المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 81 - بتاريخ: 21 - 01 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 81

- بتاريخ: 21 - 01 - 1935

ص: -1

‌الحج.

. .

لبيك اللهم لبيك!!

الحج والزكاة هما الركنان الاجتماعيان من أركان الدين، يقوم عليهما الأمر بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة، كما يقوم على الثلاثة الأُخَر الأمر بين المرء وربه، وبين المرء ونفسه؛ فالزكاة تقيم نظام المجتمع على التعاطف والرحمة، الحج يقيمها على التعارف والألفة، فيحقق الأول بنفي العقوق معنى الأخاء، ويحقق الثاني بمحو الفروق معنى المساواة؛ والإخاء والمساواة شعار الإسلام، وقاعدة السلام، ومِلاك الحرية، ومعنى المدينة الحق، وروح الديمقراطية الصحيحة

كان الحج وما زال مَطْهرَ الدنيا: ترحض فيه النفوس عن جوهرها أوزار الشهوات وأوضار المادة؛ وكان الحج وما زال ينبوع السلامة: تَبْرد عليه الأكباد الصادية، وترفُه لديه الأعصاب الوانية؛ وكان الحج وما زال مثابة الأمن: تأنس فيه الروح إلى موضع الإمام، ويسكن الوجدان إلى منشأ العقيدة، وينبسط الشعور بذلك الإشراق الإلهي في هذه الأرض السماوية؛ وكان الحج ومازال موعد المسلمين في أقطار الأرض على (عرفات): يتصافقون على الوداد، ويتآلفون على البعاد، ويقفون سواسية أمام الله حاسري الرءوس، خاشعي النفوس، يرفعون إليه دعوات واحدة، في كلمات واحدة، تَصعدُ بها الأنفاس المضطرمة المؤمنة تصعد البخور من مجامر الطيب، أو العطور من نوافح الروض! هنالك يقف المسلمون في هذا الحشر الدينوي حيث وقف صاحب الرسالة، وحواريو النبوة، وخلفاء الدعوة، وأمراء العرب، وملوك الإسلام، وملايين الحجيج من مختلف الألوان والألسن، فيمزجون الذكرى بالذكر، ويصلون النظر بالفكر، ويذكرون في هذه البقعة المحدودة، وفي هذه الساعة الموعودة، كيف اتصلت هنا السماء بالأرض، ونزل الدين على الدنيا، وتجلى الله للإنسان، ونبت من هذه الصحراء الجديبة جنات الشرق والغرب، وثمرات العقل والقلب، وبينات الهدى والسكينة

الحج مؤتمر الإسلام العام، يجدد فيه حبله، ويتعهد به بأهله، ويؤلف بين القلوب في ذات الله، ويؤاخى بين الشعوب في أصل الحق، ويستعرض علائق الناس كل عام فيوشجها بالأحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضُر، وعلى

ص: 1

العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوي المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية، والمدنية الآلية، والمطامع الغربية، فيؤلف منها دعاء واحداً تجأر به النفوس المظلومة جؤاراً تردده الصحراء والسماء!

وما أحوج المسلمين اليوم إلى شهود هذا المؤتمر! لقد حصرهم المستعمرون في أوطانهم المغصوبة، ثم قطعوا بينهم الأسباب، وحرموا عليهم التواصل، وفصلوهم عن الماضي الملهم والمستقبل الواعد، بطمس التاريخ، وقتل اللغة، وإطفاء الدين، فلم يبق لهم جُمعة إلا في هذا الموسم

إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر: هنا غار (حراء) مهبط الوحي، وهنا (دار الأرقم) رمز التضحية، وهنا (جبل ثور) منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، وهذا الشعب وذاك مَجرُّ أذيال الغطاريف من بني هاشم وبني امية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة!!

(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). أما شرط الاستطاعة فقد بطل اليوم، وأصبح الحج فريضة عين لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يَسوغُ في تركها معذرة؛ فأنت تستطيع بالمال اليسير وفي الزمن القصير أن تحج على الباخرة والسيارة والطيارة، دون أن تعرض حياتك للموت، وثروتك للنهب، وصحتك للمرض!

وهذه (شركة مصر للملاحة البحرية) تتعهد لك (بزمزم) و (الكوثر) أن تكفلك وتحملك وتعلمك وتغذيك وتؤويك وتحميك في البحر والبر تحت عَلم دولتك، ورعاية مواطنيك، فلا تكابد وعث الصحراء وعبث الأشقياء، ولا تقاسي بُعدَ الشقة وطول الغربة

لقد كان الحج لرهَقه الشديد وجهده الجاهد يكاد يكون مقصوراً على الطبقات الخشنة من الزراع والصناع والعملة؛ أما الناعمون المترفون من أولي الأمر، وذوي الرأي، وأصحاب الزعامة، فما كانوا يقدمون عليه ولا يفكرون فيه، فظل جَداه على المسلمين ضئيلاً لا يتعدى الحدود الخاصة من قضاء المناسك وأداء الزيارة فماذا يمنع الكبراء والزعماء اليوم أن يتوافوا على ميعاد الله، ما دامت هذه الشركة المصرية الخالصة قد تحملت عنهم أكلاف السفر، وضمنت لهم وسائل العيش، ووفرت عليهم أسباب الرفاهية، حتى ليكتفي المسافر

ص: 2

بحقيبة ثيابه؟

إن في حج سراة العرب والمسلمين إعلاء لشأن الملة، وإغراء بأداء الفريضة، وسعياً لجمع الكلمة، وسبيلاً إلى الوحدة المرجوة. وإن مقام إبراهيم الذي انبثق منه النور، ونزل فيه الفرقان، وانتظم عليه الشمل، لا زال مناراً للأمة، ومثاراً للهمة، ومشرق الأمل الباسم بالعصر الجديد

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌وحُي القبور

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ذهبتُ في صُبح يوم عيد الفطر أحملُ نفسي بنفسي إلى المَقْبرة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيتٌ واحد؛ فكنتُ أمشى وفي جِنَازَةٌ بمُشَيِّعيها من فكرٍ يحملُ فكراً، وخاطرٍ يتبعُ خاطراً، ومعنى يبكي ومعنى يُبكى عليه؛ وكذلك دأْبي كلما انحدرت في هذه الطريق إلى ذلك المكان الذي تأتيه العيونُ بدموعها، وتمشى إليه النفوسُ بأحزانها، وتجيء فيه القلوبُ إلى بقاياها. تلك المقابرُ التي لا ينَادي أهلُها مِن أَهليهم بالأسماء ولا بالألقاب ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا؛ يا أحزانَنَا

ذهبتُ أزور أمواتي الأعزاءَ وأتصلُ منهم بأطراف نفسي لأحيا معهم في الموت ساعةً أعرضُ فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرف وأتوسم، ثم أستبطنُ مما في بطن الأرض، وأستظهرُ مما على ظهرها؛ وجلستُ هناك أُشرِفُ من دهرٍ على دهر ومن دنيا على دنيا، وأخرجتِ الذاكرةُ أفراحها القديمة لتجعلها مادةً جديدةً لأحزانها؛ وانفتح لي الزمنُ الماضي فرأيت رَجْعَةَ الأمس، وكأن دهراً كاملاً خُلق بحوادثه وأيامه ورفع لعيني كما تُرفعَ الصورةُ المعلقةُ في إطارها

أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا؛ والحبيبُ الغائبُ لا يتغير عليه الزمانُ ولا المكانُ في القلب الذي يحبه مهما تَراخَتْ به الأيام؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى، تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تُمحى

ذهب الأمواتُ ذَهَابَهم ولم يقيموا في الدنيا؛ ومعنى ذلك أنهم مروا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبر عنها النفسُ بلسانها لا بلسان حاجتها وحِرصها

الحياة مدةٌ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوغُ كلُّ إنسانٍ جانباً منه، ثم يقال له: هذه هي الأداةُ فاصنع ما شئتَ، فضيلتك أو رذيلتك

جلستُ في المقبرة، وأطرقت أفكر في هذا الموت. يا عجباً للناس كيف لا يستشعرونه وهو يهدمُ من كل حيٍ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمَه هو بجملته، وما زال كلُ بُنْيانٍ من الناس به كالحائط المُسَلطِ عليه خرابُه يَتَآكل من هنا ويتناثر من هنا

يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي، كيف يجعلون الحياةَ مدة نزاع وهي مدةُ عمل؛ وكيف لا

ص: 4

تبرحُ تَنْزُو النوازي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع فضربوا خَصْماً بخصم وردوا كَيْداً بكيد، جاء حكمُ الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء هذا لي

أما والله إنه ليس أعجبُ في السخرية بهذه الدنيا من أن يُعطَى الناسُ ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً، إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً ولا يرجع عنها الراجعُ إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهةُ العظم واللحم حتى على السكين القاطعة. . . .

تأتي الأيامُ وهي في الحقيقة تَفِرّ فِرارَها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةَ فإنما مضت هذه العشرون من عمره. ولقد كان ينبغي أن تُصَحح أعمال الحياة في الناس على هذا الأصل البين، لولا الطباعُ المدخولةُ والنفوسُ الغافلة والعقولُ الضعيفةُ والشهواتُ العارمة؛ فأنه ما دام العمرُ مُقْبِلاً مًدْبِراً في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناولَ من الدنيا إلا ما يُرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقتٍ معاً. وتكونُ الحياةُ في حقيقتها ليست شيئاً إلا أن يكون الضميرُ الإنساني هو الحي في الحي

ما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند اكثر الناس مع المَوْتَى أبنيةً ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسوا أنها موجودة. ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحيُّ المتغلغلُ في الحياة إلى بعيد؛ فما القبرُ إلا بناءٌ قائمٌ لفكرة النهاية والانقطاع؛ وهو في الطرف الآخر رَدٌّ على البيت الذي هو بناءٌ قائم لفكرة البدء والاستمرار؛ وبين الطرفين المَعبدُ وهو بناءٌ لفكرة الضمير الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يقضي

القبرُ كلمةُ الصدق مبنيةً متجسمةً، فكل ما حولها يَتَكَذبُ ويتأول، وليس فيها هي إلا معناها لا يدخله كذبٌ ولا يعتريه تأويل. وإذا ماتت في الأحياء كلمةُ الموت من غرور أو باطلٍ أو غفلةٍ أو أثرة، بقي القبرُ مذكراً بالكلمة شارحاً لها بأظهر معانيها داعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبنياً بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية

القبر كلمةُ الأرض لمن ينخدعُ فيرى العمر الماضي كأنه غيرُ ماضٍ، فيعملُ في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه، فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوانِ ويقتاسُ به فشريعته جَوْفُه

ص: 5

وأعضاؤه. وترجعُ بذلك حيوانيته مع نفسه الروحانية، كالحمار الذي يملكُه ويعلفُه، لو سئل الحمارُ عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري. . . . . .

القبرُ على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا معناها أن الإنسان في قانون نهايته فلينظر كيف ينتهي

إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاءُ عليها، فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها. طريقة إكراه الحيوان الإنساني على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلها أصلاً في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها، إذ كانت روحانيته في النهايات لا في بداياتها

في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتاً تعملُ أعمالها؛ فإذا انتهت الحياةُ انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتاً يخلدُ هو فيها؛ فهو من الخير خالدُ في الخير ومن الشر هو خالد في الشر؛ فكأن الموت إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين آتيةً وراجعة

وإذا كان الأمر للنهاية فقد وجب أن تبطلَ من الحياة نهاياتٌ كثيرة فلا يترك الشُّر يمضي إلى نهايته بل يُحسم في بدئه ويقتل في أول أنفاسه؛ وكذلك الشأن في كل ما لا يحسن أن يبدأ، فانه لا يجوز أن يمتد كالعدواة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب؛ وما شابَكَ هذه أو شابهها، فإنها كلها انبعاثٌ من الوجود الحيواني وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبرٌ كي تسلم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية

يا من لهم في القبور أموات!

إن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكون معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا

القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا فهي مدة لو صُرفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضَياعٌ في الشر أو الإثم؟ ولو وُلد الإنسان ومشى وأيفَعَ وشبَّ واكتهل وهرم في يوم واحد، فما عساه كان يُضيع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصر من يوم

ينادي القبر: أصلحوا عيوبَكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها. فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي

ص: 6

بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقت وهرب.

هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبر أيضاً. فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حكُم محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي وكيف تكون.

في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه وأن يُسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يُميتَ في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ لإرادة عقلُها القويُّ الثابت؛ وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في زمن هذا العقل كما لا يجد الليل محلاً في ساعات الشمس

ثلاثةُ أرواح لا تصلح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها:

روحُ الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 7

‌في الجحيم البلقاني

ألبانيا الفتاة

لمناسبة حوادثها الأخيرة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في أوربا دولة إسلامية صغيرة يحدق الخطر اليوم بمصايرها؛ ويتطلع الاستعمار الأوربي إلى افتراسها: تل هي مملكة ألبانيا التي أثارت حوادثها الأخيرة كثيراً من التساؤل والاهتمام، وهي الدولة المسلمة الوحيدة في أوربا، لأن تركيا لم تبق بعد من الوجهة الجغرافية دولة أوربية؛ ومن الأسف أن هذه الملكة الصغيرة تجد نفسها، مذ حصلت على استقلالها قبيل الحرب الكبرى، بسبب ظروفها الجغرافية، هدفاً لأطماع ومنافسات دولية قوية لا تستطيع خلاصاً منها، وترى نفسها مرغمة بحكم ضعفها وعزلتها إلى التماس العون والحماية من أولئك الذين يتطلعون إلى افتراسها

كانت ألبانيا قبل الحرب ولاية تركية. ولكن هذه الأمة الصغيرة الباسلة تناضل في سبيل استقلالها منذ بداية القرن التاسع عشر؛ وقد استطاعت فعلاً أن تحصل على نوع من الاستقلال في عهد زعيمها علي باشا اليانيني في أوائل هذا القرن، فلما انهار سلطان هذا الزعيم الذي تملأ حياته وسيره المروعة كثيراً من صحف القصص الغربي، انهارت جهود ألبانيا في الاستقلال، وعادت تركيا فمكنت منها نيرها وسيادتها. ولما نشبت الحرب بين تركيا والدول البلقانية في سنة 1912، كان من نتائجها استقلال ألبانيا، قضت به معاهدة لندن التي عقدت بين الدول في مايو سنة 1913، واتفقت الدول على اختيار حاكم للدولة الجديدة المستقلة، ووقع اختيارها على البرنس دي فيد الألماني. وفي أوائل سنة 1914 قدم البرنس دي فيد إلى ألبانيا بعد أن زار حكومات الدول الأوربية المختلفة، فاستقبله وفد من الزعماء الألبانيين وعلى رأسهم عميدهم أسعد باشا بطل اشقودرة الذي أعلن استقلال ألبانيا قبل أن تقرره معاهدة لندن، طلب إليه باسم الشعب الألباني أن يقبل عرش ألبانيا، فلبي البرنس الدعوة ولقب (بأمبرت) ألبانيا وهو تصغير للقب الامبراطور، وتولى أسعد باشا في الحكومة الجديدة وزارتي الداخلية والحربية، ولكن الخلاف لم يلبث أن دب بينه وبين

ص: 8

البرنس، واضطربت شؤون ألبانيا، وتفاقمت الصعاب حول الملك الجديد، وأضرم أسعد باشا نار الثورة فأرغم البرنس على مغادرة ألبانيا، لأشهر قلائل من مقدمه، وقبض أسعد باشا على رياسة الحكومة الجديدة (أكتوبر سنة 1914)، واختارت ألبانيا ملكاً جديداً هو البرنس برهان الدين ابن السلطان عبد الحميد. ولكن البلاد لبثت تتخبط في غمار الاضطراب والفوضى؛ وكانت الحرب الكبرى قد اضطرمت قبل ذلك بقليل، وأخذت دول الخلفاء تتطلع إلى ألبانيا كمركز حربي هام، وتخشى أن تغدو قاعدة لحركات ألمانيا والنمسا في المشرق؛ وفي ديسمبر سنة 1914 بعثت إيطاليا - بإيعاز الحلفاء - جملة عسكرية إلى ثغر فالونا الألباني فاحتلته؛ وعلى أثر ذلك وقعت بين الدول مفاوضات سرية بشأن ألبانيا، ووعد الحلفاء بأن يتركوا ألبانيا غنماً لإيطاليا مقابل دخولها في الحرب معهم؛ ووعدت النمسا من جانبها إيطاليا بأن تؤيد احتلالها لثغر فالونا وتطلق يدها في ألبانيا إذا هي لزمت الحياد. ولكنها لما رأت تردد إيطاليا دفعت جيوشها إلى الجنوب؛ وفي أواخر سنة 1915 غزت الجنود النمسوية الألمانية ألبانيا واستولت على اشقودرة، ووصلت إلى ظاهر تيرانا عاصمة ألبانيا، وغزت الجيوش البلغارية شرق ألبانيا؛ فاضطربت حكومة أسعد باشا الموالية للحلفاء وسقطت واضطرت إيطاليا إلى إخلاء ثغر دورازو ولكنها احتفظت بثغر فالونا. ولبث الألمان والنمسويون يحتلون شمال ألبانيا وشرقها لتأمين مواصلاتهم مع تركيا والميادين الشرقية حتى نهاية الحرب الكبرى. ولما انتصر الحلفاء كان من المقرر أولاً أن يعطى القسم الجنوبي من ألبانيا لليونان، ووافقت إيطاليا على ذلك بشرط أن تعترف اليونان بحمايتها على باقي ألبانيا مع التنازل عن سلخة شمالية لصربيا، ولكن هذا التقسيم لم يتم؛ وعادت إيطاليا إلى المطالبة بتنفيذ الوعد الذي قطع لها بالاستيلاء على ألبانيا. وفي مؤتمر سان ريمو (1920) الذي عقد للنظر في مسألة الانتدابات، منح الانتداب على ألبانيا لإيطاليا، وأخذت إيطاليا تعمل لاحتلال ألبانيا وبسط سيادتها؛ ومع أن ألبانيا غدت عضواً في عصبة الأمم، فان إيطاليا استطاعت في أواخر سنة 1921 أن تحمل بريطانيا العظمى وفرنسا واليابان على إصدار تصريح تعترف فيه (بأن انتهاك الحدود الألبانية أو استقلال ألبانيا يمكن أن يعتبر خطراً على سلامة إيطاليا من الوجهة العسكرية)

على أن ألبانيا لم تستكن لهذه المحاولات الاستعمارية. والشعب الألباني شعب باسل رغم

ص: 9

كونه يقل عن المليونين عداً (نحو مليون وستمائة ألف ثلثاهم من المسلمين)، يقدس حرياته واستقلاله، ولهذا عادت ألبانيا فاضطرمت بحركة وطنية اخرى؛ وتدخلت السياسة اليوجوسلافية خصيمة السياسة الإيطالية لتأييد هذه الحركة التي قادها زعيم فتي هو أحمد زوغو؛ ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى استطاع أحمد زوغو بمعاونة يوجوسلافيا أن ينشئ في ألبانيا جمهورية مستقلة، وان ينتخب رئيساً لهذه الجمهورية (فبراير سنة 1925). ورأى زوغو أنه لا يستطيع المحافظة على سلامة الدولة الجديدة في بلد وعر قوى المراس قليل الموارد دون معاونة أجنبية؛ ولما رأت السياسة الإيطالية أن يوجوسلافيا تنافسها في ألبانيا، تقربت من أحمد زوغو؛ وآثر زوغو بعد أن حقق الخطوة الأولى من برنامجه أن يتفاهم مع حكومة رومه، وانتهى هذا التفاهم بعقد ميثاق تيرانا (نوفمبر سنة 1926)، وهو ميثاق تأييد متبادل وتعاون ودي، تستطيع الحكومة الإيطالية أن تتدخل بمقتضاه في شئون ألبانيا، وتتعهد أن تحافظ على الحالة القائمة فيها في حدود المعاهدات المعقودة وميثاق عصبة الأمم. وفي العام التالي عقدت ألبانيا مع إيطاليا معاهدة دفاعية لمدة عشرين سنة، تتعهد فيها كل منهما بأن تضع تحت تصرف حليفتها كل مواردها العسكرية والمالية وغيرها متى طلبت إليها هذا العون لدرء الخطر عنها

واستطاع أحمد زوغو أن يهدئ الحالة في ألبانيا وأن يقبض على ناصية الأمور رغم هذه الاتفاقات التي تقضي على استقلال ألبانيا وتجعلها شبه مستعمرة إيطالية. واستغلت إيطاليا هذه الفرص لتوطيد نفوذها؛ وعقدت لألبانيا بواسطة عصبة الأمم قرضاً قدره خمسون مليون فرنك ذهباً، وقامت بإنشاء البنك الألباني الوطني، ووظفت أموال إيطالية كثيرة في المرافق الألبانية، ومكنت السياسة الفاشستية نفوذها من ألبانيا. واعتمد أحد زوغو على هذا النفوذ في تأييد مركزه وسلطانه؛ وفي سبتمبر سنة 1928 أعلن نفسه ملكاً على ألبانيا باسم الملك زوغو الأول، واستطاع أن يوطد مركزه وأن يقضي على كل معارضة؛ ولكنه شعر في نفس الوقت أن توغل النفوذ الإيطالي في ألبانيا، يثير الشعور الوطني، وقد ينقلب هذا الشعور ضده، ورأى من جهة أخرى انه ليس في كبير حاجة إلى معاونة إيطاليا بعد؛ فلم يقبل أن يجدد ميثاق تيرانا الذي انتهى أجله سنة 1931، وبقيت معاهدة سنة 1927 هي أساس العلائق بين إيطاليا وألبانيا؛ ولكنه اضطر أن يعقد اتفاقاً مالياً في صيف 1931،

ص: 10

تتعهد إيطاليا بمقتضاه أن تقدم لألبانيا بشروط معينة قرضاً قدره مائة مليون فرنك ذهباً بلا فائدة، وتؤدي منها إليها كل عام عشرة ملايين.

