المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 811 - بتاريخ: 17 - 01 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨١١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 811

- بتاريخ: 17 - 01 - 1949

ص: -1

‌حج غير مبرور

رد جلسائي التحية إلى رجل ألقاها عليهم وهو يدخل القهوة في زي أنيق ورؤاء حسن؛ ثم أتبعوه النظر حتى جلس في جماعة من ذوي الهيئات قابلوه بنشاط وصافحوه بقوة؛ ثم عادوا بأبصارهم وأفكارهم إلى تشقيق الحديث، فقال أحدهم لجاره: أشهدت الحفلة التي أقامها بعد عودته من الحج في الأسبوع الماضي لمستقبليه ومهنئيه؟ فأجابه جاره: أوه! نعم شهدتها. ولقد بلغت هذا العام من ضخامة المادة وفخامة المظهر مبلغاً صغر سوابقها في أعين الناس على كثرة ما كان يجمع لها وينفق فيها!

فقال جاري: إن العجيب من أمر هذا الرجل أنه يحرص كل الحرص على أداء الحج في كل سنة، وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ولا يصوم رمضان، ولا يكاد يتشهد! فكيف يقوم دينه على ركن واحد والإسلام كما نعلم إنما يقوم على أركانه الخمسة، وكلما تهدم منها ركن تقوض من بنيته بناء؟ فرد عليه شيخ مستنير الفكر بأنه اغتر على ما يظهر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا حتى ليذهب الرجل إلى مكة وهو موقر النفس بالحرائر، مثقل الضمير بالكبائر، فيعود منها وهو نقي الصحيفة كيوم ولدته أمه! وإن كثيراً من مطففي الكيل وقطاع الطرق ورواد الفحش يبسطون لأنفسهم العنان في المنكر اتكالاً على حجة يغتسلون بها فيعودون بزعمهم أبراراً كالأطفال وأطهاراً كالملائكة! ولكن الأعجب في أمر هذا الحاج أنه تاجر وليس له متجر نراه، وغنى وليس له مورد نعرفه. يقضي عامه من الحجة إلى الحجة وهو فارغ البال من هموم العيش، مستريح البدن من مؤونة العمل، يتنقل بالنهار في المدن وبين الناس، ويتقلب بالليل في المواخير وبين الندامى، حتى إذا اقترب ميقات الحج، وهفت النفوس المؤمنة إلى مشرق الدين ومهبط الوحي، فطم نفسه عن رضاع الكأس، وأصم إذنه عن نداء المنكر، وأخذ يعد الجواز والجهاز لأداء هذه الفريضة. وقد لاحظ مخالطوه أن موسم الفيضان في رزقه يبدأ بعد رجوعه من الحجاز، فيبسط أنامله العشر بأوراق النقد، يولم بها الولائم، ويقدم منها الهدايا، ويدرك عليها اللذائذ؛ والمعروف أن الزكاة هي التي تبارك المال وتنميه لا الحج، وأن العمل هو الذي يجلب الرزق ويبقيه لا التبطر؛ ولكن هذا الرجل لغز لا يحل، وسر لا يدرك! فابتسم أحد الحضور وقال: وماذا عندك لي إذا كشفت المخبوء وشرحت الغامض؟ فقال له الشيخ: ثمن القهوة وأزيدك طلباً آخر. فقال الرجل إن حال

ص: 1

الحاج إبراهيم كحال كثير من خاصة الحجاج، يذهبون إلى مكة محرمين، ويعودون منها مجرمين! ألم تلاحظ وأنت من جيرة هذا الحاج إنه يجلب من الحجاز مقادير كبيرة من التمر والحلوى على خلاف ما جرت به العادة؟ قال الشيخ: بلى، وما السر في ذلك؟ قال: السر إنك إذا شققت تمرة من يابس التمر، أو فتحت علبة من علب الحلوى، وجدت فيها الكنز الذي ينفق منه طول العام. وهذا الكنز قبل أن تسألني عنه نوع من الحشيش المزمزم المبارك مما يجلبه أتقياء الحجاج من منابت آسية العجيبة، إلى أرض الحجاز المقدسة الحبيبة! فصحنا جميعاً دهشين: والجمرك؟ فعرض الرجل ابتسامة وقال: صلوا على النبي يا جماعة! والله لو كان على حدودنا تفتيش، لما دخل مصر أفيون ولا حشيش!

أحمد حسن الزيات

الميثاق العالي لحماية حقوق الإنسان

للأستاذ عمر حليق

تعتقد لايك سكسس ومعها بعض ألسنة الرأي العام الدولي أن أبرز عمل قامت به الجمعية العمومية لهيئة الأمم في اجتماع باريس هو موافقتها على الميثاق العالمي لحماية حقوق الإنسان.

ولو أننا تناسينا مؤقتاً فقدان السلطة العملية التي ما فتئت هيئة الأمم المتحدة تسعى لتحقيقها، واتخذنا الناحية النظرية مقياساً لهذا الميثاق - لتبين لنا خطورة هذه الخطوة التاريخية التي سجلت فيها الأمم المتحدة - نظرياً على الأقل - حمايتها للفرد أيان كان وضد أي كان - ضد الدولة الغاشمة، وضد الأنظمة الظالمة، وضد النظرة القومية الضيقة التي تحاول أن تنال من حقوق الفرد باسم الصالح القومي فإذا هي تعصف بأهم دعائم القومية الحقة وهي حرية الفرد وحقوقه.

ولا غرابة إذن أن ينفرد بالتصويت ضد هذا الميثاق ممثلو دول أوربا الشرقية الذين يفرضون أنفسهم على الشعب بقوة الحديد والنار؛ ودولة اتحاد جنوب أفريقيا حيث تحول القومية العنصرية الضيقة دون المساواة في الحقوق بين السكان الأوربيين وهم قلة، والسكان الوطنيين الأفريقيين وهم كثرة. وقد صوتت كذلك ضد الميثاق المملكة السعودية

ص: 2

لعدة أسباب كلها مستمدة من طبيعة النظام المحافظ الذي يعيش عليه المجتمع السعودي.

وقد احتاط واضعو الميثاق خلال نقاش دام عامين ونصف العام لتدعيم الميثاق بدعائم عملية فأوصوا بإنشاء محكمة دولية للنظر في شكاوى الأفراد ضد الذين يعتدون على حقوقهم سواء كان المعتدون الدول التي يعيشون في ظلها أم دول أجنبية كما هو الحال في المستعمرات والمحميات. وفي الميثاق - ميثاق حقوق الإنسان - نص صريح يعطي الأفراد في المستعمرات والمحميات والمنتدبات في سائر أنحاء المعمورة دون تفرقة في اللون أو العنصر أو المذهب، الحق في رفع مظالمهم إلى المحكمة الدولية إذا وجدوا أن الدول الحاكمة جائرة على حقوقهم الشخصية منتهكة لأسسها ظاهراً أو باطناً. والواقع أن الميثاق الجديد يكرر كثيراً الحقوق التي نصت عليها الدساتير الحرة القديمة والمعاصرة، ولكن في هذا الميثاق العالمي ناحية مستحدثة مستمدة من التطور الذي ألم بالتفكير المعاصر، هذه الناحية هي حماية حقوق الفرد الاقتصادية بالإضافة إلى حماية حقوقه السياسية.

هذه الحقوق الاقتصادية تقر بأن الإنسان خلق حراً له من الحقوق ما لجميع إخوانه في الإنسانية لا يحول بينه وبين هذه المساواة لون أو عنصر أو محتد أو مذهب أو عقيدة فكرية، وأن له مساواة مطلقة في الإمكانيات الاقتصادية يرعاها له القانون ويثبتها له بمجرد كونه إنساناً يعيش. والميثاق الجديد لا يحاول أن يتخذ من الفرد مادة ليصنع منها دولة قوية أو حكومة مطلقة السيادة حرة التصرف في شؤونه سواء كان التصرف متمشياً مع حرية الفرد غير ماس بحقوقه أم كان مخالفا لها كما هو الحال في الدول الدكتاتورية.

الميثاق الجديد إذن لا يتخذ الإنسان مادة تبنى بها الدولة، بل يعترف للفرد بحرية الرأي والتفكير والتعبير تحت أي نظام وفي وجه أي سلطة. والميثاق يتخطى حدود الدولة إلى مرجع دولي أعلى، أحكامه وقراراته تقيد الأمم المتحدة بالتزامات قانونية وأدبية وترغمها على رفع الضيم وإزالة المظلمة. وتدرس لايك سكسس الآن الخطوات العملية لإنشاء هذه المحكمة العليا بعد أن تقر برلمانات الدول المشتركة في هيئة الأمم حقوق الإنسان هذا ليصبح فرعاً من القانون الدولي له سلطة راسخة في أسس النظام العالمي. قلت أن الأمم المتحدة في الجمعية العمومية بباريس وافقت على هذا الميثاق باستثناء روسيا وحلفائها من

ص: 3

دول أوربا الشرقية، وباستثناء اتحاد جنوب أفريقيا والمملكة السعودية العربية التي قال مندوبها السيد جميل البارودي أن التقاليد ونظام الحكم القائم في نجد والحجاز يخالف بعض المواد التي نص عليها ميثاق حقوق الإنسان هذا فيما يتعلق بسلطة الحكومة وبعض السلطات المذهبية والأنظمة الاجتماعية.

أما معارضة السوفيات وحلفائهم فكانت تستند إلى نقطتين في الفلسفة الماركسية.

فالميثاق العالمي الجديد يعترف للفرد بالحرية الاقتصادية بمعنى أن لكل إنسان الحق في امتلاك أسباب الرزق ووسائله والسعي لتنميتها بشتى الطرق المشروعة دون أن يتقيد بالتزامات الاقتصاد الموجه الذي تدعو وتعمل له الشيوعية عملاً بالمبدأ الماركسي القائل (من كل حسب طاقته، إلى كل حسب حاجته). ولذلك فأن روسيا السوفيتية وحلفاءها الشيوعيين وجدوا في هذه الحرية الاقتصادية التي نص عليها الميثاق مخالفة للمبدأ الشيوعي فرفضوا الأخذ بها.

ونقطة المعارضة السوفيتية الثانية هي نص الميثاق على أن للفرد الحق في رفع مظالمه ضد الدولة حين تعتدي على حقوقه وتنتهكها إلى محكمة عالمية ستنشأ لهذه الغاية كما أسلفت. وقد احتج الروس بأن في هذا التخطي - تخطي الفرد سلطة الدولة إلى سلطة عالمية - تعدياً على سيادة الدولة، وهذا ما لا يرضى به الروس والغريب في منطق السوفيات هذا إنه يخالف الهدف الرئيسي للعقيدة الماركسية الذي يسعى لإزالة الدولة كنظام اجتماعي بعد أن نتحقق سلطة الطبقات العاملة (البروليتارية

وقد رد مندوب الفليبين الجنرال رومولو على هذه المعارضة الروسية قائلاً أن الميثاق ينص في مقدمته على إنه ميزان العدالة لجميع الشعوب في جميع الأمصار، فإذا أخطرت دولة في مؤتنف الزمن إنها تتنازل عن بعض اوجه سيادتها لتحقق نظاماً عالمياً جديداً يدين بمبادئ إنسانية راسخة لصالح الإنسانية جمعاء، فلا بأس من هذا التنازل. وألا فلماذا تحاول الأمم أن تحل مشاكلها ومشاكل السلم والحرب والرخاء عن طريق التعاون والتكالف الدولي؟

هذا الميثاق الجديد الذي نحن بصدده هو وليد مناقشات - بعضها بلغ منتهى الحدة - استمرت عامين ونصف العام لعب فيها الدكتور شارل مالك مندوب لبنان في هيئة الأمم

ص: 4

ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي دوراً رئيسياً اعترف به وقدره مندوبو الأمم المتحدة في عبارات التقريظ التي أعقبت مرور الميثاق في الجمعية العمومية في جلساتها الختامية بقصر شايو بباريس. فقد كان الدكتور مالك مقرراً للجنة التي وضعت الميثاق، وقد صاغ كثيراً من مواده في بلاغة وحكمة استدعت الفخر والإعجاب. لأن الدور الذي قام به المندوب العربي دل على الكفاية الكامنة في الشعوب الصغيرة إذا أعطيت الفرصة وتوفرت لها الرعاية قامت بخدمات فريدة.

وبعد. إنه ميثاق حقوق الإنسان لا يزال حبراً على ورق. ترى هل يقدر له أن يلعب الدور الذي لعبه في تطور الحرية الفردية (الماجناكارتا) وتعاليم الثورة الفرنسية؟

الجواب في مدى التعاون الذي سيسود العلاقات الدولية في السنين القادمة، ومدى رسوخ الاستقرار في عالم مضطرب.

(نيويورك)

عمر حليق

ص: 5

‌الفيلسوف القتيل:

شهاب الدين السهروردي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

شخصية أضفي عليها مصيرها المحزن كثيراً من الخيالات. فمن معجب يدافع عنها ويضيف إلى محاسنها، ومن ناقم يحقرها ويزيد في مثالبها. وقد أختلف مؤرخوه حتى في اسمه؛ فقال بعضهم: هو أحمد، وقيل كنيته اسمه، وهي أبو الفتوح، وذكر ابن أبي أصيبعة أن اسمه عمر، وارتضى ابن خلكان أن اسمه يحيى ابن حبش الملقب بالمؤيد بالملكوت.

ولد في سهرورد، وهي بليدة في العراق المجمي، حول سنة 549، ودرس الفلسفة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المرافة، من أعمال أذربيجان، حتى برع فيهما. ومجد الدين الجيلي هذا هو شيخ فخر الدين الرازي، عليه تخرج وبعلمه انتفع، وكان بارعاً في فنونه. وقد دارت بين تلميذيه: الفخر والشهاب مباحثات كثيرة. ودرس السهروردي إلى جانب الفلسفة علم الكلام والمنطق. ويقال إنه كان يعاني السيمياء وأبواب النيرنجيات، وهي أشياء تشبه السحر لا حقيقة لها، وأوردوا له في ذلك قصصاً.

والظاهر أنه كان على درجة عالية من الذكاء وفصاحة العبارة والمقدرة الجدلية؛ كان الشيخ فخر الدين المارديني يقول عنه: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه! لم أجد أحداً مثله في زماني إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه أن يكون ذلك لتلفه. ويبدو أن نظرة المارديني إليه كانت صادقة؛ فأن اندفاعه في إعلان آرائه كان سبب رداه، فقد مضى إلى حلب، وأعلن آراءه بها وكان ذلك سنة 575، واستمال خلقاً كثيراً تبعوه. ولست ادري إن كان أتباعهم إياه أتباعاً لآرائه الفلسفية، أو أتباعاً لسيميائه ونيرنجياته إذا صح علمه بهما. واتصل بالظاهر غازي بن صلاح الدين. وهنا يختلف المؤرخون؛ فمن قائل: إنه عندما اتصل بالظاهر أعجبه كلامه، ومال إليه، وأحضر أكابر المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث، فناظره العلماء، فظهر عليهم بعبارته، فحسن موقعه عند الظاهر وقربه، فازداد تشنيع العلماء عليه، وكتبوا محاضرة بكفره وأرسلوها إلى دمشق إلى صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فانه يفسد الملك الظاهر، وكذلك إن أطلق، فانه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين

ص: 6

إلى ولده كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل إلى أن يطلق أو يبقى بوجه من الوجوه. ومن قائل: إنه عندما حضر إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله، بسبب اعتقاده، وما ظهر لهم من سوء مذهبه، وكان أشد الجماعة عليه الشيخان: زين الدين ومجد الدين ابنا حميد فحبسه الظاهر ثم قتله بإشارة والده.

ويختلفون في طريقة قتله، فقال بعضهم: قتل خنقاً، وقال آخرون: إنه اختار أن يترك في مكان منفرد، ويمنع من الطعام والشراب، حتى يلقى الله تعالى، ففعل به ذلك. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب أياماً. والذي أرجحه من ذلك رواية ابن شداد من أن الظاهر قبض عليه لما بلغه من خبره، ثم عرف السلطان به، فأمر بقتله فقتله، وكان ذلك سنة 587 وسنه نحو ستة وثلاثين عاماً.

لم اقرأ كتب الشهاب كلها حتى أستطيع تحديد آرائه المخالفة لآراء الجمهور. ويبدو أن اندفاعه في إبداء أفكاره من غير تقييد لها كان سبب هذا القتل؛ فقد قال له العلماء: إنك قلت في بعض تصانيفك: إن الله قادر على إن يرسل نبياً، وهذا مستحيل. فقال: ما وجه استحالته؟ فأن الله القادر لا يمتنع عليه شيء. فلم يفرق لسائليه بين الممكن في حد ذاته، والممكن الذي أخبر القرآن بأنه لن يقع.

