليس فيه، أو لإظهاره على غير ما هو عليه من النزاهة المثالية، والروح الوثابة، والمظهر المهيب. ثم يعقب ذلك سكوت طويل!
وكانت البلاد التركية غاصة بالملاجئ الدينية، والتكايا المذهبية تأوي إليها عشرات الألوف من أهل البطالة يستغلون بساطة النساء وضعفاء العقول، فكان الناس لا يجدون منهم رجلا يتلكأ في مشيته تحت جبته الفضفاضة، إلا خفوا إليه يقبلون يده، ويتلمسون البركة من الاتصال به، غير مفكرين في الأسباب العادية، والعوامل المادية؛ فكانت هذه الحالة من التعويل على الأوهام سببا رئيسيا في تقاعس الدهماء عن التفكير في معترك الحياة، وعن افتقارها إلى علم ومال ودؤوب. فكان النجاح في نظرهم نابعا للمحفوظ تصيب هذا وتخطئ ذاك، ومن تصب مترفعة إلى أعلى مما يتوق إليه، ومن تخطئ تقذف به إلى مكان سحيق!
هذه كانت الحالة العقلية للشعب التركي على نحو سائر العقليات الشرقية التي ينظمها جميعا رباط وثيق.
فكان رجال الثورة لا يجرؤن على إعادة الحرية الدينية خشية أن تفقدهم كلما حصلوه بجهادهم العنيف. وبعد أن مضى نحو ربع قرن على هذه الحالة نشأ رأي معتدل ناضل عن الحرية الدينية في نطاق حدده المسؤولون عن حفظ كيان الشعب، وإبعاد الغوائل عنه. أول من اقتحم هذه العقبة كان (جلال بايار) الذي كان رئيسا للوزارة وزعيما للحزب الديمقراطي. فطلب إلى الحكومة أن تحترم دين الأمة وهو الإسلام، وان تسمح بالعمل على نشره وبتدريسه في المدارس الابتدائية والثانوية.
فقبلت الحكومة هذا الطلب واشترطت شروطا كلها ضمانات قوية لسلامة الإسلام من العبث، فشرطت أن لا يدرس كتاب في المدارس إلا إذا أقرت الحكومة على تدريسه فيها.
واشترطت كذلك أن لا يدرس الدين إلا الذين حصلوا على معلومات دراسية في مدارس الحكومة أو التي تعترف بها. وهذا الشرط وان ظهر مبالغا فيه، إلا أنه يمكن قبوله على اعتبار أن الذهن الخالي من المعلومات، لا ينبغي أن يتسلم إلا ما لابد منه من النطق بالشهادتين، وحفظ آيات من القرآن ليصلى بها. ولعلهم منعوا تسليم الجهال العلوم الدينية لكيلا يتبعوا سبيل قدماء الشيوخ في التحكم بنصوص الدين على كل شيء، وبتكفير المسلمين على أقل ما يتخيل أن فيه مساسا بالعقيدة. هذا فضلا عن مثوله بين المتعلمين على حال لا يتفق والمتفقه في الدين من الجهل ببسائط العلوم الطبيعية، وأوليات الشؤون التاريخية والاجتماعية. ومثل هذا وإن كان لا يخشى منه أقل تأثير على المتعلمين، ولكنه يعتبر كلامه عند العامة من العلم في صميم الصميم.
الخلاصة أن الأتراك بعد أن طال صمتهم عن الشؤون الدينية التي كانوا يعتبرونها شخصية محضة للأفراد، عادوا فاعترفوا رسميا بان دين الأمة التركية الإسلام، واستخدموا هذا التعبير في اكتساب هوى الشعوب العربية. وكل هذا كان من ضروريات الثورة، فإن أخص مميزاتها إحداث انقلابات تعقبها انتقالات. وقد حدث مثل هذا الأمر في كل أمة. ففي الثورة القريبة منا، وهي الثورة الفرنسية أنكروا الدين والخالق جل وعز، ثم عادوا بعد عشرات من السنين إلى ما كانوا عليه، ولكن كانت الثورة أتت على كل ما يخشونه مما يوهن حركة الزياد عن ثمرات الثورة، أو يضيع الحقوق التي اكتسبت منها.
الأمر الذي نريد لفت النظر إليه في الثورة التركية أنها سمحت بتأسيس كلية لتعليم أصول الدين الإسلام ي، ومدارس أخرى لتخريج من يتولون التعليم الديني، ولكنها اشترطت أن يكون طلبتها ممن أتموا دراستهم الثانوية في المدارس الحكومية وحصلوا على شهادة الثقافة منها.
وأحسن من هذا وأعظم أثرا في خدمة الإسلام الحق وحماية الأمة من تسرب التعاليم الضارة إليها باسم الدين أن الحكومة التركية شرطت أن لا يطبع كتاب ديني ويدرس في المملكة التركية إلا بعد أن يعرض على مجلس النواب ليدرسوه ويتباحثوا فيه ويقروه.
هذا وحده خير ما أثمرته ثقافة القرن العشرين للإسلام، فإن أي كتاب يكون قد قمش بين دفتيه من حق وباطل، وجمع بين غث وسمين، لا يمكن أن يتغفل مئات من النواب وألوف من رجال الصحافة والكتابة، ويحصل على تصريح بالطبع فيفسد عقيدة المسلمين.
هذه الرقابة الثمينة وحدها سيكون من أخص آثارها قطع دابر البدع التي شاعت بين المسلمين حتى حلت محل الدين نفسه لديهم. ولأول مرة - بعد قليل من السنين - سيشهد مصلحو المسلمين أن شعبا إسلاميا عدد أفراده عشرون مليونا يدينون بالإسلام خالصا من البدع التي شوهت جماله زهاء ألف من السنين في بقاع أخرى من بلاد المسلمين.
محمد فريد وجدي
يا أيها العرب!
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أيها المستمعون ألي، مقبلين علي، ويا أيها السامعون وهم معرضون، يلهون في القهوات أو يتبخترون في الطرقات، إلى العالم في مكتبه، والعامل في معمله والمرأة في بيتها، والطفل في مدرسته إلى من يتفيأ الظلال من جنات الشام، ويترشف الزلال من نيل مصر، ومن يتنعم بفي النخيل على شط دجلة، ومن يضحي بشمس القفار من فلوات حجاز، ومن شرق من العرب ومن غرب. . .
يا أيها العرب جميعا. . . هل تدرون ما هو أعظم خطب يمكن أن ينزل بنا. وما هي أدهى مصيبة يخشى أن تصيبنا؟ لا، ليست الاستعمار الأجنبي، فسنجاهد حتى لا يبقى في ديار العروبة، ومنازل الإسلام غاصب أجنبي، وليست مشكلة إسرائيل، فسنحارب حتى نسلم (إسرائيل) إلى عزرائيل، ولكن المصيبة أن نكفر بأنفسنا، وان نجهل أقدارنا، وان لا نعرف فوق الأرض مكاننا، وان نحسب إننا خلقنا لنكون أبدا أضعف من الغربيين، وأجهل منهم، وأن ننسى أن أجدادنا لما خرجوا يفتحون الديار، كانوا أقوى منا على عدونا، وأنهم أقدموا بسيوف ملفوفة بالخرق على عدو كان أكثر عددا وأقوى عددا واضخم عمرانا، وأكثر علما ومالا. فظفروا به، وانتصروا عليه. وأن الأيام دول، والدهر دولاب، يهبط العالي، ويعلو الذي هبط، ويذل العزيز، ويعز الذي ذل، وإن دار علينا الدهر حينا، فافترقنا وتباعدنا، ولفنا بعد إشراق النهار ليل مظلم، أغمضنا فيه عيوننا، وأغمدنا فيه سيوفنا، فلم نبصر اللص يدخل علينا، ولم ننهد إليه لنرده عنا، وحسبنا لطول الليل أن لا صباح له، فقد طلع الآن الصباح، وانقضى الليل، وهب النائمون يمشون إلى الأمام. . .
إلى الأمام! وإلا فما هذه الثورات، وما هذه الوثبات؟ وما هذه الوحدة في العواطف، حتى لتهتز الشام لكل حادث في العراق، وتغضب مصر لكل عدوان على الشام، ويثور المشرق لنصرة المغرب، وتقوم مراكش لتأييد أندونسيا، وتهب الباكستان للدفاع عن فلسطين؟
إلى الأمام! وإلا فما لمصر، صارت فيها الفكرة العربية دينا وكانت من قبل تعيش عامتها في ظلام العزلة، وتحيا (بعض) خاصتها في ضلال الفرعونية؟
إلى الأمام وإلا فهل كانت تظن فرنسا ويظن عبيدها أن سيقطع الله دابرها من سورية ومن
لبنان، ومن لبنان يا أيها السادة! وهل كان يظن الإنكليز أنهم سيضطرون إلى الخروج من وادي مصر، وان العراق سيقطع اليد التي تحاول أن توقع معاهدة ليس فيها خير العراق، وهل كان يظن أحد أن الهند، الهند ستتحرر وإنها ستكون في الدنيا دوله إسلامية فيها مئة مليون.
أن هذه المظاهرات، وهذه الثورات، حركات السائل الناري في باطن الأرض، إنها الهزة، ثم تكون الرجفة، ثم يكون الزلزال. ثم ينفجر البركان بالحمم، وتفتح أبواب جهنم، فلا يقف أمامها من الشياطين، ولو كان له مال (حاييم)، ودهاء (جان بول)، وقوة (الدب)، وأقدام العم (سام).
لسنا اليوم كما كنا من خمسين سنة، كنا نخاف أوربة لأننا نجهل ما عندها، وكنا نخشاها لأننا ما عرفناها، أما اليوم فقد هتك الستار، وكشفت الأسرار، وعرفنا أن هذه المدنية مدنية الظفر والناب وإنها حضارة الذئاب. . .
فيا أيها العرب، فوق كل أرض، وتحت كل سماء، لقد جئت الليلة، ليلة هجرة محمد، أستحلفكم بقبر محمد، وبالمسجد الأقصى، وبمهد عيسى، وبأمجاد الماضي، وبآمال الآتي، أن تثقوا بربكم، وأن لا تعتمدوا إلا على نفوسكم، وأن تعلموا أن النازلات امتحان للهمم، وتمحيص للأمم، وأن لا تكفروا بالبطولة التي صبها في دمائكم يا أيها العرب، سيد العرب محمد، وأن تأخذوا من سيرة محمد الذي اجتمعتم الليلة للاحتفال بذكراه دروس البطولة والعزم والنضال.
وأن تذكروا موقف محمد يوم كانت المدينة على حافة الخطر وكانت معرضة لأقوى هجوم يمكن أن تقوم به جزيرة العرب، وكان على الطريق إليها ثلاثة جيوش فيها عشرة آلاف مقاتل، والمسلمون كل المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، وأن المدينة قد (تسقط) بين ساعة وساعة، ويقضى على الإسلام، فماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا صنع المسلمون؟
هل تحيروا حتى لا يدرون ماذا يصنعون، فجعلوا يرتجلون الخطط، ويبتدعون الآراء؟ هل كفوا أيديهم عن العدو وأطلقوا ألسنتهم عليه، فرموه بالخطب والتصريحات؟ هل أضاعوا الفرصة وأمضوا الأيام في الاجتماعات والمؤتمرات؟ هل اختلفوا وتنازعوا؟ وهل فكر
الأغنياء في أن يستأجروا بيوتا في الأرياف ليفروا إليها، إذا نزلت الملمات وكانت (الغارات)؟
لا يا سادة. . . لم يفكر في الفرار إلا (المنافقون والذين في قلوبهم مرض). أما المسلمون فكانوا يعلمون أن المسلم الذي يفر من بلده إذا دهمه العدو لا يكون مسلما، وأن الإسلام يفرض القتال عند ذلك على الرجال والنساء فرض عين كفرض الصلاة.
لا، ولم يعتكف رسول الله في مسجده، ليدعوا عليهم، ولو دعا لاستجاب الله دعاءه، ولكنه أراد أن يأتي البيوت من أبوابها، ويجر النتائج بأسبابها، ويعلم هذه الأمة كيف تصنع إذا دهمتها المخاوف، وحاقت بها الأخطار، وشرع يحفر الخندق والخندق هو (الملجأ الفني) من (غارات) تلك الأيام، ولم يكن العرب يعرفون الخنادق بل هي من طرائق العجم في قتالها.
وكذلك كان محمد يعد لعدوه أحدث المخترعات الحربية، ويفاجئه ب (أسلحة جديدة) لم يسمع بها. لم يأمر بحفر الخندق وهو مقيم في داره، هادئ هانئ مستريح، بل عمل معهم، يده قبل أيديهم، حمل التراب حتى غطى بطنه التراب، وجاعوا فجاع معهم، وربط على وسطه من الجوع الحجر، وكان أقواهم يدا، وأثبتهم قلبا، عرضت صخرة لم تعمل فيها المعاول، ولم تؤثر فيها سواعد الرجال، فلجئوا إلى محمد، فلم يستطع أن يكسرها إلا ساعد محمد، وهو يعمل بلا قميص شأن الرياضي القوي، لا شأن هؤلاء (المشايخ) الذين يمشون ورؤوسهم محنية، وأطرافهم متخاذلة. . . كان قد هدهم المرض!
أعد الخندق ل (الدفاع السلبي)، ثم خرج مع المسلمون ل (الدفاع الإيجابي)، وولى على المدينة ابن أم مكتوم ما اختاره لعصبية أسرة، ولا لجامعة حزب، ولا لصلة قرابة، بل لأنه أحق بالولاية وأولى بها، ولم ينازعه أحد ولايته لأن الأمة التي تشتغل بالحزبيات، وتتنازع على الكراسي، والعدو على الأبواب لا تستحق الحياة.
وأحاط العدو بالمدينة، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقلت الأقوات، وجاءت في خلال ذلك قاصمة الظهر بأن الحلفاء من يهود قريظة، خانوا العهد، وأخلفوا الوعد، وغبت عليهم نجاسة طباعهم، ونذالة أخلاقهم، صفة اليهود أبدا، أينما كانوا وحيثما وجدوا، فلم يفارق محمد ثباته وعزمه، وبعث يتحقق الخبر، وأمر رسوله أن يعلن إن وجده كذبا لتقوي
العزائم، وتشتد الهمم، وإن وجده صدقا لحن له به، ولم يخبر به الناس، لئلا تكون الأسرار العسكرية حديث المجالس، وأسمار السمار.
وأحس بالأمر المنافقون، وما تخلو أمة من (منافقين. . .) ومن دعاة الشر وبغاة الهزيمة، فأعلنوا ما كان مضمرا، و (زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون أن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، أن يريدون إلا فرارا). واجتمع على المسلمين العدو القوي والبرد والجوع وخيانة الحليف وتثبيط المنافق، فقضى رسول الله على (الانقسام الداخلي) وصبر على الحصار، ثم صمد الهجوم، واستعمل كل سلاح، فحفر الخندق، وحارب بالسيف وحارب بالحيلة، فكان الظافر بالحرب الدفاعية، وفي الحرب الهجومية. وفي حرب السياسة، وفي حرب الأعصاب. وكان له النصر المؤزر.
واذكروا بعد ذلك كم جزنا من امتحان، وكم نجونا من خطوب. يوم كر علينا الشرق كله بهمجيته وكثرته وقسوته جيوش التتر يقودها الكلب الكلب: هولاكو. فمرت كالسيل الحاطم، فاجتاحت دول الإسلام (وما كان ينبغي أن يكون للإسلام إلا دولة واحدة)؛ حتى إذا عبثت بالخلافة، وداست بغداد، وفعلت في دنيا المسلمين الأفاعيل، ولم تبق منها إلا ولايات متباعدات ضعيفات. وقف لها شيخ واحد. شيخ لم يتخذ الدين سلما للدنيا، ولا الصلاح شبكة للمال. ولم يكن همه مشيخة يزهى بها، ولا ضياع يقتنيها، ولا سيارة يركبها. ولا وضيفة يحظى بها. لم يكن يمد يده للناس يقول قبلوها وإملأوها مالا، ولا يقول تصدقوا بأموالكم ليأخذ هو الصدقات، قد احتقر الدنيا في جنب ما عرف من نعيم الآخرة، وهان عليه أهلها ملوكهم وسوقتهم لما وقر في نفسه من عظمة الله شيخ اسمه العز بن عبد السلام.
أثار هذا الشيخ مصر، حتى انتصر جيش مصر الضعيف على جيوش التتر القوية، وحفظ الله به في عين جالوت الدين والدنيا، وأنقذ به الإسلام والحضارة. وما انتصر جيش مصر إلا بالإيمان الذي أثاره في النفوس هذا الشيخ.
واذكروا يوم كر علينا الغرب كله. يقذفنا بالجنود من كل لون. ويرمينا بالأسلحة من كل
نوع. وكنا دويلات وإمارات متخاذلات متقاتلات. فنصرنا الله على الغرب كله برجلين اثنين وما انتصرا إلا بالإيمان والإخلاص، وان تركة صلاح الدين الأيوبي بطل الدنيا، كانت ستة عشر دينارا، لم يورث غيرها!
يا أيها المستمعون جميعا، سألتكم بالله: انسوا لحظة واحدة جاهكم ومطامعكم، وحبكم وبغضكم، ومشاغل بيوتكم وأسواقكم وفكروا في نفوسكم، فيما كان عليه أجدادكم، وما انتهت إليه حالكم. هل صنعتم مثلما صنع النبي يوم الخندق، هل عندكم اليوم مثل الملك صلاح الدين. هل لديكم مثل الشيخ عز الدين هل أعددتم لليوم العبوس عدته. هل أحسستم إلى هذه الساعة إنكم في حرب؟
يا ناس!
هل تعيش أمة في الحرب مثلما كانت تعيش في السلم. لا تنقص شيئا من لهوها وتبذيرها وغفلتها، وأضاعتها أموال العامة وأموال الخاصة فيما لا ضرورة له، ولا جدوى منه، وأنفاقها في (الكماليات) التي يذهب ثمنها إلى عدوها، فيرجع إليها رصاصا وقنابل تنزل على دورها وصدورها؛ هل تختلف أمة على الصغائر، وتتنازع على المناصب، والعدو قد غشيها في أرضها؟ هل ينفق في الأمم الحية المحاربة قرش واحد إلا في شراء النصر؟
يا ناس!
إني أكون خائنا لديني ولأدبي إذا أنا غششتكم في يوم هجرة نبيكم، أو كتمت الحق عنكم. إنكم طالما تنكرتم لدينكم ونسيتم أقداركم، واحتقرتم نفوسكم، وأضعتم سلائفكم الخيرة، وخلائقكم النبيلة، في تقليد الأوربيين في التافه من شئونهم، وفي إعظام الأوربيين والرعب منهم. ولا سبيل لكم إلى النصر إلا بان تعودوا فتتخلقوا بأخلاق النضال التي خلق بها أجدادكم نبيكم، اجلوا كل اختلاف بينكم إلى نهاية هذه الحرب، وأرجئوا كل نفقة لا ضرورة لها، ولهو لا داعي إليه. وواجهوا العدو صفا واحدا، وقلبا واحدا، قد وقفتم على الظفر قواكم كلها وأموالكم، واعلموا أنه لن ينفعكم والله منصب ولا مال، أن تركتم عدوكم يقوى بضعفكم، ويشتد بتخاذلكم، ويزيد بنقصكم
إن الدنيا مقبلة على غمرات سود، ومرتقبة أحداثا جساما، وستكون معركة لا مخرج منها إلا البطل. فيا أيها العرب: تيقظوا وتنبهوا وثقوا بربكم وعودوا إلى خلائقكم. واعرفوا
أقداركم، واعتمدوا على نفوسكم، وأيقنوا (إن فعلتم) إنكم منصورون منصورون منصورون. . .
يستحيل أن تغلبكم كلاب يهود!
