المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 815 - بتاريخ: 14 - 02 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨١٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 815

- بتاريخ: 14 - 02 - 1949

ص: -1

‌الرجل الذي فقدناه

مضى على استشهاد المجاهد الخالد محمود فهمي النقراشي باشا سبعة وأربعون يوما ولا يزال الأسى على مصرعه يلوع القلوب، والأسف على فقده يرمض الأنفس! وعهدنا بالحزن على الزعماء العظماء أن يشتعل أوسع ما يكون الاشتعال، ويخبو أسرع ما يكون الخبو. ولم يمت زعيم إلا اختلفت الآراء في تعيين مكانته، وتفاوتت الموازين في تقدير كفايته. حتى أبو الأبطال سعد، لم تتفق على سياسته الكلمة، ولم تجمع على عدالته الأمة، ولم يصلّ على جنازته الملك. ولم يكن النقراشي الذي ظفر من الشعب والحكومة والعرش بذلك كله قد أوتي ما أوتي مصطفى كامل وسعد زغلول من ذكاء القلب في الخاصة، وبلاغة اللسان في العامة. ولم يكن الوعي القومي الذي قدره هذا القدر، ووضعه هذا الوضع، وبكاه هذا البكاء، خامد الفطنة كليل البصيرة سلس المقادة، كذلك الوعي الذي افتتن بمصطفى واستقاد لسعد.

وعينا القومي اليوم غيره بالأمس. ولئن نضج في هذا العهد لقد تقلب على أطوار الطبيعة ككل كائن برعما أخرجه دفء الربيع ففتّقه أبو الثورة سعد؛ ثم كان ثمرة سواها حر الصيف فقطفها أبو النهضة النقراشي. فالوعي المصري في هذا الطور يتأثر بالفعل لا بالقول، ويستجّر ُللعقل لا للهوى، ويفاضل بالمنفعة لا بالعاطفة. ومن هنا كان حزن الأمة العميق الشامل على النقراشي الذي كان يعمل ولا يتكلم، ويحارب ولا يخطب، ويصارح ولا يداهي، وينتصر ولا يباهي، وينتصف ولا يجابي، ويقدم ولا يتردد، ويهجم ولا يخاف؛ لأنه كان مقتضى الحال الأليمة التي كانت عليها مصر يوم تولى أمرها. والمصلحون كالأنبياء يبعثهم الله حين يستشري الفساد ويضطرب الحبل ويستبهم الطريق. كانت الحكومة مترددة تريد الحازم، والسياسة مستكينة تريد الأبي، والشهوة متوقحة تريد النزيه، والأمة متحيرة تريد الدليل. والنقراشي شهد الله كان أقدر على تصريف الأمر بعين لا تكسرها ريبة، ويد لا تقصّرها جبانة.

كانت حياة النقراشي ملحمة، وكانت ميتته مأساة! وكما يكون بطل الملحمة عبقري الصفات في خيال الفنان، كان النقراشي عبقري الصفات في واقع الطبيعة. ولكن بطولته كانت نمطا من بطولة الرسل: قوة في الروح تقهر النفس، وقوة في الخلق تقهر الغريزة. ومن لوازم القوة الروحية الصفاء والوفاء والعفة والكرامة؛ ومن لوازم القوة الخلقية العزم والحزم

ص: 1

والنظام والصرامة. والصفات الأولى هي عناصر الشخصية الخاصة قي النقراشي الصديق والزوج والوالد؛ والصفات الأخرى هي عناصر الشخصية العامة في النقراشي المعلم والسياسي والحاكم. ومن أجل ذلك كان النقراشي هو الشهيد الوحيد الذي ترثيه بلسان الشعر فتؤثر، وترثيه بلسان المنطق فتُقنع. كانت حياته العاملة في سبيل وطنه وأمته، وموتته الدامية في طفولة ابنه وابنته، إلياذة مجد ألّف ختامها القدر من أنات هانئ وصفية وكتبها بدمه، كما ألف ختام الملحمة العلوية من صرخات علي وفاطمة وكتبها بدم الحسين!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌السري الرفاء

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

السري بن أحمد الكندي الموصلي المعروف بالرفاء من شعراء القرن الرابع الهجري النابهين.

نشأ في الموصل رفاء يرفو الثياب، وقد ذكر هذا في شعره إذ كتب إليه صديق يسأله عن حاله فأجاب بأبيات

منها:

وكانت الإبرة فيما مضى

صائنة وجهي وأشعاري

فأصبح الرزق بها ضيقا

كأنه من ثقبها جاري

يقول الثعالبي في يتيمة الدهر:

(ولم يزل السري في ضنك من العيش إلى إن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة واستكثر من المدح له فطلع سعده بعد الأفول، وبعد سيطه بعد الخمول وحسن موقع شعره عند الأمراء من بني حمدان ورؤساء الشام والعراق ولما توفى سيف الدولة ورد السري بغداد ومدح المهلبي الوزير وغيره من الصدور فارتفق بهم وارتزق معهم وحسنت حاله، وسار شعره في الآفاق، ونضم حاشيتي الشام والعراق، وسافر كلامه إلى خراسان، وسائر البلدان).

فهذا شاعر عاش في الشام والعراق في القرن الرابع، وشهد حلبة الأدب عند الأمير العربي الجواد الأديب سيف الدولة، واتصل بالوزير الأديب المهلبي في بغداد. فهو يمثل الشعر العربي في عصر من أندر عصوره، وفي أمجد أقطاره. ففي شعره مجال للأديب واسع، وقد صرف القول في فنون الشعر المعروفة في عصره، نافس كثيرا من شعراء زمانه. ولا يتسع حديثنا للقول في تاريخ السري الرفاء وشعره، فأكتفي بموضوعين.

الأول عداؤه للأديبين الموصليين الأخوين محمد وعثمان المعروفين باسم الخالدين، وهجاؤه إياهما بسرقة شعره وشعر غيره وتصريفه القول في غارتهما على الشعر، والولوع بذكر هذا في قصائد مدحه وهجائه. وإن صح ما رواه الثعالبي عنه فقد حملته العداوة على ما لا يحمل بالأدباء. يقول الثعالبي:

ص: 3

(ونابذ الخالدين الموصلين وناصبهما العداوة، وادعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم - وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب - وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالدين ليزيد من حجم ما ينسخه، وينفق سوقه ويغلي سعره، ويشنع بذلك على الخالدين ويغض منهما، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما، فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الأصول المشهورة منها وقد وجدتها كلها للخالدين بخط أحدهما).

فهذا مثل ادعاء السري على هذين الشاعرين سرقة الشعر. وأما هجائه إياهما بسرقة من أشعاره خاصة فقد افتن به افتتانا وردده في كثير من شعره وقد سلط الله عليه الثعالب جزاء وفاقا فعقد هذا المؤلف الكبير فصلا في اليتيمة لسرقات السري من الشعراء وأفاض القول فيها. واكتفى هنا بمثالين من شعره في هذا الموضوع:

كتب الخالديان إلى أبي إسحاق الصابي الكاتب المعروف أنهما قادمان إلى بغداد فأنشأ السري للصابي قصيدة أولها:

قد أظلتك يا أبا اسحق

غارة اللفظ والمعاني الدقاق

فأتخذ معقلا لشعرك تحميه

مروق الخوارج المراق

كان سن الغارات في البلد القف

ر فأضحى على سرير العراق

غارة لم تكن لسمر العوالي

حين شنت ولا السيوف الرقاق

جال فرسانها علي جلوسا

لا أضلتهم سيوف العناق

إلى أن يقول:

يالها غارة تفرق في الحو

مة بين الحمام والأطواق

تسمي الفارس السميدع بالعا

ر وبعض الأقوام عار باني

لو رأيت القريض يرعد منها

بين ذاك الإرعاد والإبراق

وقلوب الكلام تخفق رعبا

تحت ثنتي لوائها الخفاق

وسيوف الظلام تفتك فيها

بعذارى الطروس والأوراق

والوجوه الرقاق داوية الأبش

ار في معرك الوجوه الصفاق

ص: 4

لتنفست رحمة للخدود الس

مر منهن والقدود الرشاق

وله قصيدة أخرى فيها يخاطب أبا الخطاب والمفضل بن ثابت الضبي وقد سمع أن الخالدين يريدان الرجوع إلى بغداد، في عهد الوزير المهلبي يقول في مطلعها:

بكرت عليك مغيرة الأعراب

فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب

ورد العراق ربيعة بن مكدم

وعتيبة بن الحارث بن شهاب

أفعندنا شك بأنهما هما

في الفتك لا في صحة الأنساب

جلبا إليك الشعر من أوطانه

جلب التجار طرائف الأجلاب

فبدائع الشعراء فيما جهزا

مقرونة بغرائب الكتاب

شننا على الآداب أقبح غارة

جرحت قلوب محاسن الآداب

لا يسلبان أخا الثراء وإنما

يتناهبان نتائج الألباب

إلى أن يقول:

نظرا إلى شعر يروق فتربا

منه خدود كواعب أتراب

في غارة لم تنتظم فيها الضبا

ضربا ولم تند القنا بخضاب

تركا غرائب منطق في غربة

مسبية لا تهتدي بإياب

جرحى وما ضربت بحد مهند

أسرى وما حملت على الأقتاب

ويصف شعره بهذه الأبيات وهو كثير الإعجاب بشعره، مولع بالحديث عنه.

لفظ صقلت متونه فكأنه

في مشرقات النظم در سحاب

وكأنما أجريت في صفحاته

حر اللجين وخالص الزرياب

أغربت في تحبيره فرواته

في نزهة منه وفي استغراب

وقطعت فيه شبيبة لم تشتغل

عن حسنه بصبا ولا بتصابي

وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه

عبق النسيم فذاك ماء شبابي

يصغي اللبيب له فيقسم لبه

بين التعجب منه والإعجاب

جد يطير شراره وفكاهة

تستعطف الأحباب للأحباب

ثم يعود فيرثي لهذا الشعر الجميل الذي كتبه بماء شبيبته من قارة الخالديين فيقول:

أعزز علي بأن أرى أشلائه

تدمى بظفر للعدو وناب

ص: 5

أفن رماه بغارة مأفونة

باعت ظباء الروم في الأعراب

إني أحذر من يقول قصيدة

غراء خدني غارة ونهاب

هذا موضوع فكه طريف يستطيع الأديب أن يتناوله بالبسط والشرح ليبين عما بين السري والخالديين من عداء ويتعرف أسبابه، ويقضي فيما يدعيه السري عليهما من سرقة، وفيما أتهم الثعالبي به السري من دس لشعرهما في ديوان كشاجم، وعن الصلة بين أشعار هؤلاء الأربعة من شعراء القرن الرابع وما يتصل بهذا من قضايا أدبية خطيرة في ذلك العصر المزدهر.

ولم يقتصر إعداد السري بشعره واتهام الناس بسرقته على ما بينه وبين الخالديين، بل تناول غيرهما من الشعراء بهذه التهمة. ومن هؤلاء أبو العباس النامي الشاعر المعروف. قال السري عن النامي وادعى أنه كان جزارا:

أرى الجزار هجيني وولى

فكاشفني وأسرع في انكشافي

ورقع شعره بعيون شعري

فشاب الشهد بالسم الزعاف

لقد شقيت بمديتك الأضاحي

كما شقيت بغارتك القوافي

توعر نهجها بك وهو سهل

وكدر وردها بك وهو صافي

ويصف قصائده بأبيات يقول فيها:

جمعنا الحسنيين فمن رياح

منعبرة وأرواح خفاف

ثم يرجع إلى ذكر إغارة النامي على الشعر فيقول:

وما عدمت مغيرا منك يرني

رقيق طباعها بطباع جافي

معان تستعار من الدياجي

وألفاظ تقد من الأنافي

وشر الشعر ما أبداه فكر

تعثر بين كد واعتساف. الخ

وأما الموضوع الثاني من الكلام عن السري الرفاء فموعده المقال الآتي إن شاء الله.

عبد الوهاب عزام

ص: 6

‌وحدة الوجود

للأستاذ نقولا الحداد

هذا الموضوع طرح على بساط البحث في هذه المجلة منذ أكثر من سنة، وتناقش فيه بعض الكتاب وتشعبت آرائهم فيه في نواحي مختلفة، وما استقرت على نظرية واحدة. واليوم عاد الأستاذ عبد العزيز محمد الزكي يبسطه ثانية عارضا فيه نظرية طاغور الهندوكي. وهي على حد قوله حجر الزاوية في الديانة الهندوكية كالتوحيد في الإسلام (والنصرانية أيضا).

وقد أفاض الأستاذ عبد العزيز في الموضوع في ستة أعمدة من المجلة، ولكنه بكل أسف لم يعرفنا المقصود من (وحدة الوجود). ومعظم ما ورد في مقاله مبهم قلما يستقر الذهن فيه على معنى.

والذي فهمناه من الوجود إن للفلاسفة فيه قولين: وحدانية الوجود وثنائية الوجود ? أما وحدانية الوجود فقد وضحت في فلسفة اسبينوزا وفحواها إن الكون كل واحد، وان كان مكونا من أجزاء، وانه يشمل، أو بالأحرى إن الله يشملهم. وبحسب هذه الفلسفة يكون الله موجودا في كل جزء من الكون، أو إن كل جزء من الكون يعبر عن الله. وبهذا الاعتبار فالله موجود في كل مكان.

وكذلك العقل الذي يدرك الكون (عقل الله مثلا وعقل الإنسان المنبثق من عقل الله بحسب فلسفة المطران بركلي) هو جزء من الكون لا ينفصل عنه والكون لا يوجد بدونه، فإذا لم يكن العقل موجود فالكون لا وجود له، وأن زعمنا إن الكون موجود على كل حال، فبأي عقل يوجد؟ وأي عقل يدركه؟ ما لا يوجد في الإدراك أو في عقل مدرك، فلا وجود له

أما ثنائية الوجود، فقد وضحت في معظم فلسفة الفلاسفة، وهي أن الكون موجود منفصل عن الله وعن العقل الذي يدركه؛ مرتبتان أي الكون المادي هو الكون العقلي، والمقصود بالكون العقلي الله وما أنبثق منه من العقول. وبهذا المعنى يكون الله ذاتية قائمة بذاتها مستقلة عن الكون المادي، وإنما هو بحسب رأي اللاهوانيين حال في كل ذرى من مواد الكون المادي، ولكنه ليس منه البتة

فإذا للوجود كونان: كون مادي وكون عقلي أو روحي، وهذا ليس من ذاك بل هو يدركه.