واتهموه بانحلال العقيدة والتعطيل، واعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين. ولكن ما أثر عنه ينفي ذلك، فقد رووا من دعائه قوله: اللهم يا قيام الوجود، وفائض الجود، ومنزل البركات، ومنتهى الرغبات، منور النور، ومدبر الأمور، واهب حياة العالمين، أمددنا بنورك، ووفقنا لمرضاتك، وألهمنا رشدك، وطهرنا من رجس الظلمات، وخلصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومعاينة أضوائك ومجاورة مقربيك، وموافقة سكان ملكوتك، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين، والأنبياء والمرسلين). واثر عنه مناجاة جاء فيها: (إلهي وإله جميع الموجودات: من المعقولات والمحسوسات، يا واهب النفوس والعقول، ومخترع ماهيات الأركان والأصول، يا واجب الوجود، ويا فائض الجود، يا جاعل القلوب والأرواح، ويا فاعل الصور والأشباح، يا نور الأنوار، ومدبر كل دوار، أنت الأول الذي لا أول قبلك، وأنت الآخر الذي لا آخر بعدك. الملائكة عاجزون عن إدراك جلالك، والناس قاصرون عن معرفة كمال ذاتك. اللهم خلصتا عن العلائق الدنية

ص: 7

الجسمانية، ونجنا من العوائق الردية الظلمانية. أرسل على أرواحنا شوارق أنوارك، وأفض على نفوسنا بوارق آثارك. العقل قطرة من قطرات بحار ملكوتك، والنفس شعلة من شعلات نار جبروتك. ذاتك ذات فياضة، تفيض منها جواهر روحانية، لا متمكنة ولا متحيرة ولا متصلة ولا منفصلة، مبراة عن الأحياز والأين، معراة عن الوصل والبين، فسبحان الذي لا تدركه الإبصار، ولا تمثله الأفكار. لك الحمد والثناء، ومنك المنع والعطاء، وبك الجود والبقاء، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون).

والظاهر أن نسبته إلى التعطيل جاءت من إنه كان يرى رأي المعتزلة الذين لا يرون الصفات شيئاً خارجاً عن الذات، وهو يقول عن ذلك في كتابه: هياكل النور: (والصفة لا تجب بذاتها وإلا ما احتاجت إلى محلها، فواجب الوجود ليس محلاً للصفات ولا يجوز إن يوجد في ذاته صفات. فإن الشيء الواحد لا يتأثر عن ذاته. ونحن إذا تصرفنا في عقولنا يكون الفاعل شيئاً والقابل شيئاً آخر. فواجب الوجود واحد من جميع الوجوه؛ ولكن ليس معنى هذا نفي الصفات عن واجب الوجود. وقد اثبت لله هذه الصفات؛ إذ قال في هياكل النور: (وله من كل متقابلين أشرفهما، وكيف يعطى الكمال من هو قاصر؛ وكل ما يوجب تكثيراً من تجسيم أو تركيب ممتنع عليه تعالى، والحق لا ضد ولا ند له، ولا ينتسب إلى ابن، وله الجلال الأعلى، والكمال الأتم، والشرف الأعظم، والنور الأشد: ليس بعرض فيحتاج إلى حامل يقوم به وجوده، ولا بجوهر فيشارك الجواهر في حقيقة الجوهرية، ويفتقر إلى مخصص دلت عليه الأجسام باختلاف هيئاتها. فلولا مخصصها لما اختلفت أشكالها ومقاديرها وصورها وأعراضها وحركاتها. وما أوردناه من مناجاته ودعائه، وما قدم به كتابه هياكل النور يدل على أنه يثبت لله صفات الكمال الأسمى. . . . .

والشهاب يسير في إثبات وجود واجب الوجود، وما هو عليه من كمال على طريق الفلاسفة الذين يعتمدون على الدليل العقلي؛ كما ترى ذلك في كتابه المشارع والمطارحات (ص127) وكتابه هياكل النور.

لست ادري كيف نسبوه إلى الإلحاد وما أوردناه من كلامه لا يدل على الحاد ولا زندقة؟ وكيف نحكم بالإلحاد على رجل يقول: (فوحد الله، وأنت بتعظيمه ملآن، وأذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو كان في الجود شمسان، لانطمست الأركان)؛ ويثبت وحدانية

ص: 8

واجب الوجود بقوله في هياكل النور (ص5): (لا يصح أن يكون شيئان هما واجباً الوجود لأنهما لو اشتركا في جوب الوجود فلا بد من فارق بينهما، فيتوقف وجود أحدهما أو كليهما على الفارق، ولا يمكن أن يكون شيئان لا فارق بينهما فانهما يكونان واحداً) ويقول (ص12): (ويجب على المستبصر أن يعتقد صحة النبوات)؛ ويرى أرواحنا نوراً حادثاً خلقه الله إذ يقول (ص6 من هياكل النور): (ونفوسنا الناطقة أنوار حادثة ولها مرجح ولا توحدها الأجسام، إذ لا يوجد الشيء وما هو اشرف منه، فمرجحه أيضاً نور مجرد، فأن كان واجب الوجود فهو المراد، وإن أمكن فينتهي إلى واجب الوجود الحي القيوم. وكان يدعو واجب الوجود نور الأنوار، ولست أرى في ذلك اكثر مما أجده في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض).

أما مذهبه في التصوف فمذهب الإشراقيين الذين يرون المعرفة إنما تنال بإشراق منه تعالى على قلوب مريديه، وله في ذلك كتاب حكمة الإشراق، ويحدثنا عن ذلك بقوله في الهيكل الثامن:(النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذه القوى البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية، وضعف سلطان القوي بتقليل الطعام والشراب، وتكثير السهر، تخلص النفس أحياناً إلى عالم القدس، وتتلقى منه المعارف والمغيبات، في نومها ويقظتها، كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نقش. . . فيشاهد (المريد) صوراً عجيبة تناجيه، أو يسمع كلمات منظومة، أو يتجلى الأمر الغيبي)؛ ومن اجل ذلك يرى أجسادنا المظلمة لا تستطيع أن تلج ملكوت السماوات الذي تصل إليه الروح التي هي نور من أنواره تعالى، منه مشرقها وإليه مغربها، وهي لذلك تحن إلى مصدرها. وله في ذلك شعر قاله على مثال أبيات ابن سينا العينية بدأه بقوله:

خلعت هياكلها بجرعاء الحمى

وصبت لمغناها القديم تشوقاً

وله أيضاً شعر على مذهب المتصوفة الذين يشتاقون الوصول إلى الحق، والاتصال بالنور الأسمى، كقوله:

أبداً نحن إليكم الأرواح

ووصالكم ريحانها والراح

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم

والى لذيذ لقائكم ترتاح

وارحمتا للعاشقين تكلفوا

ستر المحبة والهوى فضاح

ص: 9

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم

وكذا دماء العاشقين تباح

وإذا همو كتموا تحدث عنهمو

عند الوشاة المدمع السفاح

وكان الشهاب يؤمن بكرامات الأولياء التي قد يكون منها أن تخضع العناصر لإرادة الصوفي، وقد قال عن ذلك في كتاب الهياكل (ص12). (وقد تطرب النفوس المتآلهة طرباً قدسياً، فيشرق عليها نور الحق الأول تعالى، فتخضع لها العنصريات، ولما رأيت الحديدة الحامية تتشبه بالنار بمجاورتها، وتفعل فعلها، فلا تتعجب إن أشرقت النفس، واستضاءت بنور الله تعالى، فأطاعتها الأكوان إطاعتها للقديسين).

فالشهاب - كما يبدو لي - رجل صوفي، جمع إلى ثقافته الدينية، وعقيدته الإسلامية، ثقافته بفلسفة الإغريق وحكمتهم، من غير أن يخرجه ذلك عن حدود الإسلام، ومن أجل هذا أرى صلاح الدين قد تسرع بإصدار الحكم عليه بالقتل، وأن العلماء الذين أفتوا بذلك، فتبعهم صلاح الدين - كانوا مخطئين؛ فليس ما خالف مذهب أهل السنة يعد كفراً وزندقة. ويقال: إن الملك الظاهر ندم على قتله، وانتقم من الذين أفتوا بإباحة دمه، وقبض على جماعة منهم واعتقلهم.

هذا، ولا بد أن قد كان لهذا القتل أثره في إخفات صوت الفلسفة، وخنق كل صوت لا يدين بمذهب أهل السنة.

وقد اختلف معاصروه في تقديره وفي حياته وبعد مماته؛ فهذا عبد اللطيف البغدادي يقول عندما دخل الموصل: وسمعت الناس يهرجون في حديث الشهاب السهروردي المتفلسف، ويعتقدون إنه قد فاق الأولين والآخرين، وإن تصانيفه فوق تصانيف القدماء، فهممت لقصده، ثم أدركني التوفيق، فطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه، وكان أيضاً معتقداً فيها، فوقعت على التلويحات واللمحة والمعارج، فصادفت فيها ما يدل على جهل الزمان، ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها، هي خير من كلام هذا الالوك.

أما سيف الدين الآمدي فيراه كثير العلم قليل العقل، ويروى أن الشهاب قال له: لا بد أن أملك الأرض، فقال الأمدي: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقال الأمدي لعل هذا يكون اشتهاء العلم أو ما يناسب هذا. ولكن الامدي لم يرجع عما وقع في نفسه. وربما كان ذلك منسوباً إلى الأمدي كذباً، لأنا نستبعد ذلك على رجل مثل

ص: 10

السهروردي أو كان ذلك صادراً عن رأيه في كرامات الأولياء، وقد سبق لنا عرضه.

أما بعد موته، فقد كتب كاتب على قبره بعد دفنه بظاهر حلب:

قد كان صاحب هذا القبر جوهرة

مكنونة، قد براها الله من شرف

فلم تكن تعرف الأيام قيمتها

فردها غيرةُ منه إلى الصدف

قال ابن خلكان: وأقمت بحلب سنين، للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمره، وكل واحد يتكلم على قد هواه، فمنهم من بنسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح، وإنه من أهل الكرامات؛ وأكثر الناس على أنه كان ملحداً لا يعتقد شيئاً.

وللشهاب من المؤلفات كتاب التنقيحات في أصول الفقه، وكتاب الألواح العمادية، وهو عجالة في المبدأ والمعاد على رأي الإلهيين، وكتاب التلويحات في ثلاثة علوم: المنطق، والطبيعي، والإلهي، وكتاب المقاومات، وهو لواحق على كتاب التلويحات، وكتاب هياكل النور، وقد شرحه جلال الدين محمد بن اسعد الدواني، وكتاب علم الهدى وأسرار الاهتداء، وكتاب اللمحات وكتاب المعارج، وكتاب حكمة الإشراق، وهو متن مشهور، شرحه الأكابر - كما قال في كشف الظنون - ومنهم قطب الدين الشيرازي، وكتاب المشارع والمصارحات. وهي كتب في المنطق والفلسفة والتصوف وله رسالة العزبة الغريبة على مثال رسالة الطير لابن سينا، ورسالة حي بن يقظان له كذلك، وقد أشار فيها إلى حديث النفس على اصطلاح الحكماء.

ونختم هذه الترجمة بذكر ما وصفه به بعضهم من إنه كان زري الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوباً ولا جسماً ولا يداً، ولا يقص ظفراً ولا شعراً، وكان القمل يتناثر على وجهه، ويسعى على ثيابه، وكل من يراه يهرب منه. وعندي أن ذلك من وضع شانئيه، ولو كان كما وصفوا ما خشي صلاح الدين منه فتنة أن يتبعه أحد.

وبعد فارجوا أن أوفق إلى دراسة كتب هذا الرجل، فعساي أدرك سر قتله، لأني أرجح - إلى اليوم - إنه قتل مظلوماً.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 11

‌خواطر سياسية وأدبية

للدكتور السيد محمد يوسف الهندي

إن للأقوام أمزجة وطباعاً كما أن للأفراد ميزات وخصائص. وقد عرفت حينما كنت بالهند أن مما يمتاز به الشعب المصري شدة التأثر بالحاضر، وانشغال القلب بالحال إلى حد تكييف الماضي به وعدم المبالاة بالمستقبل في بعض الأحيان، وربما اتخذت هذه الميزة مظهرين لها اعني قوة الانفجار والوثوب لمكافحة الشر المستفحل الماثل أمام العين، والركون إلى كل قليل أو كثير يبشر بالخير ولو إلى وقت ما.

كنت أعرف هذا على طريق الإجمال قبل ورودي مصر، ثم صادف أن ألقيت عصا التيار بشط وادي النيل وقضيتها معروضة على مجلس الأمن، فحرصت على أن أتتبع الحوادث والتطورات مع آراء الرجال واتجاهات الأحزاب إزاءها، كما اقرأها على صفحات الجرائد وأشاهدها بعيني في الشوارع والأندية. فبينما أنا معجب كل الإعجاب بروح العداء للاستعمار الأجنبي السياسي (أخص بالذكر (السياسي) لأنني مع الأسف لم ألمس نفس تلك الروح في ميادين الاقتصاد والتقاليد الاجتماعية ومنهاج الفكر) التي أيقنت إنها عمت الشعب كافة، إذا بسيل من الكلمات تتدفق على صفحات الجرائد داعية إلى خطة التقرب من الدب نكاية بالأسد على اثر تأييد روسيا لمطلب مصر الخاص بالجلاء (دون اتحاد السودان معها)، فأسهب المحررون والكتاب في التنويه بصداقة روسيا وضرورة استيراد القمح منها وإنشاء العلاقات الاقتصادية والتجارية معها هي ومن تسايرها من الأمم مثل بولندا دون الأمم الانجلوسكسونية.

وقفت حائراً أمام هذا الموقف المفاجئ أفكر في نفسي في مدى جدوى مثل هذه الحماسة البالغة في الاعتراف بالجميل وتقديم الشكر عليه في ميدان السياسة الدولية في القرن العشرين، ولكن الأمر كان بالطبع موكولاً إلى الأيام أن تثبت هل ستستقر سياسة العرب على هذا التحول الجديد أم لا؟

ثم حدث أن رأيت الشبان يثورون على البن ويثأرون من أصله (البرازيلي)، وما لبثت ثائرتهم أن سكنت بمجرد محو اسم البرازيل من واجهة المحل مع بقاء جميع الأوضاع كما هي حسبما أعلم، كما انهم يقتنعون بلصق لافتات (إنقاذ فلسطين) على أبواب المحلات

ص: 13

الكبرى بشارع فؤاد وهم يعلمون حق العلم أن أصحابها اليهود هم في الحقيقة عماد الصهيونية في الشرقين الأدنى والأوسط، وانهم إنما يستغلون الوطنية والجنسية المصرية بدون أن يشاركوا المصريين في آمالهم أو يواسيهم في آلامهم.

هذا، ومما زادني دهشة أن اتفق زعماء الأحزاب على ركوب سيارة واحدة تطوف بهم حول القنصليات لتأدية واجب الشكر لبعض الدول والشكاية إلى بعضها الآخر، وخطب ود (أو بالأحرى صوت) جميعاً، وربما كانوا مصيبين في خطتهم هذه تظاهراً بإجماع رأيهم واتحاد كلمتهم، ولا سيما إذا هم عجزوا عن الظهور في مظهر أروع من ذلك، ولكن آلمني كثيراً البيان الذي أدلوا به أمام سفير فرنسا. ومن شاء فليراجع (الأهرام) فقد لهجت ألسنتهم بذكر الآمال الجليلة التي كان العرب عقدوها بفرنسا منذ بداية العصر الحديث، ومن بينها الأمل الضائع (لا قدر الله له أن يتحقق) في مزاحمة فرنسا للاستعمار البريطاني في مصر!

أنا واثق بأن كلاً من هؤلاء الزعماء الكرام لا يريد إلا الاستقلال التام لبلاده، ولكن من الصعب أن يجد أحد أي مبرر ولو في اشد الأوقات حرجاً لتوجيه مثل هذه الدعوة إلى دولة قد ذاق العرب في مختلف الجهات ولا يزال إخوانهم في المغرب يذوقون الأمرين من جراء استعمارها، وعلى الأقل فهي الغاية لقصر النظر في الأحوال والظروف الطارئة من يوم إلى يوم

لم يمض إلا وقت قليل حتى كشرت روسيا عن أنيابها، فكانت من اشد الأنصار لتقسيم فلسطين، وبلغ الحال أن بدأ ممثلو العرب وزعماؤهم يستغلون موقف روسيا العدائي لتخويف أمريكا وبريطانيا بعد أن ضيعوا أنفاسهم واتعبوا أقلامهم يستنجدون بصداقتها ضد تينك الدولتين منذ بضعة أشهر فقط.

وأخيراً لم يتمالك عرب فلسطين أن بادروا إلى رفع أعلام أمريكا على بيوتهم والهتاف بحياتها في الميادين والشوارع حينما خيل إليهم أن أمريكا نفضت يدها من مشروع التقسيم. وما من شك أن مثل هذه المظاهرة لا يمكن أن تكون طبيعية، إنما كانت مدبرة من الزعماء الذين تسرعوا في الاعتزاز بأنفسهم والتبشير لشعبهم والتسليم لأمريكا بما يتاجرون به من صداقة العرب.