واهتمام السياسة الإيطالية بألبانيا وتمكين نفوذها منها يرجع إلى عوامل جغرافية وعسكرية خطيرة، فألبانيا تقع في مواجهة إيطاليا الجنوبية على الضفة اليمنى من بحر الأدرياتيك، وليس بين ثغر باري الإيطالي وبين ثغر دورازو الألباني أكثر من بضع ساعات، ولا يفصل برنديزي وفالونا أكثر من مائة كيلو متر؛ ثم إن شواطئ ألبانيا تصلح بطبيعتها قواعد ومرافئ حصينة للأسطول الايطالي، على حين أن الشواطئ الإيطالية المواجهة ليست لها هذه الخاصة. ولألبانيا وقت السلم جيش نظامي يبلغ تسعة الآف، ويمكن وقت الحرب أن بغدو مائة ألف، وهو مدرب على الأساليب الإيطالية بحيث يغدو وقت الحرب بالنسبة لإيطاليا عوناً لا يستهان به. ومن جهة أخرى فان وقوع ألبانيا في جنوب يوجوسلافيا خصيمة إيطاليا ومنافستها القوية يجعلها إذا نشبت حرب بين الدولتين قنطرة سهلة للوصول إلى إيطاليا وتهديد شواطئها وثغورها الجنوبية بسرعة؛ وإيطاليا تحسب لهذا الخطر حسابه، خصوصاً بعد تحسن العلائق بين ألبانيا ويوجوسلافيا في الآونة الأخيرة

ولنحاول الآن أن نستعرض موقف ألبانيا الحاضر بعد الذي أذاعته الأنباء الأخيرة عن وقوع اضطرابات خطيرة فيها يوشك أن تتمخض عن انقلاب سياسي جديد. والظاهر أن هنالك مبالغة في هذه الأنباء قصدت إليها بعض المصادر التي تعمل على تشويه سمعة ألبانيا ولاسيما المصادر اليونانية نظراً لعدم رضى اليونان عن معاملة الأقلية اليونانية في ألبانيا؛ وهذه الأقلية يسكن معظمها في القسم الذي ضم إلى ألبانيا من مقاطعة أبيروس وهي مثار الخلاف بين البلدين. وتنفي المصادر الألبانية الرسمية هذه الأنباء، وتقول إن ما حدث كله يتلخص في أن زعيماَ ناقماً يدعى محرم بجرا كطاري قاوم السلطات في أولميشت حينما أرادت أن تقبض لديه على بعض المجرمين الفارين الذين آواهم، وإن السلطات استطاعت أخيراً أن تقمع حركاته وأنه اضطر إلى الفرار مع بعض أنصاره إلى ما وراء الحدود اليوجوسلافية؛ بيد أنه إذا لم تك ثمة ثورة عامة في ألبانيا، أو كانت ثمة محاولة إلى الثورة سحقت قبل استفحالها، فانه لا ريب أن شئون ألبانيا ليست على ما يرام، وأنها تجوز فترة من الاضطراب والقلق. فمنذ نحو عامين تضطرم الكتلة المعارضة لأحمد زوغو

ص: 11

بنزعة قوية إلى الثورة وإلى إلغاء الملوكية، وإعادة النظام الجمهوري بعيداً عن الوصاية الأجنبية، وقد أسفرت هذه الحركة منذ نحو عام عن محاولة اتهم فيها عدة كبيرة من الشباب المتعلم بالتآمر على سلامة الدولة.

ومن جهة أخرى فقد رأت إيطاليا أنها لم تحقق كل ما أرادت من تدخلها في الشئون الألبانية وقررت أن تقطع الإعانة المالية السنوية عن الملك زوغو حتى تجاب إلى مطالبها في السيطرة على التجارة الألبانية، وافتتاح المدارس الإيطالية المغلقة، وتعيين مستشارين إيطاليين في الإدارات الألبانية، وتعيين ضباط إيطاليين لتدريب الجيس الألباني وغيرها؛ وهذه مطالب لم يقبلها أحمد زوغو وحكومته. وقد أحدث قطع الإعانة المالية ارتباكاً خطيراً في الحكومة الألبانية، واضطربت المرافق والمشاريع العامة، ونضبت موارد القصر والإدارات الحكومية، وساد روح من القلق والتذمر حول الملك زوغو وحكومته، وتحركت المعارضة لتحاول فرصتها؛ والظاهر أن الحركة الأخيرة كانت أثراً من آثار هذا الارتباك العام، وأنها ليست إلا بداية قد تعقبها محاولات أخرى إذا لم تتح للملك زوغو وعصبته فرصة لتوطيد مركزهم بالتفاهم مع إيطاليا وتلقي معونتها أو آية معونة خارجية أخرى

والحقيقة أن تلك الدولة الصغيرة المسلمة تجد نفسها في مركز محزن؛ فهي لا تستطيع أن تعيش مستقلة بنفسها، ولا تستطيع رغم بسالتها أن تذود عن هذا الاستقلال الذي تجاهد في سبيله، وهي مطمح أنظار دولتين قويتين خصيمتين، وليس في مقدورها أن تفلت من نتائج هذا التجاذب السياسي الذي تتعرض له بموقعها الجغرافي وظروفها العسكرية، وإذا فلا بد لها أن تختار الخضوع لأحد النفوذين: النفوذ الإيطالي، أو النفوذ اليوجوسلافي، وقد استظل أحمد زوغو بنفوذ يوجوسلافيا حتى تمكن من إنشاء ألبانيا الجديدة ومن التربع على عرشها؛ ثم استظل بعد ذلك بالنفوذ الإيطالي ليوطد دولته الجديدة، وهاهو اليوم يتبرم بذل النفوذ ويحاول خلاصاً منه. فهل يكون ذلك نذير العود إلى سياسة التفاهم مع يوجوسلافيا؟ إن إيطاليا ترى في ألبانيا غنماً تحرص عليه كل الحرص وتعما بكل الوسائل لكي تستأثر به، وترى فيها مجازاً للتوسع في المشرق، والسياسة الفاشستية تنشط اليوم إلى التوسع والاستعمار حيثما استطاعت؛ ومن المحقق أنها ستنازع يوجوسلافيا أية محاولة تقوم بها في ألبانيا، لأنها ترى في مثل تلك المحاولة اعتداء على سلامتها

ص: 12

وعلى أي حال فان مصير ألبانيا غامض كل الغموض. وخير ما يمكن أن تفوز به هذه الأمة الصغيرة الباسلة هو أن تعيش كدولة (فاصلة) في ظل نوع من الاستقلال، وأن تعمل للانتفاع بهذا التجاذب السياسي الذي تترواح بين شقيه بذكاء واعتدال. وشر ما يمكن أن يصيب ألبانيا هو أن تتفق الدولتان المتنافستان على اقتسامها بين سمع أوربا المتمدنة وبصرها، وتحقق كل بذلك أطماعها، وتذهب الأمة الباسلة، كما ذهبت كثيرات غيرها، ضحية الاستعمار الغربي

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 13

‌السيارة الملعونة!

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان لي - في وقت من الأوقات - سيارة من طراز لا أعينه (تًسع السبعة الأقاليم طراً) ولم تكن بي حاجة إلى كل هذه السعة، فإني كما يقول ابن الرومي:

أنا من خف واستدق، فما يُثقل

أرضاً، ولا يسدّ فضاَء

وكنتُ إذا اتخذتُ مجلسي فيها لا أملأ إلا إصبعين منها، وكانت زنتها نحو طنين، أو بضعة قناطير، وأدع للقارئ حساب ذلك، فمالي قبلٌ بالحساب أو صبرٌ عليه؛ وما حاجة مثلي إلى الحساب والبراعة فيه وكل أشيائي تعد بالآحاد، فان كثرت جداً فبالعشرات؟؟ فأنا أكسب المال قرشاً قرشاً، وأنفق ما أكسب حتى قبل أن يصير في كفي، فما يستقر منه في جيبي شيء، فكأني ساعي بريد، لغيره لا له ما يتعب في حمله ويحفي قدميه وهو يدور به على البيوت! وما رأيت في حياتي ورقة بمائة جنيه! وللبنك الأهلي غرف منحدرة في الأرض، ولها نوافذ عليها شُباكة من السلك المنسوج، وحديد متعارض، فهي تؤدي الضوء ولا تنفذ منها اليدُ مع الأسف! وفي هذه الغرف تجلس فتيات إلى مكاتب صغيرة عليها حزم مكدسة من أوراق النقد المختلفة يختمنها بختم المدير أو لا أدري ماذا يطبعن عليها، وكثيراً ما أقف بهذه النوافذ وأنظر إلى الفتيات، أو على الأصح إلى الأوراق - اعني إلى الثروات - التي في أيديهن، فأتنهد أتحسر! وماذا تخسر الدنيا - أو البنك فانه هو الدنيا في تلك الساعات - إذا انتقلت إلى يدي بقدرة ربك - أو بعطف إحدى الفتيات - حزمة واحدة من هذه الأوراق الكبيرة؟

أيفلس البنك؟ كلا! أيقل الورق المتداول؟ كلا أيضاً! فإني بارع في إتلاف المال، فإذا صار في يدي كثر التداول ولم ينقص، ولقد فتنني منظر الورق مرة فطال وقوفي ونفد صبري، وخرج الرشد من أصابع كفي، فصحت بالفتاة الجميلة (هش. . . هش. . . .!)

فرفعت رأسها إلى النافذة ونظرت ثم ابتسمت وعادت إلى ما بين يديها

فعدت أصيح بها: (هش. . . . . هش. . . .!)

فصعدت عينها مرة أخرى فأسرعت أقول: (يا بنت الحلال! إن مُنى النفس جميعاً في حزمة من هذه الحزم الكثيرة - وفيك أيضاً لو تجودين! - فهلا أعطيتني مما أعطاك الله؟)

ص: 14

ولا ادري ماذا كان جوابها، فقد شعرت بيد غليظة على كتفي، فالتفت، فإذا شرطي ضخم، فقلت لأطمئنه:(منظر جميل جداً، إن البنات يعملن بسرعة عجيبة. وأقول لك الحق، إنهن جميلات! من أين يا ترى يجمعنهم؟ ألا تعرف؟ لشد ما أتمنى أن يكون عندي ولو عشرين حزمة - أعني بنتاً - من أمثالهن!)

فضحك، وسرني ضحكه جداً، فحييته بأدب جم ولطف كثير، وتواضع جميل، وقلت وأنا أودعه:

(اجعل بالك إلي. . . إليهن، لا تدعهم يغبن عن عينك! فإن لي فيهن والله لمآرب! إيه ما أحلى أيديهن الرخصة البضة! ليتني أستطيع أن أضع كفي على كف واحدة منهن! ألا تتمنى ذلك يا صاحبي؟ متع عينك بالنظر يا أخي! متعها، منعها! وهل أقل من النظر؟

ولكن سيارتي، تلك على جمالها وضخامتها وسعتها، أرتني النجوم في الظهر الأحمر، ذلك أنها كانت تستنفذ من البنزين والزيت كل ما هو معروض في دكاكينهما على طريقها، ثم لا تشبع، حتى لقد فكرت في أن أصل خزانها بآبار الموصل! وكثيراً ما هممت بأن أغالطها وأدور من وراء خديعتها، وأملأ لها خزانها ماء بدلاً من البنزين، وأنا أقول لنفسي:(ومن أدراها ان هذا ماء لا بنزين؟) ثم إن خزان الماء كان يغلي كالمرجل بعد دقائق قليلة من السير، فتبدو لي علامة الخطر الحمراء، فأقف وأغير لها الماء، ثم أستأنف السير، وهكذا في الشتاء فكيف بها في الصيف؟ ولهذا صرت أشتري الثلج وافتته، وأحشو به خزانها بدلاً من الماء، ولا أركبها إلا ومعي ذخيرة كافية من ألواح الثلج على المقاعد الخلفية

ولو اقتصر الأمر على هذا لهان الخطب، ولأمكن احتمال المصاب، ولكن محاور العجلتين الخلفيتين كانت مبرية المساليط والأسنان التي تنشب في العجلة وتعلق بها فلا تدعها تفلت، ولم أكن أعلم هذا؟ وأنى لي أن أعرفه وهو شيء محجوب لا يبدو لعين الناظر؟ وكان فساد هذه الأسنان لا يُحدث أثره إلا وأنا في أرض خلاء، ولا أنيس فيها ولا ديار بها، فأكون سائراً مغتبطاً راضي النفس، منشرح الصدر، وفي يميني سيجارة أنعم بتدخينها، وفي عيني ابتسامة عذبة، وعلى لساني - أو شفتي، لا أدري - ألحان أغنية جميلة، وأكون قد خرجتُ من العمران، وأطلقت لها العنان لتهب فضاء الصحراء - حيث كنت أسكن - وإذا بصوت يقول (كركركركركركر. . .) وإذا بإحدى العجلتين الخلفيتين قد خرجت من محورها

ص: 15

وذهبت تجري وحدها في الطريق وإذا أنا مائل على جنبي! فلولا حضور ذهني، وسرعة خاطري، وثبات جناني، لانقلبت بي السيارة، ولانتقل المازني - بعد أن يجدوه - إلى رحمة الله، أو على الأقل إلى المستشفى!

وأفتح ألباب، وأترجل، وأدور بها لأنظر ماذا حدث، ثم أقول:

(شيء جميل! ولكن هل كان من الضروري جداً أن تصنعي هذا هنا على الخصوص؟ ألم يكن من الممكن أن يحدث هذا في شارع محمد علي، أو القلعة، أو غيرهما، حيث الناس يروحون ويجيئون بلا انقطاع؟ أو أمام البيت على الأقل؟ سبحان الله العظيم! ما هذه الطباع الصبيانية؟!)

وأذهب أبحث عن العجلة الطائرة، ثم أدحرجها عائداً بها، وأخلع المعطف والسترة، وأرفع الأكمام، والبس ثوب (العمل) الأزرق، فقد احتجت إليه فحرصت عليه، وأخرج الآلة الرافعة، وعلبة الرزات، وأحمد الله على أن المحور سليم لم ينكسر، وأرد العجلة إلى مكانها، ثم أتوكل على الله وأستأنف السير.

ولكن ما كل مرة تسلم الجرة، فكنت كلما ازددتُ احتياطاً لهذه المفاجآت، زادتني هي افتتاناً في الحيل والمكر السيئ، وقد اضطررت أن أتخذ لي خادماً يصحبني في السيارة ليعينني على بلائها، فحدث مرة وأنا عائد إلى البيت، وكان الوقت منتصف الليل، أن كركرت العجلة - على عادتها - وطارت في ميدان الأوبرا. فوقفت في وسط الميدان، وأمرت الخادم أن يصلح ما فسد، ورحت أنا أتمشى على الإفريز وأدخن سيجارة حتى يفرغ من هذا الأمر، فجاءني يقول ان المحور قد انكسر!

قلت: (هممم! شيء جميل! خبر سار جداً. الثلج حملناه، والبنزين هذه ذخيرته وراءنا كأنا على سفر إلى القطب الشمالي. فلم يبق إلا أن نحمل معنا دكاناً كاملاً من أدوات السيارات والقطع اللازمة لها! لا بأس! غداً إن شاء الله نفعل ذلك. أما الليلة فعليك يا صاحبي أن تدخل في السيارة وتغلقها عليك - أبوابها ونوافذها فان البرد شديد - وتحضن العجلة المتمردة وتنام إلى الصباح، وإنه ليؤسفني أن لا أنيس لك في هذا الميدان الموحش سوى تمثال إبراهيم باشا، ولكنه كان بطلاً، فاحلم بوقائعه إلى الصباح. . . عم مساء والى الملتقى!)

ص: 16

وأقسمت لأبيعنها، فما بقي لي على ألا عيبها صبر، ومضيتً بها - بعد إصلاح محورها - إلى الدكان الذي اشتريتها من صاحبه، وقلت له (بعها بأي ثمن! فما يعنيني إلا أن أتخلص منها)

وكان بيني وبيته ود، فسألني (هل تبيعها بنصف ثمنها؟)

قلت: (وبثلثه - بل بربعه!)

قال: لا لا. حرام. إنها سيارة فخمة! ولو عرضتها بهذا الثمن الزهيد لظن الناس الظنون، ولتوهموا أن فيها عيباً لا يداوى! وأخلق بهم حينئذ أن ينصرفوا عنها ويزهدوا فيها) فسألته

(بكم تنوي إذن أن تعرضها؟)

قال: (بمائة جنيه -)

فصحت (يا خبر اسود! بمائة؟ إن هذه سرقة!)

قال: (لا تكن أبله. . . مالك أنت؟)

وبقيت عنده أسابيع، لا يشتريها أحد، فمررتُ به يوماً فألفيته خارجاً، فرجا مني أن أنتظره حتى يعود. . . دقائق لا أكثر. . . وأخبرني أن سيدة ستحضرـ فإذا جاءت قبله، فعلي أن أستقبلها وأحييها حتى يرجع

وذهب. وجاءت السيدة، فلم يسعني إلا أن أنهض لاستقبالها، لا لأن صاحب الدكان كلفني ذلك، بل لأنها كانت أجمل من أن يستطع امرؤ أن يجرؤ على إهمالها، فقالت:

(هل أنت المسيو. . . . .؟)

قلت: (ليتني كنته! إذن لربحت في العام ثلاثة آلاف من الجنيهات! كلا! لقد خرج وسيعود بعد قليل جداً. . . . تفضلي!)

فأجالت عينها حتى وقعت على سيارتي فقالت

(هل هذه معروضة للبيع؟)

قلت (أظن ذلك! أعني نعم!)

قالت (إنها جميلة. . . ضخمة. . . فخمة. . . (وفتحت بابها) وثيرة المقاعد. . . بديعة. . . كم ثمنها؟)

فتنحنحت وقلت (إ. . . أ. . . ثمنها!!. . . . مائة جنيه!)

ص: 17

قالت (ثمن معقول. . . ليست بغالية)

قلت (ولكنها لا تصلح لك. . أعني أن عيوبها فظيعة!)

قالت (عيوبها؟ إنه لا عيب فيها!)

قلت (الماء يغلي بعد دقائق)

قالت (طبيعي)

قلت (تحرق وقوداً كثيراً. . . تحتاج إلى جالون من البنزين كل أربعة أمتار)

قالت (لا تبالغ. . . إنها كبيرة ضخمة، فمن المعقول أن تحتاج إلى وقود كثير)

قلت (والعجل يطير أثناء السير)

قالت (أوه! ما هذا الإسراف في الطعن؟ هل أستطيع أن أجربها؟)

فخرجت بها، ودرنا بها دورات، ولم أرحمها - أعني السيارة - لأبرز لها - أعني للسيدة - عيوبها - أعني السيارة هذه المرة - فما كان في السيدة هنة، ولكنها كانت كأنها مسحورة، فلا البنزين القليل الذي وضعته فيها نفذ، ولا الماء غلا، ولا العجلة طارت

وقالت السيدة (أترى كيف كنت تبالغ؟ إن ماءها بارد كالثلج! ولا يزال أكثر البنزين باقياً، والعجلة في مكانها ثابتة. لو كان تاجر يصد الزبائن كما تفعل، لخرب!)

فلم تبق لي حيلة، وجاء صاحب المحل فتمت الصفقة، وحسب لي نصيبي من الثمن، مقدمة لثمن سيارة أخرى. . . . .

ولا أدري ماذا كان من أمر السيارة مع هذه السيدة المسكينة ولكنه لا ذنب لي، فقد حذرتها وأنذرتها، وأبرأت ذمتي

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 18

‌حجر بهشتون مفتاح الكتابة المسمارية

بقلم الأستاذ كوركيس حنا عواد

1 -

تمهيد

لئن كان حجر رشيد وثيقة تاريخية خطيرة الشأن أدت إلى فك رموز الكتابة الهيرغليفية، وفتحت ما استغلق من المدنية المصرية القديمة وأوضحت ما أشكل فيها، فان حجر بهشتون يعتبر ولا مراء وثيقة هامة جداً موازية لرفيقتها في المكانة، لكونها أدت إلى فك رموز الكتابة المسمارية، وأنارت السبيل أمام العلماء والباحثين للتطلع إلى الماضي البعيد والتعرف بالمدنيات الآشورية والبابلية. . . . .

على الطريق الرئيسية الموصلة بين بغداد وطهران، يقع هذا الأثر المدهش الذي هو من أعظم الآثار التاريخية في آسيا. ويبعد عن همدان بمسافة 65 ميلاً، وعن كرمنشاه باثنين وعشرين ميلاً

وعُرف هذا الصخر قديماً باسم جبل باغستان البالغ ارتفاعه 3800 قدم. وقد اطلقت هذه التسمية على هذا الأثر نظراً لوجود تلك القرية الصغيرة المسماة بهشتون عند أسفل الصخر، وأصبحت هذه التسمية هي المتعارفة بين علماء الآثار والتاريخ من الأجانب.

وكان السر هنري رولنصن قد استعار هذه التسمية من ياقوت الحموي الذي أتى في معجمه الجغرافي على ذكر هذه القرية وينبوعها فقال: (. . . . قرية بين همذان وحُلوان. . . وجبل بهستون عال مرتفع ممتنع لا يرتقى إلى ذُروته. . . ووجهه من أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت، ومقدار قامات كثيرة من الأرض قد نحت وجهه ومُلس، فزعم بعض الناس أن بعض الأكاسرة أراد أن يتخذ حول هذا الجبل موضع سوقٍ ليدل به على عزته وسلطانه، وعلى ظهر الجبل بقرب الطريق مكان يشبه الغار وفيه عين ماء جارٍ. . .)