علي الطنطاوي
(دمشق)
الشهيد
للأستاذ محمود الخفيف
رأى الموت جهما فما أحجما
…
وأوحى له الكبرُ أن يَبسِما
فتىً همه كان خوض الردى
…
وكم شق موجا له أقتما
وظل على صهوات الحتوف
…
إلى أن هوى، البطل المعلما
فتىً كان في الخَلْق أوفى الخصال
…
كما شاء أن يتناهى الكمالْ
كما اعتدل الرمح عودٌ له
…
وحد الحسام له والصقال
كأن من الصخر قلبا له
…
وكم رفَّ قبلُ لسحر الجمال
فتىً ما درى قط معنى القعود
…
ولا عرفت روُحه من قيودْ
له همة أن تداعى الرجال
…
يقصر عنها العُقابُ الصَّيود
على اللهو ضنَّ بأيامِه
…
وبالدم في كل يومٍ يجود
له دعوة المجد أشهى نشيد
…
وأحلى الغناء رنينُ الحديدْ
إذا ساورته طيوف الإيمان
…
مشى للمنايا بعزمٍ جديد
وإن باح صَبٌ بأحلامه
…
عن النصر حُلماً له لن يحيد
فتىً كان في السلم حلو الشباب
…
وإن كان مراً غداة الضراب
وضيئ المحيا ترى كبْرَهُ
…
وقد مازجته السجايا العِذاب
إذا الليل ضجَّ بِسُمَّارهِِ
…
توقدَ روحٌ له كالشهاب
وإن عصف الرأي كان الأريبا
…
وكان الرفيق البليغ الأدب
وإن ندبَ الناسُ للصالحات
…
تردَّي من الفضل ثوباً قشيبا
فتىً أكمل الحب أوصافَه
…
فبات إلى كل قلب حبيبا
وكم رشقته سهام الجفون
…
وأومأ حيث استوى السامرون
وقار البطولة في ناظريه
…
وإِن ضجَّ في مسمعيه المجون
وتصحو له ناعسات العيون
…
ويغفو فما مسه من فتون
فتىً كان وهو الأبيُّ الطليق
…
أسيرَ هوى قلبه لا يُفيقْ
وكم ذاقَ من نْشوَةٍ قلبُه
…
وكمْ ذاق مثلَ عذاب الحريق
وعف هواهُ فما اعتاقه
…
إلا صدَّهُ عن سواء الطريق
وهام بها زهرة ناضره
…
أسيرته وله آسرة!
ويعصي الضلالة في حبها
…
وتوحي هداه له الساحرة!
وفي كل طُهرٍ يرى وجهها
…
وينشق أنفاسها العاطرة
فتىً عرفتهُ السهولُ الفِساَحْ
…
فكم هام فيها يحِّيي الصباحْ
ويملأهُ السهلُ حُريةً
…
وتوحي إليه الرواسي الطماح
وكم أبهجتهُ مجالي الضحى
…
ولذ الأصيلُ له في الرَّواح
وكم راعهُ مهرجانُ الربيع
…
وأسكرهُ كلُّ لحنٍ بديع
وأوحى له الخُلْدَ مِنْ عيشه
…
مُنىً ناضرَاتٍ وشملٌ جميع
عصىٌّ على الرحْسِ مستكْبِرٌ
…
خفيفٌ إلى كل حُسْنٍ مطيع
وكم كان يأمل فيه الأمل
…
ويرصدُ من عزمه ما أكتمل
وشيخ أب كم تأسي به
…
وأم دعا قلبها وابتهل
وتُلقى على غده أمَّةٌ
…
رجاها وترقب فيه البطل
أجاب إلى الموت داعي الفداء
…
وجن اشتياقا ليوم اللقاء
وخاض المنايا على هولها
…
وأوغل في حرها كيف شاء
وكيف تعاف الردى نفسه
…
وفي مصرع الحر أقوى البقاء؟
وكم بعث الموت من عاصفة
…
بها الأرض من حوله راجفة
وكم جن فيها جنون القتال
…
وزلزل من أنفسٍ واجفة
وكم أقدم البطل المستميت
…
ومن فوقه رعدةٌ قاصفة
وكم بات تنزف منه الجراح
…
وأناته أغنيات الكفاح
ويغفو وفي نفسه ومضة
…
تريه المنية نصراً يتاح
فبالموت يحيا موات النفوس
…
وتنبعث العزمات الصحاح
(البقية في العدد القادم)
الخفيف
لطمة على خد.
. .
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 1 -
هذا المجلس الحافل بأسباب الأنس والمسرة، الحالي بالزهر والريحان، وبالقيان والندمان على الربوة المعشبة الظليلة في أعلى (اليرموك) - قد حان أن يطوى بساطه فليس فيه بعد اليوم أنيس ولا سامر. . .
وهذه الأباريق في أيدي السقاة المرد يطوفون بها على ندمان الملك ليفرغوا في كاس كل نديم جرعة من خمر وفي قلبه لذعة من جمر - يوشك أن يفرغ ما فيها من الشراب وتفرغ منها أيدي السقاة والندمان. . .
وهذه الأقداح المترعة في أيدي القوم تتلامس حافاتها كان رنينها ضحكات غانيات سكارى - قد حان أن تتحطم ويراق ما فيها من الشراب فتنتشى الأرض ويصحو السكارى. . .
وهذه النمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكراسي المنضودة عن يمين صاحب العرش وشماله - يوشك أن ينتثر عقدها ويشت جمعها، فليس في أعلى (اليرموك) بعد اليوم عرش ولا تاج ولا صاحب سلطان، وتغدو (مملكة غسان) ذكرى، ويخمل ذكر (جبلة) وآباء جبلة من ملوك قحطان في الشام. . .
كذلك كان (جبلة بن الأيهم) ملك غسان يحدث نفسه وأصحابه من حوله يخالسونه نظرات خاشعة فيها قلق وريبة، قد جمدت في أيديهم أقداح الشراب فلا تدنوا منها شفة، وأعولت في آذانهم رنات المثاني والعيدان فلا تهتز لها نفس هزة طرب، وعبقت أرواح العطر والبخور في جو المجلس خانقة، فلا يكاد ذو نفس من ندامى الملك يملأ رئتيه. . .
أكان قلقهم وانقباضهم لأنهم يعلمون ما تجيش به نفس الملك في تلك اللحظة من الخواطر السود، أم كان ذلك لأنهم لا يعلمون. . .؟
وكانت جارية عاطفة على عودها في صدر المجلس تداعب أوتاره بأنامل رخصة وهي تغني من شعر حسان:
لله درُّ عصابة نادمتهم
…
يوماً يحلُق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهمو
…
بَرَدى يصفِّق بالرحيق السلسل
أولاد جفنى حول قبر أبيهمو
…
قبر ابن مارية الكريم المفْضل
يُغشوْن حتى ما تهرُّ كلابهم
…
لا يسألون عن السواد المقبِل
بيض الوجوه أعفَّة أحسابهم
…
شُمُّ الأنوف من الطراز الأول
ورفع الملك رأسه وهتف في صوت تتبين فيه مرارة اليأس والأسى:
- حسبك يا فتاة!
وخيم الصمت على المكان، وتعلقت بالملك عيون ندمانه وبطانته؛ وسلل القيان والغلمان واحدا اثر واحد ليهيئوا للملك وأصحابه خلوة ليست كما ألف الملك وألفوا من خلوات الأنس والسعادة. . .
وانحدر الملك على سريره ليقتعد الأرض، ووضع عن رأسه تاجه، وانحدر أصحابه عن كراسيهم وجلسوا بين يديه، وقد أيقنوا أن أمرا ذا بال يوشك أن يحدث أو يسمعوا نبأه. . .
ومضت فترة صمت قبل أن يبدأ الملك حديثه إلى نداماه من أشراف غسان ولحم وجذام؛ ثم نطق:
قد علمتم يا بني العم ما كان من أمر العرب والروم في هذه الأرض، فليس لأصحاب (هرقل) بعد اليوم مقام في الشام بعد أن غلبهم هؤلاء العرب النازحون من البادية على أرضهم وديارهم، وأجلوهم عن أركة، وتدمر، وحوران، وبصرى، ودمشق، واجنادين، وأذاقوهم الهوان عند (اليرموك) وفي حمص وتوشك أن تسقط في أيديهم حلب وقنسرين في الشمال، وبيت المقدس في الجنوب. .
وصمت الملك برهة، وهو يجيل عينيه فيمن حوله، ثم استأنف:
وقد علمتم يا بني العم ما كان لنا من الجاه والسلطان في هذه البقاع، حيث أقمنا لأبناء غسان في الشام عرشا لم يزل يتوارثه آباؤنا ملك عن ملك منذ قرون حتى آل إلينا، لا العرب من أبناء عمومتنا في المشرق يطمعون أن ينالوه، ولا الروم في الشمال؛ فكانت مملكة الغساسنه هي الحجاز بين العرب والروم، وهي لهؤلاء وأولئك سوق التجارة، وموئل السلام والحضارة، قد سالمنا العرب لأنهم اخوتنا في النسب، وشركاؤنا في التجارة، وسالمنا الروم لأنهم منا حيث علمتم من الحلف والمودة، قد رضوا منا بالإتاوة ندفعها كل عام إلى قيصرهم في القسطنطينية، وبالكتيبة من شبابنا يحاربون معهم تحت رايتنا إذا احتاجوا في
بعض حروبهم إلى المدد والمعونة؛ ولم يكن يدور في وهمي يا بني العم أن تسخر المقادير منا ومن حلفائنا الروم سخريتها هذه الأليمة؛ فنصبح ذات يوم لنرى عرب المشرق قد دخلوا علينا الشام من أقطارها وباتوا يهددون عرش الغساسنة وعرش قسطنطين في وقت معا؛ ولكن كل ذلك قد كان ولم يكن لنا لدفعه يدان!
قال كبير القوم:
وقاك الله يا مولاي وجنبك العوادي، أن بيننا وبين العرب ما نعلم من النسب، ومن حسن الجوار والمودة؛ وقد علمنا إلى ذلك انهم لم يطرقوا ديارنا غزاة ولا فاتحين، ولكنهم أهل دين يدعون إليه، وأصحاب كتاب يؤمنون بما فيه؛ قد آمنوا بموسى وعيسى ومحمد؛ فليس بينا وبينهم من أسباب الخصام إلا أن نؤمن بما آمنوا، وقد سبقناهم إلى النصرانية، حين كانوا غارقين في الوثنية يتعبدون لآلهة من طين؛ فلا علينا إذا سبقونا إلى الوحدانية وثبا أن نتبعهم ونؤمن بنبيهم؛ فإن ذلك خليق بأن يجتث بيننا وبينهم أسباب الخصام والعداوة، ولأن ندفع الإتاوة لملك عربي من أبناء عمومتنا في يثرب، خير من أن نكون خولا لقيصر الروم في القسطنطينية؛ وإني لآمل يا مولاي أن يكون جبلة بن الأيهم في الإسلام أعز سلطانا منه في الجاهلية ويتسلسل الغساسنة في أبنائك وأحفادك على عرش الشام إلى يوم الدين!
ورفت ابتسامة على شفتي الملك وهو يقول:
هو ما قلت يا أبن العم؛ وإنما بدأت الحديث معكم رجاء أن ننتهي إلى ذلك الرأي؛ فقد عزمت منذ اليوم أن اكتب إلى عمر، أمير المؤمنين في يثرب، اعلمه بذلك وأستاذنه في القدوم عليه مسلما. . .
- 2 -
كان مقدم جبلة بن الايهم إلى المدينة يوما مشهودا، قد احتشد له الخلق من كل فج ليشهدوا موكب الملك الغساني في أبهته وسلطانه، قد لبس ثياب الوشى منسوجا بالفضة والذهب، وعلى رأسه تاج الغساسنة تتضوا خرزاته تحت الشمس، ويتدلى منه قرط مارية جدته الذي تتحدث به أمثال العرب، وقد تكنفه عن يمين وشمال، وأمام ووراء، خمسمائة من فرسان عك وجفنة، يلبسون مثله ثياب الوشى، وتلمع على رؤوسهم بيضاتهم، وتبرق مقابض
السيوف في أيديهم.
موكب لم تشهد المدينة مثله منذ كانت، فلم يبق بها يومئذ أحد إلا خرج يتفرج، حتى النساء والصبيان، وحتى الشيوخ والعجزة؛ صورة فريدة من أمجاد غسان، أو هي صورة من أمجاد الإسلام في مطلع فجره لم يزل يتحدث عنها التاريخ حتى اليوم، والى الغد، والى الأبد!
والتقى جبلة بن الايهم وعمر بن الخطاب، وشهد ملك غسان أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله.
وأقام جبلة بالمدينة حتى جاء موسم الحج، فاعد عدته للرحلة إلى مكة ليؤدي الفريضة المكتوبة.
- 3 -
في صعيد مكة - حيث يلتقي المسلمون كل عام من مشارق الأرض ومغاربها يطوفون بتلك البنية التي أقامها إبراهيم واسمعيل منذ القدم - لا يتبين ملك من سوقه؛ كل الطائفين عراة إلا من إزار غير مخيط يستر أبدانهم، ليس على رؤوسهم تيجان ولا عمائم ولا قلانس، حفاة إلا من خفاف لا تستر الأقدام من ظاهر، حشود هائلة قد وفدت من الشام واليمن، ومن عمان والبحرين وحضرموت، ومن مصر وبلاد البربر، ومن المدائن والقادسية، ومن وراء الجبال والرمال والبحار الصاخبة بالموج؛ لا عربي في ذلك الحرم ولا أعجمي، كلهم مسلمون يدينون بهذا الدين الواحد، هو (جنسهم) حين ينتسبون، وهو رباط قلوبهم حين يلتقون وحين يفترقون، تحيتهم حين يلتقون سلام، وحديثهم تلبية وتسبيح، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
مشهد عميق الأثر، بليغ الدلالة على أسمى معنى من معاني الإخاء والمساواة والمحبة. . .
وكان جبلة الغساني يطوف مع الطائفين حول البيت، عاري الرأس ليس عليه تاج ولا ديباج، إلا إزارا غير مخيط قد لف جسده وتدلى عن كتفيه وانجر وراءه. . . وعن يمينه وشماله، وقدامه ومن وراءه، آلاف من الطائفين قد ائتزروا مثل إزاره، يتزاحمون بالمناكب ويطأ بعضهم أقدام بعض، ولهم ضجيج وعجيج وهتاف باسم الله صاعد إلى السماء. . .
وتعثر جبلة في زحمة الطائفين وهم أن يقع، حين وطئ إزاره طائف من فزارة فحله،
وحمى انف الملك الغساني فالتفت وراءه مغضبا ليرى الفزارى الذي وطئ إزاره، فبربر بزيرة أصحاب السلطان ولطم انف الفزارى فهشمه. . .
وعبرت لحظة اضطراب لم تطل، ثم استأنف الحجيج طوافه وهتافه؛ لم يقطع ضجيجهم وعجيجهم إلا صيحة هاتف مستصرخ: واعمراه!!
واستمع عمر إلى دعاء المستصرخ فدعاه إليه. . .
من أنت يا رجل؟
امرؤ من فزارة. . .
وما دعاك إلى الصراخ في بيت الله وحين طواف الحجيج؟
طائف من الطائفين لطمني فهشم انفي أسال دمي!
أتعرفه؟
لا اعرفه اسما ولكني اعرفه صفة. . .
إذا نقيدك منه!
ووقف الفزارى والى جانبه غلام عمر يتصفحان وجوه الناس حين منصرفهم من الطواف، حتى مر جبلة فأشار إليه الفزارى: هو ذاك!
وسيق ملك غسان إلى مجلس أمير المؤمنين عمر، فأوقف بين يديه ووقف الفزارى يحاذيه كتفا إلى كتف. . .
ماذا تقول يا أخا فزارة!
هذا لطمني فهشم انفي!
وما تقول يا جبلة؟
أنه وطئ إزاري فحله، فلولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه!
قال عمر مخضبا:
على رسلك يا جبلة! أما أنت فقد أقررت، فأما أن ترضيه وأما أقدته منك!
أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة!
يا جبلة، أنه قد جمعك وإياه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى!
رويدك يا عمر، لقد - والله - رجوت أن أكون في الإسلام اعز مني في الجاهلية؛ وقد
كنت من لشرف والمهابة في الجاهلية حيث علمت!
ني لأرجو لك من العزة بالإسلام ما ترجوه لنفسك ولكنه أخ مسلم يطلب قودا من أخ مسلم!
إذا أعود إلى النصرانية. . . لا يلطمني بدوي بوال على عقبيه!
أن تنصرت ضربت عنقك!
انطبقت شفتا جبلة على كلام كثير لم يلفظه، على حين ارتفعت أصوات كثيرة من وراء.
أولئك شيعة الفزارى وقوم جبلة يتلاحون حتى توشك أن تقع بينهم فتنة.
وغامت سحابة من الهم على جبين الملك، وصمت برهة ثم نطق:
أخرني إلى غد يا أمير المؤمنين.
لك ذلك يا جبلة!
- 4 -
لم ينكر أحد في البادية أمر تلك القافلة التي تعد السير في جنح الليل متجهة إلى الغرب؛ ليس في سمات هذا الركب ما يبعث الريبة. . . جماعة من البدو أو من الحضر على ظهور دوابهم، قد جعلوا يثرب وراء ظهورهم إلى غاية يقصدونها، وما أكثر قوافل البدو والحضر على ذلك الطريق في تلك الأيام. لعلهم بعض المتطوعة يقصدون إلى الشام مددا للمجاهدين، أو لعلهم بعض التجار. . . لم يخطر في وهم أحد رآهم انهم أشراف لخم وجذام وغسان، وان معهم جبلة بن الايهم، صاحب القرط والتاج وعرش جلق الفيحاء. . .
وانتهت القافلة إلى تخوم الروم، ثم استأنفت السير إلى القسطنطينية. وفي ضيافة قيصر، أقام جبلة بن الايهم، آخر ملوك غسان، عزيزا مكرما، قد اقطعه القيصر قصرا ملوكيا، وأوقف على بابه القهارمة والحجاب والعدد الجم من الرجال والفرسان؛ وفي مجلسه من ذلك القصر الملوكي كل ما تتوق إليه نفس من أسباب الترف والبهجة، وكل مظاهر العز والسلطان. ملك له عرش وتاج، وقهارمة وحجاب، ووزراء ومستشارون؛ ولكن حدود مملكته لا تتجاوز جدران قصره؛ وماذا يعنيه أن تكون مساحة مملكته، مادام له مجلسه وعرشه وتاجه وكل من حوله يأتمرون بأمره ويعنون بسلطانه وما هي أبهة الملك إلا ذاك؟. . .
وترادفت السنون، وانبسط ملك العرب في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، حتى
تآخوا الروم في صميم بلادهم. . .
ووفد رجل من أصحاب عمر بن الخطاب إلى القسطنطينية ذات يوم رسولا إلى قيصر في شان مما يتراسل من اجله الملوك، فرغبت نفس الرجل في زيارة جبلة في قصره ذاك؛ فلم يزل يتلطف في الإذن حتى أذن له. . . فدخل إليه مجلسه. . . ورأى رجلا أصهب ذا سبال، وكان عهده بجبلة اسمر اسود اللحية والرأس؛ فلما نظر إليه أنكره، ثم عرفه ذلك أن جبلة دعا بسحالة الذهب فذرها في لحيته حتى عاد أصهب، وكان قاعدا على سرير من قوارير قوائمه أربعة اسود من ذهب. فلما عرف جبلة الرسول رفعه معه إلى السرير، وجعل يسأله عن المسلمين، وعن عمر، وعما فتح الله على المسلمين من البلدان والممالك، والرسول يجيبه عن كل ما يسال، وجبلة يسمع وشفتاه تختلجان، وعلى وجهه تتعاقب ألوان. . .