لا أدري ماذا صنعوا بتلك الأعلام في اليوم التالي حينما صرح الرئيس ترومان بأن العرب

ص: 14

أو زعماءهم جاوزوا الحزم في حمل موقف أمريكا الجديد على التبرؤ من فكرة التقسيم. لا ادري ماذا صنعوا بتلك الأعلام؟ هل نكست ومزقت وحرقت، أو ادخرت لمناسبات أخرى في المستقبل؟ وعلى كل حال فقد تبين أن السياسة القصيرة المدى التي تعيش بها من اليد إلى الفم ربما تؤدي إلى مهازل وفضائح ومآسي، وإنما مرد ذلك إلى أن الزعامة لا تزال بأيدي رجال لا يتعدى فكرهم نطاق التحين للفرص، فهم يتهيبون ويماطلون في كل خطوة إيجابية جريئة ترمي إلى قلب الأوضاع وخلق الظروف المواتية لقضيتهم، وذلك أول الوهن.

إنما سردت ما سردت من تأثراتي لأهم ما وقع في العالم العربي السياسي أثناء البضعة أشهر الماضية لأخلص منها إلى الكلام عن أهم حادث في العالم الأدبي، أعني ظهور (الفتنة الكبرى - عثمان بن عفان) من تصنيف الدكتور طه حسين. وقد أتفق لي أن قرأت انتقاد الأستاذ محمود محمد شاكر لهذا الكتاب قبل أن تتاح لي الفرصة لمطالعة الكتاب نفسه.

نعم، قرأت انتقاد الأستاذ على صفحات (الرسالة)، فعجبت لما بذل من جهد في سبيل إقامة الحجج والبراهين على عداء اليهود للمسلمين والإسلام. وما أغناه عن ذلك فإنها حقيقة أظهر من الشمس لكل ذي عينين نبه عليها القرآن وأكدها النبي وصدقتها التجارب المتكررة، إنما جبن المسلمون فتعمدوا نسيانها والإعراض عن الشهادة بها حينما ذهبت ريحهم فأصيبوا بمركب النقص في تفكيرهم حتى بدءوا يلتمسون الرقي والتقدم في محاكاة الأمم الغربية المتحكمة فيهم، فأقاموا حياتهم السياسية الحديثة على أساس النظريات الأجنبية غير الإسلامية من القومية والوطنية، وأرادوا أن يستمدوا القوة من الاشتراك في الماء والهواء وبعض الأغراض المادية التي هي الأصل عند الكفار، والمشركين الذين لا يعيشون إلا لها. أما المسلم، فإنما يعيش بها لتحقيق المبادئ السامية والقدور العالية والأخلاق الفاضلة ومقاييس الصواب والخطأ والحلال والحرام التي هي المقومات الجوهرية لكل حلف دائم ليتتبع ولاء صادقاً، والتأمين على الغش وطغيان طائفة على أخرى، ولكن أتى على المسلمين زمن سولت لهم أنفسهم فيه أن يخجلوا ويتبرءوا من كل ما ينم عن فكرة دينية، حتى ولو كان من المبادئ المقررة والحقائق التاريخية الثابتة لكي

ص: 15

يتسنى لهم الحصول على لقب (المستنيرين) من عدوهم الذي بهرهم بقوته وشوكته.

قد فعل المسلمون ذلك وظنوا ولا يزال كثير منهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ولذلك استبشرت بخير كثير حينما قرأت مقال الأستاذ محمود محمد شاكر يحدثنا فيه عن العلاقات بين المسلمين واليهود عسى أن تسفر محنة فلسطين عن نعمة عظمى، إلا وهي الانقلاب في للفكر السياسي عند العرب بحيث يتأكدون أن التسامح لا مقام له أي وزن إلا إذا من قوي يقظ شديد المراس مستكمل المدة، مستقل بنفسه، قادر على قلب ظهر المجن عند ظهور أولى بوادر الشر، ولن يتأتى للمسلمين مثل هذه القوة إلا إذا كانت حياتهم منسقة على أسس دينية بحتة، وما من شك في أن كل من يتأمل هذه الحقيقة لا بد أن تختلج بين يديه الحركات والمنظمات السياسية الحالية للعرب بأسرها بما فيها الجامعة العربية

وبمناسبة ذكر الجامعة العربية أقول: أو ليس من العجب أن يتنكب ويتنصل المؤتمر الثقافي العربي من عرض الإسلام كعامل لم يزل ولا يزال، على الرغم من أهواء المستنيرين والمتقدمين، يلعب دوراً هاماً في حياة معظم أفراد الشعب العربي طيلة القرون الثالثة عشرة الماضية؟

ومما يزيدني عجباً أن أصحاب المؤتمر اجترءوا على ارتكاب مثل هذا الخطأ الفني في حين قد بدأ مفكرو الغرب يعترفون علنا بأثر الدين بتكوين النفسية وتزكية العقل وتوجيه العواطف التي هي مبدأ جميع الأعمال الإنسانية. أفلا يستحق الدين أن يلقى عناية من الباحثين العرب ولو من الناحية الفنية؟ ولو فرض جدلاً إنه يحق للزعماء أن يتناسوا الدين لأغراض سياسية في الحال الحاضر فليت شعري من أين استمدوا سلطتهم على الماضي حتى يقترحوا تنشئة الجيل الجديد على ذكرى أمجاد العرب بدون أن يوفوا الإسلام حقه؟ ما أجدرهم أن يدركوا أن التعصب للوطن أو الجنس (وقد بكى شعراء العرب قديماً ضياع الأنساب واختلاط الأحساب) ربما يكون أشنع وأضر بالإنسانية من التعصب الديني! فهل يحتاج أحد إلى التذكير بأن العرب لم يشيدوا ما شادوا من صروح المجد، لأنهم كانوا ينطقون اللغة العربية (وحاشا الله أن أنكر لتلك اللغة، لغة الإسلام - وقاها الله شر اللهجات - فضلها) أو لأنهم تأثروا بالفكر الروماني أو تحضروا بحضارة البحر المتوسط؟ إنما شادوا ما شادوا وبنوا ما بنوا لأنهم كانوا مسلمين قبل ومسلمين بعد، ولن يأتوا بمثل ذلك

ص: 16

أبداً إلا إذا أخلصوا للإسلام وجهروا به لا في العبادة فحسب، بل وفي تنظيم حياتهم الاجتماعية والسياسية، وتنسيق شؤونهم المادية والاقتصادية جميعاً.

أما الخطة التي بسطها أخيراً نبيه أمين فارس في كتابه (العرب الأحياء) - وهي مع الأسف الخطة التي تسير عليها الحياة السياسية في الممالك العربية - فهي أخطر على الإسلام والمسلمين من شبح الشيوعية التي لا يتوانى ولاة الأمر في مكافحتها باستغلال العاطفة الدينية بدون أن يصرفوا همهم إلى تنفيذ مبادئ الإسلام الاقتصادية مثل فرض الزكاة وما إلى ذلك.

نعم، إن الخطة التي دعا إليها نبيه أمين فارس، والتي تهدف إلى جعل محمد صلى الله عليه وسلم بطلاً من أبطال القومية (معاذ الله من ذلك) - وبالفعل وصف محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة في الرسالة التي تفضل بها أحد رؤساء العرب بمناسبة عيد الميلاد - ليست إلا ستراً لضعف المسلمين، ومكيدة لحل قواهم، وضربة قاضية على كيانهم، إن محمداً لم يجمع كلمة العرب فحسب، بل جمع كلمة العرب والعجم جميعاً، ثم كيف يفوت أحداً أن يتساءل: على أي شيء جمع كلمتهم؟ العروبة أو الإسلام؟ أقسم بالله أني لم أتألم من قراءة أي كتاب حتى ما كتبه المستشرقون من الطعن في الإسلام بقدر ما تألمت من قراءة هذا الكتيب الذي أعده أحق بالمصادرة من جميع ما تصدر الأحكام بمصادرته من يوم إلى يوم، ولكن ماذا نصنع إذا تخلى الأزهر الشريف عن وظيفته فصار يسير في موكب الساسة وولاة الأمور دون أن يسمو إلى توجيههم وإرشادهم لوجه الله، فهل يصدر الفتوى ضد الشيوعية وضد بيع الأراضي ليهود فلسطين ليساعد الحكومة في بعض أعمالها ويسكت عن أشياء ليتجنب معارضة الساسة وعرقلة الحكومات (حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء)، وليس هذا شأن أهم وأقدم مؤسسة للعلوم والثقافة الإسلامية التي لا تصور فصل الدين عن الدنيا بأي حال من الأحوال. أفلا يجدر بالأزهر والمنتسبين إليه أن يترفعوا عن الحزبية والإقليمية اللتين ربما سببتا إقفال أبوابه، ثم يشنوا حملة شعواء على ما يجدونه في الشوارع والأندية والملاهي من العناصر والمظاهر والتقاليد غير الإسلامية في حياة الأمة بأسرها بما فيها السياسة والحكومة والآداب الاجتماعية والأخلاق الفردية؟!

(البقية في العدد القادم)

ص: 17

السيد محمد يوسف الهندي

ص: 18

‌أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وهجرته إلى

‌الديار المصرية

للأستاذ حسني كنعان

- 4 -

خضع الوالي (فاضل باشا) لإرادة عبد الحميد جبار بني عثمان وأغلق مسرح القباني ومنعه عن العمل على كره منه، ولو توانى وقتئذ في تنفيذ الإرادة السنية، لكان طعمة للأسماك في بحر مرمرة مقبرة الأحرار السلبيين. . . ففرح خصومه الذين كان على أيديهم هذا الصغر، وجزع عليه عشاقه وعارفو فضله وهم الأغلبية الساحقة في البلاد، ولكنها إرادة الجبار المجتثة من إرادة الله. فلم يجرؤ أحد على ردها. وما كان علماء دمشق جميعهم راضين عن إقفال هذا المسرح، لأنهم كانوا يرونه مهذباً للأخلاق معواناً على الوعظ والإرشاد، وبث الأخلاق الفاضلة وتجنب الرذيلة، حتى أن شيوخ القباني الذين كانوا ينكرون عليه هذه النزعة في مطلع حياته إضراب المفتي الشيخ محمود حمزة ذي النزعة الصوفية، والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء المنقضين، كانوا لا يتورعون عن حضور مجالسه ومشاهدة رواياته الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية المأخوذة من صور حياة البيئة التي ولد فيها ودرج في أفيائها، لأنهم ما كانوا ليروا فيها من الأمور المحرمة ما يخالف مبادئهم. أما الذين كانوا يناوئونه من أرباب العمائم الذين اتخذوا من هذه (الخرقة) التي تستر رءوسهم الفارغة وسيلة للتخلص من الخدمة العسكرية في ذلك العهد. . وهم ليسو على شيء من العلم، ولقد لاقى القباني من جور هذه الفئة وعثوها وفتنتها وشغبها ما زهده في الحياة وجعله يقيم في منزله معتزلاً الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد. .

ولقد طال اعتزاله الناس والبعد عنهم حتى كادوا ينسونه، وإذا ما فكر مفكر منهم فيه خاف جفوة السلطان وغضبه. . . وكان هؤلاء الخصوم المرتزقون المتكسون الذين طالما فادوا من أعطيات صاحبهم ومنحه ومبراته يغتنمون فرصة جور سلطانه وكلب زمانه فيركبونه بالشغب والإزعاج كلما أبصروه على سبيل المصادفة في طريقهم حتى أنهم كانوا يتبعونه الصبية المأجورين لهذه الغاية فيترسمون خطاه، ويسمعونه من المدائح (والقريديات)

ص: 19

والأهازيج الموضوعة من أجل إغاظته وإزعاجه ما يندى له جبين الفضيلة والأخلاق كقولهم له:

أبو خليل النشواتي

يا مزيف البنات

ارجع لكارك أحسن لك

إرجع لكارك نشواتي

أبو خليل مين قال لك

على الكوميدى مين دلك

ارجع لكارك أحسن لك

إرجع لكارك قباني

أبو خليل القباني

يا مرقص الصبياني

ارجع لكارك أحسن لك

أبو خليل القباني

وكانت هذه الأهازيج تقض مضجعة ومضجع مر يديه، ولكن من ذا الذي يعارض ويدافع عنه وهو مجفو من السلطان والناس في مثل هذه الساعات يظهرون معاداتهم لمثل من يكون هذا شأنه معهم؟

وكان القباني كثيراً ما يبقى شارد النوم موزع الفكر واللب من جراء ما يلقاه إلى أن أخذ يفكر في الخروج من هذا المحيط الضيق الذي ضيقوا عليه فيه واسعاً. وفي ليلة من ليالي الشتاء العابس نبا به مضجعه وند النوم عن مقلتيه لشدة ما عراه من الفكر والهواجس؛ وما أكثر الليالي الطوال التي كان يشرد فيها النوم عن عينيه! وكان قد رنق النوم أجفانه في الفجر فهب بعد ساعتين من هجعته على أثر سماع هاتف خيل إليه إنه يهيب به قائلاً: أيها الراقد المتناوم المؤرق هب من ضجعتك واطرد عنك الهم والحزن، فأن مستقبلاً لامعاً يعد لك وهو ينتظرك في غير هذى البقعة الضيقة. . . قم وأبحث عن غير هذه المواطن التي تدفن فيها العبقريات:. . .

إذا ضاق صدرك من بلاد

ترحل طالباً أرضاً سواها

فإنك واجد أرضاً بأرض

ونفسك لم تجد نفساً سواها

فخف على أثر سماعه صوت الهاتف وجعل يخطر في غرفته ذهاباً وإياباً ويصيح بملء صوته: وجدتها وجدتها. . .

فصاحت به ربة الدار حانقة غاضبة ومن هي التي وجدتها يا رجل. . .؟ كفاك كفاك هراء، لقد أمرضتني والله وأزغت عقلي بهذه الموجات الجنونية التي تواتيك الفينة بعد الفينة لا

ص: 20

نوم ولا راحة ولا استكانة ولا شغل لك إلا بهذه الهواجس والفكر. إن الذي ألقاه منك ويلقاه بنوك الصغار قد يضيق الصدر منه، ويعز الصبر عليه، لا عمل لك ولا شغل إلا هذه المهاترات. ارجع إلى صناعتك الأولى وأرحنا من هذا العناء وخلصنا من شبح الكوبة، قل لي: بالله ما الذي جنيته من الأموال وما الذي اكتنزته من وراء هذه الصناعة صناعة التمثيل؟ إنك والله ما جنيت منها سوى التعب ومعاداة الناس وجور السلطان، وعار الأبد. إنك منذ مزاولتك هذه الصناعة ألبستني ثوب العار، كما جلبت لنفسك ولرهطك مذلة الأبد بهذه (الضربويات) التي نسمعها والتي درجت على ألسن الناس مدرج الأمثال. وهل إنسان في الكون يطيق سماع عبارات كالتي توجه إليك، وفيها التحقير والتشهير، وأنت إلى هذا لا تستطيع أنت وصحبك أن تصنعوا شيئاً، أرأيت أن عبارة:

أبو خليل يا بومة

يا بو اللفه الرومي

أعطيني من ذقنك شعرة

لأصلح ها لبيتوني

لو وجه مثلها إلى أحقر إنسان في العالم أكان يصبر عليها ويرضى هذا الذل؟

وهنا استشاط القباني من الغضب والحنق وصاح بها مجيباً:

على رسلك يا امرأة، وما تضيرني هذه الأهازيج والأقوال، ولو كانت هذه العبارات تضر إنسانا أو تحول دون وصوله إلى غاياته وبلوغ أمنيته، لأضرت بالعظماء وبالنبيين قبلي، لأنهم كانوا يلاقون من عنت الناس وجورهم ما لا يقاس ما لقيته بشيء تجاه ما لقوه، ومع هذا فقد مضوا في عملهم. صابرين مستكينين إلى أن أدوا رسالتهم تامة غير منقوصة، وجنوا ثمار جهودهم بأن خلدوا لهم ولأمتهم أحسن الذكر. فكوني متفائلة يا امرأة. والذي أمله منك التشجيع، وليس كالمرأة الصالحة معوان للرجل. فاستحيت هنا (أم خليل) ولامت نفسها قائلة (وأنا مالي أم علي تندب علي) وهنا نهض القباني المؤرق المتعب المكدود الذهن من فراشه وهو يردد قوله وجدتها والله وجدتها وجدتها. . ثم أمسك بيده قلماً وورقة وكتب بها رسالة إلى صديق له في الإسكندرية يدعى (سعد الله بك حلابو) وهو حمصي الأصل ومن أكبر تجار هذه المدينة الساحلية العظيمة، وله مراكب تجارية تمخر عباب البحر وتنقل البضائع الصادرة والواردة إلى المدن والقرى الساحلية.

يستطلع رأيه في الرسالة بالشخوص إلى الإسكندرية. ولما أطلع حلابو على الرسالة وفهم

ص: 21

فحواها طار فرحاً، وجعل يمر بها على أصدقائه ويزف لهم بشرى شخوص هذا النابع إلى الديار المصرية، وكانت شهرته قد بلغت مسامع الكثيرين من المصريين. ولم تكن فرحة صديقه بالتي تذكر أمام فرحة هؤلاء المشتاقين من هواة الفن الذين يرغبون في أجتلاء طلعة هذا النابع الذي طبقت شهرته الآفاق. وفي الحال أجابه صديقه التاجر الحمصي يزين له المجيء إلى الإسكندرية، وأفهمه أن القطر المصري في انتظار قدومه وفي انتظار الخطوة في مشاهدة روائع فنه. وكان على أهبة السفر ساعة أتاه الجواب بلزوم الهجرة إلى القطر العزيز (بوتقة) العبقريين، إذ ما من فنان أو مشرد طريد من بلاده مضطهد أمها إلا لقي في هذا القطر أهلاً يحضنونه ويحدبون عليه، وأنا أعرف كثيراً من الفنانين الطريدين الذين أنكرتهم بلادهم قد بسم لهم دهرهم على جنبات هذا الوادي الخصيب وكانوا من ألمع الشخصيات في فنهم. . .

