الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 810
- بتاريخ: 10 - 01 - 1949
الفقيد الشهيد!
من الخطوب ما يدهم المرء فيصيبه بجمود في الحس وخمود في الذهن فلا يشعر ولا يفكر. ومن الأهوال ما يفجأ الآمن فيرميه بالدهش والتلدد فلا يقدم ولا يؤخر. وتلك كانت حالي حين أقبل عليَّ صديق يقول وهو يقلب كفيه، ولا يملك مسارب عينيه: قُتل النقراشي الساعة برصاص أخ مسلم!! فبرق بصري لما قال، وأقمت شاخصاً لا أطرف، ذاهلاً لا أعي! وتسامع الناس بالخبر المشئوم، فاعتقلت ألسن، واخضلت أعين، ولهفت قلوب؛ وظل أكثر السامعين بين مصدق ومكذب، حتى أسند الخبر إلى مدير الدقهلية، فاستيقنوا جميعاً وقوع الكارثة التي طالما تمناها الإنجليز لمصر، وابتغاها اليهود للعرب. وتجمع أهل المنصورة زمراً في المقاهي والطرق والحوانيت يطيلون في الثناء على الصريع العظيم، ويستعينون بالعزاء على الخطب الجسيم، ويحاولون أن يعللوا هذا الجرم الفظيع فلا يجدون باعثاً عليه لا من واقع الأمر، ولا من عمل الرجل، ولا من مصلحة الوطن، ولا من سياسة الدين!
وثاب إلي وعيي بعد ذهول المفاجأة فشعرت بصدري يضطرم، وبصبري يرفض، وبدمعي ينهل، وبخاطري يتمثل النقراشي الصديق وهو يزورني معزياً في وفاة ولدي؛ ويتمثل النقراشي المجاهد وأنا أزوره مستضيئاً برأيه في مشكلات بلدي؛ ويتمثل النقراشي الوزير وهو يغلب عقله على هواه، ويؤثر رضا الله على رضاه، ويضحي بالصداقة في سبيل العدل، وبالحزبية في سبيل الوطن؛ ويتمثل النقراشي الرئيس وهو ينهج في سياسته نهج الصديق، وبسمت في حكمه سمت الفاروق، فيحدد مطالبنا المبهمة، ويشدد عزائمنا الموهونة، وينشر فضائلنا المطوبة، وينعش آمالنا الذاوية، ويحرر أعناقنا المغلولة، ويطلق أيادينا المقيدة، ويرفع رءوسنا المطأطئة؛ ثم يقف في مجلس الأمن على ملأ من الأمم ومسمع من العالم، يقرع إنجلترا بالحق فتفحم، ويلوي عنقها بالحجة فتكابر؛ ثم يسير جيشنا الأصيل الحر إلى إنقاذ فلسطين وينفخ فيه من روح إبراهيم فيصنع المعجزة ويدني المستحيل على قلة عدده ونقص عدده!
نعم، تمثل خاطري النقراشي في هذه الأحوال وفي هذه الأعمال، ثم تمثل في الوقت نفسه هذا الإنسان العامل الكامل، الشريف العفيف، المؤمن المخلص، الشجاع الحازم، صريعاً بالنار كلص أراده الشرط، ملطخاً بالدم كخائن رماه الجنود! فأسائل نفسي كما يسائل كل
مصري نفسه: لماذا قتل محمود فهمي النقراشي؟ ألأنه اشترى دنياه بدينه، أم لأنه مالأ عدوه على وطنه، أم لأنه اتبع هواه في حكمه؟ أم لأنه ضن بجهده ونفسه على خدمة أمته؟ أم لأنه استغل السلطان فأقتنى النضار والعقار على حساب ذمته؟!
لا تستطيع النفس العاقلة أن تجيب صاحبها عن هذه الأسئلة إلا بالنفي، لا فرق في ذلك بين حزب وحزب، ولا بين جنس وجنس، ولا بين عدو وصديق. فلا يبقى إلا أن نرجع إلى تاريخ الشهداء الدامي فنسأل العقل المأفون، والجهل المفتون، والدين المزيف، والطبع الشرير، والقدر الأعمى: بأي ذنب طعن عمر، واغتيل غاندي، وصرع أحمد ماهر، وقتل النقراشي؟!
أربعة شهداء لا أجد لهم في تاريخ الشرق خامساً في عظمة النفس، ونقاء الضمير، ووفاء الذمة، وطهارة اليد، وصدق العهد، وشرف المسعى، ونبل الغاية؛ وإن مصارعهم الأليمة ستظل وصمة في جبين الدهر، ولعنة في تاريخ الإنسان!!
هذه كلمة اليوم وإنها لقطرة دم من فؤاد ينزف أسى على مقتل النقراشي ستتبعها قطرات! وللنقراشي في ذمة كل مصري ديون، فهو حري أن تذرف علية قطرات القلوب لا عبرات العيون!
(المنصورة)
احمد حسن الزيات
الجمعية العمومية لهيئة الأمم في دورتها الأخيرة
للأستاذ عمر حليق
فيما يلي عرض موجز لأبرز القرارات التي اتخذتها الجمعية العمومية التابعة لهيئة الأمم في اجتماعها السنوي بباريس، الذي استمر من 22 سبتمبر إلى 11 ديسمبر 1948، وهي تشمل أهم المشاكل التي تواجه العلاقات الدولية، وتتصل اتصالاً وثيقاً بشؤون السلم والحرب.
فلسطين:
أنشأت الجمعية العمومية لجنة التوفيق بين العرب واليهود مؤلفة من الولايات المتحدة وأمريكا وتركيا. وللجنة معظم الاختصاصات التي كانت للكونت برنادوت الذي اغتاله اليهود وتناسته المحافل الدولية بفضل مؤامرة الصمت التي ارتكبتها الصحافة العالمية وتأثرت بها هيئة الأمم تأثراً سلبياً هداماً.
وقرار الجمعية العمومية هذا، يدعو السلطات المعنية بشأن فلسطين إلى الاتفاق مباشرة أو بواسطة اللجنة. وهذا التزام شنيع يفرض على الدول العربية الاعتراف بالكيان الذي أقامه اليهود في المناطق التي يسيطرون عليها في فلسطين. وهو اعتراف آخر بسياسة الأمر الواقع التي تناقض ميثاق الأمم المتحدة والتي لم تكن في يوم ما أساساً لاستقرار سياسي وطيد. والقرار يدعو كذلك إلى جعل مدينة القدس منطقة دولية.
ميثاق حقوق الإنسان:
وافقت الجمعية بأكثرية ساحقة على هذا الميثاق العالمي الذي يحدد الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للفرد تحت أي نظام كان وفي ظل أية سلطة يعيش. والميثاق مقدمة لقانون دولي تنوي هيئة الأمم حمل شعوب العالم ودوله على اتخاذه أساساً للحرية الفردية بموجب التزامات قانونية تتخطى سلطة الدولة وتكون مقيدة بأحكام هيئة قضائية عليا تنشئها هيئة الأمم، للنظر في حوادث التعدي والعبث بالحقوق التي أقرها الميثاق.
مشروع مكافحة الإبادة العنصرية ومعاقبة مجرميها:
وهو قرار كان لضغط اليهودية العالمية الفضل الأول في إقراره؛ إذ أنه يحاول ضمانة
الأقليات والعنصرية من بطش الدولة، وهو بطش حاق باليهود في عهود التاريخ القديم والمعاصر بسبب ولائهم المزدوج الذي يتصنع خدمة الدولة التي تأويهم بينما هو يتخذ هذه الدولة وسيلة لتحقيق أهداف أنانية، مستمدة من صميم العقلية اليهودية الانتهازية وهي عقلية رجعية، لأنها لا تزال تعيش في ظلال التلمود وشريعته العتيقة، دون أن تحاول التأثر بالتطور الفكري الذي أولد حركات تقدمية في السلوك الديني والتفكير الديني والنظرة الدينية تجاري التطور العلمي الذي يعيش عليه المجتمع الإنساني المعاصر.
مشكلة البلقان:
اتخذت الجمعية العمومية للمرة الثانية خلال عامين قراراً ضد جارات اليونان لمساعدتهم الثوار الشيوعيين. والقرار يزيد عاماً في عمر لجنة البلقان الدولية التي أوفدتها الأمم المتحدة لتراقب الحالة وتحاول فض النزاع في البلقان. وقد فشلت اللجنة فشلاً ذريعاً وفقدت مهابتها ومهابة الهيئة الدولية التي أوفدتها. واتخذت الجمعية كذلك قراراً بتكليف جمعية الصليب الأحمر الدولية، بالسعي لإعادة الأطفال اليونانيين الذين خطفهم الثوار وبعثروهم في بلغاريا وألبانيا ويوغسلافيا.
تخفيض التسلح:
رفضت الجمعية العمومية المشروع الروسي الداعي لتخفيض التسلح بمعدل الثلث خلال سنة واحدة. ووافقت الجمعية عوضاً عنه على مشروع بريطاني يقضي بتكليف لجنة تخفيض التسلح - التي أنشأها مجلس الأمن منذ عامين وعجزت عن إنتاج أي اتفاق بين الدول الكبرى - بتكليف لجنة تخفيض التسلح هذه بمواصلة مساعيها لتخفيض التسلح بالرغم من هذا الفشل. وكلفت اللجنة بصورة خاصة بوضع مقترحات عملية دقيقة لإحصاء مقدار الأسلحة لدى الدولة لتكون في متناول هيئة دولية ينتظر منها أن تتولى الإشراف على الإنتاج الحربي ومراقبته إذا ما توصلت الدول الكبرى المتنافسة إلى اتفاق مبدئي بشأن تخفيض التسلح. وقد عارضت روسيا وحلفاؤها معارضة نارية هذا القرار.
الطاقة الذرية:
وافقت الجمعية على توصيات لجنة الطاقة الذرية التي تألفت منذ ثلاث سنوات. وهذه
التوصيات مبطنة اللغة والمقاصد لا ترمي إلى معالجة جوهر الموضوع. وقد أوصت الجمعية العمومية لجنة الطاقة الذرية هذه بمتابعة أعمالها لإنشاء هيئة دولية لمراقبة الإنتاج الذري وتوجيهه توجيهاً سلمياً.
والخلاف بين الروس وحلفاء الغرب على مسألة مراقبة الطاقة الذرية هو أزمة في الثقة. فروسيا ترغب في أن تدمر أمريكا القنابل الذرية المخزونة لديها ووضع جميع وسائل الإنتاج الذري تحت إشراف هيئة دولية للمراقبة والتوجيه السلمي. وقد رضيت أمريكا بجزء من هذا الاقتراح وهو القاضي بوضع وسائل الإنتاج الذري تحت إشراف هيئة مراقبة دولية، ولكن أمريكا أصرت على أن تذعن روسيا لمراقبة هذه الهيئة دون قيد أو شرط وأن لا تضع في وجهها العراقيل وتحاول المخادعة. وقد رفض السوفيت التقيد بالتزامات المراقبة هذه بدعوى أن في ذلك تعدياً على سيادة الدولة.
الجمعية الصغرى:
وهي بمثابة دمية للجمعية العمومية التي تجتمع مرة في العام. والجمعية الصغرى محاولة يائسة لتعزيز أحداث الدول الصغرى أمام جبروت (الفيتو). وهي تجتمع بصورة مستديمة على غرار ما يفعل مجلس الأمن. وقد اتخذت الجمعية العمومية قراراً يقضي بمد عمر هذه الجمعية الصغرى عاماً آخر، وأعلنت روسيا وحلفاؤها معها أنها ستستمر في مقاطعتها.
الأعضاء الجدد:
قررت الجمعية العمومية إعادة النظر في طلبات الأثنتي عشرة دولة الطالبة الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة (سبع منها من أتباع حلفاء الغرب، وخمس من أعوان روسيا). وكانت روسيا قد استعملت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن عدة مرات للحيلولة دون دخول الدول السبع، من أتباع المعسكر الإنجلوسكسوني، بينما عجزت الدول الخمس التي زكتها موسكو عن الحصول على الأغلبية المطلوبة من مجلس الأمن بسبب ضغط الولايات المتحدة وبريطانيا على باقي أعضاء مجلس الأمن دون أن يضطر الإنجلوسكسون لاستعمال الفيتو أسوة بالروس.
مناطق الوصاية:
كانت مناطق الانتداب موضع انتقاد شديد من لجان هيئة الأمم التي كلفت بزيارتها والتحقيق في وضعيتها والسماع لشكاوى أهلها. وقد اتخذت الجمعية العمومية قرارات تطالب الدول المنتدبة بأن توسع شؤون التعليم والتدرج نحو الحكم الذاتي في خطى سريعة. وقد أوصت كذلك بإنشاء جامعة في مكان مناسب في القارة الأفريقية لتخريج الأساتذة الجامعيين وسد حاجة شعوب المستعمرات للتعليم العالي.
لجنة الشرق الأوسط الاقتصادية:
نجحت الدول العربية في انتزاع قرار يفرض على الأمم لمتحدة الإسراع في تأليف لجنة الشرق الأوسط الاقتصادية التي وضعت الدول الكبرى العراقيل في طريقها خلال الأشهر القليلة الماضية. وهذه اللجنة واحدة من أربع لمناطق جغرافية في أوروبا وأمريكا الجنوبية والشرق الأقصى، تسعى لمساعدة شعوب ودول تلك المناطق على تحسين أحوالهم الاقتصادية عن طريق المعونة الفنية دون أن تتقيد تلك الدول بالتزامات التسرب الأجنبي الاستعماري، وهو تسرب قاست الدول الشرقية من شروره ألواناً. وكان أحد المندوبين العرب قد اقترح وضع بترول المملكة السعودية والعراق وإيران، تحت إشراف هذه الهيئة الدولية لخير الدول صاحبة البترول وإبعاد عملية الامتصاص التي تقوم بها شركات الاحتكار الأمريكية في نجد والكويت والبحرين وغيرها، ولا تنال هذه المناطق العربية من أرباح هذا الذهب السائل إلا نسبة تافهة؛ ولا تكاد تنال من منافعه الاقتصادية الإنشائية إلا بمقدار ما يسمح الاستغلاليون من أصحاب شركات الاحتكار الأمريكية.
مجلس الأمن:
انتخبت مصر لتحل محل سوريا في مجلس الأمن لمدة عامين ابتداء من مطلع عام 1949. وانتخبت كوبا والنرويج لمثل هذا المنصب ولنفس المدة.
محكمة العدل العليا:
أعيد انتخاب مندوبي مصر والصين وكندا وبولندة ويوغسلافيا قضاة في محكمة العدل العليا. واتخذت الجمعية العمومية قراراً يسمح للدول التي ليست منضمة لهيئة الأمم ولكنها وقعت على ميثاق محكمة العدل العليا بالمشاركة في انتخاب القضاة.
وألفت الجمعية العمومية كذلك لجنة للقضاء الدولي مؤلفة من 15 عضواً. واتخذت الجمعية كذلك قرارات عديدة أخرى تتعلق بنواح ثانوية من الشؤون الرئيسية. منها التنديد بالتلاعب في المعاملات التجارية، والتجارة بالمواد الغذائية في السوق السوداء. ومنها كذلك إنشاء مركز دولي في هيئة الأمم المتحدة لتدريب بعثات من مختلف الدول على الشؤون الإدارية وفنونها المتشعبة، وهو نوع من التخصص أخذ يحتل مكانة كبرى في معاهد العلم الراقية وأصبحت الحاجة ماسة إليه خصوصاً فيما يتعلق بشؤون التعاون الدولي الذي تمثله هيئة الأمم. واتخذت الجمعية كذلك بروتوكولاً دولياً لمراقبة المخدرات وقيدته بالتزامات أدبية وقانونية قاسية ضد الدول التي تخل باتباعه، وفي البروتوكول نص على استعمال العقوبات في بعض الحالات ضد الدولة أو الدول التي لا تتقيد بقوانين هذه المراقبة.