ثم أومأ جبلة إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعا، وإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت، ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة، فأكل جبلة وأكل ضيفه، فلما رفع الطعام جئ بطاس الفضة وأباريق الذهب، فغسلوا أيديهم؛ ثم أومأ جبلة إلى خادم بين يديه، فمر مسرعا، وإذا خدم معهن الكراسي مرصعة بالجوهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم اقتربت أصوات ناعمة، وإذا عشر جوار مطمومات الشعر متكسرات في الحلي عليهن ثياب الديباج لم ير مثل جمالهن ذو عينين، فأقعدن عن يمين الملك، ثم اقتربت أصوات ناعمة، وإذا عشر جوار أخرى، فأجلسن على الكراسي عن يساره، ثم سمع صوت رقيق فاتن، وإذا جارية كأنها الشمس حسنا، على رأسها التاج، وعلى ذلك التاج طائر ذو جناحين، وفي يمناها جامة فيها ماء ورد، فأومأت الجارية إلى الطائر، فطار عن رأسها حتى وقع في جامة ماء الورد، فاضطرب فيه لحظة؛ ثم أومأت إليه ثانية، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه من ماء الورد على التاج؛ وابتسم جبلة، ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يمينه، فأندفعن يتغنين: يخفقن بعيدانهن ويقلن من شعر حسان:
لله در عصابة نادمتهم. . . . . . . . . . . .
ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فإندفعن يتغنين:
لمن الدار أقفرت بمعان
…
بين أعلى اليرموك فالصمان
ولمعت دمعتان في عيني جبلة، ثم انحدرتا حتى توارتا في لحيته، واختلجت شفتاه أختلاجة هم واسى. قال له ضيفه العربي دهشا:
أتبكي يا جبلة وأنت من هذا النعيم فيما لا يخطر على قلب بشر؟!
قال جبلة وقد تتابعت عيناه:
هيهات هيهات يا أخي؛ تمنيت لو لم يكن كل هذا كان وعشت بين العرب واحدا من قومي!
قال صاحبه:
ويلطمك فزارى على انفك فيهشمه كما هشمت انفه!
ويلطمني فزارى على انفي أو يلطمني عمر؛ فذاك اعز لي من شتات داري وجوار غير أهلي. . .
ثم غلبه مدمعه، وحضرته أيشجانه؛ فراح ينشد:
تنصرت الأشرافُ من عار لطمة
…
وما كان فيها لو صبرت لها ضررْ
تكتَّنفني منها لجاجٌ ونخوة
…
وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
…
رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة
…
وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة
…
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر!
- 5 -
قال عمر، وقد عاد إليه رسوله من القسطنطينية فوصف له ما رأى وما سمع:
رجوت أن يشرح الله صدره للإسلام ويفئ إلى الخير؛ فهلا منيته - لو أناب إلى الله - بأن يكون في الإسلام عزيزا ممتنعا؟
أحسبه - يا أمير المؤمنين - أهلا للإنابة والفئ إلى الله، لو ضمن أن يكون له في الإسلام عرش وتاج، وان يزوجه أمير المؤمنين إحدى بناته ليكون له إلا الإمارة سبب!
فابتسم عمر وقال:
أما صهري فهو - والله - كفء؛ وأما الإمارة فوددت لو أنه علم أنها ليست مغنما يرجى ولكنها تكليف يفدح. اذهب إليه عن أمري فادعه إلى الحضور على شرطه!
وعاد الرسول من حيث أتى يريد جبلة في قصره بالقسطنطينية ليبلغه رسالة عمر، ولكنه لم يكد يبلغ حاضرة الروم حتى لقي الناس قافلين من تشييع جنازة جبلة بن الأيهم!
ومات آخر ملوك الغساسنة على الجاهلية وغلبته شقوة الأبد؛ ترفعا بنفسه عن المساواة برجل من قومه!.
محمد سعيد العريان
عبقرية محمد الإنسانية
للأستاذ أنور المعداوي
إنسان عظيم. . . وذلك اصدق ما يقال فيه وغاية ما يقال.
محمد الرسول في مواقف الرسالة، ومحمد البطل في مواقف البطولة، ومحمد الصديق في مواقف الصداقة، ومحمد الوالد في مواقف الأبوة، ومحمد في كل موقف من مواقف العبقرية يحتل من نفسي مكانا لا يدانيه مكان. . . ولكن جانبا من جوانب هذا العظيم الذي يعلو أبدا فوق مستوى الأقران والنظراء، يهزني هزا عنيفا، كلما تمثلته في طوايا الخاطر أو بعثته من ثنايا الشعور؛ ذلك هو محمد الإنسان!
قد ينظر غيري إلى الجانب الإنساني في حياة الرسول من خلال المنظار الذي ألفه الناس، حيث يتخيلون الإنسانية مجموعة فضائل يجوز أن يشترك فيها العظيم وغير العظيم. . . هذا المنظار الذي ينظر من خلاله إلى إنسانية محمد ممثلة في الرحمة والمودة والألفة والإيثار والعطف، لا يهدئ لصاحبه أن يضع يده على مفتاح هذه الشخصية الفذة في حقيقتها البعيدة، هناك في اعمق الأعماق وأبعد الأغوار.
إنسانية محمد لا توزن في رأيي بذلك الميزان الذي يقام لكل رجل يمكن أن تجتمع فيه تلك الصفات، لتضع بعد ذلك في مواجهة اسمه كلمة (إنسان). . . وإنما توازن الإنسانية في هذا العظيم بميزان اللحظة النادرة من لحظات حياته، حين يقف وحده متفردا في مجال يعز فيه التفرد على كل شبيه وكل نظير. وما أكثر اللحظات النادرة في حياة محمد الإنسان!
أنا أريد أن انظر إلى عبقرية الإنسانية في شخصية الرسول من خلال منظار آخر؛ منظار يحدد الزوايا التي تفترق في المشهد الإنساني عن نظائرها فيما تعارف عليه الناس. . . إذا قلنا أن محمدا إنسان لأنه رحيم فما أكثر الرحماء، وإذا قلنا أنه إنسان لأنه وفي فما أكثر الأوفياء، وقل مثل ذلك في سماحة الطبع والمودة والألفة والإيثار والعطف؛ فما أكثر ما كان يملك أصحابه من كل هذه الفضائل والسمات. . . ولكن محمدا كان يفترق عنهم جميعا في هذا المجال؛ مجال المفاضلة بين (الإنسان) في صفاته العليا التي تقررها موازين القيم والأوضاع، وبين (الإنسان العظيم) في صفاته المثلى التي يعجز عن تقريرها موازين القيم والأوضاع!
محمد الإنسان النادر لا يوزن إلا بميزان يبحث عن الندرة الخلقية التي تضعه وحده في كفة، وتضع في الكفة الأخرى ما شاء لها أن تضع من الناس. . . ولن يتهيأ للباحثين أن ينفذوا إلى أغوار حقيقته الإنسانية، إلا إذا وقفوا طويلا أمام تلك المشاهد الذي تعرض لهم نماذج من حياة ذلك القلب العظيم؛ نماذج لا تتعدد منها الصور وتتكرر الألوان.
سأنظر إلى محمد الإنسان على ضوء اللحظة النادرة من لحظات حياته؛ تلك التي قلت عنها أنه يقف فيها متفردا حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير. لحظات (الضعف الإنساني) في حياة الرسول هي وحدها دون غيرها التي تهدي السالكين إلى معالم الطريق؛ طريق الوصول إلى حقيقته الإنسانية. . . وانه لضعف الأقوياء والقادرين حين يشرفون على الدنيا من أعلى قمة من قمم الأخلاق، ليخفضوا للناس جناح الضعف من الرحمة.
هذا (الضعف الإنساني) في حياة محمد ناتج من كونه إنسان اعظيما قبل أن يكون نبيا عظيما يحمل مشعل الهداية إلى جيل من بعده أجيال. . . أن الرحمة في موضعها أمر لا غرابة فيه؛ ولكن الرحمة في غير موضعها أمر تكتنفه الغرابة من كل نواحيه. وهكذا كان محمد: فهو في موقف الرحمة حيث تطلب الرحمة (رجل عظيم) ولكنه في موقف الرحمة حيث لا ينتظرها أحد (إنسان عظيم). وهذه هي اللحظة النادرة التي لا يشاركه أحد فيها من الناس، لحظة (الضعف الإنساني) المنبعث من غلبة الإنسانية على طبيعته وتغلغلها في كل خليقة من خلائقه! وهي التي يسميها الباحثون رحمة دون أن يفرقوا بينها وبين الرحمة التي يقدم عليها غير العظيم أو يقدم عليها العظيم وهو غير إنسان. يقول الأستاذ العقاد في معرض الحديث عن إنسانية محمد:(النبي لا يكون رجلا عظيما وكفى. بل لابد أن يكون إنسان اعظيما فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيؤه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم. فيكون عارفا بها وان لم يكن متصفا بها، قادرا على علاجها وان لم يكن معرضا لأدوائها، شاملا لها بعطفه وان كان ينكرها بفكره وبروحه؛ لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد، واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء؛ لأنه يملك مثلها آفاقا كآفاقها، هي آفاق الروح).
هذه الكلمات التي يسوقها الأستاذ العقاد عن محمد الإنسان تنطبق كل الانطباق على (الرجل
العظيم) لا على (الإنسان العظيم). . . لأن الرجل الذي يشمل الناس بعطفه، ثم يفسر هذا العطف على أنه أكبر من أن يلقى الأمور لقاء الأنداد واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة؛ هذا الرجل إذا وضع في الميزان صاحب طبيعة خلقية تنبع فيها الرحمة من منابع الرحمة النفسية تلك التي تنظر إلى كل شيء نظرة القمم إلى السفوح أو نظرة الكبير إلى الصغير. . . وفرق بين رحمة يفرضها على صاحبها التعاظم والكبرياء، ورحمة يفرضها التواضع الموصول الروابط بالإنسانية في أوسع آفاقها، وأرفع مزاياها.
أما قول الأستاذ العقاد بأن محمدا لا بد أن يكون إنسان اعظيما لأنه نبي عظيم، فهو في رأيي لا يثبت ولا يؤكد إنسانية محمد في كثير ولا قليل، لأن محمدا كان إنسان اعظيما بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس، والدليل على ذلك من تاريخ حياته مهيأ ميسور لكل من يلتمس الدليل. . . وذلك أمر لا ريب فيه ولا جدال!
بعد هذا نعود إلى المجال الذي يجب أن يبحث في رحابه عن محمد الإنسان، مجال اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني) في حياته! هناك حيث تبدو الرحمة في غير موضعها لترفع الغطاء عن حقيقة هذا الإنسان العظيم:
مات عبد الله بن أبي، زعيم المنافقين في عهد الرسول، ورأس الفتنة التي كانت تنشر سمومها في صفوف المسلمين، عبد الله بن أبي الذي لم يسلم محمد من كيده وشره ولسانه، عبد الله بن أبي الذي نزل فيه وفيمن على شاكلته حكم السماء:(استغفر لهم؛ أولا تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). . .
مات هذا المنافق فصلى عليه محمد بعد موته، ثم تخلى لأهله عن قميصه ليكفنوه فيه! ثم يقول لعمر حين يعتب عليه عتابا بلغ حد التعنيف والإنكار:(أخر عني يا عمر، لو أعلم أني أن زدت على السبعين غفر له زدت)!. . . ثم يقول لمن يسأله لم دفعت إليه بقميصك وهو كافر: (أن قميصي لن يغنى عنه من الله شيئا، وإنني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثيرا بهذا السبب)!. . . ولم يلبث محمد إلا قليلا حتى سمع رأى السماء: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)!
هذا هو محمد الإنسان متفردا في مجاله، متوحدا في فضائله وأعماله. . . لقد كان قادرا على قتل عبد الله بن أبى، ولكنه لم يفعل، وكان قادرا على أن يشيعه باللعنات ولكنه لم
يفعل، لأنه إنسان. . . إنسان يتسع قلبه للدنيا بما فيها: من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من إيمان ونفاق، من وفاء وتنكر للوفاء. ويتسع للدنيا بمن فيها: سواء أكان فيها عمر بن الخطاب، أم عبد الله بن أبى، أكان فيها على زوج ابنته فاطمة، أم هبار بن الأسود قاتل أبنته زينب!. . . هذه هي اللحظة التي تتجلى فيها الندرة في الطبيعة الخلقية؛ (لحظة الضعف الإنساني) الذي يدفع الرسول الكريم إلى لون فذ من الصفح والرحمة؛ هناك حيث يأتي الصفح والرحمة على غير ترقب وانتظار. . . أن الرحمة كما سبق أن قلت حين تأتي في موضعها تكون سمة من سمات (الرجل العظيم)، ولكنها حين تأتي في غير موضعها كما حدث هنا تكون سمة من سمات (الإنسان العظيم)، وفي هذا النطاق تجد محمدا ولا تجد سواه! ويدفعنا ذكر هبار بن الأسود إلى أن نورد هنا شيئا من قصته، فيها لحظة أخرى من لحظات التفرد في عبقرية محمد الإنسانية. . . كانت زينب بنت الرسول في طريقها من مكة إلى المدينة، تلبي دعاء الشوق الأبوي المنبعث من قلب أبيها العظيم، وكان برفقتها نفر من أهله وصحبه ليكونوا لها ملاذا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، ولكن قطاع الطريق ممن خرجوا على طاعة الرسول وكلمة السماء قد اعترضوا طريق القافلة المؤمنة والركب الآمن، لتتندى رمال الصحراء بعد قليل بأطهر دم سال على رمال الصحراء. لقد كان دم زينب أراقته رمية رمح من يد الجارم الآثم هبار بن الأسود؛ وحين يبلغ الأمر محمدا الوالد يتلقاه كما يتلقى الآباء مصارع الأنباء؛ بالحزن العميق والأسى الدفين، واللوعة التي تهز في القلب الكبير مكامن الألم والعذاب!. . . ويهدر محمد الزعيم دم هبار بأي مكان وجد، وبأي بلد نزل، وبأي حي من أحياء العرب أو العجم حل متخفيا أو سافرا بغير قناع. وينطلق أصحاب محمد في اثر ابن الأسود لا يتركون فجا من فجاج الصحراء ولا بقعة من بقاع الأرض، ولكنهم يعودون صفر الأيدي من ذلك المعتدي الأثيم. . . ويعود الوالد المفجوع إلى حزنه وأساه!
وفي يوم من الأيام التي لا تنسى في حياة الرسول يقتحم مجلسه رجل يخفي وجهه تحت لثامه؛ رجل لا يملك عينيه من الدمع، ولا قلبه من الوجل، ولا لسانه من طلب الصفح والمغفرة وينظر الإنسان العظيم إلى هذا الذي يستجير به ويفزع إليه فيجده قاتل ابنته هبار بن الأسود، يدفع إليه برمحه ليصنع به ما صنع بزينب جزاء ما اقترفت يداه!. . . وهنا
يختفي محمد الوالد المفجوع في اعز ما يملك من دنياه، ول يبقى إلا محمد (الإنسان العظيم) في أكرم ذروى من ذرى (الضعف الإنساني)؛ هناك حين يخفض لهبار جناح الضعف من الرحمة. . . وهناك حيث يخرج هبار وقد غفر له. . . وهناك حيث يقف محمد متفردا في مجال الندرة الخلقية حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير!
ولحظة ثالثة وما أكثرها من لحظات. . . لحظة قد يمر بها العجالى فلا يقفون أمامها طويلا ليتأملوها تأمل المغرقين في البحث عن جوهر النفوس ومعدن القلوب، حين يصهرها وهج الرحمة في بوتقة (الضعف الإنساني)؛ ضعف الأقوياء والقادرين!
طفل يموت. . . وما أكثر ما يموت الأطفال وغير الأطفال فيتجلد الآباء أمام شبح الموت ووقع المصيبة؛ لا يترقرق في مآقيهم دمع، ولا يعصف بقلوبهم حزن، ولا يذهب بصبرهم وقدة شعور ملتاع، وقد يكون المفجوعون أناسا لا حظ لهم من مقارعة الخطوب ولقاء الشدائد ومغالبة الأهوال! ولكن موت إبراهيم يهز في نفس محمد كوامن الشجن، ويهز في عيني محمد عصى الدموع، محمد الذي لم تهزه الدنيا بكل ما ادخرته له من محن يرفض منها الصبر وتخور معها العزيمة، محمد الذي توكأت على كتفيه عوادي الزمن يسير وراء إبراهيم متوكئا على كتفي عبد الرحمن بن عوف! ومعذور ابن عوف حين يستكثر البكاء على الرسول وينكر البكاء على الرسول؛ لقد كان ينظر إلى (الرجل العظيم) الذي بكى، ناسيا أن الذي بكى هو (الإنسان العظيم)!. . . ومعذور ابن عوف إذ نظر إلى محمد فوجده يبكي على غير ترقب وانتظار؛ لقد كان عهده به جلدا أمام المصائب، قهار للخطوب، ولكنه نسي لحظات (الضعف الإنساني) التي تكشف عن صدق الإنسانية حين تنتفض من جيشان العاطفة أمام اصعب الأمور وأيسر الأمور.
لحظات (الضعف الإنساني) هي وحدها الميزان الذي توزن به إنسانية محمد دون غيره من الناس. . . وهي هنا لحظات ثلاث، وإنها لقليل من كثير، وما أكثرها على قلتها في حاب الشعور والوجدان.
أنور المعداوي
حداء الركبان
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
مَنْ هؤلاء الصامتون؟ تَكلموا!
…
مَن هؤلاء المحجبون؟ تقَدَّموا!!
ما بالكم تُقضَي الأمورُ بغيركم
…
ويكونُ دونكم القضاءُ ويُبرم؟
تتكلم الأسَلاتُ فوق رؤوسكم
…
وتعج حولكم الوغى وتُدمدم
وتكاد كفُّ الطامعين تصيبكم
…
وتنال ما ترجو المطامع منكمو
الغانمون الأرض بعد محمدٍ
…
أضحوا وهم في كل أرض مغنم
مَن هؤلاء الحائرون. كأنما
…
طال الطريق بهم فلم يتقدوا
فعَلى غوار بهم ضَنىً وتُّهدمٌ
…
وعلى ملامحهم أسى وتجهُّمُ
وكأنهم من سُوء ما صنعتهم
…
أقدارُهم في الكون لم يبتسموا!.
صبراً إذا مشت الرياح بِركبكم
…
وأناخ كلكلَه الزمانُ عليكمو
صبراً إذا الحادي استبان سبيلهَ
…
فإِذا الطريق على الرواحل مُظلم
صبراً إذا انبهر الحداةُ فلا تَري
…
في الركب من يشدو ومن يترنم
هذى سبيلٌ سار فيها قبلَكم
…
مترسم في إِثرِهِ مترسم
غَلبتْ وتَغْلبُ كَّل من سئم السُّرى
…
ويكاد يغلبها الذي لا يسأمُ
ما هذه البيداء أنها
…
تِيْه يضل به الدليل المقدمُ
ما هذه الصحراء إلا أنها
…
ساحٌ يَخُور بها الكمىُّ المعْلمُ
ما هذه المومَات إلا أنها
…
ليل تحاَرُ به النجوم فُتعتم
ما هذه الفيفاءُ إلا أنها
…
بحْرٌ تحيط بشاطئيه جهنم
هي قبر كلِّ مجاهد لم يَطوِهِ
…
في خمسة الأشبار كونٌ أَعظَمُ
أكلت لحومَ الخالدين الأيام تزل
…
يعتادها النَّهم القديم فتنهمُ
بالأمس كان وقودها في حرِّها
…
جيشٌ من الشِّرك لأثيم عرمرم
فإذا دعاء الجاهلية خافت
…
وإذا ثَراء الجاهلية مُعدم
وإذا الطواغيت التي قد أشركوا
…
بالله فوق رؤوسهم تتحطم
مَن هؤلاء الهائمون كأنما
…
لم يَهْدِ نَهْجَهُمُ الكتابُ المحكم
يبدو العياء من الليالي فوقهم
…
ويُرى الغبارُ من السنين عليهمُو
فكأنهم أَنضاءُ ركْبٍ لم يَبِنْ
…
للواحة الخضراء فيهم مَعلمُ
تتخبط الأحداث بين صفوفهم
…
وتموجُ بالخطب الجسيم وتُفعَمُ
أعياهمو خَبَبُ الطريق فوقفوا
…
وأخافهم فَزَعُ الطريق فأحجموا
ما بالهم لم يُجْدِ في أسقامهم
…
طبٌّ ولم ينفع لديهم مرهم
عجباً أتبرأُ علةٌ في أمة
…
ويصحُّ جسم والطبيبُ المسقِم؟!