لم يأخذ القباني معه أسرته ولم يأخذ معه جوقته إلى الديار المصرية يوم نزح إليها مهاجراً مشرداً طريداً كما ترى. . . بل ذهب بمفرده، وكان سرور القوم به عظيماً جداً، وما أستقر قدمه في الإسكندرية حتى خف إليه عشاق فنه من كل صوب، وبلغ من شهرته أن غدت الوفود المهنئة تفد إليه من القاهرة، وكان مغتبطاً مسروراً بما لقي من ضروب الكرم وحسن الوفادة

وأخيراً حبب إليه عشاق الفن أن يؤم القاهرة ويفتح بها مسرحاً. وهناك أقاموا له مسرحاً في الأزبكية، فاستقدم على الفور كبار رجالات جوقته من دمشق وأخذ يزاول العمل بهة لا تعرف الملل والكلل، ثم أستقدم أفراد أسرته وسكن القاهرة ناسياً بما لقيه من تشجيع وتنشيط كل ما لقيه في دمشق من ذل ومهانة. .

وكان التمثيل مجهولاً في هذه البلاد التي قطنها، ولذا أقبل أهلها على مشاهدة رواياته إقبالاً منقطع النظير، وعاد إليه حظه الباسم وحياته المرحة. ومن أشهر رواياته التي فتن المصريون بها رواية عنترة، أنس الجليس، ناكر الجميل، (متريدات)(عفيفة) ملتقى الخليفتين، (الكوكبين)(الأمير محمود)(السلطان حسن)(أسد الشري)(لويسا) وغيرها من الروايات التي سحر الناس بها، وزيادة في الافتتان بهذه الروايات طبعها عازفو فضله وتعاورتها الأيدي، وأمست شغل الناس الشاغل. . .

ص: 22

يتبع - دمشق

حسني كنعان

ص: 23

‌الشعر في السودان

للأستاذ علي العماري

- 6 -

لم يكن غرضي في هذا الأحاديث أن أعسر الحساب مع شعراء المدرسة القديمة، ولا أن أتتبع هفواتهم، وأخطاءهم، وإنما أردت أن أكون مؤرخاً. وهذا هو الهدف الرئيسي لهذه البحوث، فإذا صحب ذلك شيء من النقد فإنما هو استطراد وأستتباع، وليس من الأنصاف أن نغوص في ثنايا هذا الشعر محققين مدققين، وحسبنا أن نقف هذا الموقف (السمح) وأن نلمس هذا الشعر لمساً خفيفاً رفيقاً وأن تبرز صفاته العامة، ونكشف سماته المشتركة، دون أن ندخل في التفاصيل فنحكم لشاعر على شاعر، أو نضع الشعراء في طبقات كما كان يفعل بعض النقاد القدامى، فذلك ما لا أريده، أو بالأحرى ما أعتقد إنه عن غرضي بمنأى، وإنما كان الأنصاف في مسلكي الذي سلكته لأنه يكفينا من هؤلاء الشعراء أنهم قالوا الشعر في تلك الأيام الخوالي بل قالوه في أغراض لم تكن البيئة مهيأة لقبول القول فيها. ولعل بهذه الكلمات أكون قد أجبت ذلك الفاضل الذي كتب إلي (يلومني) على أني أكتب بقلم المؤرخ لا بقلم الناقد وأتجاوز عن أشعار كان الواجب يقتضيني أن أكشف للقراء بهرجها، ثم أمضي إلى الغرض.

في حديثي السابق تحدثت عن شعر النسيب، وذكرت أن كبار العلماء قد خاضوا فيه، وفي حديث اسبق تحدثت عن مكانة المدائح النبوية وكثرتها عند السودانيين، وكان وقع في نفسي حين وجهت النظر إلى كتابة هذا البحث إني سأظفر بقصائد رائعة في الغزل على طريقة (ابن الفارض) فإن جميع الأسباب كانت مهيأة لهذا الغزل الإلهي، فكثير من العلماء الزهاد شعراء، وقد بدت رغباتهم في شعر الغزل. ولشعر ابن الفارض مكانة خاصة عند المتصوفين من هؤلاء العلماء، ولكن شد ما أخذ مني العجب حين لم أجد من هذا النوع شيئاً تطمئن إليه النفس، ولاشك أن خلو الشعر السوداني من هذا النوع - وقد تهيأت أسبابه - أمر يدعو إلى العجب.

ولمكان الدين عند الشعراء لا تجد الهجاء غرضاً ذا بال في أشعارهم، والذين قالوا في هذا الغرض لم يطيلوا فيه، بل ربما ذكر البيت والبيتين ومروا به مروراً سريعاً. ومن القليل

ص: 24

أن نرى هجاء مستقلاً، وهو - مع ذلك - لا يعدو الطريقة العامة من الرمي بالنفاق والغدر والكبر، وربما رق الهجاء وتبدل ولكنه بعد ليس أليم الوخز، ولا نافذ السهم، يقول الأستاذ صالح عبد القادر يهجو ذليلاً أحدث نعمة فطغى أن رآه استغنى، في قصيدة مطلعها.

لا تفرحنَّ بنعمة

إن الزمان له انقلاب

وبعد أن وصف الزمان وأنه محكم يرفع الذئاب إلى مرتبة الأسود، وينقل الملك العظيم من سرير الملك إلى أعماق القبر قال:

ولقد رماك الدهر ح

تى هنت في نظر الكلاب

أنا على ماضيك لم

نسدل ستاراً أو حجاب

أنسيت نومك في الترا

ب فصرت تحكم في الرقاب

أنسيت أيام (البلي

لة) والبسارة والهباب

فغدوت تأكل ما علم

ت وما جهلت من (الكباب)

جلَّ المهيمن إنه

يهب الأنام بلا حساب

وإذا وصل بنا القول إلى هذا الشعر الفكاهي فأنا نقول إن الفكاهة ليس لها مكان في البيئات المتدينة، بل إن الشعب السوداني لا يكاد يقبل عليها، وربما كان لذلك أسباب كثيرة غير التدين، ومن الممكن أن نقول إنه ليست هنا فكاهة مستقلة. ولقد دأبت بعض المجلات السودانية على أن تنشر طرائف يتفكه بها القراء فكان اعتمادها على ما ينشر في المجلات المصرية، ونتيجة لهذا قلت الفكاهة في الشعر السوداني، على أنا نلمحها لمحاً في بعض القصائد، فهي لا تكاد تأخذ إليها نظر القارئ ولا فكره. وربما جاءت في أثناء الهجاء، أو في معرض شكوى، أو في رثاء شيء ففقده شاعره، وقد تكون الشكوى مرة عميقة ولكن الشاعر يسوقها في شعر خفيف يظنه القارئ يميل إلى الفكاهة، وما هو إلا الجد في معرض الهزل، يقول الشاعر الشيخ حسيب في (مرتبه).

أمرتبي مالي أراك (م)

قصرت عن نيل المراد

أشكوك أم أشكو إلي

ك نوازل المحن الشداد

الشهر باق جله

وبقاك آذن بالنفاد

أنا إن حييت سأشتري

حظي بأطراف الحداد

ص: 25

أما اليراع فاٍنني

لم أجن منه سوى الكساد

يا صاحب الدرجات والق

انون والرأي والسداد

أطلق فداك مرتبي

بعض القيود لكي يزاد

رفقاً بمن قيدته

بقيود (ثامنة) شداد

فكأنني وكأنه

ظمآن آلٍ في وهاد

وكأنني متقلد

من غير ما سيف نجاد

ولقد أعجبني حقاً هذا التشبيه، تشبيه موظف في الدرجة الثامنة، والحياة عليه قاسية، ومرتبه لا يفي بضروريات عيشه، برجل متقلد نجاداً، ولكن ليس معه السيف، فيخاله الناس صاحب سيف يرد به حوادث الأعداء، فإذا هو أعزل ليس له من السيف إلا حمالته التي لا تدفع عدواً، وهذا يسميه الناس موظفاً، ويرونه يروح ويغدو على عمله، وربما حسدوه، فإذا هجمت عليه عوادي الأيام، وحزبته ضرورات العيش، فتش في جيوبه ليجد ما يردها، ولكنه لا يجد إلا نجاد السيف؛ أما السيف ففي أوهام الناس وخيالاتهم.

وهذه القصيدة في رثاء ساعة فقدها الشاعر فبكاها، وليس لشعراء السودان اتجاه - إلا قليلاً - للقول في الأشياء الصغيرة، وكأنهم لا يرون الشعر إلا ما كان في مدح أو هجاء أو رثاء، ولكن هذا الشاعر تظرف فقال في ساعته:

لي ساعة معروفة

بالصدق في جنح الظلام

لا البرد يوقفها ولا

يودي بسرعتها الغمام

اغتالها الدهر الخئ

ون، وليس سلماً للكرام

لم يغن عنها حصنها

جيب القباء أو الحزام

أحفيظة الوقت الثم

ين وخير ساعات الأنام

أصبحت بعدك فوضوي

اً لا أساس ولا نظام

أبدأ تحث على المض

ي إلى الأمام إلى الأمام

تفديك ساعات تؤخ

ر أو تقدم أو (تنام)

أما الجد فهو السمة الغالبة على الشعر السوداني كله، ولا سيما حين يفخر الشاعر أو يصور بعض أحوال قومه، فهذا يقول:

ص: 26

أيها الدهر أنا من معشر

حكموا الرأي وهزوا العلما

فأسال العالم عنا إننا

أمة كنا وكانوا عدما

من لقومي إنهم قد أهملوا

ما بنى آباؤهم فانهدما

يا بني قومي أفيقوا أنكم

ما خلقتم لتعيشوا (غنما)

ليتني أعرف ما أخركم

سادة كنتم فصرتم خدما

ولقد يحزنني أني أرى

رأيكم مختلفاً منقسماً

وذاك يقول:

كم وقفة لي أبكيت الجماد بما

أسمعته وهززت النيل والهرما

حليت عاطل الدهر منه بما

ود الغواني لو أن جيدها نظماً (كذا)

مضى زمان وقلبي ممتل ألماً

وفي فؤادي أسى كالنار مضطرما

حزناً على أمة بالنيل نائمة

تشكو الأوار وأخشى أن تموت ظما

وأما القول في الخمر فهو قليل، وطبعي أن يقل القول في هذا الغرض لسيادة التدين على النفوس، على أنا نجد بعض الشعراء يتغاضى عن عواطف الناس، ويقول فيها ما يحلو له، فهذا عثمان هاشم يجاهر بالقول فيها، مع ما لبيته من مكانة دينية يقول:

أدر الراح علينا باليمين

تحت ظل الورد بين الياسمين

ضن رب الحان للشرب بها=واصطفاها إذ رآنا قادمين

ملأ الأقداح منها بعدما

راضها بالمزج من ماء معين

فشربناها غبوقاً في الدجى

ووصلناها صيوحاً بالأذين

وأنا شديد الإعجاب بهذه الاستعارة الفذة (راضها بالمزج) فأن الخمر - على ما أعرف من قراءاتي - تكون كالفرس الجموح فإذا صب عليها الماء هدأت وسكن بعض سورتها، وكم بين رياضتها بالمزج في قول هذا الشاعر، وبين قتلها بالماء في قول حسان بن ثابت:

إن التي ناولتني فرددتها

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

كم بينهما من مشابه يعرفها الخبيرين!

هذا وبقى أن نسرج النظر قليلاً في أسلوب هذا الشعر، فنقول إن الطبائع العربية، واللهجات العربية أظهر ما تكون في سكان السودان، وكثير من الكلمات العربية الفصيحة

ص: 27

يستعملها العامة كما يستعملها الخاصة، وهنا - كما في كل مكان - ألفاظ خاصة لها حظوة فهي كثيرة الدوران على الألسن، فإذا فتشنا عن هذه الألفاظ لا نجد لها في الشعر أثراً، كما أنا نفقد الألفاظ الجزلة، والأساليب الضخمة، مع أن كثيراً من الشعراء كانت لهم أقدام رواسخ في اللغة والأدب، لكن الشعراء مغرمون بالبديع، وربما تكلفوه تكلفاً، فالجناس والتورية، وحسن الابتداء وحسن التخلص، من مقاصدهم الشعرية، فمن التورية قول أحدهم في صديق له اسمه شوقي:

إن نسوا ردك يا شوقي فما

أنا إلا حافظ ما جهلوا

وقول الآخر:

ولست بخائف حصراً وعياً

وشوقي فيه يمليني نشيدي

ومن الخباس قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يخاطب الأستاذ علي بك الجارم حين زار السودان:

أما استعارات البيان فإنها

عبء ينوء به الشباب ثقالاً

يجرون أميالاً ولا يجرونها

ويرون في طرقاتها الأوحالا

ها (عرضحالي) يا علي مقدماً

ما حائل من دون عرضي حالاً

ومن حسن التخلص قول الشيخ محمد عمر البنا:

وليل بت فيه سمير أنس

قرير العين مشروح الفؤاد

كأن صفاء أنجمه علينا

أيادي الشهم عثمان الجواد

وللشعراء ولوع بالتاريخ الشعري، وله أمثلة كثيرة في أشعارهم، وقد ينظمون شعراً يمكن قراءته على وجهين ومن ذلك قول الحبر الجليل الشيخ الأمين الضرير من قصيدة نبوية كبيرة:

حمداً لمن أبدى لنا سبحانه

من أمنا بهداه إذ قد صانه

نسباً صريحاً عن خنى ومكانه

في القرب لم يدرك رسول ذوثنا

فيمكن جعل هذين البيتين ثلاثة، فتكون نهاية البيت الأول (أمنا) ونهاية البيت الثاني (عن خنى) وهكذا كل القصيدة.

وبعد فقد امتد بنا نفس القول في شعر هؤلاء الشعراء الذين كانوا الهداة الرائدين، وما بلغنا

ص: 28

الغاية، ولكنا سنكتفي بما قلناه، لنفرغ لشعر شباب السودان، ونرى إلى أي شوط جروا في نهضتهم الشعرية، ونأمل أن تبلغ من ذلك وطراً، ونستعين الله، وبه التوفيق والسداد.

علي العماري

مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان

ص: 29

‌الصراع الفكري في تركيا

عرض وتلخيص

للأستاذ محمد محمد علي

إن التفاعل بين الأفكار الإسلامية والغربية موضوع على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للعرب فضلاً عن الأتراك الذين احتلوا مركز الصدارة في العالم الإسلامي خمسة قرون. . .

اتصل الأتراك بالإغريق، بعد دخولهم الإسلام في أوائل القرن الحادي عشر، ثم عن طريق الفلاسفة، وفي السنوات الأولى من العهد الإسلامي كان الأتراك في شك من نجاح الإسلام المطرد. بيد أن مقدرة الدولة العربية على تنظيم شئونها الاقتصادية والاجتماعية وقفت أمامهم، ثم إن (شخصية) الإسلام الواقعية والحازمة لاءمت المزاج التركي. ولقد دافعوا في يوم من الأيام بحرارة عن دينهم الجديد.

ويرى البيروني - أكبر رياضي القرن الحادي عشر - أن الحضارة الإسلامية كانت امتداداً للحضارة اليونانية. ومع ذلك يجب أن نقرر أن المؤثرات اليونانية كانت ضعيفة، إذ كتب الفلاسفة وناقشوا المشكلات الفلسفية واللاهوتية، لكن الفكر الإسلامي لم يتقدم إلا بين الجماعات المعارضة وبين هؤلاء الأحرار الذين اشتهروا في تاريخ الإسلام مثل المعتزلة أو العقليين.

ولعل الفارابي - الذي لا ينسى أصله التركي - أحد الفلاسفة الإسلاميين الذين حاولوا شرح الأفكار الإسلامية كما جاءت في القرآن مع فلسفة أرسطو وأفلاطون. فقد كان أول فيلسوف إسلامي أعطى أهمية كبرى للأفلاطونية الحديثة في الفلسفة الشرقية، كما كان أول من عرض مشكلة العلاقة بين الروح والعقل. وجاءت أعمال الغزالي في القرن الثامن عشر مكملة لأعمال الفارابي. وتطورت الروحانية حتى الأزمنة الحديثة واتخذت في النهاية شكلاً مغايراً، وتميزت بتغلب العاطفة على العقل، ثم فقدت طابعها الفلسفي.