وقد احتلت الناحية الاجتماعية مكانة ملحوظة في قرارات هيئة الأمم، منها اقتراح بلجيكي يسأل المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للهيئة أن يضع مشروع ميثاق عالمي وضعته الأرجنتين لحماية المسنين من الشيوخ والعجزة وتوفير الطمأنينة الاقتصادية لهم.
وقرار آخر يقضي بأن تقوم دائرة الشؤون الاجتماعية في هيئة الأمم في لايك سكسس بتقديم المعونة الفنية مجاناً للدول والحكومات الراغبة فيها وخصوصاً ما يتعلق بالخدمات الاجتماعية وتنظيمها وتدريب الوطنيين في الشعوب التي لا تسمح ميزانياتها باستخدام الخبراء الأجانب.
هذا ملخص لأبرز قرارات الجمعية العمومية التي قضت شهرين ونصف الشهر في مناقشات حادة تجاوب أصداؤها في أركان العالم الذي يرتبط الآن بشبكة من المواصلات الفكرية السريعة.
ولعل أظرف تعليق على اجتماع باريس هذا وعلى أعمال هيئة الأمم إجمالاً هذا الرسم الكاريكاتوري الذي ظهر في جريدة فرنسية تصدر في العالم الجديد تدعى (لافرانس أميريك).
(نيويورك)
عمر حليق
سعار المال
للأستاذ كامل محمود حبيب
هذا هو المال، له ألق براق يخطف البصر ويخلب اللب ويستلب بالفؤاد، وله سحر جذاب يأسر القلب ويستهوي النفس ويطمس على الرأي.
فرويدك - يا صاحبي - فإن سعار المال يوشك أن يركبك فتنزلق فتصبح وما بك طماح إلا جمع المادة. أنت الآن على حافة الهاوية، فتعال أسر إليك حديثاً علك تجد فيه متعة أو زجراً أو لهواً:
إن الكلَب للمادة يصدئ العقل ويشل الفكر ويبلد الذهن وينفث في القلب الفظاظة والغلظة، ويستل الإباء والأنفة، ويورث المهانة والضعة.
إن الكلَب لا يرعى حقاً، ولا يبقى على ود، ولا يتورع عن رذيلة، ولا يرتدع عن دنيئة، ولا يتذمم عن مأثم، ولا يترفع عن صغار؛ غايته أن يجمع المال ويكدسه، ثم لا يعنيه في هذا السبيل أطوقه العار أم استذله المسعى!
وأنت فتى عقد عليك أمل منذ تخرجك في الجامعة، وتعلقت بك الأبصار منذ عينت في وظيفة حكومية، ومنذ صرت بين أخوتك وأهلك رجلاً وإنساناً، فيا ضيعة الأمل إن تلفتوا فلم يجدوا فيك الرجل ولا الإنسان!
يا عجبا! كيف يركبك (سعار المال)، وأنت يا صاحبي رجل، وما بك طماح. . .!
أتذكر يوم كان راتبك الحكومي سبعة جنيهات، يوم كان ميراثك يغل عليك في السنة خمسين جنيهاً فحسب! لقد كنت رضي النفس طيب القلب سمح السجايا، تتأنق في ملبسك ومأكلك ومسكنك، وترف رفيفاً جميلاً على رفاقك، وتفيض على صحابك من كرمك، وتحبو اخوتك الصغار من عطفك؛ فكانت أحاديث الحب والاحترام تحوم حواليك حيث أنت، يتضوع من خلالها عبير الإخلاص والوفاء. وكنت أنت تتهلل بشراً وإيناساً، يفيض وجهك طلاقة ومرحاً؛ وكنا نأخذ عليك كثرة المزاح والمفاكهة ونلومك على أن ترى الحياة هزلاً وهذراً، لا تستأهل أن يعنى المرء نفسه بما تجئ وبما تذر، فسخرت منها حيناً وضحكت عليها حيناً. أفكانت تلك طبيعة ركبت فيك، أم هي أخلاق تخلقتها إلى حين؟!
والآن، حين أرتفع راتبك إلى العشرين من أثر التنسيق، وحين زادت غلة ميراثك إلى
المئات من أثر الحرب، وحين سحرك حب الغنى، وحين ركبك (سعار المال). . . نسيت أنك عضو في أسرة، وأنك أخ بين إخوة، وسحبت على الماضي ذيل النسيان، فعققت أهلك وذويك، وأغضيت عن الود والقرابة، وغاض منك البشر والإيناس، وانمحت فيك سمات البشاشة والمرح، وانطويت على نفسك تدفن آمالك المادية في إضعاف أخيلتك، وتطوي خواطرك الأرضية بين ثنايا وحدتك، وحالت ابتسامتك، وأصابك السهوم، فذوت نضارتك وتغضن جبينك، وعشت ساعات طوالاً تتأمل في (خريطة مساحية) تفليها وتقلبها وتضع علامات هنا وهناك وتقول لنفسك:(آه لو اشتريت هذه وهذه وهذه. . . وآه لو استبدلت هذه بتلك وتلك بهذه!) ورحت تسلك إلى غايتك سبلاً مادية وطرقاً ملتوية.
هذا هو شغلك في فراغك وفي عملك، وأنت تعلم يا صاحبي أنك تثقل على نفسك وتحملها ما لا طاقة لها به، فهذه أفانين لن تترفع بك إلى غايتك، ولو حرصت!
نعم، أنا أعرف خلجات نفسك ونبضات قلبك، فلا تقل إنني أستعين على عوادي الزمن - وأنا شاب - خيفة أن تعصرني على حين فجأة؛ ولا تقل إنني أهيئ لأولادي حياة ناعمة وأضمن لهم حق التربية والتعليم، فالمدرسة تبهظ الأب في غير رحمة، والحكومة تسخر من الموظف حين تدفع له راتبه أول الشهر لتتقاضاه - من بعد - أقساطاً ثمناً للكتب والعلم؛ والأب بينهما يستمرئ السغب والعرى ليشتري لأولاده مكاناً في المدرسة. لا تقل ذلك فإن للثراء مسارب أولها التوفيق وآخرها الشح والكزازة!
وأذهلتك أخيلة الثراء فأسففت. وخيل إليك أن زوج أختك قد غلبك على بعض مالك، فذهبت إلى أختك تحاسبها على ذنب لم تقترفه، وأمطرتها بحديث فيه الجفاف والتقريع؛ وأحست هي منك الجفوة والخشونة، فلم تجد في طبيعتها النسائية ما تدرأ به عن نفسها إلا الدمع فأجهشت للبكاء تستنزل عطفك وتستنهض مروءتك، ولكن قسوة المادة قتلت فيك الرجولة فاندفعت تضليها شواظاً من قارص الكلام. . . وراحت هي تبكي!
لعلها - يا صاحبي - كانت تبكي فيك الإنسانية!!
وتحاماك أهلك حين جاءك صاحب دين يستقضي دينه فمطلته ثم أنكرت عليه حقه، ثم سخرت منه لأنه لم يكتبه عليك. وطلب هو الغوث من عميد أسرتك، فما تعوقت في الدفع ولا تمهلت!
وأستعانك أحد ذوي قرابتك في شأن حزبه، فطلبت إليه ثمن جهدك!
وراعني - يا صاحبي - أن ينفث فيك سعار المادة سمومه فتطمس على عقلك وتدفعك إلى آخر الشوط، فتتهجم على أخيك الأكبر بكلمات وضيعة طائشة تودعها رسالة، ثم تبعث بها إليه في غير خشية ولا حرج، بعثت إليه برسالة وهو على خطوات منك!
أنسيت أنك عشت عمراً من عمرك ترى فيه الأب والأخ في وقت معاً، فكنت تجد إلى جانبه راحة قلبك وهدوء بالك، وكنت تفزع إليه إن حزبك أمر أو فدحك حادث؟! ونسيت أنك حين أردت أن تتزوج أرسلت إليه - دون أبيك - تسأله الرأي وتستعينه على أن يخطب إليه ابنة (فلان بك) فأسرع إلى أبيها بحتال للأمر، إرضاءً لك، حتى أصاب التوفيق!؟
وتزوجت أنت من ابنة (ألبك) وهو رجل ذو مركز وجاه وثراء، تقلب في وظائف القضاء حتى كاد أن يبلغ، وانعطف على نفسه - منذ نشأته الأولى - فعاش في منأى عن صخب الحياة وضجيجها، فأفاد صحة ومالاً. ولصقت أنت إلى (ألبك) واتخذته مثلك الأعلى، ولكنك كنت منه كالقزم من المارد، وتصاغرت نفسك في عينك فما لك مال ولا جاه ولا مركز إلا صبابات، وتراءى لك أن المال وحده يسمو بك فتتطاول إلى حيث (سعادة ألبك)، فأخذتك شهوة المادة وركبك سعار المال. ولكن كيف السبيل وأنت عاجز اليدين قليل الحيلة! فاندفعت تسلك إلى المال سبلاً فيها الصغار والخسة، أيسرها أنك استخذيت (لسعادة ألبك)، فعشت في داره يعولك ويعول أولادك، وسكنت أنت إلى هذا الوضع الوضيع لقاء دريهمات تدخرها، لا تغنى من كرامة ولا تسمن من إباء، ثم استخذيت مرة أخرى فأقامك على بعض شأنه - احتقاراً لك منه وأمتهاناً - أجر ما أطعمك وأسكنك!
وتهاوت نفسك صغاراً وصفة فما حاولت أن تستشعر رجولتك إلا أمام أختك، وإلا حين كتبت إلى أخيك الأكبر رسالتك تقول: (. . وظننت أن تقدمك عليَّ في السن يخولك السيادة أو يؤهلك للسبق. ولئن كنت أنت بكر أبوينا فما يمنعني ذلك من أن أسبقك في العلم والجاه والمال!
وأنت دأبت على أن تمطلني حقي رغبة منك في أن تستلبه أو تضيعه عليَّ، رغم أننا أعقاب أب واحد نتقسم تراثه على سواء، لي مثل ما لك من حق ومن مال في ما ترك أبي
- رحمه الله وإن مواقفك مني في كل مناسبة توحي إلي بأنك تنفس عليَّ أشياء تورث الحقد بين جنبيك، فإما سلمتني كل حقي في مدى ثلاثة أيام من تاريخه، وإما رفعت أمرك للقضاء. . .)
وسكت عنك أخوك لأن أمتهن رأيك، فما تجنى عليك وما مطلك وما غالك. . . سكت ولكنك أنت لم تسكت!
ماذا عسى أن تكون - بعد هذا - إن جرفك التيار؟
هذه النار أنت وحدك حطبها، فارعو وأحفظ عليك مالك كيف شئت، ولكن لا تغض عن حق الأخوة ولا عن حق القرابة!
وإذا جرفك التيار - يا صاحبي - فستكسب المادة، ولكن بعد أن تفقد نفسك وسيركبك الندم حين لا تستطيع أن تسد الثغرة وقد انفرجت، ولا أن تلم الشمل وقد تشعث!
كامل محمود حبيب
في ذكرى المولد النبوي الشريف:
من شئون الموظفين في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
يعي التراث الإسلامي في تضاعيف مكتبته الجليلة صحائف عن شؤون الموظفين يجدها الباحث متفرقة هنا وهناك. وهي صحائف تحوي معاني عجيبة عميقة فيها اتجاه راشد قصرت عنه النظم الحديثة في بعض وجهاتها، ومن ثم كانت تلك الصحائف جديرة أن تستقصي وتستلهم وتسترشد.
قامت الجماعة المسلمين فاستوجب قيامها نظاماً يعتمد بالضرورة على موظفين يقومون بواجباته، ويحملون أمانته. لقد أمر النبي أتباعه أن يأمروا عليهم حتى في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات فكأنه نبه على وجوب التولية فيما هو أكثر من ذلك، وقد اضطلع هو نفسه صلوات الله عليه بكل ما يتعلق بولاة الأمور في المدينة، فولى في الأماكن البعيدة والقريبة، وأمر على السرايا وبعث على الأموال الزكوية السعاة.
واقتضت الظروف حتى في بدأ الإسلام تعدد الوظائف على نحو أبعد مما أن يظن؛ فعهد الرسول لم يخل من وظائف الوزارة ووظائف الكتابة بأنواعها، ووظائف السفراء والقضاة وفارضي النفقات ورجال الأمن والتعليم والصحة والمال والحرب والغنائم والمترجمين وغيرها، ولو لم يصطلح على بعض هذه التسميات وقتئذ بل لقد وجدت وظائف هي بطبيعتها مما لا يقوم إلا حيث التمدن ودقة الإدارة كصاحب السر ورئيس التشريفات ورجال الحاشية الخاصة.
والوظيفة في الإسلام تكليف شاق، وجهود محشودة لخير الأمة. يقول النبي (ما من أمير بلى أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم.) والإسلام يقتضي من يلي أية رعية أن يرفق بها؛ يقول الرسول:(إن شر الرعاء الحطمة) يريد العنيف الذي لا يرفق برعيته بل يحطمها.
والراعي إن لم يبسط لرعيته جناح رحمته فهو من دعوة الرسول في خطر؛ يدعو عليه السلام وكأننا نحس قلبه الرحيم يخفق في دعوته - (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به. وغش الراعي
رعيته كبيرة تشقيه في الآخرة: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). فأما العادلون، فالحديث يشير إلى فضلهم ومنزلتهم بعبارة مضيئة فيها بلاغة مؤثرة:(إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
ولذلك، ترغب السنة إلى من كان فيه ضعف عن القيام بالوظائف أن يجتنبها، وتقرر أنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه منها، ولكن السنة مع هذا ترغب في ولاية من أستجمع شرائطها وقوي على أعمالها وتعتبر الوظيفة لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب جهد طاقته من أفضل الأعمال الصالحة.
والنظم الإسلامية تتحرى في تعيين الموظفين الأمثل فالأمثل، وتعتبر في صراحة قاطعة العدول عن هذا خيانة كبيرة. ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى عمر بن الخطاب:(من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
سنت النظم الإسلامية للموظفين مبادئ تبصر الدنيا على هدى الدين؛ ولهذا نرى عصارات الدين القوية تسري في أعمال الموظفين كبيرهم وصغيرهم فتؤتي أكرم الثمرات. يكتب عمر ابن الخطاب إلى عامله أبي موسى: وإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته. ويقول له: واعلم أن للعامل مرداً إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته.
والمسلمون يرون التزام الموظفين العدل أصلاً أساسياً في نجاح الدولة لا يغني عنه أي عمل صالح حتى الإيمان؛ فمهما يروى: (الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا بنصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة).
ومما يمثل النظم الإسلامية في آداب الموظف ما عده القلقشندي من آداب الكاتب، قال: ومنها لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعمال. . . والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة؛ فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان، وجميل السيرة عند الرعية، حتى أن الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة، وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية،
وحصلوا على الأموال السنية والمنازل العلية، وقرب بها من كان بعيداً على من كان قريباً، ومن لا مكانة له ولا حرمة على من كان له مكانة وحرمة، واستدنى لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان
والموظفون في النظم الإسلامية يخضعون لمراقبة بالغة. قيل عن عمر إن علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كان كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسي ومصبح. وعلى نحو هذا كان الكثيرون من خلفاء المسلمين.
وبعض التصرفات الشخصية البحت لكبار موظفي الدولة الإسلامية لم يكن بمنجاة من تعقب الحكومة؛ تزوج حذيفة ابن اليمان أجنبية، فطلب إليه عمر أن يطلقها على كونها حلالاً لأن (في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم.
والموظف الذي يعفي نفسه من الضمير والواجب عليه وزر عمله. يقول أبو يوسف للرشيد: وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمال وما عملوا به في البلاد. . . إلى أن قال: وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم وعسف وخيانة لك في رعيتك واحتجان شيء من الفيء أو خبث طعمته أو سوء سيرته فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئاً من أمور رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك؛ بل عاقبه على ذلك عقوبة تردع غيره من غير أن يتعرض لمثل ما تعرض له. وإياك ودعوة المظلوم فإن دعوته مجابة.