ولم يكن ياقوت أول من استعمل هذه التسمية في معجمه، بل سبقه إلى ذلك ديودورس الصقلي المؤرخ كما سيجيء ذكره

2 -

وصف الصخر والينبوع المقدس:

إن لواجهة هذا الصخر وضعاً عجيباً من حيث البروز والانتصاب، فكان ليد الإنسان

ص: 19

نصيب وافر في تهذيبها وصقلها وجعلها واقفة الانحدار كالجدار القائم، فبات النحت والكتابة عليها أمراً ميسوراً. وفي أسفل هذه الواجهة ينبوع ذو ماءٍ نقي جداً. فهنا كانت القوافل منذ الأزمان الغابرة تلقي عصا الترحال لتستريح من وعثاء السفر، وتروي غلتها من هذا المنهل العذب؛ كما أن معظم الجيوش التي سارت من أرض الفرس إلى شمالي بابل قد شربت من هذا الينبوع الشهير. ولقد أكتسب هذا الموقع مسحة تقديسية، كما يقول ديودوروس، لوجوده عند هذا النبع المتفجر

إن لهذا الصخر مزايا، منها اعتباره موقعاً مقدساً، فضلاً غن شموخه وانتصابه، ووقوعه على طريق رئيسية من طرق العالم القديم، ووجود المياه عند سفحه. فكل هذه أسباب وجيهة دواعٍ مهمة أهابت بداريوش الكبير (521 - 485 ق. م) إلى أن يختار هذه الواجهة الجبلية القائمة ليجعل منها سجلاً خالداً على كر العصور، فنحت عليها الصور والكتابات الكثيرة التي كان يرمي من وراء صُنعها إذاعة فتوحاته وانتصاراته على جميع الشعوب المعروفة وقتئذٍ

3 -

المنحوتات:

تمثلُ هذه المنحوتات الملكَ داريوش، وبمعيته اثنان من قواده يحمل أحدهما قوساً والآخر رمحاً. والملك هنا واقف يتقبل شعائر الخضوع والإذعان من قادة العصاة ورؤسائهم المتمردين الذين ثاروا في وجهه خلال السنين الأولى من حكمه، وعصوا أوامره في أنحاء شتى من إمبراطوريته المترامية الأطراف. وقد داس الملك برجله اليسرى جسم رجل مطروح على ظهره، رافعٍ كلتا يديه مستعطفاً ومستغفراً. وأمسك داريوش بيده اليسرى قوساً، أما يده اليمنى فقد رفعها متجهاً بها نحو الإله (أورامزدا) الذي يظهر في وسط أشعة من الأنوار والبروق؛ وانتصب أمام الملك تسعة من هؤلاء القواد والرؤساء الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وقد شُدوا من أعناقهم بعضهم إلى بعض بحبل واحد، وشد وثاق أيديهم وراء ظهورهم

ويبلغ طول واجهة المنحوتات نحو 10 أقدام وعرضها 18 قدماً؛ أما ارتفاع شكل داريوش فخمس أقدام وثماني عقد، وارتفاع كل سجين ثلاث أقدام وعشر عقد، أما ارتفاع أورامزدا من أعلى رأسه إلى منتهى أشعته فثلاث أقدام وتسع عقد، وارتفاع كل من تابعيه أربع أقدام

ص: 20

وعشر عقد، ومنتهى عرضه أربع أقدام وعقدتان

4 -

النصوص:

وتحت لوحة المنحوتات كتابة عظيمة تتشكل من خمسة أعمدة (حقول) متجاورة، يبلغ ارتفاع كل منها نحو 12 قدماً بعرض 6 أقدام، أما عدد أسطرها فتشتمل على الترتيب 96 + 98 + 92 + 92 + 36 والمجوع 414 سطراً. وهي باللغة الفارسية القديمة، لكنها مكتوبة بالأحرف المسمارية الجديدة المتألفة من 39 حرفاً، والتي ابتكرها الفرس. وقد دُون على هذه الأعمدة نسب داريوش وغزواته وانتصاراته على جميع أعدائه وإخماده الثورات المتعددة التي أعقبت تتويجه، واقتحامه شعوباً متعددة، وغيرها من الأعمال التي قام بها خلال حكمه

وعن يسار الكتابة الفارسية ثلاثة أعمدة أخرى وضعت باللغة السوسيانية وكُتبت بالأحرف المسمارية السوسيانية (العيلامية)، وهي تشتمل على ترجمة الأعمدة الأربعة الأولى من النص الفارسي. وعدد أسطرها هو على الترتيب 81 + 85 + 94 + 3 (ملحق) والمجموع 263 سطراً. وتتراوح أبعادها ما بين 10 - 11 قدماً طولاً و 7 أقدام عرضاً

وهناك عن يسار المنحوتات واجهتان أخريان من الصخر عليهما كتابة باللغة البابلية، وكُتبت بالأحرف المسمارية البابلية المتألفة من بضع مئات. . . . . . . . . وتبلغ أسطرهما معاً نحو 112، ويتراوح ارتفاعهما بين 10 - 14 قدماً؛ أما عرضهما معاً فبين 11 - 15 قدماً

ويوجد عن يمين المنحوتات أربعة أعمدة تكميلية بالخط المسماري، وربما تتعلق هذه الأعمدة التكميلية بالحوادث المسرودة على العمود الخامس من النص الفارسي. إلا أن العوامل الجوية قد أثرت في هذه التكملة تأثيراً سيئاً، فأصابها الوان من الخدش والمحو، حتى أن أمر قراءتها أصبح متعذراً في الوقت الحاضر، إلا بعض كلمات من العمود الأول المكتوب باللغة السوسيانية.

أما عدد أسطر هذا القسم فقد ضاعت معالمه ولم يعد في وسعنا معرفتها بالضبط. فجموع الكتابات المقروءة إذا تبلغ 800 سطر تقريباً

وقد كُتب على لوحة المنحوتات فقرات صغيرة تبين أسماء أولئك المتمردين التسعة، ويبلغ

ص: 21

مجموع هذه الفقرات 32 فقرة، منها 11 بالفارسية و12 بالسوسيانية و9 بالبابلية

5 -

بهشتون في نظر الأقدمين:

إن أقدم مصدر تاريخي نقع فيه على ذكر حجر بهشتون هو تاريخ ديودورس الصقلي، الذي نشأ في القرن الأول الميلادي فذهب إلى أن هذه المنحوتات قد أحدثتها (الملكة سميراميس) لتكون على طريقها ما بين بابل وأكبتانا. وحسبما يرتأي هذا المؤرخ، أن هذه الملكة العظيمة قد ضربت معسكرها عند الينبوع الواقع في أسفل الصخر، وقد غرست بستاناً هناك. . . أما وصفه للمنحوتات فليس بمضبوط، إذ زعم أن الشكل الذي لداريوش إنما هو لسميراميس، وذهب إلى أن الاثني عشر رجلاً المحيطين بالملك إنما هم مائة من حَمَلة الرماح، شخصوا حول ملكتهم!!. . . .

أما الكتابة فيقول إنها (بالأحرف السريانية). ثم قال بأن سميراميس قد تمكنت ان تصعد إلى أعلى الصخر بتكديس احمال وسروج حيواناتها شيئاً فوق شيء. إلا أن هذه الآراء بعيدة كل البعد عن الحقيقة وعارية عن الصحة ككل ما يُنسب إلى هذه الملكة الوهمية. وذكر ديودورس في موضع آخر من كتابه أن الاسكندر الكبير زار هذا الصخر لي سيره من سوسا إلى أكبتانا

ولقد عرف كثير من جغرافيي العرب كابن حوقل والأصطخري (في القرن العاشر الميلادي) وياقوت (في القرن الثالث عشر) هذه المنحوتات والكتابات في بهشتون، ولكن أحداً منهم لم يهتم بأمر الكتابات اهتمامه بالمنحوتات، كما يظهر لنا مما أوردوه عنها، هذا فضلاً عن أنهم لم يذكروا نوع الحروف التي كتبت بها

6 -

بهشتون في نظر السياح الأوربيين القدماء:

من أقدم السياح الأوربيين الذين زاروا بهشتون في العصور المتأخرة أمبرجيو بمبو (1652 - 1705) وهو تاجر إيطالي من أهالي البندقية رحل إلى بلاد الفرس خلال الربع الأخير من القرن السابع عشر، وأعطانا - بالنسبة إلى حالة زمنه - وصفاً دقيقاً لهذه المنحوتات

وبعد ستين سنة تابعه في هذا المضمار المستشرق السويدي أوتر (1707 - 1748)

ص: 22

الذي ساح في بلاد الفرس وفحص المنحوتات، ولكن ملاحظاته عنها قليلة الخطر، وقد اعتبر شكل الإله أورامزدا (نذيراً للخير)

وبعد انقضاء ستين سنة أخرى زار أولفيير (1756 - 1814) العالم الطبيعي الفرنسي بلاد الفرس، وفحص المنحوتات في بهشتون، ورسم لها صورة طبعها بعد ذلك في كتاب رحلته. أما هذه الصورة فخاطئة جداً، لأنها تمثل داريوش جالساً على عرش، ورجلاه مستندتان على كرسي صغير؛ كما ان استنساخه لبقية أشكال المنحوتات ليس بمضبوط ألبتة

ومن الغريب أننا نجد هوك في كتابه: 1818) يطرح جانباً أحاديث (بمبو) وآراءه التي يُركن إليها ويوثق بصحتها إلى درجة غير قليلة، ويعول بالدرجة الرئيسية على ما أتي به أو لفيير من المعلومات التي لا تتفق مع الحقيقة دائماً

7 -

إيضاحات وتعليلات وهمية للمنحوتات:

وكان الصخر قد وصف ثانية جاردان (1765 - 1822) الذي افترض أن اورامزدا وأشعته النورية إنما هو صليب، وزعم أن الأشكال التي تحته تمثل الاثني عشر رسولاً!. . . . .

وبعد مضي سنين قلائل، قام كينير (1782 - 1830) بعدة رحلات في بلاد الفرس، وكان أول من ذهب إلى أن المحنحوتات في بهشتون تعود إلى نفس العصر الذي نشأت فيه آثار برسبوليس

وقد شاركه في هذا الرأي كبل (1799 - 1891) الذي أسهب في وصف هذه المنحوتات في كتاب رحلته

وفي عام 1822 طبع بورتر أبحاثاً قيمة عن رحلاته التي قام بها في جورجيا وفارس وأرمينيا وبابل خلال 1817 - 1820، واليه نحن مدينون بوصف مسهب لمنحوتات بهشتون. وفي هذا الكتاب رسم للمنحوتات يصح أن يُعتبر أحسن ما رُسم لهذا الأثر حتى صدور الكتاب. وقد لاحظ عموماً قدم هذه المنحوتات الغابرة، ولكنه لم يفهم مآلها، فقد ذهب إلى أن هذه المنحوتات البارزة الشهيرة إنما عملها شلمناصر (ملك أشور وميديا) ليخلد بها اكتساحه لبني إسرائيل. وزعم أن الأسرى الواقفين أمام دواريوش إنما هم من الأسباط العشرة، واعتبر أن شكل داريوش لشلمناصر، إلى غير ذلك من التعليلات التي نستغربها

ص: 23

الآن. . . . ومع هذا فإنها تطلعنا على وضع علم الآثار في ذلك العصر وتدلنا صريحاً على فهم الناس لبقايا السلف

8 -

صعوبة الوصول إلى الكتابة لدراستها

ومع أن منحوتات بهشتون كانت قد لوحظت ودرست من قِبَل عدد غير قليل من السياح خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فان أمر نقل الكتابات التي هنالك ظل نسياً منسياً. . . . ولهذا لم تقع تلك النصوص في حوزة من يريد فحصها أو تدقيقها ودرسها من طبقة المتعلمين. ولاشك أن لهذا التقصير سبباً: فالقيام باستنساخ النصوص أمر في منتهى الصعوبة، لأن الكتابة - كما قلنا سابقاً - نحتت على واجهة صخرية قائمة الانحدار، يبلغ ارتفاعها 500 قدم فوق مستوى السهل. على أن من الممكن الوصول إلى ما علوه مائتا قدم فقط بتسلق كتل الصخر وجلاميده المتفككة والقلاع التي في سفح الجبل؛ أما بعد هذه الصخور المبعثرة، فالأمر يصبح عسيراً جداً، إذ ينتصب الصخر فجأة، فيكون التسلق عليه محفوفاُ بالمخاطر الجسيمة من كل جانب

9 -

السر هنري رولنصن يعمل في بهشتون:

وكان أول من تغلب على هذه الصعاب هو السر هنري رولنصن (1810 - 1895) الذي أصبح حل الكتابة المسمارية مديناً لمجهوداته ومساعيه ومغامراته

ففي عام 1833، عندما كان ضابطاً في الجيش الهندي اختير مع بضعة ضباط ليتوجهوا إلى إيران ليساعدوا الشاه على تدريب جيشه. وفي عام 1835 كان قد أرسل إلى كرمنشاه باعتباره مستشاراً للحربية ومساعداً لحاكم تلك المقاطعة. وفي طريقه إلى هناك مر بهمدان (اكبتانا) وانتهز الفرصة فاستنسخ الكتابات المسمارية المنحوتة على واجهة الصخر في وادٍ بجبل الوند قريباً من تلك المدينة. وقد نجح في دراسته لهذه الكتابات ووفق الحصول على (مفتاح) لمعرفة العلامات المستعملة في الكتابات المسمارية الفارسية القديمة. ولابد أن نذكر هنا أنه لولا دراسته اللغة الزندية القديمة والفهلوية لما تمكن من قراءة الكتابة البابلية، لأن هاتين اللغتين كانت مشابهتين لكتابة اللغة المسمارية الفارسية، وتمكن أخيراً أن يكون (هيكلاً) للقواعد الصرفية والنحوية وأن يتحقق من معاني كلمات متعددة

ص: 24

وكان خلال الفترة التي أقامها بكرمنشاه (أي من سنة 1835 إلى 1837) قد خصص أوقات فراغه لفحص الكتابات التي على حجر بهشتون. وفي ختام سنة 1837 كان قد حصل على نسخ لما يقارب نصف الأعمدة للنص الفارسي. وفي نقله لهذه النصوص أثبت أنه قطع شوطاً بعيداً في التقدم على كل باحث في هذا الموضوع. ولاشك أن نجاحه في هذا العمل المضني شهادة صادقة على سعة ذكائه وعلو همته

إلا أن مهمته العسكرية اعترضت سبيل عمله وأقعدته عن إتمامه، فرأى المصلحة تقضي بأن يدع أعماله في بهشتون جانباً، ريثما يُعيد الكرة عليها عام 1844

وفي صيف تلك السنة عاد إلى هنا مع المستر هستر والكابتن جونس فأمكنه بمساعدتهما أن ينتهي من استنساخه للنص الفارسي، وأن يعمل نسخة كاملة للترجمة السوسيانية. وعندما عمل في مبدأ الأمر نسخة للنص الفارسي، قارَنَ الفقرتين الأوليين مع الكتابات التي استنسخها سابقاً في (الوند) فزودته هذه المقارنة بمعرفة الإماء المحلية لكثير من الأعلام، فضلاً عن التوصل إلى معرفة عدد لا يستهان به من الكلمات الأخرى

وفي عام 1847 طبع رولنصن ترجمة كاملة للنص الفارسي من كتابات بهشتون، مع ذيل صرفي نحوي واسع وأبجدية

أما الترجمة البابلية فقد نجح رولنصن هذا الوقت في عمل نسخ للكتابات التسع الصغيرة التي على لوحة المنحوتات، غير أن القسم الأساسي من النص البابلي قد ظل الوصول إليه أمنع من عقاب الجو؛ وما برحت الوضعية على هذه الصورة حتى كان خريف 1847، حينما عاد رولنصن مرة أخرى إلى بهشتون، فباشر عمل التدابير السديدة للحصول على نسخة من الترجمة البابلية. واستعداداً لإنجاز هذه المهمة الشاقة زودَ نفسه بحبال وألواح خشبية وسلالم إلى غير ذلك من وسائل الصعود والتسلق، واصطحب معه بعض الأكراد الجبليين ليكونوا عوناً له في مهمته هذه.

وكانت خاتمة هذه الرواية أن توصل رولنصن إلى الغاية المبتغاة، بعد أن كان إدراك تلك الغاية ممتنعاً والتماسها وعراً.

فاستنسخ الكتابة البابلية بأجمعها، وبهذا أزاح ستاراً آخر طالما كان مسدولاً أمام العلماء والباحثين. . .

ص: 25

ولا تزال بعض أوراق رولنصن ومنسوخاته معروضة إلى اليوم في القاعة البابلية في المتحف البريطاني، برغم ما أصابها من التلف أثناء عرضها قبلاً في قاعة المحاضرات لمختلف الجمعيات العلمية بلندن

ولابد من الإشارة هنا، إلى أن حل رموز الكتابة المسمارية كان قد اشتغل به نفر من العلماء البارزين، نخص بالذكر منهم: جروتفند وأوبرت ونوريس وهنكس وغيرهم، إلا أن رولنصن فاقهم جميعاً، وحاز قصب السبق عليهم، فلا غرو إذا دُعِيَ بحق (أبا علم الآشوريات)

10 -

مساعي العلماء بعد رولنص:

وكان بين السياح الذين رحلوا إلى بلاد الفرس منذ زمن رولنصن، وقاموا بمساع لإعادة فحص هذه الكتابة هو جاكسن الذي وفق عام 1903 إلى الوصول إلى الحافة التي تحت النص الفارسي، والى عمل مقارنة ومقابلة بين العبارات المشكوك في صحة استنساخها سابقاً

ثم لما كان عام 1904 أوفد المتحف البريطاني المستركنج (الذي كان وقتئذ قائماً بأعمال الحفر والتنقيب في بقايا نينوى) إلى بهشتون، ليقابل بين النصوص وليقيس الأبعاد وليأخذ الصور الفوتوغرافية. وقد رافقه المستر طومبسن ليساعده على أداء هذا العمل. وقد قام كنج وطومبسن بهذه المهمة خير قيام، وتمكنا من معرفة مقاسات الأشكال والكتابات التي أتينا على ذكرها في محلها من هذا البحث. وقد وجدا بوجه الاجمال أن عرض الساحة المغطاة بالمنحوتات والكتابات معاً يبلغ 60 قدماً، وارتفاعها 23 قدماً

وفي سنة 1907 تمكن هذان الباحثان أن ينشرا النصوص الكاملة للكتابات الفارسية والسوسيانية والبابلية في بهشتون، المبنية على مقارنات حديثة مع الأصول التي على الصخر. مع ترجمتها بأجمعها إلى الانكليزية، ومقدمة وتصدير وصور فوتوغرافية الخ بعنوان:

+ 223

ولا يزال هذا المؤلف أحسن كتاب للآن يمكن الرجوع إليه في التوسع في هذا البحث

11 -

صيانة مدوناته داريوش:

ص: 26

ويمكننا أن نعزو بقاء كتابات داريوش هنا، إلى أنها حفرت على واجهة صخرية قائمة الانحدار، بحيث أن التسلق إليها يُعد من الأمور المتعذرة. ولكيما يجعل مدونات بعيدة بقدر الإمكان عن أن تسطو عليها أيدي الأعداء وتنال منها مأرباً، فقد انتزع الزوائد الصخرية الكائنة تحت الكتابة، فتكون من جراء ذلك جدار صخري أملس، تعلوه الكتابات والصور. وهناك دلائل على أن الملك قد كون بعضاً من الطرق للصعود إلى هذا الصخر بحيث يُتاح للمارة أن يصعدوا ويتفرجوا على كتاباته ونقوشه. ولكن جميع تلك الطرق التي كانت مؤدية إلى الصخر قد انطمست معالمها الآن

وقد كان لتحفظ الملك وبُعد نظره التأثير الحسن في الابقاء على المنحوتات والمدونات، فنجت من التشويه والتلف الناجمين عن عبث يد الإنسان. ويمكننا القول بأن معظم التلف الذي أصابها إنما كان من تأثير العوامل الجوية، ومن رشح الماء خلال طبقات الصخور المكونة للجبل

ولم يقف عمل داريوش في إذاعة جبروته وعظمته في العالم عند هذه المنحوتات والمدونات، بل أراد أن يعمل غيرها من النسخ، لتصدر وتُذاع بين الشعوب البعيدة عن هذا الموقع، والداخلة في إمبراطوريته

فقد كشف الدكتور كولدواي في بابل عن قطعة من الترجمة البابلية. وإنا لنأمل في أن ما تم وما سيتم من الحفريات الأثرية في العراق وفارس يؤديان إلى اكتشاف نسخ أخرى تميط اللثام عن بعض المعميات التي تعتور النصوص الحالية

والخلاصة، أن هذا الملك العظيم، قد دون انتصاراته في اللغات الثلاث، التي كان لها أعظم الأهمية في العالم الشرقي وقتئذ، ولم يكتفِ بهذا بل جعله مطلاً على طريق رئيسية، وعلى قطعة ترتفع خمسمائة قدم فوق مستوى سطح تلك الطريق وبالقرب من الماء أيضاً، فلابد للمسافر من أن يستريح قليلاً هنا، فيتاح له عندئذٍ مشاهدة هذا الأثر ملياً والتساؤل عن ماهيته

(الموصل)

كوركيس حنا عواد

ص: 27

‌الصورة

قصة تمثيلية في فصل واحد بمنظرين

بقلم حسين شوقي

الأشخاص

الزوج. الزوجة. الحماة (أم الزوجة)

المكان: حجرة نوم الزوجة

المنظر الأول

الزوجة منهمكة في وضع حوائجها في الحقيبة، بينما أمها تجلس أمامها على كرسي (فوتوي) تروح على نفسها بمروحة

الأم - أصغي إلى يا ابنتي، بالله لا تهجري زوجك. إنك لن تجدي أفضل منه. صحيح أن فيه عيوباً مثل مغالاته في الشرب، أو تأخره في السهر، ولكن أين الزوج الكامل؟

الزوجة - هذه ليست عيوباً في نظري يا أماه، بالعكس إني أبغض الزوج الذي يقضي كل وقته في المنزل متعلقاً بأهداب زوجه. لا يعرف ما يحدث في الحياة خارج محيط البيت

الأم - إني لا أفهمك يا ابنتي. إذا هجرك زوجك غضبت، وإن بقي بجانبك غضبت أيضاً، فماذا تريدين في النهاية؟ لماذا تهجرينه إذن؟

الزوجة - لأنه يكذب، والكذب أبغض الأمور لدي، فهو مرآة النفس الجبانة

الأم - ابنتي، تريثي. فكري ملياً في الأمر

الزوجة - أسف يا أماه. لا أستطيع البقاء. . . آه من النذل! يخدعني أنا؟ ومع مَنْ؟ مع أعز صديقة لي!

الأم - ليس الذنب ذنبي يا ابنتي. . . المسئولة هي صديقتك العزيزة. أليست هي التي غازلته؟

الزوجة - أه منها الماكرة! كم تظاهرت لي بالوفاء! إنها كانت تشاركني دموعي في أوقات أحزاني! (بعد لحظة) ولكن ما الذي حببها إليه يا ترى، وهي خلو من كل جمال؟ أعلق بأنفها المقوس مثل أنف الحاخام؟ أم اشتهى شفتيها الغليظتين كشفتي الزنجية؟

ص: 29

الأم - الآن فقط تجدينها دميمة!. . . وكنت إذا ذكرت لك هذه العيوب نفسها عارضتني قائلة: إن هذه العيوب تكسب صديقتك ما تسمونه أنتم يا شباب اليوم: الجاذبية الجنسية. . . . حقاً! ما أبعدكم عن إدراكُ مثل الجمال الحقيقية!. . .

الزوجة (في ضحك) - يا أماه. . أمثالكن نساء قبل الحرب، يرون الجمال عبارة عن غرائر من الشمم رُسمت لها حواجب وعيون وأفواه. . . . .

الأم (في غضب) - وما أوقحكن أيضاً يا بنات اليوم! (بعد لحظة) والآن لنعد إلى موضوعنا. . بالله سامحي زوجك يا ابنتي. . . . أنت تعرفين أنني لا أميل إليه كثيراً. . . . . ولن أنسى له هديته التافهة حينما عاد في الخريف الماضي من روما. . . ولكن هذا لا يمنعني بصفتي أمك التي تحب لك الخير أن أشير عليك بالبقاء معه. . . سامحيه، إن التسامح أفضل معاني الكرم. . .