بلغ الفكر الإسلامي هذا الطور في القرن الثالث عشر حينما سيطر السلاجقة على هضبة آسيا الصغرى، وهم سلالات الأتراك العثمانيين وأجداد سكان تركيا الحاليين. وكان يدرس في مدارسهم الفقه والإلهيات فحسب، وتشكلت الدراسة دائماً بطابع القرآن الكريم والسنة

ص: 30

الشريفة. وفي النصف الثاني من القرن ظهر الشاعر الصوفي والفيلسوف الكبير جلال الدين الرومي فندد بالجهل الذي خيم على الناس تجاه المسائل الفلسفية. ومن الواضح أن العلوم العقلية والفلسفة اليونانية في مظهرها الحقيقي لم تكن قد ظهرت بعد حيث يقطن الأتراك اليوم.

وفي القرن الخامس عشر، بعد تكوين الإمبراطورية العثمانية بقرن ونصف، كان الفكر الإسلامي لا يزال متخذاً الطابع المدرسي من دراسة الأدب والفقه؛ ولئن كانت تناقش الفلسفة والعلوم العقلية وأفلاطون وأرسطو، فإننا لا نلمح أي اثر للروح الفلسفية الانتقادية التي ميزت الفلسفة اليونانية. وفي ذلك الوقت كان الشاب الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره: محمد الفاتح قد اتصل بجيرانه الأوربيين. وقد دخل القسطنطينية عام 1453 على أنقاض الحضارة الغربية في الشرق. واهتم السلطان الفتى بالمدرسة الفلسفية اليونانية التي كانت أساساً لجميع الأفكار في العصور الوسطى في غربي أوربا، وبلغ اهتمامه بدراسة اللاهوت حداً جعله شغوفاً بالمسيحية. وكانت رغبته في الواقع هي الدراسة المقارنة للدينين العظيمين والميتافيزيقا، وذلك ليوحد الاختلاف بين العقل والروح. كان يحاول أن يخلق تفاعلاً وتداخلاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية، على أن يكون للنظرة الانتقادية المحل الأول.

لكن ينبغي أن نقرر أن هذه الجهود لم تكلل بالنجاح، وأن تركيا عادت يوماً إلى جمود العصور الوسطى الذي استمر حتى القرن التاسع عشر بل والعشرين، ففي الفترة ما بين فتح القسطنطينية ومعاهدة كارلوتز 1699 وصلت الجيوش التركية إلى وسط أوربا وأنشأت علاقات مع الأمم الغربية. غير أن هذه القوة العسكرية عجزت عن تكوين صلات فكرية بين الشرق والغرب. بل إن النزعة الحديثة في عصر النهضة عادت القهقري أمام روح الجمود التي سادت في البلاد الإسلامية.

وبلغت تركيا شأوا كبيراً من التوسع في القرن السادس عشر، أبان حكم سليمان الكبير. ومع ذلك لم يتقدم التفكير الفلسفي والعلمي خطوة واحدة مع التقدم السياسي في عصر المجد والعظمة هذا. وقد لاحظنا الأستاذ (كريبر) إنه ليس من الضروري أن يتفق العصر الذهبي لحضارة مع التفوق والرقي لوطنها فبعد هذا التوسع لم تعط الفرصة لتطور النهضة في

ص: 31

تركيا أمام النزعة التقليدية في الفكر الإسلامي. وقد عبر جغرافي القرن السابع عشر كاتب جلبي عن يأسه من الأحوال التي أطاحت بالمعارف الإنسانية من معاهد التعليم التركية: (وعلى ذلك سينظر الناس إلى الكون بعيون الثيران!). ويوضح ذلك أن نظام كوبرنيكس ذكر لأول مرة عام 1685 في الترجمة التركية للأطلس الأعظم

ويمكن القول إن عام 1716 تقريباً بعين بدء الاحتكاك بالفكر الغربي، عند ما كان هناك تجديد وإصلاح في الجيش التركي؛ إذ أدخلت الرياضيات الحديثة في برامج المدرسة الهندسية العسكرية. وفي عام 1728 أسس الكاتب التركي إبراهيم متفريقاً أول مطبعة، وبدأ ينشر ما يؤلفه ويحرره عن الحضارة والعلوم الغربية.

ولما شبت نيران الثورة الفرنسية ظهر اتجاه علمي جديد. إذ اعجب السلطان سليم الثالث بالحركة الفكرية السياسية - في العالم المتمدن - التي جذبت انتباهه إلى الحضارة الغربية. ففي أوائل القرن التاسع عشر فتحت مدرسة طبية حديثة.

ثم جاء عام 1839 فبدأ عهد إصلاح جديد؛ هو عهد (التنظيمات) أو تنظيم الإصلاح. وقد عم تأثيره كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية. وبالنظر في هذا الاحتكاك بين التفكير الغربي والتفكير الإسلامي فانه يلوح للباحث أن لا بد من وجود تفاعل وتداخل بين وجهات النظر. الإسلامي هذا التقدم لم يظل قائماً، لأن طبيعة الدولة الأوتقراطية والدينية، تعارضت مع تبادل الآراء واحتكاك الحضارات. بل إن هذه الفترة التي استمرت حتى الثورة التركية الصغرى 1908 امتازت بالرغبة في المحافظة على المظهر الديني للإسلام أمام تيار العلوم الحديثة. حتى أن الكتاب المحدثين الذين درسوا في الخارج، لم يترددوا في الذود عن الأفكار الدينية البحتة، والمعارضة للحقائق العلمية. على أن هؤلاء لم يؤمنوا بما كانوا عنه يدافعون؛ إنما دفعهم إلى عملهم هذا ما ظهر من ضرورة الإبقاء على النظام القديم. وفي أواخر عهد عبد الحميد الثاني، كانت موجة العداء للفكر الغربي شديدة، بفعل ثورة 1908، إذ خرجت كلمة (حكمة) من القواميس بأمر الحكومة! وبالرغم من كل هذا فقد كانت الأفكار الغربية تنتشر. وقد ترجم أحمد مدحت كتاب ج. و. درابر. تاريخ الصراع بين الدين والعلم. وفي معرض نقده لأفكار المؤلف، أكد المترجم إن ليس هناك معارضة للعلم في الإسلام.

ص: 32

ولئن كان المثقفون في عهد التنظيمات قد حافظوا على العقلية الشرقية، فإنهم اقتبسوا الجانب الفني من الحياة الحديثة، واستطاعت قلة منهم التوفيق بين المعتقدات الإسلامية والعلم الحديث. فكانت الجمعية العلمية العثمانية (1887 - 98) المعهد الوحيد الذي كان مشغوفاً بالأفكار الغربية، إذ جمعت بين المثقفين الأتراك الذين يعرفون لغة أوربية على الأقل، وأخرجوا:(المجلة العلمية) أول نشرة تركية يستطيع المرء أن يطالع فيها أبحاثاً رائعة. وقد اتخذوا وجهة نظر فلسفية علمية، ولم يلقوا بالا إلى الجمود الديني للعلماء الرسميين (علماء الرسوم) ولسوء الحظ لم تعمر هذه الجمعية طويلاً وذهبت معها مجلتها. وباختفائها صادرت الحكومة كل الإنتاج الفكري الفلسفي. وفي نهاية عهد التنظيمات لا يكاد الباحث يعثر على أي أثر لاحتكاك الأفكار الشرقية والغربية في تركيا. ومع ذلك فأن غزو التفكير الغربي كان سائراً إلى الأمام بفضل المدرسة الأدبية التي عرفت ومجلتها

وقامت الثورة التركية الصغرى في 1908 وأمتد لهيبها إلى النواحي السياسية، وتبع ذلك نشاط ثقافي، فأدخلت الفلسفة وعلم الأديان المقارن في دراسات كلية الآداب بجامعة اسطنبول ومهدت الحرية السياسية الطريق لحرية التعبير وأصبح في الإمكان نقد الأديان. وفي أول العهد الدستوري ترجمت كتابات وآراء بعض الماديين في القرن التاسع عشر مثل لدفيج بخنر، وارنست هيكل كما كثرت المناقشات حول آراء فولتير وروسو وباقي الانسكلوبيديين.

كان الصراع الفكري على أشده - وإن لم يكن واضحاً، واتخذ كل جانب موقفاً عدائياً تجاه الآخر. وفي وسط هذه المعركة قام الاجتماعي الفكري زيا جوك ألب بدور الوسيط بين الجماعات المتحاربة، وحاول أن يوفق بين التفكير العملي الغربي وبين التفكير الإسلامي الديني. وهو كتلميذ مخلص لدور كهيم قد ميز بين والحضارة ورأي أن تركيا ينبغي أن تقتبس من المدنية الغربية على أن تحتفظ بشخصيتها القومية. ولطالما نصح مواطنيه بالا يهملوا الإسلام وحضارته ولا يغضوا الطرف عن المدنية الغربية. ولئن كان واضحاً في إعلانه عن ضرورة الاقتباس من العلوم والفنون الحديثة، فأن كان غامضاً في مسألة الفلسفة. رأى أن يكون للأتراك فلسفة قومية لكنه لم يحدد ما يجب أن تكون عليه هذه

ص: 33

الفلسفة، إذ كان متردداً بين آراء دور كهيم الاجتماعية وفلسفة برجسون الروحية. إلا أنه لم يعمل على إعادة الوفاق بين الاتجاهين؟ لأن هذا كان عملاً شاقاً.

لقد كان لتعاليم زيا جوك ألب تأثير عميق على تلاميذه وأصدقائه أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الصغرى. وفي رأيه أن قانون الأسرة الذي وضعه من قبل فقهاء المسلمين لا يجوز أجراء تعديل فيه. وكان لسان هذه الحركة: مجلة جمعية الاتحاد التي ظهرت رغم طابع الدولة الديني - التي كان يرأسها الخليفة صاحب السلطتين: الدينية والزمنية.

غير أن أسوأ خطر وقع فيه زيا جوك ألب هو ترجمته كلمة (لا ديني)، الأمر الذي أدى إلى نشر العداوة بين شيوخ المسلمين.

وقد عبر عن الاتجاه الإصلاحي في ذلك الحين مجلة (الصراط المستقيم) التي عرفت بعد باسم (سبيل الرشاد) والتي صبت جام سخطها على زعماء الحركة التحريرية التي قادها زيا جوك. وامتازت هذه الفترة من تاريخ تركيا بتغييرات الحكومة الفجائية وبأعمال المعارضة التي كان من هدفها السياسي تحريك الأتراك المسلمين ضد حكومة الاتحاد والترقي وذلك بتغير محاولة الجمعية في الإصلاح بأنها الحاد في الإسلام.

وبعد عام 1912 لم تكن هناك فرصة للنشاط الثقافي بسبب حروب طرابلس والبلقان ثم أوربا. وكانت الحكومة التي أسستها قوات الاحتلال قد قضت على كل العواطف الدينية بين الناس حتى تقضي على بوادر الحركة التحريرية والاستقلالية. إذ تطورت هذه الحركة أخيراً، وأصبحت منظمة قوية حالفها النجاح بعد أربع سنوات من اليأس. وليس من شك في أن الأتراك - باهتمامهم بهذا الكفاح - لم يكن لديهم فرصة لمناقشة المسائل الثقافية.

وأنشأت الحكومة التركية الجديدة في أنقرة، وأطاحت بالسلطنة عام 1923 وتركت الخليفة في اسطنبول بغير سلطة ولا قوة، ثم ألغت الخلافة بعد ذلك بعامين، مع المحاكم الشرعية وكل المعاهد الدينية في أنحاء البلاد. وصيغ الدستور الجمهوري بالصيغة العلمانية، وذهبت جهود المدافعين عن الإسلام مع الريح أمام تشديد الجمهورية في التصريح بهذا التفكير. وكانت التيارات الغربية جارفة، لدرجة إنه كان يصعب على المرء أن يطلق عليها تفكيراً، بل هي (تقاليد رسمية للإلحاد) وبتفسير لغة الأستاذ جب الخيالية، يقال إن تركيا قد أصبحت مقبرة جميلة. . .!

ص: 34

ولم تتردد الجمهورية في أن تعلن أنها حامية العلوم والمدارس الفكرية، وحاولت أن تجعل الدراسة في جميع المعاهد على أسس الخير والحق والجمال! وظهر الجيل الجديد بعد عشرين عاماً من غير أن يتذوقوا لتعاليم الدين طعماً. واليوم يحتل الفكر الغربي الجديد محل الفكر الإسلامي القديم. وليس في الإمكان أن نحدد تاريخاً لظهور النزعة الحديثة مع التداخل بين الأفكار الإسلامية والغربية في تركيا، فليس هناك تفاعل حقيقي، إنما هناك طغيان للأفكار الغربية.

وفي ديسمبر 1946 تقدم نائبان في الجمعية الوطنية - أثناء مناقشة ميزانية وزارة الأوقاف - بسؤال عن مستقبل المعاهد الدينية، وخاصة تلك التي يدرس الشعائر الدينية فيها أفراد معينون، إذ أن هذه الدراسات لا ترعاها الحكومة، وأن هؤلاء الأفراد المعينين ليسوا متخصصين في طرق إعداد المعلمين. فأجابت الحكومة إجابة تهرب من السؤال، إذ خشيت رد الفعل الديني الذي قد يهدد نظم الجمهورية الحديثة. وبعد أيام انتقلت هذه المناقشة إلى اللجنة المركزية للحزب الحكومي. وهذا الحادث - الذي لا يعتبر غير غريب في الغرب - ذو أهمية كبرى في تركيا اليوم، لأنه في العشرين سنة الأخيرة لم يكن ممكناً حدوث مثل هذه المناقشة في أي نوع من الاجتماعات السياسية أو الثقافية.

وعندما بزغ نور الروح الانتقادية في تركيا، فإن التفاعل بين الأفكار الإسلامية والغربية سيتخذ شكلاً موحداً واضحاً. وربما ينتج عن هذا التفاعل إصلاح ديني فلسفي في حدود الشكل العلماني للجمهورية. غير أنه عندما يحدث إصلاح من هذا النوع هل تستطيع تركيا أن توجد منابع تراثها الثقافي وتخلق حركة ثقافية متكاملة؟

تلخيص

محمد محمد علي

قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد

ص: 35

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (2)

(1)

النفس عند ابن سينا (2)

للأستاذ كمال دسوقي

حدثتكم في المقال السابق عن موضع دراسة النفس من العلوم عند ابن سينا، أعني أين يقع علم النفس من قائمة العلوم ولوحة المعارف عنده، وأين كان يعالجها في معظم كتبه؛ فربطتها لكم بما يسبقها من الأمور الطبيعية الكلية التي قلت لكم إنها دائما آخرها، وبما يتلوها من القول في الإلهيات؛ التي قلت لكم إنها تمهد لتناولها في نقطة (العقل الفعال). واليوم أحدثكم عن موضع النفس ذاتها من سلسلة الموجودات المادية والروحية، وصلتها بما فوقها وما تحتها - قبل الدخول في تفصيل قواها وملكاتها - فإن النفس تشغل في مذهب ابن سينا في الوجود مكاناً لا يقل دقة واطراداً عن المكان الذي رأيتم أن علم النفس يشغله في تصنيف العلوم العقلية عنده.

وحين نقول فإنما نعني بها ما كان يسميه أرسطو ما بعد فإن الإسلاميين قد حولوا هذا العلم لأرسطى إلى ما يرضي عقائدهم، ويؤيد إيمانهم؛ حولوا ميدانه إلى (النظر في الواحد ولواحقه بما هو واحد) أي النظر في الله الواحد والكثرة التي تنشأ عنه؛ لان كل موجود عند ابن سينا يصح أن يقال له في ذاته واحد (النجاة ص 98)، وكان أرسطو حين نظم هذا العلم وعرض فيه آراء سابقيه يحدد موضوعه بأنه (البحث في الوجود بما هو موجود) فلا يعترض عليه أن يبحث في الواحد ويدلل على الألوهية، بل يترك له تحقيق ذلك إن استطاع.

على أن مشكلة ابن سينا في هذا الصدد لم تكن إثبات الوجود، ولا واجب الوجود بقدر ما كانت مشكلة صدور الخلق عن الخالق، وكيف ينشأ هذا الوجود المتكثر - الذي لاشك في كثرته - عن الإله الواحد - الذي لاشك في وحدانيته؛ خصوصاً وأن الواحد عنده وفي مذهبه لا يصدر عنه إلا واحد، وواحد فقط؟

ولما كان مذهب أرسطو وحده لا يعينه على إثبات هذه النظرية لانتقاله من الكثرة إلى الواحد، ولما فيه من تفسير مادي عقلي قد يتعارض مع الدين - مما يتحاشاه كل فيلسوف متأثر بالدين، فإن مذهب أفلوطين كان أقرب إلى إثبات ذلك منه. وأفلوطين قد ذهب إلى أن

ص: 36

الخلق يفيض عن الخالق، وأن الوجود يصدر عنه بمحض الجود. فيتبعه الإسلاميون في هذا، كما تبعوه في غيره؛ سواء من علم منهم أنه لأفلوطين - على اختلاف بينهم - فأوقعهم ذلك في القول بقدم العالم من حيث لا يشعرون.

ويذهب ابن سينا في ذلك إلى تصنيف الموجودات من حيث الجهة إلى واجب الوجود، وكل واجب أو ممكن فهو إما بذاته أو بغيره، ومن هذين التقسيمين الثنائيين مجتمعين تنقسم الموجودات إلى واجب الوجود لذاته، وممكن الوجود بذاته، ثم إلى ممكن بذاته واجب بغيره.