يا أيها الركبان أن سبيلكم
…
للمجد والعلياء أن تتقدموا
لا يُيئِسَّكم الطريقُ إذا بدا
…
وعليه أشواك وفيه تَجَشُّمُ
يكفى الصياحُ فما الحياة عبارةٌ
…
جوفاء فارغةٌ يرددها الفمُ
الحق تحميه الصوارم والقنا
…
والعدل تحفظه الضحايا والدمُ
والقوة الغلباء ليس يردها
…
إلا القوىُّ الغالب الممغلم
محمد عبد الغني حسن
الحديث الشريف
هل تنقيحه ممكن؟
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
يموج العالم الغربي اليوم بمتلاطم من المذاهب والنظريات والحقائق التي بلبلته حين تكاثرت عليه، فصار لا يدري ما يأخذ، أو ما يدع.
والعالم الإسلام ي عرضة لتلك الأمواج تتوافد عليه فتحدث فيه بعض ما أحدثت في عالم الغرب من اضطراب في الفكر والاعتقاد، وذلك رغم ما يملكه المسلمون من معايير وثيقة للحق والباطل تتجلى في كتاب الله وسنة الرسول.
ولعل من بوادر البلبلة الوافدة ما يبدو لبعض الناس في بعض الأحاديث الشريفة من مخالفة للعقل يقترح من أجلها تنقيح كتب الحديث القديمة أو تنقيح الأحاديث نفسها في كتب جديدة.
وتمحيص الحديث لا يمكن من الناحية النظرية إلا عن طريقين: تمحيص المتن أو تمحيص السند. فأما تمحيص الأسانيد فقد قام به أئمة الحديث على صورة لم تدع زيادة لمستزيد. ونحل الأسانيد فوق ذلك أمر غير ممكن. وأما نقد متون الأحاديث فلا يزيد على أن يكون تحكيما للرأي في الدين بحيث يصبح الدين رأيا ويصبح الرأي هو الدين.
إن القدماء كانوا على حق حين حكموا أن الطريق الوحيد المأمون في تصفية الأحاديث هو طريق تمحيص السند، لأنه بعد أن قامت الحجة القاطعة على رسالة الرسول صلوات الله عليه، وانه لا ينطق عن الهوى في كل ما بلغه الناس عن الله، لم يبق لتمييز الحق من الباطل إلا أن تثبت القول عن الرسول. وتمحيص الأسانيد المتصلة إلى الرسول هو الطريق البديهي لهذا الإثبات. فمن آيات الله الباهرة في حفظ هذا الدين أن وفق علماء المسلمين للقيام بتلك المهمة الكبرى قبل أن يفوت وقد أمكن القيام بها فلو تأخرت إلى ما بعد تلك العصور التي تمت فيها لأصبح القيام بها مستحيلا، إذ لو وجد العلماء الراغبون في بذل الجهد القادرون على التمحيص، لما وجد ما يفحص أو يمحص بعد موت جميع الشهود.
فمن فضل الله علينا وعلى الناس جميعا أن كان الدين وعلومه شغل العلماء الشاغل عصورا طويلة حتى تم حفظ اللغة، وحفظ القران، وحفظ الحديث، وإلا أصاب الإسلام ما
أصاب غيره من التحريف والتبديل والتضييع.
ولست ادري كيف يمكن إذا كان الحديث ثابتا عن الرسول أن يمتد إليه عقل، مهما قدر، بتنقيح أو تعديل! لست ادري كيف يمكن أن يجوز عند العقل أن قولا ثابتا عن الرسول الذي قطع العقل برسالته عن الله يصح أن يكون محل بحث غير بحث يرمي إلى استنباط المعنى منه، لا إلى تصحيح أو تنقيح شيء فيه. أن الدين قد جاء الإنسانية بكثير مما لم تكن تعرف، وكثير مما لا يمكن أن تعرف إلا عن طريقه؛ وكل أخبار الغيب لا يمكن أن نعرف إلا عن طريقه. والمسالة ليست مسالة ماذا نفهم من الدين، أو ماذا نعقل، أو ماذا يتفق مع ما نعرف أو نعلم عن غير طريقه، ولكن المسالة هي أمر الواقع الذي كأن والذي بلغه الرسول للناس عن الله سبحانه. فإذا ثبت أن أمرا قد وقع أو قولا قد صدر عن الرسول وجب قبول هذا الواقع وذاك القول مهما بدا للعقل غريبا أو عجيبا أو غير مفهوم.
إن الدين صادر عن خالق الخلق، وقد تناول جميع الفطرة ماضيها وحاضرها ومستقبلها: بالإجمال فيما اقتضت الحكمة الإلهية إجماله، وبالتفصيل فيما اقتضت تفصيله. والعقل الذي يمكن أن يحيط بالفطرة لم يخلقه الله بعد، وهو على أي حال عقل المجموع لا عقل الفرد والعلم الذي يتسع حتى لا يند عنه شيء من الفطرة لم يوجد، ولن يوجد أبدا. فسيظل الإنسان يعلم ويزداد علما من غير أن يصل إلى نهاية العلم.
وإذا كان الأمر كذلك فهل من المعقول أن يتطلع الإنسان إلى فهم كل سيئ في الدين كان ليس في دين الله ما يسمو عن عقل الإنسان؟ وإذا كان في الدين ما يسمو عن عقل الإنسان ويزيد عن علمه، فهل من المعقول أن يحكم الإنسان عقله وعلمه في الدين، فلا يقبل من الحديث إلا ما طابق ذلك العقل على محدوديته، وذلك العلم على قلته؟ ألا يكون ذلك غرورا يضل الإنسان به عن الله، ويصبح به إلهه هواه؟
ما هو المقياس الذي يمكن أن يقيس به الإنسان متون الحديث ومعانيها ليقبل منها ما يوافقه، ويرفض أو ينقح منها ما يخالفه حتى يزول الخلف؟ أن الحق القاطع لا يختلف. ذلك أمر معروف مقطوع به. فهل يمكن أن يتناقض نص قاطع وأمر واقع عرفه الإنسان بالعلم المستقل عن الدين، كالعلم الطبيعي مثلا؟ أن هذا غير ممكن؛ فالدين من عند خالق الفطرة، واليقيني من العلم الطبيعي هو جزء من الفطرة، بمعنى أنه وصف حقيقي صادق
لجزء منها، والفطرة متجانسة متساندة فلا يمكن أن يناقض بعضها بعضا. وإذن فلا يمكن أن يناقض علم دينا أو دين علما إذا كان العلم صحيحا وإذا كان الدين من عند الله. لكن الدين بحكم تناوله جميع الفطرة يجمل القول أو يبهمه فيما لا يتعلق بضروري لسعادة الإنسان الآن، وفيما ضاق عنه علمه الحاضر أو علمه وقت أن نزل القران؛ فيفهم الإنسان من القول المجمل أو النص المبهم بقدر عقله وعلمه؛ بل لعله لا إجمال ولا إبهام هناك إلا بقدر أن يكون في العبارات الكلية عند من لا يعرف جزئياتها، فهي تبدو مجملة أو مبهمه لكثرة ما فيها من المعنى الذي استغلق على الإنسان؛ حتى إذا ازداد علمه باطراد تقدمه، فهم من النص ما لم يكن يفهمه، واطلع منه على دنيا من الحقائق جديدة يتجدد بها له وللإنسانية الحجج عصرا بعد عصر: أن الإسلام دين الله، وان محمدا رسول الله، وان القران كتاب الله، وان ما ثبت عن الرسول لا يجوز أن ينقحه، وان وجب أن يتفهمه، الإنسان.
سيقال طبعا أن الثابت عن الرسول صلوات الله عليه مختلف في درجة الثبوت، فالمتواتر من الحديث قليل أو أقل من القليل، لا يكاد يجاوز أو يبلغ أصابع اليدين عدا. وهذا لا اختلاف في قبوله ولا في أنه فوق التنقيح. والثابت غير المتواتر هو الصحيح على تفاوت في درجة الصحة، وهذا لا يفيد إلا الظن، أي ترجيح أنه من قول الرسول على تفاوت في درجة الرجحان؛ وهذا هو الذي يصح أن يكون عرضة للتنقيح عند اللزوم.
أني أقول أولا إن احتياط علماء الحديث رضوان الله عليهم من الناحية العقلية المنطقية الصرفة، هو الذي جعلهم يضيقون دائرة المتواتر ذلك التضييق. وإلا فكثير من الحديث يلتحق بالمتواتر لتعدد طرقه وسلامة أسانيده. ولئن لم يتواتر هذا الكثير من ناحية اللفظ فهو متواتر أو يكاد من ناحية المعنى ولو دقق علماء التاريخ في ثبوت التاريخ تدقيق علماء الحديث في ثبوت الحديث لما كاد يثبت من التاريخ شيء. فمسلك علماء الحديث في نقد الأسانيد كان غاية في التشديد كانوا يضعفون الحديث إذا عرف عن أحد رواته سهوة، أو أحصى عليه هفوة يرونها تخل بالكرامة. وكانوا ينبذون الحديث إذا عرف عن أحد رواته أنه كذب ولو مرة. وهذا تشديد كبير لأن الذي يكذب مرة ليس معناه أنه يكذب كل مرة، أو أن الكذب له عادة. والذي يكذب على الناس ليس بضروري أن يكذب على الرسول الذي توعد الكاذب عليه بالنار. لذلك لست اشك في أن من بين ما رفضه علماء الحديث صحيح
غير قليل، فينبغي أن يكون ما قبلوه بالغا في الصحة كل مبلغ، جديرا أن تتلقاه العقول بالطمأنينة والقبول.
فالرجحان هو اقل ما يمكن أن يوصف به ما صححه أولئك العلماء الأعلام المدققون. أي أن ما وصوه بالضنى والراجح هو في الواقع فوق ذلك بكثير، ولكنهم وصفوه بأقل ما يمكن أن يوصف به، لأن العقل لا يقطع بغير هذا. أي إن الأحاديث الصحيحة عند العقل هي قطيعة الرجحان. وما كان قطعي الرجحان هكذا في الثبوت عن الرسول فأي حكمة يا ترى هناك في القول بتنقيحه؟ أفمن الممكن إنزاله عن مرتبة الراجح مع أن رجحانه مقطوع به؟ أم من الممكن إعلاؤه عن مرتبة الراجح إلى مرتبة اليقيني؟ ليس هذا ولا ذاك ممكنا عند العقل اليوم، وإذا فلا محل هناك للقول بتنقيح صحيح حديث رسول الله صلوات الله عليه.
ويجب ألا يغرب عن البال، أن الأحاديث الصحيحة وان وصفت بأنها راجحة الثبوت عن النبي عليه الصلاة والسلام فإن الإجماع منعقد على العمل بها في الدين: أجمع على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، واجمع على ذلك العلماء عصرا بعد عصر إلى عصرنا هذا. فمن يحدث نفسه يترك حديث صحيح لمجرد أنه لا يفهمه أو أنه يستغرب معناه يعرض نفسه للخروج على إجماع المسلمين ويعرضها الخروج على الإجماع لما في ذلك من خطر حقيقي عليه، لا عند الناس ولكن عند الله:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى وينبع غير نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). فالإجماع واجب الأتباع بالكتاب بهذه الآية على الأقل، ولسنة بعدة أحاديث. على أن كل إنسان في ذات نفسه في قبول ما يقبل أو رفض ما يرفض، فإن ذلك متعلق بقلبه وبعمله هو. هو أمر بينه وبين الله، بل ونرجى له النجاة ما صدق النية لله في ذلك. لكنه إذا بدا يدعو غيره لي ما يشبه أن يكون خروجا على إجماع المسلمين، فإنه عندئذ يعرض نفسه لأخطار لا يقدم على التعرض لها عاقل من الناس.
محمد أحمد الغمراوي
العلوم الدينية
بين القرآن وعلماء الإسلام
للأستاذ عطية الشيخ
المفتش بالمعارف
مصادر الإسلام أربعة، هي القرآن والسنة ولإجماع والقياس، ومن بين هذه الأربعة ثلاثة خلافية بين الفرق والمذاهب الإسلامية، تفاصيلها في علم الكلام لمن أراد البحث، أما المصدر المتفق على نصه فهو القرآن الكريم، والاختلاف في التفسير لا يضر، إذ القرآن الكريم كنز لا تفنى غرائبه، ولا تنتهي عجائبه. وكلما تقدم العلم، وارتقى الفكر، وانفتح مدى المعارف الإنسانية، وزادت تجارب الناس ومشكلاتهم، كلما حدث هذا، وضح ما في القرآن من إعجاز، وتبين للعقلاء أنه كلام رب العالمين (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله).
على أن هناك تفسيرا للقرآن لا يقبل الشك، وهو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت أخلاقه القرآن، كما حدثت بذلك الصديقة رضي الله عنها. ولهذه السيرة تلاميذ، أحاطوا بها ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، وهؤلاء التلاميذ المخلصون، هم نجوم الأمة المنيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، انعكست عليهم أضواء شمس القرآن، بعد غروب بدر نبيه، واسترشدت بهم الأمة بعد فقد الصادق الأمين، فهدوها إلى صراط مستقيم، ورفعوا لواء الإسلام في كل حزن وسهل، وطافوا به كل مطرح ونشروه في كل واد، عالمين أنه سلوك يهدي لا جدل يردد، وقلب يصفي لا لسان يلوك، وسنة تتبع لا دروس تتلى، فأعجبت بسلوكهم الشعوب المنحلة، وشغفت بطريقتهم الأرواح المجهدة، واقتدى بهديهم المتعبون والمثقلون، ودخل أهل الدنيا في دين الله أفواجا، ولم يمض إلا عشرون عاما حتى كانت العربية لسان كل سنخ وجنس، والشريعة السمحة قانون كل صقع ودولة، والمسلمون مثلا أعلى لكل متعلم ومسترشد.
ثم أتخم الإسلام بكثرة ما حمل من أوشاب الأمم، ومختلف الحضارات، وما اثر فيه من مشاكل العلوم القديمة، والنحل المختلفة، وما دسه فيه أعداؤه من رجال الأديان الأخرى التي
خرت أمام سطوته، وعنت لعظمته، فخلف من المسلمين خلف بعد أن وقفت فتوحه، متأثرين بكل ما ذكر، وجعلوا من عقيدة الفطرة مشاكل ذرية، ومن غذاء الروح عقدا فلسفية، ووضعوا مصطلحات، واخترعوا علوما، وتركوا ميدان الحسام وجاهدوا باسلات اللسان، وهجروا صهوات الخيل، إلى مذاكرات الليل، وطرحوا خصام الكافرين، إلى جدال غيرهم من المسلمين، فأفسدوا من الإسلام مذاقه، وعكروا صفوه، وقسموا الأمة طرائق، وقطعوها خرائق، وكانوا أنكى على الإسلام ممن خاصمه بحد الحسام.
ورضى المستجدون على الإسلام والطارئين عليه من ملوك الأعاجم والترك، بعد أن دالت دولة العرب، بفهم الإسلام بهذا الوضع، لمشابهة العلوم الإسلامية المبتدعة، لما ألفوه من علوم الأديان الأخرى، وثنية وسماوية، فعظموا هؤلاء المبتدعين، ورفعوا شأنهم، ورأوا في تعظيمهم تعظيم الإسلام نفسه. وكيف لا يفعلون هذا، وقد قبله من حولهم من ملوك الروم للقساوسة والرهبان، ومن أعيان اليهود للأحبار، ومن ملوك الهند للكهان؟ أو لعل هؤلاء الحكام الجدد رأوا في هذا السلوك خدمة لعروشهم، بصرف الناس عن خدمة الدين بما خدمه به فقهاؤه الأوائل من جزيرة العرب، إذ أن فهم الإسلام هذا الفهم الأول، يعكر عليهم ما أخذ يحيط بهم من ترف ونعيم ولهو واستماع، ومن كان كذلك يعنيه أن يفصل بين ما لقيصر وما لله وأن يجعل الدين في المساجد والكتب، والملك العضود في الدنيا وزهرتها، وإلا لقام له من يقول:(لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بالسيف)، ومن يقول:(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ومن يطبق قول أبي بكر:(أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم) ومن يقول: (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، إنما اهلك بني إسرائيل أنهم كانوا يقيمون الحد على ضعفائهم دون أقويائهم).
أقول منذ فهم الإسلام هذا الفهم، ووضع هذا الوضع، وجعل علوما جدلية ونظرية علمية، وقواعد جافة، اخذ بناؤه ينقض حجرا حجرا، وعموده يميد شبرا شبرا، وأرضه تنتقص رقعة رقعة، ووحدته تتجزأ فرقة فرقة، حتى لم يبق منه إلا الذماء، أفلم يأن للبقية الباقية من المسلمين، الحرص على استرداد مجدهم، والحفاظ على ما بقى لهم، أن يعيدوا للإسلام جدته ويفروا إلى القران، ويسعهم من الدين ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم، ويتركوا كل هذه التركة الثقيلة التي ما فتئوا يسمونها علوم الدين؛ والدين منها بريء، ويضيعون
وقتهم في مدارستها ويبنون المعاهد والمدارس لها. ثم لا يكون منهم مثل خالد أو عمرو أو عمر، ولا ينبغ فيهم مثل من نبغ من الأميين؟! لست أول من نادى بذلك الرأي، بل سبقني إليه الغزالي حجة الإسلام، وبرهن بما لا يقبل الشك على أن ما يسميه الناس علوم الإسلام ليست من الدين في شيء، وان معرفتها لا تقرب إلى الله قيد شعرة، وان عامة المسلمين اخلص عقيدة وأصفى قلبا واقرب إلى الله من علماء هذه العلوم. وفي الأثر ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعض أصحابه عن الجدال في الدين، والتنطع فيه، والخوض في النظريات التي أولها كلام وآخرها خصام، والسؤال عما لم يرد.
أقول أن الأمة أحوج إلى فهم علوم الدنيا من كيمياء وطبيعة ورياضة وطب وهندسة. . . الخ، لأنها علوم تعين على الحياة، وكسب الرزق، والقوة وفهم قدرة الله، وهو ما أمر الدين به، بل هذه العلوم مأمور بالبحث فيها بنص القرآن، وما من علم حديث إلا له آيات تحض على البحث فيه، مع ذكر شيء من مبادئه الأولى، حتى وقر في ذهن المسلمين منذ القدم أن القرآن الكريم حوى كل علم يمكن أن يبحث فيه السف أو الخلف، وفسروا قوله تعالى:(ما فرطنا في الكتاب من شيء) هذا التفسير. ولولا الإطالة لأحصينا في هذا المقال الآيات التي تحض وتأمر بالتعمق في العلوم الكونية أما ما يسمونه بالعلوم الدينية، بحسب الوضع الذي صارت إليه، فليس لها سلطان في الكتاب العزيز أو ماضي السلف الصالح، ولم يفد منها الإسلام إلا الضعف والتفرق والضياع. فيا ليت الذين أهملوا مؤلفات ابن الهيثم، وزيجات الخيام، وقانون ابن سينا، وبحوث بني موسى بن شاكر، ومسائل جبر الخوارزمي، ومستحدثات البيروني. يا ليت هؤلاء الذين ضيعوا هذا المجد وحاربوه وجروا وراء الفرق بين المعجزة والكرامة، والواجب والمندوب، والإجماع والقياس، والحيض والاستحاضة. يا ليتهم علموا أن العلوم الأولى اقرب إلى الله من الثانية، وادخل في الإسلام منها؛ إذا لما اصبح المسلمون عبيدا للأوربيين الذين وقعوا على ذخائر العرب فأنفسح أفقهم العقلي، ووصلوا إلى هذه المخترعات التي أثاروا بها الأرض وعمروها، وحددوا الأفلاك وفحصوها، وحللوا العناصر وركبوها، فدانت لهما الأمم، وعنت لهم الشعوب.