ص: 7

ومعظم الفلاسفة ثنائيون يعتقدون بثنائية الوجود. ولا أدري أي النظريتين تتفق مع طاغور والديانة الهندوكية، وكذلك لا أرى أي النظريتين توافق النصرانية والإسلام. إن هذا يتوقف على ماهية الله. والله في اللاهوت المسيحي روح (لا مادة) أزلي (وأبدي سرمدي) خالق كل شيء (من العدم) وقادر على كل شئ، وموجود في كل مكان وكل زمان، وعالم بكل شيء). وأظن هذا التعريف مقبول في الإسلام. وبحسب هذا التعريف يوافق الرأي الثنائي الإسلام والنصرانية، لأن الوحدانية تستلزم أن يكون الله خاضعا للإدراك البشري. أعني يستطيع العقل الإنساني أن يبحث فيه ويحلله، كما يبحث في الذرة ويحللها، ويفهم مقاصده من غير وحي وإلهام. وهذا لا يوافق الإسلام ولا النصرانية.

وأما كيفية مطابقة (الوحدة) للعقيدة الهندوكية فلم نفهمها جيداً من بحث الأستاذ الزكي واقتباسه نظريات طاغور. فمثلا لا نفهم قوله إن الله حينما امتلأ بالسرور فاضت منه الخليقة، فالكون عند طاغور هي الصورة التيس يتجلى فيها سرور الله الخ)

هذا كلام يحتاج إلى تفسير مستفيض إن كان تفسيره ممكنا. ثم قوله: (إن الإنسان لم يحصل على كماله الروحي إلى عندما يتلاشى شعوره بذاتيته ويدمجه في كل ما حوله من كائنات. وبغير ذلك لم يدرك أحد حقيقة وحدة الوجود). كيف ذلك؟

وهناك فقرات كثيرة من هذا الطراز لا نفهمها. عذرا يا أستاذ!

وقد اتفق بطاركة الفلسفة الأولون - سقراط وأفلاطون وأرسطو - على إن الله موجود مع الكون السرمدي منذ وجد هذى الكون (إن كان لوجوده بداية)، ولكنه لم يخلقه وإنما هو يديره.

هذه العقيدة أقرب إلى المعقول من غيرها، وتطابق نظرية ثنائية الوجود إذا اعتبرنا الله مجموعة من النواميس الطبيعية وعلى رأسها ناموس الجاذبية، فأما إن تكون الجاذبية هي الله نفسه أو إن الله ورائها ممسكها بيده يدير بها عوالم الكون، لأنه بحسب العلم الطبيعي نرى الجاذبية موجودة مع الأكوان منذ الأزل ومنبئة في كل ذرة من ذرات العوالم المادية وجميع حركات الذرات والأقمار والسيارات والشموس والسدم - كل هذه تتحرك في (الزمكان)(زمان مكان) بقوة الجاذبية تتحرك كيمياويا وحيويا وميكانيكيا، هي قوة قصوى موجودة في كل زمان ومكان، ولكنها لم تخلق العوالم من العدم.

ص: 8

هذه النظرية ممكن أن تتفق نع وحدة الوجود ومع ثنائيته أيضا - وما أُتيتم من العلم إلا قليلا.

نيقولا الحداد

2 شارع البورصة الجديدة - القاهرة

ص: 9

‌عدل السماء

للأستاذ كامل محمود حبيب

أتذكر - يا رفيقي - يوم إن تخرجت في الجامعة، يوم كنت تدلُّ بقسامة الوجه ونضارة الصفحة، وتختال بصلابة العود وانفتال العضل، وتفخر بقوة الشباب ونشاط لحياة، وتعتز بالسعة في الرزق والإشراق في المستقبل، وتتيه بوظيفتك الحكومية على صحابك وذوي قرابتك، وتزهى بميراثك من أمك وقد اغتصبته من أبيك منذ أن تخرجت في الجامعة ضناً به عليه وعلى اخوتك من أبيك؟

وركبك الغرور والشيطان، فأنت في سعة من المال والعلم، وأنت في وظيفة تدر عليك ما يفيض عن حاجاتك، وأنت عزب تعيش في نوازع نفسك ورغبات قلبك، هي لا تكلفك كثيرا، فما تنزع بك إلى فاحشة، ولا تندفع بك إلى فجور. فقضيت سنوات منطوياً على نفسك، تبيت تحصى ما ادخرت، ثم تودعه درج مكتبك، أو مكتب البريد، فادخرت مالاً.

وجاءك أبوك - ذات مساء - يستعينك على أمره، وقد عصرته الحاجة، وجلس إليك في خلوة يحدثك بذات نفسه يقول (. . . . وأنت تعلم - يا بني - أنني قد ضربت بداء أعضل على الأطباء شفاؤه، وأنا بين الأطباء كالشاة يتجاذبها الذئاب ثم لا يلفظونها إلا رمة. وللطبيب أفانين طبية تبتز مال الفقير، وتستلب ثراء الغنى، ومن ورائه القانون يشد عضه حين يمسك بالمشرط، وحين يسك بالقلم؛ فأبتلع الطبيب والمرض في أشهر ما ادخرت في سنوات، وأولادي كثير بينهم الشاب والصبي والرضيع، وأخشى أن تكشفني الكواشف وأنا في قرية شيدت على البغضاء والشحناء، وبين أهل أنطبعوا على الحقد والضغينة والغل، يخفونها وراء ستار صفيق من الحب والمودة والإخاء، وهم بين صغير يتربص بالكبير أن ينحدر إلى الهاوية، وفقير يتمنى للغني أن ينهار إلى الحضيض؛ وإذا نزلت بواحد نازلة ابتسم الجميع في غل وشماتة، وتندروا به في سخرية وتشفي، ثم قال قائلهم - وهو في يسر وغنى - (آه، لو أستطيع أن أعينه على بلواه!) ثم يتوارى خيفة أن يعين قريبه بفضله من مال. . . . . وأنت، يا بني، رجل ذو مال، ولقد جئتك لتقرضني بعض مال أستر به ضعفي وحاجتي. وهذه (كمبيالة) بالمبلغ الذي أريده).

وكانت كلمات أبيك تتدفق أسى وحزنا، ونفسه تتقطر ذلة وانكسارا، وأحس وهو إلى جانبك

ص: 10

يحدثك حديث حاجته أنه ينحط بكرامته وينزل عن كبريائه، وكانت سلوته انك أنت ابنه وله عليك حق. ولما أتم حديثه نظرت إليه في ترفع وصلف ثم قلت:(يا أبي، إن حاجات المدينة لم تدع لي وفرا من المال، وأنا لا اعرف من استقرضه لأدفع لك ما تريد)!

آه، يا قلبي! لقد أحس أبوك بالضعة حين رآك تستعلي عليه، وشعر بأن كلماتك الجاسية تصفعه صفعات قاسية متتالية، وأراد قلبه أن يبكي حسرة وكمدا، ولكن الدوار كان قد غلبه، فترنح حينا ثم سقط بين يديك. . . سقط فما رق قلبك ولا اضطربت نفسك!

وخرج أبوك من لدنك وهو يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن. . . ماذا قال؟ ليت شعري! هل كان يستنزل سخط السماء على ابنه العاق؟!

وعاود المرض يعركه عركا شديدا من أثر فظاظتك وخشونتك، وألح عليه السقام فما تركه حتى مات. . . مات أبوك لأنك أنت فقدت إنسانيتك ورجولتك، ولأنك نسيت أنك أبن أبيك!

وظن اخوتك الصغار أنك الأخ الأكبر، وأنك أنت الأب بعد أبيهم، ولكنك كنت قد وجدت في قلبك حلاوة المال ولذة المدينة، فانطويت عن القرية، وابتعدت عن أهلك وأقاربك، ثم انطلقت تنعم بالحياة، وتتلذذ بالرخاء، وترتاح إلى الوفر، واخوتك في القرية يتنازعهم شظف العيش، وجفوة الحياة، وغلظة الأهل، وقسوة الأقارب، فعشت أنت وعاشوا: وما تبض كفك بدرهم وما ينبض قلبك بعاطفة!

وتماديت في قسوتك، فرحت تفزع الطير الآمن عن عشه: هذه دارك ودار أبيك، تقاسمتماها على سواء، لأنها ميراثكما من أمك ن وهي عش اخوتك الوحيد، منذ أن ولد كبيرهم. وها أنت تصر عليه أن يدفعوا أجر نصيبك من الدار التي يسكنون. وأصررت وأصرت المحكمة الحسبية. ثم وافقت المحكمة الحسبية - بعد لأي - أن تباع الدار في مزاد علني، فاشتريتها أنت، اشتريت نصيب أبيك (المرحوم) لأنك تجد المال، ثم قذفت باخوتك خارج الدار، لأنك لا تجد الإنسانية، وأفزعت الطير الآمن من عشه، وهو قد اطمأن إليه منذ سنوات وسنوات. وجاءت زوجة أبيك وابنها الأكبر - أخوك - يسألانك المهلة والرفق، فما أعرتهم أذنا صاغية!

ونسيت أن زوجة أبيك قد كفلتك طفلا، وإنها كانت أحنى الناس ضلوعا عليك يوم أن اصطلحت عليك العلل وأنت صبي، وحين قرر الطبيب أن المرض معد تحاماك كل

ص: 11

أقاربك، حتى عمتك رفضت أن تدخل الحجرة التي عزلت فيها خشية أن يصيبها ما أصابك! أما زوجة أبيك فقد قضت أربعين يوما تقدم لك الطعام وتؤاكلك وتجلس معك وتداعبك وتخفف عنك وعكة المرض وقسوة الوحدة، وأبوك ينضر ويبتسم لما يرى من عطفها عليك، وهو يشعر براحة القلب وهدوء البال من أثر ما تفعل. ستقول أنها فعلت لتكسب رضاء أبي ومحبته، ولكنها تحملت - يا رفيقي - في سبيلك ما ضن به أقرباؤك عليك!

ونسيت إن من بين أخوتك من كان يحمل إليك الزاد من القرية لا تزعجه وعثاء الطريق ولا يصرفه عناء السفر، ومن كان يفرج أزمتك وأزمات الطالب لا تنتهي، ومن كان يخفف عنك متاعب الحياة ومصاعب الدرس؟!.

نسيت كل ما كان وأصررت على أن تفزع الطير الآمن عن عشه!

لقد ركبك الغرور والشيطان فتماديت وتماديت، لا ترتدع من دين، ولا تفئ إلى خلق، ولا تسمو إلى إنسانية، ولا تترفع عن مادية. وتململت السماء من وحشيتك فأرادت أن تنتقم من أرضيتك!

يا لله، لقد ضل هذا الفتى حين ركبه الغرور والشيطان فغشي بصره، وشغل عن سواء السبيل، وغفل عن إن في السماء عقاب لا يمهله. . . فماذا كان؟

آه - يا رفيقي - لقد بدأت الروحانية تنتقم منك - أول ما بدأت - في أسلوب حلو جميل، تتضوع من ريح المطر واللذة والسعادة والمال. كان ذلك حين طرقت باب (فلان بك) تخطب إليه ابنته، فما تمهل وما تعوق، وحين زفت هي إليك في ثوبها الأبيض الناصع الجميل، تتألق في ثلاثة منابع من النور: نور وجهها المشرق الجذاب، ونور جواهرها الوضاءة المتلألئة، ونور الكهرباء المتناثرة في المكان؛ وحين جلست إلى جانبك على عرش الورد، والموسيقى ترسل أنغامها الشجية الأخاذة، فتملئ المكان نشوة وطربا. . . حين ذاك نسيت أنك أنت!

ثم مات (سعادة البك) فطرت أنت فرحا، وقضى الناس ليلتهم في حزن ونواح، أما أنت فانزويت في ناحية تحدث نفسك حديث الثراء الذي ورثته زوجك من أبيها ليكون ملكا لك، وسيطرت عليك النشوة فسلبتك وقارك، فرحت تنشر ذات نفسك على رفاق من رفاقك!

ص: 12

وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى جاء الدائن يجر الدائن. . . يستوفون ديونهم من ميراث (سعادة البك)، وجلس الكاتب يكتب والحاسب يحسب، فإذا سعادة البك لا يملك ما يسد به دينه، وإذا أنت صفر اليدين. ولكن ابنة (البك) ما تزال هي!

ومرت الأيام وابنة (البك) لا تستطيع أن تكون زوجا لك، فهي في أبهتها وكبرياءها لا تنزل عن حاجة من حاجاتها، وترفعت - بادئ ذي بدئ - عن يبدو عجزك أمامها، فهل استطعت أن تشبع رغباتها وهي تنطلق كل ليلة إلى ضجة الحياة الليلية: تهفو إلى السينما، وتسعى إلى المسرح، تصبو إلى الخمر، وتحن إلى القمار، ثم هي لا تصبر على الدار، لأنها تحب الشارع، وفي الشارع أساليب من الحياة تنزع عنها الملل والضيق؟ هذا المال الذي ضننت به على نفسك وعلى أبيك، وبخلت به على اخوتك وأهلك، ينسرب اليوم من بين يديك في غير مهل ولا روية؛ فأنفقت في يوم غلة شهر، وأنفقت في شهر غلة سنة، وأنفقت في سنة ما ادخرت منذ تخرجت في الجامعة؛ ثم امتدت يدك إلى ميراثك تبعثره، وما هو بكثير!

ثم أسقمك السهر وأضناك التعب وعلقت بك الخمر وشغفت بالميسر. . . ومرت سنة أخرى، فإذا ميراثك كله - وهو عشر فدادين فحسب - قد تبدد وتناثر!

وهكذا - يا رفيقي - لم يبقى لك سوى راتبك الحكومي، وأنت بين أدواء ثلاثة: الخمر والميسر والزوجة. . . وسوّل لك الشيطان - مرة أخرى - فركبك الدين والدائن معا!

وفقدت صحتك ومالك، فتراءيت في نظر زوجك شبحا لا تستطيع أن تكون رجلا، فأخذت تنظر إليك شزرا وتحدثك في احتقار، تمتهن قولك، وتزدري رأيك، وتسخر من جهلك، وتتطاول عليك تثلبك وتثلب أهلك. . . ثم. . . ثم طارت عنك مع واحد من ذوي الثراء، لتذرك على فراش المرض وحيدا، تلتهمك هموم المرض والدين!

والآن. . . هل تذكر تاريخك؟ لقد عجمتك الخطوب، وراضك الزمن، ولكن بعد أن توزعتك الأحداث، وعصفت بك الأحزان، ولزمك المرض والفقر؛ فأنت هيكل يتهادى في مزق بالية، تقتحمك الأعين، وتعافك الأبصار!

يا عجباً، لقد كنت منذ سنوات تدل بمالك وصحتك وعقلك، فتعاليت على أهلك وأقاربك. والآن حين ضربك الفقر والمرض والذهول، ذهبت تستجدي عطفهم ولكن. . .

ص: 13

ونظرت الأعين في عجب، وابتسمت الشفاه في سخرية، وتشفَّْت القلوب في صمت، وقال قائلهم:(ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلا يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حمقك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)

ليت شعري هل كان أبوك يستنزل سخط السماء على ابنه العاق حين كان يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن؟!