وواجب الوجود عنده - كما تجدون في المقالتين الأولى والثانية من إلهياته هو الوجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال؛ أما ممكن الوجود فهو الذي إذا فرض غير موجوداً أو موجوداً لم يعرض منه محال. فالواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه - يعني في وجوده أو في عدمه - فليس وجوده أولى من عدمه إن انعدم، ولا العكس إن وجد، فهو الذي ليس ضرورياً ولا ممتنعاً. وواجب الوجود - كما قلنا - قد يكون واجباً بذاته وقد لا يكون بذاته، فواجب الوجود لذاته (هو الذي لذاته لا لشيء آخر)، أي أن مجرد افتراض العدم فيه محال. وأما واجب الوجود لا بذاته (فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود). فالأربعة مثلاً واجبة الوجود لا بذاتها بل بفرض اثنين واثنين مجموعتين أو مضروبين. والاحتراق واجب الوجود أيضاً لابذته، بل بفرض تلاقي القوة المحرقة بالقوة المحترقة (ص224).

وأدلته في إثبات واجب الوجود كثيرة ليس عليكم أن تحيطوا بها، وحسبكم أن تتبينوا أن كثرتها إنما جاءت من تسليمه بها قبل البدء في البرهنة على ما يريد. فأعانه (سبق الإصرار) هذا كما يقال في لغة القانون، و (الفكرة الثابتة) هذه - كما يقال في علم النفس؛ على أن ينتزع كثيراً من البراهين يؤيد بها قضيته. وإلا فما كان له أن يثبت - وما كان لقارئه أن يفهم أن (كل شيء يكون كافياً في أن يوجد بذاته، فهو واجب الوجود (لو لم يتمثل في قرارة نفسه صورة الله الذي يؤكد له الوجود والوحدانية والخير وأنه عقل وعاقل ومعقول، وأنه عاشق ومعشوق، وأنه لذيذ وملتذ. . . ولماذا لا يلتذ من يشعر بكماله حين يتأمل نفسه.

ص: 37

ذلكم أن تأمل الله لذاته هذا يحدث له لذاته من ناحية، ويحل مشكلة ابن سينا من ناحية أخرى. فمن هذا التأمل يصدر الفيض الإلهي ويكون الخلق. فينشأ أولاً عقل أول هو واجب الوجود بالله ممكن بذاته. وهذا العقل الأول حتى الآن واحد وروحي، ولكنه يتأمل الله من ناحية، ويتأمل ذاته من ناحية أخرى. فمن تأمل العقل الأول لله ينشأ العقل الثاني، وعن تأمله لذاته ينشأ الفلك الأول جسمه ونفسه. ثم إن هذا العقل الثاني من حيث أنه واجب الوجود بالأول يتعقل هذا الأول فينشأ العقل الثالث، ويتعقل من ناحية أخرى ذاته - من حيث هو ممكن الوجود بذاته - فينشأ جسم الفلك الثاني ونفسه، وهكذا يظل كل عقل يتأمل وجوبه بغيره فينشأ عنه عقل أدنى. ويتأمل إمكانه بذاته فينشأ عنه جسم ونفس الفلك المرتبط به حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر المدبر لعالم الكون والفساد، وهو العقل الفعال الذي تتصل به نفوس البشر.

فالعالم العلوي إذن يتركب من سلسلة متراكبة كل حلقة فيها تحتوي على ثلاثة أشياء: عقل، وفلك، ونفس. وعلى رأسها جميعاً واجب الوجود لذاته الذي لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا يبدع لأول مرة ثلاثة أشياء. عقلاً ثانياً، وفلكاً نفسياً، وجسمياً. وهكذا تتكرر العملية حتى تخلص لنا عشرة عقول وتسعة أفلاك؛ آخرها فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض

وأترك لكم تصور هذا العالم العلوي كما تشاءون، ولكني أود أن تلاحظوا معي على هذه النظرية الفروض آلاتية:

أولاً: افتراضها منذ البدء أن الله واجب الوجود لذاته، وأنه عقل وعاقل ومعقول.

ثانياً: تسليمها بأنه واحد، وانه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد - بالنسبة لله على الأقل.

ثالثا: قيامها على تعقل الله لذاته وتأمله لنفسه - وكذلك الأمر في العقول الأخرى كل بدوره - كأساس للخلق، ومبدأ للجود الإلهي. كما أريدكم أن تقفو بعقولكم طويلاً عند مناقشة مأخذها التالية:

أولاً: أنها - وقد وضعت قانوناً عاماً، هو أنه لا يصدر عن الأحد إلا الواحد - قد قصرت تطبيقه على واجب الوجود وحده ثم تجاوزته في الحال مع العقل الأول فجعله يخلق ثلاثة أشياء بدلاً من شيء واحد. مما يجعلها متناقضة مع ذاتها منذ اللحظة الأولى - إلا أن يكون

ص: 38

ابن سينا قد قصد (بالواحد) هنا الله وذلك ما لا يدل عليه قوله هذا الذي سبق أن بينت لكم مرجعه فعودوا إليه، فقد لا تجدون فيه هذا التناقض الذي أجد.

ثانياً: وما قلته في الوجود تنشأ عنها الكثرة، يقال مثله في الروحية تنشأ عنه المادية. فقد أراد ابن سينا من توسيط العقل الأول بين الله والموجودات أن يبعد عنه صدور الكثرة من ناحية والمادة من ناحية أخرى؛ لأن الله ليس بمادي، ولذا كان العقل الأول الصادر عنه غير مادي أيضاً، ولكن كيف يتأتى لهذا العقل الأول أن يخلق بتأمله (الذي هو عقل روحي) مادة الجسم الأول نفسه؟ هذا تناقض وغموض آخر.

ثالثا: أن هذا المذهب يقف بالفيض عند الفلك العاشر، فلك القمر وكرة الأرض؛ أي العقل الفعال. ولا يبين لنا كيف تفيض أشياء هذا العالم عن العقل الفعال، وهل هي تفيض عنه لعلم الله أو بغير علمه، فذلك - فيما أظن - هو الذي حدا بابن سينا إلى أن يقصر علم الله على الكليات دون الجزئيات. (النجاة ص 247). واعتبر الغزالي ذلك كفراً صريحاً؛ لأنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. (كما أنك إذ تعلم الحركات السماوية كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي، فكذلك الإله يعلم الجزئيات ولا يغرب عنه شيء شخصي)(الغزالي: المنقذ من الضلال، طبعة دمشق الثالثة ص 95)، رداً على ابن سينا (النجاة ص248).

والنتيجة الضرورية لهذا المذهب الأول بقدم العالم - وإن لم يستطع ابن سينا أن يقول به صراحة. فإن الله قديم ولا شك. وما دام العالم ينشأ عنه تعقله لذاته على هذا النحو، وتعقله لذاته صفة لا تنفك عنه، فلا بد أن يصدر عنه هذا الفيض منذ الأزل لا سيما أن العقل الأول واجب الوجود به؛ بمعنى أنه يفترض وجوده منذ افتراض وجود خالقه تبعاً لتعريفه هو لواجب الوجود فوجوب وجوده ضروري لا من حيث أنه ممكن بذاته؛ بل من حيث هو واجب بالله. وبمثل ذلك يكون العقل الثاني ضرورياً بالأول. وهكذا تستمر السلسلة ويتم الخلق بهذا الفيض الأزلي القديم عن الله الأزلي الواجب الوجود.

ومهما يكن من أمر هذه النظرية فهي لا تعدو أن تكون مزيجاً من نظرية أرسطو في عقول الأفلاك، ومن مذهب أفلوطين في فلسفة الإشراقية التي ظلت مورداً يفيض بالخصب والوفرة في كل فلسفات الأديان. وقد جارى ابن سينا هذه الأفلاطونية المحدثة، فقالي بما

ص: 39

قالت به من خيرية الله، ونزوع الكائنات إلى أن تنجذب بالشوق، وأضاف إليها ما كان قد تأثر به من قول ارسطو - وما كان شائعا لعصره - من حركة الأفلاك السماوية حركة دائرية حول عقولها لتصل إلى الواحد، وازدياد شوقها أبداً للوصول إليه وإن كان ذلك الوصول بعيداً عنها؛ إذ الكواكب في رأي ابن سينا حيوانات مطيعة لله تعالى (ص 258)، ولكل منها عقل يديره كما أن له نفسا تحركه. وقد ساهم هو في ما كان شائعاً بين معاصريه من أن كل كوكب من كواكب الأفلاك يشبه إلهاً من آلهة اليونانيين، فالشمس للحرارة، والقمر للرطوبة والمريخ للغضب. . . الخ وهذه الأفلاك التسعة أجسام سماوية تؤثر حركتها في نفوسنا وأجسامنا - مما تأثر فيه الفارابي في (مدنيته الفاضلة)، ومما عابه عليه ابن رشد حين طعن الغزالي بأقواله هذه على الفلسفة.

أرأيت إذن موضع النفس في ترتيب الموجودات عند ابن سينا؟ الأفلاك لها نفوس تحرك أجسامها في العالم العلوي، والأجسام النباتية والحيوانية والإنسانية لها نفوس تحركها في العالم السفلي، وبين العالمين يقف العقل الفعال وسيلة وواسطة اتصال. وفوق العالم العلوي كله الجوهر الفارق غير الجسم، والصورة المجردة؛ الذي هو الله، والعقول العشرة المدبرة التي تتأمله وتتعقله، وتحت العالم السفلي كله الهيولى أو المادة الأولى التي هي محل نيل الوجود في كل موجود، وفي كل طبقة فيما بين ذلك جملة موجودات ذات مواد وصور متنوعة شتى.

وحسبكم إذن هاتان المقالتان في التقديم لدراسة النفس عند ابن سينا، ولشرع منذ المقال التالي في تحليل الفصل المطلوب إليكم دراسته.

كمال دسوقي

ص: 40

‌أنشودة منتحر

للشاعر عبد الوهاب البياتي

(ليلى) أحس على فمي شفة

صفراء تصبع بالدماء فمي

وجناحَ خفاش يطيرُ على

قبري فيملأ بالرؤى حُلمي

وأرى يداً سوداَء تصفعني

وتشد شعري شد منتقم

وأرى غطاَء القبر متفتحاً

وجحافل الديدان والظلم

وأرى عيوناً كلما اختلجت

أهدابها رفتْ على غسق

الريح معولة كأن صدى

إعوالها ما زال في الأفق

وأنا وأحلامي وملهمتي

والحب حول الموقد الحنق

وذوائب النيران راقصة

في جوفه وسنانةَ الحدق

نتلو عليها وهي حالمة

أقصوصة أبطالها قتلوا

كانوا على قلع فداهمهم

جوٌ مطيرٌ عاصفٌ هطلُ

فتحطم القلع الصغير ولم

ينج الذين إلى المدى رحلوا

فتجود عيناها بلؤلؤةٍ

وعلى فمي تتهافت القُبَلُ

وبلحظة ما زلت أذكرها

وعويلها ما زال في أذني

هملت عيون الليل وانتحرت

بيض النجوم على فم الدِّجن

فتبسمت ليلى وما ابتسمت

إلا لتحبس دمعة الحزَن

لكنها انحدرت. . . لتقتلني

وتضيء للديدان في كفني

والنور يعكس ظلها قلقاً

فأكاد أرشف ذلك الظلا

عبري. . . تقول: أكنت في خدر؟

أم كنت في حلم وقد ولى

مالي أراك صغرت في نظري

لما اغتصبت من الهوى قبُلا؟

وشحبت حتى لم تعد حلماً

هلا أعدت رسائلي هلا!!

يا لحظة ما زلت. . . أذكرها

كالخنجر المسموم في كبدي

عودي إلىَّ! لعل ملهمتي

عادت إليك فتدفئي لي يدي

عودي إلى! فقد عفا كفني

وأمتد صمت القبر في خَلدي

ص: 41

وامتصت الديدان - جائعة -

حتى خطايا حُبيَ النكِد

ما زلت أذكر موقفي وأنا

في ظلها متلطف. . غَزِل

ما زلت أذكر ليلة - هربت

روحي - وتبقى وهي تشتعل

ما زلتُ أذكر دمعَها همِلاً

وشفاهَها تطفو بها القُبَل

والريح ماطرةٌ. . . وملهمتي

تُخفي رسائلَنا وترتحل

والعَدْوَةُ السوداءُ. . . والقمر

ما زال يسخرُ مِنَي القمرُ

والبحر يفتح صدره حدباً

ويضمني في صدرِه النهر

والموجُ يفهقُ هاصراً رئتي

حتى تراقصَ وهي تنفجر

والريح تهمس وهي عابرة:

ظلٌّ على المرآة ينتحر

ما زلت أذكر لحظة هربتْ

مني وراء الريح والزمن

ما زلت أذكر - والربيع على

قبري يحوك الورد من كفني -

. . . كفاً مشوهة. . . وساحرة

شمطاَء تغسل باللظى بدني

ويداً تدحرجني إلى نفقٍ

خاوٍ فتصفعني يد العفن

(ليلى!) أحس على فمي شفة

صفراء تصبغ بالدماء فمي

وجناحَ خفاش يطير على

قبري فيملأ بالرؤى حُلُمي

وأرى يداً سوداء تصفعني

وتشد شَعري شد منتقم

وأرى غطاء القبر منتفخاً

وجحافل الديدان والظلم

(بغداد)

عبد الوهاب البياتي

ص: 42

‌الأدب والفن في أسبوع

حرية الأدب:

أمن الأوفق للأدب أن تكون له خطة مرسومة، أم تترك الحرية للأديب في اختيار الخطة التي يجب أن يسلكها؟ هذا هو السؤال الذي أثار به الأستاذ عبد الوهاب خلاف بك نقاشاً حمى وطيسه في إحدى جلسات مؤتمر المجمع اللغوي، تعقيباً على محاضرة الأستاذ محمد رضا الشبيبي في (النهضة الأدبية في العراق) التي قال فيها: إن مما مني به الأدب أخيراً في العراق فقدان خطة عامة مرسومة للنهوض بالأدب وباللغة العربية في البلاد.

قال الدكتور طه حسين بك: أعتقد أن معالي الأستاذ المحاضر لم يرد التحدث عن خطة مرسومة للأدب بل عن خطة للنهوض بالثقافة في العراق، وهذه الخطة - من غير شك - تساعد على نهضة الأدب وتحول بينه وبين التورط في كثير من الأزمات الثقافية.

وقال الدكتور احمد أمين بك: أنا لا أوافق على أن يكون الأدب طليقاً كل الطلاقة، وأرى أن يوضع له منهج لا يصادر حرية الأديب، ولمجمعنا أن ينظر مثلاً أغاية الأدب أن يلتذ به كما يلتذ بلون الزهرة وطيبها، أم ترى غايته خدمة المجتمع والنهوض به؟ فقال الدكتور طه: أنا لا أعرف للأدب غاية إلا التعبير عما في نفس الأديب، والأديب الذي يحترم نفسه قد لا يكتب ليلذ القارئ بل ليغيظه ويحنقه، كما أنه لا يكتب ليخدم غرضاً اجتماعياً بعينه.

وقال الأستاذ الشبيبي: إني آسف لأني طويت صفحة كاملة من صحف هذه المحاضرة تتعلق بموضوع حرية الأدب، وأن الأدب لا ينبغي أن ترسم له خطط، وأنا أوافق على التفرقة بين الأدب والثقافة من حيث حرية الأول وتنظيم خطة للثانية.

ثم قال الدكتور أحمد أمين بك: إنما أريد للأديب توجيهات وللأدب غاية، فقيام النقد الأدبي على أساس صحيح معناه أن هناك عناصر وقواعد عامة يشير عليها النقاد، فالحرية المطلقة التي يدعون إليها هي هدم للنقد الأدبي، وأنا أريد من المجمع أن يضع توجيهات عامة في الأدب يسترشد بها الناقد والأديب، ويصح أن ندخل في حسابنا عند وضع هذه القواعد كون الأدب ذا فائدة اجتماعية أو أنه يطلب لذاته.

وشبه الأستاذ العقاد الأدب بالوردة، فلا يجب أن يخدم المجتمع.

وكان ختام المناقشة في الموضوع قول الدكتور طه: إن القوة التي ترسم خطة للأديب لم

ص: 43

تخلق بعد، وأرجو إلا تخلق، فالأديب حر، والناقد حر، وليس هناك ما يصح أن نسميه خطة للأدب ولو كان نقداً.

تعقيب:

تفرعت المناقشة في حرية الأدب إلى المسألة الثانية وهي خدمته للمجتمع، والأمر في مسألة الحرية واضح، فلن يستطيع أحد أن يلزم الأديب بأن يسير على نهج معين أو يتجه إلى غاية مرسومة، وحقاً إن غاية الأدب التعبير عما في نفس الأديب كما قال الدكتور طه، ولكن ما هي نفس الأديب وماذا فيها إن لم يكن الشعور بما يضطرب في حياته التي هي جزء من حياة المجتمع؟ أليست نفس الأديب نفس الإنسان يحس بما يدور حوله ويتأثر به ويعيش مع الناس في بؤسهم ونعيمهم ويشعر نحوهم بتبعات وواجبات؟ أو ليس في نفس الأديب ذخيرة من هذا كله فيعبر عنها بأسلوبه الفني ويؤثر في النفوس بصوره الأدبية ويوجهها إلى مثل عليا؟ وهو في ذلك يتمتع بتمام حريته لم يقسر على شيء ولم يرسم له أحد طريقاً ولم يخرج عن نطاق التعبير عما في نفسه.