القرآن الكريم وهو الأصل المتفق عليه للإسلام، والمصدر القطعي الثبوت والدلالة، ما تعرض للبحوث التي سموها علوم الإسلام إلا لماما، حتى أن الصلاة وهي عماد الدين لم
تتبين فيه أوقاتها وطريقتها، لا استهانة بها ولكن لأن أهم أركانها صفاء القلوب، وخشية المعبود، وأما أقوالها وأفعالها فتوقيفية يسيرة المتناول على الذكي والغبي. وكذلك الزكاة، والصيام، والحج، وهي قواعد الإسلام، يشير إليها القرآن الكريم إشارات خفيفة تاركا كل تفصيل وتوضيح للروح لا للعقل، وللذمة والضمير، لا للحدود والأقيسة.
أما القصص التهذيبي الذي أهمل المسلمون طرائقه في التعليم الخلقي فهو أكثر ما في القرآن. وأما الإيمان بالغيب والإسلام لله فهو لب التنزيل. وأما البحث في النفوس وخلقتها، والأجنة ونموها، والأمم وتاريخها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها، والكون وما يصير إليه، والرزق وما يحصل به، والأمم وكيف تحيا ولم تموت، وحسبان الشمس والقمر، وما في الأرض والسماء من قوى وعبر، فهي كل القرآن وهي موضوع العلم الحديث، ومن يتبحرون فيها هم علماء الدين الذين يخشون الله ويخدمون الأمة، ويرفعون شأن الملة.
علوم الإسلام، هي الصناعة والزراعة والطب والهندسة وما لف لفها. وأما علوم الكلام والفقه والأصول وما جاراها، فليست من الإسلام في شيء. وقد بلغت وما أنا إلا حريص على نهوض المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى.
عطية الشيخ
المفتش بالمعارف
طبيب أديب
للأستاذ عباس خضر
عاش هذا الرجل ببغداد في القرن السادس الهجري، في الوقت الذي كان قد مضت فيه حقبة طويلة على اكتمال الحركة العلمية في العصر العباسي ونضج ثمارها، وانتقلت من مراحل النقل والترجمة والشرح والتلخيص والتمحيص، إلى طور الإنتاج والاختراع والإنشاء. وكان هذا التقدم العلمي على عكس التدهور ولاضطراب السياسيين، أو قل أن الازدهار العلمي قد عمر أكثر من الازدهار السياسي.
ولا أسترسل في ذلك، فلنعد إلى صاحبنا، وهو أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب الأديب. قالوا: أنه كان أوحد عصره في صناعة الطب، وكان إلى ذلك أديبا، له شعر جيد ورسائل بليغة. ولم يجذبني ما رووا عنه من الشعر والنثر ومن البراعة في فنون العلاج الطبي، بمقدار ما راعتني صفات أخرى فيه، يسمونها في عصرنا (واجب الطبيب الإنساني) وقد عرفه واجبا عمليا قبل أن يأتي زماننا فيردده كلاما طليا. . .
كانت داره بجوار المدرسة النظامية في بغداد، فكان يتفقد معلميها وطلبتها، إذا مرض أحدهم نقله إلى داره وقام عليه في مرضه، فإذا شفى أذن له في الانصراف ووهب له دينارين.
وعرض لبعض الأمراء النائين مرض عضال، فقيل له ليس لك إلا ابن التلميذ وهو لا يقصد أحدا. فقال: أنا أتوجه إليه، فلما وصل أنزله ومن معه في ضيافته، وعنى بمعالجته، فلما برئ الأمير وتوجه إلى بلاده أرسل إلى ابن التلميذ مع أحد التجار مالا كثيرا وهدايا ثمينة، فامتنع من قبولها وقال: أن علي يمينا إلا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لمل حلفت ما استثنيت. وأقام التاجر شهرا يراوده فلا يزداد إلا إباء. فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال فتتقلد منته وتفوتك منفعته ولا يعلم أحد انك رددته. فقال: ألست اعلم في نفسي أني لم اقبله؟ فنفسي تشرف بذلك علم الناس أو جهلوا!
وقد اعتاد معاصرونا أن ينتسبوا إلى شرف المهنة، ولكن ابن التلميذ كان الأمر عنده ابعد غورا، كانت أصوله في نفسه، فقد درس الفلسفة ومزج الحقائق الخلقية بنفسه ودرس الطب
مقرونا بالفلسفة المكونة للإنسان الجدير بلقب (الحكيم) فكل ما يعنيه هو شرف نفسه الذي يشترك فيه كل إنسان راق، والذي ينبع منه (شرف المهنة) أن كان لابد من هذه التسمية. ولعل إنصاف الأطباء بتلك الأصول الخلقية في ذلك الزمن واقتران دراستهم الطبية بالدراسة الفلسفية، وإطلاق كلمة الحكمة على كل ذلك، لعل ذلك هو الأصل الذي ينزع إليه إطلاق العامة لفظ (حكيم) على الطبيب.
وكان ابن التلميذ رئيس المستشفى العضدي ببغداد وقد فوض إليه الخليفة رياسة الطب فيها، فكان من شأنه الإشراف على الأطباء وإقرارهم على مزاولة المهنة بعد اختبارهم ومعرفة ما عند كل منهم فيها، وفي أحد مجالس الاختبار حضر شيخ له هيئة ووقار، ولم يكن عنده من صناعة الطب إلا التظاهر بها، وان كان له دربة يسيرة بالمعالجة، فلما انتهى السؤال إليه قال له أمين الدولة:
- ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟
يا سيدنا، وهل شيء ما تكلموا فيه إلا وأنا اعلمه وقد سبق إلى فهمي أضعاف ذلك مرات كثيرة!
فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟
يا سيدنا، إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يليق به إلا أن يسأل كم من التلاميذ له، ومن هو المتميز فيهم، وأما المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل.
يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضر ذكره ومع هذا فما علينا، أخبرني أي شيء قرأته من الكتب الطبية؟
سبحان الله العظيم. . . صرنا إلى حد ما يسأل عنه الصبيان! يا سيدنا، لمثلي لا يقال إلا أي شيء صنفته في صناعة الطب وكم لك فيها من الكتب والمقالات، ولا بد أن أعرفك بنفسي.
ودنا إلى أمير الدولة وقال له فيما بينهما:
اعلم إنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي أولاد، فسألتك بالله ألا تفضحني بين
هؤلاء الجماعة وألا تمنعني التكسب لعيالي.
لك ذلك ولكن على شريطة، وهي انك لا تهجم على مريض بما لا تعلمه، ولا تشير بقصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض.
هذا مذهبي مذ كنت.
ورفع أمير الدولة صوته والجماعة تسمع: يا شيخ اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك والآن فقد عرفناك. . .
ومن الظريف ما حدث بعد ذلك، فقد التفت كبير الأطباء إلى أحدهم وقال له:
على من تعلمت هذه الصناعة؟
يا سيدنا، أنا من تلاميذ هذا الشيخ الذي قد عرفته وعنه أخذت صناعة الطب.
وكان أمين الدولة نصرانيا، عاش في تلك البيئة الإسلامية السمحة مكرما مقدرا أكبر التقدير، يحظى بهبات الخلفاء وعطفهم، ويحل المنزلة التي تليق به في نفوس معاصريه من الأشراف والشعراء، ومما وجه إليه من الشعر ما كتب له الطغراني يشكو ألما في ظهره:
يا سيدي والذي مودته
…
عندي روح يحيا بها الجسد
من ألم الظهر استغيث وهل
…
يألم ظهر إليك يستند؟
وقد حسده طبيب يهودي اسمه أبو البركات على منزلته لدى الخليفة العباسي المستضيئ بأمر الله، فاحتال للدس عليه بحيلة وضيعة، كتب رقعة نسب فيها إلى أمين الدولة أمورا تحط من قدره، وأوعز إلى من ألقاه في طريق الخليفة، فلما قرأها الخليفة رأى أن يتحقق من صدق ما تحتويه، فلما استقصى الأمر وجده اختلافا، وعرف أن كاتبها أبو البركات، فغضب عليه ووهب دمه وماله وكتبه لامين الدولة، ولكن شرف النفس منعه أن يتعرض لخصمه بسوء، فسقط أبو البركات وانحطت منزلته.
وقال أحد الشعراء في الطبيبين، وكانت كنية أمين الدولة أبا الحسن.
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه
…
أبو البركات في طرفي نقيض
فهذا بالتواضع في الثريا
…
وهذا بالتكبر في الحضيض
وقد جمع هذا الحكيم المهذب (أمين الدولة) قواعد السلوك السبيل وأسباب الحياة الراقية في
رسالة كتبها إلى ولده رضى الدولة، والمتأمل في حياته من خلال ما يروى عنه يراها تطبيقات على ما ضمته رسالته، قال فيها:
(وفز بحظ نفيس من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته لا قرأته ورويته، فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه، ومن طلبها من دونه فأما أن لا يجدها وأما أن لا يعتمد عليها إذا وجدها. ولا تثق بدوامها، وأعوذ بالله أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعلو همته وشدة أنفته وغيرته على نفسه، ومما قد كررت عليك الوصاة به ألا تحرص على أن تقول شيئا لا يكون مهذبا في معناه ولفظه، ويتعين عليك إيراده، فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للأغمار وأهل الجهالة، نزهك الله عن طبقتهم. فإن الأمر كما قال أفلاطون الفضائل مرة والورد حلوة الصدر، والرذائل حلوة الورد مرة الصدر. وقد زاد ارسطو طاليس في هذا المعنى فقال: أن الرذائل لا تكون حلوة الورد عند ذي فطرة فائقة، بل يؤذيه تصور قبحها إذ يفسد عليه ما يستلذه غيره منها، وكذلك يكون صاحب الطبع الفائق قادرا بنفسه على معرفة ما يتوخى وما يجتذب كالتام الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار. فلا ترض لنفسك حفظك الله إلا بما تعلم أنه يناسب طبقة أمثالك، واغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين)
وهذا الأسلوب غريب في عصره الذي بدأ بوضع مثله السيئ ابن العميد الذي لم تختم به الكتابة كما قيل، بل ختمت بمن قبله ثم بعثت بابن خلدون.
ورسالة أمين الدولة المتقدمة أشبه بكتابة الأساتذة الأوائل كابن المقفع والجاحظ، فإنت تراه يركب التعبير مطهماً فارهاً إلى حيث يقصد. وبعض الكتاب يركبه التعبير فيتسكع به، وآخرون يركبون التعبير الهزيل فلا يصل بهم إلا مبهور الأنفاس.
ولأمين الدولة شعر جيد، قال في ولد له غير نجيب:
أشكو إلى الله صاحباً شكسا
…
تسعفه النفس وهو يعسفها
فنحن كالشمس والهلال معا
…
تكسبه النور وهو يكسفها
وتطل الفلسفة من خلال شعره إذ يقول:
لولا حجاب أمام النفس يمنعها
…
عن الحقيقة فيما كان في الأزل
لأدركت كل شيء عز مطلبه
…
حتى الحقيقة في المعلول والعلل
كما تبدو الحكمة في قوله:
لا تحقرن عدواً لأن جانبه
…
ولو يكون قليل البطش والجلد
فللذبابة في الجرح المعدّ يٌد
…
تنال ما قصرت عنه يد الأسد
وله شعر في الألغاز، على طريقة عصره، وقد أحسن التعبير عن الميزان إذ قال لغزا فيه:
ما واحد مختلف الأهواء
…
يعدل في الأرض والسماء
يحكم بالقسط بلا رياء
…
أعمى يرى الرشاد كل رائي
أخرس لا من علة وداء
…
يغني عند التصريح بالإيماء
يجيب إذ ناداه ذو امتراء
…
بالرفع والخفض عن النداء
ومن بديع مدحه قوله:
لا يستريح إلى العلات معتذراً
…
إذا الضنين رأى للبخل تأويلا
يبادر الجود سبقاً للسؤال يرى
…
تعجيله عند بذل الوجه تأجيلا
وله مؤلفات كثيرة في الطب، وقد روى بعض المؤرخين نوادر تدل على حذقه في العلاج وصواب حدسه في معرفة الداء، منها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها وصب الماء المبرد عليها صبا متتابعا كثيرا (كالدش) ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفئ قد بخر بالعود والند، ودثرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت، وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها.
ومن ذلك أن دخل عليه رجل منزوف يرعف دما في زمن الصيف، فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرئ. وقال في تعليل ذلك: أن دم المريض قد رق ومسامه قد تفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام.
وقد عمر أمين الدولة، إذ بلغ أربعا وتسعين سنة. ومن تجمله في كبره أن كان عند المستضيئ بأمر الله، فلما أراد القيام توكأ إلى ركبتيه، فقال له الخليفة: كبرت يا أمين الدولة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وتكسرت قواريري. ففكر الخليفة في قوله هذا، وانه لا بد يقصد شيئا بتكسر القوارير. ثم علم أن الخليفة السابق كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير، وظلت في يده، ثم وضع الوزير يده عليها منذ ثلاث سنين. فتعجب الخليفة من
حسن أدب أمين الدولة وانه لم ينه أمرها إليه، وأمر بإعادة الضيعة إلى صاحبها وألا يعارض في شيء من ملكه.
وبعد فهذا واحد من سلف بنوا صرح الحضارة في العصور الإسلامية، وعنهم اخذ الغربيون أبان نهضتهم العلمية في أعقاب القرون الوسطى. فإن كنا الآن نأخذ من الغرب فإنا نقتضيه دينا عليه لأمثال أمين الدولة بن التلميذ.
عباس خضر
من أمجاد الإسلام
أسطول معاوية
للأستاذ محمود غنيم
بلغ أسطول معاوية زهاء 1700 كاملة العدد والعدة، وقد اخضع البحر الأبيض ووصل إلى أسوار القسطنطينية فحاصرها حينا من الزمان.
لمن السفينُ يَلُحْنَ كالأعلامِ
…
فوقَ العُباب نواشرَ الأعلامِ
يمخُرنَ باسم الله موجَ حضارة
…
واسم الهدى ومبادئ الإسلام
يهتِفن بالتكبير لحناً شاجياً
…
فتجيبُ أمواجُ الخضَمِّ الطامي
وَيثبنَ آونةً اسودَ عرينه
…
ويطرن آونةً حمامَ سلام
يُمطرن بالجزر الدماَء. وربما
…
كان الدمُ الموَّارُ صوبَ غمام
بعضُ الدَّم الموار ليس بمأثمٍ
…
لكنه طُهرٌ من الآثام
هذى سفينُ الله سارت عَيلماً
…
مترامياً في عيلم مُترَام
لم تدفع الريحُ الهبُوبُ قلاعها
…
بل أقلعت بالوحي والإلهام
وحرارةِ الإيمان وهي حرارةٌ
…
ما زادها الآذىُّ غيرَ ضِرام
إن تَسْرِ فالجُزرُ الحرام مباحةٌ
…
أو تُرسِ فالشُطآنُ في استسلام
أزجى معاويةُ السفينَ تسيرُ أو
…
ترسو بكل غَضَنْفرٍ ضِرغام
فكأن بحرَ الروم أصبح مُنبِتاً
…
بعد الفلا للغاب والآجام
بدم الشهادةِ خضبوه فضاعَ من
…
أرجانه أَرَجُ العباب الدامي
جمح العُبابُ فأسلسوه كأنما
…
قبضت عليه أكُّفهم بزمام
جالت سنابك خيلهم في لُجهِ
…
جَولانَها في مهْمَةٍ وَرِجام
واهم نفوس صافياتٌ صفوَ ما
…
بقراره من لؤلؤٍ وتُؤَام
لله بحرُ الروم وهو بُحَيرَة ٌ
…
عربيةُ اللَّهوات والأرحام
ومعاقل اليونان وهي محاربٌ
…
مكتظَّة بالصُّوَّم القُوَّام
لله (رووِس) إذ تُصيخُ (وقبرصُ)
…
لِصَدَى الأذانِ مرتَّلَ الأنغام
خاض المياهَ كأنما هو حُوتُها
…
مَن كان يطوي البِيد بالأقدام
ورعى البحارَ ومنُ يقيمُ بهن من
…
أمَم رعاةُ النوق والأغنام
حكم البحارَ فما طفى طُغيانَها
…
نفرٌ يُجيدُ العدلَ في الأحكام
حسروا ظِلالَ الروم عن أمواجِها
…
فتحررَت من رِبقة الأعجام
نفَذُوا إلى أسوار (قُسطنطينَ) في
…
عزم كحدِّ السيف غيرِ كهام
ورموا معاقلَه وإن لم تستجب
…
لسهامهم. سَلمت يمينُ الرامي
أُطمٌ عزَزن على الحنيفة حقبةً
…
ثم استجبن على مدى الأيام
محمود غنيم
الدعوة في الإسلام
تبليغ لا إلزام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لا أريد في هذا المقال أن أرد على من يزعم أن استعمال السيف في الإسلام كان للدعوة إليه، فهذا أمر قد كتب الباحثون فيه قبلي، والكلام فيه يكون معادا لا فائدة فيه، وليس شيء اثقل على نفسي من الكلام المعاد، لأنه يضيع زمن الكاتب والقارئ، والزمن اثمن من أن يضيع في الكلام المعاد، والحديث المكرر.
وإنما أريد في هذا المقال أن انبه إلى إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون أيضاً بما دون استعمال السيف مما فيه شائبة إلزام، ولو كان مثل هذا الإلحاح الثقيل الذي استعمله بعض المتنطعين في الدين مع الأستاذ نقولا الحداد، وشكي منه المرة بعد المرة في مجلة الرسالة الغراء.
فالدعوة في الإسلام قد حددت بأنها تبليغ عن الله لا غير، وهذا التحديد قد ورد في الآية - 67 - من سورة المائدة (يأيها الرسول بلغ ما انزل إليه من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس أن الله لا يهدي القوم الكافرين) فلم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية إلا بتبليغ دعوة ربه، والله تعالى هو الذي يهدي إليها بعد تبليغه من يريد هدايته، ويضل عنها من يريد إضلاله، فإذا بلغ فقد أدى رسالة الله تعالى، وليس عليه بعد هذا أن يلح أو يستجدي في الدعوة إلى الإسلام، لأن دعوته اكرم من أن يستعان فيها بالإلحاح أو الاستجداء، لأنهما يعرضان الكريم إلى المهانة والاستثقال، ويؤديان إلى عكس المقصود منهما وهو الاستجابة للدعوة.
وهذا إلى أن أناقد أمرنا أن ندعوا إلى الإسلام بالحكمة، كما قال تعالى في الآية - 125 - من سورة النحل (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة وجادلهم بالتي هي احسن أن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) فإذا بلغ شخص الدعوة أو كان قد عرفها بنفسه كان الإلحاح في تبليغها إليه من باب تحصيل الحاصل، وهو عبث تأباه الحكمة التي امرنا أن ندعو بها إلى الإسلام، وإنما تقضي الحكمة أن نترك من بلغناه لنشتغل بتبليغ من لم نبلغه، فقد يكون اقرب منه إلى إجابة الدعوة.