على أن التقارير التي ترد إلى الحكومة عن الموظفين يجب أن تكون صادقة، فكاتبوها - كما يقول أبو يوسف للرشيد -: ربما مالوا مع العمال على الرعية وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذا لم يرضوهم، وهذا مما ينبغي أن تتفقده وتأمر باختيار التقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار. . . وتتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبراً من رعيتك ولا من ولاتك، ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليك خبراً، فمن لم يفعل منهم فنكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولاً فلا ينبغي أن يقبل لهم خبر في قاض ولا وال.
ومع هذا فروح المبادئ الإسلامية تتيح الموظفين حرية للموظفين حرية في السير إلى أهدافهم العليا هي فوق منال موظفي زماننا. ومن النصوص الكثيرة في هذا الشأن ما ورد من أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري: وإن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفى له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة وأقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين! والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً! ثم نادى الناس فقسم فيهم ما أجتمع له من الفيء.
والإسلام في احترامه للإنسانية وحمايته للحق يقرر وجوب الإنكار على الموظفين - مهما تكن مراتبهم - فيما يخالف الشرع. قال صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع) يريد أن الإثم والعقوبة على من رضى وتابع وإنه صلوات الله عليه ليدعو المسلمين دعوة صريحة إلى الصدوف عن مشايعة الحاكم الظالم ورفض معاونته إذ يقول لما ذكر الظلمة: (من صدقهم بكذبهم وأعلنهم على ظلمهم فليس منى ولست منه ولا يرد على الحوض).
ولا ينبغي للموظف أن يزدهيه منصبه، أو أن يغبن حتى فيما دق وهان صغيراً لصغره. كتب علي إلي بعض عماله: واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييئس الضعفاء من عدلك. وقد صدق في هذا الشأن عمل المسلمين الأولين قولهم.
والإسلام إذ يفيض على أتباعه جميعاً كريم الرعاية وعظيم الالتفات يحرص على إبلاغ ولي الأمر حاجات كل فرد، لا يمنع من ذلك ضآلة شأن الفرد أوضعته. يقول النبي (ص):(أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانه حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة). ويقول عمر الفاروق في خلافته: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية دولاً، فإني أعلم أن الناس حوائج تقتطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها ألي، وأما هم فلا يصلون إلي.
ورواتب الموظفين في النظام الإسلامي تناسب الحاجة والبلد، ومن دواعي زيادتها أن يبدي الموظف في عمله كفاية وحكمة. والنبي صلى الله عليه وسلم يوصي أئمة المسلمين بعده
بموظف أحسن صنعاً في بعض الأمور، فيكتب له بهذا كتاباً ويختمه، فيظل الموظف يأخذ - فيما ذكر ابن سعد في طبقاته - أشياء من خلفاء المسلمين حتى عهد عمر بن عبد العزيز.
والراتب يتسق ومركز الموظف. بلغ المعتضد أن عامله على فارس أظهر أبهة في ولايته وأنفق فوقعت له بذلك هيبة في نفوس الرعية فزاد المعتضد رزق عامله ليستعين به على مروءته.
وكما تستقطع الضرائب الآن من الراتب، كانت الزكوات المستحقة تخصم من الأعطيات.
والحالة الاجتماعية التي لم تلتفت إليها النظم التوظيفية الحديثة إلا متأخراً لها في النظام الإسلامي اعتبار، يروي أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه ألفى قسمه في يومه فأعطى صاحب الأهل حظين وأعطى الأعزب حظاً.
وإنصاف الموظفين ليست نتائجه بالشيء الذي تغضي عنه الحكومة الإسلامية؛ فعلى يوصي أحد عماله أن يسبغ الأرزاق (فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك)
ولعمر بن عبد العزيز لفتة عالية إذ يقال له: ترزق الرجل من عمالك مائة دينار ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك؟ فيقول: أراه لهم يسيراً إن عملوا بكتاب الله وسنة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم. وكان من أهم ما جرت عليه الإدارة في عهد المأمون التوسعة على العمال؛ يراد بهذا حفظ حقوق الرعية والسلطان؛ رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على الشرق طولاً وعرضاً وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم
ورواتب الموظفين تجري عليهم من بيت مال المسلمين لأنهم في عمل المسلمين. وقد كان الرشيد قال: يجري على القاضي إذا صار إليه ميراث من المواريث، فأجاب قاضيه أبو يوسف: لا إنما يعطى للقاضي رزقه من بيت المال ليكون قيماً للفقير والغني والصغير والكبير، ولا يأخذ من مال الشريف ولا الوضيع إذا صارت إليه مواريثه رزقاً.
وقد وجد في النظم الإسلامية نظام تقرير المكافآت والمعاشات: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيس بن مالك الأرحبي من همذان لما استعمله على قومه عربهم وأعاجمهم ومواليهم، فأقطعه من ذرة (نسار) مائتي صاع، ومن زبيب (خيوان) مائتي صاع، (جار له
ذلك ولعقبه من بعده أبداً أبداً أبداً). وعمر بن عبد العزيز أمر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض العوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يفطم، فنادى مناديه: لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فأنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
والموظفون يجدون رعاية اجتماعية عند العجز؛ كتب عمر ابن العزيز إلى أمصار الشام أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج أو من به زمانه تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد ولكل اثنين من الزمني بخادم.
والاتجار ليس من شأن موظفي الدولة؛ اجتمعت لأبي هريرة أموال كثيرة فقرر أن خيله تناسلت وسهامه تلاحقت وأنه اتجر؛ فقال له عمر بن الخطاب: أنظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال.
وقد عرفت النظم الإسلامية مبدأ عدم تكرار الراتب، فعمر بن عبد العزيز أمر أن لا يخرج لأحد من العمال رزق في العامة والخاصة، فإنه ليس لأحد أن يأخذ رزقاً من مكانين، في الخاصة والعامة.
وما ينبغي للموظفين أن يستعملوا شيئاً من وسائل النقل الخاصة بالدولة، فأصحاب البريد يجب أن لا يحملوا على دواب البريد إلا من تأمر الحكومة بحمله في أمور المسلمين فإنها للمسلمين. وفي هذا المقام يذكر أبو سيف أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد، فحمل مولى له رجلاً على البريد بغير إذنه، فدعاه، فقال: لا تبرح حتى تقومه ثم تجعله في بيت المال.
والوظائف العسكرية تقتضي كشفاً طبياً يجرد فيه الشبان من ثيابهم للإطلاع على عيوب أجسامهم، ولم يكن يقبل فيها الصبيان.
والثقة بالموظفين واجبة، يقول طاهر بن الحسين لولده عبد الله: ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم.
وقد سبقت النظم الإسلامية إلى الأخذ بمبدأ اللامركزية منذ عهد الرسول. روى أن السعاة الذين كان يبعثهم على الزكاة كان الواحد منهم أحياناً يرجع إلى المدينة وليس معه شيء
منها إذا وجد لها موضعاً يضعها فيه.
ومن النصوص التي تذكر في هذا المقام فتعجب ما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى عامله باليمين: (أما بعد فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن اردد على مسلم مظلمة شاة لكتبت أردها عفراء أو سوداء فأنظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني).
وما أجمل ما كتب إلى عامله على الكوفة: (إنه يخيل ألي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلاً شاة لكتبت إلى: أذكر أم أنثى؟، ولو كتبت إليك بأحدها لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة ولو كتبت بأحدها لكتبت: أضأن أم معزى؟، فإذا كتبت إليك فنفذه ولا ترد علي.
وبمثل هذا كتب أبو جعفر المنصور إلى مسلم بن قتيبة. والمأثور عن المأمون أنه كان يحرص الحرص كله على الانتفاع برجاله ويطلق لهم حريتهم في العمل.
وامتد الأخذ بهذا المبدأ إلى الوزراء؛ كان العباس ابن الحسن وزير المكتفي يقول لنوابه بالإعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة.
وللشعب حق شكوى الموظفين، حيث يقف وإياهم على قدم المساواة، يسوي الحكم بينهم في الموقف حتى يظهر الحق، فإن توجه قبل الموظف اقتص منه إن كان هناك داع للقصاص، أو عامله بما تقتضي به الشريعة، أو اعزله. وقد وقع للفاروق عمر ولعمر بن عبد العزيز أن مثل كل منهما وهو أمير للمؤمنين مع خصمه أمام القاضي.
ومن آيات عمر بن الخطاب في العدل يوجهها إلى الرعية: (من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له إلا أن يرفعها أليَّ حتى أقصه منه.
والنظم الإسلامية تتجافى عن الوساطة وتتكرم عن المحسوبية في شؤون الموظفين؛ توسط مولى عمر بن الخطاب أن يكتب كتاباً إلى عامله بالعراق ليكرم من قصدوا إليها، فانتهره عمر وسبه، وقال: أتريد أن يظلم الناس؟ وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم به. وعلي يكتب إلى الأشتر النخعي حين سيره إلى مصر:. . . ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة. . . ولقد انتهى إلى علم معاوية أن ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم عامله على الكوفة أساء السيرة في إمارته فعزله وأقصاه عن
الحكم. والهادي في عهده القصير منع أمه الخيزران من التدخل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس.
والنظم الإسلامية تسمو بها مثلها العليا وإخلاصها الأمين فتحارب الخيانة والرشوة بين الموظفين في جميع صورها من غير رحمة. ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول - وهو اصطلاحا الخيانة في الغنيمة - فعظمه وعظم أمره. ولقد أبى على أحد عماله بأسلوب ينضح بالغضب والجد أن يحتجز من الصدقات التي جمعها شيئاً بدعوى أنه أهدي إليه.
وتسد الروح الإسلامية منافذ التحايل، فالهدايا للموظفين هي الرشا، والهدية إذا دخلت من الباب خرجت الأمانة من الطاقة. ولقد حفل تاريخ عمر بن الخطاب بالثورة على بعض عماله كلما رأى تغير حالهم في العمالة عما كانت قبلها، ولم يطامن من ثوراته أن من هؤلاء العمال أمثال أبي هريرة وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري. والموظفون أنفسهم يستبشعون عدم الأمانة وينفرون منه. كتب عمرو إلى عمر محتجاً: معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فأقبض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها.
وصحائف الموظفين المسلمين حافلة بأمثال كثيرة للموظفين الذين لم تشره نفوسهم إلى المال وهو تحت أيديهم وخرجوا من أعمالهم بالصفة التي دخلوها بها. ومن القواعد الكريمة التي استقرت في النظم الإسلامية أن جور الراعي هلاك للرعية، وأن استعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة.
ومن جميل ما وقع لحبيب بن مسلمة أحد قواد المسلمين أنه سار يريد بلداً في أرمينية فجاءه بالطريق رسول بطريقها وأهلها يسأله الصلح وأن يكتب لهم، فكتب حبيب إليهم كتاباً ضمنه قوله: وقد قبلت هديتكم وحسبتها من جزيتكم.
أما بعد: فالموظفون كما تريدهم النظم الإسلامية قلوب واعية وضمائر لا يأخذها الإعفاء. وما أحرانا وتلك روعة نظمناً الإسلامية السالفة، أن نتفقدها ونتعهدها ونتزود منها لنظمنا الخالفة.
لبيب السعيد
السيد علي داشتي سفير إيران في مصر
للدكتور يحيى الخشاب
سعدت الأندية العلمية والأدبية في العام الماضي بمحدث من الطراز الأول، برع في فن الطب وأولع بالأدب من مختلف اللغات، وشغف بالبحث العلمي شغف العلماء أصحاب الاختصاص؛ ذلك هو الدكتور قاسم غني سفير إيران الذي حاضر الأطباء في تاريخ الطب، وحاضر الأدباء في الأدب الفارسي وصلته بالآداب الإسلامية، وشكل لجنة لإحياء ذكرى فيلسوف الإسلام ابن سينا، والذي استمع إليه صحبه في كثير من التقدير والاستحسان كما قرأ له أصدقاء الرسالة بحثه القيم في تاريخ الطب عند المسلمين، وقد نشرته الرسالة تباعاً. وغادر الدكتور غني مصر بعد أن ترك فيها جماعة من الأصدقاء المعجبين بعلمه وأدبه وكتابته، وهذا من خير ما يتركه سفير في بلد أدى فيه السفارة.
ومصر إذ تودع الدكتور قاسم غني تستقبل سفيراً جديداً لإيران هو السيد علي داشتي، وهو الصحفي الكبير والزعيم البرلماني الذي يعرفه الإيرانيون، والذي اشتهر عند المشتغلين بالدراسات الشرقية كأحد بناة النهضة الإيرانية الحديثة. فقد اتخذ من الصحافة الحرة وسيلة للدعوة إلى الحرية والعدل والأمن وهو الذي وقف في ثبات وجسارة يطالب بالإصلاح في آخر العهد القاجاري، وظل في كفاحه الصحفي مصلحاً اجتماعياً وداعية إلى ما فيه خير بلاده بكل ما يملك من جهد.
والذين يدرسون تاريخ إيران الحديث، في مصادره الأصلية يعرفون ما كان للسيد علي داشتي من فضل في توجيه سياسة حكومة بلاده نحو الإصلاح الاجتماعي الذي يجعل من كل فرد مواطناً صالحاً لخدمة أمته.
والسيد علي داشتي رجل دين، فقد بدأ حياته العلمية يطلب العلوم الشرعية في كربلاء، حتى إذا حذقها وألم بأصولها وفروعها أدرك أن الرسالة الأولى للصحفي هي أن يبين للشعب الخبيث من الطيب، والزائف من الحق. ولا تزال مقالاته التي جعل عنوانها (الإصلاح الديني) خير ما كتب في إيران لنقد عادات الناس الرذيلة وبعدهم عن لباب الدين وأصوله، وانحرافهم إلى ترهات لا تمت إلى الدين بصلة. وفيها دعا الناس إلى إتباع أحكام القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة السلف الصالح في صدر الإسلام.
ولكن كتابة المصلح لم ترق للشعب فإن الخرافات عنده قد امتزجت بالحقيقة. فقد كان من يفرق بين الغث والسمين، ويفصل بين الحق والباطل، ويدعو الناس إلى سبيل لا عوج فيه؛ كان من يفعل هذا موضع سخط العامة ونقمتهم، ولقي السيد داشتي من هذا السخط ما حمله على الانتقال من شيراز إلى طهران.
وفي طهران أصدر جريدته (شفق سرخ) أي: الشفق الأحمر، وأخذ يناضل فيها عن رأيه ويدعو الناس إلى الخير، تارة باسمه وتارة باسم مستعار. وتمتاز كتابته بهذا الطابع الذي امتاز به في حياته الأدبية وفي منهجه السياسي؛ طابع الصدق في القول والإخلاص في العمل. وقد اتخذ الأحرار من جريدته منبراً يذيعون منه آراءهم وينادون بما يرون من وجوه الخير والإصلاح.
وقد تعرض الرجل في حياته لكثير من الأذى في سبيل أداء رسالته، فكما أن الشعب لم يتقبل دعوته في إصلاح الدين بما ينبغي لها من الأتباع والإعجاب، فكذلك كانت حملته السياسية على حكومة (وثوق الدولة) سنة 1919 سبباً في إبعاده عن البلاد. فقد كانت كتابته في الصحف من أشد ما وجه لسياسة المجاملة للإنجليز، وقد لجأت الحكومة إلى حظر نشر مقالاته في الجرائد فلجأ إلى المنشورات يكتبها وتوزع فتنتشر بين الناس. وقبض على الرجل وسئل عمن يكتب المنشورات فلم يبال وأعلن أنه صاحبها وكاتبها، فلم تر الحكومة من وسيلة لإسكاته غير نفيه من البلاد.
ولم تكن هذه سابقة في الجهاد كافية لأن يعيش الرجل بها ويبني مجده عليها؛ بل ظل صلب العود، شديد المراس، ثابت الرأي، وصمد في شيخوخته صموده في شبابه. وقد حمل منذ سنوات حملاً على أن لا يخرج من داره أربعة أشهر ثم اضطر إلى ترك بلاده فسار إلى فرنسا حيث مكث سنة ونصف سنة.