كامل محمود حبيب

ص: 14

‌القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب

‌الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 2 -

كان عدد الجيش المصري في ذلك العهد عظيما ضخما؛ ففي أيام الفائز الفاطمي استعرضت عساكر القاهرة، فكانت نحو خمسين ألف مقاتل، وكان بمراكبه عشر مراكب مشحونة بالرجال والسلاح، وهذا مع تلاشى أمر الخلفاء الفاطميين، وضعف شوكتهم. وقال المقريزي في الخطط (ج1 ص 138) ورأيت بخط الأسعد بن مهذب بن زكريا بن مماتى الكاتب المصري: سألت القاضي الفاضل عبد الرحيم: كم كانت عدة العساكر في عرض ديوان الجيش لما كانت سيدنا يتولى ذلك في أيام رزيك بن صالح؟ فقال أربعين ألف فارس ونيفاً وثلاثين ألف راجل من السودان، مما يدل على أن مصر كان في استطاعتها رد الصليبيين بجيوشها، لولا ظروف أخرى عرضناها فيما مضى.

فلما انقضت الدولة الفاطمية واستولى على الأمر صلاح الدين عنى بأمر الجيش عناية كبرى ليحقق أهدافه ومشروعاته. قال القاضي الفاضل في متجددات سنة سبع وستين وخمسمائة ومشروعاته في ثامن المحرر (أي قبل القضاء على الخلافة الفاطمية بيوم واحد، ولعل لهذا العرض مغزى سياسيا آخر يرمى إليه صلاح الدين) خرجت الأوامر الصلاحية بركوب العساكر قديمها وجديدها، بعد أن أنذر حاضرها وغائبها وتوافى وصولها، وتكامل سلاحها وخيولها، فحضر في هذا اليوم جموع شهد كل من علا سنه أن ملكا من ملوك الإسلام لم يحز مثلها؛ ولم يتكامل اجتياز العساكر موكبا بعد موكب، وطلبا بعد طلب (والطلب بلغة الغز هو الأمر المقدم الذي له علم معقود وبرق مضروب وعدة من مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسا) إلى أن انقضى النهار، ودخل الليل، وعاد ولم يكمل عرضهم وبلغت عدة عساكره بمصر اثني عشر ألف فارس، فلما مات افترقت من بعده، ولم يبق بمصر مع الملك العزيز عثمان سوى ثمانية آلاف فارس وخمسمائة، إلا إن فيهم من له عشرة اتباع وفيهم من له أكثر من ذلك إلى مائة تبع لرجل واحد من الجند؛

ص: 15

فكانوا إذا ركبوا مظاهر القاهرة يزيدون على مائتي ألف.

واستكثر الصالح أيوب من شراء المماليك حتى كان عددهم في معركة المنصورة عشرة آلاف. ولما قامت دولة المماليك الأتراك حذوا حذو مواليهم بنى أيوب، وبلغت عدة جند بيبرس اثني عشر ألفا، ثلثها بمصر، وثلثها بدمشق، وثلثها بحلب، فإذا غزا خرج معه أربع آلاف يقال لهم جيش الزحف، فإن احتاج استدعى أربعة أخرى، فإن اشتد به الأمر استدعى الثالثة. وكان في خدمة قلاوون من المماليك اثنا عشر ألفا كذلك، وكذلك كانت عدة مماليك ولده الأشرف خليل بن قلاوون

والظاهر أن ذلك كان عدة الجيش النظامي، وفي غير وقت النفير العام. أما الجيش في الحملات الحربية، وعند النفير العام، فإن عدده ما كان يقف عند هذا الحد، فكان جيش قلاوون في معركة حمص التي هزم فيها المغول يبلغ خمسين ألف مقاتل؛ وكان في الحملة التي بعث فيها قلاوون إلى بلاد النوبة سنة 688 أربعين ألف راجل. قال لين بول: احتفظ بيرس باثني عشر ألف جندي نظامي دائم، وهذا بخلاف الاحتياطي من العرب والمصريين، وما تقضي به الظروف من تجنيد الطبقات من المجندين. وفي المعارك الكبرى كان المتطوعون يقدمون من كل فج حتى ليزيد عددهم عن الجند المقيدين. قال صاحب النجوم الزاهرة (ج8 ص 5): اجتمع مع الأشراف خليل علي عكا من الأمم ما لا يحصى كثرة، وكان المطوعة أكثر من الجند ومن في الخدمة.

وهذا الجيش الضخم هو الذي استطاع بمثابرته أن يرد جحافل التتار، وأن يطرد الفرنج من الديار.

ولا غرابة أن تبلغ العناية بأمر الجيش ذروتها في العهد الذي هاجم الغرب فيه الشرق، ووقفت فيه مصر والشام تدافعان عن كيانهما الصليبيين والتتار. وإذا كانت العناية بأمر الجيش في آخر عهد الفاطميين قد وجهها الوزراء إلى ناحية الاحتفاظ بمراكزهم، فإن نور الدين محمود بن زنكي، وأمراء المقاطعات السورية في عهده قد عنوا بجيوشهم وأبلوا البلاء الحسن في حرب الصليبين. ولو إن مصر والشام كانتا متحدتين في يد قوية، ما استطاع الصليبيون تثبيت أقدامهم في الشام. وفي عهد صلاح الدين عنى به عناية فائقة وارتقى فن الحرب في عهده وعهد نور الدين من قبله، وما كان يغفلان يوما عن تقوية

ص: 16

جسمهما بالرياضة البدنية. وفي عهد الصالح أيوب بنى لمماليكه بجزيرة الروضة قلعة جهزها بكثير من الأسلحة والآلات الحربية والأقوات، وأسكنهم فيها، وجعل حول تلك القلعة شواني حربية مشحونة بالسلاح معدة لقتال الفرنج إذا طوقوا البلاد. وعنى الظاهر بيبرس بالجيش وإعداده وتمرينه على الأعمال الحربية، وكان ذلك من أهم ما شغله طوال أيام حكمه، حتى اتسم عصره بسمة الجد وشاعت فيه روح الجندية، فكان عندما يئوب من الحرب لا يدع جيشه للراحة والسأم بل يدربه على الأعمال الحرب، ويستعرضه في الحين بعد الحين ليرى أينقصه شيء؟ وكثيرا ما اشترك هو وابنه الملك السعيد في مناورات الجيش وكان موضع الإعجاب والتقدير، وعنى بيبرس بالحياة الخلقية لجنده فحرم عليهم الفسق وشرب الخمر ونودي يوم عيد الفطر وبيبرس والجند على باب صفد: من شرب خمرا أو جلبها شنق ولم تقل العناية بالجيش في عهد قلاوون الذي كان يخرج غالب أوقاته في مواعيد الطعام للمماليك ويأمر بعرضه عليهم، ويتفقد لمهم، ويختبر طعامهم في جودته ورداءته فإن رأى فيه عيبا اشتد على المشرف وإلا استدار ونهرهما، وحل بهما منه ما يكرهان. والزم المماليك الإقامة بقلعة الجبل لا يبرحونها ولكن يظهر أنه لم يكن كبيبرس في شدة تزمته، بل أباح لجنده اللهو البريء، فبينما كان الغناء كالمحرم في عهد بيبرس إذا بنا نرى طائفة من الجند قادمة لقتال على رءوسهم البيض مقلدين سيوفهم وبأيديهم الرماح وأمامهم العبيد تميل على الركائب وترقص بتراقص المهارة، وبأيديهم الجنائب وورائهم، الضعائن والحمول، ومعهم مغنية تعرف بالحضرمية سافرة في الهودج وهي تغني:

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة

ليالي لا قينا جذام وحميرا

ولما لقينا عصبة تغلبية

يقودون جردا للمنية ضمرا

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنهم كانوا على الموت اصبرا

وفي عهد ابنه الأشرف عنى بالجيش، ليضرب الفرنج الضربة القاضية، وسمح لمماليكه بمبارحة القلعة نهارا على أن لا يبيتوا في غيره

(يتبع)

أحمد أحمد بدوي

ص: 17

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 18

‌أحرف القرآن

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

كان حق هذا المقال أن يسبق مقالات القبائل والقراءات ولكني أخرته عن عمد فلما رأيت من تعرض له ومن كتب من المحدثين فيه ومن استفهم عن معانيه كتبت هذا المقال.

معلوم لكل إنسان إن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ولا في مكان واحد بل نزل منجما في ثلاثة وعشرين عاما بمكة والمدينة وما حولهما؛ وكانت الآيات ينزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاها المؤمنون من فم الرسول ويكتبها من عرفوا أنهم كتاب الوحي كما يمليها عليهم الرسول الكريم. وكان الإسلام في مكة محدود الأشخاص فلما هاجر النبي إلى المدينة اتسعت رقعة الإسلام وكثر عدد الداخلين فيه من قبائل مختلفة ولهم عادات صوتية تخضع لها ألسنتهم وتتحكم في ألفاظها، فكان من سماحة الإسلام أن يترك الألسن على سجيتها من إمالة وتفخيم وما شابه ذلك من طريقة أداء اللفظ بنغمة تخضع لها عادة الإنسان اللغوية حيث لا يمكنهم أن ينسلخوا منها بسهولة.

وهذه الإباحة أرشد لها الحديث المرفوع، اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وفهمت من أن الرسول قرأ فأمال (يحيى) فلما سئل في ذلك قال هذه لغة الأخوال بني سعد.

أما حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف فلم يكن مقصود به اللهجات التي هي عادة لغوية تتحكم في عضلات النطق. وكل توجيه لهذا الحديث على انه يراد به لهجات القبائل، إنما هو توجيه خاطئ أو هروب خاطئ من معناه الحقيقي الذي تظاهره جميع الروايات الصحيحة لهذا الحديث

وآخر ما قرأته متعلقا به هو ما جمعه من عدة كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة في كتابه القراءات واللهجات وما حمله عليه الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه اللهجات العربية متبعا في ذلك رأياً لبعض العلماء - ولي نقد على كتابيهما أرجو أن انشره في الرسالة إنشاء الله - وقد كنت أحسبهما سيطلعان علينا في هذا الحديث - وهما أستاذان مساعدان في الجامعة - ولهما على أستاذية - بالرأي الواضح المستقيم، ولكن الأستاذ حمودة كانت مهمته عرض آراء ومحاولات التوفيق بينها دون أن يكون له مجهود يذكر.

والدكتور أنيس أختار أشهر التأويلات باعتبار أن الأحرف هي اللهجات كالإمالة والتسهيل

ص: 19

مع أنها في الحقيقة أضعف التأويلات وينافيها سياق الحديث. وقبل شرح المقصود منه أرى أن أربط بين الحوادث والأحاديث حتى يستقيم الفهم ويتبين الموضوع.

زمن الحديث:

لم أجد - على الرغم مما قرأت - من ذكر العام ولو على وجه التقريب الذي قيل فيه هذا الحديث فرأيت أن أراجع طرقه ورواته من الصحابة ومن ذكروا فيه، وظروفه فتبين لي ما يأتي:

1.

ليس هناك شك في أن الحديث كان بعد الهجرة لأن فبه من الصحابة الذين رووه أو وقعت معهم الحادثة. أبا بن كعب وزيد بن ثابت وأم أيوب وهؤلاء أنصار من أهل المدينة.

2.

إن هذا الحديث كان بعد العام الثامن للهجرة للأسباب الآتية.

(أ) من رواته أبو هريرة وقد أسلم سنة سبع للهجرة.

(ب) من رواته عمر بن العاص وقد أسلم سنة ثمان من الهجرة.

(ج) ممن ذكروا في طرق الحديث زيد بن ثابت على أنه أقرأ غيرهم، وزيد بن ثابت كانت سنه حين قدم الرسول المدينة أجد عشر عاما، ولا يكون زيد مقرئا لغيره إلا بعد أن يتجاوز حد الحلم وعلى أقل تقدير تكون سنه ليؤخذ عن القرآن في عهد الرسول سبعة عشر أو ثمانية عشر عاما.

(د) من رواة الحديث ابن العباس وهو قد ولد قبل الهجرة بثلاثة أعوام ولا يشترك في الرواية ولا يهتم بها إلا بعد أن يتجاوز العاشرة من عمره على الأقل ولا يتجاوزها إلا بعد سنة سبع للهجرة.

(هـ) وأقوى دليل وأثبته أن النزاع في القراءة بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم وقد أسلم هشام يوم فتح مكة وكان فتحها في العام الثامن الهجري أو في أواخر رمضان ولم يرجع الرسول إلى المدينة إلا في ذي الحجة فعلى أقل تقدير يكون الحديث في أوائل العام التاسع الهجري

(و) من الذين رووا الحديث من الصحابة أبو بكر نفيع ابن الحارث وقد أسلم في حصار الطائف، وقد كان ذلك في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من العام الثامن الهجري.

(ز) يضاف إلى هذه الأدلة القاطعة أن الحكمة التي قصدها الإسلام من الحديث والتي

ص: 20

ستظهر لنا بعد الشرح كان وقتها المناسب حينما كثر المسلمون كثرة تجعل من العسير الإشراف عليهم جميعا ولم يكثروا إلا بعد فتح مكة.

وإذن لقد هاجر رسول الله واتسعت دائرة الإسلام وكثر الأتباع وقد مضى عليهم ثلاثة عشر عام في مكة وثمانية أعوام في المدينة يقرءون بعادتهم اللغوية فلم يصل إلينا إن بعضهم أنكر على بعض في القراءة أو شكى بعضهم في تلاوة الآخر. نعم لقد مضى على الإسلام والقرآن في مكة ثلاثة عشر عاما نزلت فيها بضع وثمانون سورة ثم ثمانية أعوام في المدينة نزل فيها كثير من السور فما حدث خلاف بينهم مع إسلام كثيرين ممن لهم لهجات مختلفة من إمالة وتسهيل وغير ذلك وما أتانا خبر عن تنازعهم الذي أدى إلى أن يلبب عمر هشام بن حكيم بردائه وهما قريشيان لهجتهما واحدة ويذهب به إلى الرسول ليستقرئه والى أن يدخل الشك في قلب عمر فيقول الرسول ثلاثا: أبعد شيطانا. وأن يدخل قلب أبى بن كعب من التكذيب ولا إذ كان في الجاهلية فيضرب الرسول صدره فيتصبب عرقا. . .

العرب أمة أمية أغلبهم لم يقرأ كتابا قط ومنهم - كما في الحديث - الشيخ الفاني ومنهم الغلام ومنهم العجوز الكبيرة وهؤلاء تعجز ذاكرتهم عن الحفظ الوثيق وبخاصة القرآن قد كثرت سوره وتعددت آياته والرغبة الدينية في النفوس قوية يحرصون على قراءة القرآن فلا تنزل آية إلا بادروا إلى استماعها وتلقيها. ولكن ما يكادون يمر علهم زمن حتى يشتبهوا أن يكونوا هذا اللفظ أو مرادفه هو المنزل وأكثرهم لم يكتبوه لأميتهم فيرجعوا إلى الرسول والى من كتبوه يستعيدون ما تلقوه ويتكرر ذلك والرسول يشهد ما هم فيه من معاناة وما يبذلوه من جهد، ويعلم - كما قال لهم - أن القرآن أشد انفلاتا من الإبل في عقلها ورأى أفراد الأمة بعد فتح مكة قد كثروا. فمن يرعاهم إذا اختلفت ألفاظهم ومن يردهم إذا نقصوا أو زادوا.