وإذا رجعنا في هذا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجدناه يكتفي بتبليغ الدعوة لمن لم تبلغه، ويترفع في التبليغ عن كل ما يقف بالدعوة موقف المهانة، فلا يلح فيها على من يجد منه ترفعا عنها، ولا يستجدي فيها من يجد منه استثقالا لها، ولا يضطغن عداوة على من بلغه فلم يستجب له، بل يبقى ما بينهما كما كان قبل أن يبلغه دعوته.
فها هو ذا يبدأ دعوته فلا يبدؤها بالإلحاح على قومه، ولا يعرضها على كل شخص منهم ولو لم يأنس منه الإجابة إلى الإسلام، بل لا يدعو إلا من يأنس منه الإجابة إلى دعوته من أهله وأصحابه، فكان أول من آمن به زوجه خديجة بنت خويلد، وقد دخل عليه ابن عمه علي بن أبي طالب بعد إسلام خديجة بيوم فوجدهما يصليان، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما هذا؟ فقال له: هذا دين الله الذي بعث به رسله، فأدعوك إلى الله، وان تكفر باللات والعزى، فقال له علي وكان غلاما صغيرا: هذا أمر لم اسمع به قبل اليوم. فلست بقاضي أمرا حتى احدث أبا طالب - يعني أباه - فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تردده لم يلح عليه، ولم يقف منه موقف الملح المستجدي، بل قال له: أن لم تسلم فاكتم. وكان لهذا الموقف الكريم أثره في نفس علي، فلم يلبث أن اسلم، ثم اسلم زيد بن حارثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتبناه، ثم أسلمت أم أيمن، وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأربعة كانوا من أهله، وكانوا اقرب الناس إليه، وقد دعا معهم أبا بكر بن أبي قحافة من بني تيم، وهم بطن من قريش، وكان اقرب أصدقائه إليه، ولهذا بدأ بدعوته دون غيره من أصحابه، فأسرع إلى التصديق به، وقال له: يا أبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وهكذا بدأت الدعوة عرضا كريما لا إلحاح فيه ولا استجداء، فكان إسلام من اسلم في ذلك الوقت إسلاما كريما قويا، لأنه كان استجابة خالصة للدعوة، ولم يكن فيه اثر يشينه لإلحاح أو استجداء أو نحوها.
وهذا عمه أبو طالب قام بكفالته وهو صغير، فلما بعث في سن الأربعين قام بحمايته من قومه وهو على دينه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه هذه الحماية، واكتفى بان بلغه دعوة الإسلام، ولم يغير ما بينهما عدم استجابته له، بل كان ينزله من نفسه منزلة العم الذي قام بكفالته وهو صغير، ولا يثقل عليه من جهة ما يدعو إليه وهو كبير، ولا يوقعه في
حرج ينفره منه أو يبغضه فيه، حتى توفي أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يكتفي منه بحمايته له، ولا يغيره عليه بقاؤه على شركه، بل كان يحبه حب ابن الأخ لعمه، ويتمنى لو يسلم من شدة حبه له، حتى نزل في هذا قوله تعالى - 56 - من سورة القصص (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
وهذا صفوان بن أمية بن خلف كان من اشد قريش عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ من أمره أن أرسل عمير بن وهب إلى المدينة ليغتال النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا أهدر دمه في فتح مكة، لأنه عد فيها من مجرى الحرب، كالذين يعدون مجرى حرب في عصرنا الحديث، فلما فتحت مكة هرب منها إلى جدة ليركب البحر منها إلى اليمن، فأتى ابن عم له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يؤمنه، فقال له: هو آمن. وإعطاء عمامته التي دخل فيها مكة علامة يعرف بها أمانه، فذهب إليه فأدركه قبل أن يركب البحر، واتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم منه أنه قد أمنه طلب منه أن يمهله بالخيار شهرين، فقال له: أنت بالخيار أربعة أشهر.
فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجابته إلى ما طلب من الإمهال على الشرك، بل كان طلبه أن يمهله شهرين فأمهله أكثر مما طلب وأعطاه مهلة أربعة اشهر! ولم يستعمل معه إلزاما أو إلحاحا أو استجداء؟ تكريما لدعوته أن تمتهن إذا ألح عليه أو استجداه، وهي اكرم من أن تعرض للامتهان والاستثقال، وإنما شانها أن تكون هي المطلوبة بعد التبليغ لمن يدرك فضلها، ويعرف شهرف ما تدعو إليه؛ ويعلم نبل ما تأمر به.
وهكذا صين الإسلام في عهده في الأول عن العرض المهين، وحفظ الداعون إليه كرامته، وضنوا به عمن لا يعرف له قدرا، ولا يدرك له فضلا، فعز وكرم على الناس، كما يعز ويكرم كل معزز مكرم، واقبلوا علي راغبين من أنفسهم، كما يقبلون على كل عزيز عند أهله، بعيد عن كل ما يدعو إلى امتهانه أو استثقاله.
وقد بلغ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في التلطف في الدعوة أن يقول لمخالفيه فيما أمره الله به في الآية - 24 - من سورة سبأ (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وأنا أو إياكم لعل هدى أو في ضلال مبين) فيلقى إليهم دعوته في هذه الصورة من
الشك، ليتأملوا فيها وهم في تؤدة ورفق، فإن آمنوا بها آمنوا بعد إدراكهم لصحتها، ورغبتهم في الإيمان بها، فلا قسر ولا إلجاء، ولا إلحاح ولا استجداء، فمن آمن فلنفسه لا لغيره، ومن ضل فعيها لا على غيرها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
عبد المتعال الصعيدي
استغاثات.
. .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
الله. . . والشرق
ربَّاهُ ضاعَ السِّرُّ من يدَيَّا
…
وأَطبقَ اللَّيْلُ على عيْنَيَّا
ولم أجد فوق الحَياة شيَّا
…
يُطْفى العذابَ الهادرَ الخفِيَّا
إلاَّ نِدائي في الدُّجَى. . . يا ربَّ!
طَرقْتُ بالأنغام كلَّ بابٍ
…
وطُفْتُ بالرَّحيقِ والأكوابِ
ولم أدعْ أنك بلا شراب
…
وعُدْتُ لا أحمل في عِيَابي
غيرَ الأَسى يَسْقى الأسَى في قلْبِي!
عبرْتُ بالسُّهولِ والأجبالِ
…
وَبالضحَي المُحَيَّرِ الْخيالِ
وبالغُروب السَّاخِر الزَّوالِ
…
وبالدُّجى المغَمْغِم السَّآلِ
وباللَّيالي سِرْتُ كلَّ درْبِ
وغُصتُ في الصُّدورِ للأَعماقِ
…
وطِرْتُ حتَّى أعوَلَتْ آفاقي
وَضجَّ تَحْتي واشتكَى بُراقي
…
واندهشَ الطيرُ لما أُلَاقي
مِنْ عَوْدَتي الكُبْرىَ بغَيْر حَبِّ!
حفَنْتُ من جَنبيَّ هذا الشَّجَناَ
…
وصَاحباً في الشَّجوِ يُدْعى أَرغُنَا
ولم نَزَل نَشدُو ونَسقِي الزَّمَنَا
…
فَهل رأيْنا لِلأغانِي أُذُناً
تُصْغِى لهَذَا الوَهَج المنصَبِّ!
خَمَّتْ بنا القُيودُ والسلاسِلُ
…
وهاجتِ الأوكارُ والبَلابلُ
وراغ فينا الغاصبُ المخَاتِلُ
…
واختلَطتْ في لَيلُنا النوازِلُ
يا ربَّ فَجْراً عاجلًا للكَرْبِ!
نحن بَنُو الشَّرق الأُباةُ الصِّيدُ
…
نَحْيَا به كأنزال عَبيدُ
يا طَيْرُ هذا خُلْدُكَ الرَّغيدُ
…
فكيفَ أنت الحائر الشريدُ
وواردُ النَّبع طريد الغَرْبِ!
لاُُهُمَّ صُبَّ النارَ في السَّواعِدِ
…
واضِربْ بها في هَذِه الشدائِدِ
أَغلالُنا شابت، وكم مِنْ حاصدٍ
…
ومنْجلٍ يَفْرى المنَايا هامِدِ
يا نارُ فينا أن صَبَرنا شُبِّى. . .
ملَّ ثَرانا صدأ القُيودِ
…
وقرْيَةَ الميثاق والوُعودِ
وباطِلًا زيَّنَ لِلعُهودِ
…
شريعةَ اللاهينَ بالوُجودِ
لهَوَ المراعي بِعُواء الذِّئْب. . .
ويْلاهُ منهُمْ في زمانِ النَّيِل
…
سَبعون عاماً خيَّموا في الغِيلِ
عاثوا وخانوا حُرْمةَ النَّزيِل
…
حتى دهتْهَمْ صيحةٌ للْجِيِل
فَجَرجَروا أعلامَهمْ في التُّربِ!
ولم تزل منهُمْ لدىُ القَنالِ
…
حُثالةٌ حَطَّت عَلَى الرِّمالِ
من يَدر فليرحم جوى سُؤاَلي. . .
…
إني بهم من أتعَسِ الُجهَّال!
علَامَ لم تلْحقْ بباقي الرَّكْبِ؟!
ماذا دهاهم في جَنوب الوادي!
…
جُنُّوا فشبُّوا الُخلفَ في البلادِ
وأضرَموها فتنةً تُنادي
…
بالظُّلم والتعذيب والفساد
وما لَها إلا الصدى مَلَبِّ
وضفَّدوا في غابة الأحرارَا
…
فملأوا قلوبهم أُوَارَا
مِنْ أين جاءُوا شُرَّداً حيَارى؟
…
وكيفَ جاسُو هذه الديارا؟
يا لعنةَ اللهِ عليهم هبِّي!!
من أين يا (هاو) أَلِفَتْ الموكِبا
…
فرُحْتَ في الخرطوم تمشي عَجبَا!
حولكَ الأفواهُ تحدو القِرَباَ
…
والرايةُ الخضراءُ تنزُو غضباً. . .
لقصةٍ زيَّفتْها للشعبِ
نسِيت عهدَ الثلجِ والقواقِع
…
وسيرةَ القُرصانِ والزوابِع
أُمَّةً قامت عَلَى المناقِع
…
تريدُ شرْكَ الشمِسِ بِالمطامع
ولو تُطيقُ لا دَّعت في الغيْبِ!
في المسجد الأقصى تراَءت ثعلبَا
…
تخفْي وتُعطي لليهود الحطبَا
ذلَّت لهم لما أرَوْها الذَّهبا
…
وحذَّروا أيامَها المُنْقَلَبَا
فانقلبت تسعى لهم في الدَّرْب.
رباهُ ما في الشرِق جُرحٌ لا يَئِنْ
…
ولا عَلَى آلامِهِ قَرَّ وطنْ
في كل وادٍ منهُ من بَغى الزَمَن
…
نارٌ وأحرارٌ وبلوى وفِتَنْ
رباهُ زلزِل قيدهُ يا ربِّ!!
محمود حسن إسماعيل
تاريخ العمائر والفنون الإسلامية
بيت الرسول ومسجده بيثرب
للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم
(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) قرآن كريم
خرج النبي صلى الله عليه وسلم، مهاجرا في سبيل الله إلى يثرب، وفي رحلته هذه العاجلة المضطربة لم يحمل معه من ماله إلا ما خف وأفاد في مهجره.
ووصلت العبر إلى قباء قرب يثرب ومكث بها بضع عشرة ليلة أقيمت فيها الصلوات في مواعيدها وفي قباء أقيم أول مسجد في الإسلام، وذلك الذي نزلت فيه الآية الكريمة:(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين). فلم تكن مكة إذن بالمكان الذي يستطيع النبي أن يقيم به مسجدا، ولا أن يذهب بصحبه إلى الكعبة للصلاة بها. وفي اليوم الخامس على رواية، والعاشر على رواية أخرى، قام موكب الرسول الكريم في رعاية ربه، يحف به المهاجرون والأنصار متجها إلى يثرب، وأهل يثرب تشرئب أعناقهم ليروا القادم الكريم. فرأوا رجلا يملأ العيون والقلوب والأسماع. . . رأوا المثل الكامل للكمال والجلال جميعا.
وحملته راحلته حتى أناخت حيث أمرها الله أن تنيخ؛ فكان مربدا لغلامين يتيمين في المدينة من بني التجار، وسال الرسول: لمن المربد؟ فأجاب معاذ بن عفراء: أنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا محمدا أن يتخذه مسجدا. فأرسل محمد إلى ملأ من بني النجار وقال لهم: تأمنوني بحائطكم هذا، فقالوا لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فلم يرض إلا أن ابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أن تبنى داره في هذا المكان. وأقام فترة بنائه في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ودأب المسلمون من المهاجرين والأنصار على مشاركته في بنائه حتى أتموه وما كان بناء الدار يرهق أحدا، فقد كانت من البساطة بما يتفق وتعاليم محمد.
- 1 -
وصف الدار:
ودار الرسول كدور العرب الرقيقي الحال، التي كانت ولا زالت تبنى في الأنحاء المتواضعة من شبه جزيرة العرب، وقرى الشام، والعراق. فالدار عبارة عن حجرات ضيقة متراصة جنبا إلى جنب، وأمامها فناء مكشوف.
وقد بنى أولا الحجرتان المتجاورتان في الركن الجنوبي الشرقي من الفناء لعائشة وسوداء، لتكونا بمنأى عن مجلس الرسول وأصحابه في الناحية الشمالية من الفناء. ومساحة كل حجرة (7 7) أذرع ينبت باللبن يكاد يسقفها الجريد تمسه اليد. ثم أضيفت الحجرات إليهما من الناحية الشمالية كلما زاد عدد أفراد الأسرة حتى بلغت 9 حجرات. والحجرات جميعا تكاد تتفق في السذاجة، وخلوها من مظاهر الترف - اللهم إلا بيت عائشة كما سنبين بعد - فأثاثها حصير يستعمل للنوم، وقرب بها ماء أو عسل أو لبن معلقة على الجدران؛ ويحجب الحجرات عن الأنظار سجف من وبر أسود معلقة على أبوابها التي تفتح على الفناء.
والفناء مربع الشكل طول أحد أضلاعه 100 ذراعا (51 مترا)، بنى جدرانه - بالحجارة لارتفاع 3 اذرع، ثم اكمل الجدار إلى سبعة باللبن (بالطوب الني وفتح فيه أربعة أبواب، باب الرسول في الشمال، وباب المؤمنين في الجنوب، وباب جبريل (باب عثمان) في الشرق، ثم باب عائكة (باب الرحمة) في الغرب، وقد تم البناء عام 2هـ.
وكان يستعمل الفناء لأغراض الأسرة كالطبخ والغسل وتربية الماشية وما إليه. وليس في حكم المنطق ما يمنع من أن يستخدم الرسول وزوجاته والمؤمنين الجزء الشمالي من الفناء المواجه لبيت المقدس لأغراض دينية: كإقامة الصلاة في مواعيدها، وان يجلس الرسول إلى الناس يحدثهم في الدين ويناقشهم ويفصل في قضاياهم. ثم أن هذا الفناء أدى غرضا إنسان يا آخر: فآوى الفقراء من المسلمين تحت صفة (سقف) أقيمت لهم في الركن الجنوبي الغربي من الفناء، فسموا لذلك بأهل الصفة، وأجريت عليهم الأرزاق إلى بنى لهم دورا.
ولقد شكى المسلمون إلى النبي حرارة الشمس ساعة الصلاة فأقام لهم في الجهة الشمالية من الفناء سقفا من سعف النخل والخصف والأذخر، وغطى بطبقة من الطين يعتمد على قوائم وعوارض من جذوع النخل، ودام هكذا 16 شهرا.
ولما مكر اليهود بالنبي، ونزلت الآية الكريمة على رسول الله وهو قائم يصلي بالناس (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) قرأها وتوجه إلى ناحية الجنوب وتبعه المسلمون.
ونقل السقف إلى الناحية الجنوبية المواجهة للكعبة، ونقلت الصفة إلى الركن الشمالي الغربي وسد باب المؤمنين في الجنوب ولم يكن الفناء يضاء ليلا إلا ساعة الصلاة، وذلك بان يوقد في وسط الفناء شعلة من قش، حتى شدت المصابيح بعد 9 سنوات إلى جذوع النخل التي اعتمد عليها سقف رواق القبلة.
ولما التحق الرسول بالرفيق الأعلى في 13 من شهر ربيع الأول عام 11 هـ دفن في حجرة عائشة، وهي الحجرة التي قضى فيها أخريات أيامه.
ولما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ترك الدار كما هي، واتخذ كرسي الخلافة بها على نحو ما كان يفعل الرسول، ولما توفاه الله رقد بجوار الجسد الطاهر في حجرة عائشة ابنته وهي الأولى من ناحية الجنوب.
الزيادة في أيام عمر:
كان لزاما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزيد في مساحة المسجد ليواجه الزيادة المطردة في عدد المسلمين والذين يقودون على مقر الخلافة من الأمصار. فأمر عام 17 هـ بهدم حائط الفناء - ولم تمس دور الأرامل - وزاد في أبعاده من الشمال بقدر 30 ذراعا، ومن الجنوب بقدر 10 أذرع ومن الغرب بقدر 20 ذراعا وهكذا اخذ الفناء شكلا مستطيلا طوله 140 ذراعا وعرضه 120 ذراعا وكان ارتفاع الحائط حول الفناء يبلغ قامة الرجل.
وزاد عمر في عدد أبواب الفناء فأصبحت ستة: باب مروان وباب عائكة، وباب الرسول، وباب الفناء، وبابان آخران في الحائط الشمالي. وقد كان المسلمون ينفضون أيديهم من التراب بعد كل ركعة، فكانت تحدث أصواتا أثناء قراءة القرآن الكريم، فأمر عمر بأن تفرش الأرض بالحصى من وادي العقيق.
ولما توفي دفن بجوار سلفيه الكريمين.
الزيادة في أيام عثمان:
ومما يؤثر عن عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يتحرج من أن يمتع النفس بشيء من
نعمة الله. فاخذ يبتعد عن التقشف الذي أرهق نفسه به عمر، فهذب من مقام الخلافة بحيث تتناسب وجلالها واتساع رقعة الدولة التي كانت تستظل بها. وخصوصا أن عماله في الأمصار - والأمويون على وجه الخصوص - كانوا يحيطون أنفسهم بأبهة الملك. فأمر فهدمت جدران الفناء في سنة 24 هـ، وزاد فيه من الناحية الشمالية بقدر 20 ذراعا ومن الغرب بقدر 30 ذراعا، وأصبحت أبعاد البناء 160 ذراعا 150 ذراعا، ولم تمس دور الأرامل، ولم يزد شيئا من ناحية القبلة، وبنيت الحوائط من الحجر المنحوت وغطى بسقف من خشب الساح.
ولما قتل عام 35 هـ (655م) دفن بالغرفة المجاورة للغرفة التي دفن بها الرسول وصاحباه. وتولى الخلافة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - ونقل مقر الخلافة إلى الكوفة في رجب سنة 36 هـ، وبذا فقدت الدار أهميتها الرسمية، كما فقدتها المدينة نفسها.
ولقد عز على أهل يثرب أن ينتزع منهم مقر الخلافة، وهي التي ظلت فيهم طيلة أيام أبو بكر، وعمر، وعثمان، وان تبرحهم العزة والتكريم التي ما برحتهم منذ أن وطئت قدما الرسول الطاهرتان أرضهم، فتعلقت قلوبهم بمسجد الرسول لأن فيه قبره المشرف وقبر أبو بكر الصديق، وقبر عمر الفارون، وقبر عثمان بن عفان، ولأن هذا المسجد إنما يحمل ذكريات الرسول، فجعلوه كعبتهم، وأحاطوه بعنايتهم وتبجيلهم، وما برحوا يقيمون فيه الصلوات ويجلسون فيه إلى فقائهم، واتجهت قلوب المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها إلى مقام الرسول يشدون إليه الرحال للزيارة والتبريك عملا
(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام، بالحديث الشريف: والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا).