وقد شارك السفير في الحياة السياسية في بلاده؛ فهو نائب قديم بالبرلمان، وهو زعيم يشار إليه، وقد أفلح بتوجيهه السليم في أن يكون أبرز شخصية في البرلمان الإيراني، وكثيراً ما كان لآرائه الأثر الصالح في توجيه سياسة بلاده.
ولم تصرفه حياته الصحفية وجهاده السياسي عن العلم والأدب فقد أتم ثقافته الدينية بالإحاطة بالآداب الغربية فحذق اللغة الفرنسية وقرأ آثار الفرنسيين الأدبية ونقل إلى اللغة
الإيرانية كثيراً من الكتب التي يراها متمشية مع رسالته في الإصلاح الاجتماعي، فترجم مثلاً (سر تفوق الإنجليز السكسونيين) و (سر تطور الأمم) وغيرهما.
وقد رأى جماعة من أصدقائه أن يجمعوا مقالاته التي دبجها في الصحف فجمعوها باسم (سايه) - أي الظلال - وذلك أثناء إقامته الأخيرة في باريس.
ومن كتبه (فتنة) ويحوي ثلاث قصص اجتماعية (فتنة) و (حوادث تلك الليلة) و (رسالة من سيدة).
وقد رأت الحكومة الإيرانية أن تعهد إلى السيد علي داشتي بالسفارة الإيرانية في مصر، فأوفدت رجلاً من أعظم رجالها، وهو خير خلف لخير سلف. وقد أدركت من أول حديث لي معه أنه شديد العناية بأحياء الصلات الثقافية بين مصر وإيران، حريص على (إحياء ذلك العهد الذي طواه الزمن، عهد اتصال الفرس بالعرب اتصالاً قريباً وثيقاً، أيام كان العرب يعنون بنقل آثار الفرس إلى لغتهم ويحرصون على ذلك حرصاً شديداً تمليه عليهم نهضتهم العظيمة ليفيدوا من هذا الأدب القديم الغني كل ما يمكن أن يفيدوه، وأيام كان الفرس ينقلون عن العرب كل ما يمكن أن يحيي أمتهم وأن يرد إليها مجدها القديم).
يحيى الخشاب
رئيس فرع اللغات الشرقية بكلية الآداب
النبوة والإلهام عند فلاسفة الإسلام
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
تقترن بفكرة النبوة فكرة الوحي - فما من نبي إلا وهو يوحي إليه، وما من نبي إلا وهو يستلهم الله أسرار الملكوت.
ولقد جاءت نصوص الكتب السماوية مؤيدة لذلك ومؤكدة له، غير أن فلاسفة الإسلام لم يقنعوا بمجرد التسليم بالمنقول، بل أرادوا - كدأبهم - أن يفسروا المنقول بالمعقول وأن يدللوا بمنطق العقل على منطق الوجدان؛ فتمخضت عن ذلك نظرية النبوة. . . ومن قبلها نظرية الألوهية؛ نقول (من قبلها) لأن إبداع نظرية للنبوة، يستوجب حتماً بحث فكرة الله باعث الأنبياء والرسل، والكلام في الموحى إليه يستلزم بالضرورة الكلام - بداءة - في الموحي الذي أوحى!
ولقد نظر فلاسفة الإسلام فوجدوا أن (أر سطو طاليس) يتعثر في هذه السبيل تعثراً ملحوظاً. والظاهر أنه شغل بدراساته في الأخلاق والنظم عن حل عقدة الخالق الأعظم موجد الوجود وبارئ الكون - ففضلاً عن أنها تردد بين الوحدة والتعدد مرات، فإنا نراه يصور (المحرك الأول) تصويراً يتنافى مع النظرة الدينية الإسلامية. حقاً لقد أجاد (أر سطو) تعليل الحركة، فبين أن كل متحرك يتحرك بشيء آخر، وأن الكائنات الحية المتحركة بذاتها في الظاهر، يختلف المحرك فيها عن المتحرك من حيث أنها مؤلفة من جملة وظائف تحرك الواحدة منها الأخرى. . . إلا أنه عندما انتهى إلى فكرة (المحرك الأول) تخبط تخبطاً كبيراً، فهو يقول عنه إنه (المحرك الساكن) أو المحرك اسماً لا فعلاً - يعني بذلك أن الله - جل شأنه - لا يحفل شئون الكون ولا يسيره بإرادته، وكل صلة الكون به أنه يتجه إليه في حركته ويستهدفه كغاية.!.
ولقد قال (أر سطو) أيضاً بسرمدية المادة. . . فكيف يتفق ذلك وما جاء بالقرآن من أن الله خالق المادة (فاطر السماوات والأرض)؟
. . . لذلك لم يتردد فلاسفة الإسلام في القول بخلق المادة وإن سلموا مع (أر سطو) بقدمها؛ وقد أدى بهم الاشتغال بهذا الموضوع إلى ابتداع نظرية تعرف بنظرية العقول العشرة. ومن خلال هذه النظرية نستشف تصويراً فلسفياً لفكرة الوحي والإلهام تنجلي به الصلة بين
الله وأصفيائه من عباده.
ومجمل نظرية العقول العشرة أن الله بفيضه قد صدر عنه العقل الأول، وعن الأول صدر الثاني، وعن الثاني الثالث. إلى أن نصل إلى العقل العاشر أو العقل الفعال، وهو أدنى هذه العقول جميعاً وأقربها إلى عالمنا الأرضي. عن هذا العقل الفعال صدرت المادة فهي قديمة وهي حادثة في آن، ومن هذا العقل الفعال يستمد الأنبياء والهداة رسالائهم، لأن الله (يفيض) عليهم عن طريق هذا العقل الفعال.
. . . هذا هو التصوير الفلسفي لفكرة الوحي عند فلاسفة الإسلام، ويبقى الآن أن نستعرض الحجة الاقناعية التي ساقها أولئك الفلاسفة للتدليل على صحة ذلك التصوير. والواقع أن المستعرض لبراهينهم في هذا المجال، لا يشق عليه أن يلاحظ عن أسلوبهم في البحث. . . اقترابه - في طرائقه التدليلية. . . من أسلوب علماء النفس المحدثين، عندما يعالجون تعليل الظواهر الجديرة بالتأمل والملاحظة؛ فهم - أعني فلاسفة الإسلام - يقررون أنه باطراد التجربة وتواتر الرواية يمكننا أن نطمئن إلى صحة الزعم بأن هنالك طائفة من الأشخاص تتكشف لهم أستار الغيب حال نومهم، فيحلمون أحلاماً هي في جوهرها صوراً رمزية لحقائق ما تزال في ضمير الغيب مخبوءة. . . بل لقد يحصل أن نتجاوز هذه الرؤى لغة الرمز والتلويح، إلى الإفصاح والتصريح، فيشاهد الحالم الوقائع ويستمع إلى المحاورات والكلمات، كما لو كان يشاهد رواية الغيب تمثل على مسرح القدر! ثم هم لا يكتفون بالوقوف في استقرائهم لهذه الظاهرة الفذة عند هذا الحد، بل نراهم يجهرون بأن هذه القدرة على الاستيحاء. . . ربما واتت أشخاصاً حال يقظتهم، متى كان هؤلاء الأشخاص قد بلغوا - من صفاء الروح ونقاوة الضمير ورهافة الوجدان حظاً عظيماً. ولعل الأنبياء والرسل في الطليعة من أولئك الأشخاص.
يتبين من هذا جميعه أن نظرية الوحي والإلهام نظرية تعتمد على المشاهدة والاستقراء، وظاهرة يؤكدها - عند فلاسفة الإسلام - اطراد التجربة وتواتر الرواية؛ فإذا عن لنا بعد هذا الاستعراض السريع للنظرية، أن نقارن في أذهاننا بين ما يقول به فلاسفة الإسلام في هذا الخصوص، وما يقول به علماء النفس المحدثين في نظريتهم عن العقل الباطن - فإنه قد يخيل إلينا حيال هذه المقارنة أننا أمام رأيين يعارض الواحد منهما الآخر، فينبغي
ترجيح واحد منهما على الآخر عند الانتخاب.
. . . غير أننا - في الواقع - لن نرى ما يسوغ عقد هذه المقارنة. . . إذا ما تنبهنا إلى أنه قد ثبت بالبحث العلمي أخيراً أن كلاً من الرأيين ينطوي على جانب من الصواب، ويساهم - بنصيب - في تجلية حقيقة الأحلام وتفسير حقيقة الوحي والإلهام، ذلك أن هناك اتجاهاً يميل إلى الحد من تعميم تطبيق نظرية العقل الباطن على جميع الحالات الفردية على زعم أنه قد ثبت أخيراً بالتجربة والمشاهدة قصور النظرية بمفردها عن تفسير بعض هذه الحالات. ومن الوجه المقابل، لوحظ أن ظاهرة استكناه المجهولات والغيبيات عن طريق الأحلام أو في أحوال الغيبوبة الروحية أو أحوال اليقظة الوجدانية - صارت - في هذه السنوات الأخيرة - موضع رعاية ومحل التفات من طائفة من العلماء الروحانيين والنفسانيين بعد أن كان الرأي عند جمهرة العلماء أنها من قبيل الضلالات والأوهام.
عبد العزيز الكرداني
أساليب التفكير:
التفكير الخرافي
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
على أن الحيوانات العليا وعلى رأسها الإنسان لا تسلك سلوكاً غريزياً خالصاً، ولا تتصرف بحكم الفطرة وحدها، بل تستخدم قدراً من الذكاء العملي، بفضله يتحقق التوازن بين الفرد وبين الظروف التي تكتنفه، وبه يتوسل إلى تحقيق رغباته الفطرية كالحصول على الغذاء، أو الاحتماء من الأخطار، أو حماية الصغار، أو اجتذاب الجنس الآخر للتزاوج والتناسل.
والإنسان شأنه شأن الحيوان، يسعى إلى تحقيق نفس هذه الأغراض وإن تعقدت وتعددت، مستخدماً نفس القدرة على التفكير العملي وإن زاد حظه منها.
بيد أنه بعد أن يرضي مطالبه الغريزية هذه فيتغذى ويحتمي ويأمن الخوف والجوع على نفسه وبنيه، ويستمتع بجماعة يهرع إليها ويختلف، ويتبادل وإياها المشاعر والعواطف طبقاً لدافع التجمع الذي غرس فيه؛ بعد أن يشبع هذه المطالب يستغل تفكيره في محاولة الكشف عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، واستجلاء أسرار ما يدركه من ظواهر الطبيعة والحياة. فالإنسان إذ يشبع ميوله ورغباته الفطرية لا يقف مكتوف اليدين أمام موكب الحياة والأحياء، ولا يقف مشاهداً سلبياً في عالم تتتابع أحداثه وتتدافع مشاهده في سرعة وتعدد وتداخل وتجدد وتغاير.
وكيف يقف هذا الموقف وقد فطر على حب الاستطلاع لكل جديد غريب لا تفادياً لما قد ينجم عنه من ضر، أو طمعاً فيما قد يفيد من خير فحسب، شأن الحيوان الذي يستطلع من أجل أغراضه الحيوية؛ ولكن الإنسان يستطلع فضلاً عن ذلك من أجل الاستطلاع في ذاته، ويطلب المعرفة للمعرفة، ويشتهي العلم للعلم في كثير من الأحيان؛ وبذلك يستبين لون جديد من ألوان التفكير لا نصادفه لدى العجماوات؛ ذلك هو التفكير النظري نضيفه إلى التفكير العملي الذي سبقت الإشارة إليه.
والإنسان في ذلك سواء: الطفل أو الرجل، البدائي الهمجي أو المدني المتحضر، المجنون أو العاقل. كل منهم قد يسعى إلى معرفة علل الحوادث والظواهر وغاياتها ونتائجها من اجل المعرفة، أي أنهم جميعاً يفكرون تفكيراً نظرياً إلى جانب التفكير العملي الذي يحفظ
عليهم حياتهم.
ولكن المرء إذ يفكر تفكيراً نظرياً يذهب مذاهب ثلاثة، أو هو ينهج مناهج ثلاثة متباينة وإن اتحدت في الغاية وأعني بها المعرفة. فهو إما أن يلاحظ الظاهرة ويشاهدها ويفتش عن أسبابها ومسبباتها مستعيناً بالملاحظة المباشرة والمشاهدة الموضعية دون تأثر بالمخاوف والرغبات، أو الاستعانة بالأخيلة والأوهام، أو الخضوع للعقائد والآراء الشائعة؛ وحينئذ يقال إنه يفكر تفكيراً علمياً وينهج نهجاً موضوعياً. وإما إلا يكتفي بهذا التفكير الذي يرجع المعلولات إلى عللها والمسببات إلى أسبابها، بل يتجاوز هذا البحث في الجزئيات إلى البحث في أمور عامة لا ينالها الإدراك العادي كالخير والشر، والخلق والعدم، والروح والمادة، والأصل والمصير، بقصد الوصول إلى تفسير شامل للكون أو لجانب من جوانبه تفسيراً منطقياً لا تناقض فيه، بالاعتماد على الاستدلال أو الاستنتاج العقلي البريء من الخيال وتأثير الأهواء.
إن فعل المرء ذلك قيل إنه يتفلسف. أما الاحتمال الثالث فينصب على امرئ تحكمه أهواؤه، امرئ لا يخضع لمنطق العقل الذي يأبى التناقض، فلا يرجع المعلومات إلى عللها الحقيقية، ولا ينسب المسببات إلى أسبابها الملائمة، ولا يرد الظواهر الطبيعية إلى ظواهر من نفس العالم الطبيعي.
ولكنه امرؤ يفترض لهذه الأمور جميعاً أسباباً أو عللاً من ابتداع مخيلته، ومن نسج أهمته متأثراً بعقائد مغروسة في نفسه، مدفوعاً بأهواء متناقضة.
ولهذا نقول إنه يفكر تفكيراً خرافياً أو تفكيراً دينياً إذا قصدنا المعنى العام لكلمة دين الذي يطلق على أية عقيدة ترسخ في النفس دون مبرر منطقي أو ذريعة عقلية.
بعد هذه المقدمة التي لا مفر منها يحسن أن أتناول أساليب التفكير الثلاثة بالتفصيل مبتدئاً بأدناها، وأقلها قدرة على إصابة الحقيقة، وأسبقها ظهوراً في حياة الإنسان الفكرية: التفكير الخرافي الذي يسود تفكير الأطفال والمجانين والبدائيين من الشعوب أولئك الذين يتشابه أسلوبهم حين يعرضون لتفسير الظاهر.
الإنسان البدائي مثلاً يبدهه عديد من ظاهر الطبيعة يستوقف النظر ويدعو إلى التأمل: العواصف تطوح بمسكنه، والبرق يخطف الأبصار، والمطر يهمي بقوة لا تدفع، والظلام
يبتلع كل شيء ثم لا يلبث أن يتقهقر من جديد أمام ضوء النهار، وتواصل الشمس رحلتها اليومية من جديد عبر الأفق؛ والكواكب والنجوم كل في فلك يسبحون، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر بمقدوره أن يبلغ الشمس. تغمر الأرض مياه الأمطار ثم لا تلبث أن تتلاشى في شعابها، وإن من الحجارة والصخر لما يتفجر منه ماء عذب سلسبيل، وإن من البذرة الضئيلة المدفونة في باطن الأرض لتخرج دوحة وارفة الظلال.
وهنالك الزلازل والبراكين والأعاصير تقض مضجعه وتجلب الخراب والدمار دون أن يستطيع لها دفعاً.
والموت يرزأ الكائنات فيخرسها ويسكتها سكوتاً أبدياً؛ وبطون الأمهات تأتي إلى العالم بمخلوقات جديدة من حيث لا يدري ولا يحتسب.
أمور تثير العجب والدهشة، وتدعو الطفل أو البدائي أو المتحضر إلى التأمل بغية الاهتداء إلى سرها.