الزوجة (في تهكم) - آسف يا أماه. . . لستُ قديسة لأتسامح. ولستُ أعيش في زمن المسيح، حتى إذا لطمني شخص على خذي الأيمن أدرت له الخد الأيسر. .

الأم - سامحيه يا ابنتي. . . إنها هفوة واحدة منه. . . (في حسرة) رب! كم سامحتُ أنا والدك عن هفوات لا هفوة!

الزوجة - لأنك كنت بلهاء يا أماه. . .

الأم - (في غضب) - حقاً! إنك وقحة! (بعد لحظة) كلا! يا ابنتي لم أكن بلهاء حينما سامحت والدك، غفر الله له! بل كنت على ثقة أنه سوف يمل حياة المغامرات التي كان يحياها، وانه سوف يدرك في النهاية أن السعادة الحقيقية للزوج هي داخل منزله. . . طبعاً تألمت كثيراً من أجل هذا، ولكنب ظفرت في النهاية. . . (بعد لحظة) ولو كنتُ هجرتُ والدك إذ ذاك، أكانت ترى الوجود هذه الفتاة الرشيقة الحسناء الماثلة أمامي اليوم؟. . .

الزوجة - (تترك جمع حوائجها فجأة وترتمي في أحضان أمها باكية) آه يا أماه، إنني أتألم. . .

الأم - إنك ما زلت تحبينه يا ابنتي. . . هذا هو الحب، هذا هو قلبك يحتج بدوره على هذا الخصام. .

الزوجة - أجل إني أحبه. . . ولكن كرامتي يا أماه، ماذا أصنع لها؟

ص: 30

الأم - ماذا تقولين؟ الكرامة؟ الحب يا ابنتي قبل كل شيء. . . الحب هو الحياة. . صدقي أمك العجوز المجربة. .

الزوجة (وكأنها عادت إلى نفسها) - كلا! لن أصفح عنه! لقد صممتُ على هجره. . . إن الضعف الذي أظهره الآن ليس خليقاً بفتاة مثلي شاهدت الحرب الكبرى

الأم (في غضب) - ها قد عدت إلى جنونك! (تنهض) افعلي ما شئت. . ولكن اعلمي جيداً أنك ستندمين على عملك هذا. . . أما أنا فقد سئمتُ من إسداء النصح إليك. . .

(تخرج، فيدخل الزوج من باب آخر وبيده بعض الأوراق

المنظر الثاني

الزوج - آسف لو كنتُ أزعجتك، ولكني أتيتُ لأرد لك بعض مستندات لك كانت محفوظة في الخزانة الحديدية. . .

الزوجة - (دون أن تلتفت إليه) حسن. . أشكرك. . . ضعها هناك. . . (تشير إلى مائدة بجوار السرير)

الزوج (في تردد) - هل صممتِ على الرحيل؟

الزوجة - أجلْ. . .

الزوج - هل نسيت كل شيء!: عهد خطوبتنا السعيد. . . نزهاتنا الطويلة في الخلاء. . . الورد الأحمر العجيب الذي كنتُ أقطفه لك خلسةً من حديقة الجار البخيل. . . ثم شهر العسل في ربوع إيطاليا الجميلة. . ثم مقامنا في نابولي تحت أقدام بركان (الفيزوف) المخيف. . . ثم نبيذ إكيا الذهبي. ثم موسيقاها الشجية. . ثم ليالي البندقية الشعرية فوق مياهها الساكنة. . . . . . هل نسيت كل ذلك الماضي البعيد القريب؟. . . . .

الزوجة (متململة) - ثم خيانتك. . . ثم كذبك. . . ثم. . . أرجوك دعني الآن أجمع حوائجي

الزوج - أنت تعلمين أني أسفتُ كثيراً على فعلتي الشنيعة. . . . عزيزتي. . . هلا صفحت عني؟

الزوجة - آسف لا أستطيع. . (في هذه الأثناء تضع خلسة صورة زوجها في الحقيبة فيراها)

ص: 31

الزوج - عزيزتي. . . هل تأذنين لي بأن أدخن سيجارة في هذه الحجرة الظريفة ونحن مجتمعان لآخر مرة؟ (ويجلس على معقد)

الزوجة (في تردد) - فليكن. . .

الزوج - عزيزتي. . . هل تأذنين لي في سؤال واحد؟

الزوجة - لست مستعدة الآن للإجابة على أسئلة، فإني أجمع حوائجي على عجل حتى لا يفوتني قطار المساء. . .

الزوج (ملحاً) - سؤال واحد فقط

الزوجة (متململة (- إذن قل ولكن اقتصد!

الزوج - هل أنت واثقة أنك لم تعودي تحبيني؟

الزوجة - أجل أنا واثقة من ذلك كل الثقة. .

الزوج - ألم يبق في قلبك شيء من العطف؟

الزوجة (مقاطعة) - لا لزوم لهذا الكلام. . . .

الزوج - هو سؤال واحد أريد الإجابة عليه. . . ألم يبق لك شيء من العطف. . . . لا علي. . . . بل على ذكرى الماضي؟. . .

الزوجة - لا

الزوج - لنستبدل إذن كلمة العطف ونعود لى الحب

الزوجة - أبداً. .

الزوج - بل أنا أقرر أنك تشعرين نحوي بالحب!

الزوجة - لا، بل أمقتك!

الزوج - إن المقت والحب قريبان جداً، بل هما متصلان، فهما طرفان، والطرفان لابد أن يتماسا. . .

الزوجة - دع هذا الكلام. . . ألم تنته من سيجارتك؟

الزوج (مستمراً) - إن لدي شاهداً على صحة هذا القول. . . على صحة الحب. . وعبثاُ تحاولين إنكاره. .

الزوجة - دعك من هذا الهراء!. . .

ص: 32

الزوج - (ضاحكاً) إن شاهدي هو في تلك الحقيبة. . هي الصورة التي خبئتها الآن خلسة. . لماذا تحملين صورتي معك إذا كنت لا تحبين صاحب الصورة؟

الزوجة (تخرج الصورة من الحقيبة فتلقى بها على المائدة) - إليكما خذها. . احتفظ بها. .

الزوج (يخف إلى زوجه فيطوقها بذراعيه) - عزيزتي، هذا إقرار منك بأنك ما زلت تحبينني. . . .

الزوجة (في ضعف) - ابتعد عني!. . .

الزوج - هل صفحت الآن!

الزوجة - (مستسلمة) - لا، أبداً، ربما أصفح أنا، ولكن هذا (تشير إلى ناحية القلب) هل يصفح؟

الزوج (ضاحكاً) - هذا؟ لقد سامحني منذ هنيهة حينما حرضك على اغتصاب الصورة!

(ستار)

كرمة ابن هاني

حسين شوقي

ص: 33

‌التصوف الإسلامي

بقلم سليمان فارس النابلسي

تتمة

ماهية الصوفية وبعض عقائدها

إذا ما رجعنا إلى المصادر الصوفية لنتفهم حقيقة هذه الطريقة استخلصنا من بين ثنايا السطور بعد إجهاد وكد أنها إنما تتم بعلم وعمل، وذلك بقطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها ورغباتها ومطامعها المادية حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب من غير الله وتحليقه بذكره سبحانه

وأخص خواص هذه الطريقة لا يتوصل إليه بالتعليم والاستقراء والدرس بل يلتمس بالذوق العالي وتبدل الصفات، إذ أنهم يرون أن الفرق شاسع بين معرفة حد الشيء وبين معرفة الشيء نفسه، كأن يعرف المرء حد السكر مثلاً بأنه حانة يجلس فيها فيأخذ من الشراب إلى أن يصبح ثملاً فنشوان فسكران، وبين أن يكون سكراناً. وكذلك القياس في معرفة حقيقة التصوف من أنه عزوف النفس الكامل عن المادة، وبين أن يكون متصوفاً زاهداً

يعتقد الصوفيون أن معرفة الله لا تأتي بالمجادلات العقلية ولا بالمناظرات الفلسفية، ذلك لأن العقل الإنساني عاجز عن إدراك كُنْه الحق وتفهم صفاته وخواصه بمثل هذه الأشياء، وإنما تتكون المعرفة في الشعور بطريقة خاصة وعمل مستمر يمكن من رؤية الله تعالى بالقلب لا بالعقل

يسلك الناسك (طريقاً) خاصاً للوصول إلى هذه الغاية يكون فيها تهذيبه وتنقية روحه من عوارض الدنيا وزخارفها المادية، ثم يتدرج في هذه السبيل ويقطع (مقامات) معينة يصل في نهايتها إلى الفناء في الحق، وهذه المقامات سبعة وهي: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والتوكل والرضا، يكسبها لنفسه بنفسه بعد طول الجهد والتهذيب المنظم

وقد اختلف العارفون في فهم كنه هذه المقامات وتباينت آراؤهم في تفسيرها على معانيها الظاهرة أو الباطنة، فالفقر مثلاً حسب ظاهر المعنى هو ألا يملك المتصوف الزاهد شيئاً مادياً، على حين أن البعض الآخر ذهب إلى أبعد من ذلك فاعتقد بأن على المتصوف الذي

ص: 34

بلغ (مقام) الفقر أن يجرد نفسه من الشعور بالحاجة إلى المادة ويقتلع من جوانحه التفكير في ضرورتها، وعندئذ فقط يصبح في مقام الفقير المتصوف

وهناك اختلاف آخر، فالقير الذي يتمسك بالفقر ويعتقد اعتقاداً جازماً بتفوق الفقر وماله من فضل على ضروب الغنى طمعاً في مكافأة ربانية ليس متصوفاً حقاً، ذلك لأنه يحمل مشقة الفاقة ويصدف عن المشاعر بالمسرات الدنيوية خشية خسران المبرة الربانية وأجر الصبر، وهذا لا يغني فتيلاً، بينا أن التصوف الحقيقي لا يترك ما في هذه الحياة من ملاذ ومُتَع لقاء ثوابفي الحياة الأخرى، بل هو يبتعد عنها لما يجده في سلوكه هذا وفي حالته من الجزاء الأوفى. وهكذا نرى أن الاختلاف بين واضح، الواحد يتخذ الفقر وسيلة للثواب والأجر، بينا أن الثاني يبتغي الفقر غاية وأملاً

1 -

عقيدتهم في التوحيد: إن شيوخ هذه الطريقة بنوا قواعد

أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد. فمن تصفح كلامهم

وتأمل في ألفاظهم ألغى في مجموعه ما يؤكد له أن هؤلاء

القوم عرفوا صفة الخالق فوجدوه، وشهدوا بقدمه فنزهوه عن

الحدث

والتوحيد هو الحكم بأن الله واحد، وفي ذلك نفي التقسيم لذاته ونفي التشبيه عن حقه وصفاته ونفي الشريك معه في أفعاله ومخلوقاته. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الحق للحق، وهو علمه بأنه واحد وخبره عنه بأنه واحد، والثاني توحيد الله سبحانه للخلق وهو حكمه بأن العبد موحد، وخلقه هو توحيد العبد في قرارة نفسه، والثالث توحيد الخلق لله وهو علم العبد أن الله تعالى واحد وإخباره عنه بأنه واحد

2 -

في المحبة: المحبة عُرفاً هي ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم

إيثارك إياه على نفسك ومالك وموافقتك له سراً وجهراً. وجاء

في كتبهم على لسان المولى عز وجل أنه قال: ما تقرب إلى

ص: 35

عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال

عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببتُه كنت له

سمعاً وبصراً ومؤيداً ويداً

والمحبة على لسان العلماء هي (الإرادة) ولكن ليس مراد القوم بالمحبة الإرادة، فان هذه لا تتعلق بالقديم. فالمحبة الإلهية للعبد هي تخصيصه بإنعام خاص كما أن رحمته له هي إرادة الإنعام

3 -

التوكل: نجد الصوفيين أكثر ما كانوا تضارباً في الآراء

واختلافاً في الفكر في هذه العقيدة وأشباهها مما يتعلق بالمادة،

فبينا نقرأ للروذبادي قوله لرجل صوفي مد يده إلى قشرة بطيخ

ليأكل: (الزم السوق فهو أولى لك وأخيراً)، وقول آخر منهم

(إذا قال الفقير بعد خمسة أيام أنا جائع، فألزموه السوق ومروه

بالكسب والعمل) نقرأ لغيره قوله (أقمت في الحرم مرة عشرة

أيام، فأحسست بضعف، فخرجت إلى الوادي لعلي أجد شيئاً

يسكن ضعفي، فلم أجد شيئاً، فرجعت وقعدت. وبينما أنا جالس

وإذا برجل أعجمي جلس بين يدي ووضع مائدة وقال هي

لك.)

هذا التغالي في التوكل انتظاراً للرزق يأتي عن طريق الرفد والإحسان هو ما يضع من شأن هذه العقيدة في نفوس الناس، إذ أن مثل هذا يورد موارد الفاقات، فلا تسمو النفس، ولا يعظم الشأن

ص: 36

4 -

ومن معتقداتهم الفناء والبقاء. فالفناء سقوط الأوصاف

المذمومة، والبقاء قيام الصفات المحمودة. يقال فني عن

شهواته إذا بقي بنيته وأخلص في عبوديته، ومن فني عن

رغبته بقي بزهادته

وهم يعتقدون كذلك في الغيبة والحضور، فالغيبة هي للقلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق الاشتغال لحس بما ورد عليه من النفحات القدسية. أما الحضور فقد يكون حاضراً بالحق، لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق، بمعنى أنه يكون كأنه حاضر، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه

ولو أردت أن أعدد هذه المعتقدات لطال بي المطال وكلت مني الأيدي

تطور الصوفية وطرقها الحديثة

كانت الصوفية في أول عهدها ومبتدأ حياتها صبغة من الدين بسيطة، خاصة بجماعة من الرجال المتدينيين نشروها في حلقات صغيرة من الأصدقاء ثم أخذت تدرج وتتعاظم، فكونت طبقة خاصة ذات مدرسة خاصة، بقواعد وأنظمة مقررة يتلقاها المبتدئون ممن سبقوهم في الأيمان بها. ثم ما لبثت أن قويت شوكة الرؤساء وكبار الشيوخ، فأخذوا يسيرون تلامذتهم وأتباعهم حسب مشيئتهم وأهوائهم دون أن يكون لهؤلاء رأي، وما عليهم إلا الطاعة والانقياد. حتى إذا تطاول الزمن ومرت السنون، لم يعد الصوفي الكبير في معزل عن العالم الاجتماعي حوله يعيش عيشة التقشف والزهد، يطلب الوحدة نفوراً من مرأى الناس وظلمهم وتكالبهم على الملذات والصغائر، بل أضحى شيخاً وجيهاً ذا عمة منتظمة وجبة فضفاضة، يظهر في المجتمعات العامة محاطاً بطائفة من مختلف الطبقات من بطانته وأتباعه والمعجبين به

ففي أوائل القرن الثالث عشر ظهرت فرق الدراويش العدوية والقادرية الجيلانية، اللتين أسسهما عدي الحكري وعبد القادر الجيلي، ثم تبع هاتين ظهور الشاذلية والرفاعية والمولوية، فالرفاعية تنسب إلى مؤسسها أبي العباس أحمد الرفاعي المولود في أم عبيدة

ص: 37

إحدى قرى الفرات، وهي تحيا اليوم بفرقتين كبيرتين هما العلوانية والجيباوية، المشهورتين بحفلة (الدوسة) هاتان أشد فرق الدراويش تعصباً وأكثرهم جهلاً وخبالاً

والقادرية الجيلانية يدعون أن عبد القادر الجيلاني هو مؤسس طريقهم، وهم في أورادهم وأذكارهم لا يفعلون كما يفعل الجيباويون من تقطع الأجساد وغرزها بالإبر والأمواس، بل يذكرون الله بتؤدة وهدوء ووضوح

وأما المولوية أو (الدراويش الراقصون) فقد أسسها في العجم الشاعر الفارسي المتصوف الشهير جلال الدين الرومي مؤلف (المثنوي)

على أن المركز اللائق الذي اكتسبته الصوفية في الدين والعطف الذي تفيأت ظلاله، إنما ظهر بتأثير الغزالي الذي مال ميلاً كلياً إلى هذه العقيدة بعد أن درس الآراء والمعتقدات الأخرى. فقد أدخل الغزالي على الشريعة عنصراً جديداً بعث فيها النشاط بعد أن ظلت زمناً طويلاً في ركود من جراء الحروب الكلامية المستعرة بين الفلاسفة والدهريين والمتكلمين. ولم يقف أبو حامد عند هذا بل أدخل في الصوفية الفكرة الأساسية لما (وراء الطبيعة)، وأخذ المسميات والمصطلحات التي عمد إليها ابن سينا والفارابي من تعاليم الأفلاطونية الجديدة وأحلها مكاناً مقيداً في الدين الإسلامي. على أنه وان لم يسلك هذا الطريق إلى النهاية ولم يتقيد بسبل هذا المذهب إلا أنه اتبع التصوف العملي. فهو وإن يكن بحث في الموضوعات والآراء الخيالية النظرية إلا أن علمه وإدراكه قد اضطراه إلى أن ينحو منحى آخر، ذلك أنه جعل العبادة قسماً من الحياة اليومية يمارسها العامة والخاصة على السواء

الصوفية وتقاة المسلمين

إن محور التصوف هو التجرد عن النفس وما ترتبط به من مادة، والانصراف الكلي للحب الإلهي. وغاية ذلك أن يمتزج العنصر الإلهي الروحي في الإنسان مع (العقل الأول) الذي منه نشأ وإليه يرتقي. هذه الفكرة وإن كانت بعيدة عن تقاة المسلمين الأولين الذين أنطبع في نفوسهم خوف الله والرهبة منه لكنها ليست غريبةً بتمامها عن العقل الإسلامي

ولقد لاقت الصوفية كما لاقى غيرها من المذاهب والآراء الجديدة مقاومة كبيرة فيها عنف وفيها شدة من بعض تقاة المسلمين. وغالى بعضهم في نقمته فنعت الصوفيين بأنهم قوم

ص: 38

جهلة يتخبطون في مهاوي الغي والفساد، لا يركنون إلى الكتاب والسنة في كل ما يفعلون، ثم أوغلوا في تهجمهم عليهم فقالوا ما التصوف إلا إسقاط الجاه وسواد الوجه في الدنيا والآخرة، وما المتصوفون إلا قوم مراؤون بئسوا من العمل ومالوا إلى الخمول والكسل فكأن شأنهم شأن من ينتظر أن تمطره السماء ذهباً وفضة

كانت هذه الحركة العدائية ترتكز على ثلاثة أسس:

أولاً: أن الصوفيين بشروا بصلاة ساكنة، وبهذا مالوا إلى إنقاص شأن الصلوات الخمس الجبرية المفروضة التي هي من أركان الإسلام الخمسة زاعمين أنها من خصائص العامة الذين لم يتعمقوا في المعرفة الروحية. أما هؤلاء الذين ارتقوا إلى أعلى درجات العلم والفلسفة فهم في غنىً عنها

ثانياً: أنهم أدخلوا (الذكر) في الدين، وهو إعادة دائمة لأسم الله تعالى بأوضاع وأشكال منوعة على نمط لم يعرفه المسلمون المتقدمون، فهو إذن بدعة (وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)

ثالثاً: أن كثيراً منهم اعتنقوا مبدأ التوكل مهملين جميع أنواع العمل وألوان التجارة وفي هذا ما فيه من إضعاف شأن الأمة اقتصادياً واجتماعياُ. ثم أنهم كانوا يرفضون المساعدات الطبية عند الحاجة ويعيشون على الصدقات يتطلبونها من المؤمنين. أنهم ليحدثون في عقول الناس معنىً خاصاً لله وللدين

لم يقف الصوفيون أمام تهجمات خصومهم مكتوفي الأيدي ولم يفقدوا رشدهم أمام هذه الحملات الشعواء المبعوثة من كافة النواحي والجماعات، بل دافعوا عن كيانهم بحجج قوية وأدلة مبعثها الكتاب والسنة وأثبتوا فضلهم وعلمهم، وقالوا إنهم قوم آثروا الله على كل شيء فاصطفاهم من دون الناس كافة لأيقاظ الناس وإطفاء شعلة التشكك والألحاد، قال الشبلي:(الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق، بدليل قوله تعالى واصطفيتك لنفسي. قطعه عن كل (غير) ثم قال لن تراني.) ومما استشهدوا به على أنهم وصُفوا في الذكر الحكيم بالصدق والخشوع والصبر والتوكل والقنوت والزهد: وهم على اعتقاد أنهم المعنيون بهذه الأوصاف.

ومن كلام النبي (ص) فيهم قوله. (رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره)

ص: 39

كلمة ختامية

إن تعاليم الصوفية قد لاءمت العقلية الفارسية أكثر مما لاءمت العقلية العربية. ولم يكن تأثيرها في الحياة العربية والأدب العربي خاصة مضارعاً ما كان لها من أثر بين في الأدب الفارسي منذ أوائل القرن الحادي عشر حتى يومنا هذا

والواقع أن الكثرة المطلقة من شعراء الفرس المجيدين قد انصهروا في بودقة هذه التعاليم فامتزجت بتفكيرهم وخيالهم، وظهر هذا جلياً واضحاً في الاستعارات والمسميات الصوفية التي كانوا يطرزون بها أشعارهم. على حين لم يكن بين شعراء العرب المجلين من وقف وقفة ولو بسيطة عند هذه التعاليم إذا استثنينا الشاعر المبدع شرف الدين عمر بن الفارض العربي المولد والشعر مادة وروحاً. وللعرب في تاريخ الصوفية الأدبي فارس آخر هو محي الدين بن العربي الأندلسي المولد في القرن الثاني عشر الذي ألقى عصا الترحال في دمشق الفيحاء، بعد أن زار في رحلته مصر والحجاز وبغداد والموصل وآسيا الصغرى، وله مؤلفات تربو على المئتين والخمسين عدا، وأشهرها الفتوحات المكية وفصوص الحكم وبهما يعتبره البعض أعظم صوفي الإسلام

هذه صفحة موجزة في تاريخ الصوفية ونشأتها أود أن اختمها بالثناء العاطر على الأستاذ العلامة نكلسون لما بذل من مجهود في تنقيبه على أسس هذه الطريقة ومعالمها، فأضاء لنا صفحة مشرقة في تاريخ هذا المبحث الخطير الشأن. وعسى أن يقوم من بين علماء العربية من يتطوع للكتابة في هذا الأمر الجليل، فالمجال ما زال واسعاً والفائدة جزيلة عامة إن شاء الله

السلط - شرق الأردن

سليمان فارس النابلسي

ص: 40

‌محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أشخاص الحوار

فيدون (وهو راوي الحوار إلى اشكراتس من أهالي فليوس)

سقراط. أبولودورس. سمياس. سيبيس. كريتون. حارس السجن

مكان الحوار: سجن سقراط

مكان الرواية: مدينة فليوس

اشكراتس - أي فيدون! هل كنت بنفسك في السجن مع سقراط يوم تجرع السم؟

فيدون - نعم كنت يا اشكراتس

اشكراتس - أود لو حدثتني عن موته، ماذا قال في ساعاته الأخيرة؟ لقد أنبئنا أنه مات باجتراعه السم، ثم لم يعلم أحد منا فوق ذلك شيئاً، فليس ثمة اليوم بين بني فليوس من يذهب إلى أثينا، كما أن أحداً من الأثينيين لم يجد سبيله إلى فليوس منذ عهد بعيد، ولذا لم يأتنا عنه نبأ صريح

فيدون - هل أتاك حديث المحاكمة وكيف سارت؟

اشكراتس - بلى، لقد حدثنا بعض الناس عن المحاكمة، فلم ندر لماذا نفذ فيه الإعدام بعد الإدانة بزمن طويل، كما رأينا، ولم ينفذ في حينه؟ فما علة ذلك؟

فيدون - علته حادث وقع في اليوم السابق لمحاكمته يا اشكراتس، وهو تكليل مؤخرة السفينة التي يبعثها الأثينيون إلى دلفي.