والرسول كما قال الله فيه بالمؤمنين رءوف رحيم يسعى إلى تخفيف عن الأمة ولا يريد أن يشق عليها فقد سأل الله من قبل أن يخفف عنهم الخمسين صلاة حتى صارت خمسة صلوات في اليوم والليلة. فلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله يسأله التخفيف عن أمته والرحمة بها (إني بعثت إلى أمة أميين منهم الغلام والخادم والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة) (فأتاه جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد فقال

ص: 21

الرسول أسأل الله معافاته ومغفرته سل الله لهم التخفيف فأنهم لا يطيقون ذلك فأنطلق جبريل ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين قال الرسول أسأل الله معافاته ومغفرته رب خفف عن أمتي فأنهم لا يطيقون ذلك فانطلق جبريل ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على ثلاثة أحرف فقال أسأل الله مغفرته ومعافاته إنهم لا يطيقون ذلك سل الله لهم التخفيف فانطق ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة).

لقد جاءت رحمة الله وصدر الإذن بأن يقرأ القرآن بحروف مختلفة والسبعة لا مفهوم لها بل هي دليل للكثرة يعلمه جبريل الحروف وهي الألفاظ وأداء الجملة - كما تؤيد ذلك اللغة - على شريطة ألا يتغير المعنى ولا يختلف السياق فبدأ الرسول يلقن الصحابة ما انزل الله عليه، هذا يلقنه الآية بألفاظ وذلك يلقنه الآية بالألفاظ مع اختلاف في بعضها وإن كان المعنى واحدا. لقنه كل هذا جبريل بأذن من الله العزيز الحكيم (فأيما واحد أصاب من ذلك حرفا فهو كما قرأ)

فغدا المسلون وقد حفظوا ما لقنهم فدخل عمر بن الخطاب المسجد فسمع هشام بن حكيم وهو قريشي مثله يقرأ سورة الفرقان بخلاف ما لقنه الرسول فكاد يساوره في الصلاة فصبر حتى أسلم فلما أسلم لببه بردائه وقال له من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها قال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذبت فو الله أن رسول الله لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها فأنطلق يقوده إلى الرسول فقال يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان فقال الرسول أرسله يا عمر اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعه عمر يقرأها فقال الرسول هكذا أنزلت ثم قال الرسول أقرأ يا عمر فقرأ القراءة التي أقرأها الرسول فقال الرسول هكذا أنزلت فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه فضرب صدره وقال أبعد شيطانا أبعد شيطانا أبعد شيطانا ثم قال يا عمر إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأقرءوا ما تيسر منها إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاب أو عذاب رحمة)

ص: 22

وإذا في صلاة أخرى كان أبي بن كعب في السجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرها عليه ثم دخل رجل آخر فقرأ قراءة غير قراءة صاحبة وقال كل منهم إن الرسول أقرأه ذلك فدخلوا جميعا على الرسول فقال أبي يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه فأمرهما فقرأ فحسن شأنهما فوقع في نفس أبي من التكذيب ولا إذا كان في الجاهلية فلما رأى الرسول ما غشيه ضرب في صدره ففاض عرقا كأمنا ينضر إلى الله فرقا ثم قال له الرسول يا أبي أرسل إلى أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن أهون على أمتي. . . الخ الحديث).

‌وضل الأمر كذلك وعرف كثير منهم السبب في

‌الاختلاف والحكمة الإلهية ولكن مازال بعض

‌الصحابة يذهبون إليه يشكون فهذا رجل جاء إليه فقال

‌أقرأتني عبد الله بن مسعود سورة اقرأنيها زيد بن

‌ثابت واقرأنيها أبي بن كعب - وزيد وأبي أنصاريان

‌خزرجيان نجاريان - فاختلفت قراءتهم فبقراءة أيهم

‌آخذ فسكت الرسول وعلىٌّ إلى جنبه فقال علي ليقرأ

‌كل إنسان كما علم كل حس جميل). ثم مازال بعض

‌الناس يختلف ويشكو فهذان رجلان اختلفا في القراءة

‌فقال هذا أقرأني النبي وقال هذا أقرأني النبي فأخبر

‌بذلك فتغير وجهه ثم قال اقرءوا كما علمتم إنما أُهلك

ص: 23

‌من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم فقام كل رجل

‌وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه).

هذا في الواقع هو ربط الأحاديث والتوفيق بينها وتلك مقتضيات ظروفها وملابساتها تؤيدها الروايات المختلفة والطرق المتعددة وليس فيها من التعنت أو الفهم الخاطئ شئ؛ وقد أشار إلى كثير منها أجلة العلماء السابقين من أعلام الإسلام وأن كانوا لم يوضحوها كمال التوضيح.

فليست المسألة مسألة إمالة وتفخيم وترقيق إذ يناقض فهم أنها لهجات لفظ الحديث لأبي بكرة (كقولك هلم وتعال وأقبل) وقول أنس بن مالك خادم رسول الله حينما قرأ (وأصوب قيلا) فقال له بعض القوم يا أبا حمزة إنما هي أقوم فقال أقوم وأصوب وأهدى واحد.

وقول ابن شهاب ولعله الزهري: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام.

وقول الطبري: فقد أوضح نص هذا لخبر أن اختلاف الأحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ كقولك هلم وتعال باتفاق المعاني لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام.

وقول عبد الله بن مسعود (فإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال. وهذا كله يبين لنا السر في بعض الاختلاف اللفظي في قراءة بعض القراء بالنسبة إلى غيرهم.

حفظ القرآن:

أما حفظ القرآن فيرجع إلى ما يأتي:

أولا: أن جبريل كان يدارس الرسول القرآن كل عام مرة ودارسه في العام الذي قبض فيه مرتين فكان هذا تعهدا للنصوص.

ثانيا: إن كتاب الوحي كانوا يكتبون نص ما ينطقه الرسول ولا يعتمدون على الحفظ فحسب.

ثالثا: إن سيدنا أبا بكر حينما وافق على جمع القرآن كان زيد ابن ثابت يجلس أمام المسجد وهو يحفظ كتاب الله ولكنه يتلقى من الصحابة ما كتبوه على أن يشهد شاهدان أن فلانا هذا

ص: 24

سمع هذه الآية من فم الرسول وإن هذا المكتوب هو نفس ما سمعه وانه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع كل هذا الذي شهد عليه لا غير وحفظ هذا المصحف إلى خلافة عثمان فكثر اختلاف الناس في القراءات وكادوا يقتتلون فجمع الناس على مصحف واحد نسخوه من المصحف الذي عند حفصة وكان الناسخون هم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن حارث المخزومي (وقد تركوا ما خالف المصحف الموجود في زيادة أو نقص وإبدال كلمة أخرى بأخرى مما كان مأذونا فيه توسعة عليهم ولم يثبت ثبوتا مستفيضا انه من القرآن) ثم أمر سيدنا عثمان ووافقه المسلمون حرصا على وحدة الأمة وجمعا لكلمتها وخشية أن يدخل في القرآن ما ليس منه فأحرقت جميع المصاحف الأخرى التي لا تتفق مع المصحف الإمام. وإذن فقد أصبحت هذه المصاحف التي اجمع عليها المسلمون هي التي يعول على رسمها في القراءة أضيف إليها شرط صحة سندها وان توافق العربية ولو بوجه من الوجوه واعتبر ما عدا ذلك شاذا فما خالف اللغة العربية باطل من أساسه وما خالف الرسم العثماني شاذا تعبدا حيث خالف اجمع الأمة مع صحة سنده وما لم يصح سنده شاذ حيث لا دليل على قرآنيته. والوقع إن ما يخالف الرسم العثماني قد هجره العلماء السابقون فأنقطع سنده فأصبح مشكوكا في كونه من السبعة فبعد عن أن يكون قرآناً تصح به الصلاة والعبادات وشرط التعبد بالقرآن أن يكون متصل السند صحيح الرواية مقطوعا بقرآنيته.

أما الآراء التي تقول إن السبعة الأحرف هي حلال وحرام وترغيب وترهيب. . . أو أنها محكم ومتشابه وقصص وأمثال أو إنها أمر ونهي. . . الخ فكلها آراء بالغة الضعف لا تستند على أوهى دليل. ولعل في ما كتب تبيانا وتوضيحا سليما مقبولا من كل وجه والله أعلم بكتابه وهو بكل شيء عليم.

عبد الستار أحمد فراج

محرر بالمجمع اللغوي

ص: 25

‌في التقريب بين اللغتين

للأستاذ محمود أحمد الغمراوي

قرأت في الأهرام كلمتين في التقريب بين اللغتين: أولهما لعبد الحميد عمر أفندي بمحكمة النقض، وثانيها لأحمد عبد الطيف بدر أفندي المدرس ببور سعيد؛ وقد تضمنت الأولى دعوى موجهة إلى الخاصة أن يتركوا اللغة العربية الفصحى وأن يستبدلوا بها في مخاطباتهم ومكاتباتهم ما يستعمله العامة في مخاطباتهم من الجمل والكلم، فيستعملوا مثلا جملة (حضروا الرجال) التي تجري على ألسنة العامة بدلا من (الرجال حضروا) إذ لا مانع عنده من ذلك ما دام مثل هذا الاستعمال قد ورد في التنزيل الحكيم في قوله تعالى (وأسروا النجوى الذين ظلموا) سورة الأنبياءـ وفي قوله تعالى (ثم عموا وصموا كثير منهم) في (سورة المائدة لا العنكبوت) كما قال؛ وقال أنه لا يهمه الاختلاف في أوجه الإعراب في الآيتين ما دامت العبرة في الاستعمال، وليس بعينه أن يكون (الذين ظلموا) في الآية الأولى فاعلا أو بدلا أو غير ذلك. وكذا لا يعنيه ما يقال في الآية الثانية (ثم عموا وصموا كثيرا منهم) من أوجه الأعراب.

وتضمنت الكلمة الثانية أن كاتبها: أحمد عبد اللطيف بدر أفندي يخالف الأول في رأيه لما يترتب عليه من أن يجعل فاعلين لفعل واحد كما في اللغة (أكلوني البراغيث) على زعمه يؤدي إلى تناسى القاعدة الأصلية، ويرى أن يكون التقريب بين اللغتين بإشاعة الألفاظ المحرفة وإحلالها محل الألفاظ محل الفصيحة فتستعمل كلمة (مِن) ولفظ (فين) بدل (أين) و (اشمعنه ومنين) مكان (لِمَ) و (من أين). وزعم أن ورود الآيتين الكريمتين على لغة (أكلوني البراغيث) وهي غير اللغة الفصحى إنما كان للتحدي والإعجاز والدلالة على أن القرآن من صميم لغة العرب على تباين لهجاتها، ولذلك جازت القراءات المتعددة فيه، وأول المفسرون الآيتين بما يدنيهما من اللغة الفصحى الخ.

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت:

وليت شعري كيف يكن التحدي بغير الفصيح للإعجاز أم كيف يتوهم ذو علم أن المفسرين يؤولون القرآن بما يدنيه من اللغة الفصحى وهو في أعلى طبقات البلاغة؟

لقد أخطأ الأستاذ أحمد عبد اللطيف في ظنه أن لغة (أكلوني البراغيث) أتاها الضعف من

ص: 26

ناحية أنها تعتمد فاعلين لفعل واحد؛ فما اعتراها الضعف إلا لأنها تلحق بالفعل علامة التثنية والجمع عند إسناده إلى ظاهر مثنى أو مجموع، إذ ليس ثمة حاجة إلى هذه العلامة والواو في الجملة حرف وليس بضمير - كما ظن - حتى تكون فاعلا على هذه اللغة (شرح ابن عقيل قول ابن مالك في باب الفاعل):

وجرد الفعل إذا ما أسندا

لاثنين أو جمع كفاز الشهدا

وأخطأ الكاتبان القصد، إذ يرى الأول أن تستبدل اللغة العامية باللغة العربية الفصحى، ومعنى ذلك إهمال اللغة العربية وإهدار قواعدها، وإفساد نظامها؛ وإذ يرى الثاني أن تترك المفردات الفصيحة ويستعاض عنها بالمحرف والدخيل، فإنه إذا ضم رأي كل منهما إلى رأي صاحبه كان منهما مزيج قاتل للغة مفسد لمفرداتها وتراكيبها، هادم لقواعدها، مود بنظامها، مقوض لبنائها المحكم الرصين. يقول عبد الحميد أفندي عمر إنه لا يرى مانعاً من أن يستعمل الخاصة ما يجري على ألسنة العامة في المخاطبات والمكاتبات بدلا من الفصيح، إذ قد ورد في التنزيل الحكيم نظير هذا الاستعمال، وإنه لا يهمه الاختلاف في أوجه الإعراب، ولا يعنيه أن تكون كلمة (الذين) وكلمة (كثير) في الآيتين فاعلا أو بدلا ما دام الاستعمال قد ورد به. ولم يدر أن الإعراب هو الذي يفتح مغاليق الكلام ويبين أغراضه ومعانيه ويكشف عن وجه الدلالة فيه فيعرف الحسن المقبول ويتميز المردود المرذول.

وإذا كان لا يدري لم يمنعون أن تستعمل جملة (حضروا الرجال) كما تستعمل كلمة (الرجال حضروا) وأن تكون مساوية لها، فليعلم أنه يمنع من المساواة بينهما أمور بعضها يرجع إلى اللفظ وبعضها يرجع إلى المعنى. فما يرجع إلى اللفظ الثقل الذي جبه حرف العلة الساكن الذي جئ به ليكون علامة على الجمع دون حاجة داعية، فإذا حذف لالتقاء الساكنين بقي الفعل مضموم اللام فيلتبس عند الوقف على الرجال بالاسم الدال على المعنى المقابل للبدء، وذلك خلل لغوي، وإذا ضم الفاعل بقي الثقل الناشئ من توالي ثلاث راءات أولها مضمومة وباقيها مكسور، وهي مع اللام الأخيرة في الرجال تخرج من اللسان، وانتقال اللسان من ضم إلى كسر ثم ضم في حروف متحدة المخرج تقريباً فيه صعوبة لا تخفى. فالجملة الأولى (حضروا الرجال) تشتمل على مخالفة القياس بضم آخر الماضي حيث ينبغي أن يفتح وفيها ثقل قد عرفته وتعقيد قد تبينته. ثم إن فيها وراء ذلك مانعاً آخر

ص: 27

يمنع من مساواتها للجملة الفصيحة وهو أنها ليس فيها سوى إسناد واحد، ولا تقال (بعد أن تصحح) إلا لخالي الذهن. أما الجملة الثانية الفصحى فإنها مشتملة على إسنادين ويخاطب بها من يكون شاكا في أن الرجال المعهودين له قد حضروا فلكل منهما مقام يغاير مقام الأخرى. وهذا ما يتعلق بالفرق بين الجملتين.