أما البدائي القديم فيرتعد فرقاً من هذه الظواهر مجتمعة أو من بعضها على أقل تقدير، وذلك لقوتها وحتميتها وضعفه إزاءها وجهله بحقيقتها. ولكنه رغم خوفه منها، مشدوه بجبروتها، معجب بقدرتها، طامع في نعمتها، فناسب إياها إلى فعل إرادة خافية يتصورها على نحو ما يتصور إرادته هو، أو قوة مستورة، أو روح عظيم يحرك العالم دون أن يتبين، ويدبر الكائنات والأحداث على نحو تحريك أرواحنا للجسد، وتدبير نفوسنا للوظائف الحيوية. هذه القوى أو الأرواح أو النفوس أو الآلهة، لا بد أن تعبد ولا بد أن يبتهل لها ويتوسل إليها. ومن هنا كانت الطقوس والسحر والتعاويذ والعادات الغريبة، ومن هنا كان تفسير البدائي للظواهر التي يدركها يستند إلى خيال جامح، ويهتدي بخليط عجيب من المخاوف والرغبات ومتباين العواطف والأهواء، ويتنكب أية محاولة لدراستها دراسة واقعية موضوعية خوفاً وفرقاً من ناحية، واقتناعاً أو بالأحرى إيماناً ويقيناً بما أوحت به مخيلته وما صورت له التقاليد الموروثة من تفسيرات. تجد هوى في نفسه ولدى عقليته الساذجة قبولاً من ناحية أخرى.
وهذا هو السر فيما يتسم به التفكير البدائي من تناقض، وفيما تصادف التفسيرات الخرافية من قبول ويقين مكين لدى الإنسان في بداوته.
وليس ذلك عجيباً إذا فهمنا نفسية الإنسان على حقيقتها: إذا تحمس لرأي حماساً لا يقبل النقاش بأي حال فهو رأي أكثر استناداً إلى رغبات وأهواء كامنة منه إلى أسباب ومبررات منطقية، وإذا كان تفكيره مرده إلى عواطف ونزعات نفسية كان الخيال رائده وملهمه.
فالتعصب الأعمى مظهر من مظاهر الأهواء الخافية، والخيال خادم مطواع للعواطف والأهواء والنزعات.
تلك قاعدة عامة تصدق في كل زمان ومكان، لدى الأفراد وبين الشعوب.
تأمل معي طفلاً غريراً في الظلام، يملئوه الخوف والفزع، يسمع نأمة أو يلمح أمراً عارضاً فيندفع نحوك صارخاً مرتعداً ثم لا يلبث أن يحكي كيف رأى مارداً يدق الطبل في الظلام وما الطبل في حقيقة الأمر إلا دق رقيق على الباب؛ وما العيون القادحة بالشرر إلا شعاع من نور ضئيل نفذ من ثقب من خلال الباب، ولكن الخوف في جوانح الطفل والقصص المسمومة التي يحملها في ذهنه عن شياطين الجان ومردة الظلام، ثم رغبته في التهويل، كل هذه تتضافر على إثارة الخيال، والخيال جامح لدى الأطفال جموحه لدى الشعوب البدائية.
فكل جبل ناء، أو غابة كثيفة، أو كهف مظلم، أو شجرة ضخمة متشابكة الأغصان، أو جدول دافق، أو نبع منبجس، مسرح للأرواح التي لا ترى.
الأرواح في كل مكان: هنالك أرواح الأرض، وشياطين الهواء، وجنيات المزارع، وعرائس الماء. وكل ما يحدث في هذه البقاع إنما هو من أفعال هذه الشياطين.
وحيث أن الإنسان البدائي قديماً كان في غابر الأزمان، أو قائماً بيننا في المجتمعات الزراعية، تهدده الطبيعة بأحداثها من عواصف ومجاعات وأمراض، ويحدوه الجهل والخوف، وتسيطر عليه التقاليد والأوهام والخيالات، فلا بد أن يتصور هذه الأرواح أقرب إلى الخبث والمضرة منها إلى الخير والمنفعة، والى الطغيان والجبروت منها إلى الرحمة والوداعة.
ألا ترى إلى جموع الفلاحين في مصر أو غير مصر، أولئك الذين يقضون حياتهم نهباً للمخاوف ومسرحاً للعقائد الوهمية كيف يفسرون الحوادث بردها إلى علل خفية ما أنزل الله بها من سلطان؟ فالبقرة ماتت لأن فلاناً شهق في وجهها شهقة تنفث الحسد والحقد الدفين،
وفلان لا يصيبه مرض لأنه يحمل حجاباً حصل عليه من مغربي يجيد السحر وفن التعاويذ، وفلان أصابه شلل عقب اجترائه على ولي من أولياء الله الصالحين، في حين يبرأ غيره من الفالج لأنه رأى ولي الله في منامه يدعوه إلى رحابه فلبى الدعوة وقدم النذر. ومالنا نذهب بعيداً وقد فسر كثير من عامة القوم وباء الكوليرا في العام الماضي بأنه ناجم عن فساد سيرة الناس ونذير بقرب وقوع الساعة، واستعباد الغرب للشرق بانتشار فساد الأخلاق في ربوع الشرق وغير ذلك من التفسيرات التي لا تشير إلى العلة الطبيعية، وهي الجرثومة التي أتت من مكان ما واستقرت في بلدة القرين فكان الوباء، وحاجة الغرب إلى مواد أولية وأسواق بكر ومواقع استراتيجية تحمي هذه المواطن فكان استعباد الغرب المتفوق بعلمه وعدده، للشرق الغني بثروته الدفينة، الفقير في علمه المتخلف في نظمه.
وهكذا كلما زدنا علماً وثقافة قل عنصر الخوف من الطبيعة وحل محله ميل إلى مواجهتها، وتتبع ظواهرها لتلمس عللها الحقيقية بدلاً من الهرب منها واجترار تفسيرات خيالية لها.
فالخوف - خالق الأوهام ومقيد الحريات - يتراجع دائماً أمام سلطان العلم، رفيق الأمن ومحرر العقول من الأوهام والأباطيل.
على أن تفكيرنا اليومي - نحن المثقفين - طالما تتسلل فيه نزعة خرافية خاصة إذا كنا في حالة من القلق النفسي أو الخوف أو الحزن، تلك الحالة التي يكون فيها المرء أكثر ما يكون عرضة للوساوس، وأقل ما يكون تحرزاً من الوهم، والتفسيرات الخرافية يتقبلها ليطمئن قلبه ويرد السكينة إلى نفسه.
فالإنسان مهما سما علمه ودق حسه وزكا عقله إنسان أولاً وأخيراً: ينخلع قلبه من الأهوال، ويخفق فؤاده بالحب والهوى، ويضيق صدره بالغيظ والحزن، فيهرع إلى رحاب القلب الحاني ليستريح من تمرد العقل الجاف ولو إلى حين.
وهنالك ينعم بأحلامه وأخيلته. ناهيك بقصور العقل الإنساني الذي لا يني عن السعي لتفسير الوجود تفسيراً خالياً من التناقض، ولكنه يعجز في كثير من الأحيان عن بلوغ غايته، فيقعد الإنسان ملموماً محسوراً، حائراً إزاء عوالم مغلقة مبهمة، غارقاً في بحر لجي من الظواهر والمشاهد والحوادث - لولا فضل من خيال يسارع إليه يستمد منه التفسيرات الخرافية وقد عزت عليه التفسيرات العلمية الواقعية. فيهدأ الصوت الثائر المطالب بالمعرفة
إلى حين يتزود بالوسائل الأمتن والأدوات الفكرية الأقوى يهجم بها على ظواهر الطبيعة ويمزق الأستار ويقتحم ما وراءها من أسرار ليحيل في نهاية الأمر ظلام الرحاب النائية نوراً يبهر الأبصار.
فالتفكير الخرافي إذن - الذي يمتزج فيه التفكير بالخيال - ليس متاعاً تافهاً ولكنه على قصوره عنصر بالغ الأهمية في الحياة الفكرية، ومقدمة لا بد منها في تطور التفكير البشري، بل هو الوثبة الأولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة مجدية لكشف أسرار الطبيعة إذا تهذبت وتخلصت رويداً من تأثير المخاوف والأخيلة برز نور الفلسفة وضياء العلم.
عبد المنعم المليجي
مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (1)
(1)
النفس عند ابن سينا (1)
للأستاذ كمال دسوقي
لعل حظ طلاب المسابقة في كتاب النجاة لابن سينا هذا العام أوفر من حظ زملائهم في كتاب (الإشارات) بالعام الماضي لجملة أسباب:
فليس (النجاة) أولاً كتاب ألغاز ورموز وأحاجي كالإشارات ولم يقصد به ابن سينا إلى التعمية والإبهام والغموض الذي قصد بالآخر؛ لأنه لم يعرض فيه للحكمة المشرقية التي تناولها في الإشارات، بل أجمل فيه ذكر مسائل من الفلسفة اليونانية - والأرسطية خصوصاً - كان قد فصل القول فيها في كتابه (الشفاء) ومن قبل في كتابه (الحاوي للعلوم الحكمية)؛ حيث كان لا يزال لأر سطو على تفكيره سلطان كبير. فأنتم هنا بصدد فلسفة عقلية خالصة - بل كما سأبين لكم - بصدد علم نفس فلسفي.
ثم إن طبعة هذا الكتاب التي بين أيديكم (طبعة الكردي 1938) هي أحسن حالاً بكثير من طبعة غيرها من الكتب في الفلسفة الإسلامية؛ من حيث عناية الناشر بمظهرها وتصحيحها وإمدادها بين الحين والحين بشذرات تفسيرية موجزة، وإن كانت قليلة الفائدة، وتبويب فصول الكتاب ومقالاته، ثم التقديم بين نشرته هذه بكلمة عن حياة الفيلسوف وآثاره؛ رجع فيها - كما يرجع غيره من ناشري كتب ابن سينا - إلى ما دونه الشيخ الرئيس من تاريخ حياته، ورواه عنه تلميذه الجورجاني. وتجدون نصه الكامل في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة (ج 2ص1 - 16) وفي مقدمة كتاب منطق المشرقيين لابن سينا وفي غير ذلك نقل عن ابن أبي أصيبعة المذكور.
واختيار مقالة النفس بالذات من بين مقالاته هذا الكتاب اختيار موفق؛ فإن ابن سينا - فيما أرى - عالم نفس مغمور، ولولا أن علم النفس الحديث قد أصبح لا يقيم لتاريخ تطوره كبير وزن بعد أن أتخذ لنفسه أخيراً صبغة العلم التجريبي؛ لوجب أن يكون لابن سينا فيه شأن كبير. بل لعلكم تلاحظون اتجاهه النفسي هذا حتى في تسميته كتبه: الشفاء، النجاة، الإشارات والتنبيهات. . . الخ.
وقد كتب ابن سينا في النفس وهو ابن ثماني عشرة سنة، فصنف (رسالة في النفس) للأمير
نوح بن منصور الساماني الذي ألحقه بخدمته وأطلق يده في مكتبته منذ أن نجح - دون أطباء عصره - في علاجه وشفائه من مرضه، فنحا فيها النحو الأرسطي الكامل تقريباً في كتابه سواء في إثبات وجود النفس، وفي تعريفها وتصنيف ملكاتها، وقد نشر هذه الرسالة إدوارد فنديك في مصر سنة 135 هجرية (وتجدون نسخة منها بقاعة المطالعة بمكتبة الجامعة). كما أنه كتب رسائل أخرى مستقلة عن النفس باسم رسالة النفس الناطقة وأحوالها، ورسالة في أقسام العلوم العقلية؛ هذا عدا قصصه الرمزية الكثيرة التي كتبها أخيراً، والتي لا تعنيكم كثيراً لأنه حين كتبها كان قد تشرب الروح الصوفي المشرقي الذي قلت إن كتاب النجاة يعفيكم منه بما لم يعف (الإشارات) إخوانكم من قبل.
وتناول ابن سينا النفس في كتبه الكبيرة كذلك، وجعل لها في كل منها موضعا ثابتاً من قسم خاص لا تتغير مهما تجددت تواليفه وكتاباته، فإن طريقة ابن سينا في التأليف - كما يظهركم عليه تاريخ حياته وأقوال تلاميذه - كانت أن يحدد أولاً رءوس موضوعاته، ثم يتولى كلاً منها بالشرح والإفاضة؛ لأن مادته كانت حاضرة في ذهنه أبداً منذ أن استوعب حكمة القدماء وفلسفة اليونان حدثاً، مما يجعلك تلمس نفس الروح في مختلف كتبه؛ قبل أن يمزج فلسفة اليونان بالتصوف الشرقي والحكمة المشرقية.
فما هو إذن موضع الحديث عن النفس في كتب ابن سينا؟
تشغل النفس من غالبية كتابات ابن سينا القسم الأخير من الطبعات على حد تقسيمه هو والفارابي من قبله العلوم العقلية إلى نظري وعملي، والنظري إلى علم طبيعي أولي، وعلم رياضي متوسط، وعلم إلهي أعلى (وإن كان هو في كتبه لا يتعرض للرياضيات - العلم الأوسط - بل يضع محلها العلم الطبيعي، ويسبقه بالمنطق كمقدمة. فتصنيفه شيء، وخطته في كتبه شيء آخر) فلن تجد كتاباً لابن سينا لا يبدأ بالمنطق ولا يثنى بالطبيعيات، ولا يختتم بالإلهيات - حتى أن كتابه الإشارات قد سار على هذا النمط، وحتى قال المؤرخون إن القسم المنطقي الذي سقط من كتاب الشفاء هو الذي نشر منفرداً في (منطق المشرقيين).
والحكمة الطبيعية ذاتها تنقسم عنده قسمين: فمنها ما يقوم مقام الأصل، ومنها ما يقوم مقام الفرع، ومنها المبادئ الثابتة والأعراض اللاحقة كالحركة والسكون، والزمان والمكان، والخلاء، والتناهي واللا تناهي، والتماس والالتحام والاتصال، والتتالي. أما ما يقوم مقام
الأصل فالنفس آخره، ويسبقها دائماً:
(1)
البحث في الأمور العامة لجميع الطبيعيات كالمادة، والصورة، والحركة والمحرك الأول. . . الخ مما هو موضوع (سمع الكيان) عند أر سطو.
(2)
والبحث في أحوال الأجسام التي هي أركان العالم، كالسماوات والعوالم المختلفة، مما ورد (في السماء والعالم).
(3)
والبحث في الكون والفساد، والنشوء والبلى والاستحالة، والأجسام التي لكل منها والقابلة لها. . . الخ مما جاء في (الكون والفساد) لأر سطو.
(4)
والبحث بعد ذلك في العناصر الأربعة وما يعرض لها من حركات التخلخل والتكاتف، ويتناول الشهب والغيوم والأمطار والرعد والبرق والصواعق والرياح والزلازل والجبال والبحار. . . الخ
هذه أربع أقسام رئيسية كبرى من مباحث الطبيعيات الأولى، تتلوها أربعة أخرى تتناول تفصيل القول في الكائنات المعدنية (كما في الآثار العلوية وكتاب المعادن لأر سطو) ثم الكائنات النباتية (كتاب النبات) فالكائنات الحيوانية (كتاب طبائع الحيوان) وأخيراً القول في معرفة النفس والقوى الدراكة (الإدراكية) التي في الحيوانات، وخصوصاً التي في الإنسان وبيان أن التي في الإنسان لا تموت بموت البدن، وأنها جوهر روحاني إلهي مفارق (مما يشتمل عليه كتاباً (الحس والمحسوس) و (النفس) لأر سطو).