اشكراتس - وما تلك السفينة؟

فيدون - يروي الاثينيون أنها السفينة التي كان قد أبحر عليها تسيوس وصحبه الشبان الأربعة عشر إلى اقريطش، حيث نجا وإياهم، وكان قد قيل وقتئذ إنهم نذروا لأبولو أن لو سلموا ليحجن إلى دلفي مرة كل عام، وما تزال العادة متصلة إلى اليوم. فهذه الفترة كلها،

ص: 41

التي تنفقها السفينة في رحلتها إلى دلفي، ذهاباً وإياباً، منذ الساعة التي يكلل فيها كاهن أبولو مؤخرة السفينة، فترة حرام، لا يجوز للمدينة خلالها أن تدنس أرضها بقتل أحد من الناس؛ وكثيراً ما اعترضت السفينة ريحٌ أخرتها، فأرجئ الإعدام أياماً طوالاً. فهذه السفينة كما سبق لي القول قد كللت في اليوم السابق لمحاكمة سقرط. فدعاه ذلك إلى أن يلبث في السجن ولم يعدم إلا بعد الإدانة بزمن طويل

اشكراتس - كيف كان موته يا فيدون؟ ماذا عُمل وماذا قيل؟ ومن ذا جاوره من أصدقائه؟ أم لم يأذن لهم ذوو السلطان بالحضور فمات وحيداً؟

فيدون - لا، بل رافقته من أصدقائه طائفة كبيرة

اشكراتس - إن لم يكن لديك ما يشغلك، فأرجو أن تقص على ما حدث، دقيقاً ما استطعت إلى الدقة سبيلاً

فيدون - لا شاغل عندي، وسأحاول أن أجيبك إلى ما رجوت، فليس كذلك أحب إلي من أن أكون ذاكراً لسقراط، سواء أكنت أنا محدثاً، أم كنت مستمعاً إلى من يتحدث عنه

اشكراتس - لن تجد من سامعيك إلا نفوساً ترغب فيما رغبتَ فيه وإني لآمل أن تكون دقيقاً ما وسعتك الدقة.

فيدون: - وإني لأذكر ما اعتراني من إحساس عجيب، إذ كنت إلى جانبه، لقد كنت بازائه غليظ القلب، يا اشكراتس، لأني لم أكد أصدق أني إنما أشهد صديقاً يلفظ الروح. إن كلماته وقسماته ساعة الموت، كانت من النبل والجلد، بحيث بدا في ناظري كأنه رافل في نعيم، فأيقنت أنه لابد أن يكون بارتحاله إلى العالم الآخر ملبياً لدعوة من ربه، وأنه سيصيب السعادة إذا ما بلغ ذلك العالم، إن كان لأحد أن يعيش ثمت سعيداً، فكان طبيعياً، وتلك حاله، إلا تأخذني عليه الرحمة، ولكني مع ذلك لم أجد في الحوار الفلسفي (إذ كانت الفلسفة موضوع حديثنا) ما تعودت أن أجده فيه من متاع؛ لقد كنت مغتبطاً، ولكني أحسست إلى جانب الغبطة ألماً، أنْ علمت أنه لن يلبث طويلاً حتى يموت. لقد ساهمنا جميعاً في هذا المزيج العجيب من المشاعر، فكان يتناوبنا الضحك والبكاء، ولاسيما أبولودروس لأنه سريع التأثر - هل تعرف هذا الضرب من الرجال؟

اشكراتس - نعم

ص: 42

فيدون - لقد غُلب على أمره وتخاذلت قواه. وأنا نفسي، بل وكلنا جميعاً، قد بلغ منا التأثر مبلغاً عظيماً

اشكراتس - من كان الحضور؟

فيدون - حضر سوى أبولودورس من بني أثينا، كريتوبويس، وأبوه كريتون، وهرموجينس وأبيجينس، وايشينس، وانتسين. كذلك أكتيسبس من أهل بيانيا، ومينكسينوس وغيرهم كثيرون. أما أفلاطون فقد كان مريضاً فيما أظن

اشكراتس - أكان ثمت أحد من الغرباء؟

فيدون - نعم، كان هناك سمياس الطيبي، وسيبيس، وفيدونديس، واقليدس، وتربيزون الذين جاءوا من ميفارا

اشكراتس - وهل كان أرسطبس وكليومبروتس حاضرين؟

فيدون - لا. فقد قيل إنهما كانا في أيجينا

اشكراتس - ومن غير هؤلاء؟

فيدون - هم فيما أحسب كل الحاضرين على وجه التقريب

اشكراتس - وأي حديث تناولتم بالحوار؟

فيدون - سأسوق الحديث من أوله، محاولاً أن تكون الرواية شاملة

ولعلك تعلم أنا قد كنا من قبل نجتمع مع الصباح الباكر في المحكمة التي جرت فيها المحاكمة، وهي على مقربة من السجن، فنظل نتجاذب أطراف الحديث حتى تفتح أبواب السجن (وقد كانوا لا يبادرون بفتحها) فندخله لننفق معظم النهار مع سقراط، فلما كان الصبح الأخير، بكرنا باللقاء عن الموعد المعهود إذ علمنا في الليلة السالفة أن السفينة المقدسة قد عادت من دلفي فتواعدنا على اللقاء في المكان المضروب جد مبكرين، فما كدنا نبلغ السجن حتى طلع السجان المسئول عن حراسة السجن، ولم يأذن لنا بالدخول، بل أمرنا أن ننتظر حتى يدعونا، (لأن الأحد عشر مع سقراط الآن، يرفعون عنه الأغلال، ويأمرون بأن يكون اليوم قضاؤه المحتوم) كما قال. ولم يلبث أن عاد يجيز لنا الدخول، وإذ فعلنا ألفينا سقراط قد خلص لتوه من الأصفاد، واكزانثيب، التي تعرفها جالسة إلى جانبه تحمل وليده بين ذراعيها، فلم تكد تبصرنا حتى صاحت قائلة ما ينتظر أن تقوله النساء:

ص: 43

(أواه يا سقراط! لتلك آخر مرة يتاح لك فيها أن تتحدث إلى أصدقائك أو يتحدثون إليك) فنظر سقراط إلىكريتون، وقال:(مُرْ أحداً يا كريتون أن يذهب بها إلى الدار) فساقها بعض حاشيته صارخة لادمة، وما كادت تغيب عن النظر حتى انثنى سقراط، وكان جالساً على سريره، وأخذ يربت على ساقه قائلاً: (ما أعجب هذا الشيء الذي يسمونه اللذة، وما أغرب صلته بالألم، الذي قد يظن أنه واللذة نقيضان، لأنهما لا يجتمعان معاً في إنسان، مع أنه لابد لمن يلتمس أحدهم أن يحمل معه الآخر؛ إنهما اثنان، ولكنهما ينبتان معاً من أصل واحد، أو يتفرعان من أرومة واحدة، ولست أجد سبيلاً إلى الشك في أنه لو رآهما أيزوب لأنشأ عنهما قصة، يُصور فيها الله وهو يحاول أن يوفق بينهما في الخصومة القائمة، فان لم بوفق، سد رأسيهما إلى بعض في وثاق واحد، وذلك عله أن يجيء الواحد في أعقاب أخيه، كما شاهدت في نفسي، إذ أحسست لذة في ساقي جاءت في أثر الألم الذي أحدثه القيد فيها

وهنا قال سيبيس: كم يسرني حقاً يا سقراط أن تذكر ايزوب، فقد ذكرني ذلك بمسألة طرحها بعض الناس واستجابني عنها افينوس الشاعر أمس الأول، ولا ريب في انه سيعود ثانية إلى السؤال، فحدثني بماذا أجيبه، إن كنت تحب أن يظفر بالجواب. أنه أراد أن يعرف لماذا، وأنت رهين السجن، ولم تكتب من قبل بيتاً واحداً من الشعر، تنظم قصص أيزوب وتنشئ تلك الأنشودة إجلالاً لابولو

فأجاب أن حدثه يا سيبيس بأنني لم أفكر في منافسته ومنافسة أشعاره، وحق ما أقول، لأنني كنت أعلم أن لا قبل لي بذلك، إنما أردت أن أرى هل أستطيع أن أمحو وهماً أحسسته عن بعض الرؤى، فلكم أشارت إلي هواتف الأحلام في أيام الحياة (بأنني سأنشئ الموسيقى) وقد كان يطوف بي هذا الحلم في صور متباينة، ولكنه لازم عبارة يعنيها ينطق بها أو بما يقرب منها دائماً: أنشئ الموسيقى وتعهدها بالنماء - هكذا كانت تهتف الرؤيا، وقد خيل إلى منذ ذلك الحين أنها لم تُرد بذلك إلا أن تحفزني وتبعثني على دراسة الفلسفة التي كانت دوما قصد الرمي من حياتي، والتي هي أسمى جوانب الموسيقى وأرفعها شأناً، فكما ترى النظارة في حلبة السباق يهيبون بالمتسابق المتحمس أن يجري مع أنه يجري فعلاً، كذلك كانت رؤياي تأمرني أن أؤدي ما كنت بالفعل قائماً بأداءه، ولكني لم أكن على يقين من

ص: 44

هذا، فربما قصدت الرؤيا بالموسيقى معنى الكلمة المعروف، فرأيت أني أكون آمن، لو أرضيت هذا الشك، وأطعت الرؤيا فيما تأمر به، فأنشأت قبل رحيلي قليلاً من الشعر، فهذا قضاء الموت يرقبني، وقد أمهلني العيد قيلاً. فكتبت بادئ ذي بدء نشيداً في تمجيد آله هذا العيد، ثم لما رأيت أن الشاعر الذي يراد له أن يكون شاعراً مبدعاً حقاً، لا ينبغي أن يحشد ألفاظاً وكفى، بل لابد له أن ينشي قصصاً، ولما لم تكن لدي قوة الإنشاء؛ أخذت طائفة من قصص ايزوب، ونظمتها شعراً، فقد كانت ميسرة سهلة التناول، وإني بها لعليم. أنبئ أفينوس بهذا ولا تجعله يبتئس، قل له إني أود أن يتبعني، وإلا يتلكأ إن كان رجلاً حكيماً، فأغلب الظن أنب مرتحل عنكم اليوم، إذ قال الأثينيون أن ليس لي من ذلك بد

قال سمياس - يا له من نبأ يحمل لذلك الرجل! أني أقرر لكم وقد كنت رفيقاً له ملازماً، أنه - كما عهدته - لن يأخذ بنصحك إلا مجبراً

قال سقراط - ولماذ؟ أليس أفينوس فيلسوفاً؟

قال سمياس - أحسبه كذلك

إذن فسيكون راغباً في الموت، شأن كل رجل عنده روح الفلسفة، ولو أنه لن ينتزع روحه بيده، فقد أجمع الرأي على أن ليس ذلك صواباً

وهنا بدل في وضعه، فأنزل ساقيه من السرير إلى الأرض ولبث جالساً حتى ختم الحوار

يتبع

زكي نجيب محمود

ص: 45

‌في تاريخ الأدب المصري

2 -

ابن النبيه

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 3 -

اتصل شاعرنا كما ذكرت بطائفة كبيرة من عظماء عصره، فمدح الخليفة الناصر، أحمد أمير المؤمنين، واتصل بالملك العادل أخي صلاح الدين، واتصل كذلك بالقاضي الفاضل والوزير صفي الدين بن شكر وغيرهم، ولكنه لم يتصل بصلاح الدين، ولعل ذلك كان ناشئاً عن حداثته في ذلك الحين، واستصغار نفسه أن يتصل به، مع أن صلاح الدين كان ممدوحاً للقاضي الفاضل وغيره من كبار رجال العصر. غير أن أوثق الاتصال كان بينه وبين الملك الأشرف الذي أصبح به مختصاً معروفاً، كما عرف المتنبي بسيف الدولة، يسجل له مفاخره، ويحصى ما يناله من الخير والنصر، ويهنئه بالعيد إذا حل العيد، ويصف له القصور إذا بنى قصراً جديداً، وإذا أعان الحجاج سجل له يده، ويظهر أنه قد نال الخير والسعادة على يد الملك الأشرف، وإن كنا نراه في بعض الأحيان يشكو إليه، ويذكر ما قد يصيب علاقتهما أحياناً من الفتور، وذلك ما لابد منه، ولا سبيل إلى التخلي عنه، فهو يقول له:

كم اصطنعت وكم أوليتني حسنا

فليس يبلغ أقصى الشكر أدناه

دامت علينا به النعمى وأمتنا

مما نخاف أدام الله نعماه

أرجو لقاك لآمال ومنزلة

فأنت لي سبب، والرازق الله

فأغنني يا ابن ذي المجد العلي وكن

لي مسعداً في الذي أرجو وأخشاه

وأحياناً كان ابن النبيه يرسل إليه يطلب حاجة يجعل شفيعها غلاماً جميلاً يستقضي تلك الحاجة، ويحفظ له التاريخ من ذلك أنه أرسل هذا الغلام وكتب معه هذا الدوبيت:

أيقنت بأن حاجتي ليس تضيع

مذ قدمها مهفهف القد بديع

في خضرة حده ليعينيك ربيع

ما أقبح رده وذا الحسن شفيع

وكثيراً ما كان وهو لدي ولي نعمته الملك الأشرف يشتاق مصر ويرسل إلى أهلها السلام،

ص: 46

ثم ينتقل إلى المدح، وكأنه يذكر الممدوح بغربته وفراقه وأنه إنما تحمل ذلك من أجله هو، وفي ذل ما فيه من تكثير لمورد رزقه وإغداق النعمى والهدايا عليه، واستمع إليه يخاطب أهل مصر:

إن عينا منكمو قد ظميت

قد سقاها الدمع حتى رويت

آه من وجد جديد لم يزل

وعظام يا حلات بليت؛

ساكني الفسطاط لو أبصرتكم

جليت مرآة عين صديت

إن أعاد الله شملي بكمو

سعدت آمال نفس شقيت

إن أرضا أنتمو سكانها

غنيت عن أن تقولوا: سعيت

فوجوه كرياض أزهرت

ورياض كوجوه جليت

بأبي منكم غزال، مهجتي

بظبا ألحاظه قد غزيت

بلغيه يا نسيم الريح عن

مهجة المشتاق ماذا لقيت

ثم يقول:

إنما مدحة عيسى جنة

عندها أوطاننا قد نسيت

فكأنه يقول له اذكر أني مفارق لوطني فكيف أنساه إلا إذا لقيت منك ما يغنيني عن ذكره، ونحن لا نشك في أنه لاقى من الأشرف كل إعزاز وإكبار. وكان الأشرف يعتقد في شاعريته ويثق بها، فكثيراً ما كلفه نظم الشعر على البديهة في أي موضوع يراه، وكثيراً ما قام مقامه في تدبيج الرسائل بالشعر على لسانه، ولقد كانت تلك المنزلة الرفيعة التي نالها مدعاة إلى أن يقول:

أنت قربتني فأغليت قدري

أنت خولتني فأغنيت فقري

فيجد من يشا ويبخل من شا

فحرام عليه ذمي وشكري

بل كان جمع ديوانه قياماً منه بواجب الشكران وتسجيلاً لليد التي أسداها إليه - كما حدثك هو في صدر الديوان

- 4 -

نستطيع أن نقول إن شعر ابن النبيه يعطينا صورة واضحة لعصره، يحدثك عن طابعه وعن أهم ما ضمه من الأحداث، وإذا أنت ذهبت تنقب عن ذلك رأيت أن أهم ما يميز

ص: 47

العصر الروح الحربية التي سرت فيه، وروح القتال الذي كان على قدم وساق

كان العصر عصر حرب مشبوبة بين الصليبين من الأوربيين وبين المسلمين وملوك المسلمين، كما كان عصر نزاع بين بني أيوب على الانفراد بالسيادة والسلطان بعد أن مات كبيرهم صلاح الدين، ومن أحل هذا كان أظهر صفة بارزة يمدح بها شاعرنا ممدوحيه شجاعتهم في الحرب واستبسالهم في المواقع، فهو يقول لمن يمدحه:

مليك إذا سار بين السيو

ف ترى البدر بين اشتباك الكواكب

وتزأر من تحت ذاك الركا

ب أسودها من ظباها مخالب

فتلك اللهاذم زهر النجو

م ومعتكر النقع جنح الغياهب

ويصف جيش ممدوحه بقوله:

وأسد على جرد لها مثل فعلهم

إذا ما تجلى الموت في الحلل الحمر

دماء أعاديهم شراب رماحهم

وأجسامهم هذي إلى الذئب والنسر

فإذا شئت أن ترى صورة من صور النزاع بين الإفرنج الذين كانوا يبغون الاستيلاء على مصر قلب الدولة الإسلامية وبدأوا غارتهم بالاستيلاء على دمياط فاستمع إليه يقول:

وتحت غيل القنا آساد معركة

لها ثبات وفي الهيجاء وثبات

مستشرفات بآذان موكله

لها إلى الثغر من دمياط حاجات

الويل للروم والإفرنج من ملك

له من النصر والتأييد عادات

أين المفر لسرب الروم من أسد

ضار له من رماح الخط غابات

دمياط طور ونار الحرب موقدة

وأنت موسى وهذا اليوم ميقات

ألق العصا تتلقف كلما صنعوا

ولا تخف من حبال القوم حيات

طأهم بجيشك لا تحفل بكثرتهم

فانهم لبغاث الطير أقوات

أصبتهم بسهام الرأي من حلب

وللمكائد من بعد إصابات

فطهر الله ذاك الثغر من قلح

أصابه، وانجلت تلك الثنيات

لله من ثغر دمياط وبرزخها

فتح له تفتح السبع السموات

شرحت صدر رسول الله وانحسرت

بنصرة الدين والدنيا غمامات

فللرماح كلاهم أو صدورهم

وللصوارم أعناق وهامات

ص: 48

تخلق البحر ذاك اليوم من دمهم

والموج ترقصه تلك المسرات

عكا وصور إلى رؤياك عاطشة

فانهض فقد أمكنت منهن خلوات

الله اكبر أن تمسي مزامرهم

تتلى، وتنسى من القرآن آيات

وكثيراً ما كان يؤكد لسيده أنه سوف يهزم عدوه وينتصر عليه ويملك بلاده، بل وسوف يؤاتيه النصر حتى يملك القسطنطينية عاصمة بلادهم، ولقد كرر ذلك مراراً، حتى أنك لتستطيع أن تفهم من هذا التكرار والتأكيدات الكثيرة بأنه سوف يفتح تلك البلاد أن هذا كان في صدر ممدوحه أملاً قوياً يتمنى أن يناله وأن يتم على يديه، حتى قال له ابن النبيه:

ستفتح قسطينة عنوة

وما كان للروم منها بغارب

كأني بأبراجها قد هوت

وصخر المجانيق فيها ضوارب

وقد زحف البرج زحف العرو

س إليها يجر ذيول الكتائب

وليس الكهانة من شيمتي

ولكن حزبك بالله غالب

وكثيراً ما مناه بهذا الأمل وأكد له أنه سيناله، كذلك في شعره صورية للنزاع كان بين بني أيوب، ولقد كان ابن النبيه يؤمن ويوقن بأن الخير كل الخير إنما هو في اجتماعهم ووحدتهم، لأن الأوربيين في ذلك الحين كانوا يهاجمون الشرق، فمن الخير أن يتحد ملوكه لدرء هذا الخطر عنه، ولقد كان المغيرون ينتهزون كل فرصة خلاف بينهم ليشبوا نار الحرب عليهم، ولذلك كان ابن النبيه صادقاً يوم قال متحدثاً عن بني أيوب أولاد شاوي:

آل شاوي شهر الصيام جلالاً

وأبو الفتح منه ليلة قدر

معشر في وفاقهم كل خير

مثلما في خلافهم كل شر

وكان يوقن بأن صلحهم واجتماعه يبعث القوة في نفوس الشرقيين، ويبعث الضعف والخوف في نفوس الأوربيين كما قال بعد صلحهم:

اليوم تصلى صفحات العدا

نيران حرب حرها لافح

اليوم دار الشرك مبذولة

يأوي لها الصائح والنائح

موسى جزاك اله عن دينه

خيراً فما أنصفك المادح

سعيت في جمع شتات العلا

لله هذا العمل الصالح

وشعره بعد ذلك يحدثك عما أصابه الملك الأشرف من فتوح ونصر في بلاد الشرق، هذا

ص: 49

وإذا ذهبت تلتمس العلاقة التي كانت بين الاشرف والخليفة رأيت أن الخليفة العباسي كان يتمتع بسلطة روحية كبيرة، وإن لم يكن له من الأمر شيء في السلطة السياسية، فان الأشرف يحرص على أن تظل العلاقات بينهما قوية متينة، ويعد مراسلة الخليفة له منة وفضلا كبيرين

ولقد ورد له خطاب مرة من الخليفة، فطلب من ابن النبيه أن يجيبه فكتب إليه الرد شعراً لأن الخليفة كان أديباً شاعراً:

سيدي سيدي كتابك أحلى

من زلال على فؤادي الصادي

خلت فيه قميص يوسف لما

الصقته أناملي بفؤادي

كرر اللثم يا فمي، وترشف

منه آثار فضل تلك الأيادي

نعمة سميت كتاباً مجازاً

أنا نبت وهي السحاب الغوادي

كثرت حاسدي حتى تخيل

ت جفوني من جملة الحساد

قالت العين وهي تخرج دراً

فاخراً من بحار ذاك المداد

أنا افدي بياضه ببياضي

أنا أفدي سواده بسوادي

أنا عبد الأمام أحمد خير

لي من نسبتي إلى أجدادي

فعليه السلام ما غرد الطي

ر وغنى شاد، ورجع حاد

وفي الحق أن الأمراء من الأتراك مهما استبدوا كانوا يقرون للخليفة بالسلطة الروحية ولا ينازعونه فيها

(يتبع)

أحمد أحمد بدوي

ص: 50

‌جيرة محمودة

للأستاذ فخري أبو السود

حتَّام أنت مجرجرٌ متلاطم

يطوى عبابُك أعصراً وقرونا؟

ماذا يعي يا بحرُ صدرُك لو حَكَى؟

لكن أراه بما وعاه ضنينا

متدافع التيار ليلَ نهارَ لا

بالصمت لُذْتَ ولا أَراك مُبينا

أبداً تجيء الشطَّ منك كتائبٌ

دَآبَةُ التَّرْدَادِ لَسنَ يَنيِنَا

تغزو غواربُها الرمالَ وتنثنى

تغزو من الصخر الأَصمِّ مُتُونا

مُبْيَضَّة الأثباج في تهدارها

يَبْرُزْنَ حيناً في البياض فحينا

لاعَنْ مَشيب أو سنينَ تصرمت

فَلَكَمْ أّذابتْ في الأجُاج سنينا

ولقد يكاد أُجاجُها من حُسنه

يبدو فراتاً للظِّماء مَعينا

البحر فتَّان وإِن هو لم يُنِلْ

رِياً ولم يُطْلِعْ جَوَاريَ عِينا

إِن لم يكن رِيَّ الظِّماءِ فإِنه

بالحسن يروي أنفساً وعيونا

بروائع الألوان فيه تآلَفَتْ

ونوافح النسمات إذ يسرينا

وَيُرَى مَسَارِحَ للعيون ومَبْعَثاً

للذكريات كموجه يأتينا

كم طَالَعتْهُ الشمس ثمَّ أَجَنَّها

سرِّاً وراء عبابه مكنونا

إِني شهدتُ الشمسَ عند شروقها

من خلف لُجَّتِهِ تشعّ جبينا

ورأيتُ مًغرِبها به وضياؤُها

ملءُ الجوانح لهفة وحنينا

يهوي خضيبُ شعاعها من أفقها

ويذوب في لُجَجٍ به يَزْهُونا

والشمسُ أكرم رُاحل ودَّعْتُهُ

أَطوى عليه حسرةً وشجونا

وَأَحَبُّ مُرْتَقَبٍ لِعًوْدٍ لم يذُذْ

عن وجهه الوضَّاءِ مُرْتَقِبينَا

تَأْتِي وتَذْهَبُ في لطاف غلائل

متجدداتٍ بهجةً ورُقُونا

هاتيك آياتُ الجَمَال تَخِذْتُها

صَحْبي ونعم مدى الزمان خدينا

وتخذتُ هذا البحر جاراً لي إذا

ما عفتُ جاراً أو مللتُ قرينا

وحمدتُ جيرته وثرثرةً له

دَوْماً تَدَاوَلُ مَسْمَعَيَّ رَنينا

يَحْبو شواطئه صفاء طباعه

ويفيض بشراً دونها وَيَمِينا

ص: 51

أَضْفَى على الثغر الجميل رُواَء

وكسا حياةً القاطنيهِ فُتُونا

وجَرَتْ به خلجانهُ رقراقةً

وصَفَا جداولَ حوله وعيونا

فتشابهتْ أوقاته فشتاؤُه

كَرَبِيِعهِ لطفاً يَرُوق ولَيناَ

متجدِّدٌ لم يَطْوِ يوماً بادياً

من حُسنه إلا أبانَ كمينا

حًسْنُ الطبيعة فيه زاه كيفما

أجْرَى الزمانُ لساَكِنِيه شؤونا

إنْ سَرِّهم بصروفه أو ساَءهم

فالحُسْنُ ثَمَّ مَنَاهلاً وفُنُونا

والحُسْنُ ثَمَّ لِمَنْ بَغَى مُتَعَزَّلاً

عَن طالبي الدنيا وما يَبْغُونا

الإسكندرية

فخري أبو السعود

ص: 52

‌وهم الحياة

للأستاذ خليل هنداوي

إنني أَعبدُها - فيك - أيها الوهم!

(الناظم)

موِّه علينا بالرُؤَى

إن الحقيقةَ تُؤلمُ

ما ذقتُ طيبَ العيشِ إلا عند ما أتوهمُ

ضُري حياةُ أو انفعي

أنا منك لا أََتبرمٌ!

فَهمَ الحياة فتىً يجو

زُكأَنهُ لا يفهم

عبثاً تحاولُ فهمَ لغزٍ فيه لغزٌ مُبَهمُ

ما أَنتَ أَولُ صخرةٍ

يَطغَى عليها العَيْلَمُ. . .

أنتَ الغنيُّإذا قنع

تَ وأَنتَ أَنتَ المعدمُ

ما أَظلمت ديناك، لكنَّ اعتقادَكَ مَظلِمُ

خليل هنداوي

ص: 53

‌زهرتي

بقلم محمود حسن إسماعيل

ولي زهرةٌ طيبْتُ من عطرها دَمِي

وضمخْتُ روحي من شذاها وأنفاسِي

على شاطئ من فَيْضِ روحي تفتَّحَتْ

وراحَتْ تَعُبُّ الرِّىَّ من نَبْع إِحْساسي

مكللةً بالنُّورِ تَحْسِبُ وَشْيَها

وَميضاً من الصَّهبْاء يُشرقُ في كاسِ

تميسُ على قلبي إذا هزَّها الهوى

فتَفْضَحُ بالإدلال ريَّانَةَ الآسِ

غذَاها السَّنا من زاخِر اللمْحِ فاغتدَتْ

تَبلّجُ في هالاتِها. . فتنَةَ النّاس

كأني بها نَفْحٌ من الخُلد رَوَّحَتْ

أفاويحهُ عني ضنَى عُمْرِيَ الآسِي

بروحيَ من أنفاسها عطرُ جَنَّةٍ

تراَءتْ بحُلْمٍ رائعِ الطيْف ميَّاسِ

وأنداءُ فجْرٍ أسْكر الروح نَسْمُهُ

وطهرَ بالأعطار إثمى وأرْجاسي!

بروحي حَنانٌ شَعَ من جنَباتها

كما فاض في جُنْح الدُّجَى ضوءُ نبراسِ

رشْفتُ نعيمي نَشقةً من عبيره

وشرَّدتُ آلامي على نَفْحِه الآسي!!

ص: 54

‌7 - بين القاهرة وطوس

نيسابور إلى طوس

للدكتور عبد الوهاب عزام

رجعت من مزار العطار إلى قبر الخيام وأنا أنشد قول حافظ الشيرازي:

(جاء مرشدنا البارحة من المسجد إلى الحانة. .)

ولما رجعنا إلى قبر الخيام قال بعض الحاضرين من الشرقيين كيف تركتم الخيام إلى العطار؟ قلت لكل رجل وجهته، وإن لم يكن من القياس بد فصاحبنا أعظم من صاحبكم، وأكرم حياة، وأجل أثراً. فانصرف ثم عاد إلى وهو يقول: ليس أحد من المتأدبين في الشرق والغرب يجهل الخيام، وهذا أحد الوافدين من الأوربيين يسأل من العطار؟ فهذه حجة لي، قلت دعني فأني لا أقيس عظماءنا بمعرفة الأوربيين وجهلهم، ومدحهم وذمهم الخ

دُعينا إلى الموائد فطعمنا، وتكلم الشاعر الإنجليزي درنكووتر عن الشعراء ومذاهبهم في الحياة وقال: إنه لا ينبغي أن يفضل شاعر على غيره بصواب رأيه، وسداد طريقته، بل بمقدار إبانته عما أحسه في هذه الحياة، وأدركه في هذا المعترك؛ نحن لا نستطيع أن نقتدي بالخيام فنمضي أوقاتنا بين امرأة جميلة وكأس، وعود، فان علينا في هذه الحياة واجبات تأبى ذلك، ولكنا لا نغض من قدر الخيام لأنه أبان عن رأيه بهذا الأسلوب الشعري الجميل الخ

ثم أنشد قطعاً من رباعيات الخيام كما ترجمها فيتز جرالد؛ وأنشد أحمد الصراف مندوب العراق بالفارسية بعض الرباعيات، وتكلمتُ فقلت بالفارسية؛ إننا مغتبطون بقدومنا مدينة نيسابور العظيمة، ذات الأثر العظيم في الحضارة الإسلامية، وها نحن أولاء بجانب الخيام الفلكي الشاعر الكبير، فالى روحه الطاهرة منا تحية ودعاء. ولا ننسى أن نرسل تحيتنا إلى الشاعر العظيم، والصوفي الجليل فريد الدين العطار، ذي المآثر الخالدة في الشعر والتصوف

وإنا لنرجو أن تعود هذه البلاد سيرتها الأولى في العلم والأدب، وأن ييسر الله لها السير في سبيل الرشاد في ظل صاحب الجلالة الشاه المعظم. .

فقام الأديب سيف آزاد صاحب مجلة إيران القديمة (إيران باستان) فتكلم وحيا صاحب

ص: 55

الجلالة ملك مصر، وقال إنه قد ساءه أن علم اليوم أن جلالته مريض، وطلب من الحاضرين أن يدعو له بالشفاء والعافية. وألقي الأديب رشيد الياسمي قصيدة من الضرب الذي يسمى في عرف أدباء الفرس غزلاً. وهي مردوفة القافية. والرديف في الشعر الفارسي أن تكرر كلمة بعينها آخر كل بيت، ويبني الروي على الكلمة التي قبله. والرديف في قصيدة الياسمي كلمة (رو) بمعنى الوجه. وهذه ترجمة القصيدة عفو الساعة:

قد استسر وجهك في كمال الظهور، وصار من التجلي في حجابٍ من ذلك النور

لا يرى أحد في العالم وجهك، إن كان العالم مرآتك

إني أدعوك حبيب الروح، إذ لا يتجلى وجهك إلا في عالم الأرواح

ولّ وجهك شطرنا، نحول عن الكون والمكان وجوهنا

أيها الربيع لا تستر من العندليب خدك فقد جعل وجهه كورق

الخريف هجرك

فلا حرارة في هذا القلب المتوقد، ولا بسمة في ذلك الوجه المورد

لقد أمضيت العمر في انتظار وحسرة، ، آمل أن يلوح وجهك لي مرة

أيتها الشمس إني من الشوق إلى شعاعك الوضاء، أقلب كالهلال وجهي في السماء

أبتغي أثراً من هذا الوجه، ولا أثر، كما ابتغى إسكندر ماء الحياة فلم يظفر

إن تبشرني بوجهك يوماً واحداً، وضعت وجهي على عتبتك أبداً

ان تطلب يا رشيد الكنز فانصب، فان السعادة لا تبدي وجهها لمن لم ينصب

قدمنا الساعة خمساً وعشرين دقيقة، وهي فرق ما بين وقت طهران ونيسابور، وركبنا والساعة ثلاث وربع بعد الظهر متوجهين تلقاء مشهد وبينها وبين نيسابور 116 كيلاً، فسرنا صوب الشرق والجنوب في سهل كثير القرى والشجر، فبلغنا قرية اسمها قدمكاه أي موضع القدم، وسأذكرها في الأوبة من مشهد. ثم اجتزنا بشريف آباد وعندها انعطفت الجادة صوب الشمال فارتقينا جبالاً ضربنا فيها أربعين دقيقة ثم هبطنا إلى المشهد المقدس، فدخلناه بعد مغرب الشمس

افترق الركب فنزل جماعة بفندق هناك، ونزل آخرون في دار أحد الكبراء، جليل بك

ص: 56

نصير زاده، وكنت وزميلي الأستاذ العبادي ممن شرفوا بالنزول في هذه الدار المعمورة، فلقينا من الحفاوة والرعاية ما لا يُنسى

المشهد المقدس

في عام اثنين وتسعين ومائة سار هارون الرشيد إلى خراسان لحرب رافع بن الليث بن نصر بن سيار، وكان قد ثار بخرسان واعيا الولاة

وفي صفر من سنة ثلاث وتسعين اشتد به المرض وهو بجرجان فسار عنها إلى طوس، ونزل بضيعة اسمها سناباذ في دار الجنيد بن عبد الرحمن. فلما أحس أجله أمر فحفروا له قبراً في بستان الدار، وأمر جماعة فنزلوا فيه وقرأوا القرآن. وتوفي نصف الليل، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادي الآخرة، ودفن في القبر الذي أعده

وفي سنة ثلاث ومائتين كان الخليفة المأمون بن هارون قافلا من خراسان يريد العراق، وقد ثار عليه عمه إبراهيم بن المهدي، فلما بلغ سناباذ نزل عند قبر أبيه أياماً، وكان معه علي الرضا بن موسى الكاظم ولي عهده، فمات الرضا في ذلك المكان في شهر صفر فدفن إلى جانب الرشيد. وفي هذا يقول دعبل بن علي الخزاعي فيما يزعم الرواة:

قبران في طوس: خير الناس كلهم

وقبر شرهم، هذا من العجب

اشتهرت قرية سناباذ وسميت سناباذ المشهد، ثم أطلق (المشهد) على القرية، وبهذا الاسم ذكرها المقدسي وسماها ابن بطوطة مدينة مشهد الرضا، ونسيت على مر الزمن مدينة (نوقان) وصار اسمها اسم محلة في المدينة الجديدة، ونافست مدينة المشهد مدينة طوس في إقليم خراسان حتى أخملتها. ثم اختفت طوس حين حاصرها ميرانشاه بن تيمور وفتحها فأخربها عام 791

وقد لقيت المدينة من غير الزمان سعادة وشقاوة، وتقلبت بها أحوال مختلفة، ولكن شأنها كان يزداد نباهة على مر العصور.

عنى عظماء المسلمين منذ القرن الرابع الهجري بمشهد الرضا والمدينة التي نشأت حوله. قال ابن الأثير في أخبار السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي: (وجود عمارة المشهد بطوس، وكان أبوه سبكتكين أخربه. وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم من ذلك. وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام وهو

ص: 57

يقول له: إلى متى هذا؟ فعلم أنه أمر المشهد فأمر بعمارته) ثم بنى ابنه السلطان مسعود سوراً حول المشهد ليقيه غارات القبائل المجاورة. وفي القرن السادس الهجري استولى الغز على المدينة ونهبوها ولكنهم أبقوا على مشهد الرضا. وكذلك نهبت في القرن الثامن في عهد السلطان محمود غازان من الملوك الايلخانيين

وأعظم الملوك عناية بالمشهد قبل عهد الصفويين السلطان شاهرُخ بن تيمورلنك (809 - 850) وزرجه جوهر شاد؛ وسنذكرها حين الكلام على مسجدها العظيم

وكان عهد الصفويين عهد نماء وازدهار للمدينة، فقد تنافس الملوك الصفويين في تعمير المشهد وتجميله، وتعمير المدينة كلها، ولاسيما الشاه طهماسب الأول (930 - 948) والشاه عباس الكبير (995 - 1307)، ولكن عناية الصفوين لم تكفها الغارات والنهب، فقد غصبها أمراء الأزبك والشيبانية ثلاث مرات على رغم الصفويين وسيطروا عليها أزمنة مختلفة

وكذلك استولى عليها الأفغان حينما استولوا على إيران. ثم جاء البطل الكبير نادر شاه، فأكثر الإقامة فيها واختط قبره بها، وبنى في المشهد الرضوي أبنية رائعة. ثم عادت إلى الأفغان حينما زلزلت دولة نادر شاه بتنازع خلفائه على العرش. وتداولتها حوادث أخرى حتى استولى عليها آقا محمد خان القاجاري، وقتل سلطانها شاهرخ الأفشاري سنة 1210. وفي العصر الأخير ثار بها على القاجاريين بعض الثائرين فتذرع الروس بهذا إلى الاستيلاء عليها، فأطلقوا مدافعهم على المدينة في 29 مارس سنة 1912، وهي الآن تنال نصيبها من العمران والطمأنينة السائدين في إيران اليوم

والمدينة على ارتفاع 930 متراً وطولها 59 وعرضها 36، في وادي كشف رود (نهر كشف) الذي ينبع على عشرين كيلاً إلى الشمال الغربي من طوس ويسمى أحياناً آب مشهد (نهر مشهد) ويصب في نهر هراة (هري رود) على 150 كيلاً إلى الجنوب الشرقي من مشهد، وتبعد المدينة عن شاطئه سبعة كيلات إلى الجنوب. ويبلغ ارتفاع الجبال عندها ثلاثة آلاف متر. فهي باردة الشتاء، جيدة الهواء.

ونهر كشف لا يسقي المدينة، بل يأتيها الماء من عين اسمها جشمه كلاس عند منبع نهر كشف في قنوات طولها 74 كيلاً جرها إليها الوزير الكبير والأديب العظيم والشاعر المفلق

ص: 58

شير علي نوائي وزير السلطان حسين بن منصور بن بايقرا من أحفاد تيمورلنك - (المتوفى سنة 912هـ)

وهي أكبر مدن خراسان اليوم، وتسمى أحياناً خراسان وسكانها زهاء سبعين ألفاً وتجارتها رائجة، ولكنها ليست كعهدها الأول، فقد كانت ملتقى طرق القوافل قبل أن يستولي الروس على التركستان وينشئوا سكة الحديد القزوينية. وبالمدينة شارعان عظيمان مشجران يخترقانها. وكان بها في عهد نادر شاه 60 ألف دار. وسكانها الآن زهاء 80 ألفاً

وهي كثيرة المساجد، والمدارس بها زهاء عشرين مدرسة للعلوم الدينية، أقدمها المدرسة التي أسسها شاهرخ في سنة 823، ويقصدها الطلاب من أرجاء إيران ومن أفغانستان والهند، فيحصلون العلوم الدينية بها تسع سنين، ومن شاء أن يزداد علماً توجه إلى النجف الأشرف

ويحج إلى المشهد كل عام آلاف كثيرة يختلف التقدير فيها من 30 ألفاً إلى مائة ألف. وبها مقابر كثيرة يحرص الشيعة على أن يدفنوا بها، فتنقل جثثهم إليها من الأقطار البعيدة، وتختلف قيمة القبور بها على قدر قربها من الحرم وبعدها

وهي عند علماء الشيعة في المنزلة السابعة بين الأماكن

المقدسة مكة فالمدينة فالنجف فكربلاء فسامراء فالكاظمية

فالمشهد. وفي رواية أخرى أن الترتيب بعد كربلاء هكذا:

الكاظيمة فالمشهد فسامراء فهي السادسة، ولكنها من حيث

كثرة الزائرين واتساع المسجد وضخامته تكون بعد مكة

والمدينة، وقبل المزارات الأخرى فيما أظن

والكلام عن الحرم الرضوي في المقال الأتي إن شاء الله

(عبد الوهاب عزام)

ص: 59

‌القصص

من الأدب السويدي

الدوار المسحور

للقصصية السويدية سِلما لاجرليف

ولدت السيدة سلما لاجرليف في 30 نوفمبر سنة 1858 بمدينة مارياك من أعمال فرملاند، واشتهرت بأقاصيصها القيمة، ونالت جائزة نوبل في الآداب لسنة 1909 ولا تزال حية

كلما تحدثت عن (بلاد الفير) والناس الذين يعيشون فيها، مر بخاطري حكاية قديمة لقروية خرجت صباح يوم إلى المرعى لتحلب أبقارها. ولما لم تجد الأنعام في المكان الذي اعتادت الوقوف فيه منتظرة إياها، اضطرت إلى أن تتوغل في الغابة باحثة عنها. غير أنها ضلت الطريق

وكانت القروية قبيل أن تخرج من دارها قد ضاق صدرها فلما لم تجد الأبقار ساءت حالها. وبينا هي تشق طريقها بين الأعشاب والحشائش والنمام باحثة عن بقرها، كانت تفكر في حياة السأم التي تحياها، وأنه لا أمل مطلقاً في تبديلها. نعم، أنها تميل كل الميل إلى زوجها، ولكنه أبصرت أن زوجها لم يبق له صبر على العمل إذ تقدم سنه، كما تقدمت هي أيضاً في السن. وهي بطبيعة الحال تميل إلى مزرعتها، فقد ولدت في كنفها وشبت

ولكن ليس لها ان تغض عينيها على صغرها وقيمتها التي لا تشرف. ولا يمكن مقارنتها بالمزارع الواسعة الفخمة الواقعة هنالك حول الكنيسة. ويزيد على ذلك ان مزرعتها تقع في قلب الغابة حتى أن الإنسان لا يرى طوال الأسبوع ادمياً غير من بالدار. أما هؤلاء الخدم فهي لا تريد أن تنسب إليهم ما لا يشرفهم، ولكن الله يعلم أنهم كانوا كسالى مهملين إلى حد فيه الكفاية

وعندما استيقظت في ذلك النهار قالت لزوجها إنه لابد لهما من بيع هذه المزرعة التي تقع وسط الأحراج، وأن يستبدلا بها أخرى توفر لهما معاشهما دون كبير مشقة ولكنه لم يرغب في الاستماع إلى شيء من هذا. وذلك ما أغضبها إذ الحق كلن دون شك في جانبها

ص: 60

وفجأة تبينت أن ذلك ما كانت تخشاه دائماً منذ أيام صباها. وكذلك كانت تخشى وقوع هذا الأمر. ولما كانت هذه الأفكار المحزنة هي رفيقتها الوحيدة في تسيارها، فقد نسيت بتاتاً اتباع علائم الطريق أو تتبع الأثر، حتى أصبحت لا تعرف المكان الذي وجدت به، ورأت أمامها شجرة من البلوط خيل إليها أن لها بها سابق معرفة، ولكن شجرة البلوط تلك كانت في أعماق الغابة، ولا يمكن أن تكون قد قطعت في تجوالها كل هذه المسافة. وأنصتت إلى أصوات البقر أو صوت نداء راعيها. ولكنها لم تسمع إلا سقسقة العصافير

وجلست على صخرة ووضعت يدها فوق عينيها. ولكن ذلك لم يفدها شيئاً، إذ أن قلبها كان ينبض بشدة، وانتابتها أفكار شاردة أفزعتها. فقد سمعت من قبل عن أناس ذاقوا الأمرين في هذه الغابة، وضلوا الطريق فيها أياماً وأسابيع، وقد وجد أحدهم ميتاً

ولم تطق القروية صبراً على الجلوس هادئة حتى تتبين معالم الطريق، فقامت لساعتها تضرب في الغابة من جديد دون أن تفكر بعد هذا في البحث عن الأبقار بل أتجه تفكيرها إلى البحث عن الطريق المؤدية إلى دارها

وبعد أن سارت طويلاً دون أن تدرك أين هي، انبثق النور فجأة وتفتقت أمامها الأشياء وتجلت، إذ أخذت الغابة نهايتها، وبينت قبالتها (دواراً) فخماً لأحد الريفيين

وما كادت تلمحه حتى وقفت مبهوتة. إذ هي تعرف عن يقين أنه لا يوجد في هذه المنطقة دوار آخر غير الذي تملكه. وما رأته ألان لن يكون إلا سراباً وصورة كاذبة.