قلنا كان عام 54 هـ أقيمت ذكرى الهجرة في الفناء لأول مرة، وقد كانت حفلات ذكرى الحج تقام في قباء ومن ذلك التاريخ اصطبغ هذا المسجد بالصيغة الرسمية بدلا من مسجد قباء.
إعادة بناء المسجد:
ويذكر ابن سعد أن عبد الله بن يزيد شاهد عام 91 من الهجرة دور أرامل الرسول، وكانت تسعة من منزل عائشة إلى دار أسماء بنت حسن، وذكر أنه كان حاضرا أمر الخليفة
الأموي الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة عمر بن عبد العزيز، القاضي يهدم المنازل وضم أرضها إلى قباء المسجد، وروى ما شاهده من حزن الناس البالغ ونحيبهم على ضياع آخر آثر من آثار بيت الرسول وتمنوا لو بقى ليرى الخلف تقشف الرسول وقناعته.
وقد أرسل الخليفة إلى المدينة المال اللازم والرخام والفسيفساء والأخشاب وثمانين من العمال الروم والقبط من سوريا ومصر، فأزالوا البقايا القديمة من حجرات نساء النبي وبعض المنازل المجاورة وأقاموا بإشراف صالح بن كيسان المسجد الجديد من الحجر المنحوت، وحملوا سقفه على 6 أعمدة في الاتجاه الشرقي الغربي و14 عمودا في الجهة الشمالية منها 10 أعمدة تشرف على الصحن و4 أعمدة في الرواق وبلغت مساحته 200 في 200 ذراعا.
- 2 -
الأذان للصلاة:
وكان المؤمنون يجتمعون إلى النبي للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، حتى إذا اكتمل عقدهم أقيمت الصلاة. على أن اشتغال الناس بأمور عيشهم قد يفوت عليهم وقت الصلاة أو يؤخرهم عن مواعيدها. . . وليس احسن من أن يؤذن في الناس كلما حلت فيأتون رجالا من كل فج عميق، ففكر في البوق الذي يدعو به اليهود لصلاتهم ولكنه كرهه فأمر بناقوس كناقوس النصارى ولكنه بعد مشورة عمر وطائفة من المؤمنين على رواية، وبأمر الله على لسان الوحي على رواية أخرى، عدل عن الناقوس أيضاً إلى الأذان - وقال لعبد الله بن زيد، (قم مع بلال فألقها عليه ليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك) فارتقى بلال منزلا عاليا لامرأة من بني النجار كان بجوار المسجد، وصار يرسل الدعوة مع كل ريح بصوت ندى جميل:
هناك أذن للرحمن فامتلأت
…
أسماع يثرب من قدسية النغم
وهكذا اصبح الأذان صفة لازمة للصلاة الجامعة، وصار لابد للمؤذن من مكان مرتفع في عمارة المسجد يدعو منه المصلين فلما اتخذ المسلمون المعبد الوثني في دمشق للصلاة كان له أبراج في أركانه الأربعة فأمر معاوية باتخاذها مآذن وهذه أول المآذن.
محراب القبلة:
لم يكن لمسجد الرسول محراب يبين اتجاه القبلة، والمحاريب بالمساجد، إنما ظهرت بعد اتصال المسلمين بالمسيحيين والأخذ بفنونهم. والمحاريب المجوفة معروفة في كنائس المسيحيين قبل الإسلام، ولكن المحراب المسطح يغلب عليه الابتكار الإسلامي.
وقد كان المسلمون يتحرجون أن تبدو مساجدهم وعليها مسحة وثنية، أو يهودية أو مسيحية، أو أن تبدو مظاهر عبادتهم متفقة، في قليل أو كثير، مع مظاهر عبادات الأديان الأخرى، فحافظوا على شخصية الإسلام وطابعه المميز سواء في مخبره أو مظهره. وقد فطن المؤلفون العرب إلى إن المحراب متخذ من جبنيه الكنيسة فنسبوا إلى الرسول حديثا:(أن ظهور المحاريب التي تجعل المساجد تشبه الكنائس من علامات الساعة).
وكتب السيوطي رسالة سماها (أعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب) ويميل الآثاريون إلى الاعتقاد بأن المحراب الأول في الإسلام صنعه العمال الروم والقبط الذين أرسلهم عبد الملك بن مروان إلى المدينة لإعادة بناء المسجد النبوي أو ذلك الذي صنعه قرة بن شريك، عامل الوليد في مصر عام (89 - 96 هـ)(709 - 715 م).
منبر النبي:
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخطب الناس وهو قائم مستند إلى أحد جذوع النخل التي تحمل سقف المسجد؛ إلا أن هذا الأمر لم يدع طويلا فصنع له منبر خشبي من ثلاث درجات ووضع في صدر حائط القبلة، وكان النبي وقت الخطبة يجلس على الثالثة العليا ويضع أرجله على الثانية، وكان أبو بكر يجلس على الثانية ويضع أرجله على الأولى، إشعارا للناس بهيبة الراحل العظيم، وإقرارا في نفوسهم بأنه هو خليفته ومهما بلغ به التعظيم والتكريم فلن يبلغ مبلغه. ولقد يظهر أن للرجل فكرة دينية تخفى تحت هذا التصرف. . . فقد كانت حركة الردة على اشدها، ومدعوا النبوة في كل واد يهيمون، يؤلبون الناس على الإسلام، فخشي أن يتطلع الناس إليه على أنه صورة ثانية من الرسول فيطالبونه بما لا يستطيعه من وحي أو حديث، فيضطرب الأمر وتفشو الفتنة، أو لعل له هدفا سياسيا فالقوم يعلمون أن الرسول لا ينطق عن الهوى، وانه على خلق عظيم، فأراد
الصديق أن يقر في نفوسهم بأنه لا يتلقى وحيا، وان الخطأ جائز عليه فلا يمكن أن يقاس برسول الله على كل حال.
هذا التواضع وهذه السياسة قد ورثها عمر بن الخطاب فخطب الناس وهو جالس على العتبة الأولى للمنبر وجعل رجليه على الأرض إلا أن عثمان بن عفان لم يجد ما يدعوه إلى الجلوس مكان عمر، ولا مكان أبو بكر، وليس لديه ما يمنع جلوسه مكان النبي نفسه. ولا شك بأن إغفال سنة سلفية وصعوده الدرجات إلى مكان النبي أمام الناس قد هزت الناس هزات نفسية عنيفة، لها معزاها في سير الحوادث أيام عثمان.
ومنبر النبي مكرم بحديث الشريف (ما بين منبري وبيني روضة من رياض الجنة).
والمنبر إنما هو كرسي مرتفع أدخل في المسجد للنبي ليكفيه عناء الوقوف مدة إلقاء الخطبة. وقد كان المنبر معروفا في العمائر المسيحية، وكان في كنائس الروم والقبط يجلس عليه القساوسة لإلقاء الوعظ حتى استغنى عنه بالمذبح. ولقد هذب الإسلام من هيئته على مر العصور وأضفى عليه من روحه بما جعل له مغزى وطابعا إسلاميا مميزا وعالجه المفتنون حتى أخرجوه تحفة لها مقامها الكريم بين منتجات الفن الرفيع.
- 3 -
لم تكن يثرب غارقة في البداوة حتى لا يظهر بها اثر من الفن أو الصنعة فوجود اليهود بها - وهم أهل تجارة وحيلة في جلب المال - مما يرجح وجود الفنون بها. وقد كان في حجرة عائشة رضي الله عنها بعض التماثيل مما يتلهى به فتيات العرب وستور محلات بالصور يفسره حديث السيدة عائشة قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترن سهوة في بقرام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه، وقال: يا عائشة! أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين). وجاء في ربيع الأبرار للزمخشرى في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وفي سهوتي ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لي فقال: ما هذا؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان، قال: فرس له جناحان؟ قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت
نواجذه).
وبعد، فهذا قبس من نور ألقيناه على المرحلة المبكرة من حياة هذا المقام الكريم وسنحاول في مقال تال أن نجلو صفحة وأخرى من صفحاته الزاخرة الزاهرة.
مصطفى كامل إبراهيم
ابن حزم الأندلسي
مجموعة من المواهب والعبقريات
للأستاذ قدري حافظ طوقان
ابن حزم مجموعة من المواهب والعبقريات؛ وزير وابن وزير، ومن أصحاب الجاه الواسع العريض. هذا في ميدان الحياة العامة. أما في المعارف والعلوم فهو فيلسوف لمع في الدين والشعر والأدب والتاريخ.
نشأ في قرطبة في القرن الحادي عشر للميلاد من أسرة قال عنها الفتح بن خاقان: (بنو حزم فتية علم وأدب، وثنية مجد وحسب). وهو من بيت عريق بالمجد حافل بالترف والنعيم. لكن ذلك لم يدم، فقد تنكر له الزمان، وتعرض للنكبات والمصائب، وأصابه الاعتقال والتغريب والإغرام الفادح. لحقه الأذى والكيد من كل جانب، ولم ينعم بالاستقرار والاطمئنان.
انصرف ابن حزم إلى العلم بكل عزائمه، وأخلص له ولم يخلط به مأربا آخر. وهذا ما يميزه عن كثير من الذين يعنون بالعلم والأدب؛ ولم يقف عند هذا الحد، بل (تفرغ لنشره بين الناس فنفع به خلقا كثيرا)؛ ذلك لأنه كان يؤمن بأن للعلم زكاة هي نشره وإذاعته.
نشأ في بداية أمره في جو ساعد على بروز مزاياه النفسية والفكرية، فظهرت عبقريته متعددة النواحي، ونعمق في البحث والدرس فكان المرجع لأعيان الفكر في زمانه والأزمان التي تلت، ومصدرا من المصادر المعتمد عليها التي يستشهد بها رجال الدين والعلماء.
وقد أعترف بفضله وعلمه الأقدمون والمحدثون، فقال عنه أفاضل القدماء:(. . . ابن حزم حامل فنون من حديث وفقه وجدل وما يتعلق بأذيال الأدب مع المشاركة في كثير من أنواع التعليم القديم من المنطق والفلسفة. . .)؛ وقال الذهبي: (ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة)؛ وقال ساعد: (برز ابن حزم على فحول العلماء بالأندلس حتى تفرد دونهم بميزات)؛ وشهد الغزالي بفضله: (وعظم حفظه وسيلان ذهنه). ولقد درس بعض تأليفه المستشرقون ورجال التاريخ أوربا وأمريكا، فأنصفوه بعض الإنصاف واعترفوا بأثره في الفقه والعلوم. قال رينيه بانسيه:(ابن حزم عالم عربي أندلسي، متفنن في علوم جمة، وهوفقيه مشهور ومؤرخ وشاعر مبرز، دقيق الملاحظة، شيق الأسلوب).
وتناول آراءه جولد زيهر وشرينر وإسرائيل فرد ليندر ونيكل وبتروف، فشرحوها وعلقوا عليها وأبانوا أثره في الفقه والمنطق والتاريخ. ويعترف سارطون في كتابه مقدمة لتاريخ العلم بفضل ابن حزم وعلمه فيقول:(ابن حزم افضل عالم في الأندلس، ومن أكبر المفكرين المبتكرين المسلمين فيها).
ترك ابن حزم مؤلفات ضخمة تدل على سعة إطلاعه وغزير علمه وعظيم أدبه؛ وقد (ملأ المغرب بعلمه وكتبه ومذهبه، وشغل أهله طرفا صالحا من حياته أحقابا طوالا، حتى كأنه أمة وحده لا فرد من أمة)؛ أعتز به الأندلس وباهى بفضله العراق الذي كان يومئذ يعج بحضارة ما رأى التاريخ لها مثيلا.
ويتجلى من كتبه ورسائله أنه كان يتمتع بفكر ثاقب وبصيرة نافذة وملاحظة دقيقة؛ فهم الشريعة حق الفهم وأفهمها بإخلاص وصدق للناس. وكان صريحا ومخلصا للحق إلى ابعد الحدود؛ وقد ضاق علماء عصره وحكامه بصراحته وإخلاصه، فأشهروا عليه الحرب العوان، فاحرقوا كتبه واضطهدوه شر اضطهاد، وصبوا عليه النكبات والمتاعب. ويمكن القول أنه (ملأ الأندلس حركة فكرية عنيفة آثارها سلبية وإيجابية، وجعل مجالس العلم وأقطاب الفكر معسكرين أنصارا وخصوما).
ولسنا بحاجة إلى القول بان حيوية ابن حزم لم تنقطع بموته، بل أودعها كتبه وتأليفه فاستمرت تعمل عملها زمنا طويلا. وان المتصفح لأدبه وأسلوبه يجد أن فيهما ثورة على التقليد، فلم يتقيد بأسلوب من تقدموه، ولم يلتمس في أدبه طريقهم، وهو يقول في هذا الشان:(وما مذهبي أن أنضى مطية سواي، ولا أتحلى بحلي مستعار). وهذا (كما يقول الأستاذ سعيد الأفغاني): (السر في تأثير بلاغته وأخذها بمجامع القلوب، ونفاذها إلى أعماق النفوس). ولهذا لا عجب إذا امتاز بأسلوب خاص، وأدب له لونه الخاص، وقد حلق به عاليا فجعله (أديبا عالميا سبق عصره قرونا عديدة).
وابن حزم صاحب رأي مستقل يأخذ بالعقل ويخالف بالعقل، لهذا نراه حارب الخرافات وهاجمها بشدة، حتى أنه استعمل ألفاظا نابية لا يليق بمثله أن يأتي بها مما يعطي فكرة عن شدة ألمه من الأخذ بالأوهام والاعتقاد بالخرافات. كان يدعو إلى الأخذ بالعلم الصحيح والاعتماد على العقل، يتجلى ذلك في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) بشان
النجوم وأثرها في الناس وهل تعقل؟ قال ابن حزم: (زعم قوم أن الملك والنجوم تعقل وإنها ترى وتسمع. . . وهذه دعوة بلا برهان. وصحة الحكم بان النجوم لا تعقل أصلا، وان حركتها أبدا على رتبة واحدة لا تتبدل عنها. وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له. وليس للنجوم تأثير في أعمالنا، ولا لها عقل تدبرنا به إلا إذا كان المقصود إنها تدبرنا طبيعيا كتدبير الغذاء لنا، وكتدبير الماء والهواء ونحو أثرها في المد والجزر، وكتأثير الشمس في عكس الحر، وتصعيد الرطوبات (التبخير). والنجوم لا تدل على الحوادث المقبلة).
ومن هذه الآراء يتضح أن ابن حزم لا يأخذ رأيا إلا بعد أن يمحصه ويسلط عليه العقل والبرهان، فإن أجازه العقل وأمكن البرهنة عليه اخذ به، وإلا فهو غير مقبول لديه.
وخالف ابن حزم الأقوال التي تشير إلى أن النيل وجيحون ودجلة والفرات تنبع من الجنة، وتهكم على قائليها. وبعد أن فند هذه الأقوال بين أن لهذه الأنهار منابع معروفة في الأرض على ما هو موضح في كتب الجغرافيا.
ولابن حزم آراء علمية ونظريات فلسفية (هي في الطبقة الأولى من القيمة الذاتية الحقيقية) كما يقول الدكتور عمر فروخ.
ومن هذه النظريات الجديرة بالذكر والاعتبار نظرية المعرفة، وقد عقد لها فصلا خاصا في كتابه:(الفصل في الملل والأهواء والنحل). وتتركز الأسئلة في هذه النظرية على ما يلي:
كيف تعرف الأشياء؟ وما نعرف عنها؟ وما الدليل على صحة المعرفة؟ ولقد بحث في هذه النظرية اليونان، لكن بحثهم لم يكن من العمق والسعة بحيث يجعلها كاملة، إلى أن جاء الفيلسوف الألماني (كانت في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، فبحثها بحثا وافيا شاملا جعل مؤرخي الفلسفة الأوربية يقولون: أن الفضل في إيجاد نظرية المعرفة وفي شرحها، يعود أولاً إلى كانت.
ولكن الدكتور عمر فروخ في كتابه عبقرية العرب درس الآراء التي وردت في كتاب ابن حزم وقارنها بما قاله (كانت) فتبين له أن نظرية المعرفة قد عرضت لابن حزم قبل (كانت) بسبعة قرون ونصف القرن.
يرى ابن حزم أن المعرفة تكون (1) بشهادة الحواس - أي بالاختيار لما تقع عليه
الحواس، (2) بأول العقل - أي بالضرورة وبالعقل من غير حاجة إلى استعمال الحواس الخمس، (3) برهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس وأول العقل.
ويرى ابن حزم أن الغرض من الفلسفة والشريعة يجب أن يكون إصلاح النفس حتى تستعمل (النفس) الفضائل وتكون في دائرة السيرة الحسنة المؤدية إلى السلامة في المعاد وحسن السياسة للمنزل والرعية جاء في كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ما يلي: (الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس بان تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن سياستها للمنزل والرعية. وهذا نفسه، لا غيره، هو الغرض من الشريعة. هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء في الفلسفة، ولا بين أحد من العلماء في الشريعة. .)
وابن حزم من المقدمين في الظاهرية والمتحمسين لها. ومذهب الظاهرية هو مذهب الجماعة الذين يقبلون ما جاءت به الآيات الكريمة والأخبار الموثوقة من الحديث والسنة، ولا يتأولون شيئا على ما لم تجر به سنة العرب في فهم لغتهم. وقد وضع في الظاهرية تأليف قيمة تعرض فيها لمسائل فقهية ومشاكل دينية وكان فيها مبتكرا، إذ طبق الأصول الظاهرية على العقائد. ومن آرائه التي أودعها كتبه يتبين أنه كان من الذين (انتفضوا على التوسل بالأولياء ومذاهب الصوفية وأصحاب التنجيم). كان يميل إلى المناظرة والهجوم على خصومه والذين يخالفونه في آرائه، لكنه كان يتوخى دائما إنصاف الخصوم ويتجنب التضليل واختلاق التهم.
ولابن حزم رسالة لطيفة قيمة هي رسالة في المفاضلة بين الصحابة، شرح فيها مذهبه في المفاضلة سالكا طريقا منطقية محكمة. ولقد احسن الأستاذ سعيد الأفغاني في نشرها، فقدم بذلك خدمة علمية جليلة يشكر عليها أجزل الشكر.
وفي هذه الرسالة النفيسة كان ابن حزم مبتكرا في الطريقة التي اتبعها في ترتيب موضوعاتها: وكانت على النمط آلاتي: تقرير للأسس ثم بسط الدعوى، ثم استعراض آراء الخصوم وشبههم وأخيرا دفع للشبه وبرهان للدعوى؛ وهي كما يقول الأستاذ الأفغاني (طريقة محكمة كاملة) تعلم الحوار المضبوط، والمناقشة الدقيقة، والجدل الصحيح القوي، وفوق ذلك، فقد دلت هذه الرسالة على (براعة في تحليل النصوص وجودة الاستنباط، ودقة
الفهم لها. . .)
يرى ابن حزم في هذه الرسالة أن العامل يفضل في عمله بسبعة اوجه لا ثامن لها وهي العرض في العمل والكيف والكم والزمان والمكان والإضافة. ثم يشرح كلا من هذه الأوجه في قالب جذاب يستهوي القارئ وبأسلوب سهل فيه ابتكار وفيه أحكام ومنطق.
والآن لا يتسع المجال لشرح آرائه ونظرياته، ولكن يمكن القول أنه ترك تراثا ضخما لم يصل إلينا منه إلا القليل، وهي تبحث في الفقه والأدب والأخلاق والفلسفة وأخلاق النفس والأصول، والإمامة والسياسة والمنطق والإيمان والفرق الإسلامية والإجماع والتاريخ. ولعل اشهرها كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل، وكتاب طوق الحمامة، ورسالة المفاضلة وقد مر ذكرها.