وهذا القسم الأخير هو موضوعكم، وإن كان يلزم وضعه في موضعه من الإطار الذي أوجزت لكم للعلوم عند ابن سينا. كما سيلزمكم معرفة موضع النفس ذاتها من سلسلة الموجودات في مذهبه - مما سأشرح لكم في مقال تال. والحديث عن النفس يتناول جزءاً كبيراً من طبيعيات النجاة، ويعرض لموضوعات متشعبة كثيرة، ويذكر تعريفات وتقسيمات مختلفة للنفس وقواها وملكاتها وأفاعيلها ووظائفها - مما هو سمة عامة من سمات البحوث النفسية في العصور الوسطى المسيحية والإسلامية؛ أعني كثرة تفريع الملكات والقوى والنفسية؛ مما كان محل سخط الفلاسفة النفسيين منذ عصر النهضة في العصر الحديث، ومما سيجعل مهمتكم في دراسة هذا الباب شاقة عسيرة شيئاً.
ولعلكم تستطيعون أن تتبينوا معي - من خلال هذه الكثرة المختلطة من الموضوعات - أنه
يمكن تصنيفها تحت الرءوس الآتية:
(1)
التقسيم الأرستطالي للنفس إلى نباتية وحيوانية وناطقة مع تعريف كل منها وذكر قواها وأفاعيلها، ويلحق ذلك القول في الحواس الظاهرة والباطنة (ص 157 - 163)
(2)
الحديث عن النفس الناطقة، وتقسيمها إلى نظرية وعملية، أو عالمة وعاملة، ومراتب كل منهما، وطرق اكتساب النفس الناطقة النظرية للعلوم، والتفرقة بين قواها المختلفة وترتيبها بحسب رياستها (ص 163 - 171)
(3)
البحث في النفس من حيث وجودها، أو إثبات وجودها؛ ويشمل الحديث عن جوهرية النفس وتجردها عن البدن ومفارقتها له، والأدلة على ذلك، وأنها حادثة وخالدة؛ لا تقبل الفساد ولا التحلل أو التناسخ، ثم الاستدلال بوحدتها على صلتها بما يسميه العقل الفعال - مما يمهد به للانتقال إلى قسم الإلهيات - كما سترون في ترتيبه للموجودات، فالموضوعات عند أبن سينا متصلة الحلقات، يلحق بعضها ببعض، ويمهد بعضها لبعض. وبتعمل وصناعة غير قليلين سنستطيع اقتطاع النفس من موكب موضوعاته هذه المتدفق، لنلقى عليها نظرة تحليلية في مقالاتنا التالية.
كمال دسوقي
إبراهيم باشا في حروبه
للأستاذ كمال السيد درويش
لقد كان إبراهيم باشا قائداً حربياً ممتازاً، كان ميالاً للحروب منذ نشأته المبكرة، وكان كما وصفه معاصروه:(شديد الشغف بالقتال، ولا يطيب نفساً إلا في جو الحروب)، جو المعارك الطاحنة والمواقع الفاصلة، ذلك الجو المملوء بالعمل والنشاط والحركة اضطلع إبراهيم بالحملات التي أسندت إليه منذ شبابه، وكان النصر حليفه في كل ميدان من الميادين التي خاضها. توجه إلى قتال الوهابيين، وكانوا عدواً صعب المراس شديد الحماس، يسيطر على شبه جزيرة العرب، قد أسكرته خمرة الانتصار على جيوش والى العراق، كما أسكره التحرر من حكم العثمانيين، وكان عجز السلطان عن إخضاعهم من عوامل بعث الثقة في نفوسهم وتقوية إيمانهم بمذهبهم الجديد حتى أصبحوا يرون أنفسهم على الحق، والعالم الإسلامي كله على الباطل!
هذا هو العدو الذي توجه إبراهيم لقتاله، وقد نجح في إسدال الستار على تلك الحركة الوهابية، وعلى تلك الدولة الفتية، بعد أن استولى على عاصمتها الدرعية. وعاد قاهر الوهابيين وحاكم بلاد العرب إلى مصر لتتلقاه بأهازيج النصر والفخار.
ونظر إبراهيم فوجد محمد علي قد أسند إلى الكولونيل سيف مهمة إنشاء جيش حديث، فلا يجد غضاضة، وهو القائد المظفر، في الانضمام كجندي عادي إلى الجيش الحديث، وينبهه الكولونيل سيف في لهجة الآمر إلى أن مكانه - لقصر قامته - في آخر الصفوف لا في أولها. ويدرك ذلك إبراهيم فيطيع أمر رئيسه في الحال.
ويذهب إلى السودان بعد ذلك ليساعد أخاه إسماعيل في إكمال فتحه، ثم يحول المرض بينه وبين إتمام مهمته، بعد أن وصل إلى قرب نهر السوباط فيعود إلى مصر من جديد.
وتشتد الثورة في اليونان، ويعجز السلطان عن إخضاعها، فيلجأ إلى تابعه القوي محمد علي باشا الذي يسند قيادة الحملة إلى نجله إبراهيم.
وكانت ثورة اليونانيين كثورة الوهابيين، كلتاهما كانت تلهبه العقيدة ويشعله الحماس. كانت الحرية أنشودة الثوار، بل أنشودة الشعوب الأوربية بأسرها ضد الحكومات الرجعية التي كانت تجثم فوق صدرها. ولذلك كان العدو الذي واجهه إبراهيم في بلاد اليونان كالعدو
الذي واجهه في بلاد العرب مستميتاً في كفاحه، مستبسلاً في نضاله، مضحياً بكل ما لديه، ومع ذلك استطاعت الجيوش المصرية تحت قيادة إبراهيم أن تتغلب على قوات الثوار بالرغم من تأييد الشعوب الأوربية لها.
ويعود إبراهيم من حرب اليونان ليستعد لخوض أعظم مرحلة في كفاحه الحربي الطويل، وليسطر أروع الصفحات لا في تاريخه العسكري فحسب، بل في التاريخ العسكري في القرن التاسع عشر.
عاد إبراهيم ليخوض الحرب ضد جيوش السلطان نفسه، فتسقط على يديه مدينة عكا الحصينة، ثم يهزم العثمانيين بعد ذلك في دمشق، ثم يستولي على حمص وحلب، ويقضي على الجيش العثماني في بيلان، ثم ينتصر انتصاراً حاسماً في قونيه، ويتوغل في بلاد الأناضول حتى يصل إلى كوتاهيه، وينزل السلطان مضطراً على شروط الصلح، وعند ذلك تبدأ عبقرية إبراهيم كإداري في الظهور، فيلتفت إلى بلاد الشام لتنظيمها من جديد ولانتشالها من الفوضى والانحلال.
ويعود السلطان إلى دس الدسائس وتحديه، فيتقدم إبراهيم إلى جيش السلطان، ويقابل قائده حافظ باشا في نصيبين، وتبدأ الموقعة ولا تستمر سوى ساعتين حتى كان القائد العثماني قد ركن مع جيشه إلى الفرار.
هذه نظرة عامة نلقيها على حياة إبراهيم التي ملئت بالكفاح والنضال، حتى إذا أنعمنا النظر قليلاً راعتنا عبقريته الحربية وأيقنا أنه لم ينجح هذا النجاح إلا بعد أن أتخذ له من الخطوات ما هو كفيل بتسجيله.
لم يحارب إبراهيم أعداءه فقط بل كان وهو في بلاد العرب يحارب ضد الصحراء المترامية بما فيها من جبال وهضاب وكثبان وأعاصير طالما اقتلعت الخيام فتركت الجند في العراء يصلون حر نهارها الشديد وبرد ليلها القارس. وفي بلاد اليونان حارب ضد الجبال المرتفعة والأنفاق الضيقة والوديان العميقة، والعدو خبير بذلك كله معتصم به وبالجزر المنتشرة في ذلك البحر، تحيط بها أمواجه فتحميها وتحميه وتنتشر بينها قراصنته حتى تترصد العدو لترديه. وكذلك حارب في هضبة الأناضول وفي فصل الشتاء، وحدثت موقعة فونيه ودرجة الحرارة فوق الصفر بقليل.
كان ذلك في الحادي والعشرين من شهر يونية سنة 1818 م حين كان أحد الجنود يوقد النار فأطارتها العاصفة على معسكر الجيش فاندلعت إلى خيمة منصوبة على قرب من مستودع الذخيرة فاحترقت الخيمة وامتدت نارها إلى المستودع فانفجر لساعته ونسف ذلك الانفجار من القنابل والرصاص ما ذهب بنصف ذخيرة الجيش، ودب الذعر، واختل النظام، وكاد الموقف الرهيب يودي بالحملة كلها. فالجيش يحاصر الدرعية عاصمة الوهابيين، وصحراء نجد تحيط به من جميع الجهات، والعدو يتنبه على صوت الانفجار فيتهيأ لانتهاز الفرصة وتجديد الهجوم.
ولكن إبراهيم يقابل خبر الكارثة وحرب الطبيعة بصر رحب وثبات عجيب، وينظر لمن حوله من القواد والجند نظرة الواثق من الفوز، المتأكد من النصر، ثم يقول في صوت هادئ عميق:(لقد فقدنا كل شيء، ولم يبق لدينا إلا شجاعتنا فلنتدرع بها، ولنهاجم العدو بالسلاح الأبيض)!
وكان ذلك في يوم 17 مايو سنة 1825 حين تمكنت بعض سفن اليونانيين من الاقتراب من ميناء مودون حيث كانت بعض سفن أسطول إبراهيم راسية، واستطاعت الحراقات اليونانية خلسة إشعال النار في سفينة من تلك السفن المصرية، وكانت الريح شديدة، فاندلعت النار إلى باقي السفن، وتعذر إطفاؤها ولم ينج بحارتها إلا بعد عناء شديد، وخسر إبراهيم معظم سفنه في هذا الحريق، وامتدت النار إلى المدينة، فتناولت مخازن البارود فنسفتها أيضا؛ ومع أن إبراهيم كان يشدد حصاره على المدينة في ذلك الحين، فقد تقبل ضربة الطبيعة وغضبها بنفس الروح التي تقبل بها ضربتها أمام الدرعية، واستمر يقاتل أمام أسوار مودون حتى استولى عليها.
أما بعد، فهذه بعض المواقف التي تجلى فيها ثبات إبراهيم أثناء حروبه، ذلك الثبات الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى الحوادث وإظهار عبقرية إبراهيم كقائد حربي ممتاز.
كمال السيد درويش
مدرس بمدرسة الرمل الثانوية وعضو الجمعية التاريخية
لخريجي جامعة فاروق
اسألي سحرك.
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
آه منْ لحن على نهديكِ. لم أعزفْهُ آه!
شاردٌ عن سحر أوتاري كأحلام الحياه
كلما أطلقتُ روحي خلفهُ في الصَّدر تاهْ
وقعيه. واسمعي مِثلي الأغاني مِن هواه
ودَعيني في الليالي السُّود أمشي في خُطاه
واتبعيني، فأنا دربٌ بعيدٌ منتهاهْ
آه من طير على جفنيِك لم يهدأْ بأيكِ
ضاربٌ في أفق الأحلام، مظلومٌ لديك
كلما همَّ، لواهُ صائدُ السِّحر إِليك
اتركيه كيفما شاءَ يُغني في يديك
واتركيني أتلاشى نغمةً في جانبيك
أخطف السرَّ وأَمضى طائراً مَرَّ عليك
آه من ليلٍ رهيب في خيالي من ملالِكْ
مُترعٍ بالشكِّ والأوعاد في جنبيَّ حالك
خيمت منه معانٍ لاهثاتٍ في خيالك
اْسأليها، فهي تدري ما الذي طاف ببالك
واسمعيها، حُرَقاً تعوي على ذكرى وصالك
يوم كنا في سبيل الحب نشتاق المهالك
آه من نهر بأعطافك مرهوبِ النواحي
رحتُ في أَمواجه أُلقي من الشوق جراحي
وأنادي الرِّيح، لو هبت بِناي وصباح
وصلاةٍ لشراعي فوق هامات الرِّياح
اتركي الزِّورق يجري فيه نشوانَ الجناح
ودعيه سابحاً ما شاء في تلك البطاح
تسأليني. . . لِمَ لمْ يشغلك عن حبي شاغل؟
اسألي الطير. . . علامَ الأيك في جنبيه هادلُ؟
واسألي النهر. . . علامَ الموجُ في شطيه زاجِل؟
واسألي بحرَكِ من أجراهُ في قلبي جداول؟
واسألي الماضي فما زالت به تغلي المراجِلْ
واسألي نفسَكِ من أغرى على الحبِّ المعاولْ
الشهيد
للأستاذ محمود الخفيف
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
محدي الردى لم يدَع موضعا
…
إذا الروعُ جدَّ مضى أروعا
تدور إليه قلوبُ الرجال
…
إذا قضت الحرْبُ أن تفزعا
وما أوهن الدَّأبُ إصراره
…
ولا كدَّه الهولُ أو ضعضعا
وجاهد في الله مستيقنا
…
وبشر أصحابهُ مؤمنا
وذكرهم جنة الصابرين
…
وكيف أعدت لهم مسكنا
وكيف يخوض اللظي باسما
…
ويستقبل الموتَ من آمنا
وما يذكرُ اليوم إلا الجهادْ
…
وإن طال عمن أحبَّ البِعادْ
فلا شيء إلا خيالٌ يُلمُّ
…
تضيء الوهادُ به والنِّجاد
وينساه حين يضيء الصباحُ
…
ويمحو الضحى ما احتواه الرقاد
وينسى الربيعَ ووشى الزَّهَرْ
…
وصفو الضحى وسكونَ النهَرْ
وينسى من الصيف آصاله
…
وسحر العشايا به والبُكَر
فما غيرُ نارٍ أحاطت به
…
وما غير رملٍ يرى أو صخر
ضحوكٌ ووجه الضحي عابِس
…
وللموت في نفسه هاجِسُ
توحشت الأرض من حولِه
…
وما ضلَّ قلبٌ له آنس
يزيد هدىً عنده الموقنونَ
…
ويبرأ من يأسه اليائس
وأحدق يوماً به فيْلقُ
…
فرحب بالموت إذ أطبقوا
وقاتل حتى استحال القتالُ
…
وحتى هوى البطلُ المرهقُ
فلله جسمٌ له نازفٌ
…
ولله روحٌ لهُ تزهقُ!
تبسم إذ يردُ الموردا
…
وحين تربد وجْهُ الرَّدى
فتى همه كان خوض الحتوف
…
وكم بات يرتقبُ الموعدا
وما زال يركبُ أهوالها
…
إلى أن قضى الله فاستُشهدا
على الأرض سالت دماء الشهيد
…
فلله موتُ الكمىِّ النجيدْ
لئن فاته النصر فليهنه
…
بلاءٌ له، ما له من مزيد
هنيئاً له أقربُ الحُسنيين
…
إلى قلبه، وعُلى لن تبيد
تندت جفوني لهذا الدم
…
يسيل من البطن المرتمى
سقى تربَةً بالنجيع الصبيب
…
غريبٌ إلى أهلها ينتمى!
حبست دموعي وكفكفتها
…
وغنيت بالأرْوعِ المعْلِم
كمىُّ الوغى جسدٌ هامِدُ
…
ألا كم بكى عزمه قائدُ
صريعُ عُلى وأخو عمره
…
صريعُ هوى واجدٌ ساهِدُ
وما خرَّ إلا إلى سجدة
…
ولا كلَّ يوما له ساعدُ
غدا ينبِتُ العزَّ هذا الدَّمُ
…
وقد بلِيتْ تِلْكُم الأعظمُ
إذا الدم جاد الشباب به
…
فما يهنُ المجدُ أو يهرم
وقد جاد بالنفس جود السما
…
ح حين قضى نحبه يبسم
طواه الردى في ربيع الحياه
…
ولم يطْو نوراً له إذ طواه
سينسى اسمه الناس فيما نسوا
…
ويمضي وما جفَّ دمعُ النعاه
ولكنما شهداء العلى
…
على الدهر فينا النجوم الهداه
غدا فكْرةً في ضمير الزَّمن
…
تضوِّيُّ في ظلمات المِحنْ
يسير على ومضها المدلجون
…
وينشط من عزمهم ما وهن
ففيها الفداء وفيها العزاءُ
…
وفيها لكلِّ فؤادٍ سكن
محمود الخفيف
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
وميض الأدب:
صدر أخيراً كتاب (وميض الأدب بين غيوم السياسة) لمعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا، وقد نشره الأستاذان أحمد عبد المجيد الغزالي والعوضي الوكيل. وهو كتاب أدب خالص، لا كما قال الناشران في كلمتهما إنه من أدب السياسة، وما أخال المؤلف إلا يعني بعنوانه أنه إنتاج أدبي استطاع أن يفرغ له بعض الفترات في خلال اشتغاله بالسياسة. فأكثره دراسات لشعراء معاصرين، بعضها ألقي في حفلات تأبين وذكرى شعراء فارقوا الحياة، والباقي مقدمات لدواوين شعراء أحياء، بعضها نشر وبعضها لم ينشر.