هذا أسوأ شيء رأته، فقد سحر عفريت الجبل أعينها. ولم تبحث عن دوار الجن ولم تجسر على النظر إليه، ولكن أعينها امتدت دون أرادتها إلى ذلك البناء الذي لم تر قط أبدع منه. لقد كانت الدار حقاً قديمة ولكنها مدعمة متينة. وكانت المخازن والأهراء عديدة فسيحة إلى حد أنها تكفي قرية بأملها

قالت لنفسها: (أنه مع ذلك لا شيء هنالك يخالف ما عندي، اللهم إلا أن هذا أجمل وأعظم أضعافاُ مضاعفة. نعم، إن عفريت الجبل لا يهمه الثمن. وقد يخيل إلي أن هذه الدار مشيدة من أشجار البلوط. إذا لم أكن قد سحرت وكانت عيناي تتبينان الأشياء على حقيقتها، فلن يبقى من كل هذه العظمة غير كومة من النمل)

ثم رجعت ثانية إلى الغابة، وكانت تتسلق هضاباً صعبة المرتقى وتنزل غيرها وعرة

ص: 61

المنحدر، ومع ذلك لم تجد طريقاً، أو علامة الأميال، أو كوخاً ينشر فيه الخشب، حتى ولا منحدر ماء يصح أن يكون نجماً تهتدي به في طريقها. وكانت تسير وكأنها في قاع بحر خضم اخضر لونه. قالت في نفسها:(هنا وجب علي المسير حتى تعمني موجة خضراء وتطويني ضمنها)

وفيما هي سائرة إذا بها قد وصلت إلى طرف الغابة مرة أخرى. ورأت ثانية نفس الدار الفخمة

وهنالك تلك الدار. وعلى نوافذها ستائر بيضاء، ويتقدمها بضع أشجار من التفاح منبثقة. وكانت مدهونة بدهان أحمر جعلها تتألق في الزينة، حتى لكأنها مشتعلة وسط البقعة الخضراء كحشرة السعادة في ليلة صيف على طريق أخضر يفصل حقلين

وكانت في هذه المرة قريبة منها لدرجة مكنتها من رؤية كل شيء فيها. وكانت آلات الحرث والزرع والعربات موضوعة في مخازنها، كما كانت الأخشاب مصفوفة صفاً. وكانت العربات تسير دون التواء بين الحقول. وكانت الخيول القصيرة الجميلة القوية البناء الممتلئة كالتي تتمناها، ترعى في المراعي التي تأثرت بالصقيع

وكلما أنعمت النظر في كل شيء فيها أثار ذلك إعجابها، وقالت في نفسها:(أي، لو أن هذا الدوار الريفي لي، للذ لي المقام فيه؛ نعم إني أراه منعزلاً بعض العزلة غير أنه جميل للغاية، ومن أمامه البحيرة ومن خلفه الجبل)

وقالت في نفسها (ذلك الرجل الذي يسير الآن بين مباني ذلك الدوار الريفي ليخرج الخيل، لاشك أنه صاحب المزرعة، ولم أر في يوم من من أيام حياتي رجلاً سمهرياً قوياً مثله)

ولكن فرحها الأعظم كان بقطيع البقر الذي خرج تواُ من الغابة ووقف عند طرفها

وقالت في نفسها: (هذه الأبقار مسحورة، لا يشك في ذلك كل من يراها. ضرع طويل وحوالب متوازية. وجميعها ذات لون أحمر كالجمر، أن حلب مثل هذه الأبقار لهو الفرح بعينه. . . . كم لتراً من الألبان تدر هذه الأبقار يا ترى؟)

وشعرت بأن ذلك الأغراء يتزايد عندها ويدفعها إلى التقدم نحو البقر المسحور لتحلبه، ولترى ذلك الدوار الريف الفخم، الذي نسق كل شيء فيه أحسن تنسيق. وتشككت في ضعف طبيعتها. وأخيراً تقدمت نحو الدوار المسحور

ص: 62

ولما وصلت إلى حيث وجدت البقر مستلقياً على الأرض استقبلها بخوار من الفرح. ووقفت لتراه، فتقدمت قائدة البقر ووضعت خيشومها في يدها كأنها اعتادت أن تجد شيئاً من لذيذ الطعام في هذه اليد

فأدركت أن هذه الأبقار لا يمكن أن تكون إلا أبقارها. لقد ميزتها من جديد وهي تعرف اسم كل منها

ولكن كيف يتفق هذا وذاك؟ كيف يصح لأبقارها أن تنام عند طرف الدوار الريفي المسحور؟

وفي نفس اللحظة انفتح باب الدار. وخرجت منه بنت صغيرة ذات شعر ذهبي مسترسل، وكانت مرتدية جلباباً أزرق مفوفاً حافية القدمين. هذه كانت ابنتها. ففتحت باب الحاجز. وأخذت الطفلة بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها، وقالت لها:(إنك طبعاً ابنتي، ولكن لَم أنت هنا؟)

وقالت الطفلة: (إنني طبعاً هنا حيث يجب أن أكون.)

ووقفت القروية حيرى لا تعي شيئاً. وفي تلك الأثناء بدأت الطفلة التي لا زالت بين ذراعيها تمسح بيدها شعر أمها وتصففه. وبدأت ترفع قناع الرأس الذي أنحدر إلى العنق. ورأت أن أمها ليست كما كانت عليه من تألق وانشراح. ولكن العقدة انحلت وأصبح قناع الرأس في يديها

وقالت الأم (انتظري قليلاً، أديري هذا الرباط على وجهه الآخر قبل أن تعقديه ثانية.)

وظنت أنها بهذه الوسيلة قضت على كل الخيالات التي انتابتها، كما كانت هذه وسيلتها من قبل. وفجأت رأت الضالة أين هي

فهي في دوارها الذي تملكه. هنا حيث ولدت وشبت، ولكن الشيطان قد مسها قبلاً ' لى حد لم تعرف معه دوراها

ووقفت والطفلة على ذراعيها ترمي بنظرها إلى ما حولها، لا، إن هذا الدوار الريفي جميل وعظيم جداً إذا ما نظر إليه المرء باعتباره أجنبياً عنه. الآن عرفت أن لا مثيل له في تلك المنطقة، وكانت تريد تركه. إن كل ما عداه أصبح بغيضاً لها!

وارتأت أن لابد من الذهاب إلى زوجها، وأن تحدثه بكل ما جرى، ولم تقبل ابنتها مفارقتها،

ص: 63

وكانت كأن الزوج والطفلة قد التقيا بها بعد فراق طويل

وقال الزوج: (على الأقل ليس هذا السحر الذي مسك بالسحر البغيض. وقد يستفيد الغير فائدة محققة لو أنه وقع لهم مثل هذه الحوادث. أنظري الآن، إنك لم تدركي من قبل ما في دارك هذه. عليك أولاً أن تجوبي العالم وتضلي الطريق مرات عدة حتى تنظري بمثل هذه العين وتدركي قيم الأشياء على حقيقتها

فقالت القروية: (نعم، الحق معك، ومن الحسن أيضاً ألا يضل المرء كثيراً لدرجة يتعسر عليه معها الاهتداء إلى داره.)

عربها عن الألمانية:

ا. ا. ي.

ص: 64

‌من روائع الشرق والغرب

الوحدة

'

لشاعر الحب والجمال لامرتين

استسلم لامرتين بعد فجيعته في حبيبته (جواليا) إلى الهم، وأستأنس بالوحدة، واستكان للعبرة، وخلا إلى الحزن في خلوات (ميلي) ومن هناك بعث إلى صديقه (فريو) بهذه القصيدة في 24 أغسطس سنة 1818 وهي:

جلست محزون القلب، مستطار اللب،

على قلة الجبل، وتحت ظُلة السنديانة

العتيقة، أشيع شمسي النهار وهي تغرب،

وأسرح بصري في وجوه السهل وهي تتغير

فهنا النهر صخاب الموج، جياش

الزبد، ينساب في جوف الوادي، ثم يضل

في ظلام البعد! وهنا البحيرة راكدة

السطح، راقدة الماء، تتراءى في جوانبها

نجوم الليل!

والطفل لا يزال يلقي على رءوس

الجبال الشجراء ومضا من شعاعه، وملك

الليل قد أخذ يصعد إلى عرش السماء في

محفته الندية، فأشرقت جوانب الأرض،

وازدهرت حواشي الأفق

وناقوس الكنيسة الغوطى قد أخذ

يقرع الهواء برنينه الديني، فكف الفلاح

عن العمل، ووقف السائر عن المسير،

واختلطت هذه الأرانين المقدسة بما بقي

ص: 65

من ضوضاء النهار وصخبه!

ولكن نفسي كانت من كل هذا

خلية، فما تبعث فيها هذه المناظر الجليلة،

ولا تلك الصور الجميلة، نشوة ولا بهجة!

لقد كنت أتأمل الأرض وكأنها ظل

منتقل أو خيال طائف!

إن شمس الأحياء لا تدفئ الموتى!

فكنت أنقل عيني من الربى إلى

الجبال، ومن الجنوب إلى الشمال، ومن

ظلمة الغسق إلى حمرة الشفق، وأنفض

السهل والوعر، والمأهول والقفر، عسى

أن أجد لنفسي سعادة في مكان، أو أتوسم

لقلبي راحة في إنسان، فلا أعود بطائل!

وما تصنع لي هذه الوديان والأكواخ

والقصور، ما دمت لا أجد لجمالها في عيني

روعة، ولا لسحرها في قلبي فتنة؟؟

أيها الأنهار والأحجار والغابات

والخلوات العزيزة علي!! إن غيبة مخلوق

واحد من ربوعكن جعل عامركن خرابا،

ورد أنسكن وحشة!!

سواء علي أتطلع الشمس أم تغرب،

وتصحو السماء أم تغيم، ويظلم الليل أم

ينير الصبح، فليس لي بغية في اليوم ولا

رجية في الغد

وحينما أرسل عيني تتبعان الشمس في

ص: 66

مدارها الرحب القصي، لا أبصر في كل

مكان غير الفراغ والخلو! لا حاجة لي إلى من

تظله السماء، ولا رغبة فيما تنيره الشمس!

ولكن من وراء هذا الفلك الدائر

وهذه الشمس الساطعة أمكنة أخرى

تسطع فيها الشمس الحقيقية! فلو أتيح

لنفسي أن تخلص من قفصها لرأت في تلك

السموات حبيبها الذي طالما بكت عليه،

وحنت إليه!

هنالك انتشى من رحيق الغبطة،

وأظفر بالأمل والمحبة، وأنعم بما تاقت إليه

نفسي من مُتَع لا تمر على سمع ولا تدور بخلد

ما أعجزني أن أطير إليك وأنا مثقل

بقيود المادة، خاضع لجاذبية الأرض!!

وليت شعري لماذا قضى الله أن أبقي إلى

الآن في أرض المنفى وما تربطني بها رابطة،

ولا تصلني بأهلها صلة!!

إذا ما ذوت الأوراق في المرج،

وأسقطها قر الخريف في الوادي، هبت

عليها الشمال فذهبت بها أباديد! وأنا بهذه

الأوراق الذابلة أشبه! فاحمليني أيتها الريح

كما حملتها، وانثريني في وجوه الفضاء كما

نثرتها، فما بعد الصباح إلا المساء، وما بعد

اليأس والوحدة إلا الفناء!

الزيات

ص: 67

‌من الأدب الهندي

للشاعر الهندي خسرو الدهلوي

ارتفع العُقاب من الصخر إلى اللوح، ينفض للصيد جناحه ويصيح، واعجب ببسطه جناحه وقال: وجه الأرض اليوم تحت جناحي الطوال، أين في العالم ندي في هذا الفضاء؟ ما النسر وما السيُمرْغُ والعنقاء؟ هاأنذا أطير في الأوج وينفذ بصري الحديد، إلى الشعرة في قاع البحر البعيد، ولا تتحرك ذبابة على اليبس إلا بصرت باضطراب جناحها. وتمادى به العُجب ولم يخش القضاء، فانظر ماذا فعل به فلك السماء: صوب إليه قوساً من الكمين، فأنفذت فيه سهم القضاء المتين، أصاب السهم القاتل جناح العُقاب، فهو من الأوج إلى التراب، وقع على الأرض يضطرب، اضطراب السمكة وينتحب، ثم أدار عينه ذات اليمين وذات الشمال، فبلغ منه التعجب وقال: أني لقطعة من الخشب والحديد، هذه الحدةُ والسرعة والطيران البعيد؟ فلما أنعم النظر في سهم العذاب، رأي عليه ريش عقاب، فقال: من نبكي ولمن نشكو آلامنا، ومن أنفسنا هذا الذي أصابنا؟

وله أيضاً

طلبت أذني اسمك في كل مكان، ونحرت عيني وجهك في كل ناحية، ضربت برأسيكريح الصبا في كل باب وجدار، إذ ذهب وردي الضاحك وبقيت رائحته

الشاعر الهندي بيدل

إنما يأسرنا إحسان المنزهين عن الأغراض، فان شئت أن تصطادنا فانثر حبك بعيداً من الشباك

ص: 69

‌من الأدب الفارسي

للشيخ سعدي الشيرازي

الملك حارس الرعبة وإن تكن له الدولة والصولة، فليس القطيع من أجل الراعي، ولكن الراعي لخدمة القطيع

وله أيضاً

يا طائر السحر تعلم العشق من الفراشة. قد احترقت وماتت ولم يُحس لها صوت. هؤلاء المدعون لا خبر عندهم في طلبه، أما الذين عرفوا الخبر، فلم يعرف لهم أثر

لمولانا جلال الدين الرومي

كان رجل يُسر إلى داره كل حين أن لا تسقطي قبل أن تنذريني. فانقضت الدار ليلة عليه بغته. فقال: كَثُر ما أوصيتك، وشد ما حذرتك! ألم أقل لك أنذريني قبل أن تنقضي لأفر عنك بعيالي! ما أخبرتني أيتها الدار الغادرة! فأين حق الصحبة الطويلة؟ لقد سقطت وأصبتنا بشر المصائب!

أجابت الدار مفصحة: كم كم أنذرتك ليلاً ونهاراً! كنت كلما فسحت من الصدوع فما، أن قد نفدت طاقتي وجاء الوقت فخذ حِذرك، دعاك الحرص إلى أن تسد فمي بالطين، فلم تدع لي صدعاً يبين، كلما فتحت فما في جدار، أخرسته علي بدار، فلم تدعني أنيس، فماذا أقول أيها المهندس؟

للفخر الرازي

ما حرًم قلبي العلم ساعة، ولم يبق سر إلا كسفت قناعه، فكرت اثنتين وسبعين سنة نهاراً وليلاً، ثم علمت أني ما علمت شيئاً

لابن سينا

تداولت مشكلات العالم بالحل، من تحت التراب إلى أوج زًحل، ولم تأسرني القيود والحيل، فحللت كل عقدة إلا الأجل!

عبد الوهاب عزام

ص: 70

‌من هنا ومن هناك

الشعر الغنائي عند العرب وعند الايسلنديين

نشر الدكتور ج. أيستروب المستشرق الكبير بحثاً ممتعاً في الموازنة بين الأدب العربي قبل الإسلام وبين الأدب الأيسلندي في جاهليته، أي قبل الغزوات الشمالية. ولخص الدكتور نتيجة هذا البحث في مقال نشره في مجلة (جاتس دانسك مجزين الدانمركية) وهاك خلاصة رأيه:

يرى الدكتور أن هناك مشابهة قوية بين الأدبين: في الإلهام والعواطف وطرق الأداء. ومن الواضح أنه لم يقع اختلاط بين الشعبين في تلك العهود، إلا أن الدكتور يعزو ذلك التشابه إلى الأحوال الجغرافية التي فرضتها الطبيعة على الشعبين، وإلى الحياة الاجتماعية المماثلة التي نشأت عن تلك الأحوال: فايسلندا كانت عزلة عن العالم بالمحيط الأطلسي، وبلاد العرب كانت كذلك معزولة بالبحار والصحاري، ومن ثم كان الشعبان يحييان حياة محصورة، ويعيشان عيشة قبلية مستقلة، كل فرد فيها مستقل في حياته الاقتصادية عن الآخر

والطبيعة في كلا البلدين وعرة قاحلة تجعل جهاد العيش شاقاً مرهقاً؛ وأشد المشابهات وأعجبها بين الأدبين يرجعها الدكتور إلى الفخر والزهو اللذين يتميز بهما أفراد الشعبين، ويرى أن هذا الاعتداد بالنفس أثر من آثار الانعزال والاستقلال؛ وانعدام الحوادث الاجتماعية الكبيرةمن بيئتهم جعل الأعمال الفردية الضئيلة في نظر أصحابها أساسية جليلة

والهجاء عند قدماء الأيسلنديين والعرب فاحش مقذع، ولكنه شكل ثانوي لأدب شخصي بطبعه أخص صفاته أنه شخصي لأنه صدر عن قوم شخصيين انطووا على أنفسهم واستمدوا من عواطفهم. والشعر الغنائي على عكس الشعر القصصي يعبر عن آلام النفس وسرورها، وهذا الألم وذلك السرور لهما أثر كبير في تلك الحياة الأولية الساذجة. وبين هذا النوع من الأشعار التي نجد أكثرها مؤثراً واقلها عظيماً فروق جوهرية

وإذا كان العرب والأيسلنديون قد انصرفوا جميعاً عن الحياة اليومية الواقعية، وكانت لغتاهما تنمان على الصناعة اللفظية والأناقة الأرستقراطية، فان من خصائص العرب أنهم وجههوا همهم إلى الصور البيانية، ومن خصائص الأيسلنديين أنهم لا يعنون إلا بالنعمة

ص: 71

الموسيقية

ص: 72

‌بين المسرح والسينما

كتب الأستاذ لويس جوفيه في مجلة (لموا) عن الصراع القائم بين المسرح والسينما قال:

تنبأ بعضهم منذ طويل بموت المسرح، ولكن لينور ماند في روايته الأخيرة (شفق المسرح) قد أرسل في الناس نداء مؤثراً دعا فيه إلى إحيار الفن التمثيلي. ونحن كذلك جماعة صحت عزيمتهم على ألا يدعو أنفسهم فريسة لذلك الجبار كنج كنج - وهو السينما

وهذا الموسم التمثيلي قد جاء حجة لنا على ذلك. فأنا لم نشهد موسماً مثله قد فتح بمثل هذه القطع الرائعة، ولا قطعاً كهذه القطع استمر تمثيلها مدة طويلة. لا أريد أن أقدم أرقاماً مخافة أن أخطيء، ولكن أحداً من الناس لا يستطيع أن يمادي في نجاح (كما تحب) و (مس با) و (العهد الجديد) و (أمل) وروايات أخرى لا تقل عنها

إن هناك غير هذا الجمهور الضخم الذي يذهب إلى السينما، ولا يذهب إلى غيرها، جمهوراً يحب المسرح. وهو جمهور محصور من غير شك، ولكنه ارهف ذوقاً، وأصفى قلباً إلى المظاهرات الفنية مهما تكن. ولماذا نعارض المسرح بالسينما وكل منهما فن قائم بذاته؟ فللسينما طرق للتعبير والبيان غير محدودة، وهو في اعتباري طريقة ناجعة لتبسيط الأمور إلى أذهان الجمهور.

أما طرق التعبير في المسرح فضيقة قليلة، ولكنك ترى رجالاً أحياء، وذلك ما لا تستطيع السينما أن تعوضك عنه. فالإخراج وحده هو الشيء المتماثل في السينما والمسرح، وفن إدارة الممثلين فيهما واحد، ولكن النظام الآلي أضيف إلى ذلك في الاستديو، وأصبح شديد الخطورة والأهمية حتى صار الميكيانيكي هو المخرج.