فأما الآيتان الكريمتان فإن من المقرر أن قراءة القرآن سنة متبعة فلا يجوز القراءة بغير ما روى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مما تسوغه القواعد العربية، ذلك بأن ما روى عن النبي هو العربي الفصيح الكفيل بأداء الأغراض المقصود أداؤها من النظم. وليس كل ما جاز عربية بالذي يفي بذلك؛ فليس كل ما جاز عربية جاز قراءة. ولنسق لذلك مثالا: قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) قريء تطهرهم بالرفع صفة لصدقة، على أن الجزم سائغ عربية في جواب الأمر، لكن لم يقرأ به أحد من السبعة، ذلك أن الجزم في جواب الأمر يقتضي ترتيب التطهير على مجرد أخذ الصدقة منهم كما يترتب الجزاء على الشرط، وليس الأمر على ذلك؛ فقد يؤدي بعض الناس الصدقة وهو الشحيح بها كاره لأدائها فلا تكون صدقة مطهرة له ولا مزكية لنفسه، وإنما تطهر الصدقة معطيها وتزكيه إذا أداها طيب النفس راضياً وجاد بها آناً بعد آن ومرة بعد مرة حتى تبرأ نفسه من داء الشح ووصمة البخل؛ وهذا سر التعبير بالفعل المضارع الإتيان بالصفة جملة فعلية دون أن تكون اسما مفرداً. هذا ولنعد إلى الكلام في الآيتين فنقول:

قد جرى المفسرون على أن يوردوا عند تفسيرهم الآيات ما تحتمل من أوجه الإعراب حسبما تقتضيه الصناعة النحوية دون نظر إلى ما يكون منها مناسباً للمقام ولما تقتضيه البلاغة. بيد أن الخاصة منهم كالزمخشري ومن اقتفى أثره يقدمون الوجه المناسب على غيره في الذكر حسبما أوتوا من ذوق علمي. وقد يقتصر ما أوتوه من الذوق عن إدراك دقائق المعاني والإحساس بلطائفها فيخطئون. وفي هاتين الآيتين قدموا الوجه الإعرابي الملائم للأسلوب البليغ الأعلى على سواه، فقدموا إعراب (الذين) و (كثير) بدلا على سواه من الأوجه وأصابوا. ووجه الصواب فيه ظاهر لمن ألم بقواعد البلاغة وتذوق أساليب البيان؛ فالآية (وأسروا النجوى الذين ظلموا. . .) جاءت عقب الحديث عن الناس والتعجب مما هم فيه من غفلة عن العاقبة وإعراض عن ذكرها وعن التفكير في أمرها مع اقتراب

ص: 28

حسابهم ودنو وقت جزائهم وعقابهم على ما فرطوا في جنب الله، وإذا أتاهم ذكر من ربهم استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى استخفافاً واستهزاء بمن يذكرهم مستنكرين أن يكون أهلا لأن يخصه الله بأن ينزل عليه الذكر من بين قائلين (هل هذا إلا بشر مثلكم) فالضمائر كلها جارية على جماعة الناس، ولما كان الخاصة من الزعماء والقادة هم الذين يقاومون الداعي إلى الحق والمذكر به ويتناجون فيما بينه بما يتناجون به من الكيد له والاستهزاء به والعامة تبع لهم فيما يكيدون ويدبرون أسند الأسرار إلى الضمير العائد إلى الناس إشعاراً بأن العامة كفلا من أوزار الخاصة لمتابعتهم لهم. ثم أبدل الاسم الموصول من الضمير لبيان من يصدر عنهم الأسرار بالنجوى وقول الزور على الحقيقة وهم أولئك الزعماء الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عن الحق استكباراً وظلموا الناس بإظلالهم وصرفهم عنه وصدهم عن سبيله استبقاء لنفوذهم وحفظاً لسلطانهم؛ ولم يقل وأسر النجوى الذين ظلموا يؤذن بانقضاء الحديث عن الناس عند (لاهية قلوبهم) وابتداء الحديث عن أناس ظالمين يسرون النجوى في أمر الرسول واتهامه بأنه ساحر الخ فينقطع حبل الكلام ويختل نظمه ولا يتأدى الذي تأدى بإسناد الفعل إلى ضمير ثم إبدال الاسم الموصول منه. هذا إلى أن البدل مؤذن بفعل مماثل للفعل المذكور، لان البدل عندهم على نية تكرار العامل فيفيدنا تأكيد حصول الإسرار بالنجوى من الذين ظلموا. وعلى هذا النحو يسهل على العارف أن يتبين ما في آية المائدة:(أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا وفريقاً يقتلون. وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) فيعرف ما فيها من أسرار البلاغة. هذا.

أما بعد غشيت العرب والمسلمين غاشية ليس لها من دون الله واقية، وأزفت الآزفة حتى غدت أبصارهم لها كاشفة، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؛ بل غدوا على حرد قادرين ولأنفسهم ظالمين، وعن دينهم معرضين، ولشريعة الله هادمين، ولكتاب الله ولغة العرب محاربين. يعبث بلغة القرآن صبيانهم، ويجرؤ على الطعن في كتاب الله والقول فيه بغير علم جهلاؤهم وكبراؤهم، ويطفئون نور العلم في معاهده ويأتون بناء الدين واللغة من قواعده، حتى عمت الطامة. واستحكمت الغمة، وحقت

ص: 29

الكلمة. فهل في المسلمين لدين الله من صديق، وهل للغة العرب بين أبناء العرب من شفيق أو رفيق! أم هل فيهم من مفيق، وهل يعتبرون بهذه الأحداث، التي ستقذف - إذا لم يفيقوا - إلى بطون الأحداث؟

اللهم احفظ دينك واحم كتابك، وابعث في نفوس العرب والمسلمين روحاً منك تحي به دينهم وتحمي لغتهم وأوطانهم وتدفع عنهم كيد الكائدين وعبث العابثين المفسدين إنك نعم المجيب.

محمود أحمد الغمراوي

من علماء الأزهر

ص: 30

‌الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6):

(2)

مشكلات الفلسفة (1)

للأستاذ كمال الدسوقي

يعز علىَّ ألا أستطيع أن أحدثكم في (مشكلات الفلسفة) في أكثر من هذا المقال؛ قبل أن يفجأنا الامتحان - لتواجهوه مواجهة الأبطال الكماة - فقد أنسانا حديث ابن سينا مر الوقت أن نذكره؛ وما أكثر ما كنت أحب أن أقول في برتراند رسل! حسبكم في تاريخ حياة هذا الفيلسوف العظيم وفي كتاباته ما جاء بمقدمة الترجمة العربية لكتابه الذي بين أيديكم، فلن تظفروا في حياة فيلسوف معاصر بأكثر من هذا القدر، إذ قلما تعرف أقدار الرجال وهم ما يزالون أحياء؛ وإن كان فيلسوفنا ليرى مجده وعظمته حياً. . .

والترجمة التي لديكم لهذا الكتاب سهلة واضحة الأسلوب لا تخلوا من روح المؤلف في كثير من المواضع، فهي حسنة ومؤدية الغرض، ومُغنية عن النص الأصلي إن لم تجدوه؛ فيما عدا الكثير من الأخطاء المطبعية، وبعض السقطات النحوية التي تداركها من جانب القارئ.

والمحاضرات التي جمعها رسل في كتابه باسم (مشكلات الفلسفة) تمثل بدء اتجاهه المنطقي والمذهبي أولى من أن تعرض صورة ناضجة للمذهب في نموه واكتماله. لأنه من أوائل كتبه الفلسفية. ويمكن جمع مشكلاته تحت رؤوس ثلاثة. فالمحاضرات الأربعة الأولى تعالج فلسفة الوجود، والأربعة الأخيرة تتناول مشكلة الحقيقة ومدى ما تصل إليه المعرفة الفلسفية، والفصول الوسطى - وهى القسم الأكبر - تعرض لنظرية المعرفة بمختلف أنواعها. وليست الأقسام محددة المعالم، بل تختلط فيها هذه المباحث وغيرها اختلاطاً يظهرك على روح رسل الفيلسوف الرياضي المنطقي المجدد. ولتناول هذه المشكلات في سرعة وإيجاز:

في الفصل الأول والحقيقة بين معطيات الحسن والشيء 15 * 32 الطبيعي الحقيقي الذي هو غير ذاتنا، والذي لا يتوقف وجوده على إدراكنا. وأهم ما في هذا الفصل غير هذا تقرير أن الإدراك للمائدة مثلاً لا يتم بالحواس مباشرة، بل هو استدلال واستنتاج نستخلصهما مما نحس؛ وإلا لم نستطيع أن نتصور وجود المائدة ما لم ندركها، وجوع القطة

ص: 31

ما لم نرها في أمكنة مختلفة (ص 23).

أما الفصل الثاني فيتصدى لبحث وجود المادة، ويأخذ بمنهج ديكارت الذي يبدأ بالشك للوصول إلى اليقين، وبإثبات الذات لإثبات الموضوع إلا أن الذات التي يثبتها ديكارت لا يلزم أن تكون دائمة؛ بل قد تكون الأنا المدرك في لحظة إدراكه. وإذا صح أن أفكارنا ومشاعرنا الخاصة، وكذلك الأحلام والأوهام والإدراكات الحسية العادية هي ما يتصف باليقين الفطري؛ فقد لا تكون هذه رموزاً وعلامات للشيء الطبيعي المراد إثباته. وهنا نقف حائرين مع المؤلف بين نوعين من البرهان: الإدراك العادي البسيط يظهرنا على أن المائدة وغطاءها وأدوات الطعام فوقها ليست مجرد معطيات حس لا حقيقة لها، وحين أشترى المائدة لا أشترى مجموعة معطيات حس صاحبها؛ بل شيئاً حقيقياً. وحين تتفق مجموعة من الناس على رؤية مائدة - مع فارق بسيط - لا يتفقون إلا على وجود حقيقي. . . بينما المنطق يرى أن ليس ما يمنع من افتراض أن العالم يتكون - كما عند بركلي والمثاليين عموماً - من ذاتي وأفكاري وشعوري وإحساسي، وما عدا ذلك فهو وهم وخيال؛ وأن الحياة ذاتها حلم نبدع فيه بأنفسنا كل ما نتمثله أمامنا؛ فقد يكون وجودهم أنفسهم من صنعنا، وهم حلم يتراءى لنا. . . وينتهي هذا الفصل بالأخذ بالإدراك العادي البسيط القائل بالنظرية الطبيعية، ووجود أشياء لا يعتمد وجودها على إدراكنا. ونحن مهيأ ون للاعتقاد بها بالغريزة، ولا أستطيع رفع هذا الاعتقاد حتى يقوم الدليل على خطئه وتناقضه مع غيره. وإذا كان من بين هذه الاعتقادات الغريزية ما هو أقوى، وما هو شبه غريزي دخيل؛ فإن مهمة الفلسفة أن تبحث أيُّ هذه البديهيان والمسَلمات أولى بالقبول أو الرفض أو التعديل. وإلى أن تنهض بهذا التنظيم والفحص النقدي يجب أن نأخذ بهذه المعتقدات في شيء من الحيطة والشك.

وإذ ثبت أن الظاهر الحسي دليل على الحقيقة الموضوعية يشرع رسل في بحث ماهية المادة، فيفند التفسير العلمي الفرضي الناقص من حيث نظرته للضوء والصوت وغيرهما بوصفها حركات تموجية؛ مع أنها في حقيقتها أكثر من هذا: إدراك نحسه بالسمع والبصر ولا نستطيع وصفه أو نقله للأعمى أو الأصم. وينقد كذلك نظرة العلم إلى المكان والزمان العامين المحايدين للشيء الحقيقي (المكان والزمان العام كما يسميهما) بصرف النظر عن

ص: 32

مكاننا وزماننا الخاصين كمدركين للأشياء الطبيعية في المكان والزمان العلميين. . . يريد رسل أن يخلص من هذا مرة أخرى إلى توكيد التفرقة بين الشيء الطبيعي في المكان الطبيعي والزمان العام؛ في مقابل معطيات الحس في مواضع مكانية خاصة وزمان تقديري خاص (والأولى منها لا نعرفها في ذاتها؛ بل نعرف نوع تنظيمها نتيجة علاقاتها المكانية)، وإلى تقرير أن هذه الخواص والعلاقات القائمة في مقابل الأشياء الطبيعية ومعطيات الحس هي ما يمكن معرفته؛ أما الماهية فتبقى مجهولة؛ برغم أن معطيات الحس إن لم تكن هي الأشياء الطبيعية على حقيقتها؛ فإنها تشبهها قليلاً أو كثيراً.

أفليس ثمة إذن دليل على أن للمادة الحقيقية التي سلمنا بها. ماهية معلومة؟ يرى الفلاسفة المثاليون - وعلى رأسهم كل موجود فهو عقلي - حتى المادة ذاتها - ويدفعون عن مذهبهم بأدلة مستمدة في معظمها من نظرية المعرفة والشروط التي يجب توافرها في الأشياء لنعرفها. وعندهم أن وجود الشيء هو إدراكه، وحين يقال لهم إن الأشياء توجد حتى ولو لم ندركها حينئذ، وهو سر وجودها. فما يسميه رسل (الشيء الطبيعي) هو عندهم (أفكار في عقل الله) وما يسميه معطيات الحس هو مشاركتنا نحن الجزئية في هذه الأفكار. ويأخذ رسل على هذا المذهب (ويحسن أن ترجعوا إلى مذهب بركلي على الأقل لتقفوا على نموذج من المذهب المثالي في مصادره):

1 -

أن الذي في عقولنا هو فكرة الشيء لا الشيء نفسه.

2 -

يثير بركلي مشكلة أخرى هي: ما يعرف مباشرة يجب أن يكون في العقل؛ بدلاً من مشكلته: وجودالشجرة ولو لم ندركها.

3 -

فكرة المائدة مثلاً يمكن تحليلها إلى فعل إدراك (هو عقلي لا شك) وشئ مدرَك (لا يمكن أن يكون عقلياً بحال). وبالجملة يرى رسل أن بركلي قد خلط بين الشيء موضوع الإدراك وفعل الإدراك ذاته، وأخذ كلمة فكرة بمعنى الأشياء المدركّة، فجعل المدرك والإدراك شيئاً واحداً؛ بينما التميز بينهما ضروري، لأن قدرة العقل إنما تقوم في تحصيل معرفة خارج ذاته؛ أي إدراك ما ليس بعقلي. فهو قد أخطأ في الشكل والموضوع. أما النظرية التي تقول إن ما يثير أهمية لدينا لا يمكن أن يكون حقيقياً، وبالتالي لا يمكن أن نعرف أنه يوجد شيء نحن لا نعرفه؛ فهي نظرية واضحة البطلان تقوم على الرغبة

ص: 33

والمنفعة وتفترض أن المادة ما لم تكن مكونة من عقول وأفكار عقلية فهي أمر مستحيل ووهم مجرد. وينتهي رسل هنا إلى تحليل ألفاظ الفعل (يعرف) في لغات مختلفة ليخلص من ذلك إلى نوعية من المعرفة: معرفة الحقائق والمعرفة المباشرة.