والكتاب يدل على أصالة أدبية لدى مؤلفه الكبير، ولولاها لما ومض هذا الأدب بين غيوم السياسة. ومعاليه رجل كريم، حتى في الأدب، وقد خيل إلى وأنا أقرأ بعض الفصول أنها (مآدب) يأدب إليها من يتحدث عنهم، وإن معاليه لناقد ذواقة حصيف لولا هذا (الكرم).
وفي الكتاب شيء لا أدري ماذا أسميه، وأكبر الظن أنه من عمل من قام بجمع مواد الكتاب. فيه مقالة كانت قد نشرت في الرسالة بعنوان:(أدباء معاصرون أرشحهم للخلود)، وقد كتب بازائها في الكتاب أن الرسالة افتتحت بها عددها رقم 780 ولكن حدث في الكتاب تغيير وتبديل وتقديم وتأخير وحذف وزيادة. . . ومن ذلك أن جاء في الكتاب:(إذا ما ذكر الناثرون كان في أولهم الأساتذة الأعلام: العقاد وهيكل والزيات والمازني) وبعد الكلام على الأول والثاني جاء عن الثالث (أما الزيات فهو أرق كتاب العصر ديباجة، وأنقاهم أسلوباً وأسلسهم بياناً). وأصل الكلام في الرسالة هكذا (إذا ما ذكر الناثرون كان أول من أذكره، وأول من يستأثر بإعجابي الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات، فهو أقوى كتاب العصر ديباجة وأنقاهم أسلوباً وأعرفهم بالصيغ العربية الصحيحة، ومن أراد البيان العربي في أسمى درجاته فعليه بما يكتبه الزيات).
ولا يخالجني شك في أن الباشا لا يصنع هذا، ولكن هل يعلم به معاليه؟
حدث في الجامعة:
أشرت من قبل إلى ما حدث في الجامعة من التحقيق مع أحد خريجي كلية الآداب وهو الأستاذ كمال منصور، لأنه كتب مقالاً في (البلاغ) عن موقف الجامعة من الدكتور طه حسين بك.
وقد عقد له في الأسبوع الماضي مجلس تأديب برياسة مدير الجامعة وعضوية عميد كلية الآداب والأستاذ أمين الخولي الأستاذ بالكلية. وقرر المجلس فصل (المتهم) من معهد الدراسات العليا فصلاً نهائياً.
والمقال الذي حوكم كاتبه وفصل من أجله، يتضمن بيان جهود الدكتور طه في خدمة الجامعة وخاصة كلية الآداب وفضله على أساتذتها، ثم مقابلة ذلك بالتنكر والجحود ومعارضة رجوعه إلى الكلية أستاذاً زائراً، ثم مطالبة الجامعة بأن تعيد الدكتور طه إلى كلية الآداب ليعيد لها الحياة ويرجع إليها مكانتها.
ولا شك أن الجامعة قد ضاقت ذرعاً بذلك المقال، واعتبرته جريمة يستحق مرتكبها حرمانه متابعة الدراسات العليا بها، ولكن أين موطن المؤاخذة في ذلك الكلام؟ لا يجد المتأمل فيه إلا ما عسى أن يفسر به الجزء الخامس بتنكر الأساتذة للدكتور طه ونكران فضله عليهم الذي قال الكاتب إنه فضل مادي وأدبي فإن هذا يمكن أن يفسر أو (يكيف كما يقول القضائيون) بأنه تطاول من طالب على أساتذته، ولكن أما يليق بالأساتذة أن يفسحوا صدورهم إزاء خريج يرى من حقه أن يفضي بما يرى فيضربوا المثل في احترام حرية الرأي؟ ومن أولى من أساتذة الجامعة باحترام حرية القول وإن نالهم منه رشاش؟
ولو أن الجامعة أغضت عما كتب لمرت العاصفة بسلام وقال الناس: كلام. . . ولكنها غضبت فأنزلت العقاب. فأصبح الكلام حادثة في تاريخها. وما الذي يمنع قائلاً أن يقول إن غضب الجامعة على المقال وعقاب صاحبه يؤيد ما تضمنه، لأن رجالها يحاربون حقاً طه حسين فيضطهدون من يؤيده ويقف إلى جانبه، ويذهبون في ذلك إلى أبعد حد فيقضون لأنفسهم بإبعاده عن الجامعة وحرمانه الدراسة فيها.
النهضة الأدبية في العراق:
ألقى معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي محاضرة في الجلسة الخامسة لمؤتمر مجمع فؤاد
الأول للغة العربية، عن (النهضة الأدبية العربية في العراق) بين فيها ظروف الحركة الأدبية العراقية في العصر الحديث، وعرض مظاهرها وخصائصها وتحدث عن طبقات الأدباء والشعراء، من عصر الوزير داود باشا إلى الوقت الحاضر. ومما قاله أن مما مني به الأدب أخيراً في العراق فقدان خطة عامة مرسومة للنهوض بالأدب وباللغة العربية في البلاد، ومن نتائج ذلك تشتت في الجهود الأدبية يخشى بعضهم أن يتطور إلى بلبلة فكرية، وقد تباعدت الشقة بين جيلنا الماضي والجيل الجديد، وأصبح حل هذه المشكلة بالتوفيق بين الجيلين شغل المفكرين الشاغل، وقد واجهت مصر مشكلة من هذا القبيل بلا شك ولكنها لم تبلغ حد المشكلة التي نواجهها في العراق وبعض البلاد العربية الأخرى لأن النهضة في مصر سارت منذ عهد محمد علي إلى اليوم في مراحل تدريجية تبعاً لخطة رسمها قادة الرأي في مصر فأدى ذلك إلى نوع من الاستقرار الفكري الأدبي، تغبطون عليه الآن. أما النهضة في العراق فلم تكن تدريجية خاضعة لخطة مرسومة، بل كانت اندفاعاً سريعاً إلى الأمام، على أن في العراق اليوم بالرغم من ذلك كله، طبقة من رجال العلم وأخرى من رجال الأدب والشعر، أما شعراء العصر وشعراء الشباب في العراق، ومثلهم على ما أظن شعراء العصر في مصر والشام، فهم فريقان: فريق يترسم شعراء الجيل في الماضي القريب مع شيء من التجديد. وقد نشرت لعدد من هؤلاء الشعراء دواوين لطيفة، ومنهم أحمد الصافي ومحمود الحبوبي ومهدي الجواهري والمقلد وعلي الخطيب وصالح الجعفري وشعراء الرابطة العلمية الأدبية المعروفة في النجف، ولولا هذه الطبقة الناهضة لخيل إلينا أن القريض العربي قد مات. وأما الفريق الآخر من شعراء الشباب، فهو يميل إلى مجاراة الغربيين ويحاول أن يتعاطى النظم على طريقتهم المعروفة، وعددهم قليل. وقد مالت طبقة تضم بعض حملة الشهادات الجامعية والعالية وغيرهم من الأدباء، إلى فن من فنون الأدب الحديث وهو فن القصة، فراحوا يخرجون القصص ترجمة وتأليفاً، ولا يزال هذا الفن في دور النشوء، وكثير من كتابه مقلدون. وفي البلاد عدد من العلماء والباحثين المنقطعين للدراسات على اختلاف موضوعاتها وكثرتهم في بغداد والموصل والنجف، وفي حواضر عراقية أخرى، ولهم أبحاث تنشر في بعض المجلات المصرية والسورية، نذكر منهم منير القاضي ومحمد بهجت الأثري ومصطفى جواد وعباس العزاوي وداود الجلبي وصادق
كمونة.
وقد دار بجلسة المؤتمر نقاش في بعض ما تضمنته المحاضرة، واشتجرت الآراء خاصة في مسألة الخطة التي ترسم للأدب. وهل من صالح الأدب أن يترك ميدانه حراً أو توضع له مناهج؟ ولعلي أستطيع أن آتي بشيء من ذلك في الأسبوع الآتي.
الفرقة المصرية في الفترة الأولى:
انتهى في آخر ديسمبر الماضي موسم الفرقة المصرية بمسرح الأوبرا، وبدأت تعمل به الفرق الأجنبية من أول يناير. وتقوم الفرقة برحلات تمثيلية خارج القاهرة، تعود بعدها إلى العمل في مسرح حديقة الأزبكية.
وقد أمضت الفرقة نصف موسمها في هذا العام إلى الآن، وهي مرحلة يحسن أن نسائل الفرقة ماذا فعلت فيها، وننظر أحققت رسالتها أو شيئاً منها إلى الآن، والغاية من هذا أن نتبين طريقها وما فيه من عقبات، وهل هو طريق طبيعي يؤدي إلى ما تهدف إليه الدول من رعايتها.
الغرض من الفرقة المصرية ترقية التمثيل العربي باعتباره فناً من الفنون الجميلة، وهي بحسب هذا الغرض الفرقة الوحيدة في مصر التي يرجى منها إنهاض المسرح المصري، وأن تكون مركزاً ونواة للتمثيل المسرحي الرفيع. وقد استهلت الفرقة موسمها الحالي ومهدت له بدعاية واسعة، ومضت فيه إلى الآن. وتكشف برنامجها عن رواية مؤلفة جديدة واحدة هي (سر الحاكم بأمر الله) وبعض الروايات المقتبسة، ثم روايات كثيرة قديمة من تأليف المدير العام للفرقة الأستاذ يوسف وهبي بك، كان قد مثلها قديماً على مسرح رمسيس القديم، وهي دون المستوى الفني الذي يلائم الفرقة والذي يتفق مع كلمة (ترقية التمثيل العربي) وإنما تعتمد على تملق عواطف الجمهور تملقاً يؤذي أذواق طلاب الفن الرفيع.
وحقاً إن الحكومة ضنينة على الفرقة ولم تمنحها الإعانة الكافية، فلا تزال إعانتها أحد عشر ألف جنيه في العام، وهو مبلغ ضئيل لا يكفي لمطالب النهوض بالفرقة واتجاهها إلى تأدية رسالتها، لأن الجمهور لا يكفيها نفقاتها، ولكن لا ينبغي أن يفضي ذلك إلى أن تتحول إلى فرقة تهريجية تستجلب الجمهور بالإنتاج الرخيص، فهي لم تنشأ لتكون أداة للربح وإنما يراد بها ترقية فن التمثيل، ولا حاجة بنا إلى أن تهبط ذلك الهبوط بالانحراف عن
مستواها، ففي فرق شكوكو وبديعة وغيرهما الكفاية.
على أن يوسف وهبي يستبد بأمور الفرقة استبداداً عجيباً، فهو يأخذ مرتباً شهرياً مائة جنيه وربع إيراد (شباك التذاكر) والباقي ينفذ على مطالب الفرقة ومرتبات سائر الممثلين والممثلات الذين يعملون فيها جنوداً مخلصين مع قائدهم المغوار عميد الممثلين. وهو ينشر الإعلانات في الصحف مشيداً بنفسه على حساب الفرقة أيضاً، وقد استحدث نوعاً باهظاً من الإعلانات وهو مقالات تصدر من إدارة الفرقة في مدح مديرها العام. . . وتنشر هذه المقالات مأجورة! وهو يحرص على أن يظهر بمظهر الزعيم المنقذ، لا الموظف العامل، فمنذ جاء إلى الفرقة دأب على وضعها صفراً على شماله، وإبراز نفسه، المؤلف، والمخرج، والفتى الأول، و. . . الخ، كان وزارة الشؤون الاجتماعية ألغت الفرقة المصرية و (ألفت) يوسف وهبي. ولم يبق إلا أن تسمى الفرقة (يوسف وهبي للتمثيل والموسيقى).
وقد كان الأستاذ زكي طليمات يسير على طريقة ديمقراطية، يعمل في خدمة الفرقة ويقدم أفرادها ويكاد ينكر نفسه. وأخيراً أفسح ليوسف وهبي وتركه يطعن نفسه برواياته، ولكن الطعنات تصيب صميم الفرقة، فهما من هذه الناحية يشتركان في المسئولية عن المصير الذي تنحدر إليه الفرقة الآن.
عباس خضر
البريد الأدبي
عيد الجميع:
ورد كتاب من ليبيا. برقة. بإمضاء (الشعب الدرناوي) أي شعب درنة. ولما كانت عادتي أن أرد على كل رسالة تأتيني مهما كان نوعها، فلم أدر لمن أرسل رد هذه الرسالة لأن مرسلها لم يذكر عنوانه. فلم تبق لي حيلة إلا أن أرسل الرد على صفحة من مجلة الرسالة لأن لهذه المجلة نصيباً فيها. وها بعض ما جاء فيها:
جناب. . . الأستاذ. . . نقولا الحداد الموقر
(بعد التحية. الشعب الدرناوي في قطر برقة المعجب بنخوتكم العربية والمعتز بقلمكم السيال الكاوي الصهيونية في مجلة الرسالة. . . (إلى ما هنالك من الثناء والإطراء مما لا أستحقه) يتشرف بتقديم أطيب التهاني لفضيلتكم بمناسبة حلول عيد الميلاد سيدنا المسيح عيسى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ونرجو الله أن يعيد هذا العيد عليكم وعلى كافة العروبة بالنصر المبين، والاتحاد الدائم. كما أنه يتضرع إليه تعالى بأن يبقيكم لأننا لا زلنا في حاجة ماسة لأمثالكم لنهتدي بنور أفلامكم في مثل هذه الظروف العصيبة والمرحلة الدفيقة. وختاماً تقبلوا من جميع قراء مقالاتكم القيمة على صفحات الرسالة فائق الاحترام).
(ليبيا. برقة. الشعب الدرناوي)
أقول:
أغلى ما في هذه التحية الكريمة من شعب درنة أنها تجعل العروبة دين المسلمين والنصارى (علاوة على دينهما الأصليين) كما هو الواقع اليوم. المسلمون يعايدون النصارى بعيد ميلاد عيسى، والنصارى يعايدون المسلمين بعيد مولد النبي عليه أطيب السلام وعيدي رمضان والأضحى. فالمسلمون والنصارى يتبادلون التهنئة في هذه الأعياد بالتزاور والبريد والجرائد - الأمر الذي يدل على أن كلا الفريقين أدركا أن بين النصرانية والإسلام ليس إلا الزمن والتاريخ.
فالمسيح جاء في وقت كان لا بد من مجيئه فيه لكي يعلم هؤلاء اليهود الجوييم (الأنجاس) أن جميع الشعوب هم شعب الله وأنه لم يختر بني إسرائيل دون سائر الأمم شعباً خاصاً له كما يزعمون. وقد ضرب لهم مثل السامري الذي عني بجريح اعتدى عليه اللصوص
واغتصبوا ما معه، بعد أن مر به كاهي ولاوي وفريسي من اليهود ولم يسعفوه وإنما السامري الذي ينبذه اليهود عنى به وأخذه إلى منزله وضمد جراحه الخ. ثم سأل المسيح اليهود من ِمن هؤلاء هو الإنسان الذي يختاره الله. أليس الذي صنع معه الرحمة؟
ولما رأى اليهود أنه يساوي بهم السمر المنبوذين صلبوه. فنظرية أن (الله رب العالمين) ضد عقيدتهم.
ولما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كان زمن آخر يستلزم أن يأتي النبي محمد لكي يطهر البلاد العربية من الأوثان والأصنام وينظم الحياة الاجتماعية للعرب وغيرهم، ولكي يوطد التوحيد ويعلمهم أن (الله رب العالمين) أجمعين. فحاربه اليهود. وأمرهم معه معروف.