لاشك أن الأصل هو ما في النفس، والتعبير صورة له، فإذا كان الأدب لا يخدم المجتمع فمعنى ذلك تجريد النفس من الشعور الاجتماعي أو كبت هذا الشعور، والأول ينفي القيمة الإنسانية عن الأدب، والثاني لا يتفق والحرية في التعبير.

على أن الأديب حينما يستجيب للمجتمع إنما يستجب لنفسه لأنه جزء منه، فإن لم يستجب له كان أدبه أدب عزلة وجمود.

حديث مستشرق عن الشعر العربي:

انتهزت كلية الآداب فرصة وجود مستشرق إنجليزي في رحلة بالشرق الأوسط، وهو الدكتور ألفرد جيوم أستاذ الأدب العربي بجامعة لندن، فدفعه إلى إلقاء محاضرة بالجمعية الجغرافية الملكية، فلبى الدعوة ألقى يوم السبت الماضي محاضرة موضوعها (الشعر العربي) بدأها بالإشارة إلى الصعوبات التي تعترض المستشرق عند قراءة الشعر العربي من حيث الوقوف على معانيه، وقال إنه كثيراً ما يغمض عليه معنى بيت فيبحث ويسأل عنه على غير طائل، فيتذكر قول شاعر إنجليزي سئل عن معنى بعض شعره: عندما قلت

ص: 44

هذا الشعر كان هناك اثنان يعرفان معناه الله وأنا، أما الآن فالله وحده هو الذي يعرفه.

وقال إنه لا يقف عند القصائد التي تصور البيئة المحلية فإذا رأى قصيدة في وصف الناقة خطر له أن يسلك مع قائلها طريقة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران، وذلك بإحياء الشاعر وأسماعه قصيدة في وصف السيارة تتضمن أسماء أجزائها، وما يتعلق بها من المصطلحات انتقاماً منه. . .

أما الذي ينال إعجابه فهو ما في الشعر العربي من التعبير عن العواطف الإنسانية، والمشاعر الروحية وتصوير جمال الطبيعة، فهذا يسر له كل إنسان يتمتع بالحاسة الفنية في كل أمة، وقال إن القصائد التي تعبر عن ذلك في شعر العرب تعد من روائع الآداب العالمية، وأتى بقطعة من شعر عمرو بن الفارض ووقف عند بعض أجزائها وقفة المتذوق الفطن، وعلق عليها قائلاً: إننا في هذا الوقت الذي يضطرب فيه العالم في خضم المنافع والماديات نستروح بروح الشعر وشعر الروح مما قاله منذ قرون ذلك الشاعر الصوفي العربي الذي يعد من اعظم شعراء الدنيا.

وأتى بقطع لمختلف الشعراء في مختلف العصور، ودل على مواطن الجمال فيها، وقد ذهب في اختياره بعض القطع، واستحسانه مذهب ابن قتيبة في قوله: ليس كل الشعر يختار لجودة اللفظ والمعنى بل لأسباب أخرى منها إصابة التشبيه.

وختم الدكتور جيوم محاضرته بأنه يعتبر نفسه سعيداً لأنه يدرس الأدب العربي لطائفة من شباب الإنجليز بجامعة لندن فيقرب إليهم موارد الشعر الذي يعبر عن روح الأمة العربية التي لا تقيم على ضيم.

وقد كان المحاضر - على التواء لهجته - دقيقاً في التعبير والإعراب، ومما استرعى التفاتي إليه انسجام إلقائه ونبراته مع ما يتحدث عنه، فكان يلقي ما أعده في الورق وكأنه يرتجل بلغته الأصيلة.

محاضرات مزعومة:

لا يزال بنفسي أثر من الروايات (البوليسية)، التي كنا نقرؤها في الصغر، فعلى رغم الزمن الذي مضى مذ (شب عمرو عن الطوق) فإن تلك القراءة لم تمنح آثارها وإن خدعنا الظاهر لأنها غائرة في الأعماق أو في العقل الباطن كما يعبر علماء النفس.

ص: 45

ذلك أني ارتبت في اسم من الأسماء، التي تنشر دائماً في (محاضرات اليوم) بالأهرام، فحلت بي روح المغفور له (أرسين لوبين) وجلست في الشرفة انظر إلى الأفق البعيد وأنفث دخان السيجار لترسم خطوطه المتموجة في الفضاء سطور الشك. . . كيف أوتي صاحبنا المقدرة على أن يلقي محاضرة كل يوم والمفروض أن المحاضرة فكرة تحتاج إلى وقت لتنضج في الذهن، وتختمر قبل أن ترتجل إن لم تحبر. . .؟ إلا يمكن أن يكون في الأمر دخل لروح العصر عصر السرعة، فيكتفي بعنوان المحاضرة ليجيز نشر الاسم الكريم ولا حاجة إلى العناء بالتفكير والإلقاء؟

ثم نفذت الخطة، وهي بطبيعة الحال تختلف عن خطط سلفي (أرسين لوبين) فلست احتاج إلى جرأته الخارقة وقدرته الفائقة على سرعة الانفلات من المسدس المصوب إليه. . . والتغلب على جميع أفراد العصابة بقبضة يده. . . كل ما في الأمر أن أذهب إلى المكان المعين لإلقاء المحاضرة، فألفيه مزعوماً، كدولة إسرائيل، حذو النعل بالنعل!

ودلت تحرياتي أيضاً - وأنا لا أزال متقمصاً روح أرسين لوبين - على أن بعضهم لديه بطاقات طبعها، متضمنة إنه سيلقي محاضرة، وقد ترك في الطبع بياضاً لعنوان المحاضرة، فما عليه إلا أن يسود هذا البياض، ويرسل البطاقة إلى الصحف، لتنشر النبأ.

لا شك أن (محاضرة اليوم) في الأهرام باب نافع من حيث ما قصد منه وهو أن يكون دليلاً لطلاب ثمرات العقول والقرائح إلى مجناها في القاعات والأندية، ولكن هذا القصد شيء والواقع شيء أخر، فالزميلة الغراء تخدع بما يرسل إليها فتنشره دون نظر فيما يشتمل عليه من الأعاجيب، ولست ادري - ما دامت مقتنعة بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً يلقون محاضرات كل يوم - لم لا تصنع لأسمائهم (أكلشيهات) بدل أن يتعب عمال المطبعة في صف حروفها كل يوم.

ومن تلك المحاضرة التي يعلن عنها - ما عدا التي لا تلقى - نوع يلقيه في المساجد أئمتها، وفي الكنائس أحبارها، وهي دروس في الوعظ تؤدي بحكم الوظيفة، وهي في ذلك كخطب الجمع أو كالدروس المدرسية، فتصور كيف تكبر المهزلة أن نشر كل مدرس في مدرسة، وكل خطيب في جامع، أنباء الدروس والخطب. .!

وللباحث الاجتماعي أو النفسي أن ينظر كيف يتهافت بعض الناس على الشهرة ولو لم

ص: 46

يملكوا أسبابها. . .

فتاة الشعر:

نشرت (المصري)، قطعتين من الشعر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي، تحت صورة فتاة حسناء، لست ادري مكانها من الشعر، أهي صورة التي يقصدها بالغزل، أم هي صورة (عمومية) يبغي بها جذب الأنظار، على طريقة بعض المحال التجارية و (صالونات) الحلاقة. . .؟ على أن الأستاذ وشعره ليسا في حاجة إلى ذلك، فهو أديب معروف، وما أرى الصورة إلا جانية على القطعتين المنشورتين، وهما من الشعر النابض، فالقارئ أما عادي لا يقرأ الشعر، وما لهذا حساب؛ وأما مستنير مثقف فيرى في نشر الشعر مقترناً بالصورة لوناً من الإسفاف ونوعاً من التعويض، فيعرض عنه.

وليست هذه أول مرة ينشر فيها الأستاذ الخميسي شعراً مع صورة، وبعض شعراء الشباب يلجئون إلى هذا الصنيع دون أن تعبر الصورة عن معنى معين يقصده الشاعر، ومن هؤلاء الأستاذ عزت حماد منصور بجريدة (البلاغ) فهل هي فكرة جديدة كفكرة (فتاة الغلاف) و (فتاة الحائط) فهي إذن (فتاة الشعر)؟

من هو الشقي الحزين؟

الآنسة أماني فريد إحدى الفتيات اللائى ينشر لهن في الغزل. . . وهو تطور جديد في أدبنا بصرف النظر عن قيمة هذا الشعر ومكانه من الأدب، وهو شيء طبيعي في هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر التحرر. . .

وقد أنكر محرر جريدة (الزمان) على فتاة متخرجة في كلية الآداب قصيدة غزلية نشرتها لها إحدى الصحف، ذاهباً إلى أن هذا ليس من موروث عاداتنا ولا من طبيعة مجتمعنا ولا من طبيعة المرأة من حيث ميلها إلى أن تكون هي المطلوبة. وختم كلمته بفتح الموضوع للاستفتاء العام.

وأي شيء بقي من عاداتنا وتقاليدنا؟ وهل وقفت المرأة عند طبيعتها تلك؟

أعود إلى الآنسة أماني، فقد نشرت (البلاغ) أبياتا بتوقيعها عنوانها (لوعة) جاء فيها هذا البيت:

ص: 47

أراني شقياً حزيناً

فيا نفس أين الرجاء

وسياق الأبيات أنها هي المتكلمة، فكيف تكون (شقياً حزيناً)؟ هلا راجعت الأبيات وتأملتها قبل أن تدفع بها إلى النشر لتعرف ماذا صنع الشقي الحزين. . .؟

عباس خضر

ص: 48

‌البريد الأدبي

مستقبل الشعر:

تساءل الأستاذ (توفيق الحكيم) في عدد أخير من (أخبار اليوم) عن مستقبل الشعر والشعراء. وهل آن لدولة الشامخة أن تودع العالم بين صخب التطور وجلبة الاندفاع إلى المستقبل الذي تهرول نحوه الشعوب في سرعة لا تعرف البطء، وعزم لا يدركه الكلال.

والذي رفع الأستاذ (الحكيم) إلى هذا التساؤل هو ما يراه من أفول يصيب نجم تلك الدولة الهرمة، ثم حاول أن يعلل له بما كان من أمر هذه الديمقراطية التي جعلت الآداب موجهة إلى الطبقات الوسطى والدنيا قبل أن تكون موجهة إلى الخاصة، وهذه الطبقات في رأي الأستاذ غير موجهة لتلقي هذه الرسالة الرفيعة، وأخيراً هذه السرعة المجنونة التي تلوذ بالسطح وتنفر من الغوص إلى القرار. والشعر فن يعتمد على التركيز والإيجاز، فهو في حاجة إلى شيء من الذكاء وشيء من الاستقرار يهيئان لفهمه والاستمتاع به.

والأستاذ (الحكيم) بعد هذا العرض وذلك التدليل متشائم، ينظر إلى مستقبل الفن الجميل نظرة الأسف المتحسر. فهل لهذه النظرة من أساس؟ وهل منطق الحوادث وأدلة الماضي والمستقبل تقف إلى جانبه؟

يخيل إلي أن الحق بجانب هذه النظرة التشاؤمية. فما هي الدعائم التي ينهض عليها الشعر؟ وما هي الروح التي تنفخ في جذوته المقدسة فتشعلها وتذكي لهيبها؟ وهل آن الدعائم أن تتقوض، أو لتلك الروح أن تلفظ الأنفاس في المستقبل الغريب أو البعيد؟

إذا استطعنا إذا نجيب على هذا السؤال كان لنا في الإجابة غناء عن تشاؤم الأستاذ أو تفاؤل غيره.

دعائم الشعر في نظري تنقسم قسمين:

قسماً يخص الشاعر الذي ينشئ الشعر. وقسماً يتصل بالقارئ. أما فيما يخص الشاعر فأن الدوافع التي تدفعه إلى قول الشعر لن ينضب معينها إلا إذا نضب معين الحياة، واستجابة الأحياء لما تلقاهم به من ألوان الحوادث والتجارب التي تمتنع على العد، وتستعلي على الإحصاء؛ فدوافع الشعر ستظل خالدة خلود الطبيعة والإنسان. وعلى هذا فالشاعر ضرورة إنسانية باقية، وحاجة روحية خالدة. وإن أقفرت بعض الفترات من وجود العبقريون من

ص: 49

الشعراء، فليس معنى ذلك أن الزمن سيظل بأمثالهم عقيماً.

وفي التاريخ الإنساني لجميع الأمم شواهد ناصعة على ذلك، وهي شواهد لا تقبل الجدل ولا اللجاج.

ففي الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي وسائر الآداب ما يقيم الدليل على أن الشعر لم يمت وإن مرت به عصور أوشكت فيها روحه أن تفيض، وأنفاسه أن تخنق.

وهنا تتراءى لنا مشكلة لا بد من أثارتها في هذا المجال. فقد كان الأسلوب الشعري هو الغالب في العصور القديمة، وكان النثر تقعد به مكانته دون التعبير عن العواطف الجائشة، والإحساس المتدفق الفوار. أما في العصر الحديث فقد نهض النثر نهضة عظيمة، وراح يزاحم الشعر مزاحمة ظاهرة في هذا المجال. فأدب المقالة اليوم هو في الذروة من حيث استيفاء أغراضه؛ وهي أغراض تشترك في كثير من الأحيان مع الشعر

وما يقال عن المقالة يقال عن القصة في هذا الباب. فالأدب التمثيلي عند (شكسبير) قد حلت محله مسرحيات (برناردشو) النثرية، ومسرحيات (شوقي) حلت محلها مسرحيات (توفيق الحكيم)

وهناك شيء آخر له خطورته على تضييق دائرة التعبير الشعري وهو ما شاع في العصر الحديث من وسائل الثقافة الفنية المختلفة التي زاحمت الكتاب سواء ما كان منه شعراً أم نثراً، وأخطر هذه الوسائل هي السينما والصحافة والمذياع.

وهكذا نلاحظ أن مجال الشعر قد أخذ يضيق ويضيق حتى أصبحت دائرته لا تكاد تجاوز التعبير عن الحالات التي لا يغنى فيها التعبير الموزون تعبير سواه.

أما دعامة الشعر الثانية وهي التي تتصل بالقارئ فيبدو أنها الظاهرة التي أخافت الأستاذ (الحكيم) وجعلته يتساءل هذا التساؤل الوجل في (أخبار اليوم)، فنسى أن يذهب بالتعليل إلى أصوله القريبة والبعيدة

فالقراء اليوم مدبرون عن الشعر منصرفون إلى أدب السطوح لا الأعماق - إن صح هذا التعبير -.

وهذا حق. . ولكن هذا لا يعود باللائمة على القراء (الأغبياء!)، لأن المسالة راجعة في أصولها إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي يحياها العالم اليوم، فنحن نجوز فترة

ص: 50

المخاض التي يضطرب لها كيان البشرية، وتميد معها دعائمها وأركانها. فالمشاكل الاقتصادية اليوم تحتل المكان الأول في نفس الإنسانية المعاصرة، وحتى يجيء اليوم الذي تحل فيه هذه المشاكل على نحو يرضي سنة التقدم، ويشبع رغبة التطور، فستظل مشاكل الفن وحاجات الروح مسائل ثانوية في (جدول الأعمال).

إن الإنسان في هذه الحقبة من الزمن محتاج ليكسب عيشه إلى ساعات لا تقل عن الثمان، هذا في الطبقة الوسطى، أما في الطبقات الدنيا فهو في حاجة إلى أكثر من هذا القدر بكثير أو قليل. فكيف نطلب إلى أمثال هؤلاء أن يخلوا إلى ديوان ليتذوقوا فيه قصيدة عصماء؟ وهم مازالوا يكافحون من اجل رغيف (أغر)؟! إننا نطالبهم بالمستحيل. فهل من أمل في تغيير هذه الحال؟ يخيل إلى أن الجواب هنا يجب أن يكون بالإيجاب، فنحن مقبلون - على رغم العوائق - على العصر الاشتراكي ما في ذلك شك. والاشتراكية هي الأمل المرموق الذي نتطلع إليه شعوب العالم، وتتنزى شوقاً إلى تحقيقه.

ويوم يعم العالم النظام الاشتراكي، فأن هذا الصراع من أجل العيش سينتهي إلى قرار، وعندئذ تنطلق القوى الروحية المطمئنة لتعمل في كل أفق من الآفاق، وإنها لرحيبة بعيدة الأغوار.

فنحن نستطيع بعد هذا كله أن نطمئن الأستاذ (الحكيم) على مستقبل الشعر، لأن الرجاء في مستقبل روحي باهر هو رائد الإنسانية المكافحة في هذا الجيل الذي نعاصره، وإن كنا إلى جانب ذلك نعتقد أن الشعر سيضيق مجاله عند الحد الذي لا يغنى فيه إلا القول الموزون. ولا خسارة هناك من هذا الأمر، فأن النقصان في هذا الفن سيزيده في ذاك، وسيظل الشعر مشعلاً من مشاعل الفن المضيئة الملألئة التي يبهر بريقها الأنظار، وإن علاه في هذه الحقبة شيء من الغبار.