وبذا نكون قد وصلنا إلى القسم الثاني في مشاكل المعرفة وهو أهم أقسام هذا الكتاب؛ والمعرفة فيه نوعان. معرفة أشياء ومعرفة حقائق: أما الأشياء فمنها ما نعرفه مباشرة بإدراك الشيء بلا واسطة من عملية استدلال أو حقائق معلومة؛ كمعطيات حسنا عن المائدة من لون وشكل وصلابة. . وما نعرفه بالوصف للمائدة ذاتها كشيء طبيعي يُسبب معطيات الحس السابقة؛ وصف لحقائق شيء غير معلومة لدينا ماهيته على الإطلاق. فما نعرفه مباشرة من الأشياء الجزئية هو في الدرجة الأولى (معطيات الحس) ولكن لابد من معرفة الحقائق المجردة التي تسمى كليات:

2 -

فهناك الذاكرة مصدر كل معرفة بالماضي.

3 -

وهناك ثانياً التأمل الباطني والشعور الذاتي بالفاعلية الشخصية ثم بفاعلية الآخرين قياساً عليه ـ مما لا يوجد لدى الحيوان؛ أي الشعور بالذات العارفة المدركة في مقابل ادراكاتها الخارجية - مهما كانت الذات متغيرة - شعوراً مباشراً (الفقرة الثالثة ص 46 في غاية الأهمية في تلخيص هذا).

4 -

وأخيراً المعرفة المباشرة للكليات والأفكار العامة. أي التطورات الذهنية للمدرك الكلي.

أما الأشياء الطبيعية فنعرفها بالوصف، ومن الوصف ما هو غامض مثل رجل، وما هو محدود مثل: الرجل ذو القناع الحديدي. أما الغامض فيسقطه رسل ويطلق كلمة الوصف على المحدد من نوعيه عموماً. وحينئذ يطلق الوصف ويراد به المفرد (هذا الشيء الفلاني) وتذكر له وحدة خاصة معينة يتميز بها دون أن يُعرف مباشرة من هو (الرجل ذو القناع أو المرشح الفائز؟). ومن الأوصاف الأعلام والكلمات العامة حين لا نعبر بها صراحة، حتى تختلف بين الأشخاص، ولدى الشخص في أوقات مختلفة (في ص 49: حكم بسمارك على نفسه معرفة مباشرة بالتأمل المذكور قبلا، وحكم صديقه عليه مزاج من معرفة مباشرة لمعطيات الحس في ارتباطها بأوصاف جسمه وعقله التي يعرفها فيه كشيء طبيعي يدرك

ص: 34

بالوصف، ومعرفتنا نحن له وصفية صرف هي شهادة الغير والتصورات الجزئية والأحكام الكلية والتاريخية عليه). لاحظوا أننا هنا نبتعد عن المعرفة المباشرة ونوغل في المعرفة بالوصف على درجات أربع:

1 -

فبسمارك الذي عرفه الناس بطرب من معرفة الناس المباشرة لشخص آخر (معرفة مباشرة رقم 3)

2 -

وبسمارك الذي عرفه الناس من التاريخ فقط لا نزال نعرف من هو.

3 -

والرجل ذو القناع الحديدي لا نعرف من هو، ولكننا نستطيع أن نستخلص من صفته هذه أحكاماً كثيرة.

4 -

والرجل الذي عاش أطول مدة - لا يعرف عنه أكثر مما يتضمن هذا الوصف.

وللكليات تسلسل يشبه تسلسل الجزئيات هذا، والمهم هو مبدأ تحليل القضايا الوصفية:(كل قضية في مقدورنا أن ندركها يجب أن تتكون كليتها من مجموعة مكونات نعرفها مباشرة) أي أن يكون معنى الحدود التي نستخدمها في القضية نعرفها مباشرة (مثال يوليوس قيصر). وللوصف أخيراً أهمية تمكيننا من تجاوز حدود تجربتنا الخاصة ومعرفة الأشياء التي حال ضيق التجربة المباشرة دون إدراكها.

أما الاستقراء فتتخلص مشكلته في إمكان التوسع والتعميم وبالتالي التنبؤ بالأحداث المقبلة، وتوقع أن وجود (أ) يستتبع دائماً وجود (ب) المرتبطة بها في تجربتنا (شروق الشمس غداً، سقوط الأجسام بفعل قانون الجاذبية. . .) فإن وجود شيئين في وقت واحد بصورة مطردة سبب كاف لتوقع وجوداً أحدهما متى وُجد الآخر في مناسبة تالية - أي أن كل علة تحدث نفس المعلول عن العلة مستقبلا يجعل هذا المبدأ موضع شك. أما القوانين الطبيعية (كالحركة والجاذبية) فيطرَّد وقوع الحوادث فيها بلا تخلف، ومهمة العلم أن يكشف عن هذا الاطراد في وقوع الأحداث الطبيعية والتنبؤ بالمستقبل على أساس الماضي، ما دام أن هذا الماضي مستقبل تحقق فعلا. ومبدأ الاستقراء بشطريه اللذين ورد ذكرهما 58 وتعديلهما ص 59 يفسران بوضوح هذه الفكرة. وعليكم أن تفهموا بعد هذا أن مبدأ الاستقراء قد يبرهن عليه بالتجربة الماضية، ولكنه هو الذي يبرر لنا الاستدلالات المقبلة، بمعنى أن ما سبق امتحانه من الأمثلة يصل بنا عن طريق الاستقراء إلى مبدأ عام يتولى هو البرهنة

ص: 35

على ما لم نمتحنه بعد. فالاستقراء انتقال مما امتحناه إلى ما لم نمتحنه، والمعرفة التي تظهرنا بالتجربة الماضية على شيء لم يحدث من التجربة بعد هي اعتقاد لا نؤيده ولا نرفضه، ولكنه متأصل في نفوسنا بهذه التجربة.

وإليكم المبادئ العامة الأخرى التي تخلص لنا بالاستدلال من المحسوسات، والتي ليس لها من اليقين إلا ما نستمده من التجربة أيضاً، والتي حين تبرهن التجربة على يقينها وصحتها تصبح هي مبدأ يبرهن به عن طريق الاستدلال منه. هذه المبادئ من الوضوح لدرجة أنها تقوم في أساس كل استدلال عقلي، فلا مجال للشك فيها، لأنها تقوم في العقل كبديهيات مسلم بها. وأهم هذه المبادئ ما يسميه المنطق: قوانين الفكر الثلاثة:

قانون الذاتية ورمزه: أليس (ب).

قانون التناقض ورمزه: أليس (ب) و (لا - ب) في وقت واحد.

قانون الثالث المرفوع ورمزه: (أ) إما (ب)(أو لا ب).

وكذلك المبدأ المنطقي: ما ينتج عن مقدمات صادقة فهو صادق، ولا يقتصر الأمر في هذه المعارف الأولية على مبادئ المنطق، بل يوجد في الرياضيات مثلا البديهية التي تقول: المساوي لأحد المتساويين يساوى الآخر، ورمزها: أ=ب، ب=ج ? أ=حـ؛ وفي الأخلاق المبدأ الذي يقول: الإنسان ينشد السعادة ويتجنب الألم؛ وفي الاقتصاد المبدأ القائل: الإنسان يسعى بفطرته لخير نفسه. . . فكل هذه مبادئ لا نستنتجها من الأمثلة، بل نوضحها بذكر أمثلة لها، فهي أولية عقلية غير مأخوذة من التجربة، بل موجودة في العقل كبديهيات

وبالجملة يجب أن تفرقوا بين أحكام كلية تركيبية هي في أصلها تعميمات تجريبية (كل إنسان فإن) ومبادئ أولية عقلية غير مستنتجة بل موجودة أصلا في العقل (كمبادئ الهندسة والأخلاق والاقتصاد والمنطق التي ذكرنا). أما الأولى فنحصلها بالاستقراء الذي هو تعميم وانتقال من جزئيات إلى كلى أعم واشمل، وأما المبادئ العامة الكلية فقد تكفل بتفسير وجودها. في أذهاننا (كانت) الألماني حين ميز بين قضايا تحليلية وأخرى تركيبية؛ الأولى فطرية هي بمثابة قوالب في الذهن أولية وسابقة قبلية (ومن الخير هنا أن ترجعوا إلى نظريتي هيوم وكانت من الفصل الثامن وخصوصاً في تفرقة كانت بين الشيء في ذاته والظاهرة، والفرق بينهما وبين الشيء الطبيعي ومعطيات الحس عند رسل في الفصول

ص: 36

السابقة).

ولن يعسر عليكم بعد هذا متابعة رسل في تفصيله القول في (عالم الكليات) وتطوره في تاريخ الفلسفة، ثم في (معرفتنا للكليات) مباشرة وبالوصف، ولكن يفيدكم كثيراً الوقوف عند صفحتي 93، 94 وتلخيص ما جاء فيهما في جدول عام شامل لتقسيم أنواع المعرفة عند رسل؛ على نحو يتبين لكم منه بسهولة ما كان يتحدث فيه كذلك ما سيحدثكم عنه بعد من معرفة الحقائق الواضحة بالذوق في بقية الكتاب.

كمال دسوقي

ص: 37

‌إلى جيش مصر الباسل

للأديب عبد الرحيم عثمان صارو

وقفت وحدك في الميدان تصطرع

وهو مت حولك الأعوان والشبع

فما وهنت ولا كانت جبابرة

بعزمة الجن في الهيجاء تدَّرع

ينفى اللهيب من الياقوت زائفه

والجوهر الحر في النيران يلتمع

لما دعتك (فلسطين) لنجدتها

وقد ألمَّ بها العدوان والفزع

نهضت تدافع عنها شر محترب

باغ سواعده (الدولار) والجشع

يغيث في حرمات الله مجترثاً

لم تنج منه محاريب ولا بيع

تنام عنه وعن آثامه دول

كبرى لها في حواشي نفعه نفع

لم يثن عزمك يا ابن الأمس ما جلبوا

ولم يُلنك من الأصقاع ما جمعوا

فكيف لو لم يعق ناشيك مغتصب

قد كان يكره أن يلقاك تتسع

حفزت همه من هبوا ومن نهضوا

وُصنت حومه من ناموا ومن هجموا

وقفت كالصخرة الشماء كم ذهبت

بصفحتيها رقاب الموج تنقطع

ملاحم المجد لم تشهد نواظرها

كصارم لك في الأهوال ينتزع

يُسقون منه الردى في كل عرك

ويدبرون وقد خانهم الخدع

سيُهزمون بما ماتوا وما اختلفوا

ويقهرون بما كادوا وما صنعوا

شتان ما بين مأجور وبين فتى

لله والحق والعلياء يندفع

يا صارم الروح عند الروح ما برحت

أنباء نصرك هن الزاد والمتع

ولهت شعري حتى كاد من وله

يختال في جنبات الطرس لو تسع

يا ليت لي ناي (هومير) وأرغنه

لرحت أشدو وراح الدهر يستمع

ما أعجز الشعر عن تصوير ما ذهبت

ضراغم لك بالأحداث تصطنع

بعثت سيرة أجداد لنا سلفوا

كأنهم بك قبل البعث قد رجعوا

أيبتغي الدهر منا فوق ما صنعت

كفاك، معجزة تجلى وتبتدع

لله، لا لبروق الغنم، صادقة

من الجهاد بها أقدمت تضطلع

قضية النيل لم يشغلك شاغلها

عن الوفاء بما ضنوا وما منعوا

ص: 38

راعت بطولتك الدنيا وأروع من

هذى حفاظك للعهد الذي قطعوا

حفاظك العهد والميثاق في زمن

به العهود، كأشلاء العدى، قطع

سلمت للشرق ترعاه وتمنعه

من كل مختتل أغرى به الطمع

يزهى بك القائد الأعلى وأنت به

نتيه فخراً على الدنيا وترتفع

عبد الرحيم عثمان صارو

ص: 39

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

(آثرت الحرية) أمام القضاء الفرنسي:

كتاب ترجم إلى كثير من اللغات الحية، ولقي اهتماماً كبيراً في كل بلد حلَّ ضيفاً على لغته وقرائه، ذلك هو كتاب (آثرت الحرية) للكاتب الروسي فكتور كرافتشنكو. . . واليوم يثير هذا الكتاب أعظم ضجة عرفها محيط الرأي العام الفرنسي، وردد صداها البرق إلى كل بقعة من بقاع العالم!

أما كرافتشنكو فكان موظفاً بالسفارة الروسية في أمريكا ثم ترك منصبه وتخلى عن حاشيته، ولجأ إلى حكومة البلد الذي يقيم فيه طالباً حمايته. . . ثم ما لبث أن أخرج كتابه ليهاجم فيه نظام الحكم في بلاده، وليتحدث عن الجو القاتم الذي يكتم الأنفاس ويقبض الصدور؛ ذلك الجو الذي قدر له يوماً أن يعيش في رحابه، وأن يطلع على كثير من قيوده التي تحد من حرية الرأي والفكر، وتلغي كثيراً من القيم التي ينشدها الأحرار في المجتمع الكريم!

لهذا كله أثار الكتاب اهتمام قرائه. . . ولكنه عاد اليوم فرابهم بقدر ما راعهم، حتى لقد أصبحوا يترقبون باهتمام بالغ نتيجة هذه الضجة التي أثارها حوله مجلة (ليتر) الفرنسية، وهي الضجة التي اتخذت طريقها إلى القضاء منذ أيام!

ولقد ذهبت المجلة في تخريجها للكاتب الروسي إلى أنه كذاب مخادع لا يمت إليه كتابه بصلة من الصلات، وإنما هو من صنع قلم المخابرات السرية في الولايات المتحدة. . . وأمام هذا التجريح السافر لم يجد كرافتشنكو بداً من رفع الأمر إلى القضاء، مطالباً بمعاقبة القائمين على أمر المجلة الفرنسية طبقاً لنصوص القذف في القانون الفرنسي!

وفي سراي العدل في باريس حيث عرضت هذه القضية المثيرة، ضاقت القائمة على سعتها بجمهور يتلهف شوقاً إلى سماع كلمة القضاء في حقيقة هذا الكتاب. . . أهو حقاً من وضع مؤلفه أم هو من وضع غيره ثم رؤى أن ينسب إليه؟! أما أنا فقد تتبعت أدوار القضية مما وافتنا به شركات الأنباء في الأيام الأخيرة، وأستطيع أن أقول إن موقف المؤلف الروسي قد بلغ غاية الحرج في أول جلسة من جلسات المحاكمة، حتى لقد سرى الهمس بين الحضور حول حقيقة نسبة الكتاب إلى مؤلفه. . . كان ذلك حين وجه محرر (لي ليتر

ص: 40

فرانسيز) سؤالين إلى كرافتشنكو أوقعاه في حيرة بالغة، وكان السؤال الأول: هل يستطيع كرافتشنكو أن يذكر لنا شيئاً عن نهاية (منزل العروس)؟ وأرتج على المؤلف الروسي وعجز عن الجواب ولم يدرك ما وراء السؤال. . . عندئذ تهيأت الفرصة لخصومه فانبثوا ينعتونه بالكذب والخداع؛ كيف يعجز عن تذكر مسألة أفرد لها بعض الصفحات في كتابه وهو يتحدث عن مسرحية (منزل العروس) للكاتب النرويجي هنريك إيسن؟! وكيف يعجز عن تذكر مسألة أخرى دار حولها السؤال الثاني حين طلب إليه المحرر أن يدلي بما رسب في ذهنه عن مسرحيات دستويفسكي الثورية، وهي مسألة تناولها المؤلف من زاوية خاصة في بعض صفحات (آثرت الحرية)؟!

وهل من المعقول أن يخرج كرافتشنكو كتاباً يقع في ستمائة صفحة من القطع الكبير بهذا الأسلوب المشرق كما يقول خصومه وهذه مقالاته في الصحف الروسية تحفل بين أيديهم بهلهلة الأداء وانحطاط العبارة؟!

هذه هي القضية التي تعرض اليوم أمام القضاء الفرنسي. . . وليس من شك في أن الذين قاموا بترجمة هذا الكتاب من مختلف الشعوب إلى شتى اللغات، سيلقون بعض الحرج إذا وقف القضاء إلى جانب المجلة الفرنسية، ومما يذكر في هذا المجال أن الأستاذين محمد بدران وزكي نجيب محمود قد قاما بنقل الكتاب إلى العربية بتكليف من وزارة المعارف!

لحظات مع أمير الشعراء:

هي تلك التي نعمت فيها منذ أيام بالاستماع إلى قصيدة (النيل)، تنطلق أبياتها في أنغام ساحرة من حنجرة أم كلثوم. الشعر الممتاز يتناوله الصوت الممتاز فيحيله لحناً فريداً يمتع السمع والفكر والخيال.

أما السمع فكان مع الصوت الجميل النادر، وأما الفكر فكان مع الشعر الذي هز مكامن الشعور، وأما الخيال فكان مع الشاعر العظيم يسبح في دنياه!

نعم، كان الخيال مع الشاعر الذي أنكرته يوماً مع المنكرين ثم عدت فأنكرت ما كان من أمر نفسي. . . إن ضجيج المعاول التي كانت تحاول هدم البناء الذي أقامه الرجل في دنيا الشعر، هو الذي حال بين سمعي وبين الإنصات لتلك القيثارة الفذة! لقد كنت أصبح على أصوات المعاول وأمسى على أصوات المعاول وفي غمرة هذا الضجيج طغت الصيحات

ص: 41

الجائرة على الألحان الساحرة فضلت طريقها إلى قلبي. . . ولم تكن الملكة الناقدة في السن المبكرة قد بلغت من النضج ما يمكنها من إقامة الميزان لملكات الموهوبين وحملات المغرضين! وحين أقبل اليوم الذي خفتت فيه أصوات المعاول خجلا من صمود البناء، أرهفت سمعي لألحان الشاعر المفترى عليه، وأرسلت فكري يقف عند كل بيت من أبياته ويطيل الوقوف، ورحت أزن الرجل وشعره بميزان الذوق الذي يحتكم إلى العقل والقلب والشعور. . . وخرجت من هذا كله بشيء واحد: هو أنني آمنت بشوقي وكفرت خصومه!

كان السمع إذن مع أم كلثوم، وكان الفكر مع الشعر، وكان الخيال مع الشعر. . . أما الشعر فقد عرفت رأي فيه وفي صاحبه، وأما الغناء فلا بد فيه من كلمة! إن أم كلثوم في رأى الفن لا تمتاز بموهبة الصوت وحدها كما ينادي بذلك بعض الغلاة ولكنها تمتاز بموهبتين أخريين هما براءة الإلقاء ودقة الأداء. . . إنها تكاد تنفرد بتلك الموهبة التي تتمثل في سلامة النطق لمخارج الحروف في المقطوعات الشعرية، أما موهبة الأداء فتتمثل في أنها تنقل اللحن كما يلقى إليها في دقة عجيبة، يعينها عليها ذوق صقله المران وأذن بلغت الغاية في رهافة الحس الموسيقى. كل ما ينقص هذه الفنانة هو أن صوتها النادر ينطلق من أوتار الحنجرة دون أن يمر على أوتار القلب وهنا مفرق الطريق بينها وبين فنانة كأسمهان!

كلمات من (قطرات ندي):

حدثتك في العدد الماضي عن كتاب الأديب اللبناني راجي الراعي. . . ولن أنعت هذا الرجل إلا بكلمة (أديب) ولو ترك الأدب إلى المحاماة، وترك المحاماة إلى القضاء، وترك القضاء إلى حيث لا أدري ولا يدري!.

ولعل هذه الكلمات التي أنقلها هنا عن كتابه تهز قلبه وتحرك قلمه وتعود به إلى ماضيه. . . وإنها لكلمات تعلو في رأي فوق مستوى نظائرها في (كرم على درب) لميخائيل نعيمه. وإذا كنت قد استمعت لنعيمه في كرمه ودربه فما أحراك أن تستمع لراجي الراعي في قطرات نداه:

يقولون أبطلوا الثورات، ولكنهم ينسون أن الألوهية نفسها قد ثارت يا لخليقة على العدم!.

إذا شئت أن تبكي فاذرف الدمع أينما كنت، فلست في حاجة إلى زاوية تختارها فيها فالجميع يبكون!.

ص: 42

الرجل الذي لا يستحق أن يحيا لا يستحق أن يموت أيضاً، فقد يجاور جثمان رجل عظيم!.

إذا صفعتك الحياة بارزها بسيف الإرادة وأرسل إليها شاهديك: العمل والأمل!.

الفشل دمعة وقهقهة، فإذا فشلت بكى الوهم فيك وقهقهت الحقيقة!.

الزنا في رأي لا يعني فقط تحول المرأة عن زوجها الشرعي، ولكنه يعنى أيضاً التحول بصورة عامة عن طريق الواجب، فأي منا لا يتحول عن

هذا الطريق! أي منا لا يعد مع هذا التعريف زانياً!.

لا تقل لي كم عشت من السنوات ولكن قل لي كيف عشتها!.

من أنت وما هذا التبجح فيك، ما دامت ثلاث كؤوس من الخمرة الطيبة تستطيع أن تتصرف بك على هواها؟!.

إذا وقعت الحياة على أوتارها جاءتك بنغمة واحدة هي الأنين!.

الحياة تسقيني خمورها ولكن الموت هو الداعي إلى الوليمة، فكأن الحياة تقدم لي كأسها لأشرب نخب القبر الذي أنا صائر إليه!.

كيف اجتمعت عظمة الفن في بناء الأهرام مع عبودية بنائها؟!.

الفترة بين ضلال وضلال هي التي تحبسها هدى وما هي إلا صلة بينهما!.

ليتني أظل حياً في الموت لأدرك أسراره!.

الذكرى جرس يدق في عالم النسيان!.

الأبطال يشيدون بحبال مشانقهم أوتاد خيامهم في بطاح المجد!.

ثلاثة قهروا الموت: الخالد، والمنتحر، والذي لم يولد بعد!.

عجبت للموت كيف يدعى أنه يغمض الجفون، ألم تغمضها الحياة من قبله؟ أي لحظة تمر بنا والجفن فيها قرير؟!.

مهما قيدوا حرية الكلام فإن الخطيب الحق هو من إذا جاشت في صدره الشجون لا يلتفت يمنه ولا يسرة، بل يصعد إلى المنابر عنوة وقسرا!.

سوفوكليس والأستاذ الصعيدي:

الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي عالم من العلماء الأزهر؛ ومعنى هذا أن ثقافته لا تعينه في البحث والدراسة إلا في حدود المجال الذي يخصص فيه وتفرغ له. . وكم أود أن

ص: 43

يقصر بعض الباحثين جهودهم على الميدان الذي أعدوا له أذواقهم وملكاتهم، وأنفقوا فيه كل ما تهيأ لهم من وقت ومثابرة!

أقول هذا بمناسبة الكلمة التي كتبها الأستاذ الصعيدي في العدد الماضي من (الرسالة) حول مسرحية (الملك أوديب) للأستاذ توفيق الحكيم. . . ولعله يوافقني على أن مجال الكتابة عن فن المسرحية أمر يبعد عن دائرة اختصاصه، لأنه لا يعرف لغة أجنبية تعنيه على الإلمام بأصول هذا الفن عند سوفوكليس وغير سوفوكليس من كتاب المسرحية في الأدب اليوناني. ولو قدر له شيء من هذا لما كتب هذه الكلمة التي تحفل بسذاجة النظرة إلى ذلك العمل الفني الذي نسجت خيوطه من جو الأساطير القديمة!. . . إن الأستاذ الصعيدي يضحكني حين يخالف رأي النقاد على مدار القرون، وهو الرأي الذي يقطع بأن هذه المسرحية قد بلغت من الكمال الفني أوجاً يعد مفخرة للذهن البشري. إنها في رأيه ـأو على الأصح في رأي ثقافته ـ ألاعيب كهان جهلة، يستغلون جهل الشعوب، ويلعبون كما يشاء لهم جهلهم بمصيرهم!

إذا لم تصدق أن الأستاذ الصعيدي قد قطع بهذا الرأي، فارجع إلى عدد (الرسالة) الماضي. . . وإذا سألتني تعقيباً، فليس لدي غير تعقيب واحد هذا نصه: أفادكم الله يا أستاذ!

دفاع عن قضية خاسرة:

عاد الأستاذ محمد محمود عماد المحامي ليخالفني مرة أخرى فيما عقبت به على كلمته الأولى خول شخصية محمد الإنسانية؛ وأود أن أوجه نظر الأستاذ عماد إلى هذه الطريقة التي يناقشني بها، تذكرني بطريقة كل محام يدافع عن قضية خاسرة. . . لا شيء غير اللف والدوران (والتعامل) مع الألفاظ والعبارات!.

ترى هل يرمي الأستاذ عماد من وراء هذا الجدل إلى أن يخرج القراء بنتيجة؟. . . إنني أرحب بالنقاش إذا ما حاول أن يفهمني، وإلا فلن أرد عليه، لأن وقتي ووقت القراء وصفحات الرسالة يجب أن تشغل بشيء ذي غناء.

وللأستاذ مني خالص الشكر على كريم تحيته.

أنور المعداوي

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوُع

للأستاذ عباس حضر

براعم التمثيل في الأوبرا:

أقام المعهد العالي لفن التمثيل العربي يوم السبت الماضي حفلة تمثيلية بدار الأوبرا الملكية، لمناسبة توزيع صور جلالة الملك على الطلبة المتفوقين وتسليم إجازة المعهد إلى خريجيه.

وقد أحيا هذه الحفلة طلبة المعهد بتمثيل مسرحيتي (المنقذة) و (الصعلوك) تأليف الأستاذ محمود تيمور بك وإخراج الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد.

أما (المنقذة) فهي مسرحية تقع حوادثها بمصر في عهد المماليك الجراكسة، وتظهر مناظرها على المسرح في قصر الأمير (برسباى) الذي يشتمل على الأميرة (فريهان) وقد أنقذها الأمير، وكان مملوكاً لأبيها من (داود بك) الذي اغتال أباها. وتدل الحوادث التي يتردد صداها على المسرح، على أن القتال يدور بين (برسباى) وبين (داود بك) للمنافسة على مشيخة البلد حتى يقتل الأول الثاني ويفوز بالمشيخة. أما خشبة المسرح فتدور عليها معركة أرق وأعنف في آن واحد. . . هي معركة الحب بين (فريهان) وبين (برسباى) أو بعبارة دقيقة بين حب فريهان وكبريائها، فهي تحب برسباى وتهتم به في غيبته ولكنها تتأبى عليه وتظهر له عدم الاكتراث وتنكر عليه أن يطلب مبادلتها الحب لأنه كان مملوكاً لأبيها، ويشقى هو منها بذلك ويضيق به، حتى ينبهه مربيه الشيخ (طويل العمر) على أمر له خطره، فيقول له، أنها تحبك ولكنها تشعر بفضلك عليها وأنها أسيرة هذا الفضل، وأن هذا الشعور يؤذي كبرياءها وترى في مكاشفتك بالحب إذلالالها:

وتلك هي عقدة المسرحية وهي مبنية على الازدواج في نفسية فريهان، إذ يلصق بشعورها الظاهر إن برسباى ليس أهلا لحبها مهما أبدى من الشجاعة والنبل، وينوء عقلها الباطن بعبء ما أسدى إليها من جميل.

ويعمل الشيخ الفطن (طويل العمر) على حل العقدة، فيتظاهر بأنه يدبر مؤامرة مع (قاسم) رئيس حراس القصر لاغتيال برسباي، ويرتب الأمر بحيث تعلم فريهان بالمؤامرة، فتتدخل في وقت تنفيذها، وتنقذ حياة برسباي وتبادله معروفاً بمعروف، ثم تبادله الحب.

وقد أجاد الممثلون من طلبة المعهد وطالباته، وخاصة كمال يس (طويل العمر) وناهد سمير

ص: 46

(فريهان) وكان نطقهم للعربية فصيحاً. ولا آخذ عليهم غير بعض التكلف في الشخصيات الفكاهية كشخصية (قاسم) رئيس الحراس)، فإنه وإن كان قد قصد به الإضحاك إلا أنه كان مفرطاً في تكلف حركاته.

وأما (الصعلوك) فهي مسرحية قوامها شخصان (درديرى أفندي) المفلس الطروب الذي يتردد على (وحيدة هانم) فينقل إليها أخبار المجتمع وفضائح الناس، ويتلقى هو منها الإهانة والسخرية بالحمد والشكران. ويخبرها في نهاية حديثه معها بأن في جيبه ألف جنيه ويبرزها لها، ويقول أنه سينفقها في ليلة واحدة. فتتبدل وحيدة هانم إزاء درديرى أفندي امرأة أخرى ناعمة متكسرة مدللة، ويلبى النداء، ولكنه سرعان ما يغير سلوكه معها ويمزق الأوراق المالية ويسخر منها.

والحوار يدلنا على حقيقة شخصية درديري أفندي وفلسفة حياته، فهو ينفق ما يقع في يده من مال دفعة واحدة لينعم باللذة إلى أقصى حد، ثم يعيش في ضنك وبؤس، أو كما يجري على لسانه: يذوق حلو العيش ومره. وهو يرى الحياة قد فرضت عليه الذل والحرمان فهو وإن كان يُضحك من يسخرون منه إلا أنه في أعماقه يمقتهم ويتوق إلى إذلالهم والثأر لنفسه منهم ومن المال لأنه سبب شقائه.