عيسى ومحمد عليهما أطيب السلام كانا يرميان إلى غاية واحدة وهي تقويم الإنسانية وإصلاح البشرية. وقد نجحا. وأصبح ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من أتباعهما. أفليس من الجهل المطبق أن يفرق التعصب بين العرب؟ أو ليس نعمة من الله أن تكونت العروبة فربطت بين الفريقين؟
أجل، إن العروبة هي الحصن الحصين لحفظ كيان العرب كلهم يتماسكون تحت لواء العروبة لكي يدرءوا هذا الخطر الذي شرعنا منذ الآن نحسه - يهود يغزون لبنان، ويهود يحاولون أن يغزوا حدود مصر. وغداً وبعد غد يحاولون أن يغزوا كل ما حول فلسطين بين النيل والفرات، لا سمح الله.
فتنبهوا أيها العرب. . .
نقولا الحداد
2 ش البورصة الجديدة مصر
فلسطي فقط:
نشرت مجلة الرسالة الغراء لأحد موظفي المجمع اللغوي رداً على ما سبق أن نشرته في الأهرام الغراء تحت عنوان (فلسطي) نسبة إلى فلسطين.
وليثق حضرته أن ما كتبه لم يكن غائباً عني حين كتبت ما كتبت، وأن النسبة إلى فلسطين - بالرغم من كل ذلك - هي (فلسطي) فقط للأسباب الآتية:
أولاً: أن القاموس بعد أن ذكر الحالين الإعرابيتين لفلسطين وأجاز إعرابها بالحروف وإعرابها بالحركات قال: (والنسبة فلسطي). . . وهذا أسلوب صريح في أن هذه النسبة ملتزمة في الحالين، ولو كانت تجوز نسبة أخرى لنص عليها.
ثانياً: أن المتتبع لكلام العرب الذي يعتد بنطقهم، ويحتج بقولهم: لا يجد فيه إلا (فلسطياً وفلسطية) قال الأعشى:
تخله فلسطياً إذا ذقت طعمه
…
على ربذات الفي حمش لثاتها
وقال أبن هرمة:
كأس فلسطية معتقة
…
شقت بماء من مزنة السبل
وهذا دليل على أنها النسبة الوحيدة التي استملها العرب، وأنها واجبة الالتزام في الحالين، وإن وافقت القياس في حال الإعراب بالحروف، وخالفته في حال الإعراب بالحركات.
وإذا كان حضرته يقول إن استقامة الوزن فحسب هي التي دفعت الشاعرين إلى إيثار هذه النسبة فليأت حضرته بكلام منثور لعربي حجة ورد فيه (فلسطين أو فلسطينية).
ثالثاً: جاء في لسان العرب بعد ذكر حالي الإعراب لفلسطين: (قال أبو منصور وإذا نسبوا إلى فلسطين قالوا فلسطي) ثم استشهد لسان العرب لهذه النسبة بالبيتين السابقين.
وهذه العبارة مضافاً إليها هذا الاستشهاد تدل أوضح دلالة على أن العرب كانوا يلتزمون هذه النسبة في كل حال.
رابعاً: نقل الأستاذ عن لسان العرب بعد الكلام عن قنسرين قوله: (والقول في فلسطين و. و. كالقول في قنسرين) وليعلم حضرته أن اللسان لا يعني بهذا القول النسبة، وإنما يعني جواز إعرابها بالحروف وجواز إعرابها بالحركات.
ولو أنه أراد النسبة لكان أولى أن يفصلها عند الكلام عن فلسطين نفسها؛ وإن سبق التزامه هناك للنسبة الواردة فقط: يحدد ما عناه هنا، ويلتفت إليه.
خامساً: لقد ورد في النسبة إلى قنسرين: (قنسري وقنسريني) وكان من الممكن أن تقاس عليها لو لم يرد في نسبتها شئ عن العرب. أما وقد ورد فيها (فلسطي) فقط فقد أصبح القياس متعذراً.
وبعد:
فقد تجنى الأستاذ هلالي - وهو بالمجمع اللغوي - على اللغة واللغويين حين قال: (اختلف اللغويون في النسبة إلى فلسطين أهي فلسطي أم فلسطيني. . . الخ) إذ الحق أن اللغويين لم يختلفوا في النسبة إلى فلسطين، بل لم يختلفوا في النسبة إلى قنسرين. وإن معنى الاختلاف أن كل فريق منهم يلزم نسبة خاصة لا يجيز غيرها، وهو ما لم يحدث في فلسطين التي التزم اللغويين النسبة المسموعة عن العرب وهي (فلسطي). كما لم يحدث هذا في قنسرين التي اتفق اللغويين على جواز (قنسري وقنسريني) تمشياً مع الوارد فيها وتطبيقاً لقواعد النسب عليها.
إبراهيم بديوي
المدرس بمعهد طنطا
حول (كاد أن):
نشر في البريد الأدبي كلمة أشار فيها بأن الفعل المضارع الواقع في موضع خبر كاد لا يقترن بأن وذلك هو القياس المطرد إلى آخره، وهذا القول غير صحيح من عدة أوجه؛ إذ أن الرأي المتفق عليه عند النحاة أن (كاد) يترجح تجرد خبرها من أن كقوله تعالى:(يكاد زيتها يضئ)(وما كادوا يفعلون) فيكون الكثير في خبرها أن يتجرد. كما أنه يجوز اقتران خبرها بأن مع القلة، وهذا بخلاف ما نص عليه الأندلسيون من أن اقتران خبرها بأن مخصوص بالشعر.
وقد جاء مقترناً بأن في غير الشعر كقول الرسول عليه السلام (وما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب)، والحديث الشريف يتفق مع القرآن في أن القرآن لا يأتي باللغات الشاذة وإلا لما كان معجزاً، فكذلك الحديث لا يأتي باللغات الشاذة، والله تعالى يقول (وما ينطق عن الهوى)، وقول الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه
…
مذ ثوى حشو ربطة وبرود
والشعر العربي إذا تعددت فيه الأمثلة فلا يكون ذلك ضرورة ولا شاذاً وإنما هو قاعدة مسلم بها.
فاروق أحمد سلام
معهد إسكندرية الديني
القصص
كتاكيت العم طون!
في ملهاة لجي دي موباسان
كان كل من يسكن حول مدينة (تورنفنت) يحب العم أنطوني مجيل، طوني السمين، طوني العزيز، أو طون، كمانوا يسمونه عليه تحبباً!
وطون هذا، رجل سمين، منفوخ البطن، أشبه ببرميل نبيذ، منتفخ الأوداج، أحمر الوجه، غائر العينين، لا تستطيع أن تعرف طوله من عرضه، ولا عاليه من سافله!
وكان الناس يتساءلون في دهشة: كيف يستطيع الزبون أن يدلف إلى الحانة، والعم طون، قد وقف على بابها وسد الطريق؟!
كان يبيع الكونياك، وكان ينادي على بضاعته بصوت ناعم - هنا يا رجال، تجدون أحسن أنواع الكونياك!
وكال له زبائن يترددون على حانته، لا ليشربوا الكونياك فقط، ولكن ليستمعوا إلى نكات العم طون، ويأنسوا بظرفه، وخفة دمه، فالعم طون (ابن نكتة!) يستطيع أن يحمل حجارة القبر على الضحك!!
كان من عادته أن يجلس مع زبائنه، يلتفون هم في حوله، وبأيديهم أكواب الخمر، يشربون، ويضحكون، فإذا وجد أن أحدهم لا يضحك لنكتة ألقاها، لكزه في بطنه ليحمله على الضحك! كان يلقي نكاته، ويسخر من هذا وذاك ولكن من غير أن يؤذي أحداً، أو يجرح شعوره!
من أجل هذه الروح المرحة، أحب الناس العم طون. . . أحبوه حباً عظيماً، ووفدوا عليه من ضواح بعيدة ليستمتعوا بنكاته، وليشربوا عنده ما فيه القسمة من أكواب الكونياك التي كان العم طون يقطرها بنفسه!
وكثيراً ما كان يقف على باب حانته، يحي هذا، ويهتف لذاك قائلاً: مرحباً. . . مرحباً يا ولدي!
كان يدعو كل من يراه يا ولدي، ولكن الناس كانوا تسائلون في دهشة، لماذا لم يرزق العم طون أولاداً، وقد مضى على زواجه أكثر من ثلاثين عاماً؟!
وقد يترامى إلى أذنيه هذا السؤال الحائر على شفاههم، فيغمزهم بطرف عينه. ويقول لهم هامساً: إن زوجتي، هذه الدجاجة العجوز ليست من العظمة بحيث تستطيع أن تنجب عظيماً مثلي!!
وكانت زوجته تثور عليه، ولم تكن بأقل غرابة من زوجها، فقد كانت امرأة فلاحة، غليظة الطبع، حادة المزاج، لا تبدو إلا غاضبة، مكشرة، إذا مشت، فعلى رؤوس أصابعها، فتبدو، وكأنها تقفز قفزاً، واهتز أعلاها، وامتدت أردافها!
وكانت على شجار دائم مع زوجها، وكان هو يخافها، ويتحاشى وقاحتها، ولكنه لم يكن يكف عن التحرش بها، ليضحك منها!
وكان الزبائن يضحكون لهذا الشجار الدائم، ويغرقون في الضحك، حين يبدأ العم طون يسخر من زوجته! وتبلغ الضجة أعلاها، حين تشير الزوجة الهرمة إلى زوجها المنفوخ، وتقول:
صبراً. . . صبراً، أيها المتكرش الكسول، سيأتيك يوم تنفجر فيه هذه النفخة الكذابة. . . انك والله لرجل كسول، لا تصلح إلا لربطك مع الخنازير!!
والعمة طون، مولعة بتربية الدجاج وتفريخها، وكان لها في هذا المضمار باع طويل وخبرة واسعة، ولم تكن لتخلو أكبر الموائد في باريس من دجاج العمة طون!
على هذه الحالة مضى ركاب الزمن بالعم طون، يمزح ويمرح ويبيع الكونياك، حتى حدث أن أصيب بما أقعده عن العمل، وقلب حياته رأساً على عقب!. دب الشلل في جسمه، ولم يعد يستطيع الحركة، فأعدوا له سريراً في مكان يشرف على ما يجري في الحانة، وأرقدوه فيه
وقلت نكاته، ولكنه لم يتخل عن مرحه وظرفه، فهو ما زال يبادل أصدقاءه النكات وهو راقد على ظهره!. كان يميز الأصوات فيعرف أصحابه!
- مرحبا سلستين، يا ولدي. . . الست أنت سلستين؟
فيرد عليه سلستين: كيف حالك يا عم؟ أوه!. . . لم أعد أصلح للطراد أبداً!!
وتثور العمة طون ثورتها المعهودة، وتقول: انظروا كيف ينام على ظهره كالثور العجوز، ولم يعد فيه نفع ولا فائدة!
وكم يكون منظره مثيراً للضحك حين يراها، وهي تقترب منه كالصاعقة، فينكمش في فراشه، خائفاً وجلاً من ضرباتها التي يتلقاها على بطنه الكبير، فيكون لها دوي الطبل!
وذات يوم أراد أن يلعب أحد الزبائن دوراً مضحكاً، على هذه المرأة العجوز التي لا يعجبها العجب، أتدرين ماذا كنت أفعل لو كنت مكانك؟
فرمته بنظرات خبيثة، وقالت له: ماذا كنت تفعل؟
فأجابها متكلفاً الجد: إن جسد العم طون أشبه بفرن تتأجج فيه النار، فلماذا لا تضعين تحته بعض البيض فيفقس كما تفعلين مع دجاجك؟! فهمست متعجبة: أيمكن هذا حقاً؟
- ولم لا؟ ما الفرق بين أن نضع البيض في صناديق حارة وبين أن نضعه تحت فراش يبعث أكثر من هذه الحرارة؟
- وراحت العمة طون تفكر في هذا الاقتراح، وتجهد عقلها المتحجر في التفكير في هذا الاقتراح العظيم!!
وبعد ثمانية أيام، جاءت إلى زوجها تحمل عشر بيضات، وقالت له: لقد وضعت الآن عشر بيضات تحت دجاجتي السمراء، وهذه عشر بيضات أخرى، ضعها تحت ذراعيك، وحافظ عليها لئلا تنكسر! فصاح العم طون - ماذا تعني؟!
- أعني أنك سترقد على هذا البيض كما نفعل مع الدجاج، وسننتظر ما يحدث!
ورفض العم طون بكل إباء وشمم، أن يرقد على البيض كدجاجة صغيرة، وحاول أن يحتج على تصرف زوجته، ولكنها صاحت فيه، ليس من المعقول أن تبقى هكذا نائماً على ظهرك، تأكل وتشرب، ولا تنفعنا بشيء!!
وأمام تهديداتها وغضبها الذي يتحاشاه، قبل العم طون أن يضع البيض تحت ذراعيه! وظل جامداً في مكانه، لا يتحرك خوفاً على البيض أن ينكسر، وبدا عليه الاهتمام العظيم، وقد حمل الأمر على محمل الجد!
وسرعان ما سرى النبأ بين الزبائن، فبدأ عليهم العجب، وراحوا يتساءلون، ترى كيف يفرخ الرجل!!
وما كادت تبلغ الساعة الثالثة، حتى ساءت صحته، وبدا عليه ما يبدو على المرأة التي حانت ساعة وضعها، وتصبب العرق من جبينه، ولم يعد يسمع ضجة الناس المحتشدين في
الحانة يترقبون حدوث الأعجوبة!
وأقبلت العمة طون فرحة مستبشرة، وقالت: لقد فقست دجاجتي السمراء سبع بيضات، وفسدت ثلاث!
فخفق قلب العم طون، وسأل نفسه: وأنا. . . كم من البيض سيفسد؟! وأحس بدغدغة تحت ذراعه الأيسر، فخفق قلبه، وبكل احتراس، مد يده تحت ذراعه، وقبض على شئ ناعم صغير، كان يحاول التملص منه بقوة، فخاف عليه، وأرخى أصابعه، فقفز على لحيته، ثم على صدره!
كانت الحانة محتشدة بالناس، فلما رأوا الحيوان الصغير يقفز على صدر العم طون اندفعوا نحوه، والتفوا على شكل دائرة حول فراشه، وشقت الجمع المحتشد العمة طون، وأمسكت بالكتكوت الصغير، وهي أسعد ما تكون!! وصاح العم طون فجأة: وهذا واحد آخر يلعب تحت ذراعي اليسرى!
وشمرت العمة عن ذراعيها، واستعدت كأمهر قابلة، لاستقبال الكتكوت الجديد! وأخذ الحاضرون يفحصون هذه الكتاكيت في كثير من الدهشة والعجب والحيرة!
وقفزت أربعة كتاكيت أخرى، فانتفخت أوداج العم طون لهذا النصر الباهر الذي فاق به الدجاج الممتاز، العريق النسب!. ثم صاح بصوت مرتفع في حين كانت زوجته قد حملت الكتاكيت لتعطيها لدجاجتها السمراء - وهذا واحد آخر. . .
وارتفعت ضجة العجب في جو الحانة. . . وأصر العم طون على الاحتفاظ بآخر الكتاكيت في فراشه. . . فقد كان يشعر بحب عميق لكتاكيته، كما تشعر المرأة نحو وليدها! ولكن العمة طون لم تقتنع، فأخذت منه الكتكوت الأخير بكل قسوة، وأرسلته لعناية دجاجتها السمراء!
انصرف القوم، وهم يفسرون هذه الحادثة الغريبة في بابها، شتى التفاسير، فاقترب صاحب الاقتراح الخبيث في أذن العم طون وهمس فيها: أتدعوني لحفلة العماذ أيها العم. . . أليس كذلك؟! فأجاب العم طون طبعاً. . . طبعاً يا ولدي!
(البصرة عراق)
يوسف يعقوب حداد