ماهر قنديل

بطلخا الابتدائية

صورة طبق الأصل!

كثيراً ما أقرأ مقالاً بعينه أو قصيدة بعينها في أكثر من مجلة واحدة في زمان واحد، ومكان

ص: 51

واحد، كما وقع في كلمة الأستاذ أنور المعداوي حول كتاب (زوجات) للأستاذ الصاوي؛ فقد تفضل الأستاذ الناقد فكتب كلمة حول هذا الكتاب في مجلة (العالم العربي) عدد ديسمبر الجاري، ثم أردفها بصورة أخرى (طبق الأصل!) نشرها في (الرسالة) الغراء عدد (807)، وهذا عين ما وقع في قصيدة الشاعر توفيق عوضي (حب المنطق) فقد تفضل بنشرها في (الرسالة) عدد (806)، ثم في (الثقافة) عدد (521). وبعد، فلست أدري الحكمة من هذا التقليد الجديد، كما أجهل أسبابه ومبرراته ودواعيه ونكتة البلاغة فيه

قد يجوز أن أنشر قصيدة في مصر، ثم أنشرها بعينها في الحجاز، أو في أي رقعة من رقاع (الجامعة العربية)، وذلك لبعد الشقة، ونزوح المحلة، ولتوثيق الصلات الأدبية بين أبناء الضاد. . . أما أن ينشر مقال، وتنشر قصيدة، في المكان الواحد والزمان الواحد، في أكثر من مجلة واحدة، فذلك ما لا يجوز، أو قد يجوز، ولكني على كل حال لا أعرف عبرة جوازه. . . فأكون لمن يتفضل بالعبرة من الشاكرين!

(الزيتون)

عدنان

حننت إلى ريا:

قرأت الرسالة الغراء في العدد 806 ص 1397 في مقال الأستاذ أحمد أحمد بدوي قصيدة الصمة بن عبد الله التي مطلعها:

حننت إلى ريا ونفسك ساعدت

مزارك من ريا وشعباً كما معاً

منسوبة إلى القشيري، والمعروف أنها للصمة بن عبد الله بن طفيل بن الحرث بن قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب، كما ذكر أبو تمام في ديوان الحماسة (ص54 الجزء الثاني الطبعة الثانية)، وهو شاعر غزل مقل من شعراء الدولة الأموية قالها في بنت عم له هويها يقال لها (ريا)، فخطبها إلى عمه، فزوجه إياها على خمسين من الإبل، فسال أباه ذلك، فساق عنه تسعاً وأربعين، فأبى عمه إلا الخمسين كاملة، فلج أبوه ولج عمه فتركها مغاضباً ورحل إلى الشام فتبعتها نفسه، وجاش صدره بهذه القصيد

عبد الجليل السيد حسن

ص: 52

تصحيح كلمة:

لاحظت أن الأديب المتمكن الأستاذ عدنان أسعد في تتبعه عشرات الأفلام وتطبيعات الصحف ألف أن يجعل من كلمة - مانع - صفة للشيء المستحسن الجميل حتى لقد ذكرها في تعقيباته أكثر من مرة. في الجزء الخامس من المجلد الأول من مجلة (الكتاب) الزاهرة وفي العدد 782 من (الرسالة) النيرة ويبدو لي أن التوفيق أخطئه إذ وجدت أبا الفرج الأصفهاني في أغانيه ج 2 ص 50 ط دار الكتب المصرية يروي شعراً على لسان المجنون يقول فيه:

أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا

من السيف يوم لافح الحر مانع

وقد ذكر الشراح أن المانع هو الطويل خلافاً لما ذكره الأستاذ، وله مني تحية إعجاب.

(السباعية)

محمد الشاذلي حسن

ص: 53

‌القصص

الأقدار

للكاتب الأمريكي ن. هاوتورن

أن معرفتنا الحوادث التي تؤثر على حياتنا ومصيرنا في الواقع معرفة طفيفة ضئيلة فهناك من هذه - الحوادث - إذا شئت أن تسميه حوادث - ما يدنو منا، ثم ينزح عنا، دون أن يكون له أي أثر على أنفسنا، أو يفشى قربه، أو يلقي ضوءاً أو ظلاً عن وجوده. وهذا ما حدث لدافيد سوان.

نحن لا يهمنا من حياة دافيد سوان سوى تلك التي تربطه بها منذ بلوغه العشرين من العمر عندما كان قادماً من مسقط رأسه في طريقه إلى مدينة بوسطون ليعمل في حانوت عمه. ويكفي أن نعرف أنه ولد في نيوها مشاير من أبوين محترمين، وأن ثقافته عادية تزيدها دراسة عام في أكاديمية جليمانتون. وكان يشعر بالجهد وعناء السير ووطأة القيظ بعد أن قطع شوطاً كبيراً من الطريق منذ شروق الشمس حتى ظهر يوم من أيام الصيف الحارة. فعزم على أن يستريح في أقرب مكان تكتنفه الظلال وينتظر قدوم مركبة السفر وكأنما تهيأ له هذا المكان، فسرعان ما بدت أشجار باسقة حول خلاء يتوسطه نبع من الماء العذب الدافق فطبع قبلة على صفحته من شفتيه الظمآنتين ثم استلقى على الأرض وقد توسد لفافة تحوي ملابسه الداخلية. كانت الشمس تجاهد في فتح ثغرة بين الأفنان حتى تصل إليه، وإنجاب ستر ذلك الغبار المتصاعد من الطريق بعد أن هطل المطر في الليلة الماضية. وارتاح الشاب لتلك الحشائش التي يرقد عليها وكأنه نائم على فراش وثير. وتمتم النبع يهمس بجواره، وتأرجحت الأفنان تحت السماء الزرقاء. ثم استولى عليه نوم عميق تتخلله أحلام عابرة لا يهمنا أمرها، فكل اهتمامنا موجه إلى ما يحدث بعيداً عن أحلامه.

كان الناس غادين رائحين على طول الطريق راكبين أو مترجلين فيمرون عليه وهو راقد تحت سلطان الكرى في خلوته وقد ألقت عليه الأشجار ظلالها. وكان منهم من لا يلتفت يمنة أو يسرة فلا يدري وجود دافيد، ومنهم من يرمقه وهو يبتعد عنه سارحاً في أفكاره، ومنهم من يضحك عندما يشاهده راقداً يغط في نومه، ومنهم أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالبغضاء، فيبعثون إليه فيضاً من كلمات الضغينة والحقد.

ص: 54

وأطلت أرملة متوسطة العمر عليه، ثم حدثت نفسها قائلة: إنه يبدو فاتناً في نومه. ورآه مدرس وقور فعزم على أن يزج بالشاب المسكين في موضوع محاضرته التي سيلقيها ذلك المساء، فيشبه حاله بحال سكير أفرط في الشرب حتى نام بجوار الطريق. كانت كل هذه الخواطر بما فيها ذم ومدح، وسرور وغضب، وإعجاب واحتقار، لا تهم دافيد في شيء. فقد كان بمنأى عنها وهو غارق في نومه.

وأقبلت مركبة يجرها زوج من الجياد القوية سرعان ما وقف أمام ملجأ دافيد. كانت إحدى عجلاتها قد انزلقت بعيداً عنها، مما روع التاجر المسافر وزوجه قليلاً، فترجلا عن المركبة، إلى إن يتم استبدال عجلة بأخرى، وقصد إلى ملجأ دافيد تحت الأشجار التي تظلله. وتمتم النبع المتفجر يشكو تطفل الدخيلين، وتأثر الهدوء الشامل الذي كان يرين على المكان، فعادا أدراجهما في خفة وسكون، خشية أن يوقظا النائم. وهمس السيد الكهل قائلاً ما اعمق نومه! انظري كيف يتنفس في هدوء. وددت لو أنام مثل هذا النوم في مقابل تنازلي عن نصف ثروتي. أنه الصحة والسعادة وصفاء الضمير.

فقالت السيدة - ذلك بجانب الفتوة والشباب. إن الرجل الكهل وإن كان صحيح البدن لا ينام مثله.

وكان التاجر وزوجه كلما أطالا النظر إلى دافيد، ازداد اهتمامهما به، وهو نائم في ذلك المكان بجوار الطريق تحنو عليه تلك الأشجار، وكأنه يرقد في مسكن خاص لا ينازعه فيه منازع، وقد انسدلت فوقه ستائر فاخرة من الظلال، وأقبلت الشمس وقد وجدت أشعتها فرجة تنفذ منها خلال الأفنان، أقبلت تقبل وجهه. وشعرت السيدة بحنان الأمومة يطغي على قلبها، فأحنت فنناً تظلل به وجه الشاب، ثم همست تقول لزوجها.

- يبدو أن العناية الإلهية قد وضعته في طريقنا، وقادتنا إليه. أني أرى شبهاً بينه وبين ولدنا الراحل. إلا نوقظه؟

فتردد التاجر هنيهة ثم قال - لماذا؟ إننا لا ندري شيئاً عن أخلاقه.

فأجابت السيدة - إلا ترى هذه الملامح الطيبة؟! ألا تلاحظ هذا النوم البريء؟!

كانت همساتها تردد في المكان، ومع ذلك لم تسرع دقات قلب دافيد، ولم تبهر أنفاسه، ولم تشف ملامحه عن أي اهتمام لما يدور حوله، ولم يشعر (بالحظ) فوقه وعلى أهبة الاستعداد

ص: 55

لأن يغمره بالذهب. لقد فقد ذلك التاجر وحيده، ولم يعد له وريث سوى قريب بعيد لا يميل إليه، ولا تعجبه أخلاقه. ولهذا كان دافيد على قاب قوسين أو أدنى من الثروة والغنى.

ورددت السيدة تحاول إقناع زوجها - إلا نوقظه؟

وهنا سمع صوت السائق وراءهما يقول - أن المركبة على أهبة الرحيل.

فجفل الزوجان، واحمر وجههما، ثم أسرعا يبتعدان عن النائم وهما يعجبان ويتساءلان كيف خطر لهما أن يحاولا إيقاظ هذا الشاب. وتهالك التاجر على مقعد المركبة ثم سرحت به أفكاره بعيداً عن دافيد، ودفعته إلى الاهتمام بمشروع ملجأ للعاطلين.

ولم تكد المركبة تبتعد حتى أقبلت فتاة حسناء في خطى رشيقة، تشف عن قلب صغير يرقص في صدرها. ولعل ابتهاجها ومرحها وحركاتها هي التي دعت (وهل هناك ضرر من قولي؟!) إلى تهدل جوربها الحرير (أن كان حريراً؟) فانتحت جانباً بجوار المكان الذي يرقد فيه الشاب، وانحنت تحاول تثبيت جوربها. وسرعان ما علا وجهها حمرة خجل كاحمرار الوردة عندما أبصرت ذلك النائم المستلقي بجوار النبع، وهمت بالهرب في هدوء عندما لاحظت خطراً يهدد الشاب. كانت تحوم فوق رأسه نحلة ضخمة، وتدور حول المكان في طنين عال، فتارة تطير بين الأفنان، وتارة تندفع مخترقة أشعة الشمس، ثم تختفي في الظلال، وأخيراً حطت على جفن الشاب. وكانت الفتاة تعرف ما تسببه لذعة النحلة من ضرر فهاجمتها بمنديلها ونحتها عنه. ثم وقفت تلهث، وقد بدت حمرة الخجل على وجنتيها، وجعلت تختلس النظر إلى ذلك الشاب الغريب، وتمتمت تحدث نفسها ولم تزل حمرة الخجل تعلو وجنتيها (كم هو جميل الطلعة!).

كيف لم يساوره أثناء نومه حلم سعيد، حلم يستطيع فيه أن يلاحظ هذه الفتاة بين أبطال حلمه؟ ولماذا لم تشرق ابتسامة ترحيب على وجهه؟ لقد قدمت إليه تلك العذراء التي وافقت روحها روحه، والتي كان يتوق إلى رؤيتها، ويصبو إلى لقائها. إنها هي الوحيدة التي يتمنى أن يحبها الحب الفريد الكامل، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يتربع في أعماق قلبها. وهاهي ذي الآن قد انعكست صورتها على صفحة ماء النبع بجواره، تلك التي ستختفي عن أنظاره إلى الأبد إذا لم يستيقظ ويرها.

وتمتمت الفتاة قائلة ما اعمق نومه!

ص: 56

ثم عادت أدراجها وقد ثقلت خطواتها. كان والدها تاجراً ريفياً ناجحاً، وكان يبحث في ذلك الوقت عن شاب يساعده في أعماله ويشاركه في تجارته. وهكذا اقترب (الحب) من دافيد كما اقترب منه (يلاحظ) دون إن يدري عنه شيئاً.

وابتعدت الفتاة عن المكان عندما أقبل رجلان واقتحما الخلوة. بوجهين قاتمين وملابس رثة قذرة. كانا من أولئك المتشردين الذين يتعيشون على ما يرسله لهم الشيطان. وهاهما قد أقبلا لاقتسام ما ربحاه من المقامرة. وإذ بهما يشاهدان الشاب وهو نائم فهمس أحدهما إلى الأخر قائلا - إلا ترى تلك اللفافة التي تحت رأسه؟.

فأومأ الآخر بإيجاب، وغمز بعينه، ثم نظر شزراً. فقال الأول - أراهن على قدح من الخمر أن لم يكن هذا الشخص يملك محفظة عامرة بالأوراق المالية أو يخفي نقوده الفضية في مخبأ داخل هذه اللفافة، ذلك إذا لم نجدها في جيوب سراويله.

فقال الآخر - وإذا ما استيقظ؟.

فأشار زميله إلى مقبض خنجره المثبت داخل سترته، فتمتم الشقي الثاني قائلا - هذا يكفي!.

واقترب من النائم، وسدد أحدهما الخنجر صوب قلبه، فجعل الآخر يبحث في ثنايا اللفافة التي كان يتوسدها. وكانت ملامحهما تنطق بالشر والجريمة والخوف وهما منحنيان فوق ضحيتهما. حتى ليكاد أن يخيل إلى الشاب - إذا ما استيقظ ورآهما - انهما من الشياطين. ولو كانا قد القيا نظرة إلى صورتيهما المنعكستين على صفحة ماء النبع، لما عرفا نفسيهما وهما في هاتين الصورتين البشعتين. ولكن الشاب كان نائماً في هدوء لم يعهده من قبل.

وهمس أحدهما قائلا - يجب أن أحرك هذه اللفافة.

وتمتم الآخر - إذا ما تحرك سأقضي عليه.

وأقبل فجأة كلب يشم الأرض تحت الأشجار ثم القي نظرة فاحصة على الشقيين، وأخيراً عاد أدراجه.

فقال أحدهما - لن نستطيع عمل شيء بعد ذلك. إن صاحب الكلب بالقرب منه.

فقال الآخر إذاً دعنا نشرب ثم نرحل.

وأعاد الرجل خنجره إلى طيات ثيابه، ثم أخرج قارورة من الشراب، وجعل ينهل منها هو

ص: 57

وزميله وأخيراً نزحا عن المكان وهما يضحكان. وبعد ساعات كانا نسيا ذلك الشاب غير مدركين أن الملك الذي يدون ما جرى من حوادث قد سطر في صفحتيها إثماً ضد روحيهما، إثماً دائماً بدوام الخلود. أما دافيد فكان لا يزال غارقاً في سبات هادئ فلم يشعر بشبح الموت وهو يجثم فوقه، ولا بضياء الحياة الجديدة التي منحت له عندما أنسحب ذلك الشبح. ونام ملء جفونه نوماً أبعد عنه الجهد والتعب. وأخيراً أخذ يتململ وتحركت شفتاه ثم تمتم وكأنه يتحدث مع أطياف أحلامه النهارية. وسرعان ما استيقظ عندما سمع صليل عجلات مركبة السفر وهي تنهب الطريق مقبلة نحوه. فنظر إليها ثم صاح - أيها السائق. أتأخذ معك مسافرا؟.

فأجاب السائق - أصعد - فهناك مكان في أعلى المركبة. وصعد الشاب مغتبطاً وسارت المركبة صوب بوسطون. ولم يلق دافيد نظرة على ذلك الببع بما جلبه له من أحلام متقلبة. ولم يعرف أن شبح (الثروة) قد ألقى ظله الذهبي على مياهه، ولم يدرك أن ملك (الحب) قد تنهد في هدوء واختلط صوته بصوت أمواجه، ولم يشعر أن شبح الموت كان على وشك أن يصبغ تلك المياه بدمه. حدث كل هذا في ذلك الظرف الوجيز من الزمان الذي كان فيه نائماً؛ فنحن في نومنا لا نشعر ولا نسمع وقع خطوات الحوادث وهي تمر علينا مراً. أليس في استطاعة قوة إلهية مهيمنة أن تجعلنا قادرين على التنبؤ - ولو بقدر بسيط - بتلك الحوادث الخفية الفجائية التي تلقى بنفسها في طريقنا؟

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 58