الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 813
- بتاريخ: 31 - 01 - 1949
قروية فيلسوفة
كلا يا صديقي! لا أريد أن تبيض صحيفتي! كان العشاق لا يطيقون الرقيب وله عين، فكيف يطيقونه اليوم وله عين ولسان، وقلم سلطان؟ دعنا من حديث شرق الأردن والعراق والجامعة، وتعال أحدثك حديثا رفيقا رقيقا، إن خلا من الفائدة فلا يخلو من اللذة، وإن بعد عما يشغل الناس فلا يبعد عما يشغل النفس:
أم عامر قروية شيخة، تعد الستين في سرها، ولكنها كسائر النساء لا تجاوز الثلاثين في جهرها. وهي في سبيل التدليل على استحارة شبابها واكتمال قواها تتحامل على نفسها، فتحلب الجاموسة، وتملأ الزير، وتخبز الفطير وتكنس الدار وتكسح الزريبة وتعلف الماشية وتطهو الطبيخ، وتحمل في عنقها مفتاح الحبوب والنقود واللبن والكرار، فلا يستطيع أحد من أولادها وأحفادها أن يصل إلى شئ من أولئك إلا عن يدها. فإذا أشفقت عليها كنتاها ورغبتا في أن تعيناها على شان من شؤون المنزل، قالت لهما في كبرياء وأنفة: أنا لا أزال صبية مثلكما! عليكما الغيط، وعلي البيت! والحق أن السيدة أم عامر قوية ذكية: تمرست الشدائد فازدادت مرة، وتصرفت في الأمور فاكتسبت خبرة واضطربت في المعاش على هوى الزمن القلب فتعلمت بالتجربة، وتفلسفت بالسليقة؛ فكلامها حكم، وحديثها أمثال ورأيها حجة. ومن أجل ذلك تميزت شخصيتها في المجتمع الريفي فأصبحت كالعرافة في العهد القديم، تستخيرها كل امرأة، وتستشيرها كل أسرة. وهي إلى ذلك طويلة الأنف تدسه في كل منزل، شرفاء الأذن ترهفها إلى كل مجلس؛ فلا يقع في العزبة حادث أو حديث إلا كان عندها علمه ومن لدنها ذيوعه.
رأيتها صباح يوم من أيام ديسمبر في الجرن تنزع الأغلفة عن أمطار الذرة المنداة وحفيدها الصغير نائم على كتفها، وكلبها الأبقع رابض بقربها، وحمائم البرج القريب ينتهزن غفلتها النادرة فيقعن من وراء ظهرها على جانب المفرش يقتلعن الحب من قوالحه، وكان الفلاحون ونساؤهم قد خرجوا إلى الحقول، صغارهم ليسيموا الأنعام في البرسيم الغض، وكبارهم ليطهروا المصارف من الغرين الراسب، فلم يبق في الضيعة إلا عجوز تستدفئ بالشمس، أو طفلة تلعب في الطين، أو دجاجة تبحث في الأرض. فأغراني هدوء المكان ودفء الجو، وما سمعته عن حال العجوز، على أن أذهب إليها، فحييتها ثم جلست إزاءها على أعواد الذرة اليابسة وسألتها: كيف حالك يا أم عامر؟ فأجابت العجوز بلهجة تنم على
الرضا والغبطة: حالي خير حال والحمد لله! العيش مخبوز، والماء في الكوز فماذا أبغي فوق ذلك؟ فقلت لها: وهل يقنع أبن ادم؟ تبغين الأرض المملوكة، والدار المشيدة، والثوب الحرير، والمركب الفاره، واللحم في كل وجبة! فقالت وهي تضحك: هبني يا سيدي أصبحت (بدراوية) عندي الآلاف من الحقول، والمئات من العجول، والقناطير من الذهب والصناديق من الحلي، والأصونة من الثياب، فهل أنال من كل أولئك غير ملء الجوف وستر الجسم؟ أن الحلاوة التي تجدها في قالب السكر الصغير هي بعينها الحلاوة التي تجدها في قمع السكر الكبير. وإن اللذة التي تذوقها في رطل اللحم الذي تشتريه هي نفسها اللذة التي يذوقها البدراوي في الخروف الذي يذبحه. وإن الدائرة الضيقة التي أضطرب فيها أنا وعيالي، تجمع من متاع النفس والجسم ما تجمعه الدائرة الواسعة التي يركض فيها الباشا هو وأهله. فالمسألة إذن مسالة قلة وكثرة، لا مسالة نعيم وبؤس. وما دام القليل يكفيك من الكثير والصغير يغنيك عن الكبير فإن فضول العيش شغل وهم وفتنة. اسمع أقص عليك من بعض أمري ما يثبت فؤاد القانع، ويغير اعتقاد الطامع. . . .
(بقية المنشور في العدد القادم)
احمد حسن الزيات
النزاع في البلقان
للأستاذ عمر حليق
من بين القرارات الرئيسية التي اتخذتها الجمعية العمومية في اجتماعها الأخير بباريس مشروع جديد لإعادة السلم في البلقان، والسعي لتصفية الحرب الأهلية في اليونان.
وقرار هيئة الأمم هذا يطلب إلى جارات اليونان الثلاث: ألبانيا وبلغاريا ويوغسلافية، الامتناع عن تزويد الثوار اليونانيين بالأسلحة والمساعدة المادية والمعنوية، ويوصي اللجنة الدولية التي أنشأتها هيئة الأمم لفض النزاع في البلقان بمتابعة أعمالها. وقد خولها هذا القرار صلاحيات جديدة من شانها إذا نفذت أن تضع نهاية مرضية لهذا الصراع المؤسف المزمن الذي ابتدأ بين اليونان وجاراتها منذ أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها.
وهذا المشروع الذي نحن بصدده هو من وضع الصين وبريطانيا وفرنسا وأمريكا مشتركين. وقد نال أصوات جميع أعضاء هيئة الأمم باستثناء روسيا وحلفائها في دول أوربا الشرقية
وكان رأي الروس لحل مشكلة البلقان يرمي إلى وقف أعمال لجنة البلقان الدولية التي ألفها مجلس الأمن في السنة الماضية، وسحب الجنود الأجانب من جميع الجنسيات من اليونان، ثم حمل الدول المتنازعة على الدخول في مفاوضاتلإيجاد تصفية نهائية.
وطبيعي أن هدف الروس في هذه الدعوة هو إقصاء الجنود الأمريكيين والبعثات العسكرية الانجلوسكسونية التي تدير الجيش النظامي اليوناني، وترك الحالة مرهونة بالقوة الكامنة لدى الثوار اليساريين اليونان والتي ترعاهم حكومة موسكو في شكل لا يتخذ صورة المساعدة العلنية التي يقوم بها الأمريكان في اليونان وتركيا، والتي تتخذ شكل السيطرة السياسية والاقتصادية التامة، خصوصا في اليونان وقد كبت هانسون بولدوين المعلق العسكري لجريدة النيويورك تايمس الأمريكية منذ مدة يقول إن انتصار روسيا في حرب البلقان يكشف عن وسيلة الصراع التي تدفع فيه روسيا الولايات المتحدة إلى حرب اقتصادية تستنفد القوى الاقتصادية الأمريكية وتعقد العلاقات والتيارات الاقتصادية والتجارية في عالم ما بعد الحرب. وقد عد هذا الكاتب عمليات روسيا في اليونان انتصارا لأن مضي عام على احتلال الأمريكان مكان الإنجليز في اليونان، وإنفاقهم 250 مليون
دولار بموجب شريعة ترومان خلال السنة المنصرمة، قد أنتج عكس ما كان يقدر له صناع السياسة في أمريكا. فقد زاد عدد الثوار اليونان من 10 آلاف إلى 25 ألفا، وتراكمت على الإدارة الأمريكية التي تتولى تنفيذ شريعة ترومان في اليونان أعباء مالية جسيمة اضطرتها إلى أن تطلب من الكونغرس تخصيص ضعف هذا المبلغ (500 مليون دولار) للسنة الحالية. أضف إلى ذلك أن اليساريين اليونان قد تمكنوا من التركز في مواقع ستراتيجية جديدة تتوغل في الأراضي التي كانت تسيطر عليها الحكومة اليونانية في السنة الماضية.
ولنعد إلى محاورات هيئة الأمم:
لقد رفض المشروع الروسي بأكثرية ساحقة، وكانت حدة النقاش بين الروس وحلفاء الغرب بصدد المشكلة البلقانية في جلسات هيئة الأمم من أعنف ما شهدته هذه المؤسسة من نقاش. فقد حمل المسيو فيشينسكي وهو قانوني ضليع وخطيب مصقع على لجنة البلقان الدولية وطالب بحلها معددا الأخطاء والتحيز الذي بدا منها بفضل ما سماه (مهزلة التدخل) الأمريكي في أعمالها وتوصياتها وفي سعيها لتوطيد الملكية اليونانية إمام مقاومة ما سماه فيشينسكي العناصر التقدمية الشعبية.
ولعل من الطريف مقارنة فيشينسكي في تعداده أخطاء لجنه البلقان بدفاع زميله ومواطنه يعقوب مالك المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن عندما تعاقب المندوبون العرب بالخطب وبالمذكرات على الكشف عن تآمر وأخطاء لجنة التقسيم الدولية بفلسطين ولجنة مراقبة الهدنة. . .
وحاول المندوب الروسي أن ينفي التهم عن حلفائه البلغاريين والألبانيين واليوغسلافيين فقال إن أزمة النزاع في اليونان ليس مبعثها تدخل جارات اليونان، ولكن مبعثها فساد النظام والإدارة السياسية في حكومة أثينا، وأن أية محاولة لتعزيز هذه الحكومة لن يضمن استقرار السلم في البلقان وهي منطقة في مسيس الحاجة إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وهو إصلاح لا يتم إلا بتوطيد السلم الحقيقي. أما أجوبة اليونان عن ادعاءات الروس فإنها تشير إلى أن اليونان فريسة عدوان منظم من جاراتها الشيوعية، وهذا العدوان يتخذ شكل اعتداء حربي مسلح يشترك فيه الجنود البلغاريون والألبانيون واليوغسلافيون مع الثوار اليونان برعاية حكومة موسكو ومساعدتها المادية والمعنوية. ولذلك فإن مأساة
الصراع في اليونان ستنتهي حتما إذا امتنعت روسيا وأعوانها عن تغذية الثوار اليونانيين. ويقول ممثلو حكومة اليونان في هيئة الأمم إن الشعب اليوناني في منطقة الحكومة وفي منطقة الثورة على السواء يرغب في السلم، ولن يتم له تحقيق هذه الرغبة إلا يوقف تدخل الدول المجاورة.
ويعزز رأي اليونان أصوات سادة هيئة الأمم المتحدة وهم الانجلوسكسون، وقد استطاعوا إقناع أعضاء الهيئة بتخويل اللجنة الدولية في البلقان صلاحيات جديدة يعززها من الخلف نفوذ لايك سكسس عسى أن يستقر السلام في تلك المنطقة التي هي برميل البارود في حروب أوربا الشرقية.
ويقول تقرير نشر في لايك سكسس مؤخرا إن اللجنة الدولية المذكورة معززة بقرار الجمعية العمومية قد نجحت مبدئيا في تقريب وجهات النظر بين الحكومة اليونانية وجاراتها على أسس جديدة قد تسفر - إذا استمر هذا الجو الهادئ نسبيا الآن في البلقان - عن خطوات عملية جدية لتصفية نهائية. . . .
(نيويورك)
عمر حليق
أبو عمرو بن العلاء
للأستاذ عبد الستار احمد فراج
(لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء كان ينبغي أن
يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء)
يونس بن نجيب
القرجة
ما بال هذا الشيخ العلاء بن عمار وأبنه الفتى أبي عمرو يضربان في إحدى صحاري اليمن مصعدين إليها؟
أما أكبرهما فيجلله الشيب ويغشيه الوقار وتنبئ طلعته عن عراقة النسب وكرم النجار وان كانت تبدو عليه رهبة الخائف وخشية المطلوب.
لكن الفتى أبا عمرو - وقد خنق بضعا وعشرين سنة - تتبين في تقاسيم وجهه محايل النجار ولمحات الذكاء، ويطالعك بالبصيرة النفاذة والفكر اللماح، وتتوسم فيه لهفة التعطش إلى انتهال المعارف وارتشاف العلوم.
وبينما الصمت باسط أجنحته على هذا الفضاء المترامي إلا ما تسمعه من همس أخفاف الإبل وهي تلامس صفحة الرمل المنبسطة، انطلق صوت إعرابي يغذ السير وهو ينشد:
لا تضيقن بالأمور فقد تف
…
رج غماؤها بغير احتيال
ربما تكره النفوس من الأم
…
ر له فرجة كحل العقال
فاقبل الشيخ وهو يغالب لهفة تملك عليه نفسه يسأله عما وراءه فكان جوابه: مات الحجاج.
لك الحمد يا ربي! نطقت بها أسارير العلاء قبل أن يترطب بها لسانه بين فكية، وأخذت وسامة الارتياح تجلو عن صفحته جهامة الإفزاع، وأدار وجه راحلته ليصرفها إلى البصرة بعد أن تقبل التهنئة من فتاه بسلامته من طلب الحجاج مما جعله يركب أهوال الصحراء فيطلب النجاة وقد ضم إليه أبنه خشية أن تمتد إليه يد الإيذاء. أما أبو عمرو فهو - كما يحدث عن نفسه - كان أكثر فرحا بالإنشاد من سماعه بنبأ الوفاة. أليس ذلك الإعرابي يقول:(له فرجة كحل العقال) بفتح الفاء من الفرجة لما كان مخرجا من الهم المعنوي وهو
يحفظها من قبل بالضم لما كان بين الشيئين الحسيين؟
نسب أبي عمرو:
اشتهر بكنيته أبي عمرو واسمه الحقيقي زبان بن العلاء بن عمار أبن العريان بن عبد الله بن الحصين، وينتهي إلى مازن من تميم، كان من أشراف العرب ووجهائها مدحه الفرزدق بقوله:
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها
…
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
وغضب مرة فهجاه ثم جاء إليه معتذرا فقال أبو عمرو:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً
…
من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
ويكفي في مكانته من قبيلته أن أباه كان من الرجال الذين اتجهت إليهم أنظار الحجاج فطلبه للقضاء عليه.
نشأته وشيوخه
ولد بمكة في أواخر العقد السابع من القرن الأول الهجري، وبها وبالمدينة كان تلقيه لكتاب الله حيث كان يسارع إلى حفظه كل فتى من أهل الحرمين وغيرهما من الأمصار إذ ذاك. وكان علماؤها يتلقون روايات القرآن المختلفة عن رسول الله ويختارون منها ما وافق شروطهم في الاختيار؛ وكانت رواية هذا أو بعضه تعد - بجانب رواية الحديث - أعظم ما يهتم به المتعلمون وأكرم ما يسعى إليه الراغبون. ولكن أبا عمرو لم يدع أحدا من نابهي القراء وعرضها عليه. وأقدم من أخذ عنه من أهل مكة مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 هـ وعطاء أبن أبي رباح المتوفى سنة 114، وعكرمة بن خالد المخزومي المتوفى سنة 115، وعبد الله بن كثير أحد القراء السبعة المتوفى سنة 120، ومحمد بن محيصين أحد القراء الأربعة عشر المتوفى سنة 23، وحميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة 130.
وأخذ من شيوخ المدينة عن يزيد بن رومان المتوفى سنة 120 وأبي جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة المتوفى سنة 130 وشيبة بن نصاح المتوفى سنة 130 وقد تلقى عن هؤلاء الثلاثة أيضا نافع أحد القراء السبعة. ورحل إلى البصرة والكوفة فأخذ من شيوخ البصرة عن نصرين عاصم ويحيى بن يعمر اللذين توفيا سنة90 القرآن والنحو؛ وأخذ عن
الحسن البصري المتوفى سنة 110 أحد القراء الأربعة عشر القرآن، وعن عبد الله بن أبي أسحق الحضرمي المتوفى سنة 117 القرآن والنحو، وتلقى بالكوفة القرآن عن سعيد بن جبير المتوفى سنة 95 وعاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة المتوفى سنة 127 فأبو عمرو وهو أحد السبعة المشهورين إلى عهدنا هذا مع بقية العشرة إلى الأربعة عشر، أخذ عن كل من سبقه في السن وشارك من قاربه إلا أبن عامر بدمشق فانه لم يأخذ عنه ولم يشاركه ولعل أبا عمرو لم يكن - كما يبدو من طلب الحجاج لأبيه - من المقربين إلى خلفاء بني امية، فلم يحاول أن يقدم عاصمتهم ويأخذ عن قارئها عبد الله بن عامر، وبخاصة إذا علمنا انه زار دمشق في دولة العباسيين ثم أستقر به المقام في البصرة إلا ما ندر حيث تهيأت له إمامة القراءات والأدب بعد أن طوف بالأمصار وخاض البوادي.
علمه:
ليس بالكثير على رجل كأبي عمرو، وقد أخذ عن أعلام الإسلام وأجلة العلماء أن تكون له مكانته في العلم ملحوظة، فيقول في تلميذه أبو عبيده: كان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر. وأن يقول تلميذه الأصمعي: سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابني فيها بألف حجة. وأن يعتز أبو عمرو بما وفقه الله إليه فيقول: لقد حفظت في علم القرآن ما لو كبت ما قدر الأعمش على حمله. ويقول ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني. ويزيد الأصمعي على ذلك: ولم أر بعد أبي عمرو أعلم منه. وفيه يقول تلميذه يونس بن حبيب: (لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء).
وهو إلى جانب شيوخه الذين فاق بعددهم كل من عاصره كانت دفاتره ملء بيته إلى السقف.
أدبه
يروى أبو عمرو الشيباني: ما سألت أبا عمرو بن العلاء عن حماد إلا قدمه على نفسه. ولا سألت حماداً عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه. وإن كتب الأدب واللغة لتروي شروح أبي عمرو للشعر وروايته له وذوقه الأدبي في تخير أجودها، فأبو الفرج في أغانيه يقول: كان أبو عمرو: يرى أن بشار بن برد أبدع الناس بيتا حيث يقول:
لم يطل ليلى ولكن لم أنم
…
ونفى عني الكرى طيف ألم
وأنه أمدح الناس بقوله:
لمست بكفي كفه ابتغي الغنى
…
ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
وأنه يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة:
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى
…
مكان البكا لكن بنيت على الصبر
وأنه لم تقل العرب بيتا قط أصدق من بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
وكان يقول: أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج:
وكانت له موازنات بين الشعراء، فهو يشبه جريراً بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة. وكانت له تشبيهات جميلة؛ من ذلك قوله: عليكم بشعر الأعشى فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركي. وكان يقول: إنما شعر ذي الرمة نقط عروس تضمحل عما قليل، أو أبعار ظباء لها شم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح الأبعار. وعرض عليه قول عدي بن الرقاع:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا
…
فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارها
…
عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده الناس فرنقت
…
في عينه سِنة وليس بنائم
فقال: أحسن والله وكان عنده شيخ مدني جالس فقال والله لو سمعت لحن معبد في هذا الشعر لكان طربك أشد واستحسانك أكثر وكان أبو عمرو لكثرة تنقله واتصاله بأهل البادية يعرف فصحاء القبائل فيقول: (أفصح الناس أهل السروات) وقد بلغ من قدرته أن وضع - كما أعترف - بيتا من الشعر دسه في شعر الأعشى وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فلم يلمس صنعة إلا بشار.
إقبال الناس عليه وتلاميذه:
إن رجلًا بلغ من العلم والأدب والمكانة ما بلغه أبو عمرو يكون قبلة الناس في مجتمعاته؛ فلقد روي أن الحسن مر بأبي عمرو وحلقته متوافرة والناس عكوف فقال من هذا؟ فقالوا
أبو عمرو. فقال لا اله إلا الله! كادت العلماء أن تكون أربابا. كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول).
ولقد نبغ من تلاميذه من أصبحوا حجة في الأدب واللغة والنحو والقراءات؛ فأبو عبيده والأصمعي وأبو زيد الأنصاري والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب ويحيى بن المبارك اليزيدي ومعاذ بن مسلم وسيبويه كلهم غرس يده وفيض بحره وثمرة علمه فكل فضل ينسب إليهم يشاركهم فيه، وكل علم إنما هو الذي فتح لهم أبوابه وأنار لهم سبله.
زهده:
إن هذه النفس الصافية التي انقطعت للعلم ونشره قد لجأت إلى بارئها أخلصت له راجية أن يشملها بعفوه شاكرة له توفيقه وجزيل نعمه، فما كان يدخل شهر رمضان حتى ينقطع عن إنشاد الشعر ويختم القرآن كل ثلاث ليال مرة. وكان نقش خاتمه:
وإن امرأ دنياه أكبر همه
…
لمستمسك منها بحبل غرور
ولما بلغ به النسك مداه أحرق جميع دفاتره التي كانت ملء بيتهإلى السقف لينقطع إلى قراءة القرآن:
أصول قراءته وأثر شيوخه وقبيلته فيها:
كان لشيوخ أبي عمرو في القراءة أثر ولقبيلته أثر.
1 -
فتسهيل الهمزة عادة لغوية للحجازيين تخالف قبيلة أبي عمرو، لكنه تأثر بشيوخه فكثيرا ما يشارك نافعا وأبن كثير وأبا جعفر وأبن محيصين وهم قراء مكة والمدينة الذين أخذ عنهم أو شاركهم فيمن تلقوا عنه.
2 -
والإمالة عادة لغوية لقبيلته تميم ومن شاركها من سكان نجد؛ لهذا كانت الإمالة من أصول قراءة أبي عمرو إلا أن إمالته لم تكن كبرى، بل هي بين الصغرى والكبرى؛ فليس كقراء الكوفة ولا كقراء الحجاز. بل بين المذهبين. وغالبا ما يشاركه في الإمالة الأزرق من رواية ورش عن نافع إلا أن إمالة الأزرق صغرى وقد يزيد إنه يميل ما لا يميله أبو عمرو، وقد تكلفت كتب القراءات بشروط كل منهم فيما يمال.
3 -
تسكين الوسط المتحرك من تخفيف قبيلة أبي عمرو، ولهذا كان التخفيف مما يسلكه
في قراءته وقد يشاركه فيه غيره ومع هذا قد يتفق مع نافع وأبن كثير وأبي جعفر وأبن محيصين في فتح ياء المتكلم إذا وقعت بعدها همزة قطع مفتوحة مثل أني أعلم، ويتفق مع نافع وأبي جعفر في فتحها إذا وقعت بعدها همزة قطع مكسورة مثل من أنصاري إلى الله.
4 -
الإدغام: يظهر أن الإدغام من عادة قبيلة تميم اللغوية. وللإدغام في القراءات أسباب وشروط وموانع فإذا وجد الشرط والسبب وأرتفع المانع جاز الإدغام. وأسبابه:
1 -
تماثل الحرفين بأن يتحدا مخرجا وصفة كالباء في الباء
2 -
التجانس: بأن يتفق الحرفان مخرجا ويختلفا صفة كالدال في التاء
3 -
التقارب: بأن يتقاربا مخرجا أو يتقاربا صفة أو يتقاربا مخرجا وصفة. وقد اختص أبو عمرو بما يسمونه الإدغام الكبير فهو يحرص عليه ويمتاز به عن غيره من القراء، وقد يشاركه بعضهم في نوع منه، وقد تكفلت بتفصيل ذلك كتب القراءات
أما اختلاف القراء في أن الفعل بالغيبة أو الخطاب، أو أنه رباعي أو ثلاثيأو أن الاسم منون أو غير منون، وما شابه ذلك مما ليس من الأصول العامة ولا يعرف إلا عند فرش الحروف أي تلاوة الآيات فإن أبا عمرو كثيراً ما يوافق شيوخه الحجازيين فيما اختاروه.
وفاته
في سنه 154هـ تقريبا توفي أبو عمرو في الكوفة عند عودته من دمشق حيث كان في زيارة لواليها عبد الوهاب من بني العباس. قال أبو عمرو الأسدي: لما أتى نعي أبي عمرو أتيت أولاده فعزيتهم عنه، فأني لعندهم إذ أقبل يونس بن حبيب فقال: نعزيكم وأنفسنا بمن لا نرى شبها له آخر الزمان. والله لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً. والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره ما هو عليه. ويروى أبن الجزري إن قراءة أبي عمرو في القرن الثامن ومفتتح التاسع كان عليها الناس بالشام والحجاز واليمن ومصر). ولقد كانت إلى عهد قريب منتشرة بصعيد مصر، ثم طغت عليها رواية حفص عن عاصم. رحم الله أبا عمرو رحمة واسعة.
عبد الستار أحمد فراج
محرر المجمع العلمي
الأدب الشعبي في الكويت
للأستاذ أحمد طه السنوسي
إن إمارة الكويت بحكم بيئتها ونشأتها وتكوينها قد خلقت لها أدباً شعبياً مشبعاً بظروف تلك النشأة والبيئة والتكوين، فهي تقع بين بصرة العراق في الشمال والغرب، والمملكة العربية السعودية في الجنوب بعد توسط من المنطقة المحايدة، والخليج العربي (الفارسي سابقاً) في الشرق؛ وهي إمارة حديثة التكوين تاريخها لا يتجاوز الثلاثة قرون، وقد كان أكثر أهلها من القبائل النجدية والأحسائية، وبذلك نرى أن مرتعها عربي قح، كما نرى أن النجدية والأحسائية كان لها أكبر الأثر في أدبها الشعبي، فبدا قوياً صريحاً فيه الإلهام الصحراوي وفيه الصلابة البدوية وفيه شئ من الجفاف، ولكن الصحراء كثيرا ما أضفت عليه الجمال البارع وأمدته بروحها البريئة في غمرات عذبة حنون. وقد طرق الأدب الشعبي الكويتي جميع أغراض الشعر فأجاد فيها وأبدع، ولكنه لم يبلغ في ذلك شأوا بعيداً؛ لأن الكويتيين لا يولونه كثيراً من العناية والتدليل، إذ أن شعراءهم الكبار بأدبهم وأشعارهم الفصحى قد طغوا بها بعض الشيء على ذلك الأدب الشعبي المسكين.
بيد أن هناك ممن أستهوى الأدب الشعبي أفئدتهم وحفزهم على تشجيعه، فقامت في سبيله مدرسة أبن فرج وأبن فوزان، وامتازت تلك المدرسة بإلهام عذب وخيال خصب ومعان سامية ووشى جذاب، وبعد ذلك ولجت الكويت باب التطور والارتقاء وكانت على بابه منذ قليل وتطورت فيها الحالة الثقافية والعلمية والأدبية، وكان قمينا بالأدب الشعبي آنذاك أن يثب بنفسه ويطفر الطفرة الملائمة للتطور، ولكن التطور الحديث أضعف شوكة الأدب الشعبي على عكس ما كان متوقعاً.
وأنا أرى أن السبب في ذلك أن النفوس كانت مهيأة لاستقبال التطور استقبالا أنساها كل شيء، كما أميل إلى القول بأن الأدب الشعبي كان في بدايته قوياً صارماً فيه صلابة وجفاف أن أتستثنينا بعضه، ونفسية الشعب الكويتي نفسه ساكنة وديعة تميل إلى خيال الحقيقة لا حقيقة الخيال، كما أن تطور الحالة الأدبية والعلمية لم يكن تطورا كاملا تم في لحظات، بل ما زال إلى اليوم يدلف في دربه اللاحب ليصل إلى الأنوار والأضواء وبذلك وجد التطور هوى في النفوس الكويتية، هوى فيه مقدمات وتمهيدات تدعو للتطلع
والاستطلاع عما يبقى من أضوائه في ثنايا الأفق. هذا وكانت النفوس متعطشة إلى الاستزادة من الثقافة العلم، فوجهت همها لتكملة ما يأتي به التطور ولمساعدة أشعته على النفاذ ولحشد جموع استقباله، فتضاءل الأدب الشعبي وهو ينظر كاسف البال إلى ذلك الأعراض، ولكنه ربما يسره في قرارة نفسه منتظرا ساعة النتيجة السعيدة لحداثة التطور، فتؤوب إليه النفوس وتدفع العلوم الطريفة والفنون الجديدةمريديه لان يحتفلوابه ويهيئوا له الظرف المناسب ليأتي بالثمرة المرجوة منه والتي أتت بعض أكلها حين لاقى الإقبال والابتسام، فكان مهدا لإصلاح النفوس وكان حافزا للهمم وكان دافعا للحماسة وكان موقظا للعزيمة والبسالة كما كان سبيلا للدعاية الصالحة. . .
كان العيد يزهو بدلاله ويرفل في غلائل نخوته، وكان يومه مشرقا مزدهرا، ونظر أحد الفقراء في الكويت إلى مباهجه ومسراته التي حرم منها، ثم أخذ يقول:
وين القماش اللي من الدر جبنا
…
الله عليهم وان كلوا من تعبنا
هذي السنة صارت علينا فضائح
…
أنتم تبون إفلوس واحنا مفاليس
قل أنتمأهل الجودات وأهل المروة
…
مسير شئ حدث فيكم يا ناسي توه
أشوف بالوقت تاخدونا قوه
…
يا ما حديتونا بعجر ودبابيس
ونحن إذ نستمع لهذا القول قد نفهمه وقد لا نفهمه وأستطيع أن اشرح بعض المعاني لبعض كلماته على سبيل المثال ليتسنى لنا فهمه والحكم عليه.
فوين: أين، القماش: اللؤلؤ، اللي: الذي، جبنا: أتينا، تبون: تريدون، إفلوس: دراهم، مير: لكن، توه: الآن، حديتونا: سقتونا، والعجر جمع عجر: عصا ملموسة الرأس، والدبابيس جمع دبوس وهو عصا في رأسها قطعة من قار أو حديد ولندع هذا وننظر إلى هذا الشعر الشعبي الذي طالما أحبه الأطفال الكويتيين ورددوه.
يا هل (أهل) الشرق مروا بي على القيصرية (حي كويتي)
عضدوا لي وتلقون الأجر والثواب
واطلبوا دختر (طبيب) العشاق يكشف علي
كود (يمكن) يمسح على جرحي ويبرا صوابي
وقال الشاعر الشعبي الكويتي الكبير (فهد بورسلي):
يا طير يلى كلما طار
…
زاد العنا والهم فيَّه
من يبتلي بحب البكار (الأبكار)
…
ضاجت (ضاقت) عليه ارض وسيعية (واسعة)
وفقت أنا والبال محتار
…
يا هل النظر ردوه عليَّه
ما من جريب (قريب) يأخذ الثار
…
من ساهي العين السجية
وفهد بورسلي أضعه في مرتبة كبرى من الشعراء الشعبيين في الكويت، ولكن المأخذ الأوحد الذي أخذه عليه هو أن شعره يشوبه قليل من الانحلال في تركيبه، بيد أنه شاعر له من لطف المشاعر وجميل الإشارات وبديع اللفتات وبهيج المعاني ما يقدمه في صفوف الشعراء:
وقال محمد فوزان:
أهلا عدد ما هللوا بالمساجد
…
أو عددما ركب سرى يخبط البيد
بكتاب من نظمه سواه القلايد
…
ومرصع بالدر يزهي على الغيد
وقال عبد الله الفرج في الغزل:
عزيز لمثلي ما يوني ونينه
…
ومسهد بين التجافي والأبعاد
ما يختفي منه غرام بيبنه
…
نوحه إذا نام الخليلون يزداد
ويلومك اللي ما بدا بالضغينه
…
ولا شفع قلبه من الخود مياد
ولي ملاحظة على أقوال هذين الشاعرين الكبيرين (أبن فرج وأبن فوزان) فكثيرا ما أرى شعرهم محتفظا بالصبغة الفصحى، فتلقى فيه كلمات عربية فصيحة كثيرة لو أنعمت النظر في قراءتها وفي بحثها على حدة ألفيتها ترجع بالفكر إلى كلمات الشعر الجاهلي، إما وقد زار أبن فوزان بعض البلاد الرائعة كلبنان الجميل ووجد الرقة والعذوبة في الألفاظ الشعرية السهلة لا في التضخم الجاهلي، فسوف يتحول وسوف يضفي بدائع لا في التضخم الجاهلي فسوف يتحول وسوف يضفي بدائع الثقافة الجديدة مع الألفاظ الخمرية على شعره الشعبي الرائع فيزداد حلاوة وعذوبة ويبزغ لنا من جديد مختالا حالما تسرح العقول في سكرات من الحنين حين تتلاعب به لوامع الشفاه.
وقال أحد شعراء الكويت النبطيين:
لا تبتلي ذا الناس في شيل الأثقال
…
تبلى بهم مثل الطفل في رضاعة
لو طاح منهم طايح ما حد شال
…
حمله ولو شول لك الله كراعه
رجل بليا مال ما هو برجال
…
لو هو على الشدة طويل ذراعه
وقال أحدهم في الهجاء:
شاقول ياهل الهوى شاقول
…
وهذا نصيبي من الخلاني
ومضمرا والشمر منسول
…
ليجيت احب النحر غطاني
والحب بفتح الحاء عندهم هو التقبيل، ولعل تلك الكلمة مستعملة في الجو الريفي المصري ونستطيع أن نلمس الجمال والبراعة في الشطر الثاني من البيت الثاني إذ قد طغى جماله فتتزاحم في الفكر أخيلة حالمة تشعر المرء بالانتعاش في قرارة نفسه، كما تشعر تلاوة الشطر الأول من نفس البيت.
أما الرثاء فإن الكويتيين كما عرفتهم لا تحتل الأحزان والأشجان مكانا في قلوبهم، وإن احتلت فالصمت والهدوء ديدنهم. ولقد تعجب إذا مات لأحدهم عزيز فتراه ساكنا لا يفعل ما يفعل سواه في متباين الأقطار العربية. وقد تعجب لدهشته من كثرة عباراتك المواسية ورثائك وتفجعك من هول المصاب؛ لأنه يرى الموت أمراً محتوماً ولا راد لقضائه، فهو فيلسوف هذا الظرف الحزين، وبالرغم من ذلك فقد اخترق الأدب الشعبي الطريق ليبن لنا أن الكويتي وإن كان فيلسوفا ساكنا إلا أن في فؤاده من الحزن دمعا لا يتعدى نطاق القلب وسوبدائه، فأجرجالشعراء دوراشعبية في الرثاء تؤثر في النفس تأثيرا عميقاً، من هذا قول أحدهم:
الله من خطب دهانا بالأبكار
…
أدعى القلوب تشب فيها السعاير
يا موت حسبك من تسقيه الأحرار
…
كاسات ليعات تفت المراير
وسط اللحود وبين ملتف الأحجار
…
في ذمة المولى رهين القباير
ولقد احتل الأدب الشعبي مكانة عظمى من الأغاني والأناشيد الكويتية بأنواعها، وأنا أذكر بيتا من نشيد نبطي هو:
لا بتي (يا أصحابي) حنا شبوب الحرايب (الحروب)
…
وأنطقت حنا سنا نارها
كما أذكر أغنية من (أغاني العوازم) وهي نوع من الغناءتطرق إليه الأدب الشعبي الكويتي:
وأمسي الضحى باديا فريح (فريق) مصبح
جينا المطوع (أتينا الشيخ) يحدث أمي الأبصار
يقول: طرد (أي طالب) الهوى نارن (نار) شمالي
والله لا اسمع حديثه لو يجنه (يجن)
واتبع هوى البيض في هرجن (الكلام) يقالي
وملاحظتي الأخيرة عن هذا الأدب الشعبي أنه لم يتبذل في القول، ولم يتخذ عامي الكلام سبيلا للنكات الفاحشة ولا أغراض طيبة تجني الكويت من ورائها كل خير وكل فائدة.
وما هو إلا قليل من العناية وقليل من التشجيع ومزيد من الثقافة الجديدة التي أفعمت سماء الكويت وأرضها تضفي على الأدب الشعبي حتى يكون في مصاف الآداب الشعبية. وأنا أرى أن الكويت في حاجة ماسة إليه لتتخذه وسيلة لدعايتها الوطنية، وقد جربت فيه ذلك فوجدت الدرع الفولاذي والفكر العبقري.
ولا يغيب عنا أن اللهجة الكويتية الأثر البين في الأدب الشعبي في الكويت، وسأبحث تلك اللهجة في مقال مقبل بحثاً مستفيضاً، إذ أن قراء العربية في حاجة ماسة لأن يعرفوا الشيء الكثير عن الكويت، وقد ارتقت رقيا باهرا في أوقات قصيرة، بيد أن وهن الدعاية وقلة أساليب التعارف ووسائلها بين أقطار العالم العربي يجول دون إبداء الحقيقة والمعرفة الصحيحة، وما أحوجنا إلى إبدائها ونحن في فترات أحوج ما تكون فيها إلى التآزر والتضامن في جميع عناصر الحياة.
أحمد طه السنوسي
أساليب التفكير:
التفكير في الشرق القديم
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
كل منا يسعى إلى استكناه أسرار الوجود، وكشف الستر عن خباياه، تتتابع على مشهد منه ظواهر الطبيعة، وتتوالى إمام ناظريه مواكب الأحياء وتتري تحت سمعه وبصره أحداث الإنسان: فيعمل الفكر بغية اكتشاف أسباب هذه الأمور، والبواعث التي تحدثها وتسيرها والغايات التي تتجه إليها والحكمة الكامنة وراءها. وجملة القول أن الإنسان يحاول تفسير ما يبصر وما يسمع وما يعي، وتختلف تفسيراته تبعا لتقدمه الفكري ومرتبته من التطور العقلي.
من أجل ذلك اختلفت تفسيرات الطفل عن تفسيرات الراشد المكتمل، وتفسيرات المجنون عن تفسيرات العاقل المتزن، وتفسيرات البدائي عن تفسيرات المتمدن المتحضر. اتفق الجميع على أمر واحد: هو البحث عن الحقيقة ما امتدت بهم أسباب الحياة، ولكنهم يسلكون سبلا ثلاثا أقصرها وأسلمها سبيل العلم، وأرحبها طريق الفلسفة وأدناها وأكثرها التواءودورانا حول الحقيقة طريق التفكير الخرافي.
وقد حدثت القراء في مقال سابق عن التفكير الخرافي في حياة الفرد، وانتهيت معه إلى أنه برغم بعده عن الحقيقة الموضوعية وانحرافه عن القصد في محاولة بلوغ الواقع، يعد وثبة أولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة ساذجة لكشف أسرار الوجود ومرحلة لازمة في التطور الفكري لا بد مسلمة إلى ما هو أرقى: إلى الفلسفة والعلم.
والبشرية في تطورها الفكري كالفرد في تطوره الفكري. لم تكشف عن قوانين الجاذبية، ومدار الأفلاك، والقوة الكهربائية، والطاقة الذرية، إلا بعد جهاد عنيف، وكفاح فكري شاق دام آمادا طوالا، ومحاولات مضنية كان أولها التفكير الخرافي الذي يسم العقل البشري في طفولته. فالتراث الفكري الذي خلفته أجيال البشر يبين أن أول مرحلة من مراحل التفكير كانت مرحلة دينية صرفة يمتزج فيها التفكير بالخيال.
ونحن نعلم أن الفكر الإنساني بزغ أول ما بزغ في الشرق القديم: عند المصريين والفرس والآشوريين والبابليين والهنود والصينيين. ونظرة عامة إلى ما خلف هؤلاء من محاولات
تفسيرية نكشف عن غلبة العاطفة الدينية، وسيطرة التقاليد الموروثة، والجنوح إلى الخيال.
ولا بد لتفكير يصدر عن الأهواء والعواطف، ويستمد المعارف من الخيال والأوهام، ويستهدف السعادة في الدنيا والآخرة، لابد لتفكير هذا شأنه أن ينتج عقائد دينية، وفنونا جميلة، وحكمة أخلاقية كل ذلك في مزيج واحد متفاعل لا فرق فيه بين علم وفن ودين وأخلاق، حتى لنجد علماء القرون الغابرة هم شعراؤها وحكماؤها وكهنتها في آن واحد.
ألا ترى إلى الكهنة المصريين في العهد الفرعوني يرعون الدين، ويحمون الفضيلة، ويحملون رسالة العلم، ويرفعون لواء الحكمة، ويوجهون سياسة الدولة، ويتحكمون في مصير الشعب؟ أو لم يكن شعراء العرب في بداوتهم، وشعراء اليونان قبل عصر الفلسفة قادة الفكر وقادة المجتمع في هذه الربوع؟ فامرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير في جزيرة العرب، وهوميروس وصحبه ممن طمست الأحقاب أسماءهم في بلاد اليونان.
وهل ننسى أن زراد شت حكيم الفرس كان داعية دينية لعقيدة تحمل بين ثناياها فلسفة ناشئة؟
وهل كان بوذا الحكيم الذي خلد في تاريخ الفكر بحكمته الأخلاقية وتحرره الفكري وآرائه السياسية، إلا كاهنا لإحدى القبائل الهندية الكبرى وابنا لشيخها؟
وجملة القول أن التفكير الخرافي في الشرق القديم يتصف بخصائص ثلاث: الخضوع لسلطان الدين أي التقاليد الموروثة المقدسة، والاتجاه الخيالي ومن هنا كانت صلته الوثيقة بالفن، والنزعة الأخلاقية.
وعلينا الآن أن نستعرض أمثلة من الفكر الشرفي القديم مبتدئين بالتفكير في مصر القديمة.
لم يكن للمصريين دين واحد، بل أديان عدة اختلفت باختلاف الأقاليم، وتطورت مع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في وادي النيل. وقد برزت الديانة المصرية القديمة كعامل هام في حياه الشعب، في عهد مشيدي الأهرام كخوفو وخفرع وأوناس، وفي عهد الملوك الغزاة كتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني.
والذي يهمنا في هذه الديانةهو تصور المصريين للكون، وسذاجة تفسيراتهم لأحداثه: فهذا أمنحتب الرابع، الذي عبد آتون (قرص الشمس) فسمي لذلك (أخناتون) أي روح آتون، ينشد مخاطبا قرص الشمس معتبرا إياه علة لظواهر الطبيعة، وقوة روحية تدبر الكائنات:
(يا شمس النهار، يا من تخشاه البلاد القاصية
أنت موجد حياتهم
أنت الذي خلقت في السماء نيلا
لكي ينزل عليهم ولهم.
يتساقط الفيضان على الجبال كالبحر الزاخر
فيسقى مزارعهم وسط ديارهم.
ما أبدع تدابيرك يا إله الأبدية. . .)
هذا ولم يكتف المصريون بعبادة الشمس من حيث هي مصدر الحياة، وإنما قدسوا النيل، واتخذوا من السماء إلها، ومن الكواكب أربابا، كما يتبين من دعاء ورد في إحدى أوراق البردي ذلك نصه:(أنت الإله الأكبر، سيد السماء والأرض، خالق كل شئ، يا إلهي وربي وخالقي، قو بصري وبصيرتي لأستشعر مجدك، وأجعل أذني صاغية لأقوالك. .)
وهكذا يتبين تأليه المصريين لقوى الطبيعة بحكم بداوتها الفكرية، شأنهم في ذلك شأن الطفل: موضوعات الدين في ذهنه صور حسية خيالية، لم ترق بعد إلى المستوى العقلي التجريدي؛ الطفل الذي يميل بحكم طوره العقلي إلى أن يضفي على الكائنات جامدة كانت أو حيوانية صفاته الإنسانية؛ فيرى الشمس والقمر والنجوم حاصلة على صفات الكائنات الإنسانية، من قدرة وإرادة وفهم، المر الذي يجعله حينما يصطدم بحائط أو باب صدمة تؤلمه، ينهال عليه ركلا، مفرغا فيه حتفه كما لو كان الحائط أو الباب ذا إرادة شريرة وكما لو كان يحس الألم كما يحسه هو.
وهذا يذكرنا بأحد الأباطرة القدماء الذي انهال على مياه البسفور ضربا بالسلاسل لأنه اجترا فاكتسح أسطوله.
فسلوك المصريين القدماء إزاء قوى الطبيعة المعبودة، وسلوك الطفل إزاء الباب، وسلوك الإمبراطور الحانق على البسفور سلوك ناجم عن تصور خرافي للحوادث، وتعليل وهمي لها.
آمن المصري القديم بخلود الروح. ولا يسع من يستعرض مقابره ونقوشه ومعابده إلا أن يستوثق من سيطرة هذه العقيدة على ذهنه سيطرة أذهلته عن واقع الحياة، ومن شوقه
المتحرق للعالم الآخر شوقا أطلق الخيال يجوب في آفاق هذا العالم المجهول، فيرسم صورة لحياة الروح بعد مغادرة الجسد، صورة هي لوحة فنية لا أثر للعقل فيها، ولا فضل للبرهان في تثبيتها، إنما الفضل كل الفضل للخيال الذي أنتجها، والعاطفة الدينية التي ألهمتها.
هذا (أوزوريس) الإله الصالح (رمز الخير والعدالة) يرأس محكمة العدل الكبرى، يجلس على عرشه في صدر قاعة يكلل سقفها القناديل وعلامات الحق، وأمامه أحفاده أبناء (حورس) وآلهة أركان العالم الأربعة، ومعهم اثنان وأربعون قاضياً، بعضهم برؤوس بشرية، وبعضهم برؤوس حيوانية، وعلى راس كل منهم ريشة نعامة رمزا للمعبودة (معت)، ممثلة الحق والاستقامة والعدل، وفي يد كل منهم سيف لقتل الخاطيء، ووظيفتهم ملاحظة ما يظهر في كفتي الميزان الذي يزن الحسنات والسيئات.
وإمام (أوزوريس) وحش مفترس متحفز لافتراس الميت إذا رجحت كفة خطاياه. ثم يقف الميت على باب قاعة العدل خائفا مرتعدا في الساعة الرهيبة التي يقرر فيها مصيره، ويترافع عن نفسه، ثم يصدر الحكم بالبراءة أو الإدانة؛ حتى إذا انتهت المحاكمة أمر (أوزوريس) بالفائزين إلى الجنة وبالخاسرين إلى الجحيم.
هذه أفكار الخلود والثواب والعقاب، كما يصورها كتاب الموتى تصويرا حسيا خياليا، دون برهان ودون تفكير عقلي خالص. . . إنما هي محاولة فكرية لمعرفة ما وراء الموت، ومصير المذنب ونهاية المحسن، محاولة استخدمت فيها الوسيلة الوحيدة التي يسمح بها ذلك الطور من النمو العقلي: طور الخرافة والعاطفة.
وما دمنا بصدد الحديث عن المذنب والمحسن، أو عن الخير والشر فلننتقل إلى (زرادشت)، أبرز حكماء الفرس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وخلف دينا لا يزال له أتباع حتى اليوم في ربوع الهند وغيرها.
وقف زرادشت حائرا في عالم متناقض فيه الخير والشر، والجمال والقبح، والسعادة والشقاء؛ وأعمل فكره محاولا تفسير شطري الوجود فتصور العالم نهبا لروحين متصارعين: أورموزدا وأهريمان. الأول إله الخير، صانع السماء والأرض والبشر والملائكة الأبرار؛ والثاني إله الشر، علة الموت ومفشي الرذائل ومحدث الأمراض والشياطين. الأول يؤلف مع ملائكته وأتباعه الصالحين حزب الحق، والثاني يؤلف مع
شياطينه والكفار المنافقين حزب الباطل. والحرب بين الحزبين سجال. ولكن زرادشت حكيم متفائل، يدفعه تفاؤله إلى تصور نهاية سعيدة للرواية الكونية، إذ يغلب الخير في النهاية ويصبح العالم كلا واحدا متجانسا إلى أبد الآبدين.
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم عبد العزيز المليجي
إن جسمي من بعد خالي لخل
للأديب ناصر الدين النشاشيبي
(بمناسبة ذكرى وفاة العلامة المتشاشيبي)
أبكيك اليوم يا خالي في يوم ذكراك وكأنني فقدتك في أمسي القريب، وأتوجع عليك بعد عام في مرارة القريب وآسى الحبيب فلا أدري أحدثك عن نفسك - وأنت أشد الناس عداوة للحديث عن نفسك. أم أنقل إليك أخبار وطنك وأنباء أمتك - وأنت أحرص أمة محمد على أرض الرسل ومسرى الأنبياء، وأشد الناس فخرا بخير أمة أخرجت للناس. . . فيبكيك حديثي، ويشجيك نواحي وأنيني، ويزعجك في مثواك الأخير صيحات بلدك الممزق، وأمتك المشردة، وتراثك الضائع، وأملنا المفقود!!
كيف أبكيك وما عرفتك إلا جبارا في جميع نواحي حياتك؛ إن تحدثت خرجت كلماتك كالقذائف من أعماق نفسك، وإن خطبت - ما عرفتك خطبت - إلا بكيت وأبكيت. وما سمعتك تحدثت إلا أثرت وتأثرت، وما قرأت لك إلا تمثلتك أحد الصحابة في إيمانك وصوفيتك، وما من مرة ورد ذكرك على لسان الناس إلا رجعوا بذاكرتهم إلى عصر النبي وأيام الجاحظ وأبي عبيده والمبرد وصفوة الأدب الخالد. . . يتجسرون على بحور العلم وقد مسها الجفاف، وموسوعة الأدب والعبقرية وقد احتواها - ويا أسفي - التراب!!
هذا حديثي إليك بل بكائي عليك على صفحات رسالة صاحبك إمام النثر كما كنت تدعوه. وهو يسألني عن (النقل) فلا أجده، وعن الحديث فلا أسمعه، وعن المجلس فلا نبصره، ثم نفتقدك في أيام الشتاء - أيامك في قاهرة المعز - فنجدمكانك المعتاد وقد أقفر من الصحب والخلان، وزوارك العارفين والمعترفين وقد تخلفوا عن الركب وانقطعوا عن الزيارة، وما زالوا في دهشة من أمرك، وحيلة من مصيرك، يسألون ويتساءلون: - كيف. .؟ كيف تخلفت، وكيف غبت، وكيف انقطعت يا أعز الراحلين.؟!
إن قلبي ليبكيك بلسان الكثيرين من تلاميذك وزملائك وقد عشت لهم مخلصا ومتفانيا في أدبك، وجاهدت في سبيلهم بجهادك القوى في سبيل المعرفة، ومشيت معهم نحو دنيا النور والعلم فما كلت لك عزيمة، وما وهنت لك إرادة، وما عرفت معنى للضعف وأنت تصل الليل بالنهار في دراستك وأبحاثك متنقلا بين القاهرة (موئل العرب والعربية) وبيروت
(وبيروت مدينة تهذيبي) وحلب الشهباء بلد صديقك إبراهيم (سلام على إبراهيم)! وبغداد حصن السعدون (وأمة منها السعدون لن تموت)! وكنت في كل أطوار حياتك المثل الأول لمن يحيا في سبيل فكرة - فكرة محمد ولغة محمد! ولمن يجاهد في سبيل مبدأ - مبدأ العرب والعربية. وهذه الإشارات تملأ أرجاء قصرك - (يا محمد.!!) وهذه الآيات البينات تزين أسوار بيتك - (أنا عبدك ورسول الله.!) وهذه الضعف في كبرياء القوى وهذه القوة في تواضع المسلم وهذا الإخلاص للغة الكتاب (أنا عبدها. . أنا عبدها. . . أنا عبد كل عبد يسود بعبديتها) وهذه تراثك في محمد ولغته ورجاله وهذا (إسلامك الصحيح) و (بستانك) و (كلماتك) و (نقلك) و (خطبك) وكل ما كتبت ونقلت وصححت وراجعت الدليل الصادق على أنك عشت وما عشت إلا لإسلامك، وعملت وما عملت إلا للغتك ولغة نبيك!
نشأت ثائرا على الدنيا وأنت وحيد أبويك فثرت عليهما وعلى الأهل والقربى. وترعرعت بين الخير والنعيم فدفعته بيديك ورغبت عنه لتشبع نفسك بصوفية الأقدمين، وزهد المؤمنين، ومشيت في خطوات الحياة لا أنيس لك إلا الشاعر أو ديوانه، ولا جليس معك لا الكاتب أو رسالته، ولا شاغل لديك إلا البحث والدرس واستقصاء والتحقيق، فحرمت نفسك الزوج والولد بعد أن حرمت والديك لذة الحرص على صحتك والعناية بنشأتك والفوز بقوتك، وكأنك أردت لنفسك طريقا خاصا في أسلوب حياتك، ونسجت لذاتك منوالا فذا في جوانب تفكيرك، فكنت كما عرفك الناس، فريدا في أسلوب أدبك، وحيدا في تصوير خطك، ذليقا - في عفة - لسانك، ثائرا في انفعالات عواطفك وأعصابك، متوقدا في ذهنك وتفكيرك، بسيطا في ملبسك، منطويا على نفسك البريئة، وروحك العذبة وقلبك الذي ما خفق إلا بالحب والوفاء. هكذا نشأت، وهكذا ترعرعت، وفي سبيل هدفك صرفت وضحيت.
وبيتك كعبة الحجاج من أخل الفضل الفضيلة، ومجلسك قبلة الأنظار من أهل العلم والمعرفة، وأنت. . أنت الروح في كل مجلس، وأنت الحجة في كل حديث، وأنت المتمكن من كل قول، وأنت الرقة في كل سمر، وأنت الراعي لكل تراث! أين أنت؟ ولمن خلفت عزك وعزيمتك؟ ولمن تركت (رسالتك) ونقلك)؟ ومن أولى منك (يا إمام العربية) بتراث العربية؟ وأنت خادمها، وأنت عبدها، وأنت لها، وأنت المدافع في كل حين عنها، وأنت
القائل منذ أربعين عاما أو يزيد:
فإني بأرض الشرق أخدم أمتي
…
وأرجو لها في كل واقعة نصرا
أخوض غمار الكون بالعلم والتقى
…
ولا أسأل القوم العظام لي الأجرا
يا أبا عبيده! إني عليك لمكارم، ولفقدك لحزين، وأن حرمتني الأيام منك في حياتك - وأنا في مهد الصبا، ومقعد الدراسة - ثم حرمتني منك بعد أن حرمك الموت من نعمة الحياة، فإن ذكراك ستبقى حية عندي ما حييت، وستبقى خالدة على مدى الأيام ما بقيت العربية.!
يا خالي. . .
عليك رحمة الله. . . وإلى اللقاء. .!
ناصر الدين النشاشيبي
أنانية مجرب
للأستاذ ثروت أباظه
صاحبي شاب رقيق العاطفة، جياش الحس، يلذ له أن يقف منك موقف الناصح، ولكنه إذا فعل سار على نهج لا تكلف فيه حتى لا تملك تلقاء حديثه إلا أن تعيره الأذن الواعية والروح المقبلة. وأنت حبيب إلى نفسه، مقرب إليها، إذا قبلت منه نصحه. وأنت أكثر حبا إلى نفسه وأكثر قربا منها إذا ظهرت أمامه خاليا من التجاريب مقبلا على دنياك إقبال الطفل، إنه إذ ذاك يفرح أن جرب هو ولم يجرب من هو أكبر منه، وأن يقف هو إلى هذا الأكبر موقف الناصح المرشد الذي خبر من الماضي ما يكشف به عن القابل.
لعلي بهذا الوصف أكون قد ألقيت الضوء على عيبه الواحد. فإنك لتراه بعد هذا شفيف الروح، مهذب اللفظ، مرح الدعابة واسع الإطلاع دقيق اللفتة، أما عيبه الذي ذكرت فأمره على يسير. إن صلتي به توثقت حتى لا يزيفها غش أو توهنها مصارحة؛ فتراني إذا نصح ناقشته مقبلا على النقاش في غير ضيق فقد مرن مني على هذا الأمر حتى أصبح بعد لكل نصيحة نقاشا، ولكل حكمة اكتسبها من نثار تجاربه حججا وبراهين وأمثالا. وأنا مع ذلك حبيب إلى نفسه مقرب إليها لا يمل نقاشي ولا أمل نصائحه.
أقبل يوما على مجلسنا تعلو وجهه سمات الجد والرزانة فعرفت أن حالة النصيحة قد أدركته وأنه يريدني على أن أسمع بعضا منها؛ وكم أكون كريما لديه لو سمعتها جميعا. . . عرفت هذا فانتحيت به ناحية وقلت:
- مالك؟
- إسمع، لقد أثبتت تجاربي أن كل الناس أشرار. . وأنه يجب على الإنسان أن يقبل على أصدقائه شاكا في ولائهم، حذرا من شرهم، فليس في الناس صديق، وليس فيهم إلا الخؤون، وإنك إذا توقعت منهم الخير ثم فجئك دكت الواقعة من كيانك مهما تفهمت، أما إذا توقعت الشر ثم طالعك الخير فإن ذلك يفرحك، ولكن حذار مع هذا أن تأمن الجانب وتطمئن فقد يمهد الخير للشر كما يمهد الدفء للحريق. . إبق على شكك وحذرك فالكل شرير.
- حسبك. . حسبك فإنني أرى النوبة قد عادتك، ولكنك في هذه المرة على غير مألوفك من
الأدب؛ فها أنت ذا ترميني في وجهي بالشر وسوء الطوية. . ألست واحدا من أصدقائك الأشرار؟ بل إنك لتزيد فتزيدني أن أظن بك السوء بلا موجب أراه أنا! ولكن أتريدني حقا أن أصدقك؟ أجاد أنت فيما تقول! أمشي مع الناس فلا أرى غير الشر ولا يخالجني غير الحذر والخوف! أي تجارب تلك التي أوحت إليك بهذه الشرور؟ أو تكون مجربا حقا إذا فعلت هذا؟ ما أسهل هذا الأمر وما أصعبه! إن المجرب يا صديقي - في رأيي - هو الذي يعرف معايير الناس ويزن كلا بميزان. . يمدحه أحدهم فيصل إلى باعث هذا المديح. . ففي الناس من يبذل المدح ثمنا لخدمة له عندك. ومنهم من يبذله ثمنا لمديح مثله. ومن الناس من يمدح رغبة منه في المجاملة، ومنهم الصادق في مدحه، وهذا هو النوع الأمين النادر، إنك لواجده صادقا في نقده أيضا إذا نقد. . المجرب هو الذي يفرق بين كل هذه الأنواع، والمجرب هو الذي يعطي لكلمن هؤلاء مكانه الحقيق به من نفسه، أما إذا سويت بينهم جميعا ورميتهم كلهم بالشر. فأنت غر لا تعرف الناس، ولم تجربك الأيام ولا جربتها. يعز عليك أن تقتنع. . أعلم ذلك، ولكن بربك ما الذي بعث في نفسك كل هذه الثورة؟ هل من جديد؟
- الجديد هو معرفتي أنني الغيري الوحيد بين هؤلاء الناس. أنت تعرف صديقنا فلانا، كنت أؤثره وأحبه، توطدت بيننا الصداقة فأصفيته ودي، لكنه عرف أنني مقدم على مشروع تجاري فسبقني إليه، واستعان بسلطان كبير أطاح من يدي الفرصة إلى يده. . . أرأيت أنانية كتلك الأنانية؟!
- نعم. . رأيت أكثر منها.
- أين؟
- أنانيتك أنت. . . أنك - والحمد لله - لا تعرف عن التجارة شيئا وهي مهنته. وأنت - والحمد لله - في بسطة من رزقك وبحبوحة من عيشك، وهو يسعى وراء رزقه ويشقى في سبيله لماذا تعترض طريقه؟
- ولكنني صديقه، كان يجب أن يستأذنني.
- أو كنت تأذن!. يا صاحبي إنني أنا وأنت وكل إنسان في العالم أناني بطبعه، أنك لترى الأنانية في كل خطرة ينشغل بها ذهنك، وفي كل خلجة يختلج بها قلبك. . إن الخير في
ذاته نوع من الأنانية. إنك إذ تقوم بذلك الخير ترجو شيئا من شيئين: إما ذكرا طيبا في الدنيا، أو مثوى كريما في الآخرة وأنت على الحالين أناني قد يسمو بك شعورك فتفعل الخير ترضى به نزعة في نفسك، وأنت في هذه الحال أيضا تنظر إلى نفسك فتريحها بعمل الخير. . لن تقتنع. . أعلم ذلك ولكنه الحق. وتريد صاحبك على أن يترك قوته لك حتى لا ترميه بالأنانية. . . إنه أناني ولكن دعه يأكل والله ما الأناني إلا أنت.
- ألا تشعر بأنك تمزج. . أتسوي بين التناحر وعمل الخير. . أإن منعني صديقي عن كسب موشك كان في عمله مثل من يقوم بالمعروف. وتدعى بعد هذا انك تعرف المجرب وغير المجرب وتبيح لنفسك أن تلغى هذه المحاضرة الطويلة عن التجربة
- قلت إنك لن تقتنع. . ولكن يجب أن أصح ما قام بذهنك. . لا. . أنا لا أسوي بين العملين لكنني أرى في كل منهما أنانية وإن تفاوتت نسبتها. . إن في كل منهما صورة من الأنانية تختلف قبحاً وجمالاً. . ألا ترى. .
لم يطمئن صدقي أن يصبر أكثر من ذلك ولم تسعفه الحجة فقام عني مغضبا دون أن يسلم، ويعلم الله أين مكاني من نفسه الآن. . ولكنني ما زلت أعتقد أنني حبيب إليها قريب منها.
ثروت اباظه
مسابقة الفلسفة لطلاب التوجيهية: (4)
(1)
النفس أبن سينا (4)
للأستاذ كمال دسوقي
لا يفوتني قبل أن أتقدم بكم إلى موضوعنا اليوم أن أنبهكم إلى هذه الصلة الوثيقة بين العقل بقسميه النظري والعملي عند أبن سينا وبين تصنيفه للعلوم العقلية. ولما كنت أخشى ألا يتيسر لكم الوقوف على هذا التصنيف في كتابه الشفاء، أو في مقدمة منطق المشرقيين أو في رسالته في أقسام العلوم العقلية، فإني مجمل لكم الحديث عن لوحة تقسيمه للعلوم هذه التي ينبغي أن تقفوا عليها وأن تربطوها بأقسام العقل النظري والعملي التي حدثتكم عنها في المقال السابق.
ذلكم أن العلوم تنقسم عند أبن سينا كذلك إلى نظرية وعملية. فالنظري منها ما كانت غايته حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان، كالله والكواكب، والأرض، والأعداد. . . الخ اعتقادا غايته الوصول إلى الحق والبحث عن الحقيقة أما العملي فيتجاوز حصول الاعتقاد إلى حصول رأي هملي فيما هو من تدبير الإنسان وكسبه؛ حصولا من شأنه أن يؤدي بنا إلى الخير أو فهنا تفرقة الأشياء من حيث وجودها بإرادتنا أو بغير إرادتنا وكيفية علمنا بها على هذا الأساس.
والعلوم النظرية عنده ثلاثة: العلم الأدنى (الطبيعيات)؛ وموضوعه هذه الأمور التي حددوها ووجودها يتعلقان بالمادة والحركة، كأجسام الأفلاك التي تحدثنا عنها، والعناصر الأربعة وكل ما هو جسمي على الإطلاق. مما يتغير عليه الحركة والسكون والكون والفساد والتغير والاستحالة ولهذا العلم مبادئ أصلية نظرية هي التي ذكرناها حين كنا نتحدث عن موضع النفس من مذهب أبن سينا، وتطبيقات فرعية كالطب والتنجيم والفراسة والكيمياء مما يقوم على المبادئ الأصلية السابقة. ثم العلم الأوسط (الرياضيات) وموضوعه أمور يتعلق وجودها بالمادة وأن تجردت حدودها منها، كعلم العدد (الحساب) والهندسة (علم السطوح والأشكال والمقادير) وعلم الهيئة (الأفلاك وأوضاعها وحركتها) والموسيقى (علم النغم والإيقاع واللحن والنفاق. . .) هذه مبادئه الأصلية، وله كذلك فروع تطبيقية كالمساحة والحيل (الميكانيكا) وعلم المناظر والمرايا وجر الأثقال ونقل المياه. . . الخ. وأخيرا العلم
الأعلى (الإلهيات) التي ليست أمورها ذات تعلق بمادة أو حركة والتي تبحث في ذات الواحد الحق وصفاته من هوية ووحدة وعليه. . الخ. وله هو الآخر أصول وفروع لا داعي للإحاطة بها.
أما العلوم العملية فهي التي موضوعها الأفعال التي تشترك مع غيرنا أفرادا وجماعات - وهذه بطبيعة الحال أمور من محض فعلنا وإرادتنا. فان كانت لتدبير يختص بشخص واحد بما يحقق له السعادة فهي علم الأخلاق، وإن كانت تبحث في تدبير الإنسان لأسرته وروجه وولده ومملوكة (خادمه) بما يحقق سعادتهم أيضا فذلك تدبير المنزل، وإن كانت هذه الأمور تتناول صنوف الرياسات والسياسات المجتمعات والمدن الفاضلة فذلك هو علم السياسة. . . هذه هي العلوم العملية عند أبن سينا، وهذه تصنيفه العلوم كلها وتصنيفه الفارابي قبله. والمنطق هنا يجعله أبن سينا مقدمة وآلة للعلوم فحسب، وإن كان في تقسيم كتبه فعلا يجعله القسم الأول منها، ثم يتبعه بالطبيعيات فالإلهيات - على نحو ما بينت لكم من قبل - ونكتفي بهذا التقسيم لأبن سينا؛ لأنه أرستطالي من جهة، ولأنه أدنى إلى موضوعنا في تقسيم النفس إلى نظرية وعملية، من جهة أخرى. وإلا فان له تقسيما آخر مختلفا بعض الشيء (في مقدمة منطق المشرقين) لا داعي لذكره.
ويهمني - ويهم أبن سينا كذلك - أن تميزوا بين أنواع الإدراك المختلفة التي تحصلها كل ملكة من ملكات العقل؛ فان له هنا نظرية في المعرفة جديرة بالاعتبار، ونظرا في طبيعة الإدراك من حيث علاقته بالشيء المدرك. فإذا كان الإدراك هو أخذ صورة المدرك مجردة عن المادة أي نحو من التجريد؛ فإن الحس يدرك الأشياء مع لواصقها المادية، كالتكثر، والانقسام، والكم (العدد) والكيف (الخصائص والصفات) والابن (المكان) والوضع. . . الخ. والخيال يجرد صورة الشيء المدرك من المادة تجريدا تاما تقريباً، يستوي معه وجود الأصل أو عدمه ولكنه لا يجردها من العلائق، بل تظل ملابسة لها في الخيال، أما الوهم فأنه يدرك المعاني التي قد توجد في مادة ولكنها ليست في ذاتها مادية كالخير والشر والملائم وغير الملائم، إدراكا جزئيا لا يبرا من لواحق المادة والحس والخيال. وأما العقل - أو الحاكم العقلي كما يسميه - فيدرك الصور مجردة عن المادة من كل وجه وعن علائقها ولواحقها من أي نوع.
ولا يخفى عليكم أن أبن سينا يمهد للدخول في إثبات وجود النفس بوصفها جوهراً مفارقاً للبدن، فيقيم لكم التناقض واضحاً جلياً من مادة الشيء المدرك - حتى في غيبته عن الحس - وجوهرية العقل المدرك؛ بين تعلق هذا الأول بالمادة والمكان والجهة، وتجرد ذلك الثاني منها. يريد أن يخلص من ذلك إلى أنه لا شيء مما يدرك الجزيئات المادية إلا وهو مادي، وإن لا شيء أيضاً مما يدرك الكليات العقلية إلا وهو مجرد، وأن يدلل على أن الإدراك الحسي والخيالي والوهمي - نظراً لتعقلها جميعا بصور جزئية خيالية على نحو ما أسلف القول - فهي إنما تقع بالآلة الجسمانية التي ليست مجردة من المادة ولا مقارقة للوضع الجسمي.
أما الجوهر الذي هو محل المعقولات المجردة فمجرد كذلك من المادية والجسمية فهو ليس جسماً ولا حالا في جسم بوصفه صورة أو قوة له. وحجته هنا تقوم على إنكار ما أثبته في الفصل السابق للقوى الإدراكية الجزئية على القوى المدركة العقلية - أعني الانقسام المادي في القوى الحاملة أو القابلة للإدراك، نتيجة لانقسام المدرك ذاته. فلما كانت المدركات الحسية مقسمة ومتجزئة بدليل أنك تدرك الشيء الواحد - كالإنسان مثلا - متفاوتاً في الكبر أو الصغر، وأن هذا التفاوت لا بد أن يكون من جانب المدرك أو المدرك، فقد كانت القوى الدراكة الجزئية منقسمة كذلك. وإذن فهي في مكان ووضع وجهة، وبالتالي فهي مادية كمدركاتها، متصلة بها غير مفارقة.
وطريقة أبن سينا في إثبات تجرد جوهر العقل من المادة أن يبرهن على أن هذا الجسم الذي سيحل فيه المدرك العقلي أن كان جسما - فهو إما غير منقسم (جزء لا يتجزأ كالذرة - باعتبار ما مضى - وكالجوهر الفرد أو النقطة الرياضية) أو مقدار منقسم فعلاً. فإن كان الأول فهو غير معقول؛ لأن النقطة وهي منفردة لا تقبل شيئا من الأشياء وإلا أصبحت ذات وجهات (حجم) ولم تعد نقطة. ولأنها وهي طرف من خط هي نهايته فلا بد أن يكون لجزء من هذا الخط نصيب مما تقبله؛ وحينئذ يكون للنقطة وجهان أحدهما غير الأخر ومخالف له. فالوجه الذي هو نهاية الخط غير الوجه الملاصق له من الناحية الأخرى. وإلا كانت النقطة منفصلة عن الخط ولم تكن هي نهايته، وهذا خلف مع ما أفترضه من قبل، ومع أبطاله في مواضع أخرى للجوهر الفرد فثبت إذن فساد القول بأن جوهر العقل شيء
غير منقسم.
ويتضح كذلك فساد أن يكون شيئاً منقسماً تبعاً لانقسام الصورة العقلية التي يدركها مثلا. إذ لو كانت الصورة العقلية منقسمة لم يأت من مجموعها شبيه بها إلا بالزيادة والكم والمقدار مما سبق إن قلنا أنه خاص بالصور الخيالية - كما أن أحد أجزائها لن يدل على معنى الكل وإلا كان هو الكل ولميكن ثمة انقسام. هذا إذا كان القسمان متشابهين؛ إما إذا كان غير متشابهين فإنه يترتب على ذلك أن حد الصورة العقلية (الذي هو الجنس والفصل كما درستم في بابي الكليات الخمس والتعريف) يكون منقسما. وهو عند أبن سينا محال لأنه يبين هنا - وفي قسم المنطق من قبل - أن الأجناس والفصول متناهية وغير منقسمة، كذلك لا تنقسم الصورة العقلية إلى جنس من ناحية وفصل من ناحية أخرى؛ كل على حدة (بعد أن ثبت فساد انقسام كل على نفسه) وإلا كان نصف الصورة العقلية يحتوى نصف الجنس ونصف الفصل، وفي هذا خلف مع ما سبق إثباته؛ أو إذن لحل الجنس والفصل كل موضع الآخر وهو محال. فالصورة العقلية هي إذن مبادئ بسيطة قابلة لتركيب معقولات أكبر، دون أن يكون لها أجناس أو فصول، ودون أن تنقسم في الكم إلى أجزاء متشابهة أو غير متشابهة؛ وبالتالي فهي لا تحل في مقدار، والقابل لهذه المعقولات المجردة فينا هو جوهر غير جسمي أو مادي.
ولأبن سينا هنا حجة أخرى على تجرد الجوهر العقلي من المادة. . . مؤداها أن تجريد الصورة العقلية عن المكان والوضع والكم والأين وسائر المقولات فهو باعتبار وجودها الذهني وتصورها العقلي لا في الواقعي الخارجي، ومثل هذه الصورة العقلية المفارقة لمادتها لا يمكن أن تكون في جسم، وإلا فلو أن هذه الصورة العقلية المجردة قد انطبقت في جسم ذي جهات وأقسام لنتج محال وخلف لما فرضناه في البدء. وخلاصة القول أن محل المعقولات والجوهر القابل للصورة المجردة هو مثلها مجرد - ولا يمكن أن يكون جسماً أو في جسم بحال، على عكس الصورة المنطبقة في المادة والتي هي أشباح لأمور جزئية منقسمة لكل قسم منها نسبة بالقوة أو بالفعل لجزء من الشيء المادي أو لكله.
وإذ برهن أبن سينا بهذين الدليلين على تجرد الجوهر العقلي من المادة والجسمية أنتقل إلى النتيجة المنطقية التي تلزم هذا البرهان بالضرورة، وهي أن تعقل القوى العقلية المذكورة
ليس يحدث بالآلة الجسمية. وله في ذلك حجج ثلاث: أولاها أنه لو كان تعقل هذه الصور بآلة جسدية لم تستطع أن تعقل ذاتها وتشعر أنها تعقل (كالحس مثلا أو الخيال والوهم التي تحس أو تتخيل وتتوهم أشياء خارجة عنها - دون أن تشعر بفاعليتها هذه) - إما العقل - فإنه يعقل الصورة الكلية. ويعقل أنه يعقلها - مما يدل على أنه ليس بينه وبين ذاته آلة أخرى وسيطة وبالتالي أنه يعقل بذاته - وحجة أخرى هي أن الحواس وما من شانه أدراك الصورة الحسية الجزئية يوهنها دوام العمل، ويصيبها بالعجز والكلال (وأمثلته هنا كثيرة واضحة) بينما القوة العقلية لا يزيدها التعقل إلا جلاء وجدة، وصفاء وقوة ودربة؛ ما لم يفسد الخيال والحس هذه الملكة. والحجة الثالثة على أن القوة العقلية ليست جسمية أنها ليست خاضعة للضعف أو الشيخوخة شأن سائر القوى البدنية في سن معينة. بل لا تزال قوية فتية بعد هذه السن بكثير ما لم يطرأ عليها طارئ مرضي أو نحوه. فإن صح أن النفس يتعطلفعلها عند مرض البدن كما يتوهم - أو عند الشيخوخة، فما ذلك إلا لأن النفس - كما بينا من قبل - لها فعل بالقياس إلى البدن (أدارته وسياسته) وفعل بالقياس لذاتها (التعقل والتفكير) فبابهما اشتغلت انصرفت عن الأخر لا تجمع بين الاثنين مطلقاً، بل نسبياً؛ كما لا يتم فعلها إلا بالبدن فهو عالة على النفس، وشر لا بد منه.
وآية احتياج هذه القوة العقلية إلى معونة القوى الحسية الحيوانية أنه لا يتم لها معرفة ولا تعقل إلا إذا أمدنها هذه البدنية بمادة المعرفة الغفل (الخام فعندئذ تبدأ النفس عملها على أنحاء أربعة:
(1)
التجريد والتعميم وانتزاع الكلي من الجزيئات، واستخلاص التصور الذهني
(2)
ومن هذه التصورات الذهنية المجردة تقوم أحكام وقضايا سالبة وموجبة هي التي نسميها في المنطق التصديقات - التصورات تقوم في الحس المشترك والتصديقات في الخيال والوهم.
(3)
ثم إن المتقدمات الكلية التي تستقيم عليها الأقيسة والبراهين والعقلية لا بد أن تكون من واقع الحياة والتجربة، وأن يكون سبيلها الملاحظة والمشاهدة والتعميم الذي يؤدي إليه الاستقراء والحواس هي وسيلة الاستقراء الأولى.
(4)
وكذلك الخبرة والمسلمات والبديهيات التي نحصلها وتصدق بها لشيوعها وتواترها
وجلاء الحق فيها، أي نحصلها بالسماع كما يقول العرب، أو - كما يقول الفرنسيون؛ هذه إنما تكتسبها بالسمع أو التعليم والتلقين أو التقليد وقد لا نصدق بها بعد.
وبهذا يكون أبن سينا قد أقام الدليل واضحًا قوياً على أن النفس الناطقة ليست في ذاتها جسما، وأنها لا تحل في جسم، لأن صورها المعقولة التي هي محلها ليست جسمية. وثبت إذن أن النفس الإنسانية جوهرها روحاني مفارق
كمال الدسوقي
شهرزاد!.
. . .
للشاعر زهير ميرزا
شهرزاد!. . . . حلمك الفاتن أندى من عبير
ولياليك غرامٌ بين أحضان الدهور
كأسُك الفنُّ. ومغناك أغاريدُ العصور
ونداماك عشيقُ فاتر اللحظ الكسير
صرعتهُ خمرةُ السحر فناما
وارتوى منك بيانا وغراما
وترامى تحتَ عينيك هُياما
وسقاك العُمَر؛ فاسقيه الهوى في كاس نور
وامنحيه اليوم من ثغرك قُبله
ثم. . وارْوي ليلةً من ألف ليلة!
جوُّك العاطر أطيافُ وأشباحُ حيارى
ونداءٌ هامسُ الألفاظ ترويه لحناً لا يبارى
ورواهُ الدهرُ فاستلقاه خفَّاقي وثارا
كلما مّرتْ ببالي شهرزادُ
سكرَ الخاطر واشتاق الفؤادُ
وطوى الأزمانَ يرعاه السُّهادُ
فرأى العاشق والمعشوق في الحب ُسكارى
فارْشفي من شفَة الأزمان نهله
ثم. . وأرْوى ليلةً من ألف ليله!
ما لهذا الليل لا يطويه فجرٌ وضياءُ
أترى يصغي كما يصغي إليك الندماءُ؟
أم تراهُ من حديث السحر أغفى حيثُ شاءوا
ليت مصباحك يا سامرةَ الليل يُضاءُ!
كلما أدرْكك الصبحُ ولاحا
صمت الصداح لا يروي الصُّداحا
وأفاق الليلُ من سُكٍر فباحا
ومضى يرقبك السمارُ حيرى والمساءُ
فإذا أقبل. . . هاتي السحر كله
ثم. . وأرْوى ليلةً من ألف ليلة!
حدثي عن شاطئ الفتنة أو عن (سندبادِ)
وابعثي (الصيادَ) للبحر بأحلامٍ غواد
وأجمعي كل حبيبين على أنقى وِساد
وأطوي أيامك يا سامرةَ الليل. . . ونادي:
هذه الفتنةُ من ذاكَ الخيال!
لك عرشان: من السحر الحلال
ومن القصة في ثوب الكمال
من ترى يملكُ أسمى منهما يا شهرزادي؟!. . .
رتلي الآيات في أعذب حلهْ
ثم. . وأرْوي ليلةً من ألف ليلةْ!
(دمشق)
زهير ميرزا
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
موكب الحرمان
كان لقلبه في محراب فنها صلوات. . وفي محراب فنها كم صلت قلوب، ولكني لا أعرف قلبا أطال السجود مثل قلبه! كان يقدسها وهي ترسل النغم فينصت الوجود، يوم كان في أنغامها أنين وحنين، وفي ألحانها تبريح وتسبيح. . . وكانت حين تغني له وتفني نفسها في غنائها، أشبه براهبة متعبدة، تندت من دموعها صفحات الكتاب المقدس! وأقام لها في معرض الفكر صورا فاتنات، وحشد لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان وظلال
كانت إنسانة، وكانت فنانة، وخيل إليه يوما أنها سمت بفنها وإنسانيتها إلى الحد الذي تشعر عنده الكلمات بأنها في حاجة إلى عون الوحي والإلهام!. . . وكانت قصة هواهما أنشودة حلوة: بمثلها لم يحظ في الفن يوما وتر، ولم يشد يوما في اليم ملاح، كلا. ولم يسمع شراع. . . وأسطورة عذبة: بمثلها لم يحط في الوهم يوما خيال، ولم يصدح في البيد يوما رعاة، كلا. ولم يكتب يراع! وكان معبد القديسة يملأ النفوس رهبة وحمة وحنانا. . . كانالترتيل يهز جوانبه بين حين وحين فتهتز المشاعر وتتعلق الأنفاس وتهوم الأرواح. . . . وكانت أغانيها نشوة الشعور في موكب الأفراح، وفرحة القلوب في عرس الحياة!
وفي ومضة البرق لفها الليل، فقد كل شيء. . . معبد القديسة؟ لقد خيم في جنباته الصمت وشاع السكون! معرض فكره وصورة الفاتنات؟ لقد محت ريشة القدر كل ما فيها من ألوان وظلال!. . . وهاهو ذا النبع قد جف، والزهر قد ذبل، والمطر قد ذهب إلى غير معاد! لقد لقيت مصرعها في حادث لا يزال يذكره الناس، وذهبت بأحلامها وأحلامه إلى هناك، إلى وادي العدم. . . والنيل الحبيب الذي بارك أمسياتهما لا يزال يجري، والقمر الساحر الذي رعى حبهما لا يزال يبزغ، والليل الساكن الذي كتم سرهما لا يزال يقبل كلما ولى نهار!
أما هو في أسوء ما فعلت به بعدها الأيام! لقد طوى القلب على أحلامه، وعاش من بعده على أطلال الذكريات. . . ولقد سار وحده في موكب الحرمان: يهتف للأنة الحائرة، ويصفق للزفرة المحرقة، ويعود آخر الأمر وملء نفسه أشلاء آمال!. . . وأما حياته، فيا سوء ما أصبحت: لقد أصبحت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً لا
يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس!
كتبت هذه الكلمة منذ عام في مجلة (الأديب) اللبنانية، ثم تلقيت عقب نشرها بضع رسائل من هنا وهناك، بعضها يدور حول كلمتين:(من هو؟) و (من هي؟). . . بينما يدور بعضها الآخر حول التوكيد بأن بطلة هذه القصة القصيرة هي فقيدة الفن (أسمهان)، ولكن من هو بطل القصة؟!. . .
وأنا اليوم أعيد نشر هذه الكلمة تعقيبا على ما يكتبه الأستاذ التابعي عن ذكرياته حول هذه الفنانة في (أخر ساعة)، ولأقول لمن كتبوا إلي مستفسرين أن (هي) التي أشرت إليها لم تكن إلا المطربة (أسمهان). . . أما (هو) فليس واحداً من أولئك الذين عرف الناس قصة صلاتهم بها، ولا أعتقد أن واحدا منهم يعلم شيئا عن هذا الغرام العاصف الذي جمع بين قلبها وقلبه، وغلف قصة القلبي بغلاف من الصمت والكتمان!
وكم كنت أود أن أذيع قصتها على الناس من رسائلها إليه، ذلك الإنسان الذي لا يعرفه أحد. ولكنه من أسرة. . . وفي بيته زوجة عزيزة عليه، وأبناء صغار أحباء إلى قلبه!
إيمان عظيم:
قرأت لصديقي الأستاذ علي أدهم كلمة قيمة في (الثقافة) عن الألم والأيمان في حياة الشاعر الألماني هنريك هايني، وقد استوقفني فيها ذلك الحوار الرائع بين هايني الشاعر وإمانويل فخت الفيلسوف، حول حقيقة الله بين الوجود والعدم، أو بين الإثبات والإنكار. . . قال هايني لفخت:
- (قل لي يا أستاذ بصراحة: هل تعتقد بالحياة الأخرى؟ وهل تؤمن بأن الروح خالدة؟ وأجاب فخت في تؤدة ووقار:
- أني أعتقد بوجود عالم الأفكار غير المنظور.
- ولكنك لا تصدق بوجود إله. . . إله حي قيوم؟
فأجاب الأستاذ في غير تردد وقد هز رأسه: لا أصدق به!
فأرخى هايني جفنه المشلول، وارتمى على وسادته، ولاذ بالصمت) ثم أستأنف الصديقان حديثهما مرة أخرى حول وجود الله وكانت دهشة الفيلسوف بالغة حين رأى الشاعر وقد تحول عن نزعة الإلحاد التي عصفت بعقيدته ردحا من الزمن، إلى نزعة إيمان عميق
تغلغلت في فجاج روحه، تحت وطأة مرض طويل المزه الفراش وبحت به آلامه! وهنا قال هايني:
(إنني في حاجة إلى الله، ففي الليل حينما تأوي زوجتي إلى فراشها أشعر بالوحدة، وينفر مني النوم، وأظل أتقلب في الفراش وأتحول من جنب إلى جنب، ويغشى جسمي الألم ويدب به من الرأس إلى القدم، وفي كل لحظة أعتقد أن نهايتي قد دنت وحانت منيتي. . . وفي مثل تلك اللحظات يؤنس وحشتي أن أفكر في أن هناك في السماوات - أو في أي مكان آخر - من أستطيع أن ألجأ إليه في كربتي وضائقتي، ومن أتهمه أدينه وألقي عليه التبعة. . .) ولعل هذه الكلمات الأخيرة هي وحدها التي تركت أثرها العميق في نفسي وحسي. إن فيها دفقات هائلة من حرارة الشعور في القلب الإنساني؛ الشعور الذي تنبلج أمامه أنوار الحقيقة والأيمان في لحظات الشدة والضيق وحيرة الرجاء، هناك حيث يتجه الضعفاء بقلوبهم إلى رحاب الله ينشدون العون، حين يعز النصير على أرض البشر! إنها ليست كلمات، بل أنات. . . هتكت ستار الصبر والجلد، وتركت مكانها من حنايا الضلوع وشغاف القلب، وخرجت إلى الناس تروي لهم قصة الألم والأيمان!
إنه هايني الإنسان. . . هايني الذي هتف مرة في غمرة من غمرات عذابه: لن أنتسب بعد اليوم إلى الملحدين والجاحدين، لقد أصبحت أومن بأن أوائل الأشياء وأواخرها هي في الله!
مع الدكتور طه حسين:
كنت أتحدث منذ شهرين مع الدكتور طه حسين بك عن الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وكان بدء الحديث سؤالاً مني للدكتور عما إذا كان قد لقي سارتر في خلال تلك الفترة التي تغيب فيها عن مصر ليقضيها في فرنسا، ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى شخصية سارتر الأدبية والفلسفية، وإلى حقيقة المكان الذي يشغله في الأدب الفرنسي المعاصر.
وسارتر - كما لابد أن يعرف المتتبعون لأخباره من القراء - فيلسوف وجودي ملحد، أصدر البابا أمرا بمنع دخول كتبه الفلسفية إلى مدينة الفاتيكان لما فيها من إنكار سافر لوجود الله! وهو بعد ذلك أديب ارتقى سلم المجد الأدبي في وثبة واحدة بدلا من ارتقائه في وثبات؛ ومن العجيب أنه إلى ما قبيل الحرب العالمية الثانية لم يكن شيئا مذكورا يلفت
النظر ويثير الاهتمام، ولكنه الآن يحتل مكانة في الطليعة من كتاب فرنسا الأحياء، ويكاد مجده الأدبي يغطي على أمجادهم جميعا عن جدارة واستحقاق!
أما شخصيته الأدبية، فتتمثل في تعدد ملكاته ومواهبه. . إنه كاتب تراجم فذ لا يلحق به، وكتابه الذي أخرجه عن (بودلير) يعد في رأي الفن خير كتاب أخرج في موضوعه، منذ أن أحتل أدب التراجم مكانه إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى. وله في ميدان النقد الأدبي نظرية جديدة لا أحسب أن أحداً قد سبقه إليها؛ وهي نظرية تنادي بأن الأدب صورة القارئ لا صورة البيئة كما يقول (تين). . . وهو بعد ذلك كاتب مسرحي يغذي المسرح الفرنسي من وقت إلى آخر بإنتاجه الفريد المتميز!
في هذه الأشياء كلها كنت أتحدث مع الدكتور طه حسين، ولقد قال الدكتور فيما قال: إنه يخشى على مجد سارتر الأدبي بسبب ميله إلى السهولة فيما يكتب في هذه الأيام، وإنه لم يرض عن مسرحيته الأخيرة (الأيدي القذرة) يوم أن شاهدها تمثل في أحد المسارح الباريسية.
وأعقب على هذه الفتة فأتساءل: ترى لو نظرنا إلى مجد سارتر الأدبي هذه النظرة بسبب ميله اليوم إلى السهولة فيما يكتب فكيف تكون نظرتنا إلى هؤلاء الذين يكتبون اليوم في مصر، ولا يهمهم ملء الفراغ الروحي الذي تحسه الجماهير بقدر ما يهمهم ملء الفراغ الذي تحسه أعمدة الصحف والمجلات؟!. . . إن أخطر الخطر على الكاتب أن يظن أنه قد بلغ أوج الشهرة وقمة المجد، وألا ضير عليه من الوقوف على السطوح دون التغلغل إلى الأعماق، وهذا هو ما يلقاه المتعطشون إلى المعرفة في هذه الأيام حين يقرءون لبعض كبار الكتاب فلا يخرجون بشيء!
إن المسألة ضرب من الميل إلى السهولة، ولكنها عندنا ضرب من الاستهانة بالقيم والأذواق!
حديث الدكتور طه حسين بك في (بيروت المساء):
في مكان أخر من (الرسالة) تقرأ الكلمة التي بعث بها إليها الدكتور طه حسين بك، والتي نفى فيها ذلك الحديث الذي نسبته إليه جريدة (بيروت المساء) اللبنانية حول الشاعرين: علي محمود طه، وعمر أبو ريشه؛ ويسرني كما يسر الذين ينشدون حقائق الأمور أن يبادر
الدكتور الفاضل بتكذيب ما نشر منسوباً إليه، وأن يكون رأيه في الشاعر المصري منذ أيام هو رأيه فيه منذ سنين، دون أن يغض من قيمة هذا الرأي أخطاء نحوية أو لغوية يقع فيها الشاعر، وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية كما يقول الدكتور طه حسين!
أما حديث الدكتور عن الشاعر علي طه في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء)، فقد أطلعت عليه منذ أمد بعيد، وما زلت اذكر كل ناحية من نواحيه في مجال الإشادة بحسنات الشاعر والإشارة إلى سيئاته، ولعل ما كبته الدكتور في (حديث الأربعاء) هو الذي أثار دهشتي عندما أوقعت على حديثه الذي نسبته إليه الصحيفة اللبنانية، لأن الفارق بين رأيه اليوم في الشاعر ورأيه بالأمس فارق بعيد!
وإذا كان أديبنا الكبير قد بادر فذكر في كلمته أن شيئاً مما نسب إليه لم يحدث أن أفضى به إلى (بيروت المساء)، فإنني أبادر بتوجيه الشكر إليه خالصا من الأعماق، وأشكره مرة أخرى على هذه التحية الكريمة التي تفضل فخصني بها في ثنايا كلمته؛ أما دفاعي عن الشاعر علي طه، فهو دفاع عما أعتقد أنه الحق. . . وليثق الدكتور طه أن له في نفسي مكاناً يستحقه رجل له في حساب الشعور أكرم الذكريات. . .
عبقرية محمد الإنسانية:
تحت هذا العنوان كتبت في عدد (الرسالة الهجري) مقالا خالفت فيه الأستاذ العقاد في طبيعة نظرته إلى شخصية محمد الإنسانية؛ وأعتقد أنني أوضحت جوهر الخلاف إيضاحاً لا يحتاج مني إلى أكثر مما أوردت من تفصيل، كما لا يحتاج من غيري إلى تعقيب. . . ولكن الأستاذ محمد محمود عماد يعقب على ما كتبت في عدد (الرسالة) الماضي بكلمة عجيبة تبعد كل البعد عن الأفق الذي أدرت فيه حديثي عن محمد الإنسان!
إن جوهر الخلاف بيني وبين الأستاذ العقاد هو أنه يزن إنسانية محمد بميزان العظمة النفسية، بينما أزنها أنا بميزان اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني). . . فموقف الرسول من عبد الله بن أبي، أو من هبار بن الأسود، هذا الموقف الذي يعز مثيله على الأقران والنظراء، ينظر إليه العقاد من زاوية تنطيق - كما قلت - على الرجل العظيم، لا على الإنسان العظيم، لأن محمداً في أمثال هذه المواقف - كما يرى العقاد - أكبر من أن
يلقى الأمور لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة!
هل كان الرسول حين شمل عبد الله بن أبي بالصفح والرحمة والمغفرة، ينظر إليه على أنه أهون من أن يعامله معاملة الند للند، أو معاملة النظير للنظير؟ إن هذا المنظار الذي ينظر العقاد من خلاله إلى معدن النفوس وجوهر القلوب، يجعل من الرحمة المحمدية ضربا من التعاظم والكبرياء، وهذا ما ننزه عنه كمال الإنسانية في هذا الإنسان العظيم!
أما تعليق على قول الأستاذ العقاد بأن النبي لا يكون رجلاً عظيماً وكفى، بل لا بد أن يكون إنساناً عظيماً، فلم أقصد من ورائه إلى أن العقاد قد نفى الإنسانية عن محمد قبل أن يكون نبياً كما فهم الأستاذ عماد. . . وإنما قصدت إلى أن اشتراط الإنسانية لنبوة محمد أمر لا داعي لإثباته، لأن محمد كان إنسانا بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس! ولم يحدث أنني قصرت إنسانية محمد على الرحمة كما يغالط الأستاذ عماد، ولكنني قصرتها على لحظات (الضعف الإنساني). . . وتحت هذه اللحظات يمكن أن تندرج الرحمة وما يماثلها من شتى الفضائل والصفات.
وإذن فلا مبرر لقوله بأن حديث العقاد عن إنسانية محمد كان أشمل وأعم!
تحية الأدب للرسالة:
كتبت مجلة (الأديب) اللبنانية في عددها الأخير ما يلي:
(لاحظنا كما لاحظ معنا كثيرون - والملاحظة تؤلم - غيبة مجلة (الرسالة) عن معرض الكتاب في مدينة اليونسكو في الوقت الذي رأينا فيه عشرات المجلات التي لا ترتفع إلى مكانة (الرسالة) فكرا وقدرا تحتل صدر الجناح المصري، عرضة لأنظار مفكري العالم!. . . حرام أن يغمط حق مجلة قادت ولا تزال تقود الرأي والفكر في العالم العربي ست عشرة سنة؛ بينما يفسح لغيرها ممن لا يعرف لها في التوجيه أو الأدب أي سبيل يذكر! نحن نفهم أن يمنع عرض مجلة (الأديب) في الجناح اللبناني - بينما تعرض الوريقات الصفراء - لأن الأديب كانت وما تزال تقاوم في هذا البلد لرسالتها التوجيهية السامية، وقد عرف هذا البلد (السعيد) بأنه مقبرة لأبنائه المخلصين النابهين. . . ولكن أن يهمل عرض (الرسالة) في الجناح المصري، فهذا موضع دهشتنا!).
هذه اللفتة الكريمة من الزميلة اللبنانية، وهذه التحية الصادقة، تستحقان من أسرة (الرسالة)
كل ثناء وتقدير. أما التعقيب على هذا الأمر الذي يثير الدهشة والعجب، فسنفرد له مكاناً خاصاً في العدد المقبل إن شاء الله.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عد الأمواج في المجمع اللغوي:
استمع الأعضاء في جلسة من جلسات مؤتمر المجمع اللغوي إلى تقرير للجنة اللهجات بالمجمع يتضمن الخطة التي وضعتها لاستقراء الألفاظ والتراكيب الجارية على السنة أهل الأقطار العربية وتدوينها في معاجم وأطالس لغوية، وفي التقرير تفصيل لهذه الخطة لا تنتهي فيه إلى غاية مرجوة من هذه الدراسة.
استمع الأعضاء إلى ذلك التقرير، ثم دارت بينهم المناقشة في موضوعه، فاعترض بعضهم على اهتمام المجمع بهذه الدراسة، ومن هؤلاء المعترضين الجارم والعوامري والشبيبي والمغربي وعبد الوهاب عزام، وتلتقي آراءهم في أنه أولى بالمجمع أن يوجه عنايته إلى موضوعات أهم من هذا الموضوع. وساق الدكتور عبد الوهاب عزام بك حكاية ظريفة، قال: خطر لي عندما سمعت هذا البحث مثل سمعته في مدينة (مارسين) بتركيا، كان رجل جالسا على شاطئ البحر ذات يوم فمر به صاحب له فأساله: متى أتيت إلى هنا؟ قال الأول: أنا هنا منذ الصباح. فأساله صاحبه: وماذا تفعل؟ فأجاب: أعد الموج. عند ذلك سأله صاحبه: كم عددت؟ فما زاد على أن نظر إلى موجة وقال: هذه واحدة. فعد الأمواج قد يكون ذا متعة وفائدة ولكنه يشغل عن أمور أهم منه. ولئن كانت دراسة اللهجات أكثر فائدة من عد الأمواج فان بينهما مع ذلك بعض الشبه.
ويرى الشيخ عبد القادر المغربي أن دراسة اللهجات العامية تنافس عمل المجمع، فعمل المجتمع تثبيت اللغة الفصيحة، فان قام بتلك الدراسة فإنه يعطي العامية بذلك اعتبارا في أعين الناس يعرضون به عما نعلمهم من الفصيح. قال: قد يكون بحث اللهجات مفيداً لأولئك الغربيين المستعمرين الذين ينزلون بالبلاد العربية المختلفة ذات اللهجات المختلفة ليشتغلوا بالتجارة أو ليسعوا بالفتنة، أما اشتغالنا نحن بهذا العمل فحرام حرام.
ودافع عن الموضوع فريق آخر، منهم ماسينيون وطه حسين وأحمد أمين ومنصور فهمي، وقد رأوا جميعاً أن العلم يطلب لذاته ولا يسأل عن فائدته. وتولى الدكتور طه حسين الرد على الدكتور عزام والشيخ المغربي فقال: ليس للعالم عمل إلا أن يعد الموج، فعد الأمواج
لا يخيف، أما ما يخشاه زميلنا الشيخ المغربي من تثبيت العامية فخشية مبالغ فيها.
وجنح بعض الأعضاء إلى بيان فوائد ودراسة اللهجات، كالأستاذ فريد أبو حديد الذي بين فائدتها في درس التاريخ، ومما قاله أن اللغة وثيقة الاتصال بالقوم الذين يتكلمونها، فدراسة اللهجات بما تكشفه من اتصال بينها تدل على صلات كانت بين الأقوام الذين يتكلمونها.
ثم انتهى المؤتمر إلى الموافقة بالأغلبية على الخطة التي تقدمت بها لجنة اللهجات.
ويلاحظ أن مؤيدي دراسة اللهجات العامية لم يجيبوا عن سؤال المعارضين: أليس لدى المجمع مسائل أهم من هذه الدراسة وأولى بعنايته وجهده؟ فقد ذهبوا إلى تمجيد البحث العلمي واستنكروا السؤال عن الفائدة، وحتى من بين منهم الفائدة لم يذكر أهميتها بالنسبة لبقية أغراض المجمع.
وعبد الله الفقير إليه، كاتب هذه السطور، يريد أن يحمل نفسه لا على التسليم بقدسية البحث العلمي فقط، بل يفرض أن لدراسة اللهجات العامية فوائد لا تحصى ومنافع لا تستقصي، كما يعبر مؤلف (ثمار الإنشاء) ويريد أيضاً أن يحني رأسه ولو قليلاً أمام عظمة علماء اللغات في فرنسا وفي غير فرنسا، ولكنه يريد مع ذلك أن يعرف هل مجمع فؤاد الأول - للغة العربية أو للبحوث العلمية؟ أليست مهمته الأولى المحافظة على سلامة اللغة العربية وتلبية حاجة الناس إلى التعبير الفصيح بمواجهة المستحدث وتصحيح الخطأ وغير ذلك. فهل فرغ من هذه المهمة، بل أقول هل بلغ شيئا ذا بال من النجاح فيها حتى يعد الأمواج ويسعى وراء الحقيقة المطلقة في عالم البحث غير ناظر إلى الأهم والمهم والفائدة؟
إن الناس يرمون المجمع بالتباطؤ والتثاقل في إنجاز الأعمال ذات المنافع القريبة، فالمجمع حين يوغل فيما وراء هذه المنافع يضيف إلى ما يرمي به العقم وعدم الإنتاج المفيد.
القلم والقنبلة:
دافع الأستاذ عبد العزيز الشوربجي المحامي عن أحد المتهمين في قضية القنابل، فأشار إلى المقالات السياسية التي كان يكتبها المتهم، وتساءل: كيف يتصور أن تلقي هذه اليد القلم وتمسك بدلا منه المسدس والقنبلة، واليد التي تكتب دفاعاً عن مصر تعود فتنكب مصر، واليد التي أسالت المداد من عصارة الذهن وفي وضح النهار تعود فتسفك الدماء في الظلام؟ إلى أن قال: هل رأيتم أن كاتبا أو صحفيا انقلب مجرما فوضويا؟
وحقا لم نر أحداً من المشتغلين بالكتابة أو الصحافة قد أرتكب هذا النوع من جرائم القتل وسفك الدماء أو أشترك في تدبيرها. ولكني أنظر إلى الموضوع من جانب غير الجانب الخطابي الذي نظر منه الأستاذ الشوربجي، فليس كل من كتب صاحب عقيدة، وكثيرا ما تشترى الأقلام وتؤجر الصحف.
صاحب القلم لا يحمل القنبلة، وما حاجته إليها وقد أفرغ طاقته بسنان القلم، وسكب جهده على الورق؟ إنه يعبر عن ثورته ولا يختزنها، فليس به بخار مضغوطا تفجره القنبلة أو يطلقه المسدس. يصنع حماسة كلمات من نار، فلا يبقي منه ما يصلح لصنع الرصاص أو (الديناميت)، يصول ويجول ولكنه لا يعرف ميدانا غير القرطاس.
وإن صاحب القلم يضني نفسه بالكتابة والتحبير، ولكنه يجد في قلمه متنفساً يخفف عن أعبائه، وما أجدر الكتابة الحرة أو تحسب فيما يشفى من الأمراض العصبية أو يعصم منها.
ومن هنا ندرك قيمة حرية التعبير عن الرأي في صيانة الأمن العام، وأنك لتجد أكثر الأمم استقرار وخلوا من القلائل، هي التي نالت حظا موفورا من حرية الفكر لأن القوى تتجه إلى اصطراع الأفكار ولا تنحرف إلى التخريب والتدمير.
أمر معكوس:
لمصر في فرنسا ملحق ثقافي يفهم الإنسان من وضعه الرسمي والطبيعي إن مهمته تنظيم العلاقات الثقافية بين البلدين على أن يكون الهدف رعاية جانب بلاده من الوجوه المختلفة، فيدعو إلى ثقافتها ويبرزها ويبين آثارها في الحضارات والثقافات بمختلف الوسائل.
ولكن ملحقنا الثقافي في باريس يعكس الأمر، فقد أذاع من مذياع باريس يوم الخميس الماضي حديثا عن العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا في عهد محمد علي الكبير أشاد فيه بفضل فرنسا مؤيدا بما توصلت إليه همته ونشاطه الفائقان من الوثائق والمستندات.
أثر فرنسا في النهضة الثقافية بمصر معروف لم ينكره أحد، وله مكانه في التاريخ، ولكن ما لهذا نبعث الملحقين الثقافيين، ولو أن هذا من أغراضنا لكفانا مئونته الفرنسيون أنفسهم. ثم هل الظروف الحاضرة ملائمة لمثل ذلك؟
نقد مسرحي:
كنت ناوياً في أول الموسم المسرحي الحالي أن أتابع الروايات التي تمثلها الفرقة المصرية فأتناولها بالنقد واحدة واحدة، وبدأت فعلا بالمسرحية الأولى (سر الحاكم بأمر الله) وكتبت عن غيرها، ولكني عندما وجدت مستوى ما تعرضه الفرقة هابطا فتر حماسي، وخمدت رغبتي في المعاونة بالنقد على إحياء هذا الفن الذي تلتقي فيه عدة فنون.
وما كنت أدري، ولم يعجبني الخوخ، أني سأضطر إلى شرابه. . . فأكتب عن (أوبريت الحمار).
هي (تمثيلية) عرضتها فرقة شكوكو على مسرح حديقة الأزبكية، ونقلتها الإذاعة في سهرة ليلة الجمعة الماضية، وهي تتلخص في أن حماراً (يمثله أحد أفراد الفرقة) يظهر على المسرحوعلى إحدى أذنيه عدد وعلى الأخرى (نفير) وصاحبه (شكوكو) يسميه (تكس) ويأتي (واحد خواجه) ويركب (التكسي) ويغني له شكوكو:(يا حوحو. . يا ميمي. . . شي) ثم ينزل الستار.
وهي تعتبر مسرحية غنائية من نوع (الأوبريت) ولا بد أن شكوكو يقصد بها أحياء هذا الفن مع شيء من الإبداع والتجديد يبدو في خلوها من وجهة وطنية أو اجتماعية، مما كان يتجه إليه أهل هذا الفن من الجيل القديم. . . ومما يذكر أن هذه (الأوبريت) يدور فيها صراع عنيف بين (الخواجة) والحمار الذي يزعم صاحبه أنه (تكس) وهو كسائر ما في المسرحيات العالمية صراع خالد. . . وهي لذلك (مؤثرة!) وقد أخرجها شكوكو، واشترك أيضا في التمثيل وألفها مؤلف نسيت اسمه.
يبقى أن أذكر المهم، وهو الذي اضطرني إلى شراب الخوخ ذلك أن مجلس الوزراء قرر من نحو شهر انتقال مسرح حديقة الأزبكية من اختصاص وزارة الأشغال إلى وزارة الشؤون الاجتماعية لاستخدامه في (ترقية التمثيل) وذلك أيضاً أن الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية جادة في نقل روائع الفنون إلى مستمعيها لا في مصر فقط، بل إلى كل من ينطق بالضاد في أنحاء المعمورة، كي يقف الجميع على ما يعرض في مسارح القاهرة من تمثيليات رائعة خالدة. . .
أو ليس يدعو كل ذلك إلى أن تنقد تمثيلية الحمار نقداً مسرحياً يلائم مكانها من (ترقية التمثيل)؟!
نقطة الخلاف:
رداً على الأستاذ أحمد الظاهر من أعضاء محكمة الاستئناف بعمان - أقول:
(فيروزاباذ) كلمة فارسية هو علم على البلد المعروف، وقد نطقها العرب بالدال وبالذال، كبغداد وبغداذ. ومن سنن العرب إبدال الحروف في لغتهم، وإبدال الذال دالا إذا جاءت متطرفة في الكلمات الفارسية. وقد وردت كلمة (الفيروزابادي) بالدال المهملة في شرح ديباجة القاموس وتاج العروس وفي معجم فرنسيس الإنجليزي الفارسي المطبوع في سنة 1852 م.
وبعد: فالخلاف بين السيد الظاهر وبيني ليس كبيرا كالخلاف بين القاهرة وعمان. . فليس بيننا والحمد لله (عقبة) وإنما هو خلاف على (نقطة).
وللأستاذ تحيتي وشكري على ما في كلمته من روح طيب وأدب جم.
عباس خضر
البريد الأدبي
الدكتور طه حسين بك يصحح ما نشر في (بيروت المساء)
أخي الزيات:
نقلت (الرسالة) في عددها الأخير حديثاً نشر عني في إحدى الصحف البيروتية ونسب إلي فيه أني أغض من شأن صديقي الأستاذ علي محمود طه وأبايع صديقي الأستاذ عمر أبو ريشه، فأحب أن أؤكد أني لم أبايع هذا ولم أغض من شأن ذاك، وما كان لي أن أفعل؛ فأنا أحب الشاعرين جميعاً وأحفظ لهما مودة ثابتة. وإذا لم تخن الذاكرة فقد كتبت فصلاً خاصاً منذ وقت طويل أثنيت فيه، بالحق، على شعر الأستاذ علي محمود طه. ولا يغير من رأيي فيه أنه يخطئ في العربية هنا وهناك. وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية!
وأظنك توافقني على أن صحة اللغة شرط أساسي من شروط الشعر الجيد.
أما الأستاذ عمر أبو ريشه فقد قلت غير مرة وما زلت أقول أني أكبر شعره وأعجب به؛ وليس هنا موضع التفصيل لأسباب هذا الإعجاب، ولكن الإعجاب بشاعر شيء ومبايعته شيء آخر.
وما أعرف أني بايعت شاعراً أو كاتباً قط؛ وما أظن أن سأبايع شاعرا أو كاتبا قط؛ فهذا نوع من السخف لم أشارك ولا أريد أن أشارك فيه.
وقد كنت دائما شديد الحرص على هذه الحرية التي تبيح للناقد أن يقول للأديب أخطأت أن أخطأ وأصيب أن أصاب. وقد جاوزت السن التي ينزل الناس فيها عن حريتهم.
فليطمئن الكاتب الأديب الذي دافع مشكورا عن صديقي الأستاذ علي محمود طه فقد دافع عنه في غير حاجة إلى الدفاع. وليقرأ أن شاء حديثا عن الأستاذ علي محمود طه صورت فيه رائي في جيد الشعر ورديئة وفي صوابه وخطأه، وهذا الفصل منشور في الجزء الثالث من حديث الأربعاء كتب منذ خمسة عشر عاما ولم يتغير رأيي في الشاعر الصديق الآن.
ولك وللكاتب الأديب تحيتي صادقة وشكري خالصا.
(الزمالك)
طه حسين
هل الحج يغسل الذنوب جميعا؟
. . . قرأت مقالكم (حج غير مبرر) فأوافقك في جانب منه كل الموافقة ويوافقك معي كل من في قلبه قدر من الأيمان - وأخالفك في جانب أخر كل المخالفة ويخالفك معي كثير.
فأما ما أوافقكم عليه، فهو إنكار ما يفعله ذلك الفاسق الفاجر وتقبيح ما يأتيه، وتنفير المسلمين من أمثاله، وتنبيه أولي الأمر على الضرب على يده.
وأما ما أخالفكم عليه، فتجاهلكم الحديث شاع على السنة المسلمين في شتى العصور والأمصار، وأعتز به كل مؤمن وسكن إليه قلبه، وروته كتب الحديث الكبيرة وغير الكبيرة. ألا وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). رواه البخاري ومسلم والدارقطني وغيرهم كثير مع اختلاف يسير في اللفظ واتفاق في المعنى.
ويرى أبن حجر أن المغفرة بسبب الحج عامة لكل الذنوب. وخصصها الطبري في تفسيره بالمظالم التي تاب عنها صاحبها وعجز عن وفائها. ورأى الترمذي قصرها على حقوق الله خاصة.
ولو كنتم فضلتم رأياً على رأي مما ذكرنا، ما رأينا بأسا قط؛ ولكنكم يا مولاي قلتم:(أغتر على ما يظهر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا. . . فيعود منها وهو نفي الصحيفة كيوم ولدته أمه) فمن هم الشيوخ الذين تقصد؟ الأزهريون أم أبن حجر ومن ذهب مذهبه؟ طبعا الأزهريون - وما الذي تزيدوه؟ لم يتزيدوا شيئا اللهم إلا أيثار وجهة على وجهة، وزيادة الرجاء في عفو الله.
وأخشى ما أخشاه أن يتجرا من لا صلة له بالدين على إنكار ما لا يوافق مزاجه من الأحاديث وأراء العلماء استنادا على ما فهم أو ما دلت عليه عبارتكم من إنكار حديث سلم به المسلمون ولهجوا به في مشارق الأرض ومغاربها.
ولكم في الختام أطيب التحيات.
محي الدين حمودة
المدرس برأس التين الثانوية
(الرسالة): يا سيدي، إن الشيخ الذي قال ذلك لم يورد الحديث ولم يشر إليه حتى تقول إنه أنكره أو شكك فيه، إنما أنكر تزيد القائلين بأن الحج (وحده) يمحص الذنوب ويمحو الخطايا. . وبين أثر هذا التعميم في تأمين المجرم وتهوين الجريمة. ولتزيد ملحوظ في تفسير المتساهلين المبالغين من الحجر بين الذين قالوا أن المغفرة بسبب الحج عامة لكل الذنوب من غير قيد ولا شرط، ففتحوا الباب لكل عاص وسهلوا الحجاب لكل مجرم. أما الحديث بنصه في البخاري ومسلم، وتفسيره للطبري أو الترمذي، فلا تعقيب عليه ولا جدال فيه.
وفاة السيدة زينب:
قرأت في عدد (الرسالة 812) كلمة الأستاذ حسن إبراهيم نقل عن سبب وفاة السيدة زينب فمن دلف أن أنقل كلمات موجزات من كتب الثقات لإزالة الأشكال:
1 -
خرجت زينب - صلوات الله على أبها وعليها - مع أبن كنانة من مكة، فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود فجعل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، فألقت ما في بطنها وأهريقت دما.
2 -
ماتت زينب في سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب وفاتها سقوطها من بعيرها لما طعنه هبار، سقطت على صخرة فأهريقت دما، ولم تزل مريضة بذلك حتى ماتت.
3 -
خرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، وكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود فروعها وهي في هودجها وكانت حاملا فيها يزعمون، فلما وقعت ألقت ما في بطنها، فبرك حموها ونثر كنانته وقال: والله لا يدنومني رجل إلا إذا وضعت فيه سهما فتكركر الناس عنه. . . الخ.
المصادر: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى للمحب الطبري ص156 من طبعة القاهرة، حيث ترجم لها في خمس صفحات.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي ج 9ص 212 من طبعة القاهرة، حيث بسط ترجمتها في خمس صفحات كذلك.
عبد الله معروف
حول كاد أن:
قال الأستاذ فاروق أحمد سلام بمعهد إسكندرية الديني في معرض رده على من قال إن تجرد المضارع الواقع في خبر كاد من أن قياس مطرد، أن الحديث الشريف يتفق مع القرآن في أن القرآن لا يأتي باللغات الشاذة وإلا لما كان معجزاً فكذلك الحديث لا يأتي باللغات الشاذة قال تعالى وما ينطق عن الهوى وقول الشاعر: كادت النفس أن تفيض عليه - والشعر العربي إذا تعددت فيه الأمثلة فلا يكون ذلك ضرورة ولا شاذاً وإنما هو قاعدة مسلم بها.
وأنا أقول: حقا أن الحديث لا يأتي بالشاذ وهذا إذا تأكد صدوره من في فم المعصوم بلفظه فمن الجائز أن يكون مرويا بالمعنى؛ وفي هنا نقل الأمير في حاشيته على المعنى نقلا عن السيوطي قال إن التحقيق أن الأحاديث لا يحتج بها في العربية لدخول المولدين في روائها بل والأعاجم، وعدم الثقة بأن هذا اللفظ النبوي لجواز الرواية بالمعنى. وشنع ملا على قاري بأن الأصل أن الراوي لم يغير اللفظ وحمله على الإصلاح مقدم. وقد استشهدوا بكلام العرب مع أن رواته مولدون؟ ولكن يقال أن الغرض في الحديث المعنى، ولذا صححوا جواز روايته بالمعنى؛ وأما كلام العرب فالمقصود الأهم فيه اللفظ لإثبات اللغة فلا يبعد على هذا تساهلهم في الحديث بما لا يتساهل في مثله.
فعند التحقيق العلمي ترى تعليله واهبا من الوجهة العلمية والاستشهاد بالآية في غير موضعها، فإنه يستدل بها على كمال صدق الرسول عليه السلام فيما يبلغ عن ربه فإذا نطق فإنما ينطق عن إخلاص وحق. ومما لا جدال فيه أنه إذا صح كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حجة بلا نزاع، فهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء. وحجته بألفاظ القرآن قطعية، لأن المتن مقطوع به فتنظيره بالحديث غير وجيه فانه غير مقطوع به فرد الاستشهاد بالحديث لما طرأ عليه من روايته بالمعنى وعدم الجزم يورده لا التشكك في حجية كلام المعصوم. والعبارة التي كتبها في مجلة الرسالة هي بنصها في أبن عقيل على ألفية أبن مالك ولا يغيب عن الأذهان أن النحويين واللغويين لا يعول عليهم في روايته
للحديث فكم من حديث استشهدوا به وهو غير صحيح وإذا تمسك به طالبتاه بتصحيح الرواية، فما قالته الرسالة صحيح لا غيار عليه.
علي الطوبجي
من علماء أسيوط
القصة العربية الحديثة في القرنين الأخيرين:
(يعد الأستاذ محمد نجم، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية ببيروت دراسة وافيه عن القصة في الأدب العربي الحديث، وهو يرجو الأدباء الذين عالجوا كتابة هذه الفن من الأدب أن يكتبوا إليه نبذاً مفصلة عن حيواتهم وثقافتهم وإنتاجهم الأدبي مع ذكر التواريخ الدقيقة إن أمكن. كما يرجو هؤلاء الأدباء أن يرسلوا إليه نسخا من كتبهم وهو مستعد لشراء الكتب بالأثمان التي يحددها أصحابها، وعنوان المراسلة هو ص ت 2208 القاهرة).
(1)
ميلاد أبن عربشاه:
في ص 1321 من عدد (الرسالة) 803 (ولد أحمد بن عريشاه بدمشق عام 791). والذي في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبن العمادج 7ص 283) أن مولده سنة 790.
وفي الصفحة نفسها (ودفن بالخانقاه الصالحية) والصواب (الخانقاه الصلاحية) على ما في ترجمته في (تاريخ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) ج2 ص129.
(2)
قبرس:
في ص 1272 من عدد (الرسالة) 801 (قبرص) بالصاد والصواب (قبرس) بالسين. قال المؤرخ عز الدين بن الأثير في كتابه (اللباب في الأنساب) المطبوع بالقاهرة، في ص 240 من الجزء الثاني: قبرس بضم القاف وسكون الباء وضم الراء وفي آخرها سين وهي جزيرة في بحر الروم. . .
محمد أسامة
الكتب
عالم الذرة أو الطاقة الذرية والقنبلة الذرية
تأليف الأستاذ العالم نقولا الحداد
ما يستطيع إنسان أن يجهل أن الأستاذ نقولا الحداد عالم أصاب من العلم نصيباً كبيراً، وأديب ضرب في الأدب بسهم وافر، وهو بين هذا وذاك في نشاط مستمر ودأب لا يستقر، يخرج على الناس - دائما - بقصة مستملحة أو بحث طريف، وهو سباق إلى الجلي، فهو أول من نشر باللغة العربية كتابا مسهبا في نظرية النسبية لأينشتين، وهو من أوائل من نشروا بحوثا مستفيضة عن الطاقة الذرية. وكتاب (عالم الذرة) من الكتب الجليلة الفريدة في نوعها، أحاط بتاريخ الذرة منذ أن كانت خيالا في أذهان العلماء، لا تسمو إليها التجارب العملية، ولا ترقى إلى كنهها العقيدة الراسخة، إلا تكهناتفرضية، أو معادلات رياضية، إلى أن أصبحت شرا مستطيرا تعصف بالزرع والضرع والناس في طرفة عين.
ولا يسعني - بعد إذ استوعبت كتاب الأستاذ نقولا كله - إلا أن أهمس في أذنه فأقول: يا سيدي، قد يعجز العالم عن أن يكون معلما، وذلك حين لا يستطيع أن ينزل إلى مستوى تلميذه، أو أن يرقى بتلميذه إلى مستواه هو. وأنت في كتابك أردت أن تكون معلما. . . ولكن. . .
ولقد كان يخيل إلى وأنا أهم أن أقرأ الكتاب أنني سأجده كتابا وسطا على نمط كتبه (كيلاواي) في الذرة، أو ما كتبه غيره من علماء الغرب. ولكن كتاب (عالم الذرة) كان بحثاً عالياً عرض لنظريات العلماء الذريين منذ رثرفورد وموزلي عرضا علميامختصراً. ثم تحدث عن ترتيب العناصر الدوري لندليف دون أن يوطئ لهذا الحديث بكلمات تكون بمثابة المدخل.
وإن القارئ ليحس اضطرابا في الصفحات الأولى من الكتاب وكان الأجدر بالأبواب الثلاثة الأولى أن تكون على النظام الأتي:
1 -
العناصر.
2 -
الجزيء وتركيبه في العناصر والمركبات.
3 -
الذرة وعلاقتها بالجزيء.
4 -
تركيب الذرة من نوعي الشحنات.
5 -
الإلكترون والبروتون.
6 -
الأفلاك الذرية.
ولن يجد المرء صعوبة في أن يوفى المواضيع السابقة حقها من الشرح والإيضاح في أسلوب رقيق سهل، فتكون أقرب مأخذا وأسرع إلى الفهم، كما فعل المؤلف حين أراد أن يوضح العلاقة بين مناطق الإلكترونات في الذرة، وبين الخواص الكيميائية الدورية التي نبهت مندليف إلى ترتيب العناصر في جدوله.
ويتمسك المؤلف برأي أينشتين في أن الطاقة والمادة شيء واحد، وهو بحث علمي رياضي يجب أن تغفله في كتاب عام أنشئ ليوضح فكرة جديدة في سهولة ويسر.
وفي ص 68 ينصح المؤلف القارئ فيقول: (ويلاحظ القارئ أن في سياق الحديث بعض النقط الفنية عويصة قد يتعب ذهنه في إنعام النظر فيها. إذ لا يمكن التوسع في تبسيطها لأنه يستلزم مضاعفة صفحات الكتاب، والكتاب مجال محدود لا يسمح بذلك التوسع، فللقارئ أن يتجاوز هذه النقط إذا لم يشأ التريث للفهم). وكان في قدرة المؤلف أن يسد النقص الذي يومئ هو إليه لو أنه أغفل كثيرا من المواد الجافة المعروضة ليحل محلها الشرح الوافي المبسط للنقط الهامة.
وفي الكتاب هنات يسيرة أعرضها في ما يأتي:
1 -
خرج المؤلف عن المألوف في ترجمة بعض المصطلحات العلمية. ففي صفحة 29 بالجو المغناطيسي الجاذبي والصحيح المجال المغناطيسي. وترجم بالجو الكهربائي والصحيح المجال الكهربائي. وفي صفحة 34 ترجم بالقوة الدافعة الكهربائية والصحيح القوة الطاردة المركزية
2 -
قال المؤلف في ص 52: الجرافيت وهو الفحم الجوى المضغوط. والصحيح أن الجرافيت صورة من صور الكربون توجد في الطبيعة في سيبيريا وسيلان والهند وإنجلترا وكاليفورنيا يمكن الحصول عليه صناعيا من تسخين خليط من الفحم الحجري أو فحم الكوك ومن الحديد بنسبة 3: 97 في فرن كهربائي فينتج نوع نفي من الجرافيت الصناعي ويتبخر الحديد من أثر الارتفاع الشديد في درجة الحرارة.
3 -
وجاء في ص 15: إذا كانت ذرة ما كذرة الراديوم مثلا تنفث ذريرة (ألفا) التي كتلتها (أي وزنها)4. . . الخ. فاعتبر الكتلة هي الوزن في حين أن الكتلة هي مقدار ما يحويه الجسم من المادة، أما الوزن فهو مقدار جاذبية الأرض للجسم. وبينهما بون شاسع.
4 -
وفي ص 67 كتب: كتلة سرعة=زخما
والصحيح أن الكتلة السرعة=العزم
وفي نفس الصفحة ذكر أن: السرعة هي مدى انقذاف المقدار في الثانية. والصحيح أن سرعة جسم متحرك هي معدل إزاحته في الثانية الواحدة. على هذه الهنات لا تضع من القيمة العلمية والفنية لكتاب هو الأول في بابه صدر عن عالم مختص يقرأه القارئ المثقف واثقا مما يقرأ مطمئنا إلى ما يفهم، وإذا كان المأخذ الجوهري الذي أخذناه عليه هو ارتفاع مستواه عن ذهن القارئ العادي فان معظم القراء أصبحوا اليوم من الثقافة بحيث لا يجدون صعوبة في أدراك الحقائق العلمية مصبوبة في أي قالب؛ فهم يحتاجون إلى الاستزادة أكثر مما يحتاجون إلى الاستفادة. فللأستاذ المؤلف الشكر على ما بذل ويبذل من الجهد العظيم ونشر الثقافة وإفادة النشئ وخدمة الأمة.
كامل محمود حبيب
القصص
الحلم
للكاتب الأيرلندي لورد دتساني
رأيت في المنام أني اقترفت جرما فظيعا رفضوا من جرائه أن يدفنوني في الأرض أو في البحر، بل لم يكن لي مكان حتى في الجحيم. عرفت ذلك وأنا في انتظار مصيري عندما أقبل أصدقائي وقتلوني سرا في احتفال ديني أضاءوا فيه الشموع، ثم حملوني بعيدا عن لندن، رحلوا في دجى الليل وساروا في طرق موحشة بين صفين من الديار الصغيرة حتى وصلوا إلى النهر، وكان في صراع مع مد البحر بين الضفاف الموحلة وفي ظلام الليل الدامس، فعرتهما دهشة فجائية من رؤيتهما أصدقائي وقد انعكست أنوار شموعهم على صفحة الماء. أدركت كل ذلك بينما كانوا يحملون جثتي المتيبسة، فقد كانت روحي لا تزال بين عظامي لأنه لم يكن لها مأوى في السماء.
ونزلوا درجا أخضرا موحلا، فدنوت شيئا فشيئا من الطمي المرعب. وهناك حفروا حفرة قليلة الغور وأرقدوني فيها بين المهملات. ثم ألقوا فجأة بشموعهم في النهر، فانطفأت شعلتها وانسابت تندفع معالمد صغيرة شاحبة. وجعلت أراقب شروع الفجر وأشاهد أصدقائي يتسللون خفية الواحد تلو الأخر وقد توشحوا معاطفهم.
وأقبل الطمي وغطى كل شيء عدا وجهي. ورقدت هناك بين المفقودات والأحجار المتداعية والمهملات وكل ما هو في طي النسيان، وقد تخلصت من احساساتي، لأني كنت ميتا - قتيلا ولم يبقى لروحي التعسة سوى الإدراك والتفكير. وبزغ الفجر فأبصرت الديار المهجورة تزخر بها حافة النهر، وقد أطلت على نوافذها الميتة تحدق في بأعين لا حياة فيها، نوافذ يجثم وراءها الشر وقد خلت من أرواح البشر، وازددت جهدا وأنا أتطلع إلى تلك المهملات فاشعر بالرغبة في البكاء دون أن أبكي لأني في عداد الأموات. ثم عرفت ما لم أكن أعرفه من قبل - أن هذه الديار المهجورة كانت تود أن تبكي مثلي طوال الأعوام التي مرت عليها. ولكنها بكماء لا حياة فيها. وكم كنت أود أن تبكي هذه الأشياء المتراكمة المهجورة فأشعر بالراحة لبكائها، ولكنها كانت أيضا ميتة كفيفة البصر، وكان حالي مثل حالها، فقد حاولت البكاء فلم يتساقط الدمع من عيني. وكنت أعرف أن النهر يستطيع لو
أراد، أن يعتني بنا، ويحنو علينا، ويغني لنا. ولكنه كان يندفع جاريا دون أن يفكر في شئ سوى ما يحمله معه من سفن فاخرة.
وأخيراً فعل المد ما لم يفعله النهر، وأقبل وغطاني، فانتشت روحي بعد أن رقدت تحت الماء الخصر، وخالجها اعتقاد أنها مدفونة في البحر. وما انحسر الماء حتى رجعت إلى الطمي بين المهملات وعدت إلى مشاهدة الديار المهجورة وعادت إلي معرفتي بأننا جميعا أموات. ثم بدا لي نفق حالك وممرات سرية ضيقة تخترق ذلك الحائط الكئيب الواقع خلفي وقد غطته الأعشاب الخضر، فأقبلت منها الجرذان تتسلل لتقرضني، وابتهجت روحي عندئذ، واعتقدت أنها ستغدو حرة، فتخترق نطاق تلك العظام الملعونة التي رفض دفنها. ولكن سرعان ما ولت الجرذان هاربة مبتعدة عني، ثم جعلت تتشاور فيما بينها، ثم لم تعد إلى بعد ذلك. وهنا عرفت أني ملعون حتى بين الجرذان، وحاولت عندئذ البكاء دون جدوى. ثم أقبل المد وعاد يتأرجح حتى غطى الطمي المهول، وأخفى الديار المهجورة، وواسى الأشياء المهملة، وأراح روحي فترة وهي مدفونة في مياهه. وأخيرا هجرني وأبتعد.
وهكذا أصبح المد يقبل ثم يعود سنين عديدة، إلى أن وجدني بعضهم، فانتزعوني من الطمي ودفنوني دفنا لائقا. وما أن رقدت في أول رمس حتى عاد أصدقائي وأخرجوني منه وأعادوني إلى حفرتي في الطمي.
وكم من المرات تجد عظامي مدفنا لها على كر السنين، وفي كل مرة يكمن أحد هؤلاء الرجال المرعبين، حتى إذا ما أتى المساء يقبل فيحفر ثم يخرجني من رمسي ويحملني ويعود بي إلى حفرتي الأولى.
وفي ذات يوم مات رجل من هؤلاء الذين فعلوا بي هذا الفعل المروع. وسمعت روحه تتصاعد فوق النهر عند الغروب. وحينئذ أشرق في روحي الأمل.
ومرت الأسابيع عندما وجدوني مرة أخرى، فأخرجوني من ذلك المكان المتقلقل ودفنوني في أعماق الأرض المقدسة. وعاود روحي الأمل في أن تظل هناك أبدا. ولكن سرعان ما أقبل رجال متشحون بالمعاطف ويحملون الشموع، وأعادوني إلى الطمي، لقد أصبح ذلك الأمر لهم تراثا وتقليدا. وسخرت مني المهملات في قلوبها الصم عند عودتي، فقد كانت
تغار مني لتركي الطمي. وكنت لا أزال أذكر أني لا أستطيع البكاء.
ومرت السنين تجري كما يجري النهر صوب البحر حيث الزوارق ترحل وتعود السفن الهائلة الهائمة يبتلعها الموج، وما زلت راقدا بلا أمل، لأني لا أجرؤ أو آمل دون سبب، نتيجة حسد المهملات المروع وغضبها الشديد.
وفي ذات يوم هبت عاصفة هوجاء، أقبلت جنوبا من بعيد، قادمة من البحر، ثم عرجت على النهر تصاحبها الريح الشرقية العاتية، وتغلبت على الجزر وهي تسير في خطى واسعة فوق الطمي الغافل. وابتهجت المهملات واختلطت بغيرها من الأشياء المبتهجة، وانساقت السفن الفاخرة وهي تطفو من أعماق الماء، وأخذت العاصفة عظامي من مرقدي الموحش، فشعرت بأمل يترعرع في نفسي في أنه لن يعكر على الجزر صفو مرقدي بعد ذلك. وعندما أنحسر المد كانت العاصفة قد ولت تقتفي أثر النهر صوب الجنوب، ثم عادت إلى مقرها بعد أن تعثرت عظامي بين جزر كثيرة على طول السواحل. وكادت روحي أن تتحرر من أغلالها عندما أرتفع المد الدافق تحت ضوء القمر وعبث بما تركه الجزر، ولم عظامي من هذه الجزائر وعاد بها من هذه السواحل، ثم ذهب ينثني صوب الشمال حتى وصل إلى مصب التيمس، وهناك تحول غربا والتقى بالنهر وصعد معه حتى أقبل إلي الحفرة فألقى فيها عظامي. ثم أنحسر المد فشاهدت أعين الديار الميتة، وشعرت بغيرة المهملات التي لم تحملها العاصفة.
ومرت قرون على ذلك التنازع بين المد والجزر، ولا زلت تحت قبضة الطمي بين هذه المهملات الموحشة، وأنا عاجز عن التحرر من أغلاله. واشتقت إلى حنان الأرض الدافئة، وأحضان البحر الخصم.
وكان الناس بعض الأحيان يعثرون على عظامي فيدفنونها. ولما كانت التقاليد لا تزال على حالها من الوجود فقد أصبح خلفاء أصدقائي يقومون دائما بإعادتي إلى الطمي. وأخيرا أنقطع إبحار السفن، وخبا ضوء النهار، ولم يعد يطفو على الماء إلا جذوع الأشجار القديمة وقد اقتلعتها الريح من جذورها. وشعرت مع الزمن بنمو الأعشاب بجواري وأخذت الطحالب تنبت فوق الديار الميتة. جعلت أراقب هذه التطورات سنين عديدة إلى أن تأكدت تماما أن لندن في طريقها إلى الفناء. وحينئذ أشرق الأمل مرة أخرى، مع أني كنت أعرف
أن كل من يجرأ على أن يأمل وسط الطمي يثير عليه غضب المهملات الملقاة علىضفتي النهر. وشيئا فشيئا تداعت الديار المخيفة، ووجدت لها مدفنا لائقا لين الأعشاب والطحالب. ثم تفتحت الأزهار البرية واستطالت النباتات المتسلقة، وأطلت فوق الأكمات. وحينئذ عرفت أن الطبيعة قد انتصرت وأن لندن قد أصبحت أطلالا. وأقبل آخر إنسان إلى الحائط بجوار النهر في معطف رث من تلك المعاطف التي كان يرتديها أصدقائي، وحدق ليرى إذا كنت لا أزال هناك ثم رحل ولم أشاهده بعد ذلك. لقد رحلوا جميعا كما رحلت لندن.
وبعد أيام، أقبلت الطيور الشادية، ونظر بعضها إلى بعض عندما شاهدتني، ثم طارت بعيدا عني وجعلت تتشاور فيما بينها، فقال أحدها (أنه لم يأثم في حقنا، وإنما أثم ضد الإنسانية) فقالت (إذن دعونا نحنو عليه).
ثم حطت بالقرب مني وأخذت تغرد. واستمعت إلى شدو المئات منها عند الشروق، على ضفاف النهر، وفي عنان السماء وخلال الغابات، وتعالى عناءها عندما سطع الضوء، وازدحمت فوق رأسي حتى أصبحت آلافاً مؤلفة، ثم ملايين، فلم أرى أخيرا إلا أجنحة تصطفق تحت قبة السماء وارتفعت روحي من عظامي الراقدة في الحفرة الموحلة، وأنا أستمع إلى هذه الأغاريد المشجية، وأخذت تتعالى في عنان السماء مع الألحان. وبدا لي وكأنما قد شق طريق بين الطيور، ارتفعت فيه روحي وظلت ترتفع حتى دلفت إلى الجنة من أحد أبوابها الصغيرة وقد فتح على مصراعيه في نهاية السماء. وعندئذ عرفت أني قد انتشلت من ذلك الوحل ولن أعود إليه مطلقا، فقد وجدت فجأة أني أستطيع البكاء.
وفي نفس اللحظة فتحت عيني فوجدتني في فراشي بلندن، وسمعت الطيور تغرد فوق شجرة في الخارج تحت أشعة الصباح الخلابة. وكانت عيني منداة بالدموع، فإن إرادة الإنسان أضعف ما تكون أثناء النوم. وهببت من فراشي وفتحت النافذة، وبسطت ذراعي فوق الحديقة الصغيرة، وباركت الطيور التي أنقذني شدوها من حلمي الطويل المخيف المزعج.
محمد فتحي عبد الوهاب