قدم إلى المسرح روايات جيدة يأتك الفوز من تلقاء نفسه. لقد سئم الجمهور هذه الحكايات الصغيرة الداعرة التي ظلت أثناء زمن طويل موضوعاً لروايات المسرح. لإن هذه القصص المبتذلة الكالحة أصبحت لا تهم أحداً، ولا تزيد في الميزانية فرنكاً واحداً

إن شباب اليوم الجديد العملي يريد شيئاً آخر، فما هو ذلك الشيء. هو شيء يسيغ لهم الحياة اليومية، ويهون عليهم متاعبها، ويخفف عنهم مصاعبها. والمسرح لمن يحبونه هو النسيان والسلوان والترفيه من عناء الأعمال العادية. نحن ظماء إلى العجائب والروائع. نتمنى أن يوحي المسرح إلينا الأحلام، ويفجر لنا ينابيع جديدة للشعر. نريد من المسرح أن

ص: 73

يكون مثابة للعجائب والسحر لا صورة سمجة للحياة اليومية

احملوا إلى مديري المسارح الروايات الجميلة، فقد مضى الزمن الذي كانوا يعتذرون فيه بضيق الوقت عن قراءة المخطوطات. . . لم يعد منها شيء. والشبان قد انصرفوا إلى القصة وأحجموا عن الرواية، كأن هؤلاء الشبان الذين نتكئ عليهم ونركن إليهم ونعتقد أن مساعدتهم ضرورية للمسرح، يخشون أن يتقدموا إليه

فليتقدم المخلصون للمسرح في هذه الساعة التي نشبت المعركة بينه وبين السينما فيضمنون فوزه ويؤمنون نجاحه بالإقبال عليه والكتابة له

ص: 74

‌الشعر والعصور الأولى

نشرت (المصور) التي تصدر في فينا دراية ممتعة في مؤرخ الأدب وناقده الألماني والترمشج جاء فيها عن الشعر باعتباره إرثاً للتقاليد ما يأتي:

(الفن هو تقاليد ورثناها منذ عهد لا يدخل في حدود الذاكرة، إذ لا شيء في الوجود يعرض أمامنا إلا وهو يعود بأصله إلى تلك الصور والنقوش التي رسمها ونقشها إنسان أفريقيا الوحشي صوراً لأجداده وصيده، ومن ثم اتخذها آلهة يؤدي إليها فريضة العبادة

وبرغم ما بين الماضي والحاضر من التباين البعيد، فان من المستحسن البحث في حقيقة ارتقاء الفنان بقدر ما نعنى تتبع الخطوات الأولى التي مرت على الإنسان في حداثته. والأمر كذلك في الشاعر، إذ هو صورة للعالم تعبر عنه في عصر ما، وتلك صفة هامة تسبق أهميتها الاصطلاحات التي يستعملها ليخرج في إطارها تلك الصورة

وعلى قاعدة هذه الحقيقة الهامة، سهلت اليوم دراسة تاريخ الأدب والفن. فالخالق الذي يرتبط بعملية الخلق ويفيد العالم على أساس هذه العملية يختلف عن حضري مثقف بأعماله العقلية التي يقدمها إلينا. إذ لا نستطيع أن نتفهمها حتى نعود به إلى ماضيه الذي لا يزال مستقراً في قرارته

هذا وقد رسم لنا فرويد ذلك الجسر الذي يصلنا بذلك العالم المشبع بتلك التقاليد والفكر، وهذا الجسر هو الأحلام الخيال موحى الشاعر

وما من شعر رصين إلا ان له صلة بذلك العالم الأول، صلة بذلك الخيال البعيد المغمور بالأحلام

والشعر لا يثير إعجابنا ودهشتنا إلا لأنه مبعث الفكر عميقة، لم يأت بعد إدراك حقيقة طبيعتها. وعودة الشعر إلى ذلك العالم المغمور هي السبب في أن الشاعر يُرى بين أهل وطنه غريباً، كما أن موقفه يختلف عن موقف رجل يمتهن حرفة التجارة، كذلك ليس في وسعه أن يختلط بأهل عصره ويسايرهم في أفكارهم، لأن ذلك يعد حياداً عن طريقه الذي يجب أن يسلكه بين أناس يحيطون به ولا يعرفون قدره حتى يبلغ رسالته

ص: 75

‌البريد الأدبي

كتاب عن لوتر

صدر أخيراً في فرنسا كتاب عن مارتن لوتر زعيم ألمانيا الروحي، وقد صدرت عن لوتر كتب عديدة بمختلف اللغات، ولكن هذا الكتاب الأخير يمتاز بطرافة تصويره للرجل الذي صدع من وحدة الكنيسة الرومانية واستطاع بثورته عليها أن ينشئ إلى جانبها مذهباً نصرانياً جديداً هو (البروتستانتية) الذي تتبعه عدة من الأمم العظيمة مثل ألمانيا وإنكلترا ومعظم الشعب الأمريكي. وهو من وضع العلامة المؤرخ فرنز فونك برنتانو عضو المجمع العلمي الفرنسي. وفونك برنتانو مؤرخ وافر البراعة والقوة، وافر الطرافة قبل كل شيء، وهو اليوم في نحو الثمانين من عمره ولكنه ما زال دائب البحث والإنتاج، وكتبه وبحوثه تثير دائماً في الدوائر العلمية كثيراً من الاهتمام والتقدير. وله في بعض الشخصيات والمسائل التاريخية نظريات جديدة؛ مثال ذلك أنه في كتابه عن (لوكريزيا بورجيا) ابنة البابا اسكندر السادس يذهب في شأنها إلى رأي جديد، ويصور هذه المرأة التي صورتها التواريخ والقصص، عاهراً من أشنع وأخطر نوع، سيدة عفيفة وزوجا أمينة مخلصة، وقديسة محسنة، ويدعم رأيه بالوثائق والوقائع التاريخية؛ ومن رأيه أيضاً أن لويس الخامس عشر ملك فرنسا الفاجر المتهتك، قد ظلمه التاريخ، وأنه لم يكن كما صور من إغراق في التبذل والغواية، وأن سجن الباستيل لم يكن دائماً كما تصوره التواريخ معتقلاً مروعاً تخمد فيه الرغبات والأنفاس، ولكنه في أحيان كثيرة كان يغدو من الداخل قصراً أنيقاً تقام فيه المآدب والحفلات الشائقة، بل وتهب فيه ريح الغرام والحب؛ وهكذا

أما لوتر فمن هو وما هو؟ هو نوع من البركان أو اللهب تنفست عنه ألمانيا في القرن السادس عشر، وهو ليس بقس فقط يحاول ثورة على الكنيسة، ولكنه رجل عظيم يضطرم بالمثل الإنسانية العامة؛ ومتصوف لا تضيره العزلة، ولكنه لا يرى الكمال في إخضاع النفس والشهوات؛ وهو من الوجهة الاجتماعية (محافظ)، وقد بذه من الوجهة الأخلاقية أحبار مثل البابا اسكندر بورجيا، فلم يخرج على الأخلاق والحشمة خروجهم، وما هو الزواج وشرب النبيذ؟ وقد أثارت نزعة (الأحياء) كل مسألة في كل مكان، ولكن لوتر لم يثر سوى مسألة واحدة هي (تنظيم الجمهورية النصرانية) ثم هو يمثل في ثورته روح

ص: 76

الوطنية الألمانية الصميمة، فهو يبث الرعب والروع من حوله، ولكن من ورائه، بعيداً عن الفكرة الدينية، شعوب ألمانيا كلها؛ أحباراً وأمراء وشعباً

ومن هو لوتر من الوجهة الشخصية؟ هو رجل قوي البنية جاف الملماح، شاعر متواضع، وخطيب مفوه، ومجادل قوي الحجة، ومتصوف مكتئب، وموسيقي، وشجاع حين تجب الشجاعة، وديع ذلول إذا خلا بنفسه، مضطرم الذهن، يفيض رأسه دائماً بالتصورات المروعة؛ عدو الطبقات الرفيعة، دون أن يعرف كيف أو أني يسير

أما الثورة على رومة فليس من المحقق انه كان يرمي إلى الانشقاق عليها، ولعله كان يؤمل منها الإذعان والتسليم؛ ولعله كان يعتبر نفسه مصلحاً فقط للكنيسة، وهو ما يخلق بقس ذكي، وهناك ريب في أنه كان يعمل لانهيار هذا الصرح الشامخ الذي شادته الكنيسة خلال القرون، وأقامته فوق التوازن بين قوتين: زعامة الكنيسة الروحية، وسلطة أوربا الدنيوية. وأن أوربا في القرن العشرين، أوربا المضطربة، لا تستطيع إدراكاً لتلك الوسائل التي لجأ إليها هذا القس البارع - زعيم ألمانيا وزعيم الفردية - في تحقيق هذا الانقلاب العظيم

هذا هو ملخص الصور المختلفة التي يقدمها العلامة فونك برنتانو عن بطل ألمانيا القومي وبطل البروتستانتية في كتابه الجديد

البحث عن أصل الإنسان

ما زال البحث عن أصَل الأجناس البشرية من أهم المسائل التي يعني بها العلم الحديث؛ وفي كل عام توفد البعوث العلمية المختلفة إلى الأقطار المجهولة لتجري فيها ما تستطيع من التحقيقات والمباحث التي تلقي الضياء على أصل الإنسان والأجناس البشرية، وقد أعدت أخيراً في فرنسا بعثة جديدة لمعالجة هذه المباحث في مجاهل أفريقية؛ وذلك تحت رعاية وزارة المعارف الفرنسية، ومعهد علم الأجناس، ومؤسسة روكفلر العلمية، وانتخب لرآسة البعثة علامة ومكتشف شاب هو المسيو مارسل جريول الذي برهن على مقدرة خاصة في القيام بمثل هذه المباحث. وقد قاد المسبو جريول قبل ذلك بعثة في قلب أفريقية قطعت ما بين دكار عاصمة السنغال في الغرب وجيبوتي على البحر الأحمر في أقصى الشرق، ما بين سنتي 1931، 1933؛ وقام قبلها أيضاً برحلة علمية في الحبشة، ونشر عنها كتاباً كان له وقع عظيم عنوانه (حملة المشاعل للإنسان). والبعثة الجديدة مكونة من

ص: 77

تسعة أعضاء، منهم مصور سينمائي وثلاث سيدات، وتنوي البعثة أن تبدأ بالسيارات من غرب أفريقية متجهة نحو الشرق بطريق بلاد الدوجون والهابيس ومرتفعات باندياجرا ومنحنى نهر النيجر؛ وهي أنحاء اخترقها جريول من قبل ووضع عن خواصها وأحوال سكانها بحوثاً قيمة. وكان أهم ما لفت الأنظار ما كتب عن هؤلاء السكان السود من الحقائق الغريبة؛ وهي أنهم يعيشون في كهوف من الصخر رتبت مخادع صغيرة وكل مجموعة من الربى تكون قرية خاصة؛ وهم يعيشون في جو من التقديس يفيض بذكر الآلهة والخرافات الغريبة، ويعنون بصنع الأقنعة المقدسة والوشم المقدس؛ ولهم رسوم دينية مدهشة؛ والسحر ذائع بينم، وتكثر بينهم الرموز الخفية؛ وعلى الجملة فهم أكثر الشعوب تمثيلاً للإنسان الأول وعصر ما قبل التاريخ.

وستعني البعثة باستيفاء هذه البحوث والحقائق ويعنى السيدات المرافقات للبعثة بدرس أحوال النساء ونظام الأسرة في هذه الأنحاء

أزمة الفنون

كان للأزمة الاقتصادية أثرها في المسرح الفرنسي؛ فأغلق كثير من المسارح ودور اللهو المعروفة، وخفضت مرتبات مشاهير الممثلين والفنانين، وظهر هذا الأثر قوياً في مسرح الحكومة الرسمي (الكوميدي فرانسيز) أشهر مسارح فرنسا، وعجز دخله عن أن يفي بنفقاته، وأحدثت هذه الحالة في نظام المسرح العظيم اضطراباً لم يسبق أن عاناه؛ واهتمت وزارة المعارف الفرنسية بالأمر وأخذته بين يديها؛ وتباحث وفد من أقطاب الكوميدي فرانسيز مع وزير المعارف في الحلول الممكنة، وطلب أن ينظر بالأخص في معاشات أعضاء المسرح المحالين على المعاش لأن كثيراً منهم غدا في حالة يرثى لها. وكان من الحلول المقترحة لمعالجة الأزمة أن تقوم فرقة الكوميدي فرانسيز برحلات في الخارج، في إيطاليا وأمريكا الجنوبية وغيرها، وفي القاهرة الآن فريق من مثلي هذا المسرح الشهير يعملون في دار الأوبرا الملكية

شتيفان جروسمان

من الأبناء فينا أن الكاتب النقادة شتيفان جروسمان قد توفي في سن الحادية والستين، وكان

ص: 78

جروسمان كاتباً وصحفياً كبيراً، ولد بمدينة فينا، ونشأ بها؛ وظهر في الصحافة بكتاباته النقدية القوية، وعني جروسمان بالمسرح وشئونه عناية خاصة، وكان له رأي في المسرح ينادي به ويعمل له، وهو أن يكون المسرح شعبياً محضاً، ينشأ للشعب ولثقافة الشعب؛ وقد ذاعت فكرته مدى حين في مدينة الفنون والمسارح (فينا) وغدت حركة حقيقية، ولكنها لم تفض إلى نتائج عملية. وكان جروسمان يرسل صيحاته النقدية والإصلاحية على صفحات في الصحف النمسوية الكبرى مثل (النوية فرايه يريسيه) و (التاجبلاط) وغيرهما، ومنذ أعوام غادر جروسمان فينا إلى برلين، واشتغل هنالك بالصحافة والشئون المسرحية أيضاً. ثم عاد إلى فينا بعد ردح من الزمن، وفيها توفي منذ أسبوعين

في جامعة السوربون

توفي العلامة المؤرخ رايمون جيو أستاذ التاريخ بجامعة السوربون في السابعة ة والخمسين من عمره. وكان مولده بباريس سنة 1877، وتخرج من مدرسة المعلمين العليا (النورمال) ونال الأستاذية في التاريخ. وتولى التدريس زمناً قبل أن يجلس على (الكرسي). ولما توفي المسيو أميل بورجوا الذي كان يشغل كرسي التاريخ في كلية الآداب ومدرسة العلوم السياسية، عين مكانه فيه الأستاذ جيو. وللعلامة المتوفى كتب ورسائل كثيرة في موضوعات تاريخية مختلفة ولاسيما مسائل أوربا الحديثة

ص: 79

‌الكتب

كتاب تتمة اليتيمة للثعالبي

نشره وقدم له الأديب عباس إقبال

مررت بباريس قبل سبع سنين، فزرت الأديب العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني لأفيد من علمه الغزير، لقيت عنده الشاب الأديب عباس اقبال، وكنت قرأت في كتاب للعلامة القزويني أن الثعالبي أكمل اليتيمة في كتاب سماه تتمة اليتيمة، وأن نسخة منه في مكتبة باريس؛ فتكلمنا يومئذ عن الكتاب، وعزمت أن أشير على لجنة التأليف والترجمة بطبعه. ثم ضرب الزمان ضرباته حتى ذهبت إلى طهران هذا العام فإذا صديقنا الأديب عباس إقبال قد طبع التتمة في جزءين صغيرين طبعاً متقناً وجاء يهديها الي، فسررت كل السرور بطبع هذا الكتاب القيم، وأثنيتعلى جهد الأديب إقبال وهمته

وإني لراج أن يذيع الكتاب بين الأدباء ليكمل به نقص اليتيمة

وفيما يلي ترجمة المقدمة الفارسية التي كتبها الأديب النابغة عباس إقبال لهذا الكتاب:

الأمام أبو منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري (350 - 429هـ9) أديب من أدباء إيران النابغين، أمضى معظم عمره، أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس، في تأليف كتب كثيرة في فنون شتى من الأدب واللغة والتاريخ وكتب مؤلفاته كلها باللغة العربية اتباعاً لسنة ذلك العصر، إذ راجت سوق هذه اللغة واستأثرت بالعلوم واتسعت وعمت. ونحمد الله على أن أكثر مؤلفات الثعالبي، وبعضها رسائل صغيرة ذات أوراق قليلة، لم تذهب بها الحادثات

من كتب الثعالبي كتاب يعد من أجل كتبه، واليه يرجع أكثر صيته، وهو كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. كتب الثعالبي نسخته الأولى سنة 384، ونسخته الآخرة بين سنتي 402 و407. وأودعه من آثار الشعراء المعاصرين والذين تقدموا زمانه بوقت قصير، وضمنه بعض أخبارهم

قسم الثعالبي كتاب اليتيمة أربعة أقسام: القسم الأول في محاسن أهل الشام والجزيرة، القسم الثاني في محاسن أشعار أهل العراق، القسم الثالث في محاسن أهل الري وهمذان واصفهان والجبل وما يتصل بها، القسم الرابع في محاسن أهل خراسان

ص: 80

والكتاب لا يعني كثيراً بأخبار الشعراء الذين ترجم لهم الثعالبي في الأقسام الأربعة كما يعني بذكر أشعارهم، ونبذ من منثورهم أحياناً، ولكنه مع هذا يشتمل على كثير من الفوائد التاريخية المهمة، ولاسيما في القسمين الثالث والرابع اللذين يتضمنان تراجم الشعراء الذين عاشوا في إيران وما يتصل بها. وهو من هذه الجهة يحوي فوائد قيمة، وبعض الشعراء الذين ترجم لهم الثعالبي في هذين القسمين ممن عرفوا في عُرف ذلك العصر بالشعراء ذوي اللسانين: أي الذين نظموا بالعربية والفارسية. وقد أثبت في مواضع ترجمة بعض شعرهم الفارسي، وفي موضع أو اثنين نماذج من شعرهم الفارسي أيضاً. وهذه النبذ على قلتها ذات خطر يجعل اليتيمة من المنابع المهمة، لتحقيق تاريخ إيران وتاريخ الأدب الفارسي في القرنين الرابع والخامس

وقد ذيل اليتيمة كتاب آخرون، ساق كل منهم الكلام من حيث انتهى الثعالبي إلى زمانه هو. وأكثر هذه الذيول انتشاراً كتاب دمية القصر لعلي بن الحسن الباخرزي تلميذ الثعالبي. ويُعتبر ثاني اليتيمة في القيمة والفوائد التي ذكرنا.

ويؤسفنا أن الدمية على مكانتها الأدبية لم تطبع حتى اليوم: والطبعة الناقصة المشوهة التي طبعت في حلب قبل بضع سنين لا تعدل فلساً. وأول من ذيل اليتيمة فأكمل نقصها بذكر الشعراء الذين نسبهم المؤلف أو لم يظفر بشيء من أشعارهم وأخبارهم حين التأليف، أو نبَهُوا بعد انتشار الكتاب، هو الثعالبي مؤلف اليتيمة نفسه. ويؤخذ من مقدمة النسخة النهائية للمجلد الأول من اليتيمة أنه جد منذ نشر النسخة الأولى سنة 384 في تكميل اليتيمة والزيادة عليها. حتى تسنى له أن ينشر النسخة الأخيرة بين سنتي 402 و 407، وأهداها إلى الأمير أبي العباس مأمون أبن مأمون خوارزمشاه المتوفى سنة 407 في سن 32

وبعد ما يقرب من عشرين سنة من انتشار النسخة الأخيرة من اليتيمة ألف الثعالبي كما يقول هو في مقدمة النسخة التي بأيدينا كتاباً لطيفاً على نسق اليتيمة وترتيبها سماه تتمة اليتيمة، أراد أن يرفع نقص اليتيمة ويجبر كسرها وان يكون ضميمة للكتاب الأصلي تبلغ به اليتيمة الحد الذي بلغه جهد الثعالبي.

ومعنى هذا أن كتاب اليتيمة ناقص بدون هذه التتمة؛ وقد عرف ذلك الثعالبي نفسه. ذلكم بأن الذيل الحاضر، يحتوي على أسماء كثير من الشعراء الذين أغفلتهم اليتيمة أو نبه شأنهم

ص: 81

بعد انتشارها. فضلاً عن أنه يعين على إكمال تراجم عدة من الشعراء الفضلاء الذين ذكروا في اليتيمة. فالتتمة ذات خطر كبير ولاسيما قسمها الرابع الذي يتضمن أخبار أركان الدولة وأعيان الحضرة أي المنشئين والمستوفين والأدباء والشعراء الذين التفوا حول الملوك الغزنويين. هذا القسم يعد أعظم أقسام هذا الكتاب من حيث إنارَتُه مواضع مظلمة من تاريخ إيران وآدابها، واشتماله على أنباء كثير من الوزراء والمنشئين والشعراء والأدباء النابهين

ألف الثعالبي كتاب التتمة في أيام السلطان مسعود الغزنوي ما بين سنتي 424 و 428 وثَبَتُ هذا أن سنة 424 وردت مرتين في هذا الكتاب (ص114 و 145)، وأن شمس الكفاة خواجه أبا القاسم أحمد بن حسن الميمندي وزير السلطان مسعود كان قد توفي حين تأليف الكتاب، ووفاته كانت سنة 424. (ارجع إلى صفحة 146 و155) فلا يمكن أن يكون تاريخ التتمة مقدماً على هذه السنة، والمؤلف مات سنة 429؛ فتأليف الكتاب محصور بين سنتي 424 و429. وتتمة اليتيمة، كاليتيمة، اشتهرت منذ عهد المؤلف وصارت مرجع الأدباء. وقد اطلع عليها ياقوت الحموي ونقل عنها فقرات في كتابه معجم الأدباء. وحاجي خليفة يقول تحت عنوان اليتيمة إن للكتاب ذيلاً ألفه الثعالبي، ويذر اسمه صريحاً، ولكن هذا الاسم (تتمة اليتيمة) حرف إلى (يتيمة اليتيمة) في كشف الظنون المطبوع. وابن خلكان كذلك اطلع على هذا الكتاب وذكره في ترجمة أبي محمد عبد المحسن بن محمد الصوري (ج1 ص428 - 429 من طبعة باريس)، وقد نقل قطعة من الشعر نسبها الثعالبي في التتمة إلى أبي الفرج بن أبي حصين القاضي الحلبي (راجع ص68 من هذا المتن) ثم اعترض على مؤلف التتمة وقال هذه الأبيات لعبد المحسن الصوري، رأيتها في ديوانه، وأخطأ الثعالبي في نسبة أشياء إلى غير أهلها فيحتمل أن تكون هذه الفقرة منها

قلنا إن كتاب التتمة كان في يد ياقوت الحموي. وقد نقل منه ياقوت فقرات بعينها، ومن ذلك نبذة في ترجمة أبي العلاء المعري (ج1 ص172)، وأبي علي بن مسكويه (ج2 ص9) والسيد المرتضى (ج5 ص175)، وأبي جعفر محمد بن إسحاق البجاثي (ج6 ص412) وغير ذلك. وليس خروجاً عن الموضوع أن أنبه هنا إلى مسالة: ينقل ياقوت في معجم الأدباء (ج1 ص172) أبياتاً رواها الثعالبي لأبي العلاء المعري، ثم يقول: قال

ص: 82

وأنشدني لنفسه: (لست أدري ولا المنجم يدري) إلى أخر القطعة

وهذه القطعة، كما يتبين من هذا الكتاب (ص10) لأبي القاسم المحسن بن عمرو بن المعلى الذي يذكره الثعالبي في التتمة بعد أبي العلاء المعري بلا فاصل لا لأبي العلاء المعري. وراوي القطعة المذكورة أبو يعلى البصري لا أبو المحسن الدلفي المصيصي الذي يروي عنه الثعالبي ويتبعه ياقوت، أخبار المعري وأشعاره. فيفهم من هذا أن نسخة التتمة التي كانت في يد ياقوت فيها نقص، أسقط كاتبها بعد أخبار أبي العلاء المعري اسم أبي القاسم المحسن بن عمرو بن المعلى. وقد رأيت هذه الإشارة جديرة بالذكر هنا لتصحيح هذا الموضع من معجم الأدباء المطبوع

النسخة بأيدينا صورة من نسخة مخطوطة وحيدة في مكتبة باريس مكتوبة بخط نسخ جميل. وهي ملحقة بأجزاء التتمة كلها في جلد واحد يحوي 591 ورقة أي 1182 صفحة ورقمه (3308 وتشمل أقسام التتمة الأربعة من صفحة 498 إلى 591. وقد طبعناها في جزءين لأسباب نذكرها بعد

نسخة باريس مؤرخة 17 صفر سنة 989؛ وإذا استثنينا أغلاطا كتابية وسقطاً قليلاً، فالنسخة في نهاية الجودة والصحة

ثم ختم كلامة بقوله: والمرجو أن تقع هذه الخدمة الصغيرة موقع القبول عند الأدباء وينظروا إليها بعين الرضا والأنصاف

عبد الوهاب عزام.

ص: 83