وهذه كلها تدل على علم واسع وعقل حصيف وفكر خصيب وانه كما يقول الأستاذ الأفغاني (أحد ذهنية انبثقت عنها الأندلس في جميع عصورها) وهو يمثل العبقرية الأندلسية أروع تمثيل. وقد سما نبوغه وارتفع درجات جعلت المؤرخين والباحثين يعتبرونه من المقدمين في تاريخ تقدم الفكر والعلم ومن أعلام العلماء الخالدين. . .
قدري حافظ طوقان
الأندلس الثانية
للأستاذ إبراهيم الوائلي
مواكب النصر ودنيا الظفر
…
كيف تلاشى الأمل المنتظر
أيستنيم الشرق مستخذيا
…
وفي زواياه يدب الخطر؟
بالأمس كنا نتحدى الورى
…
لما زحفنا زحفة واحدة
فاصطبغت بالدم تلك الذرى
…
نشهد أنا أمة خالدة
واليوم قد عادت بنا القهقرى
…
سياسة موتورة حاقدة
بالأمس كنا ونشيد الكفاح
…
أغنية نهفو لأسجاعها
قد رتلتها نبرات السلاح
…
فاهتزت الدنيا لإيقاعها
واليوم من قد حصبتها الرياح
…
عادت إلى تحقيق أطماعها
بالأمس كنا وصهيل الجياد
…
ترن في الآفاق أصداؤه
وحلم (صهيون) بأرض المعاد
…
طارت على الساحل أشلاؤه
واليوم عدنا وحديث الجهاد
…
طيف وفي (الرملة) أنباؤه
أبعد أن دوّت على (الغوطتين)
…
أيام غسان تناجي الهرم
وانتفض التأريخ في الرافدين
…
يبعث فينا سيرة المعتصم
نعود من تلك (تخفى حنين)
…
ولعنة التاريخ بين الأمم؟!
قالوا: أطل السيف من غمده
…
وعاودت (مكة) قرآنها
وانطلق التاريخ من مهده
…
يكتب للأمة عنوانها
فضاحك النيل ربى (نجده)
…
وصافحت بغداد عمانها
ثم انثنينا بعد ذاك الظفر
…
تخدعنا أحبولة الطامعين
وزمرة كنا فصرنا زمر
…
تعبث فينا حيل الماكرين
فأين يا أمتنا المستقر
…
إن نحن ضيعنا تراث السنين!
ما هكذا تبلغ آمالها=من جانبت خطتها الظافره
ففي غد تندب أوصالها
…
وقد أطنّتها اليد الغادره
يا من مشت تحمل أثقالها
…
ماذا وراء الخطوة الحائره
إنا لنخشى بعد هذا النضال
…
في شرقنا (أندلساً) ثانيه
ففي ذرى القدس وخلف الجبال
…
قد رصدتنا الفئة الباغيه
وفي ربى (نجد) وحول (القنال)
…
ما كان في (الشط) و (حبّانيه)
مواكب (اليرموك) عودي فذى
…
أيامنا تستصرخ (ابن الوليد)
وجددي ذاك النضال الذي
…
ريع به كل قوي عنيد
فليس غير السيف من منقذ
…
يا راية الفتح اخفقي من جديد
حرب أردناها لنشر السلام
…
في وطن قد مزقته النوب
فكان منا أن ملكنا الزمام
…
حين تلاقينا وشب اللهب
فيا ربوعاً دب فيها الخصام
…
تذكري بالأمس دنيا العرب
تذكري تأريخ وادي الفرات
…
يوم تحدى صلف (الإنكليز)
فلم تخفه النار والطائرات
…
حين مشى وهو قوي عزيز
ودجلة تهزأ بالماخرات
…
وحلم (مود) ورؤى (همفريز)
وأذكري ما كان في (ميسلون)
…
يوم أتت (باريس) في كبرياء
وخلفها الغرب الأثيم الخئون
…
قد بثت الغدرة للأبرياء
فانتفضت (جلو) بعد السكون
…
وسجلت تأريخها بالدماء
وإن نسيت النيل وهو الغضوب
…
فاستعرضي أمواجه الثائره
ترى بلاداً ماثتها الحطوب
…
عما تريد الأمة الساهره
من الشمال الحر حتى الجنوب
…
لما تزل جبابرة قاهره
والمغرب الأقصى وأعلامُه
…
و (الريف) تحميه الأسود الغضاب
قد روعت (باريس) أيامُه
…
وجللت تأريخها بالضباب
وزلزل الغرب وأصنامه
…
حين تقرتها أكف الشباب
فيا دماء طويت في الرغام
…
تحية الشعر لزاكي الدم
ويا جراحاً نخرت في العظام
…
سوف تمرين على بلسم
ويا حياة لفِّعت بالظلام
…
لابد من فجر فلا تسأمي
إبراهيم الوائلي
(القاهرة)
بيت المقدس
في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم تكن بلاد الشام يوم هاجمتها جحافل الغرب في أواخر القرن الخامس بمستطيعة أن ترد هذه الجيوش المتدفقة عليها من كل صوب، فلم تكن وحدة تحت سلطان واحد، وإنما كان النظام الإقطاعي يمزق شملها، ويفتت قواها. فسقطت فلسطين وكثير من بلاد الشام في أيدي الغزاة المتعقبين، وقاست البلاد المفتوحة من ويلات التدمير والنهب وسفك الدماء، ما لا يستطيع التاريخ أن ينساه، وكان نصيب بيت المقدس عندما إجتاحوه سنة اثنتين وتسعين واربعمائة من أكبر الأنصباء؛ فقد جرت به مذبحة من ابشع المذابح التي عرفها التاريخ. يقول ميشو المؤرخ الفرنسي في كتابه تاريخ الحروب الصليبية (ج1 ص236) في حديثه عن بيت المقدس:(سرعان ما صارت المذبحة عامة: ذبح المسلمون في الطرقات وفي المنازل، ولم يعد في بيت المقدس ملجأ للمغلوبين؛ فبعض الذين فروا من الموت القوا بأنفسهم من فوق الأسوار، والآخرون جروا جماعات يختبئون في القصور والأبراج، وبخاصة المساجد، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفروا من أن يتبعهم الصليبيون، أما وقد صار الصليبيون سادة المسجد الأقصى الذي دافع المسلمون عن أنفسهم حينا فيه؛ فقد جددوا فيه المناظر المحزنة، دخله المشاة والفرسان، واختلطوا بالمنهزمين، وفي وسط أشنع ضوضاء؛ كنت لا تسمع إلا الأنين وصيحات الموت، لقد كان المنتصرون يسيرون على أكوام من الجثث ليتبعوا من يحاول الفرار عبثا. وقال شاهد عيان هو (ريمون داجيل) ارتفعت الدماء إلى ركب الخيل وأعنتها في المسجد، وكل الذين أبقى عليهم التعب من الذبح أو اسروا طمعا في أن يفدوا أنفسهم بفدية كبيرة قتلهم الصليبيون؛ لقد اكرهوا على أن يلقوا أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويكونوا طعاما للنيران، وكانوا يخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الميادين العامة، حيث يذبحونهم فوق أكداس الموتى، ولم يثنهم دموع النساء ولا صيحات الأطفال. لقد كانت المذبحة هائلة وكانت الجثث مكدسة، لا في القصور، ولا في المساجد، ولا في الشوارع فحسب، ولكن في أخفى الأماكن وأبعدها. ولم تنته المذبحة إلا بعد أسبوع. ويتفق المؤرخون الشرقيين والإفرنج على أن عدد القتلى يبلغ
سبعين ألفا؛ وبعدئذ أمر من بقى من المسلمين الذين لم ينجوا من القتل إلا ليقعوا في استعباد مخيف، أن يدفنوا الأجساد المشوهة لأصدقائهم وإخوانهم، فاخذوا ينقلون - وهم يبكون - هذه الجثث خارج بيت المقدس، وساعدهم في ذلك بعض الصليبيين الذين دخلوا المدينة أخيرا، فلم يظفروا بكثير من الأسلاب، واخذوا يبحثون عن بعض الغنائم بين الموتى). وقال ابن الأثير في تاريخه الكامل (ج10ص117) وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموضع الشريف، واخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، واخذوا تنورا من الفضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، واخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلا ومن الذهب نيفا وعشرين قنديلا، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء).
خرج المستنفرون بعد سقوط بيت المقدس إلى بغداد، فحضروا في الديوان وقطعوا شعورهم، واستغاثوا وبكوا، وقام خطيبهم في الديوان، فأورد كلاما أبكى العيون واوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا وبكوا وابكوا، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك المكان المعظم؛ من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال، ولكن الخليفة لم يكن في يده من الأمر شيء بل كان يعتمد على السلاجقة، فأرسل على عجل ثلاثة رجال من حاشيته إلى السلطان بركياروق وأخيه محمد، وقد كانا معسكرين يتقاتلان عند حلوان، وتوسل إليهما أن يتركا ما بينهما من النزاع، وان يسيروا إلى العدو المشترك. غير أن هذا النداء لم يجد أذنا مصغية، فسرعان ما كان الإخوان يقتتلان تاركين الفرنج يؤسسون لهم ملكا ببلاد الإسلام. ولم يصغ أحد إلى تلك الصيحة التي أرسلها الشاعر:
مزجنا دماء بالدموع السواجم
…
فلم يبق منا عرضة للمراجم
فإبهاً بني السلام أن وراءكم
…
وقائع يلحقن الذرا بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة
…
وعيش كنوَّار الخميلة ناعم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم
…
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم
…
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وتلك الحروب من يغبْ عن غمارها
…
ليسلم يقرع بعدها سن نادم
ظل بيت المقدس في أيدي الصليبيين أكثر من تسعين عاما. وكان من أكبر أماني نور الدين محمود أن يسترده للمسلمين ولكنه مات قبل أن يحقق أمله. فلما ملك صلاح البلاد واتحدت مصر والشام تحت سلطانه صمم على أن يستعيد الوطن المغتصب فأرسل إلى جميع أجزاء إمبراطوريته يستنفر الناس لقتال الفرنج وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وبلاد الشام يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له، فأقبلت الجيوش من كل حدب، ومضى صلاح الدين على راس جيشه فالتقى بالفرنج عند حطين، ودارت عندها معركة لم يذق الفرنج لها مثلا منذ قدموا من ديارهم ومضوا بين أسير وقتيل. لم ينتظر صلاح الدين حتى يجمع العدو شمله المبدد، بل مضى يتابع انتصاراته، وأخذت مدن العدو تسقط في يده الواحدة اثر الأخرى، حتى إذا سقطت عسقلان والبلاد المحيطة بالمقدس شمر عن ساعد الجد، وذهب إلى بيت المقدس يريد فتحه، وهنا رأى العدو أنه لا قبل له بالجيش الزاحف فاستكان وطلب الأمان، وفتحت المدينة أبوابها لاستقبال صلاح الدين يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة 583، وأباح السلطان لسكانها الروم والفرنج المدنيين أن يعيشوا في بلاده، وان يستمتعوا بحقوقهم المدنية إذا شاءوا، أما المحاربون فعليهم أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم خلال أربعين يوما، على أن يدفع كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة وكل طفل دينار، فإذا لم يستطع واحد أن يدفع فهو أسير؛ غير أن السلطان لم ينفذ ذلك حرفيا، فقد دفع هو نفسه فدية عشرة آلاف، ودفع أخوه الملك العادل فدية سبعة آلاف، بينما مضى عدة آلاف بدون فداء. وقد حمل الناس والكهنة ذخائرهم من غير أن يتعرضوا لأذى ما؛ بل قدمت الدواب لكثير منهم، ممن لا يجدون ما يركبون.
لقد كانت إنسانية صلاح الدين على النقيض من وحشية أولئك الصليبيين الذين غزوا القدس وفتحوه، ومن قسوة أمرائهم؛ فإن كثيرا منهم مضوا إلى إنطاكية غير أن أميرها بيمند طردهم وأبى أن يقبلهم واغلق صاحب طرابلس مدينته في وجوههم، فمضوا إلى بلاد الإسلام حيث استقبلوا هناك احسن استقبال. وقد عدد أنواعا من قسوة الصليبيين ضد إخوانهم اللاجئين من بيت المقدس.
اصلح صلاح الدين ما تخرب من المدينة، ورم ما تهدم من المساجد، وحكم المدينة حكما يسوده العقل والحرية، ثم أمر بإحكام سور بيت المقدس، وانشأ مدرسة ورباطا وبيمارستانا
ووقف عليها الأوقاف الدارة.
كان لاستعادة بيت المقدس اثر بالغ في نفس المسلمين، يقصر القلم دون وصفه. وقد اجتهد المؤرخون في وصف دخول صلاح الدين بيت المقدس، ولا زالت خطبة الجمعة الأولى التي خطب بها محي الدين بن الزكي أمام صلاح الدين محفوظة بنصها في كتب التاريخ. أما الشعراء فقد فاضت قرائحهم بتمجيد صلاح الدين فإنشدوه أو أرسلوا إليه ما يعبرون به عن مدى الإعجاب والتقدير ومن ذلك ما قاله الشريف النسابة المصري:
أترى مناما ما بعيني أبصر
…
القدس يفتح والفرنجة تكسر
ومليكهم في القيد مصفود الأيام
…
ير قبل ذلك لهم مليك يؤسر
قد جاء نصر الله والفتح الذي
…
وعد الرسول فسبحوا واستغفروا
فتح الشام وطهر القدس الذي
…
هو في القيامة للأنام المحشر
من كان فتحه لمحمد
…
ماذا يقال له وماذا يذكر؟!
يا يوسف الصديق أنت لفتحها
…
فاروقها عمر الإمام الأطهر
ولأنت عثمان الشريعة بعده
…
ولأنت في نصر النبوة حيدر
ملك غدا الإسلام من عجب به
…
يختال، والدنيا به تتبختر
ولكن هذا الفتح العظيم على ضخامته لم يله العماد الكاتب عن التفكير فيما بقى بأيدي الصليبيين من بلاد، وان العبء الملقى على عاتق صلاح الدين هو تطهير البلاد كلها من رجسهم فكتب يقول:
قل للميك صلاح الدين أكرم من
…
يمشي على الأرض أو من يركب الفرسا
من بعد فتحك بيت المقدس ليس سوى
…
(صور) فإن فتحت فاقصد (طرابلسا)
اثر على يوم (انطرسوس) ذالجب
…
وابعث إلى ليل انطاكية العسسا
واحتل ساحل هذا الشام اجمعه
…
من العداة ومن في دينه وكسا
ولا تدع منهمو نفسا ولا نفسا
…
فانهم ياخذون النفس والنفسا
أراد الصليبيون بعد موت صلاح الدين فجمعوا جموعهم ومضوا إلى الشام يعيثون فيه فسادا، ثم رأوا أن افضل طريق للتغلب على عدوهم الملك العادل ملك القدس والشام إنما هو ضرب العادل في مكان حيوي منه، وكانت مصر هي المكان الحيوي المختار. فما أن
قوى الصليبيون بأسطول وإمداد جديدة حتى وجدوا في أنفسهم الشجاعة للنزول على دمياط في صفر سنة 615، ولما سقطت المدينة في أيديهم خاف المعظم عيسى أن يسقط بيت المقدس في أيديهم فمضى إليه وخربه، وخرج معظم من كان بالقدس من الناس، ووقع في البلد ضجة عظيمة، وخرجت النساء والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة والأقصى وقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم ثم خرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأهليهم، وامتلأت بهم الطرقات، ولم يبق في القدس إلا نفر يسير، ونقل المعظم ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال وقد شق على المسلمين تخريب القدس واخذ دمياط
عرض الكامل - بعد موت أبيه العادل - أن يرد إليهم مملكة بيت المقدس وجميع ما فتحه صلاح الدين على أن يردوا إليه دمياط فحسب، ولكن هذا العرض المغري قوبل بالرفض من جانب الصليبيين وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروه بها.
ويقول لأن بول في كتابه: تاريخ مصر في القرون الوسطى (ص223): أن اعظم فرصة أتيحت الصليبيين قد أضاعوها، وان فيليب أوغسطوس عندما سمع نبأ رفضهم قال: انهم مجانين بلهاء إذ يرفضون مملكة مقابل مدينة ولم يلبث الصليبيون أن انهزموا في مصر وتركوها، فلم تفدهم حملتهم شيئا.
لم يحاول الصليبيون استرجاع بيت المقدس، ولا يعود ذلك لأسباب حربية فحسب، ولكن روح الصليبيين قد تغيرت. فصليبيو سوريا يفضلون مدنهم الساحلية الغنية المليئة بتجار الطليان والتي يحف بها الأراضي الخصبة الزراعية على أراض داخلية خربتها حروب الفرنج مع صلاح الدين، أما الرغبة الملحة في امتلاك مدينة المسيح فقد أطفأتها شهوة الثروة، ومع ذلك لم تمت هذه الروح وظلت حية في نفوس أساقفة روما الذين دفعوا فردريك الثاني إلى إن يشن حربا صليبية جديدة فأقلع إلى الشام ونزل بمدنه الساحلية سنة 625، وكانت هذه الفترة التي نزل فيها فترة نزاع بين الكامل وابن أخيه الملك الناصر، فرأى الكامل بعد مفاوضات بينه وبين الإمبراطور الصليبي أن تعقد بينهما معاهدة، نزل بمقتضاها سفطان مصر عن بيت المقدس بشرط أن تبقى على ما هي عليه من الخراب، ولا يجدد سورها، وان يكون سائر قرى القدس للمسلمين لا حكم فيها للفرنج وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الاقصى يكون بأيدي المسلمين لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط،
ويتولاه قوم من المسلمين، ويقيمون فيه شعائر الإسلام: من الآذان والصلاة. ويقول باركر في كتابه الحروب الصليبية (ص79): (أن الإمبراطور ظفر بهذه المعاهدة بحسن استخدامه لقواه السياسية وباستغلال لما رآه من نزاع بين الملك الكامل ومنافسيه في سوريا)
أغضبت هذه المعاهدة المسلمين واستعظموها، ووجدوا لها من الوهن والألم ما لا يمكن وصفه، واشتد تشنيع الملك الناصر داود بدمشق على عمه الملك الكامل، ونفرت قلوب الرعية وقد رأوا الفرنج يتسلمون بيت المقدس في أول ربيع الآخر سنة 626 وجلس الحافظ سبط بن الجوزي بجامع دمشق، وذكر فضائل بيت المقدس، وحزن الناس لاستيلاء الفرنج عليه، وشنع على هذا العمل فاجتمع في ذلك المجلس ما لا يحصي عدده من الناس وهم في ثورة عنيفة وانشد الحافظ قصيدة أبياتها ثلاثمائة بيت منها.
على قبة المعراج والصخرة التي
…
تفاخرها ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة
…
ومنزل وحي مقفر العرصات
واضطر الملك الكامل إلى أن ترسل رسولا إلى البلاد والى الخليفة لتسكين الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس، بل لقد اضطر الملك الكامل نفسه إلى إن يقنع نفسه بأنه لم يأت أمرا إدَّا، فكان يقول: إنا لم نسمح للفرنج إلا بكنائس وأديرة خراب، والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأموال والضياع. ولكن ذلك لم يقنع أحدا من المسلمين، ولعله لم يقنع الكامل نفسه.
وقد انتهز الفرنج ما حدث من الخلاف بعد موت الملك الكامل فعمروا في القدس قلعة وجعلوا برج داود أحد أبراجها، وكان قد ترك لما خرب المعظم أسوار القدس فمضى الناصر داود وقد علم بما أحدثه الفرنج، وحاصر القدس واستولى عليه عنوة في جمادى الأولى سنة 637 وفي ذلك يقول ابن مطروح:
إذا غدا بالكف مستوطناً
…
أن يبعث الله له ناصراً
فناصر طهره أولا
…
وناصر طهره آخرا
يريد بالناصر الأول صلاح الدين، ومنذ ذلك التاريخ وبيت المقدس بيد المسلمين.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول