الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 814
- بتاريخ: 07 - 02 - 1949
قروية فيلسوفة
- 2 -
قالت أم عامر - والمعنى لها واللفظ لي -: نشأت كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية. آكل الجشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله، والذي أحلى المر في فمي، وجمل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي، صحة كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة ولم تحتج أبداً إلى دواء؛ ومرانه على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء ولا بين صيف وشتاء؛ ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء، فأنا أشارك أمي في عمل البيت ولا تستثن غير الكانون، وأعاون أبي في شغل الغيط ولا تستثن غير المحراث، وفي الفترات القصيرة القليلة بين عمل وعمل، يجدونني في الحارات أمرح أو في القنوات أصيد. . .
أذكر أني كنت ذات يوم جالسة على حافة الجدول المنساب أتغدى أنا وأختي الصغيرة على خوان من النجيل، رأيت ابنة الباشا مالك الأرض وسيد الناس مقبلة، يقدمها كلبها الذئبي الضخم، ويتبعها خادمها النوبي النحيل، وفي يدها شص تطويه على قصبته وتنشره. وابنة الباشا صبية لا تجاوز العاشرة، فهي في مثل سني، تقيم طول عامها في المدرسة بالقاهرة فلا تلم بالريف إلا أياماً في أوائل الخريف. . . أقبلت حتى وقفت بازائي وحيت ثم ألقت شصها في الماء وجعلت تنظر إليه وتنظر إلي. . . فدعوتها إلى الطعام على عادتنا، فشكرت واعتذرت ثم قالت وهي تبتسم:
أتأكلين الحشيش كالبهائم؟
فقلت لها: ليس هذا حشيشاً، وإنما هو بقلة من أحرار البقول نسميها السريس؛ وأنا آكله ليخفف من ملوحة المش ويكسر من حرارة البصل.
فقالت وهي تمط شفتيها الرقيقتين: ولكن اللحم خير منه فقلت لها: نعم خير منه؛ ولكن موسمه لم يحن بعد، فنظرت إلي نظرة المتعجب المهتم وقالت: موسمه! وهل للحم موسم؟
فأجبتها: نعم إن للحم مواسم خمسة لا نأكله إلا فيها: نصف شعبان، وأول رمضان، والعيد الصغير، والعيد الكبير، وليلة عاشوراء. فقالت: وماذا تأكلون بقية العام؟
فقلت: نأكل الحبوب والبقول واللبن الرائب والجبن الأريش والمش المعتق. . . فبدت على قسماتها الجميلة مخايل الشك في قولي، وهمت تقول شيئاً لولا أن رأت غماز الشص يغطس ويعوم فشغلت به، وجذبت الشص من الماء، فإذا به يعلق بشبارة في حجم كفها الصغيرة، فاستطارها الفرح، وهزها النجاح، وأخرجت الشص من فم السمكة المضطربة وناولتها الخادم، وأرادت أن تطعمه فلم تجد طعماً فسألتني: من أين يأتون بالثعابين الصغيرة؟ فقلت لها وقد فهمت أنها تريد تلك الديدان الطويلة الحمر التي تعيش في الطين: أنا آتيك ببعضها، ثم حفرت بجانب القناة وأخرجت لها من باطن الحفرة قطعة من الطين وأريتها كيف يجول في أحشائها الدود، فابتهجت لذلك ابتهاجاً شديداً. ومن ذلك اليوم وصلني بها سبب من الأنس والعطف، فكانت كلما زارت القرية افتقدتني وطلبتني، فيرسلني إليها أهلي فخورين مسرورين، فألقاها في حديقة القصر، أو ساحة الجرن، فنعدو على مخضوضر النبات، أو نرتجح على فروع الشجر، أو نصطاد على حواف الماء، أو نستبق على ظهور الحمر، أو نتهادى على مماشي الحقول، وقدرتي على كل أولئك فوق قدرتها، وكلمتي أعلى من كلمتها؛ فأنا أشأوها في العدو، وأمهرها في الارتجاح، وأكثرها في الصيد، وأسبقها في الرهان، وأحملها في اجتياز المواحل، وآخذ بيدها في تخطي الحفر، وهي ترى ذلك كله فتعجب وتقول:
كيف تستطيعين ما لا أستطيع وأنت لا تطعمين اللحم، ولا تأكلين الفاكهة، ولا تذوقين الشكولاته؟
فأقول لها: إن الله يعطينا القوة لأنه خلقنا للعمل، ويعطيكم الثروة لأنه خلقكم للإنفاق!
وترعرعت سيدتي (جيهان) وشبت، فانقطعت عن حياة المدرسة واتصلت بحياة القرية، فكنت عندها في منزلة بين الصديقة والخادمة؛ أقضي معها آخر النهار في حديقتها، أو أول الليل في غرفتها، أطرفها بأخبار القرية، وأطربها بأغاني الريف، وأنا أراها كل يوم تفتر وتضعف وتذوي، وهي تراني كل ليلة أنشط وأقوى وأنتعش، فيشتد عجبها، وتزداد حيرتها، وتحاول أن تعرف الأسباب التي جعلتني قوية على الفاقة والحرمان والكد، وجعلتها ضعيفة على الغنى والسرف والرفاهة، فمن هذه المحاولات أنها طلبت مني أن آتيها خفية بوجبة من المش والبصل والسريس وخبز الذرة، ولم يكن في الأرض سريس
يومئذ، فاستبدلت به الجلوين وجئت بما طلبت، وكانت تنتظرني وحدها في كشك الحديقة فلما وضعت بين يديها ما حملت نظرت إليه نظر الهائب، وأقبلت عليه إقبال المضطر، واقتطعت من الرغيف لقمة وغمستها في المش ووضعتها في فمها، فلم تكد تذوقها حتى كرشت من وجهها، وخاوصت من عينيها، كما تفعل الفتاة الساذجة إذا أكرهها الطبيب على جرعة من الكنياك، ثم تحاملت على نفسها فساغت من الطعام بضع لقيمات، ثم تقززت عنه وقالت في اشمئزاز وتكره:
كيف تعيشون على هذا وإن مذاق بعضه لأليم وإن مذاق بعضه لتافه؟
فقلت لها: يا سيدتي، لقد أتيتك بطعامي ولم آتك بشهوتي، ولو أتيتك بشهوتي لاحتجت أيضاً معدتي.
واعتلت صحة الآنسة جيهان من سأم الراحة ومعاناة الترف، فقلبوها بين المصايف والمشاتي، ونقلوها بين الجبال والأبحر، وعرضوها على مصر وطب أوربا، حتى شبا وجهها ونضر عودها، وثاب إليها جسمها، فزوجوها من أحد الباشوات القارونيين فلم تجد عنده أكثر مما وجدت عند أبيها. نعم، وجدت لذتين لم تجدهما من قبل: متعة الزوج وفرحة الولد؛ ولكنهما لذتان شائعتان بين الإنسان والحيوان تجدها كل زوجة تحب وكل والدة تلد. وهاهي ذي قد بلغت الغاية في الثراء الضخم والجاه العريض، أبوها باشا وأخوها باشا وزوجها باشا وأبنها باشا، وكل أولئك لم يعصمها من السكر والروماتيزم والكباد والسمن والرهل والأرق، فلا تأكل إلا أقل الأكل، ولا تنام إلا أيسر النوم، ولا تتحرك إلا أثقل الحركة. وها أنا تي لا أنفك على الحال التي كنت عليها: أبي فقير وزوجي ضرير وابني الأول خفير وابني الثاني أجير. ومع ذلك لا أزال شابة على رغم السنين، قوية على رغم العمل، صحيحة على رغم النصب، سعيدة على رغم الفقر، أدير أسرتي ككل سيدة، وأصيب لذتي ككل حرة، وأرضي قسمتي ككل مسلمة، وما أظن سيدتي جيهان تكره أن أكون أنا في ثروتها وأن تكون هي في صحتي، أليس كذلك يا سيدي؟
فقلت لها وأنا معجب بمنطقها وبيانها: بلى كذلك يا أم عامر! وإن لله في ذلك حكمة، إن صحة الفقراء تعويض من ثروة الأغنياء، وإن السعادة من عند الله يمنحها من يشاء ويمنعها من يشاء!
أحمد حسن الزيات
من آفات هذه المدينة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
نحن اليوم في مدنية عجيبة لم يعرفها تاريخ العالم من قبل. هي مدنية تسيطر عليها الآلات الدائرة والسائرة في البر والبحر والجو، وقد اهتدت هذه المدنية إلى كشف أسرار الطبيعة فطوت المسافات وجمعت أطراف العالم. فاليوم يستمع المستمع في القاهرة - مثلا - إلى متحدث أو مغن في أقصى الأرض، وأمريكا أو أستراليا كما يستمع إلى جليسه. ويكلم من هو في أبعد البلاد كما يكلم القريب منه الذي يبصره ويسمعه.
وكل هذه الأعاجيب من الآلات السائرة والطائرة والجهازات الناقلة الأصوات الملغية المسافات - كل هذه يسخرها الإنسان لمقاصده، ولكنها هي كذلك تسخر الإنسان وتذهب بكثير من سعادته وسلامته وسكونه وراحته. وإن ترك أمرها فوضى عاش الإنسان بها شقياً. لا أتحدث في تسخير هذه الآلات للحرب والقتل وما إليهما؛ ولا اذكر ما لقيه العالم من شرها وضرها وفظاعتها وأهوالها، ولكن أقصد إلى أمر واحد أقصر عليه الحديث وهو أمر يبدو يسيراً، أو يخفي خطره وأثره، وهو عند التفكير عظيم وخطير، أعني راحة الإنسان وسكونه في ضوضاء هذه المدينة التي لا تفرق بين بعيد وقريب، ولا تميز بين نهار وليل. الإنسان في شقاء ظاهر وخفي من هذه المدينة، مسلوب أحب الأمور إليه وألزمها له: الراحة والسكون والدعة والطمأنينة، والحرية في تصريف وقته، والاختيار في ترتيب أعماله على الأوقات.
أحسب أن كثيراً مما يصيب الناس في أجسامهم وأنفسهم من علل، وكثيراً مما يقع في أقوالهم وأفعالهم من زلل، يرجع إلى هذا الداء الدخيل - إلى قلق الإنسان وتعبه واضطرابه في ضوضاء هذه المدنية شاعراً أو غير شاعر.
وقد حدثني أحد الأطباء أن أمراضاً كانت نادرة في العصور الماضية فشت اليوم بين الناس بالجهد الجسماني والنفساني الذي تكلفهم به المعيشة في العصر الحاضر.
والناس في هذا الأمر يختلف حظهم من التعب والنكد على اختلاف نفوسهم وثقافتهم وأعمالهم، فمنهم من ينطلق في هذه الضوضاء صائحاً مصفقاً مسروراً لا يقدر أثرها في نفسه وجنايتها عليه. ومنهم من يسأم ويبرم ويشقى قليلا، ومنهم منهو أكثر نصيباً من
الشقاء وهو رجل الفكر، فهو يشقي بها على قدر احتياجه إلى الهدوء والسكون ليعمل ويفكر ثم يستريح من عناء العمل والفكر.
ولعل شر ما يبتلي به الإنسان في راحته وسكونه هذه المجاهر (الميكرونات) التي تضاعف هذه الضوضاء كأن الإنسان لم يكفه ما يحيط من جلبة وصخب فهو يزيدهما أضعافاً بالمجاهر ليعيش في أفظع من الضوضاء الطبيعية وهو منها في شر مستطير.
وهذه المذيعات المسلطة على خلق الله بالليل والنهار، تحرمهم القرار، وتمنعهم السكون؛ هي إحدى آفات هذه المدينة ومن أضرها بالإنسان - إن لم يحسن الإنسان تدبيرها - هذا المذياع آلة عجيبة خطيرة تسمع كل ما في العالم من أصوات، وتأخذ منها ما شاءت أو ما شاء صاحبها ففي سلطانها كل الأصوات المذاعة في العالم فتمثل إنساناً جاهلاً أحمق يعطي هذه القوة، ويمكن من هذه المعجزة، يستطيع متى شاء أن يسلط على جيرانه ما يشاء من أصوات العالم مجهوراً بها مدوية، وهذه آلة يسيرة وسيزيدها العلم والصنع يسراً ورخصاً فكل عاقل وأحمق وعالم وجاهل وغني وفقير يستطيع أن يسيطر على الناس بهذه الآلة فيحرمهم الدعة والقرار، وينغص مضاجعهم بالليل والنهار، ويصير بلاء مسلطاً لا حيلة فيه ولا مفر منه ولا قدرة عليه.
تمثل إنسان هذا العصر، هذا المخلوق البائس الذي يعيش في المدن - تمثله في النهار يسير في خطر الترامات والسيارات وما إليها، وقد صبت على رأسه أصوات المنبهات والمخدرات والزامرات والصافرات على اختلاف الأصوات والنغمات، فهو يمشي في خطر أن يداس بهذا السيل المستمر من العجلات وبينه إلى هذا الخطر أن نفع التنبيه بهذه المنبهات المفزعة التي تغلو في رفع الصوت لتسمع السابلة وسط هذه الضوضاء الفظيعة وتتنافس في رفع الصوت ليمتاز صوت كل واحدة من الأخرى والإنسان المسكين يخطو مرة ويقف أخرى وينظر أمامه حيناً وحيناً وراءه وعن يمينه وشماله.
إن هذا البلاء عظيم يحتمله الناس بما اعتادوه وألفوه، وبما استكانوا له واستسلموا وصبروا عليه يأساً من الابتعاد عنه والخروج منه.
وهذا الإنسان البائس يرجع إلى داره مكدوداً - ولا أقول يرجع إلى مسكنه فليس هنا سكون - والدور في المدن متزاحمة متلاصقة ذات طبقات كثيرة فيسلط عليه تاجر من أهل الحي
مثلاً مجهراً يعلن به عن بضاعته.
وأشهد لقد سمعت أكثر من مرة إعلان تاجر عن سلعه بمجهر، يسخر قارئاً يقرأ القرآن حيناً، ثم منادياً ينادي في الناس بما عنده من جبن وزبد وزيتون وغيرها.
وقد سألت أين هذا البلاء المبين فقيل بعيد جداً، فقلت هذا ما يصيب البعيدين منه فكيف بالقريبين! تساءلت أليس في البلد قانون؟ أليس لقوانينها سلطان؟ ألا يشعر الناس بما هم فيه من شقاء؟ ألا يعربون عن شعورهم؟ ألا يثورون على هذا العذاب المسلط ويعملوا على الخلاص منه؟
وقد أدخل التجار من حيث لا يشعر الناس بدعة هذه المجاهر في الحفلات ولا سيما في المآتم فترى جمعاً في سرادق يسمعه ويتعداه صوت متكلم أو مطرب؛ ولكن البدعة التي استحكمت سريعاً باتخاذ المجهر فيسلط هذا البلاء على الداني والقاصي من خلق الله، وربما يستعمر ساعات متوالية فلا يستطيع الإنسان أن يستريح أو ينام أو يقرأ أو يكتب، فأي شر أكبر من هذا؟
وقد سمعت مرة صوتاً فظيعاً يسمع على بعد أميال فنظرت فإذا جماعة قد وسمعتهم حجرة واحدة وقد وضعوا مجهراً خارج الحجرة وأرادوا أن يتصدقوا على الناس بإشراكهم فيما يسمعون، والصدقة خير ما كان أعم وأشمل فليرفع هذا المجهر ما وسعه الجهر والتبليغ، وأما من يضيق بهذا الصوت فلا وزن له عند الله ولا عند الناس؛ إن ضاق بصوت القرآن فلا دين له، وإن ضاق بالغناء فلا شعور له.
وسمعت مرة صوتاً عالياً مدوياً في شارع من شوارع القاهرة التجارية المزدحمة وفهمت مما سمعت حفلة لعيد ميلاد طفلة، والخطباء يتبارون في التهنئة وعرفت أن أبا الطفلة لم يولد منذ سنين. ولهذا كان الاحتفال وتبارى الخطباء. هذا يسمعه السابلة في شارع من الشوارع المكتظة التي لها من ضوضائها ما يغنيها عن كل ضوضاء.
ثم تمثل هذا الرجل المكدود الذي تتناوبه أصوات السابلة في الطريق يأوي إلى داره يلتمس الراحة ليلاً - ودع راحة النهار - فإذا جيرانه قد فرغوا من أعمالهم ومن طعامهم وجلسوا إلى المذياع وتنافسوا في الجهر بما يذاع، إما رغبة في الصوت الرفيع، وأما إعجاباً بالغناء أو القصة، وإما تصدقا على الجيران المحرومين من هذه النعمة، فيرسلون أصواتاً تسمع
على أميال وقد يكون المستمع واحداً أو أثنين أو فئة قليلة، ومحطة الإذاعة أصلحها الله تعين هؤلاء السفهاء على إقلاق الناس وإزعاجهم وتكدير صفوهم وتنغيص عيشهم، والحيلولة بينهم وبين ما يريدون من استراحة أو عمل بما تمد هؤلاء السفهاء به من أغان وأقوال يرغب فيها الجهلة ويرغب فيها العلماء ويحبها السفهاء ويكرهها الحكماء. ثم تمد لهم الإذاعة في صحبتهم بإذاعة حفلة غناء تدوم ساعات أو نقل قصة تمثيل إلى ما بعد منتصف الليل بساعة أو أكثر أي إلى ما قبل الفجر بساعتين في الصيف.
ولو أن القائمين على الإذاعة فكروا فيما يصيب الناس من هذه الإذاعة لأقلوا منها وجعلوا لها حداً لا تتجاوزه.
ما حاجة الناس إلى إذاعات بعد منتصف الليل؟ بل ما حاجتهم إلى إذاعة بعد العاشرة؟ ألا يفكر القوام على الإذاعة في سوء تصرف الناس بهذه الآلات التي صار أكثر من نفعها، وألمها يربو على لذتها؟ ينبغي أن تعرف أخلاق جمهورنا وعاداتهم حين توضع برامج الإذاعة.
ثم لماذا لا يستعمل الإذاعة في تعليم الناس حسن الاستعمال وحسن الاستماع؟ لماذا لا يذاع على الناس كل أسبوع تحذير من الجهر بالإذاعة وإيذاء الناس بها، ويعرف الناس بالترغيب والترهيب ما يجب عليهم لينتفعوا بما يسمعون أو يلهوا بما يذاع عليهم في غير إخلال براحة الناس، ولا جناية على من لا يريد أن يستمع ومن أحوج إلى إمضاء وقته بالتفكير والعمل أو الراحة.
ثم أين قوانين الحكومات لتحمي الناس من هذا الشر الذي يزداد كل يوم ذيوعاً وإيذاء وإضراراً، أين وزارة الشئون الاجتماعية لتفكر في هذا الأمر وتروي فيه وتصف له دواؤه بالنصيحة أو بالعقاب.
إن الأمر خطير كل الخطورة، وأثره في معيشتنا وفي أحوالنا النفسية بعيد، فليتعاون الناس على درء هذا الشر الذي لا يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم. . .
عبد الوهاب عزام
قصة
قصتي يا قوم قصة=صارت الظبية لصة!
للأستاذ نقولا الحداد
تزود السيد ف. م بمائة ألف جنيه دولارات وأستر لينات وليرات إيطالية الخ، ومضى إلى معامل سكودا في تشكوسلوفاكيا فابتاع من أدوات التدمير والهلاك ما ثمنه 75 ألف جنيه، وأخذ فاتورة بمائة ألف!
ثم شحن البضاعة في باخرة تمخر نهر الدانوب، وكان على الباخرة أن تقف في تريستا وأنتظر هناك ثلاثة أيام دون أن تصل الباخرة، فلما أستخبر عنها مكتب وكالة الباخرة علم أنها أصيبت بقنبلة من ناحية مجهولة فاخترقتها وتعطلت ولم يستطيع إلا أن تجنح بميناء تريستا. وقد دخلها الماء وابتلعت البضائع فجعل السيد ف. م يستخرج بضاعته الجهنمية من الباخرة ويجففها ويهيئ ما لم يتلف منها للشحن. وبقي هناك أيام مشغولاً بهذا العمل المضني.
وفي ذات يوم بينما كان يتغدى في مطعم فاخر زاخر بالآكلين إذ وقفت أمامه حسناء والتمست منه أن يإذن لها بالجلوس إلى مائدة خالية تجلس إليها. فرحب بها. وولم تنته فترة الغداء حتى صار معرفتين، ثم صارا صديقين. والتقيا مساء في حالة زاهرة باهرة زاخرة بالحضار والراقصين والراقصات. ولم يخرجا من الملهى إلا عاشقين متعانقين.
وقد علم صاحبنا من حسنائه أنها تسمى راحاب رحماني من بيروت وأنها جاءت مع أخيها إلى تريستا في طريقهما إلى ميلانو لعمل تجاري وأنه تركها هناك مؤقتاً فإذا وفق في المهمة التي جاء لها استدعاها وإلا عاد خائباً، وهي في انتظاره أو انتظار خبر منه.
وقبل أن ينتهي صاحبنا من تهيئة بضاعته للشحن توسطت حسناؤه بينه وبين شار لها بثمن مغر. فرفض أن يبيع. ولما كانت مسمسرة في هذه الصفقة وكانت تود أن تتم، بذلت جهدها في إقناعه أن يبيع وأن يعود إلى سكودا فيشتري غيرها. فتردد، وطلب ثمناً أعلى، فلم تتم الصفقة.
ولما رأت الحسناء أنها لن تنجح في هذه السمسرة أشارت عليه أن يشحن بضاعته في باخرة يونانية صغيرة راسية في تريستا، وهي مبحرة إلى بيروت حيث يريد أن يفرغ
شحنته فرضي، لأن الأجرة كانت رخيصة. وشحن البضاعة إلى بيروت.
وأخبرته الفتاة بعد ذلك أن أخاها كتب إليها ألا تنتظره، لأنه لم يوفق في مهمته، وأوعز إليها أن تتبعه إلى بيروت. واتفق الحبيبان على أن يسافرا بالطائرة معاً إلى عاصمة لبنان، وهناك ينتظر الباخرة التي تحمل بضاعته الجهنمية.
ولما حان موعد قيام الطائرة كان صاحبنا ينتظر حسناءه في المطار، وإذا هي قادمة تهرول تقول له إنها آسفة أن لا تركب الطائرة لأن جواز سفرها مع أخيها وقد تلفنت له أن يعود إلى تريستا لكي تسافر معه في طائرة أخرى. ووعدت صاحبنا أنه ستلقاه في بيروت وتبادلا العنوانين. وركب الطائرة آسفاً لهذه الخيبة آملاً أن يعوض عنها في بيروت.
وبقي السيد ف. م في بيروت يترقب قدوم الباخرة التي تحمل فوزه بالسلاح المرجو المنتظر بفارغ الصبر وغنم منه عمولة مقداره 25 في المائة. ومضت ثلاثة أيام وهو يسأل عن هذه الباخرة في وكالات البواخر فما وقف على خبر عنها ولا أثر لها.
وما لبث أن علم من أحد معارفه أن محطة الإذاعة في (عزرائيل) تذيع خبراً غريباً كل ساعتين، فأصغى في الميعاد فإذا صوت رخيم يقول: إن دولة عزرائيل تتشكر لحكومة بردي هدية السلاح الفاخرة التي أهدتها إياها؛ وستكافئها عليها خير مكافأة. وراحاب ترجو من صديقها أن يعذرها لأنها لن تتمكن من لقائه في بيروت، وتشكره له ألف شكر إهداءه إياها تذكرة الطائرة من تريستا إلى بيروت وتحسبها من قيمة السمسرة التي كانت تتوقعها من لو تمت صفقة بيع الأسلحة ثم تهنئه بسلامته لأنه لو صحب البضاعة في الباخرة المظنونة يونانية، لغرق هو في البحر وسلمت البضاعة. لذلك أسدت النصح إليه أن يعود إلى بيروت بالطائرة لأن راية عزرائيل التي كانت تخفق فوق الباخرة لم تكن لتحميه!
وهكذا عاد صاحبنا إلى حكومته بالخيبة، ورضي من الغنيمة بالأوبة، والذنب على الحب الذي يرد البصير أعمى والحكيم أحمق، فيضحي بخدمة الأوطان، في سبيل خدمة الأوطان، في سبيل خدمة الحسان!
نقولا الحداد
2ش البورصة الجديدة بالقاهرة
عقوق.
. .
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا بني، أي شيطان ثار في دمك وسيطر على رأيك فأعمى بصيرتك وأطاش عقلك وأصم أذنيك، فذهبت تولي أباك العقوق والجحود والنكران بعد البر والطاعة والشكر. لقد كان حديث أبيك - وهو يقص قصتك - يتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى!
إني لا أخالك تذكر يوم ماتت عنك أمك طفلاً تدرج في فناء الدار، وإن الأبدي لتتلقفك في شفقة حيناً وفي شماتة حيناً والأبصار تحوم حواليك ساعة ثم تنصرف، إلا بصراً واحداً ما يبرح يتعلق بك، هو بصر أبيك، وإن العبرات المصطنعة لتتدفق باردة هينة فيها الكذب والخداع، إلا عبرات إنسان واحد كانت تنكف ساعة وتنهمر ساعات، وهي في الحالين تتضرم وتتوقد لأنها عبرات القلب، تلك هي عبرات أبيك! وإن الأذرع لتنفرج لتضمك في فتور وتراخ، ثم تلقى بك جانباً في غير اكتراث، إلا ذراعين تودان لو استطاعتا بضمة واحدة أن تدفعا بك إلى داخل القلب، هما ذراعا أبيك! وإن الألسن لتتحدث حديثاً طويلاً فيه الثرثرة واللغو، إلا لساناً واحداً لم ينطق بكلمة واحدة لأن حديث قلبه كان يشغله، ذلك هو لسان أبيك!
وكان أبوك - إذ ذاك - فتى في ريق الشباب وعنفوان الصبا لا يستطيع أن يكبت نوازع جسمه، ولا أن يكتم ثورة دمه، وهو أراد التوي عليه الأمر وتعسر، وما به فاحشة ولا فجور وتنازعه أمران: أفيتزوج فيلقي بك في قفر ويضيعك في تيه، أم يقتل شيطانه بين جنبيه وما بذلك طاقة؟ وأصطرع الرأيان في رأسه سنوات حتى بلغت سن المدرسة، فأرسلت إلى المدينة وتزوج هو.
ولم تصرفه الزوجة عنك ولا شغله الأولاد فأحاطك برعايته وعنايته، ورأت زوجة أبيك شدة حدبه عليك، فأمسكت عن أن تتناولك بحديث إلا لماماً خشية أن تجد منه الجفوة والغلطة، وهو صعب المراس وعر المرتقى. فما استشعرت - في يوم ما - فقد أمك ولا افتقدت حنانها.
وعشت عمر المدرسة والجامعة بين أخوتك في الذؤابة لا تجد مس الغربة وأنت في دار أبيك، ولا تحس الوحدة وأنت بين أخوتك، وأبوك يحبوك بعطف الأب وحنان الأم، ويجد
اللذة والسعادة في أن يراك قرير العين هادئ البال. وتخرجت في الجامعة، والجامعة تعلم الحذر والحيطة، وتسمو بالعقل ليكون قيداً يغل اليدين والرجلين، وترتفع بالفكر ليكون سداً بين الشباب والحياة، فهي تلفظ الشاب من بين جدرانها لتذره يضرب - على غير هدى - في بيداء مطموسة المعالم، إلا أن يجد إلى باب الوظيفة.
تخرجت أنت في الجامعة، وجلست على حيد الطريق تنتظر أن ينفتح أمامك الباب السحري - باب الوظيفة - وقد عز عليك أن تجد مفتاحه. وأبوك من ورائك يعينك على أمرك برأيه وجهده، ويخفف عنك صدمة التعطل بكلمات فيها الرحمة والعقل.
وطال بك الانتظار وأنت ملتصق بباب الوزير مرة وبباب المدير مرة، ولج بك الشوق إلى الوظيفة فبذلت من ماء وجهك ونزلت عن حياتك وتغاضيت عن كبريائك، ثم بدا عليك الوجوم والضيق من أثر اليأس، ونسيت أن الوهن والضعف قد تسربا إلى العمل الحكومي في غير هوادة ولا لين، وأن الأمر الهين ليقف بين الموظف الحكومي وقرطاسه وقفة ينطوي دونها العمر. والموظف لا يجد إلى العمل دافعاً من نفسه ولا من رئيسه، والرئيس لا يعنيه من العمل إلا أن يحس بالعزة في مكتبه وبالكبرياء في ديوانه، وهو يتلذذ حين يتعبد مرءوسيه في غير سبب، ثم تضيع حاجات الناس بين إهمال الموظف وغطرسة الرئيس
ومضت الأيام وطلبك نائم، فهو لن يتحرك إلا بيد الوسيط، والوسيط أحد الرجلين: رجل يتغفلك ليسلبك من مالك ثم يطير عنك إلى غير رجعة؛ ورجل يساومك ليتقاضى ثمن الوظيفة على دفعتين. . . وكلاهما كاذب محتال!
وعيل صبرك فوقعت على أحد الرجلين يخدعك عن وقتك ومالك فاندفعت إلى أبيك تطلب زيادة من المال في لغة الرجاء والاستجداء، ثم في أسلوب الإصرار والعناد، على حين لم تكشف له عن حقيقة الأمر. وعجب أبوك أن تزيد حاجتك إلى المال زيادة تبعث الشك وتوقظ الريبة، وهو رجل ذو دين وورع، يوقن بأن الإسراف مرض لا يصيب إلا رجلين: رجلاً به لوثة، فهو يطمع أن تكون كل حاجات الأرض ملكاً له، فهو يشتري هذا وذاك ليشبع بهم نفسه فحسب؛ ورجلاً به خلل أخلاقي، فهو يبعثر ماله بين الخمر والنساء، وخشي أن تكون قد ترديت في الهاوية، فأرسل إليك يقول: (إنني أحس منك إسرافاً جاوز
القصد، وإفراطاً تعدى الحد، فإما اعتدلت من تلقاء نفسك، وإما قومتك بطريقة لا ترضيك).
وأخذتك العزة بالإثم أن جاءك كتاب من أبيك يتهمك بأمر، وخشيت أن يقبض يده فيبدو عجزك أمام الوسيط المحتال وله عندك حاجات ما تنتهي؛ فما تنفس الصبح حتى كنت قد أرسلت إلى أبيك خطاباً تقول فيه:(أبي، آلان، وقد بلغت مبلغ الرجال، أرجو أن تحدد لي ميراثي من أمي تحديداً لا يدع مجالاً للشك، وأن تنزل لي عنه أشرف عليه بنفسي وأستغله لصالحي. وأظنك لن تجد في ذلك غضاضة على نفسك، فهذا الميراث بين يديك منذ نيف وعشرين سنة، أنال منك فضلة لا تشفي غلة ولا تنفع صدى على حين أن غيري يرتع فيه كيف يشاء، ينعم بغلاته، ويتقلب في نعمائه. وهذا ظلم لن أقيم عليه بعد اليوم. . . لهذا فأنا في انتظار يوم قريب تسميه لي لأستلم أرضي كلها. . .)
لا ريب - يا بني - فلقد كانت كلماتك جافة قاسية أصابت هدفاً من قلب أبيك، فأحس بالأسى ينسرب إلى نفسه أن رأى أبنه الأكبر يغلظ له في الحديث، ويسف في العبارة، ويجازي النعمة بالكفران، ويقابل الإحسان بالعقوق!
لقد كانت كلماتك تتلضى لهيباً يكوي قلب أبيك ويفري كبده، وشعر - والحزن يوشك أن يقتله - أنه يريد أن يفضي بذات قلبه إلى رجل من خلصائه، وخشى - بادئ ذي بدء - أن يتحدث بأمر خطابك إلى واحد من الناس فتكون أنت عاره إلى الأبد، فعزم على أن يطوي عن الناس خلجات قلبه، ولكنه ناء بأن يحمل العبء وحده بعد أن رزح تحته أيام، فجلس إلى أخيه - عمك أنت ينشر خطابك وفي عينيه عبرات، وفي قلبه هم!
وانزعج عمك لما قرأ، وشمله الوجوم والبث، فما تلبث حتى كان إلى جانبك يستوضح الأمر!
وضل عقلك الفج، وانحط منطقك الوضيع، فخيل إليك أن عمك جاءك يستجدي مالك وتراءت الحياة أمامك أعداداً من الجنيه والعشرة والمائة، فأخذت تدفع حجج عمك وبراهينه في ضلال وقحة وأنت تقول: (أما أبي فأنا لا أنكر فضله فهو قد دفعني عن القرية صغيراً لألمس لذع الغربة، ومرارة الوحدة، وقسوة الحياة، وقذف بي بين ناب الخادم، وظفر صاحب الدار التي أسكنها، ثم هو يرسل إلي الطعام والمال، فلا أجد ريح الطعام، ولا ألمس لذة المال، فعشت ضائعاً جائعاً، والخادم وصاحب الدار يستمتعان معاً بالمال والطعام، وأبي
لا يراني إلا مرتين في السنة. ولي أنفة لا تسمح لي بأن أشكو. . وهكذا قضيت طفولتي - وهي أسعد أيام العمر - منطوياً على نفسي في ذله وانكسار، أدفن همي - رغم أنفي - في كتاب خشية أن يشي بي الخادم لأبي فيذيقني وبال أمري، وله عصا تفري الجلد وتحطم العظم. . . وساقتني الظروف إلى المدرسة وأرغمتني على أن أفرغ إلى الدرس، ووجد أبي اللذة والراحة في أن أعيش بعيداً عن أهلي وداري وأترابي. . . وأغلقت قلبي على حسرات، ومرت السنون. . . والآن، أراه يريد أن يسلبني مالي، فإن كانت هذه هي الأبوة، فما علي من بأس إن أنا قطعت هذه الوشيجة، أو صرمت هذه الصلة. . .)
وأراد عمك أن ينزع عنك الأفكار السود بمنطقه القروي، فترفع منطق المدينة وعقل الجامعة عن أن يلقيا السمع إلى حديث القلب النابض من أعماق القرية، فانطلق عمك من لدنك في شجوه وشجونه ينفض جملة حديثك أمام أبيك!
ليت عمك أطلع على الغيب فرأي بعيني بصيرته ما تخبئه الأقدار إذن لكتم هذا الحديث عن أبيك!
وسمع أبوك الحديث كله في صمت ثم أنتفض انتفاضة الجزع والخيبة، فأصابته إغماده شديدة، فما انجابت عنه الغمرة إلا ليجد نفسه مصاباً بالشلل! وذهبت أعوده، فقص لي قصتك. . . وإن حديثه ليتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى على أن فقدك أنت. . . أيها العاق!
الآن أصبحت موظفاً حكومياً، وبين يديك أرضك تستغلها كيف شئت، فهل وجدت السعادة والطمأنينة؟
لقد مات أبوك من أثر صدمة العقوق، فقل لي بماذا كانت تحدثك نفسك وأنت تسير على رأس جنازته لأنك ابنه الأكبر؟ هل ذاب قلبك حسرة حين أفزعتك لذعات الندم؟
واهاً لك يا من يركبك الغرور والشيطان، فيخيل إليك أنك شيء، فتأمن سخط أبيك وغضب إلهك ونقمة السماء. . . وما هي كلها عنك ببعيدة!
كامل محمود حبيب
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
كون المعز لتثبيت عرشه جيشاً لجباً كان أكثره من قبيلة كتامة التي ساعدت الأسرة المالكة وأخلصت لها في بلاد المغرب، وعلى يديها تم فتح مصر، ولكن جيش الفاطمية لم يحتفظ بوحدة عنصره خوفاً من استبداد هذا العنصر فكون خلفاؤهم فرقاً أخرى من الديلم والأتراك حتى إذا كان عهد المستنصر استكثرت أمه من السودان. حتى بلغوا نحو خمسين ألفاً، وأستكثر هو من الأتراك فلما جاء بدر الجمالي من عكا أقام له جنداً من الأرمن أبناء جنسه، وصاروا معظمهم الجيش، وشبت الحروب الصليبية، والجيش في مصر مكون من هذه العناصر المختلفة، إليها عنصر البدو من بلاد الحجاز، ويظهر أن الفاطميين لم يكونوا من أبناء مصر فرقاً في جيشهم، فلم يرد ذكر لفرقة مصرية في كتب التاريخ، ولم يحدثنا عنها ناصري خسرو الذي وصف الجند في عهد المستنصر؛ وإنما اعتمدوا على هذا المزيج الأجنبي مما يسر لصلاح الدين قلب دولتهم من غير أن ينهض المصريون للدفاع عنها.
كان الجيش في مصر مكوناً من هذه العناصر المختلفة التي ظلت تغذيه في المدة الباقية من الحكم الفاطمي وسميت فرقه بأسماء مختلفة تدل على موطنها حيناً كطائفة البرقية الذين قدموا من برقة أو على من كونها حيناً آخر من خليفة أو وزير كطائفة الحافظية والآمرية والجيوشية والأفضلية، نسبة إلى الخليفة الحافظ والخليفة الآمر وأمير الجيوش بدر الجمالي وابنه الأفضل، أو على جنسها كالفرقة الرومية والسودانية، أو قبيلتها كفرقة المضامرة المكونة من إحدى قبائل البربر، أو زعيمها كطائفة الميمونية نسبة إلى ميمون.
لم تذب هذه العناصر بعضها في بعض لتكوين وحدة متسقة، ولكن احتفظ كل عنصر بشخصيته، وسكنت كل طائفة في حارة خاصة بها ولم تكن الصلة بين هذه الطوائف صلة حب ووئام دائماً وإنما كانت المنافسة هي المظهر السائد بينها. وكثيراً ما أدت المنافسة إلى
الاشتباك في حرب بين هؤلاء المتنافسين، كتلك الحرب التي شبت بين الأتراك والسودان في عهد المستنصر والتي لم تهدأ إلا بعد أن جلبت الخراب على مصر. وقد يثير الطامعون في الحكم الفتن بين هذه الفرق ليستنصروا ببعضها على بعض، فتندلع نيران الحرب بين الفريقين كما فعل الأمير حسن ابن الحافظ لدين الله الذي كان يبغي أن يكون ولي العهد يدل أخيه حيدرة، فإنه أثار الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية، والتقى الفريقان في معركة قتل فيها ما يزيد على خمسة آلاف نفس؛ وكانت الوقعة هذه أول مصائب الدولة الفاطمية وكما حدث في الحروب التي قامت بين شاور وضرغام.
هذا المزيج إنما يصلح لدفاع الصليبين إذا وجد القائد القوي المدرب، أما وقد ضعف الخلفاء، وأصبح هم وزرائهم الأول الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم، فقد أبقى الوزراء الجيوش الموالية لهم في مصر لتوطيد شوكتهم في البلاد، فلم يكن موقف الجيش المصري من الحروب الصليبية الأولى ناشئاً من قلة كما سنرى وقد حاول الأفضل بن أمير الجيوش أن يستعين بالمغاربة على حرب الصليبين ولكن لم ينجح.
وكان الجيش بالشام في تلك الفترة من الزمن بالإمارات المختلفة مكوناً من العرب ولا سيما البدو، ومن الترك.
والظاهر أن أقوى الفرق بمصر عندما جاء إليها صلاح الدين كانت الفرقة السودانية التي أعتز بها السودانيون، فنزحوا إلى مصر، وصار لهم بها شوكة وقوة، وكونوا لهم في كل قرية ومحلة وضيعة مكاناً مفرداً لا يدخله وال ولا غيره احتراماً لهم، ويبدو أنه عز على الطائفة أن ترى صلاح الدين وجيشه الجديد يغتصب مالها من القوة والنفوذ، فدبر زعماؤها المكائد له، ولكنه بادر بقتل زعيمهم، ومهاجمتهم في حيهم، فهزمهم وخرب حارتهم المنصورية وتتبعهم في بلاد الصعيد حتى أفناهم.
كون صلاح الدين جيشاً معظمه من الأكراد. قال ابن إياس: (لما ملك صلاح الدين أزال ما كان بمصر من العناصر الملفقة وكانوا بين صقالبة وكدانة ومصامدة وأرمن وثنائرة العرب والعبيد السود، فمحا تلك الطوائف جميعها، واتخذ بمصر عساكر من الأكراد خاصة، فكان عدتهم أثنى عشر ألف فارس من شجعان الرجال الذين لا يكلون من الحروب، ولكن يظهر أن الجيش في عهد صلاح الدين أيضاً لم يكن موحد العنصر من الأكراد بل كان فيه ترك
وعرب، وربما كان صلاح الدين قد فسح المجال للمصريين فالتحقوا بسلك الجندية وكونوا فرقاً، بل يظهر أن صلاح الدين لم يسرحوا جيش الفاطميين تسريحاً تاماً، بل أبقوا على بعض فرقه، ففي عهد العزيز بن صلاح الدين يسجل التاريخ قتالاً دار بين الطائفة المحمودية واليانسية، وهما من فرق الجيش الفاطمي.
وحافظ خلفاء صلاح الدين على تكوين جيوشهم من الأكراد والترك والعرب، وقسمت الجيوش فرقاً نسبت كل واحدة منها إلى أحد القواد العظام كالفرقة الأسدية نسبة إلى أسد الدين شبركوه، والصلاحية نسبة إلى صلاح الدين، الأشرفية نسبة إلى الأشرف موسى.
وكما لم تذب العناصر بعضها في بعض أيام الفاطميين لم تذب كذلك في عهد الأيوبيين، وكان النزاع يحدث أيضاً بين هذه العناصر والفرق، أو ينحاز بعضها إلى زعيم وينحاز بعضها الآخر إلى زعيم غيره كما حدث ذلك في أيام العزيز، وفي عهد العادل الثاني، غير أن القيادة القوية في عهد الأيوبيين لا تلبث أن تعيد النظام إلى نصابه، وتقبض بيدها القوية على الزمام، فيعود السلام ويسود النظام.
وظل العنصر الكردي هو الغالب على الجيش طوال عهد الدولة الأيوبية حتى عهد الصالح أيوب الذي أستكثر من شراء المماليك، وكان معظمهم من الأتراك، وسبب استكثاره منهم أنه لمس إخلاصهم ووفاءهم له في الشدة التي ألمت به في حرب لأخيه العادل، فإنه عندما أعتقل بالكرك، انفض من حوله جنده من الأكراد، ولم يبق معه سوى مماليكه الذين اشتراهم، فعندما استولى على عرش مصر حفظ لهم ذلك الجميل، واستكثر منهم حتى صار منهم معظم الجيش، وارتفع عددهم في معركة المنصورة إلى عشرة آلاف وظل المماليك حفظة أوفياء للصالح وذكراه ومنذ ذلك الحين إلى أن انتهت الحروب الصليبية والعنصر الغالب في الجيش النظامي الدائم هو عنصر الأتراك المماليك وإن كان في الجيش أكراد وعرب، أما عندما هوجمت مصر وبدا خطر استيلاء الفرنج عليها في عصر الكامل والصالح فقد هب المصريون للدفاع عنها، واجتمع عنها واجتمع منهم عدد ضخم ساهم مساهمة فعلية في الذود عن حياض الوطن، وفي الحملات الحربية التي شنتها في جنوب الوادي أو ضد المغول أو الفرنج في عصر المماليك لم تتكون جيوشها من المماليك وحدهم، بل شاركهم في ذلك المصريون والسوريون والبدو من العرب، وكان عددهم يزيد على عدد
المماليك ومن ذلك يبدو لنا أن المصريين والعرب قد ساهموا - ولا مريه في ذلك - بنصيب كبير في الحرب ضد الصليبيين والمغول في عصر الأيوبيين والمماليك فإن هذه الأرقام الضخمة التي يحفظها التاريخ للجيش الإسلامي المهاجم أو المدافع لا يمكن أن تفهم إلا على أساس اشتراك المصريين والعرب في هذا الجيش الذي يجب أن نميز فيه بين جيش نظامي ثابت قد يكون للعرب والمصريين فيه نصيب متواضع، وبين جيش قائم بحملة حربية، يساهم فيه هؤلاء بالنصيب الأوفى.
كان الجيش في العصر الفاطمي مقسماً إلى درجات ثلاث رئيسية: أولاها طبيعية الأمراء وأعلاهم ذو الأطواق الذهبية، ثم حملة السيوف الذين يحرسون الخليفة في موكبه، ثم القواد العاديين. وثانيها رجال الحرس، وأرقاهم الأستاذون الذين يوكل إليهم مهام الأمن، ثم شباب الحرس وهم نخبة ممتازة من شباب الأسر عدتهم خمسمائة، ثم فرق ثكنات الخليفة ويبلغون زهاء خمسة آلاف وثالثهما فرق الجيش كل فرقة تحمل أسماً خاصاً بها كما ذكرنا.
وتكون الجند زمن الأيوبيين والمماليك من طبقتين: هما المماليك السلطانية وأجناد الحلقة. أما المماليك السلطانية فكانوا أعظم الأجناد شأناً وأرفعهم قدراً وأشدهم إلى السلطان قرباً وأوفرهم إقطاعاً ومنهم تؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة.
وأما أجناد الحلقة فهم عدد جم وخلق كثير، ولكل أربعين نفساً منهم مقدم ليس عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر في الحرب، فإن مواقفهم معه، وترتيبهم في مواقفهم إليه
ومن الأجناد طائفة ثالثة يقال لهم البحرية يبيتون بالقلعة وحول دهاليز السلطان في السفر كالحرس، وأول من رتبهم وسماهم بهذا الاسم الملك الصالح نجم الدين أيوب. وللجيش هيئة أركان حرب كان السلاطين يعتدونها لرسم الخطط وإعداد العدة ولم يكن للسلطان بد من أن يعني برأيهم ويعمل به، وكثيراً ما كان يخبرهم أنه كأحدهم يكفيه فرس واحد وجميع ما عنده لمن يجاهد في سبيل الله.
وكان الجيش مقسماً خمسة أقسام: مقدمة، وتكون أمامه لتبدأ المناوشات وتتعرف الطرق وترتاد المواضع وهي غالباً من الفرسان؛ وقلب وسط الجيش وفيه يتخذ القائد العام مركزه غالباً حتى يراه جميع الجند لتنفيذ أوامره، أو في المقدمة ليثير حماسة الجند ويلقى الفزع في نفوس أعدائه وفي عريش له على ربوة يشرف منها على جيشه. أما الكتيبة الثالثة
فتوضع يمنة وتسمى الميمنة، كما توضع الرابعة على يسارها وتسمى الميسرة، ويطلق عليهما الجناحان، وتوضع الكتيبة الخامسة في الخلف وتسمى ساقه الجيش. وكان لكل فرقة من هذه الفرق الخمس أمير يأتمر بأمر القائد يقال له صاحب الميمنة أو الميسرة وهكذا.
ويتكون الجيش من المشاة والخيالة ومن أجل هذا عظمت العناية بأمر الخيل.
يتبع
أحمد أحمد بدوي
طرائف عباسية
نخلتا حلوان. . .
للشيخ محمد رجب البيومي
للشعراء إلهام خفي يعرج بهم إلى ملكوت رفيع، فهم يرون الكائنات الماثلة في صور غريبة متخيلة، وقد يقف الشاعر أمام رسم ماحل فيحاوره ويجادله ويجعل منه إنساناً يفصح عن شكاته، ويبين عن طواياه. وإذا كنا نحمد الكاتب الذي يصور مشاعره تصويراً صادقاً فيعرض لقارئه ما يختلج في صدره من إحساس في أسلوب مرسل طليق، فنحن بلا شك نعجب بالشاعر الذي يتصور عواطف غيره فيفصح عنها إفصاحاً مشرقاً، وقد يدق تصوره فيتغلغل فيما حوله تغلغلاً عميقاً، فإذا مر بقصر سامق، أو شاهد دوحة باسقة، منحهما جانباً من الإحساس البشري الدافق، ثم يعبر عما يتخيله من شعورهما المزعوم فيجمع إلى خفة الشعر غرابة المنحي وطرافة التفكير.
والحقيقة أن الشاعر يخلع إحساسه - في أكثر مواقفه - على ما حوله، فإذا كان مبتهج النفس، منبسط الأسارير، تصور ما أمامه من نبات أو حيوان كذلك، فرسمه في صورة مرحة سارة، أما إذا كان ملتاع الفؤاد منقبض الصدر، فإنه يتحدث عن شعور غيره في تبرم وأنفعال، وقد تهتف حمامة على فتن ناضر فيسمعها شاعر حزين فجعه البين في أحبائه، فيتصور هتافها نواحاً مريراً، وقد يسمعها شاعر مرح ممتع بأصفيائه، فيتصور هتافها غناء ساحراً ينعش الأفئدة ويسري عن النفوس.
وسنتحدث عن نخلتين عجيبتين بسقتا في ناحية متواضعة بحلوان (في آخر سواد العراق) وقد، لبثتا حيناً من الدهر يمر بهما الناس في الغدو والرواح، فلا يسترعيان انتباه إنسان، حتى نزل بهما مطيع بن إياس الليثي، وكان شاعراً متمكناً يسلك بقريضه فجاجاً متشعبة، فتحدث عنهما حديثاً جازت به الركاب، وتناقله الرواة فتسامع به الوزراء والخلفاء، وقد ضرب الدهر ضرباته بالنخلتين فطواهما في عنف عن الوجود منذ ألف عام ومائتي عام، ويبقى حديثهما في شعر معطراً بعبير الخلود!
لم يكن مطيع هداراً لجباً يجذب بروعته الأبصار كالإقيانوس الصاخب، بل كان شعره ينحدر رقيقاً عذباً كالغدير المترقرق، وذلك شأن من يقصر فنه الشعري على الغزل الرقيق،
والمجون الطريف، فلا يحيد عنهما إلى المدح إلا في ظروف خاصة تفرضها المحاباة، وتقتضيها الطاعة في عصر تطلع فيه الأمراء إلى المدح والإطراء. وكانت حياة اللهو والمرح قد غمرت مطيعاً بمباهجها الفاتنة، فاصطحب الخلعاء، ونادم الظرفاء، وتحفز إلى أسراب الكعاب يسارقهن البسمات، ويخالسهن الصبوات، غير أن الدهر لم يفلته من كيده، فقد أوقعه في غرام جارية فاتنة تحت يده، فملكت عليه فؤاده، وتخطفت أزمة رشاده، ثم حزبه الحطب الملم، فاضطر إلى بيعها اضطراراً، وهام في الآفاق على وجهه فقذفت به النوى إلى حلوان، ثم برح به الشوق إلى حسنائه، واشتعل الحنين في أحشائه فنظر فيما حوله ذات اليمين وذات الشمال فرأى عن كثب نخلتين متجاورتين ترتفعان في الأفق إلى مدى شاهق، وقد هبت بهما رياح منعشة، فرنحت عطفيهما، وحاولت أن تضمها ضماً يبرد الغلة وينقع الشوق، فاشتبكت فروعهما السامقة في أجواز الفضاء وقتاً غير قصير!
منظر عاطفي أخاذ، عصف بالشاعر عصفاً عنيفاً، فتذكر ملاعب الصبوات، وعهود المسرات، وحسد النبات على التئام شمله، واكتمال صفائه، وكأنه تصور للنخلتين آذاناً تسمع، وعقولاً تفهم، فأخذ يحدثهما بضربات الدهر، وفتكات الأيام، ثم استشهد بنفسه على صحة ما ادعاه، فذكر جاريته الحسناء، وكيف كانت تذهب شجونه وتسري همه، غير أن الزمان لا يبقى على أنس، فاستل روحه من جسمه، ووقف له بالمرصاد أنى سار وهو لا بد سيقف للنخلتين موقفه منه، فتبدلان وحشة بعد أنس، وتناءيا غب لقاء. وهكذا يتشاءم الشاعر تشاؤماً يرفه عن خاطره، ويبرد من لوعته، وفي النفوس من يلحقها الألم الممض فتشعل من الغيظ اشتعالاً، حتى إذا لحق بغيرها من الأشياء سرى عنها بعض الشيء وأخذت تبصر وتتأسى بالمصاب الجديد. ولقد علل مطيع نفسه بما سيلحق النخلتين - قبل وقوعه - فبردت جوانحه وطفق يصف شجونه المتحاربة، إذ يقول:
أسعداني يا نخلتي حلوان
…
وابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني وأيقنا أن نخساً
…
سوف يأتيكما فتفترقان
ولعمري لو ذقتما ألم الفر
…
قة أبكاكما الذي أبكاني
كم رمتني صروف هذي الليالي
…
بفراق الأحباب والخلان
جارة لي بالري تذهب همي
…
ويسري دنوها أحزاني
وبرغمي أن أصبحت لا تراها العين مني وأصبحت لا تراني وإذن، فقد روح الشاعر عن نفسه، وأزل بوعيده المنكود، ونحسه الأشأم بعض ما يغاديه من الوساوس. وكأن النخلتين قوة أصاختا لشعره فأسعدتاه بما يريد، أو هكذا تخيل ذلك، فخف إلى بغداد بارد الصدر، وقابل صديقه حماداً فأسمعه ما قال في النخلتين من الشعر، وعبر عن سروره بما تخيله من الإسعاد والعون. وتمضي الأيام في سيرها الرتيب فتميل على قوم بالرفاهية والأمن، وتلهب آخرين بسياطها الملتهبة، فتصهر الأفئدة، وتحرق الجلود، ومنهم حماد صاحب مطيع، فقد ثارت به عاصفة هوجاء كادت تطيح بحياته، فتذكر شعر صاحبه، وخف إلى سدرتين مائلتين بقصر شيرين، وهو يظن كل الظن أنهما ستسعدانه، وستمثلانه دور النخلتين أصدق تمثيل. وينظر حماد إلى السدرتين الشاخصتين فلا يحس براحة، فينقلب إلى منزله ساخطاً ناقماً، ويجمجم بحروف حزينة تألف منها هذان البيتان:
جعل الله سدرتي قصر شير
…
ين فداء لنخلتي حلوان
جئت مستسعداً فلم تسعداني
…
ومطيع بكت له النخلتان!
والواقع أن مطيعاً رغم تحامله على القرينتين الآمنتين، قد أسدى إليهما يداً بيضاء، فقد نبه من خمولهما المستكين، وذاع شعره في الناس فأخلصهما من أزمتين حادثين، فقد مر الخليفة الباطش أبو جعفر المنصور بالعقبة ذات يوم فوجدهما تزحمان الطريق، وتعوقان القوافل المحتشدة عن المسير بضع ساعات، فأمر باستئصالهما في غير هوادة؛ ولكن أبيات مطيع ترن في أذنيه، ويتقدم إليه أحد أعوانه فيقول في تضرع ذيل: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي عناه مطيع في قوله:
أسعداني وأيقنا أن نحساً
…
سوف يأتيكما فتفترقان!
فيتراجع المنصور الجبار عن قصده، ويخشى أن يزيل النخلتين فيتناقل الناس أنه النحس الأشأم ثم يستعيد الأبيات فيثني عليها في لباقة ويهش لذكرى مطيع، فيخصه بجانب من الإطراء، وذلك ظفر عظيم للنخلتين، وكسب هائل لشاعر مستكين.
وسيعجب القارئ حين يعلم أن خليفة جباراً كالمنصور يرتاح إلى ما جن خليع كمطيع!! مع أنه فوق سيرته الداعرة قد صاحب الخلفاء الأمويين، وغرق في لحج متراكبة من نوالهم الجزيل، مما يهيج عليه أبا جعفر، بل يوجب أن يلتمس من جنونه العابث مقتلاً يرديه،
فيمحق نديم أعدائه ونجي خصومه، ولكن القدر قد هيأ للشاعر فرصة مكنته من التزلف للمنصور، فاستل سخائم صدره، وبدد غياهب مقته؛ فقد اختفى الشاعر حقبة طويلة في مطلع العهد العباسي، حتى إذا علم بما اعتزم عليه المنصور من مبايعة ولده المهدي بالخلافة، كشف عن نفسه اللثام، ودلف إلى الحفل الحاشد في جرأة عجيبة، ثم صاح في الناس بأضخم صوت وأعلاه، فروي عن أناس من المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قال: (المهدي منا محمد بن عبد الله، وأمة ليست عربية) والجمهور في كل زمان ومكان كالأطفال يؤمن بالترهات ويدين بالأباطيل، فصفق للراوي والآفك، وصدق ما قال بدون تمحيص، ولم يخف على أبي جعفر افتراء مطيع، ولكنه وجد لكلامه ثمرة نافعة، فغمره بعطفه وأمنه على نفسه، فقر القلب الواجب، ونام الطرف الساهد، وأنس الهائم الشريد.
ولقد مات أبو جعفر، وقام بالأمر من بعده ولده المهدي، وكان ذا شغف بالرحلات المتنوعة، فوصفت له عقبة حلوان، فأصدر أمره بالمسير إليها، فأخذت زينتها ولبست من التنميق حلة زاهية، وبالغ العمال والصناع في زخرفة المكان زخرفة تليق بالزائر العظيم، ثم حانت ساعة القدوم، فحضر الخليفة في ملأ من سماره وندمائه، وامتد بساط الأنس فصدحت المزاهر وعزفت القيان، وكان في المغنيات جارية أديبة تدعى (حسنة) فجالت ببصرها في العقبة فرأت عن كثب نخلتي حلوان، وقد بقيتا على العهد متجاورتين متصافيتين فما جاء دورها في الغناء حتى انطلقت تصدح بقول ابن أبي ربيعة:
أيا نخلتي وادي بوابة حبذا
…
إذا نام حراس النخيل جناكما
ودار الخليفة ببصره فرأى نخلتي حلوان، فعلم أن جاريته تعنيهما من طرف خفي، فأراد أن ينغص عليها صفاء الحفل فقال: لقد خطر لي أن أقطع النخلتين فهما تزحمان الطريق، فصاحت الجارية كالمشدوهة (أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي تنبأ به مطيع) فتبسم في عجب وقال لمغنيته الجميلة: أحسنت في رأيك، والله لا أقطعهما ما حييت، ولأوكلن بهما من يتعهدهما بالسقيا والإنعاش. ثم عين لهما ساقياً مخلصاً، فما زال موكلاً بهما حتى مات أمير المؤمنين!! وانتهت الأزمة بسلام. ولكن أي شيء يبقى على الأيام؟! لقد عصف الدهر بأطواد شامخة رسخت أصولها في باطن الأرض وناطحت قمتها
الجوزاء، فهل يبقى على نخلتي حلوان؟ كلا! فقد فاجأهما النحس المشئوم على يد الرشيد؛ حيث هاج به الدم مرة في حلوان فأشار عليه طبيبه أن يأكل جمار نخلة فارعة، فبحث أعوانه لدى الدهاقين فما تيسر لهم الدواء، ففزعوا إلى إحدى النخلتين فقطعوها في عجلة وأتوا بالدواء للرشيد. ومر الخليفة بالنخلة الباقية في إحدى روحاته فتذكر بيت مطيع، ووقف في مكانه واجماً ساهماً، كمن ارتكب محظوراً خطيراً لا يمكن تلافيه، ثم قال في حسرة كظيمة: عزيز علي أن أكون النحس المفرق، ولوددت أني لم أذق الدواء ولو قتلني الدم بحلوان.
واهاً لمطيع!! لقد جعل الرشيد يتحسر على استئصال نخلة حقيرة، وكأنه قتل - بدون جرم - إنساناً ينبض بالحركة، ويجيش بالحياة، كما أتاح للنخلتين حديثاً يروي مدى الأحقاب، وجعل منهما مادة دسمة للشعراء، فنظم أحمد بن إبراهيم الكاتب في رثائهما أبياتاً دامعة، وارتفع بهما شاعر آخر إلى مرتبة عالية؛ فوازن بينهما وبين عاذلين من بني الإنسان، والتمس لهما العذر في رفق ملموس. فهل كان يدري مطيع حين نظم أبياته أي قصة عجيبة مثل فيها الفصل الأول وختم الرشيد فصلها الأخير؟ أجل لقد كتب الشاعر لنخلتيه تاريخاً يطالعه القراء كما يطالعون ترجمة عظيم مثل دوره السياسي ثم لقي حتفه فترحم عليه الجميع.
ارحم الغصن لا تنله بسوء
…
قد يحس النبات كالإنسان
(جزيرة الروضة)
محمد رجب البيومي
أساليب التفكير:
التفكير في الشرق القديم
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وبعد فذاك لون خيالي من التفكير؛ بيد أنه يستر وراءه نزعة فلسفية ناشئة تغالب الخرافة؛ وتسعى إلى إيجاد حل معقول لمشكلة الخير والشر في العالم: هل هما من مصدر واحد؟ لا - فذلك ما لا يقبله عقل زرا دشت الحكيم؛ إذ كيف يتسنى أن يصدر النقيضان عن مبدأ واحد!؟ لا بد إذن أن مظاهر الشرور من أمراض وجرائم وموت وقبح وشقاء ترجع إلى علة غير العلة التي ترجع إليها مظاهر الخير من عافية وإحسان وفضيلة وحياة وجمال وسعادة. ولكن العقل قاصر كما قلنا، فهو يفرض وجود العلة ويعجز عن معرفة كنهها، حينئذ يلوذ بالخيال يلتمس عنده ما لم يجده في رحاب العقل، فيخرج بصورة رائعة ترضي نزوعه إلى معرفة إلى حين: تلك هي صورة الصراع المحتدم بين حزبين على رأس أحدهما (أورموزدا) وعلى رأس الآخر (أهر يمان).
ولكن هذه النتيجة لا تشبع العقل، ولا تشفى غليله أللخير أم للشر؟ وهل يعقد النصر لحزب الحق أم لحزب الباطل؟ لو أجاب زرا دشت على هذا السؤال مستنداً إلى الاستدلال البريء من الهوى والرغبة، ودعم إجابته بالدليل المنطقي والبرهان، لقلنا إنه أنتج فلسفة وفكر تفكيراً فلسفياً، ولكنه يحكم طوره المبكر في عالم التفكير، يستجيب لنزعة التفاؤل المتمكنة من نفسه، فيغلب الخير، لا لضرورة منطقية، ولا ليقين عقلي، ولكن لإيمان قلبي، ورغبة نفسية، يحتمان عليه أن ينتصر الخير ويعم الجمال وتسود السعادة في نهاية الأمر. وهكذا نلمس لدى الفرس ما لمسناه في تفكير المصريين. دوافع نفسية تحرك الخيال فيصوغ الآراء صياغة حسية، ويصور العالم صورة خيالية ذاتية لا صورة واقعية موضوعية.
وتقرب من هذه المحاولة الفارسية محاولة هندية يمثلها البراهمة وهم الكهنة الحفاظ على الديانة الفادية التي ترجع إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والتي توزع قوى الطبيعة
على آلهة عدة لكل منها دوره في تدبيرها. كان البراهمة كهنة لهذه الديانة جمعوا بين العلم والدين، وليس هذا بعجيب إذا علمنا أن القادية مشتقة من قيداس أي العلم، وقد تطورت الديانة القادية بفضلهم تطوراً اقتضاه تبدل الأحوال، وارتقاء التفكير؛ فخرج المذهب البرهمي في القرن التاسع قبل الميلاد بفكرة فريدة في هذه العصور الخالية التي تسود فيها الوثنية أو تعدد الالهة، هي فكرة الإله الواحد رغم تعدد مظاهره. يراهما الذي أخرج العالم من ذاته، والذي يحفظه ويرعاه، والذي يهلكه ويفنيه. فهو ثلاثة في واحد، أو هو واحد ذو مظاهر ثلاثة، هو براهما من حيث هو مبدأ الوجود، وهو (فشنو) إذا نظرنا إليه من حيث عنايته بالكون والمحافظة عليه، وهو (سيفا) من حيث كونه المهلك. وما براهما وفشنو وسيفا غير أسماء ثلاثة لإرادة واحدة لا حد لها، وقدرة فريدة لا نهاية لها. أما الموجورات أو الجزيئات التي ندركها بحواسنا، فهي مجرد مظاهر حسية مفكرة لحقيقة كلية واحدة هي (براهما) المنبث في أرجاء الكون جميعاً. وهكذا يبلغ البراهمة نظرية فلسفية سوف تصادفنا كثيراً في سياق الحديث عند التاريخ الفلسفة؛ تلك هي نظرية الحلول؛ نصادفها عند متصوفة الإسلام في القرون الوسطى وسبينيوزا في العصور الحديثة. وقد ارتكزوا على هذه النظرية في تفسير الخير والشر والسعادة والشقاء؛ فأرجعوا الخير والسعادة واللذة إلى الوحدة، واعتبروا الكثرة والوهمية والرغبة في الانفصال عن الإرادة الكلية علة الألم والشر والشقاء في الحياة الدنيا؛ وعليه يصبح بلوغ السعادة عملاً يسيراً، فما عليك إلا أن تستجيب لنداء الوحدة والحقيقة، فتتجرد من لذات البدن، وتتجرد من أوهام الحواس التي تفصلك عن الكلي اللانهائي، وتقطعك عن الأصل الإلهي؛ ولا يتأتي ذلك إلا بمجاهدات نفسية، ورياضات جسدية عنيفة، تأخذ نفسك بها كما يفعل اليوم فقراء الهنود الذين يتصلون بسبب قريب بهذه الفلسفة القديمة البدائية وهنا نلمح كيف أدت النظرة الهندية للعالم إلى نظرية عملية، تستهدف تدبير حياة الفرد والجماعة بما يكفل لهم سعادة أبدية. وهذه لعمري ميزة تسم الفكر الشرقي القديم: أعني بها عدم الوقوف عند تفسير العالم الطبيعي وتجاوز ذلك إلى مباحث أخلاقية في الخير والشر، والسعادة والشقاء، واللذة والألم، مباحث أفضت إلى حكمة عملية، ونقصد بالحكمة العملية ذلك الجانب من الفلسفة الذي يتناول بالبحث مبادئ الأخلاق والسياسة.
وما دمنا قد ذكرنا الحكمة العملية فلا بد أن نشير إلى زاهد قبيلة سكيا المتوفى سنة477 قبل الميلاد (بوذا) الحكيم الذي جمع من الاتباع، وخلف من الأنصار، ما لم يتيسر لكثيرين من قادة الفكر ودعاة الدين في كثير من العصور. لا بد أن نشير إلى بوذا فهو خير ممثل للحكمة العملية في الشرق القديم، وأقدر مفكري عصره على التحرر من الخرافة، وأقربهم إلى النزعة الفلسفية التي لا تبالي بالموروث، ولا تني عن السعي إلى الحقيقة الخالصة، حتى لنجد لديه بذور مذهب فلسفي شاع في العصور الحديثة، مذهب ينكر وجود جوهر اسمه العقل أو الذات وإنما الموجود ظواهر نفسية، ووقائع شعورية، وأفكار تتابع وتتلاحق دون حاجة إلى جوهر يحمل هذه الأمور جميعاً، فنحن نفكر ونعقل ونتخيل وندرك ونشعر، وتتتابع الأفكار والمعاني والأخيلة والمدركات والمشاعر، فليس ما يدعونا إلى القول بنفس أو عقل أو ذات تحمل هذه الأمور.
ذلك مبحث في صميم الفلسفة يعد وثبة فكرية رائعة، ويضع لبنة من لبنات الميتافيزيقا. وقد أستنتج بوذا من هذه النظرية نظرية في الميتافيزيقا هي إنكار (براهما) أي أصل الوجود عند البراهمة، استنتجها استنتاجاً منطقياً من رأيه في الذات الفردية؛ ولكنه رغم ذلك لا يزال يتصل اتصالاً وثيقاً بالفكر الخرافي الذي يتأثر بالدوافع النفسية، ويستلهم الخيال في كثير من الأحيان، ناهيك بالجانب الأخلاقي في فلسفته الذي يجعل الزهد فضيلة الفضائل، وفناء الشخصية (النيرفانا) غاية الغايات. ولن أترك الحديث عن الملهم الحكيم، قبل أن أشير إلى آرائه في الفلسفة السياسية، من استنكار لنظام الطبقات، وإعلان للمساومة التامة، وإقرار بفكرة التعاطف بين البشر، ومبدأ السلام والمسالمة؛ وجميعها أراء تستهدف نفس الغاية التي أنتجت فلسفته: وإفناء الشخصية الفردية، وتغليب الطبيعة العقلية على الطبيعة الحسية، وإخضاع الإرادة الجزئية للإرادة الكلية.
وآخر مثال أزجيه من التفكير الصيني. ومن أحق بالذكر من بين قادة الفكر الصيني القديم من (كونفوشيوس)، الذي عاش في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. أفكاره عملية أي أخلاقية سياسية. ففي الأخلاق يؤكد فكرة الواجب وضرورة صدورها عن العقل، وضرورة تكميل النفس ويلح على أن الفضيلة اعتدال أي وسط بين الإفراط والتفريط، وينهي عن التطلع إلى المستقبل فهو هم وألم. وأما فلسفته السياسية، فترتكز على عداء للحرب وإيمان
بالسلام والعالمية. ويعتبر مثلاً قديماً من أمثلة الدعوات إلى السلام والإيمان بضرورة جعل العالم أسرة واحدة متحابة متعاونة متكاملة، فليتأمل أقطاب هيئة الأمم المتحدة هل أتوا بجديد؟ ولينظر مفكرو الغرب كيف ساهم الشرق القديم في دعم السلام العالمي والأمن الجماعي بفكره ولما يزل في دور الطفولة.
بعد هذا العرض السريع لتراث فكري دفع العقل إلى الأمام بما قدم من غذاء لعصور زكية، نقف هنيهة نتساءل: أليس من الخطأ أن نقول إن الفكر الشرقي في القديم خرافي كله؟ ونجيب عن أنفسنا: إن الخرافة كانت تسود في هذه العصور، ولكن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وترسل بارقة مضيئة بين الحين والحين؛ حتى نرى الفكر الهندي والصيني يضرب بسهم في عالم الفلسفة، فقد حاول الهنود والصينيون تفسير بعض جوانب الكون تفسيرات عقلية، كان يمكن أن تصير فلسفة لولا تقيد ببعض أغلال التقاليد، وهروع أحياناً إلى الخيال، وتناثر في الآراء، وإعواز إلى مذهب يلم شتات هذه الأفكار المبعثرة والنظرات المتفرقة، واقتصار على الفلسفة العملية سياسية كانت أو أخلاقية. ولو قد تجرد هؤلاء القدماء من النزعة الدينية الساذجة وأخذوا أنفسهم ببعض التأليف بين النظرات المبعثرة لأمكن أن يخرج اتجاه ميتا فيزيقي عام كما حدث عند اليونان إبان عصر الفلسفة.
(حلوان)
عبد المنعم المليجي
مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية:
(1)
النفس عند ابن سينا
للأستاذ كمال دسوقي
إلى هنا أثبت لكم الشيخ الرئيس وجود النفس، ووجودها مفارقة للمجسمية والمادة. ويهمني أن أنبهكم - أيها المتسابقون البواسل - إلى أن ابن سينا هنا في إثبات وجود النفس على غير عادته - أعني أنه في رسالته في النفس التي قلت لكم إنه ألفها ولم يبلغ العشرين للأمير نوح بن منصور الساماني قد نحا النحو الأرسطي في التصدي لإثبات وجود النفس قبل الشروع في تعريفهما وتقسيمها إلى نباتية وحيوانية وناطقة، ثم في تصنيف قوى كل من هذه النفوس، فقد كان في ذلك الحين مقتنعاً اقتناع أر سطو بضرورة إثبات وجودها أولاً. وفي ذلك يقول في مطلع رسالته المذكورة:(من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولاً أنسيته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولاً لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيه. . . الخ ص20 وما بعدها من نشرة فنديك للرسالة مصر 1325هـ
هذا ما يقول به ابن سينا حين يكتب في النفس كتاباً أو رسالة مستقلة، أما حين يكتب عنها في كتاب عام شامل كالنجاة فيرى أن يتناولها دائماً في موضعها من سلسلة الموجودات التي سبق أن أظهرتكم عليها، ويتحتم حينئذ ألا يعرض لإثبات وجودها إلا بعد أن يقسمها إلى أقسامها الثلاثة حتى ترتبط بما قبلها وما بعدها في سلسلة الموجودات، وهو بذلك لا يزيغ عن محجة الإيضاح - كما حكم على غيره ونفسه - لأنه هنا أكثر منطقية وأكثر تحرراً من أر سطو. وأياً كان موضع إثباته لوجود النفس؛ فإنه يذهب في هذا الإثبات مذهباً واحداً بعينه: هو التدليل على أن الحركة والإدراك - الذين هما من أخص خصائص القوى النفسية - هما من قوى زائدة عن الجسم، مفارقة للبدن (بدليل أن الأجسام لا تشترك كلها فيها) - ثم يتدرج إلى تقسيم النفوس إلى الأنواع الثلاثة المعروفة من الأعم إلى الأخص فتعريف كل منها وتفصيل قواه وملكاته على نحو ما تبين لكم من قبل.
وإذ أثبت وجود النفس، ينتقل إلى إثبات صفات أخرى تتعلق بهذا الموجود، كالوحدة،
والحدوث، والخلود، وعدم التناسخ - فبعد تناول الذات يقرر الصفات، كما تفعل في قسم الإلهيات حين يورد البراهين لإثبات واجب الوجود (الله) ثم يتبع ذلك بإثبات صفاته. وأول ما يتناول من هذه الصفات حدوث النفس أي أنها ليست قديمة ولا أزلية، بل مخلوقة وحادثة ولم توجد قبل البدن بحال - لأنها إن وجدت قبل البدن كانت ذاتاً واحدة أو ذوات متعددة. فإن كانت الأنفس كثيرة ومتعددة قبل حلولها في الأبدان لزم عن ذلك محال؛ لأن تغايرها حينئذ كجواهر مجردة ذات صورة واحدة لن يكون من حيث الماهية أو العدد، بل من حيث القابل أو الحامل لها الذي هو البدن - فقد بطل إذن أن تكون مختلفة الذوات. وبمثل ذلك يبطل أن تكون النفس واحدة، لأنها إن كانت كذلك فكيف تنقسم في أجسام كثيرة أو تحل في أبدان عديدة؟ فالنفس إذن تحدث بحدوث البدن وتولد معه تدبر أمره وتديره. وتظل تعني به وتكمله إلى أن تفارقه.
وحين يموت البدن لا تموت النفس، لأن فساده لا يترتب عليه فسادها، فهي ليست متعلقة به أي نحو من التعلق: فلا هي مكافئة له في الوجود، ولا هي متأخرة عنه في الوجود، ولا هي قبله بالذات أو بالزمن كما سبق أن أوضح ذلك. أما علاقة التكافؤ فباطلة، لأن التكافؤ إن كان ذاتياً كان النفس والبدن جوهرين أحدهما مضاف إلى الآخر، وإن كان عرضياً بطل الذاتي منهما بفساد العرضي ولم يفسد مثله. ولن يكون ثمة تكافؤ على أي حال. وأما علاقة التأخر في الوجود بالنسبة إلى النفس فباطلة أيضاً، لأن الجسم حينئذ سيكون علة وجودها، ويمتنع أن يكون البدن علة فاعلة للنفس؛ لأن الجسم في ذاته غير فاعل، وصورة المادية لا تفعل إلا بالقوى الروحية التي فيها، كما يمتنع أن يكون البدن علة قابلة للنفس، لأن النفس ليست منطبعة في البدن، ولا هو مقصور بصورتها في كله أو في جزء جزء منه - كما بين ذلك في حديثه عن تجرد جوهرها - ويمتنع كذلك أن يكون البدن علة صورية أو مكملة للبدن، إذ العكس أدنى إلى الحق، فليست النفس معلولة بالبدن، وبالتالي لا علاقة لها به على أساس التأخر في الوجود. حقاً إن البدن علة بالعرض لوجود النفس؛ لأنه متى وجد محل وجودها ومملكتها أحدثتها العلة الفاعلة الإلهية (العقل الفعال) لتحل فيه، فالمادة سابقة بتهيئها واستعدادها لقبول النفس، ولكن النفس توافيها حالما يتم لها هذا التهيؤ والاستعداد حتى لا تبقي الآلة معطلة. والذي يعنينا هنا أن وجوب حدوث النفس بحدوث الجسم لا
يستلزم وجوب فسادها بفساده؛ فهي من جوهر غير جوهره، وواهب هذه الصورة النفسية (العقل الفعال) غير جسمي كذلك: فهو العلة الفاعلة الحقيقية للنفس. وليس تقدم البدن على النفس في الوجود - إن صح - تقدم علة لمعلول بحال.
أما العلاقة الثالثة: تقدم النفس على الجسم في الوجود - فهو إما تقدم زمني - فلا يكون ثمة علاقة - أو تقدم ذاتي فليزم أن يحصل المتأخر كلما حصل المتقدم بحيث إذا انعدم المتأخر فلا بد أن يكون قد حصل للمتقدم في نفسه شيء أعدمه؛ يعني أن فساد البدن يرجع حينئذ إلى فساد في النفس ذاتها ترتب عليه فساد البدن، ولكن فساد البدن وتحلله - كما تعلم - هما من ذاته، فبطل إذن تعلق النفس بالبدن علاقة تقدم زمني أو ذاتي. ويطلب بذلك أنواع العلاقات الثلاث كلها، وثبت أن النفس لا تموت بموت البدن.
بل إن النفس لا تقبل الفساد أصلاً؛ يعني أنها أبدية خالدة وحجته في ذلك قوية رائعة، فالشيء الذي يقبل الفساد فيه البقاء بالفعل والفساد بالقوة ولا يجوز أن يجتمع هذان المعينان في الأشياء البسيطة المفارقة وبالجملة في أي شيء ذاته واحدة. فإن عرضاً لشيء فلا بد أن تكون ذاته مركبة من شيء إذا حصل كان باقياً بالفعل. وإذا امتنع كان فاسداً بالفعل (ولكي تصلوا إلى فهم ابن سينا هنا اذكروا ما درس لكم من أن أساس الملكة والعدم في المنطق الواحد. وابن سينا يعترض هنا على جعل أساس للملكة وأساس للعدم - أي للبقاء والفساد - هذا بالفعل وذلك بالقوة. وما دامت النفس بسيطة غير منقسمة أو مركبة، وباقية بالفعل؛ فهي لا تفسد، وليس لها قوة فساد. أما الذي يفسد فهو المادة المركبة التي لها قوة أن تقبل البقاء وتقبل الفساد.
والنفوس لا تتقمص ولا تتناسخ. فقد أوضح من قبل أن حدوث النفس إنما يكون نتيجة تهيؤ الأبدان لقبولها، هذا التهيؤ يقتضي وجود النفس أصلاً كعلة مفارقة جديدة لا متنقلة من بدن أخر - ولو كانت النفوس تتناسخ الأبدان واحداً بعد آخر لكان حلولها فيها من قبيل الصدفة العرضية البحت. ولكان التكثر في هذه النفوس يحدث من قبيل الاتفاق والبخت (فارسي معرب يراد به المصادفة بالفرنسية أو بالإنجليزية). بينما إثبات حدوث النفس بالطريقة التي تقدم ابن سينا يجعل علة طول الأجسام في الأبدان بعد تمام تهيئها في الإنجليزية والفرنسية هي ما نقصد هنا بالتهيؤ) علة ذاتية ضرورية لا مجال فيها للصدفة أو الاتفاق
العرضي. ثم أن النفس التي تتناسخ جسماً تكون زائدة فيه عن نفسه التي وافته بعد تمام استعداده على النحو الذي ذكرنا - فيكون للجسم نفسان: أحدهما قطعاً لا شغل لها ولا عمل - ولا يشعر بها الجسم ولا تشعر هي بذاتها (لأن كل ذي نفس فهو وهذه النفس شيء واحد) فما عمل هذه النفس الثانية وما قيمتها (إذ أن علاقة النفس بالجسم - كما سبق أن بين - هي علاقة اشتغال وتدبير لا مجرد انطباع وحلول) - فضلاً عن أنه ليس جسم أولي من جسم بأن يكون لهذا نفسان، ولذلك نفس واحدة. فالتناسخ باطل وخلف.
والنفس - رغم كل هذه التعريفات والتقسيمات - ذات واحدة؛ واحدة وإن تعددت القوى وتشعبت الملكات. لأن هذه الملكات والقوى لو لم تكن تؤدي إلى مبدأ واحد لصدر عن كل منها أفعال مختلفة الأجناس. فمثلاً قوتا الإحساس والغضب لو كانتا شيئاً واحداً لكان منهما قوة واحدة يصدر عنها الإحساس والاستجابة بالغضب - مع اختلاف جنسهما كفعلين، وإن كانتا قوتين مستقلتين لكان يستحيل فعل أحدهما باستحالة فعل الآخر. ولما كان فعل كل قوة خاص بالشيء الذي هو قابل له ولا يصلح لغيره، وكانت هذه التأثيرات يرد بعضها لبعض، ويستجيب بعضها لبعض؛ لم يبق إلا أنها تؤدي جميعاً إلى مبدأ واحد.
ويتجرد ابن سينا بعد ذلك لرد شبهات على وحدة النفس، ويأتي في هذا الصدد بحجة يسبق بها الفلاسفة المحدثين في إثبات وجود النفس هي الحجة المعروفة بالأنا ومؤدي هذه الشبهة أن الانفعال بالغضب - في المثال السابق - ليس عن الصورة المحسوسة، وإن يكن نتيجة للحس، وابن سينا يصر على بطلان هذه الشبهة. ويؤكد حدوث الانفعال بالغضب عن تأثير الحس ما دام الإنسان حاساً. ويعمد بعد هذا تحليل قولنا: أنا أحس، فيرى أن هذا (الأنا) إما جسم الإنسان أو نفسه؛ فإن كان جسمه فهو إما جملة أعضائه - وهو محال، وإما بعض أعضائه - فيكون أحدها أحس والآخر غضب - وقد ظهر بطلان ذاك من قبل، وإما عضو واحد أحس فغضب - وهو مردود أيضاً أن أردنا العضو بمعناه الحقيقي - فإن كان ولا بد أن الحاس والغاضب شيء واحد، فهو هذه القوة التي قلنا إن الملكات ترتد كلها إليها - القوة الواحدة التي ليست جسماً ولا في جسم، بل هي النفس.
فأنتم هنا بصدد سبق فلسفي رائع أتى به ابن سينا قبل أن يقول به ديكارت بقرون، وأعني به إثبات وجود الذات بالتجربة الداخلية والتأمل الباطني؛ فالشك يدل على الشاك، والفكر
على المفكر، والحس على الحاس، وهو ما نسميه اليوم بالكوجيتو الديكارني (نسبة لعبارته المشهورة: أنا أفكر، فأنا إذن موجود ، والفعل (يفكر) هو في اللاتينية التي كتب بها ديكارت وهو سر هذه التسمية). وابن سينا مدرك ما في هذا البرهان من جدة وطرافة، وهو يعلق عليه بقوله: فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب. . . فمن تحقق عنده هذا البرهان وتصوره في نفسه تصوراً حقيقياً فقد أدرك ما غاب عن غيره؛ بمعنى أنه يستطيع أن يستبطن نفسه بحق. واستبطان المرء ذاته، والدخول في نفسه دون حواسه - التي يجب أن تكون مغلقة تماماً - ليس في مقدور كل شخص ولا في كل حين. . . الخ) كما يوضح هذا البرهان بقوله: والإنسان إذا كان متهماً في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى إنه يقول (إني فعلت كذا أو فعلت كذا) وفي مثل هذه الحال يكون غافلاً عن جميع أجزاء بدنه. . . فالمراد بالنفس هنا هو ما يشير إليه كل أحد بقوله (أنا). وليس المقصود بهذه الذاتية - كما ظن أكثر المتكلمين - الإشارة إلى البدن، فهذا ظن فاسد. (راجعوا رسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبن سينا، صفحات 6، 7، 8، 9).
وكان ابن سينا يريد أن يخالف أفلاطون في موضوع هذا المبدأ النفسي الواحد - فيجعله في القلب، ولكنه لم يلبث أن شكك في صحة ذلك لما رأى من مفارقة قوى النفس النباتية والحيوانية والناطقة وتدرجها في النبات والحيوان والإنسان بحيث لا تتعلق قوة منها بأخرى، وعاد ففسر هذا التباين في مظاهر الحياة التي تتمثل في كل من هذه النفوس بأن التضاد في مبادئ ما تحل فيه كل منها بالترتيب يزول شيئاً فشيئاً، وأنه كلما كان هذا التضاد بين هذه المبادئ أدعى إلى التوافق والانسجام كانت النفس أكثر قبولاً لمبدأ نفسي أرقى. يعني أن العقل الفعال يهب الإنسان نفساً ناطقة أرقى: لأن عناصر تركيبه أكثر توافقاً وانسجاماً على نحو ما تفيض الشمس على شيء بمجرد التسخين، وعلى آخر مجرد الإضاءة، وعلى ثالث بالاحتراق تبعاً لمادة كل من هذه الأشياء.
كذلك العقل الفعال مبدأ الفيض وواهب الوجود والصور به تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل، كما تستفاد الصور المعقولة فهو بذاته عقل بالفعل، وما عداه من العقول التي ذكرنا فهي منفعلة به هو لذي تسيح منه قوة إلى أشياء الخيال والوهم والحس التي هي معقولة بالقوة لتصير معقولة بالفعل.
وبعد - فهل بقي شيء في النفس عند ابن سينا لم تعرفه أيها الطالب النجيب؟ هناك قصص رمزية كرسالة الطير وقصة سلامان وأبسال وغيرهما - وهناك قصائد وأشعار في النفس أهمها عينته المشهورة التي شرحها المناوي وغيره - وترجمها إلى الفرنسية وشرحها البارون كارادي فو (المجلة الأسيوية. يوليو وأغسطس 1899ص 160 وما بعدها) - ولكن هذه كلها لا تعنيك لما فيها من صوفية وخيال. وحسبك أن وقفت حتى الآن على كل شاردة من مذهب ابن سينا الفلسفي في النفس.
كمال دسوقي
ما دمت أنت معي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ما دمت أنت معي، فلست بآسف
…
إن فاتني شيء من الأشياء
حسبي من الدنيا جمالك مونقاً
…
متفرداً بالسحر والإغراء
وشبابك الداني القطوف، وإن يكن
…
أنأي على غيري من الجوزاء
وربيعك البكر الذي لم تأته
…
رؤيا خريف، أو خيال شتاء
وهوى بقلبك قد تفيء ظله
…
قلبي، ففاز بلذة النعماء
يا روح أحلامي الذي استودعته
…
حبي، وكامن لهفتي، ورجائي
يا سر أشواقي الذي ناديته
…
منذ انتفضتُ، بمهجتي ودمائي
يا نبع إلهامي الذي غنيته
…
فشدا، وبارك فرحتي وغنائي
وبكيت فانتفض الحنان بقلبه
…
دمعاً يواسي أدمعي وبكائي
يا نور أيامي الذي وافيته
…
فانساب فجر منه في ظلمائي
أنت التي جعلت شبابي جنة
…
قد أيعنت بربيعك الوضاء
شرب العبير بها - فطار مرنَّحا -
…
خمر السنا، وسلافه الأنداء
الطير في أفنائها مترنم
…
والزهرير قص فوق صدر الماء
والنسمة العذراء تجعل خطوها
…
نغماً، ككل مليحة عذراء
أنت التي ملأت حياتي فرحة
…
غنى بها قلبي أرق غناء
أنت التي ألهمتني شعر الهوى
…
حتى سموت به على الشعراء
كنا معاً طفلين لا ندري الهوى
…
إلا حنيناً مبهم الأصداء
ومضى الزمان بنا يصوغ شبابنا
…
في قدرة وبراعة وخفاء
حتى انتفضتُ على صبابة آدم
…
وأفقتِ أنت على هوى حواء
فعرفت أن الحب أشعل في دمي
…
لهباً، وشب النار في أحنائي
وسألتني عن سره ببراءة
…
فأجبتُ: تلك طبيعة الأحياء!
ومضى الزمان بنا، فكان زماننا
…
سحر الحياة وروعة الأشياء
وعلى يديك شربت من خمر الهوى
…
ناراً تحنُّ لمسها أعضائي
كان الحياء يذودني عن شربها
…
حيناً، وحيناً لا يذود حيائي
وعلى يديك شربت من خمر الهوى
…
نوراً أطير به إلى العلثاء
وعلى يديك عرفت أسرار الصبا
…
عند اللواتي هن سر بقائي
كم ذا تلاقينا، فكان لقاؤنا
…
من لوعة الحرمان خير شفاء
نجني ونقطف ما نريد ونشتهي
…
في غفلة عن أعين الرقباء
ونظل نبدع ما نشاء من المنى
…
في ظل تلك الجنة الفيحاء
حتى إذا حان الفراق تفجرت
…
في القلب نار كآبتي وشقائي
ومضيت عنك، وملء نفسي لوعة
…
أخفي ظواهرها على قرنائي
وبمقلتيك مدامع حيرانة
…
بين الظهور، وبين الاستخفاء
وعلى يديك ضراعة ملهوفة
…
كضراعة الظمآن في الصحراء
أحيا بعيد الدار، يملأ عالمي
…
جَزَعُ النوى، وكآبة الغرباء
تهفو إليك نوازعي ومدامعي
…
فيردها هذا المدى المتنائي
وأراك في قلبي خيالاً ماثلاً
…
يبكي معي في وحدتي الخرساء
وأراك في أفق الخيال حمامة
…
حامت على نبع من الأضواء
فيكاد يقتلني الحنين، وقد مشى
…
ناراً على كبدي، وفي أحشائي
ويظل يحلم باللقاء وعطره
…
قلبي، ولكن لات حين لقاء!
ومضى الزمان بنا، فجمع شملنا
…
في عشنا المتألق الأجواء
نحيا به إلفين في ظل الهوى
…
وعلى رُبا جناته الخضراء
تتألق الآمال ملء شبابنا
…
كتألق الربوات في القمراء
وترفرف الأفراح في أيامنا
…
مثل الفراش بروضة غناء
حتى إذا ذهب الشباب، وملؤه
…
وهج الحياة، وجذوة الأهواء
وبدا الشتاء كأنما ثارت به
…
أيدي الزمان، فضج بالأنواء
ُلذْنَا بدفء من حنان خالص
…
ومودة روحية وإخاء
وبذكريات عذبة تحي لنا
…
لذات أيام الشباب النائي
تُظل أيامُ المشيب حياتنا
…
بسعادة رفافة الأفياء
وبألفة نسج الزمان خيوطها
…
من روحنا في قوة ومضاء
فنظل طول العمر يغمر حبنا
…
أيامنا بسكينة وصفاء
حتى إذا انقضت الحياة. . . حياتنا
…
ودعا الفناء بنا على استحياء
طرنا معاً في عالم نحيا به
…
روحين من أرواحه السعداء
أيامنا فيه ربيع دائم
…
وشبابنا فيه لغير فناء
(الإسكندرية)
إبراهيم محمد نجا
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقدمة (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم:
بعد غيبة طويلة يعود توفيق الحكيم إلى قرائه. . . ولست أرمي من وراء هذه الكلمة إلى وضع كتابه الجديد فوق مشرحة النقد، فإن موعدي معه الأسبوع المقبل أو الأسبوع الذي يليه، وإنما أرمي إلى تناول هذه المقدمة بالنقد والتحليل، لأنها تستحق من الناقد أن يخصها بكثير من التأمل والعناية.
كتب توفيق الحكيم هذه المقدمة ليصل من ورائها إلى هدفين: أولهما أن يقدم للقارئ عرضاً موجزاً لنشأة المسرحية في الأدب العربي المعاصر ونشأتها في الأدب اليوناني القديم. . . وليقدم له أيضاً بعض العلل والأسباب التي حالت في رأيه بين الأدبين وبين التزاوج في مجال الأدب التمثيلي، على الرغم من هذا التزاوج الذي حدث بين الفلسفة اليونانية والفكر العربي. هذا هو الهدف الأول، أما الهدف الثاني حول هذا العمل الفني الذي أقامه على دعائم الأسطورة اليونانية عند سوفوكليس؛ أسطورة (أوديب الملك).
ولقد تساءل الأستاذ الحكيم وهو في رحاب الهدف الأول الذي أشرت إليه عن سر إحجام العرب عن ترجمه مآسي شعراء الإغريق مع أنهم نقلوا كتاب الشعر لأر سطو وفيه تعريف بالتراجيديا والكوميديا وما إليهما من فنون الشعر التمثيلي، ومع أنهم نقلوا إلى جانب هذا الكتاب بعض الآثار الأخرى في الفكر اليوناني!. . . هل يكون الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني؟
إن الإسلام في رأي الأستاذ الحكيم لم يحل بين الناقلين وبين ترجمة كثير مما أنتج الوثنيون. كما أن الإسلام لم ينكر خمريات أبي نواس، ولا نحت التماثيل في قصور الخلفاء، ولا براعة التصوير في (المنياتور) الفارسي!. . . أهي الصعوبة إذن في فهم هذا اللون من القصص الشعري وكله يدور حول أساطير؟ كلا، فإن كتاب (الجمهورية) لأفلاطون قد حفل بأفكار يدق فهمها على العقلية العربية، ومع ذلك فقد نقل إلى العربية وتناوله الفارابي بالبحث والمراجعة!
بعد هذين الفرضين يرد الأستاذ الحكيم علة الإحجام إلى أن التراجيديا الإغريقية في ذلك
الحين لم تكن أدباً مهيأ للقراءة والاطلاع، ولكنها كانت أدباً معداً للتمثيل والمشاهدة. . . ومن هنا لم يجد المترجم العربي حين اطلع عليها كبير نفع ولا غناء، لأن الشروح والملاحظات التي كان يمكن أن تنير له الطريق، لا تتضح إلا أثناء التمثيل أمام جمهور من النظارة، وهذا أمر لم يقدر للعرب أن يروه من قريب أو من بعيد!
وأعقب على هذا كله فأقول: إن المسألة لا تحتاج في رأيي إلى كل هذه الفروض. . . فلو أن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يختبر معدن العقلية العربية في ذلك الحين، لوجد أن هذا المعدن كان يستجيب لحرارة التفكير العلمي أكثر مما كان يستجيب لحرارة التفكير الفني؛ ومن طبيعة معدن هذا شأنه أن يسيغ كتاباً لأر سطو وأفلاطون، أكثر مما يسيغ تمثيلية ليوربيد أو سوفوكل!. . .
إن العقليات معادن، والعقلية العربية في عصورها الأولى كانت عقلية جدل ومناقشة، يستهويها ويثير اهتمامها ما يحرك في طبيعتها نزعة الجدل والمناقشة. . . لماذا؟ لأنها كانت تسعى وراء الحقائق، تحاول جاهدة أن تكشف عنها على ضوء من نور العقل وحده دون سواه. . . ومن هنا كان هذا الإغراق في العقليات، الإغراق الذي كاد يستأثر بعناية العرب ويستغرق كل وقتهم وجهدهم وطاقتهم الفكرية. أما التمثلية التي تقوم على الأسطورة، فكان من الطبيعي ألا تستهوي عقلية جبلت على السعي وراء الحقيقة! إنها عقلية تريد أن تناقش وتبحث وتجادل وتقرع الحجة بالحجة وتقيم الدليل على أنقاض الدليل، فأين هذا كله من مجال يقوم العمل الفني فيه على صراع النزعات النفسية والعواطف الإنسانية، وأعني به مجال الأدب التمثيلي عند اليونان؟!
هذا التفسير يمكن أن نجيب به مرة أخرى على الأستاذ الحكيم حين يتساءل في موضع آخر: لماذا لم يوجد التمثيل في الحضارة العربية ولم يعرف؟
لقد أرجع الأستاذ هذا الأمر إلى طبيعة عدم الاستقرار في الوطن العربي إبان عصوره الأولى. . . إن التمثيل في حاجة إلى مسرح، والمسرح في حاجة إلى استقرار، والاستقرار أمر لم تهيئه البيئة للعربي الذي كان يسعى وراء قطرة ماء تلوح له هنا أوهناك!
وإذا كان العرب قد تهيأ لهم في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما أن يحيوا حياة مستقرة، فإن ابتعادهم عن التمثيل كان مرجعه إلى أنهم لا يعدلون بشعرهم العربي شعراً
آخر، حتى ولا هذا الشعر اليوناني الذي أقيم على أركانه بناء التمثيلية اليونانية!
وفي موضع ثالث ينتقل الأستاذ الحكيم إلى مقدمة (كرومويل) لفكتور هوجو، وهي المقدمة التي يقسم فيها تاريخ البشرية إلى عهود ثلاثة: العهد الفطري وهو عهد الشعر الغنائي، والعهد القديم وهو عهد الملحمة، والعهد الحديث وهو عهد التمثيلية. . . هذه النظرية التي ينادي هوجو بإمكان تطبيقها على أدب كل أمة من الأمم، يرى الأستاذ الحكيم أنها تصلح للتطبيق على الأدب العربي (إذا ما تغاضينا عن (القوالب) واقتصرنا في بحثنا على (الأغراض)؛ ففي العصر العباسي وحده نجد البحتري قبل المتنبي، والمتنبي قبل أبي العلاء، ولو غرس هؤلاء الشعراء في أرض اليونان، لكان البحتري (صناجة العرب) هو (بندار)، ولكان المتنبي الذي دوي في آذاننا على مدى الأجيال بصليل السيوف هو (هومير)، ولكان أبو العلاء الذي صور لنا التفكير في الإنسان ومصيره والملأ الأعلى هو (إشيل). . . فالتطور إذن من حيث الموضوع قد تم).
يبدو لي أن الأستاذ الحكيم قد نسي أن هوجو يدعونا إلى تطبيق نظريته على أدب كل أمة من الأمم على مدار تاريخها كله، لا على مدار عصر بعينه كما فعل حين قصر التطبيق على العصر العباسي. . . إن هوجو ينسب الشعر الغنائي إلى العهد الفطري، فهل كان البحتري من العهد الفطري؟ وينسب الملحمة إلى العهد القديم، فهل كان المتنبي من العهد القديم؟ وينسب التمثيلية إلى العهد الحديث، فهل كان أبو العلاء من العهد الحديث؟!. . .
أما مسألة (القوالب والأغراض)، فأظن أنه لم يبق لها ما يبررها ما دام التطبيق قد بعد عما يهدف إليه هوجو من وراء نظريته. . .
ثم يقول الأستاذ الحكيم في موضع رابع إن فلاسفة العرب قد صبغوا آثار أفلاطون وأر سطو بلون تفكيرنا وطبعوها بطابع عقائدنا. . . في رأيي أن شيئاً من هذا لم يحدث، إن كل ما فعله فلاسفة العرب هو أنهم نظروا في الفلسفة اليونانية فنقلوا بعض ما فيها من آراء ومذاهب نقلاً يحفل بالخلط والتشويه؛ ذلك لأنهم حاولوا أن يوفقوا بين تعاليم الفلسفة اليونانية وبين تعاليم الدين الإسلامي، فكانت محاولة انتهت بأصحابها إلى الإخفاق، أما الإخفاق فمرجعه إلى بعد الشقة بين العقلية اليونانية والعقلية العربية من جهة، وبين منهج الفلسفة اليونانية ومنهج الديانة الإسلامية من جهة أخرى، ومن هنا كانت الفلسفة الإسلامية
خليطاً عجيباً من أفكار مضطربة لا تقترب كثيراً من الدين ولا من الفلسعة، ونظرة متأنية إليها فيها الدليل كل الدليل!
أما الجزء الأخير من مقدمة (أوديب الملك)، وهو الذي عرض فيه الأستاذ الحكيم لمن تناولوا أسطورة سوفوكليس في آثارهم الفنية، من أمثال (بيتس) و (هوفمانستال) و (سان جورج دي بوهلييه) و (جان كوكتو) و (أدريه جيد)، هذا الجزء الأخير يحفل بكثير من اللمحات المشرقة، وكم أود أن يرجع إليه القارئ لأنه يعد في حقيقته مفتاحاً لتلك الأعمال الفنية التي أعقبت (أوديب) سوفوكل، ومنها هذا العمل الناضج الذي قام به توفيق الحكيم.
(قطرات ندى) لراجي الراعي:
كتاب نفيس عثرت عليه في سوق الوراقين، وما أكثر ما يجد المرء في سوق الوراقين من نفائس. . . ولقد عثرت عليه عارياً لا يتشح بغلاف يمكن أن يهديني إلى أسم صاحبه! وحين خلوت إليه أقلب صفحاته بين يدي رأيتني أمام كتاب ممتاز لأديب ممتاز، ولكن من هو هذا الأديب الذي هزني وأين مكانه؟ إنه يعرض في الصفحات الأولى من كتابه لبعض الأماكن في لبنان ولبعض رجال الصحافة والأدب في لبنان، ترى أيكون صاحب (قطرات ندى) هو جبران أو الريحاني أو نعيمه؟ لقد وقع في ظني أن يكون واحداً من هؤلاء الثلاثة، لأنه في رأيي لا يفترق عنهم في سعة أفقه وومضات فكره ووثبات خياله
هذا ما وقع في ظني، ولكنني حين رجعت إلى أحد أصدقائي من الأدباء اللبنانيين أسأله عن الكتاب وصاحبه، تلقيت منه رسالة يبلغني فيها أن صاحب (قطرات الندى) هو راجي الراعي. راجي الراعي؟ كيف يكون في لبنان مثل هذا الأديب الممتاز ثم لا أعرفه ولا يعرفه غيري ولم نسمع به من قبل؟! وإذا كان قد انقطع عن الكتابة فأي شأن من شئون الحياة قد شغله عن الأدب وحال بينه وبين ميدانه؟. . ومرة أخرى تلقيت رسالة من الأديب اللبناني الصديق، تحمل إلي الجواب عما أثرت من أسئلة حول صاحب (قطرات الندى). إن راجي الراعي كما يقول الصديق في رسالته أديب كبير من طراز ميخائيل نعيمه، ولكنه انصرف عن الأدب منذ أمد بعيد حيث شغل بالتفرغ لمهنة المحاماة ومنصب القضاء.
لا أدري كيف يستطيع بعض الأدباء الناضجين من أمثال راجي الراعي أن ينصرفوا عن ميدانهم الأصيل وهو ميدان الأدب!. . . إن (إدوار هريو) سياسي فرنسي له في رحاب
السياسة شأن كبير ومكان ممتاز، ولكنه في رحاب الأدب أعظم شأناً وأرفع مكاناً عند الذين يقيمون الميزان لحقيقة هذا السياسي الأديب، ومع ذلك فلم تستطع السياسة أن تشغله عن ميدانه الذي أخرج فيه كتابين من أنفس وأعمق ما ظهر في الأدب الفرنسي المعاصر، وأعني بهما كتابيه عن (بتهوفن) و (مدام ريكامييه)!
هذه تحية أبعث بها إلى راجي الراعي على صفحات الرسالة. . ولعله يلبي دعاء الأدب يوماً فيعود إلى ميدانه، لأن مجاله هنا كما أعتقد وليس هناك! وفي العدد المقبل أقدم بعض كلماته وتحليقاته.
رسالة لطفي السيد إلى الشباب:
لطفي السيد أستاذ الأساتذة في هذا الجيل، وهو واحد من هذه القلة التي تزن القول حين تطلقه، وتزن الرأي حين تنادي به وما أجدر الشباب حين يتحدث هذا الرجل أن ينصتوا إليه، وأن يتدبروا كلماته، وأن يتخذوا من نصائحه وخبرته وتجاربه ما يشحذ هممهم، ويقوي عزائمهم، ويسدد خطاهم، في هذا الطريق الطويل الذي تتجإذبهم فيه عواطف الشباب ونزواته!
يقول لطفي السيد في رسالته التي حملتها (الأهرام) منذ أيام إلى ناشئة البلاد من طلاب الجامعة: إن التعليم الجامعي أساسه حرية الفكر، والتربية الجامعية قوامها حرية العمل، ورسالة الجامعة هي أعداد الطلاب لخدمة وطنهم في جميع نواحي الخدمة العامة من سياسية واجتماعية وفنية. ثم يقول لطفي السيد بعد أن تناول هذه الأهداف بالشرح والتفصيل (هذه هي رسالة الجامعة فيما أعتقد أنه المثل الأعلى للجامعات. فإن يكن انصراف عن الجادة المثلى وميل عن سواء السبيل، فمرجع هذه الحال في تقديري إلى اتصال الأحزاب السياسية بالطلبة وصرفهم عن واجبهم العلمي إلى الاشتغال بالسياسة العملية. أنا لا أكره أن يشتغل الشبان بالسياسة على اعتبار أنها موضوع نظري يدرس وتناقش مذاهبه المختلفة القديم منها والحديث. أما السياسة العملية فقد حذرت الشبان دائماً من الإسلاس لقيادة القائمين بها من الأحزاب والهيئات إذ كنت أرى ولا أفتأ أقول: إن السياسة إذا تدخلت في التعليم أفسدته، ولا علم على الوجه الصحيح إلا إذا تفرغ الطالب له وتجرد عن كل غرض سواه)!
هذا هو حديث لطفي السيد إلى الشباب، وأنه لحديث يفضي به الرجل في أبانه. . . إننا ننظر اليوم فنجد بعض طلاب العلم وقد تحولوا إلى طلاب دماء، وبعض عشاق المعرفة وقد انقلبوا إلى عشاق هدم وتدمير، وبعض الإشراق الذي كان يشع من نفوسهم وقد انتهى إلى إحراق! ترى كيف تحول وهج العلم في أذهانهم إلى وهج رصاص في أيديهم حتى لقد أصبحنا نشفق على مستقبل الشباب من أزمتين: أزمة الضمير العلمي وأزمة الضمير الإنساني؟
القول ما قال لطفي السيد، وهو أن السياسة إذا تدخلت في التعليم أفسدته، ولا علم على الوجه الصحيح إلا إذا تفرغ الطالب له وتجرد عن كل غرض سواه!
حول تحية الأديب للرسالة:
وعدت القراء في عدد الأسبوع الماضي أن أتناول بالتعقيب خبر اختفاء (الرسالة) من الجناح المصري في معرض الكتاب الذي قامتهأقأأ
أقامته الحكومة اللبنانية بمدينة اليونسكو، وهو الخبر الذي نشرته زميلتنا (الأديب) اللبنانية وعلقت عليه بما شاء لها الأدب الجم والتقدير الكريم. . . ومرة أخرى اعتذر عن ضيق النطاق مرجئاً التعقيب إلى العدد القادم إن شاء الله.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
كتاب كريم:
عزيزي الأستاذ عباس خضر
تحية وبعد فقد قرأت ما علقتم به على كلمتي عن صديقي الكاتب الكبير الأستاذ الزيات بك ولم ألحظ هذا الأمر إلا عندما لفتتني إليه كلمتكم. وقد سألت في ذلك أحد الناشرين فاعتذر قائلاً إن الجملة سقطت من المطبعة أثناء الطبع. وأني آسف لهذا كل الأسف مستمسكاً بما قلت مؤكداً له غير منحرف عنه؛ فإن ما قلته هو ما كنت وما زلت أعتقده (إن من أراد الأسلوب العربي الرفيع السليم فعليه بما يكتبه أستاذنا الزيات)
وتقبلوا خالص تحياتي.
المخلص
إبراهيم دسوقي أباظة
25101949
هذا ما تفضل بكتابته إلي حضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا، رداً على ملاحظته في كتاب معاليه (وميض الأدب بين غيوم السياسة) أو ما بدا لي، من تغيير فيما جاء خاصاً بأستاذنا الزيات. وهو كتاب كريم من معالي الأستاذ الأديب، يدل على ما يتصف به أدب النفس إلى جانب أدب الدرس، وهو وإن كان من الومضات الأدبية النفسية التي تشع بين غيوم الساسة، إلا أن هذه الومضة تمتاز بالقوة، إذ استطاعت أن تنفذ من خلال سحب السياسة (الخارجية) الملبدة إلى حيث الأدب والفن، تستمد قوتها من نبل الشعور وصفاء الروح.
وكم يحلو لي - ولكل ما يحلو له - أن أتجاوز المنصب الكبير واللقب الرسمي، لأخاطب الأديب الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة، متوجهاً إليه بالثناء والشكر على إيثار مقتضيات الخلق الرفيع والتمسك بالحق، والاهتمام بإزالة ما يعلق به، بهذا الصنيع الجميل والأسلوب النقي المهذب.
وللأستاذ الأديب - أيضاً - خالص مودتي وتحياتي.
سؤال وجواب صريحان:
يقول الأستاذ (إبراهيم حسين خالد) المدرس بالمنصورة في رسالة كتبها إلى: (نحن خمسة ولنا ندوة متواضعة نجلس فيها كل ليلة نقرأ الرسالة وما تيسر لنا من كتب الأدب، واسمح لي أن أقول لك في صراحة من القول وجرأة من الحديث، لقد جال بخاطرنا سؤال طالما ناقشناه وقلبنا وجوه الرأي فيه ولكننا لم نظفر بالجواب المرضي والنتيجة المريحة، فهل لك يا سيدي أن تتكرم بمشاركتنا في هذا البحث وتدلنا على وجه الصواب فيه ولك من المولى حسن الجزاء؟ لماذا يا سيدي هجر الرسالة وهي كتاب الشرق وسفر الأدب العربي بعض قادة الفكر وأعلام البيان؟).
سأجيب عن هذا السؤال إجابة صريحة، وأبيح لنفسي أن أفضي بها رغم ما فيها من بعض (الداخليات) لأنها قضية يجب أن تثار ليعلم بها التاريخ الأدبي على الأقل.
ولعل بعض الجواب أو ما يمهد له هو ما أثاره في مجلة (الأديب) اللبنانية جماعة من أفاضل الأدباء منهم الأستاذ نقولا الحداد، والموضوع الذي كتبوا فيه هو (الأدب الرخيص) يعنون به ما تنشره أكثر المجلات المصرية، وقد ألقي الأستاذ يوسف غانم التبعة في كساد الأدب العالي على الأدباء الكبار فقال:(فكبار الكتاب كما لا يخفى يساهمون في تحرير هذه المجلات، فلا غرو إذا فسدت الأذواق، فالمتأدب الذي يلقن منذ الصغر أن طه حسين والعقاد والحكيم والمازني وغيرهم هم مشاعل النهضة الأدبية المعاصرة - يجد لنفسه العذر الكافي في متابعة هؤلاء الكتاب حيثما كتبوا وفي الاعتقاد أن المجلات التي يكتبون فيها هي من أرقى الصحف والمجلات. فما اجدر أدباءنا الكبار أن يقتصروا - في نشر إنتاجهم - على المجلات الأدبية الرفيعة فيروجون للأدب الرفيع الذي قامت شهرتهم على دعائمه)
انتهى كلام الأستاذ يوسف غانم في مجلة الأديب.
والمسألة أن تلك المجلات تغري أدباءنا بالأجور الكبيرة، التي تزيد على ما تستطيع المجلات الأدبية، لأن هذه لا تبلغ شأو تلك في الربح من سعة الانتشار، وهي لا تستطيع أن تتنازل عن مستواها الرفيع وتفرط في رسالتها الأدبية فتصطنع ما تصطنعه تلك المجلات من أدوات الانتشار.
وأدباؤنا الكبار قد أبطرتهم تلك الأجور، إذ أصروا في أنفسهم على أن تكون (تسعيرة) لهم. . . ويخيل إلي أنهم في محنة وأنهم يعانون صراعاً نفسياً بعض أسبابه أن يضطروا إلى الكتابة بجوار (المايوهات) وأن يضطروا إلى شيء من التنسيق بين ما يكتبون وبين الأذهان التي تتراقص فيها صور (المايوهات).
ومن أسباب ذلك الصراع الذي يخيل إلي، أنهم ذوو مثل فنية، تجذبهم من طرف، وتشدهم من ناحية أخرى رغبة في الترف.
على أن الرسالة من جانبها تحرص على أن تقدم جيلاً جديداً من الكتاب أو (وجوهاً جديدة) كما يعبر السينمائيون، وقد كان الأساتذة الكبار يوماً وجوهاً جديدة، وسيأتي بعد زماننا وجوه جديدة، ولن تجد لسنة الله تبديلا. والرسالة تحمد الله الذي يشد أزرها ويهب العافية لصاحبها ويبعث التجديد في حياتها ويبقي عليها قراءها، وإن كان منهم من يسأل - لسابق العهد - عن فلان وفلان
الباليه:
انتهى في هذا الأسبوع موسم فرقة (باليه دي مونت كالو) على مسرح الأوبرا، وحلت محلها الفرقة الإيطالية، التي ستعمل في الأوبرا شهراً ثم يختتم الموسم الأجنبي في الأوبرا بفرقة فرنسية.
ويقوم فن (الباليه) على التمثيل بالرقص بحيث تعبر حركات الجسم عن المعاني المختلفة وقد حفلت الصحف والمجلات بصور فتيات (الباليه) في أوضاع متباينة بعضها مسرحي، وبعضها في غرف (التواليت والماكياج) وبعضها في حفلات خاصة مرحة. . . فكانت هذه الصور مادة (طيبة) للصحافة المصرية التي أصبحت تتنافس في تقديم (مشهيات) للغرائز ولا تعدم ناقداً فنياً حصيفاً. . . يكتب إلى جانب هذه الصور فيقول إن هذا الرقص (الباليه) روحي بحت ولا يتصل بإثارة الغرائز بسبب من الأسباب!
وهذا الرقص (الروحي) يقوم به فتيات من أجمل فتيات أوربا يشترط ألا تتجاوز أعمارهن الثلاثين، ويرقصن باديات المحاسن عاريات السيقان والأفخاذ على الأقل، والمستور مجسم. . . ولا بأس على (الروحانية) من ذلك. . . فهن يمثلن البجع أو الحوريات الهواء، وعلى المتفرج أن يكون قوي التصور فيتخيل أن الراقصة بجعة أو شيء آخر غير أنها فتاة!
والدليل على أن (راقصات) الباليه غارقات في (الصوفية) أن صحفنا ومجلاتنا تنشر صورهن التي توحي إلى القارئ كل معاني الروحانية السامية. . . وهل تنشر صحفنا ومجلاتنا غير ذلك؟!
وقد أبدى أحد نقادنا الحصفاء ارتياحه للإقبال على فن الباليه في مصر، وعد ذلك نجاحاً للذوق الفني المصري. . . طبعاً يا سيدي، ومن قال لك إن الذوق المصري يتجرد من الإحساس؟ ومن في العالم يستطيع أن يتذوق هذا الفن كالمصريين؟ الرجال رجال. . . والنساء ينظرن هذه البضاعة الجديدة ويتباهين بثمين الحلي والفراء، ومجلة كذا ستنشر صورة قرينة فلان أو ابنة علان، وهي ترتدي فراء فاخراً أو تتحلى بجوهرة فريدة ثم أليس هذا شيئاً من (بلاد بره)؟ ومتى يكون التظاهر بالمدنية والرقي إن فاتت فرصة (الباليه) في الأوبرا؟ ولا بأس ألا يفهم (المتمدن الراقي) شيئاً من تمثيل البجع أو الحوريات، ولا بأس أن تكون عينيه وفؤاده معلقتين بالأجسام التي تتلوى كالخيزران وعقله فارغاً مما يشغل العقول. . .
أليس كل ذلك أسباباً داعية إلى نجاح (الباليه) في مصر؟ وكل عام وانتم بخير.
ضريح سيدي مختار:
نشرت الصحف أن وزارة المعارف قررت بناء ضريح للمثال مختار، ورصدت لذلك ستة آلاف من الجنيهات، والوزارة طبعاً تقصد تخليد ذكرى المثال المصري. ولكن لم اختارت الضريح وسيلة لهذا التخليد؟ إن كان المقصود الجري على سنة الغربيين في دفن العظماء والأعلام ببنايات ضخمة تمجيداً وتقديراً لأعمالهم فإنهم هناك لا يخصون كل واحد بضريح وإنما يجمعونهم في مكان واحد. على أنه لا داعي لتقليد تلك البلاد في ذلك، وخاصة أننا لسنا مثلها في استكمال أسباب الحياة المستقرة من حيث التعليم وغيره، فأمامنا ضرورات لا ينبغي معها إنشاء الأضرحة، وأقرب شيء إلى ذلك حاجتنا إلى نشر التعليم ومحو الأمية. والوزارة تشكو من ضيق الميزانية بأعباء مشروعات التعليم، وهي تواجه أزمة في أبنية المدارس. فلا أشك في أن إنشاء مدرسة يطلق عليها اسم مختار أجدى من الضريح وأخلد لذكر صاحبه.
مؤتمر لغوي عام:
عرض في الجلسة الأخيرة لمؤتمر المجمع اللغوي اقتراح اللجنة المؤلفة لوضع برنامج المؤتمر المقبل، إلقاء بحوث ومحاضرات عامة يعد لها من الآن، على أن يشترك فيها العلماء والمختصون في اللغة بمصر والأقطار العربية، ويلقي منها على الجمهور ما تختاره اللجنة التي تشرف على ذلك.
وقد أوضح الدكتور إبراهيم مدكور ذلك الاقتراح بقوله: درجنا في مؤتمراتنا على أن تكون أشبه بلجنة أو جلسة خاصة، وترمي فكرة الاقتراح إلى إشراك الجمهور في أعمالنا؛ إذ أنه توجد مشاكل كثيرة تتصل باللغة العربية ويسر أعضاء المجمع أن يسمعوا آراء غيرهم فيها، فتحدد الموضوعات ويعلن عنها، ثم يلقي في المؤتمر ما يقرر إلقاؤه منها.
وأيد الفكرة الدكتور أحمد زكي بك، فقال: إن المؤتمرات تتيح لكل ذي كفاية في الأمة أن يشترك فيها، وبذلك يخرج المجمع عن انطوائه على نفسه.
وشاطر الأستاذ الشبيبي الدكتور زكي رأيه قائلاً: إن المجمع في حاجة إلى دحض بعض الأقاويل التي تقال بشأنه، فقد لاحظت شيئاً من الاعتراضات على المجمع من حيث البطء في العمل والإنتاج وقد أنهى المجمع الدورة الخامسة عشر ولم ينجز إلى الآن لا المعجم الوسيط ولا المعجم الكبير ولا معجم المصطلحات على ما يقول المعترضون، ولا يقطع ألسنة المتخرصين غير السرعة في الإنتاج.
وهنا سأل الأستاذ زكي المهندس بك الأستاذ الشبيبي عن عمل المجمع العلمي العراقي وموقف الجمهور منه، فقال الشبيبي: لست بصدد المقارنة بين المجامع العلمية، ومع ذلك أقول إن المجمع العراقي لا يزيد عمره على سنة واحدة إلا قليلاً وقد استطاع في هذه المدة أن ينشئ مكتبة غنية بالمخطوطات النادرة، وتعد العدة لنشر هذه المخطوطات، كما تعد العدة لنشر مجلة خاصة بالمجمع، وبه مصلحة فنية مجهزة بأحدث الآلات للنسخ والتصوير.
ورأى الدكتور طه حسين بك الاكتفاء بأن تكون بعض جلسات المؤتمر علنية يلقي فيها بعض محاضرات يستمع إليها الجمهور.
وأخيراً تقرر إحالة الاقتراح إلى مجلس المجمع لمناقشته فيه.
عباس خضر
البريد الأدبي
عود على بدء:
بين الأستاذ أنور المعداوي وبيني خلاف حول (إنسانية محمد) مرجعه إلى أن الأستاذ لا يقر التعليل الذي علل به الأستاذ العقاد مواقف النبي الإنسانية؛ وهو أنه إنما وقف هذه المواقف لأنه أكبر من أن يلقي الأمور لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء، لأنه يملك مثلها آفاقاً كآفاقها هي آفاق الروح.
فالأستاذ المعداوي يرى أن هذا التعليل ينطبق على الرجل العظيم دون الإنسان العظيم؛ لأنه يجعل النبي صاحب طبيعة خلقية تنبع فيها الرحمة من منابع العظمة النفسية. بينما يرى أن مصدر الرحمة عند الإنسان العظيم هو (الضعف الإنساني) لا العظمة النفسية.
وأنا أخالفه في هذا لأني لا أجد تناقضاً بين العظمة النفسية والعظمة الإنسانية، بل إن الأولى في رأيي لازمة للثانية. لأن الإنسان العظيم الذي يرحم في غير مواضع الرحمة إنما يفعل ذلك لأنه يربأ بنفسه أن يقصر رحمته على مواضعها، شأن الرجل العادي ذي النفسية العادية.
وينصب الخلاف من ناحية أخرى على قول العقاد (أن النبي لا يكون رجلاً عظيماً وكفى بل لا بد أن يكون إنساناً عظيماً) فإذا كان الأستاذ المعداوي لم يقصد بتعليقه عليه سوى قوله (إن اشتراط الإنسانية لنبوة محمد أمر لا داعي لإثباته، لأن محمداً كان إنساناً بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولاً إلى الناس)، إذا كان لم يقصد سوى هذا فأني أخالفه فيه أيضاً. فهل كون النبي إنساناً عظيماً قبل نبوته يمنع من اشتراط الإنسانية له؟ ما دخل إنسانية ما قبل النبوة هنا؟ إننا بصدد تبيين خصائص النبي، فلا يكفي أن يكون رجلاً عظيماً، بل يجب أيضاً أن يكون إنساناً عظيماً. هذا ما قاله العقاد. فما معنى دفعه بأن لا ضرورة لاشتراط الإنسانية للنبي لأنه كان إنساناً قبل أن يكون نبياً؟ هل الإنسانية قبل النبوة تمنع من جعلها من خصائصه بعد النبوة؟؟
وبعد، فهذه كلمة (عجيبة!!) أخرى، ولكنها الأخيرة، أبعث بها للأستاذ المعداوي مع تحياتي.
محمد محمود عماد
المحامي
ما أكثر ما يخطئ الكتاب والشعراء المعاصرون في العربية.
قال الشيخ جمال الدين بن هشام الأنصاري في كتابه (مغني اللبيب): (قط) على ثلاثة أوجه (أحدها) أن تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى، وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء المضمومة في أفصح اللغات. وتختص بالنفي؛ يقال ما فعلته قط، والعامة يقولون لا أفعله قط، وهو لحن. واشتقاقه من قططته أي قطعته؛ فمعنى ما فعلته قط: ما فعلته فيما انقطع من عمري، لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال.
وقال عميد الأدباء في كلمته المنشورة بعدد الرسالة رقم 813 بالصفحة رقم 152:
(وما أعرف أني بايعت شاعراً أو كاتباً قط، وما أظن أني سأبايع شاعراً أو كاتباً قط). وقال أيضاً في كلمته المذكورة:
وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية
وقلت أنا: لقد حق القول قوله والسلام
(الروضة)
محمد فؤاد عبد الباقي
رواية بيتين:
نشرت الرسالة الغراء بالعدد 807 قطعة من فرائد الشعر للأستاذ الشاعر إبراهيم الوائلي بعنوان (أيها العابرون) جاء فيها هذا البيت:
موجة إثر موجة تترى
…
كجبال قد اقتلعن اقتلاعا
وصدر هذا البيت ينقصه (وتد مفروق) قبل قوله (تترى)، إذ أن البيت من بحر الخفيف وكذا في البيت:
وقلوباً من الحديد تشظت
…
فاكتسحت قوة وجلت صراعا
زيادة في التفعيلة الأولى من عجزه. وهذه هنات لا تغض من قيمة القطعة ولعلها من آثار التطبيع
(فرشوط)
عبد الفتاح حماد
بالمدارس النموذجية
ابن المقفع وكليلة ودمنة:
قرأت في العدد 806 من مجلتكم الغراء مقالة الأستاذ محمد رجب البيومي (الصداقة في رأي ابن المقفع) كان لها أثر كبير في نفسي، وقد لاحظت أن الأستاذ الفاضل يعرض أفكاره ثم يعقبها بشواهد من كتاب (كليلة ودمنة) وينسبها إلى ابن المقفع مع أن الكتاب المذكور - كما يخبرنا التاريخ - ليس لابن المقفع فيه غير الترجمة. أما مؤلفه وصاحب ما فيه من الآراء والأمثال والحكم، فهو (بيدبا) الفيلسوف الهندي الكبير.
هذا ما عن لي، فأرجو إن كنت على حق نشره لأرى رأي الأستاذ صاحب المقال فيه. فلعل عنده من العلم ما نجهله عن كتاب (كليلة ودمنة).
(المدينة المنورة)
محمد العامر الرميح
1 -
مكتبة الكيلاني للأطفال:
أخي الكاتب الكبير الأستاذ كامل كيلاني
تحية طيبة مباركة. وبعد، فإني لا أحاول في هذا الخطاب الموجز أن أصف كل ما يخالج نفسي من تقدير بالغ لأدبك العالي وبيانك الرفيع، أو أن أصور فضلك على الأدب والشعر والتاريخ
وماذا أقول في وصفك وقد أجمع العظماء والكبراء، واتفق فحول الكتاب والشعراء على فضلك، والإشادة بعظم ما قدمت لرجال أمتك (وأطفالها) من أدبك، لا أريد أن أتزيد اليوم بالكلام عن فضلك وما سبق من عملك. وإنما أتحدث في عبارة موجزة عن المجموعة النفيسة المسماة (مكتبة الكيلاني للأطفال) تلك التي جعلتها لتأديب الأطفال وتثقيفهم
وضمنتها الخيال البعيد والفكر السديد، والحيل الغريبة، والمحاورات المفيدة، وزينتها بالحكم الغالية، والفلسفة العميقة، والفكاهة الحلوة، والنادرة المستملحة، وغير ذلك من الأغراض التي يرمي إليها كبار علماء التربية في هذا العصر، والتي يجب أن تحملها كل كتب التربية، كل ذلك في معرض مشوق أخاذ. والتشويق أنجع دافع إلى القراءة والانتفاع بما في الكتب والأسفار، يستوي في ذلك الكبار والصغار، أما طبع هذه المجموعة والشكل والعرض والأسلوب والصور التي تزينها، فهي كذلك مما لا يكاد يوجد مثله في مطبوعات أخرى.
وإذا كان لي من قول أذكره لأخي بعد تجارب تقرب من أربعين سنة قضيتها في الدرس والتحصيل، فهو اعترافي بأنك قد وفقت أعظم توفيق في إخراج هذه المجموعة النفيسة التي بدت تختال في هذا الشكل الرائق والموضوع الفائق، وأستحثك على أن لا تني في الاستزادة منها ليدوم النفع وتستمر الإفادة.
وإني تلقاء هذا العمل الجليل أتوجه لأخي الكريم بالتقدير العظيم على ما بذل ويبذل من جهد وتعب في سبيل تثقيف الناشئين وغير الناشئين، وبالشكر الجزيل على سائر الممالك الأدبية والعلمية التي أخرجتها وتخرجها كل يوم لنفع الناس أجمعين.
أعانك الله وأدام توفيقه لك، ومتعك بكمال الصحة وموفور العافية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(المنصورة)
محمود أبو ريه
2 -
من طرائف حافظ إبراهيم:
كان المويلحي الكبير إبراهيم بك المويحلي يمدح الإنجليز ويثني عليهم، أما حافظ إبراهيم فكان يمقتهم ويثلبهم، ومما قال في ذلك:
وحبيب لي عزيز
…
وهو في حرز حريز
ليته يحتل قلبي
…
كاحتلال الإنجليز
وفي مجلس بمنزل عبدة الحمولي في سنة 1898 حضره الكاتبان الكبيران الشيخ إبراهيم
اليازجي وابن أخته الشيخ نجيب الحداد أنشد حافظ إبراهيم - وكان حينئذ ضابطاً بالجيش - هذين البيتين:
يا ساهر الليل هل للصبح من خبر؟
…
إني أراك على شيء من الضجر
أظن ليلك قد طال الوقوف به
…
كالقوم في مصر لا ينوي على سفر
فطرب اليازجي طرباً شديداً، وبخاصة لقوله (على شيء)، وشهد لحافظ بالشاعرية.
(م. أ)
استدراك سهو:
جاء في نقدنا لكتاب (عالم الذرة) للأستاذ نقولا الحداد والمنشور في العدد الماضي من الرسالة الغراء أن:
الكتلة السرعة=العزم، والصحيح أن الكتلة السرعة=الدفع. وإنا نستدرك هذا السهو مع الاعتذار للقارئ
كامل محمود حبيب
الكتب
عالم الذرة
للأستاذ نقولا الحداد
أشكر عظيم الشكر لحضرة الأديب الأستاذ كامل محمود حبيب نقده في الرسالة لكتابي (عالم الذرة). وقد استهله بكلمات تقريظ بقصد أن يخفف من لوعة النقد. وكان ينقده باعتبار أنه ثقة في الموضوع. وسرني جداً النقد لأنه ينبهني إلى مواضع الخطأ اللهم إذا كان صواباً ولكن. . .
يقول الأستاذ (أنت في كتابك أردت أن تكون معلماً ولكن. . .)
لا يا سيدي ما كنت إلا تلميذاً أبسط لأساتذتي من أمثالك الدرس الذي تعلمته. ولكن يظهر إني لم أحسن البسط.
وقد أعطاني حضرته ستة نماذج لفصول كتاب كان يتمنى أن تكون فصول كتابي؛ لأنه رأى فصول كتابي الأولى مضطربة. وأنا أرى أن النماذج التي أقترحها جديرة بأن تكون فصول كتاب سيؤلفه هو إن شاء الله، أو أنها مرسومة في ذهنه. وحضرته يعلم أن لكل مؤلف طريقة في تبويب كتابه وتفصيله مستوحاة من دراسته وبغيته في التأليف.
وأما أنا فقد حللت الذرة التي كان يظن أنها بسيطة لا تقبل التجزئة إلى ضلعيها الإلكترون والنواة. ثم حللت النواة إلى أضلاعها البروتون والنيترون والبوزيترون إلى آخره. ثم حللت هذه الأضلاع إلى فوتونات. فلا أفهم كيف يكون هذا التحليل اضطراباً. أترك الحكم إلى القراء.
أما ذكري أن الطاقة والمادة شيء واحد وإيرادي فصلاً بشأنه في آخر الكتاب كملحق له فله سبب، وهو أني ذكرت في مقال في المقتطف أن المادة والطاقة شيء واحد، فشجب هذا القول كاتبان من القدس ومن السلط فرددت عليهما بهذا الفصل ثم انتهزت هذه الفرصة لأنقل هذا الفصل إلى كتابي كتأييد للفصل الرابع في الكتاب وهو فصل عن الطاقة والمادة.
والآن أنتهز هذه الفرصة للاستشهاد بما ورد بهذا الصدد في الفصل الأول من كتاب وزارة الحربية الأمريكية بعنوان (الطاقة الذرية) وهو بنصه: (الطاقة لا يمكن أن تخلق من العدم ولا أن تفنى من العدم، بل يمكن أن تتحول شكلاً. . .)
ثم (لقد اكتشفت أخيراً أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة، والمادة إلى طاقة) والمعنى أن المادة والطاقة شيء واحد يختلفان شكلاً.
وأما سكوتي عن النقط الفنية التي وردت الإشارة إليها في صفحة 68 من الكتاب، فسببه أن البحث فيها يستلزم رسوم آلات وعدداً يتعذر فهمها على القارئ ما لم وافقاً أمام الآلات والعالم الفني يفسرها له. والتمادي في دراستها يصل إلى نقط محظور الاطلاع عليها لأنها من أسرار القنبلة الذرية التي يدور النقاش بشأنها بين بعض الدول، وبالطبع لست أنا ممن يدركون هذا الكنه، فلا أبحث فيما أجهله.
بقي أن أرد على الأستاذ في (الهنات) التي صححها وأريه أنه خطأ الصواب فيها.
أنتقد ترجمتي بالجو المغنطيسي وصححه بالمجال المغناطيسي: وأنا في جميع كتاباتي العلمية أستعمل الجو بدل المجال؛؟ لأني أرى أن استعمال المجال خطأ محض، لأن المجال سطح ذو امتدادين طول وعرض فقط، والمغنطيسية (والكهربائية أيضاً) تتوزع في حيز ذي ثلاثة امتدادات: طول وعرض وعمق، وهي امتدادات الجو لا امتدادات المجال. فالجو أصح والمجال خطأ وعلى المجمع اللغوي أن يقرر ترجمتي إن رام الصواب.
وينتقد الأستاذ ترجمتي بالقوة الدافعة المركزية. وهو يصححها أو بالأحرى يغلطها بقوله (القوة الطاردة المركزية) وبين الدفع والمطرد بون عظيم. الطرد هو الإقصاء عن المركز إلى اللانهاية. والقوة الدافعة المركزية هي القوة التي تحفظ الجرم المدفوع في البعد الذي تقتضيه القوة الجاذبة بحيث لا يهبط إلى المركز ولا يشرد عنه. فإذا قذفت قذيفة بقوة أضعف من قوة الجاذبية تنقذف إلى مدى القوة التي قذفتها ثم تهبط نحو المركز. ولكن إذا كانت القوة الدافعة (لا الطاردة) تعادل القوة الجاذبة (بسرعة نحو 5 أميال في الثانية على الأرض) فالجرم المقذوف لا يهبط إلى الأرض نحو المركز ولا يشرد في الفضاء بل يبقى دائراً حول الأرض كأنه قمر ثان له. فانظر ما أعظم الفرق بين الدافعة المركزية والطاردية المركزية! أما عن الجرافيت فتفسير الأستاذ له لم يزده بياناً؛ فما هو إلا فحم حجري مضغوط كما قلت والفحم كربون على كل حال بقي أن الأستاذ لم تعجبه المعادلة:
كتلة سرعة=زخماً
بل يصر على أن تكون عزماً بدل زخم. ولو كلف خاطره أن ينظر في أي معجم من معجمات اللغة لرأى بين عزم وزخم بوناً شاسعاً.
الزخم هو الدفع أو الاندفاع بشدة.
والعزم هو توطين النفس على العمل أو الفعل، أو هو القصد أو الإرادة، وليس معنى من هذه المعاني هو المعنى المقصود بشدة الاندفاع أو الدفع. فالعزم هنا خطأ محض كما يرى القارئ.
ثم لم يعجبه القول أن السرعة هي مدى انقذاف مقدار من الكتلة في الثانية، بل يصححها بقوله أما سرعة جسم متحرك هي معدل إزاحته في ثانية. وللقارئ أن يحكم أي القولين أصح. ألا يصح فيه قول القائل (وفسر الماء بعد الجهد بالماء).
كنت أود أن تكون نقدات أستاذنا كامل وجيهة لكي أستفيد منها، فإذا هي نقدات ناقد نواها منذ شرع يطالع الكتاب. وعلى كل حال أشكر له اهتمامه وأتمنى أن يأتينا بكتاب من قلمه في هذا الموضوع العويص فنتعلم منه ما لم نعلمه.
نقولا الحداد
م ش البورصة الجديدة القاهرة
الملك أوديب
تأليف الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وأخيراً تناول الأستاذ توفيق الحكيم بأسلوبه البارع في القصة والحوار مسرحية الملك أوديب، بعد أن تناولها قبله تسعة وعشرون مؤلفاً، من سنة 1614م إلى سنة 1939 هـ، وهي مسرحية قديمة ألفها سوفوكليس اليوناني، ليصور فيها الصراع بين الإنسان والقدر، على نحو ما كان يذهب إليه اليونان من عقيدة المحتوم.
وتتلخص هذه المسرحية في أن لايوس ملك طيبة تزوج فتاة تسمى جوكاستا، وقد رزق منها طفلاً هو أوديب، فجاء إليه ترسياس العراف الذي كان يدعي الوحي من السماء،
فأخبره بأن هذا الطفل إذا كبر يقتله ويستولي على ملكه، وأشار عليه بقتله وهو في المهد، فأعطاه هو وجوكاستا راعياً لهما ليقتله. فلما ذهب به ليقتله لم يطاوعه قلبه على قتل طفل بريء، فأعطاه راعياً آخر ليذهب به إلى بلده ويتخذه ولداً، فذهب به ذلك الراعي إلى بوليت ملك كورنت وزوجته ميروب، فتبنياه وربياه في قصرهما إلى أن كبر، ولكنه علم أنه لقيط، فلم تقبل نفسه أن يقيم مهما بعد علمه بذلك، ففر من قصرهما ليبحث عن حقيقة أصله فألقى به القدر إلى طيبة، وكان لايوس قد خرج من طيبة في حاشية له، فزحم أوديب مركبة لايوس عند مفترق الطرق بين دلف ودوليا، وقام شجار بينه وبين الحراس من الحاشية، فتغلب عليهم وقتلهم، وأصابت ضربة منه رأس لايوس فقتلته وكان في الحاشية ذلك الراعي الذي أعطاه لايوس أوديب ليقتله، ولم ينج غيره من الحاشية. فأشيع أن جماعة من اللصوص خرجوا على لايوس فقتلوه، وكانت جوكاستا لا تزال في عنفوان شبابها، وكان لها أخ يسمى كريون، فجعلوه وصياً على العرش، وهنا ظهر وحش خارج أسوار طيبة له وجه امرأة وأجنحة نسر سماه أهلها أبا الهول، وكان كل من تخلف منهم خارج الأسوار بعد الغروب يلقي عليه لغزاً ليحله فيعجز عنه ويقتله، حتى أهلك عدداً كبيراً منهم، فاتفقوا على أن يمنحوا عرش طيبة لمن ينقذهم منه، ويزوجوه جوكاستا، وكان أوديب هو الذي أنقذهم من ذلك الوحش لأنه قدم عليه فسأله عن لغزه: ما هو الحيوان الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ فأجابه بأنه الإنسان، لانه يحبو في صغره على يديه ورجليه، وفي الكبر يستوي ماشياً على قدميه وعصاه، فأعطوا أوديب عرش طيبة وزوجوه جوكاستا وهو لا يعلم أنها أمه، كما قتل لايوس وهو لا يعلم أنه أبوه وقد قضى معها عيشة طيبة ورزق منها بأولاد ولكن هما كان يثقله من جهة أصله الذي خرج من كورنت يبحث عنه، فكان يهمه أن يصل إلى معرفة حقيقة أصله، وفي معرفته القضاء على هناءة عيشه هو وزوجته لأنها أمه وأولادها إخوته، وهنا شاء القدر في قسوته أن يوصله إلى حقيقة أصله فيسلط طاعوناً على أهل طيبة، ويعجز أوديب عن إنقاذهم منه كما أنقذهم من ذلك الوحش فيرسل كبير الكهان كريون أخا جوكاستا إلى معبد دلف ليسأل الآلهة عما يفعلونه ليرفع غضبه عنهم فيجيبه الإله بأن سبب هذا الغضب إثم يدنس طيبة بدم الملك لايوس ولا مفر من غسل الدم بالدم، ويخبره بأن قاتله هو أوديب،
ثم يسوق القدر القاسي الحوادث بعضها إثر بعض، إلى أن يبين لأوديب الحقيقة التي سعى وراءها فإذا هو قاتل أبيه لايوس وإذا هو زوج أمه جاكوستا، وإذا هو أخو أولاده منها، ويثقل وقع الحقيقة على جاكوستا فتذهب إلى حجرتها هرباً منها، ثم يجدونها تتدلى في هوائها معلقة بحبل في عنقها، وقد ماتت مختنقة به، ويراها أوديب كذلك فيبلغ مصابه غايته، ويتنزع مشابك ثوبها الذهبية فيطعن بها عينيه ليبكيها بدموع من دم، ويزال الدم يسيل من عينيه إلى أن يذهبا وتنتهي بهذه الفجيعة تلك المسرحية، وقد تصرف الأستاذ توفيق الحكيم في نقلها إلى العربية ليجعل منها مسرحية توافق البيئة العربية الإسلامية، فلا تكون محض جبرية كما كانت في أصلها اليوناني بل لسعي أوديب في الوصول إلى الحقيقة أثر في مصيرها ليكون القدر فيها وسطاً بين الجبر والاختيار، كما قال أبو حنيفة: إني أقول قولاً متوسطاً، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط، والله لا يكلف العباد بما يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعلمون ولا عاقبهم بما لم يعلموا ولا سألهم عما لم يعلموا ولا رضى لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم والله يعلم بما نحن فيه وقد أصاب الأستاذ الحكيم في توجيه مسرحية أوديب هذا التوجيه ولكني أخالفه في أن أوديب سوفو كل بلغت الكمال الفني أوجه بعد مفخرة للذهن فهي ألاعيب كهان وثنيين لا يسمون إلى حقيقة القدر، لانه أسمى من أن يقدر هذه الألاعيب من أولها إلى آخرها ليلهو بها أولئك الكهان وينصبوا ويعزلوا بها ملوكهم ويوقعوا المصائب على شعوبهم وما كان أحرى الأستاذ الحكيم أن يوجه المسرحية إلى مشف هذه الألاعيب لتوافق البيئة الإسلامية موافقة كاملة ولتنتهي إلى تلك الفجيعة التي لا تستسيغها عقليتنا ولا ترى في قتل أوديب لأبيه من غير عمد ولا في زواجه بأمه من غير علم شيئاً يوجب هذا المصير المؤلم، كما لا يوجب ذلك الطاعون الذي أصاب أهل طيبة وهذا إلى أنهم لم يكن لهم يد في ذلك القتل.
وأين القدر في هذه المسرحية من القدر في أمر موسى وفرعون؟ ولعل هذه المسرحية مأخوذة من قصتهما مع الفارق الكبير بينهما فقد أراد القدر أن يربي فرعون موسى ليقتله من أجل غاية سامية، فلما أخبر فرعون كهنته بأنه سيقتل بيد مولود إسرائيلي عمد إلى قتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ولكن القدر الإلهي غلبه على أمره وجعله يربي ذلك الطفل الذي سيكون هلاكه على يديه ومع هذا لم يجعل هلاكه على يديه إلا بعد أن أعذر إليه
ليكون هلاكه عقاباً له يستحقه، ولاشيء من هذا كله في مسرحية أوديب وإنما هي ألاعيب كهان جهلة يستغلون جهل الشعوب ويلعبون كما يشاء لهم جهلهم بمصيرهم.