وقد قام كل من ملك الجمل (وحيدة هانم) وعبد الغني قمر (درديري أفندي) بدوره خير قيام.

وهكذا ترى المسرحيتين تقومان على التحليل النفسي، والإبداع في هذا التحليل أنه مصوغ في قالب سهل صياغة فنية ممتعة، فالأداء الفني يدنو بالموضوع الرفيع من العقول كما يخاطب به القلوب، ولست أفهم الفن المسرحي إلا أن يكون المسرح (بهلوانية) وهراء.

أما طلبة معهد التمثيل وطالباته، الذين قاموا بتمثيل تينك المسرحيتين، فقد بعثوا في قلوي عشاق المسرح الطمأنينة على مستقبل الفن الجميل في مصر. وما أجدر خريجي هذا المعهد أن يأخذوا أماكنهم اللائقة بهم في الفرقة المصرية، فيملئوا فراغاً كبيراً بها، وحقاً إن الفرقة تضم الآن بعض هؤلاء، ولكن لا تعطي لهم إلا الأدوار الثانوية، ويصر الممثلون والممثلات الذين يعملون على المسرح منذ ثلاثين عاماً على أن يمثلوا أدوار الفتيان والفتيات الأوائل. . . أفلا يفسح ذوو الوجوه المتغضنة التي يتعب (الماكياج) في إصلاحها، لهذه الأزهار المتفتحة في الوجوه الجديدة. . .؟

ص: 47

وأظن أنه قد آن الأوان لأن تفكر وزارة المعارف أو وزارة الشؤون الاجتماعية في الانتفاع بخريجي نعهد التمثيل في تأليف فرقة أو فرق جديدة تحقق الأهداف المنشودة من إنشاء المعهد.

الأديبة الشريرة:

نشرت مجلة المسامرات قصة فتاة أديبة ضريرة بائسة، تخلى عنها أهلها، وآواها الاتحاد النسائي في حياة المغفور لها السيدة هدى شعراوي، وكان الدكتور طه حسين بك قد توسم فيها استعداداً أدبياً فألحقها بكلية الآداب، واسم الفتاة (ابتسام حافظ).

والنهاية المحزنة لهذه القصة أن الاتحاد النسائي ألقى بها أخيراً إلى الطريق شريدة لا تعرف لها مأوى ولا عائل!

والفتاة الأديبة ابتسام حافظ تقول الشعر، ومن قولها بعنوان (من وحي الألم):

والناس عباد الدراهم يشهدون له بفعل واجب الإطراء فقد الجميع ضميرهم سحقاً لهم وتجردوا من عفة وحياء شغلوا بحب النفس حتى لم يعد يعنيهم إلا رضا الأهواء

ولستُ أدري ماذا أقول، وهل غادر (المنفلوطي) من تردم؟ ولكني أقول: إن في مجتمعاتنا فتيات يغزون القلوب، ويغدق عليهن، فهل في القلوب مكان من نوع آخر لهذه الأديبة البائسة؟!

القياس في اللغة:

قال لي صديق في المجمع اللغوي: أنك تهجم على المجمع. وهو يعنى ما أناقش به منهج العمل في مجمع اللغة وما أعقب به على بعض آراء الأعضاء، وهو يعني أيضاً شيئاً من العتاب لأنه يعلم أني من ألصق الناس بالمجمع لسابق عملي به وكثرة أصدقائي وإخواني فيه، أعضاء وموظفين فلا ينبغي أن أقف منه موقف المعارضة في بعض المواطن.

فهل هو على حق في ذلك؟ لقد شكا بعض الأعضاء من عزلة المجمع وعدم شعور الناس به كما ذكرت في الأسبوع الماضي، وأنا أذيع على الناس عمل المجمع وأعرض آراء أعضائه في مسائل اللغة والأدب والمجمع يدعو إلى إبداء الرأي فيما يبحثه، وأنا أبدي ما يعني لي إزاء ما أعرضه من الأعمال والآراء.

ص: 48

فهل أنا في ذا يالهمذان ظالم؟

ولعلي في هذا الأسبوع أسجل عملاً مشرقاً من أعمال المجمع، وهو ما يتعلق بقرار المؤتمر الأخذ بالقياس في اللغة وجواز الاجتهاد فيها، وقد أتخذ هذا القرار، كما ذكرت في الأسبوع الماضي، بعد محاضرة للدكتور أحمد أمين بك ومناقشة فيها؛ وبعد هذا الموضوع أهم ما أثير في دورة المؤتمر لهذا العام، وأقرب الأشياء إلى الناحية العملية في مهمة المجمع بل هو الشيء العملي الوحيد الذي انتهى فيه المؤتمر إلى نتيجة موفقة، بفضل هذا البحث أو المشروع القيم الذي ألقاه الدكتور أحمد أمين بك في إحدى الجلسات.

عنوان المحاضرة (مدرسة القياس في اللغة) وقد بدأها بقوله: من طبيعة الأشياء أن يكون في كل جماعة مفكرة طائفة من المحافظين وطائفة من الأحرار. ثم قال: إن الاختلاف في اللغة، من حيث المحافظة والتجديد، كان واقعاً حتى بين الأدباء، فمن الشعراء والأدباء من كان يلتزم ما ورد في اللغة ولا يخرج عنه بحال من الأحوال، ومنهم من كان يجيز لنفسه أن يجدد، فيحكمون عن العجاج وابنه رؤية أنهما كانا يصيغان ألفاظا لم يسبقا إليها، ويروى عن بشار أنه كان يقيس ما لم يرد على ما ورد. ثم فصل وقوف اللغويين عند ما ورد، وأخذ النحويين والصرفيين بالقياس وبراعتهم فيه، وقال إنه كان بجانب كثرة المتقيدين بالسماع من علماء اللغة، قلة من القياسيين أو بعبارة أخرى مدرسة القياس في اللغة ومن أعلام هذه المدرسة أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني، وكان أبو علي يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت لفظة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب وعددتها إلى حد لم نصل إليه إلى اليوم فكان من رأيه أن الألف اللينة في الكلمة الثلاثية تكتب ألفاً مطلقاً سواء كان أصلها واواً أو ياء.

وبعد أن فرغ الدكتور من الناحية التاريخية في المحاضرة وصل إلى ما أسميه (مشروعاً عملياً) فبين ما يمكن أن يستفاد من القول بالقياس في اللغة - فيما يلي:

1 -

كثيراً ما تذكر المصادر في كتب اللغة ولا تذكر أفعالها أو العكس، أو لا يذكر باب الفعل، وبالقياس يمكننا تكميل هذا النقص.

2 -

إذا وجدنا وزناً معيناً مستعملاً في الدلالة على شيء خاص أمكننا أن نقيس عليه ما لم يرد، وذلك مثل (فعال) كنجار للدلالة على محترف الحرفة.

ص: 49

3 -

الاعتراف بالدخيل وعده عربياً وإدخاله في معاجمنا ما دام يجري على الصيغ العربية ويسير على نمط العرب في وضعهم أو اشتقاقهم.

4 -

نجد العرب أحياناً يلحظون في الشيء معنى من المعاني فيسمونه باسم مشتق من الكلمة التي تدل عليه، فلماذا لا نستعمل هذا الباب في المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة التي نقف أمامها حائرين؟

5 -

كان للعرب ذوق مرهف في وضع الكلمات بمحاكاة الأصوات، كالخرير لصوت الماء. وأرى أنه لا بأس من مراعاة الأصوات في وضع كلمات جديدة.

ثم قال: الذي يجوز له هذا؟ لقد شرط الفقهاء للمجتهد شروطاً، وكذلك نفعل في المجتهد اللغوي، فلابد أن يكون مثقفاً ثقافة لغوية وأدبية واسعة، ويكون له ذوق أرهف بكثرة القراءة.

وقد ناقش الأعضاء هذه المحاضرة مناقشة مستفيضة، واستعرضوا النتائج الخمس واحدة واحدة. وفي العدد التالي إن شاء بيان ذلك.

عباس خضر

ص: 50

‌البريد الأدبي

وفاة الجارم:

توفي الشاعر المغفور له الأستاذ علي الجارم بك يوم الثلاثاء الماضي، وقت شاء القدر أن يموت وهو يستمع إلى قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وكان يلقيها ولده الأستاذ بدر الدين الجارم في حفلة تأبين النقراشي باشا بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية، وكان يتلوا الأبيات مع ولده بصوت منخفض، وفجأة توقفت شفتاه ومال إلى الجالس بجواره، بينما كانت قصيدته (وداع) تلقى في وداع النقراشي، حمل إلى غرفة مجاورة لقاعة الاحتفال، ثم فاضت روحه.

والفقيد الكبير تخرج في دار العلوم سنة 1908، ثم بعث إلى إنجلترا وعاد منها سنة 1912 أستاذاً في دار العلوم، وكان بعد ذلك مفتشاً في وزارة المعارف، ثم كبيراً لمفتشي اللغة العربية، ثم وكيلاً لدار العلوم، حتى أحيل إلى المعاش سنة 1940. وقد أختير أول بالمجمع اللغوي أول أنشاءه سنة 1934.

وللجارم مؤلفات قيمة معروفة في اللغة والأدب، وكان رحمه الله بقية مدرسة في الشعر تؤثر الجزالة والديباجة العربية المتينة. وكان معدوداً من شعراء العروبة المبرزين، المعبرين عن آلامها وآمالها، وطالما تغنى بمجد العرب، وله في ذلك آيات خالدات.

و (الرسالة) إذ تنعى (الجارم) إنما تنعى علماً من أعلام الأدب والشعر في هذا العصر، وهي تشعر بالحسرة لفقده، وتشاطر المحزونين عليه آلامهم، وتسأل الله له واسع المغفرة والرحمة.

هل الحج يمحص الذنوب؟

قرأت في العدد 811 من الرسالة الزهراء قول الأستاذ الزيات في كلمته (حج غير مبرور) إن المجرم اغتر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا. وفي العدد 813 تعليق للأستاذ محي الدين حمودة خالف فيه الأستاذ الزيات في وجهة نظره في الموضوع.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). وقد ورد في شرح هذا

ص: 51

الحديث أن من حج من المسلمين ولم يأتِ زوجه ولم يعمل سيئة من شتم وسباب لرفقائه والمكارين رجع كيوم ولدته أمه مشابهاً للطفل يوم الولادة في البراءة من الذنب، وهو يشمل الصغائر والكبار المتعلقة بحقوق العباد، وهذا الأخير هو المسمي بالتبعات خلافاً للترمذي فقد خصه بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله سبحانه دون حقوق العباد، ثم الحج بعد ذلك لا يسقط الحقوق أنفسها. بل من كان لا يقيم الصلاة: ولا يؤتى الزكاة. ولا يصوم رمضان. ولا يكاد يتشهد كهذا المسلم الفاجر أو عليه كفارة أو نحو ذلك من حقوق الله أو دين للعباد لا تسقط عنه لأنها حقوق وجبت لله أو العباد لا ذنوب.

والحاصل أن العلماء في هذا الموضوع على رأيين: الرأي الأول، اتفقوا على عدم سقوط نفس الحقوق المطلوبة لله أو للعباد؛ فمن كان عليه حق الله كصوم أو صلاة أو زكاة أو عنق في كفارة، أو حق للعباد كدية أو مال مغصوب فهذه كلها لا يسقطها الحج.

الرأي الثاني. سقوط الذنوب المتعلقة بحقوق الله تعالى كذنب تأخير الصلاة والصوم عن وقتهما.

واختلف العلماء في الذنوب المتعلقة بحقوق العباد كذنب الغصب في الأموال على اختلاف أنواعها، والتعدي بالقتل والضرب فقال بعضهم يسقط ذلك بالحج، وقال آخرون. لا يسقطه إلا استرضاء صاحب الحق أو عفو الله تعالى.

والواقع أن العلماء الذين يقولون إن الحج يمحص الذنوب ويمحو الخطايا طائفة من الحشويين الجامدين الذين لم يعرفوا من الدين إلا اسمه ولا في القرآن إلا رسمه ويعتلون ذؤابة المنابر في الريف المصري منذ قرون وهم في جهلهم يعمهون.

(قنا)

علي حسن محمد بقوق

حول مسابقة المصور للقصة القصيرة:

قرأت في الرسالة الغراء في العدد 812 كلمة للأستاذ أنور المعداوي ينقد فيها بيان مجلة المصور الذي نشره في مسابقة القصة القصيرة التي أزمعت قيامها.

وقد كان الأستاذ على حق حينما عاب على المجلة بعض ما جاء في بيانها كاعتقادها أن

ص: 52

عنصر المفاجأة أهم ركن في القصة القصيرة على الإطلاق، وتحديدها عدد كلمات القصة بستمائة كلمة.

غير انه انحرف عن الصواب حينما برهن على صدق نقده بأن عنصر المفاجأة أهم ركن في القصة على الإطلاق بقوله:

(. . . إن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت).

فقد كان لهذا القول يتفق مع الواقع لو أن مجلة المصور اشترطت أن تكون القصص المتسابقة من النوع التحليلي، فإن عنصر المفاجأة وإن كان غير ضروري في القصة التحليلية إلا أنه ولا شك من أهم الأركان التي تدعم عليها سائر القصص الأخرى.

ويقول الأستاذ المعداوي في كلمته: (إن القصة الطويلة بعد هذا هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص وطاقة القصاص، ولا كذلك الأمر في القصة القصيرة).

وفي هذا الكلام نظر. . . فلو كان الأستاذ المعداوي يقصد بكلامه هذا أن قوة القصاص وطاقته الفنية يمكن قياسهما بقصة طويلة واحدة. . . فهذا هو المستحيل.

فإن مواهب القصاص ومقدرته وطاقته الفنية لا يمكن قياسها والحكم عليها بقصة واحدة، طويلة كانت أم قصيرة، كما لا يمكن الحكم على شاعر بقصيدة واحدة، ولا على كاتب بمقالة واحدة ولا على مصور بصورة واحدة. . . ففي قصص القصاص ما هو مرتفع إلى ذروة الكمال، وما هو مسف إلى أغوار الحضيض، كما في شعر الشاعر، ومقالات الكاتب وصور المصور؛ فالحكم الصحيح على الفنان والموازنة الصادقة بينه وبين غيره لا تكون إلا بمجموع ما أنتجه لا بجزء منه.

وأما إذا لم يقصد إمكان الحكم على القصاص بقصة طويلة واحدة فلا داعي أن ترجح كفة القصة الطويلة على كفة القصة لصغيرة في معيار القيم الفنية للقصاص، فكلتاهما سواء ما دام لا يمكن الحكم بهما منفردين.

أما أخذه على مجلة المصور قولها (إن ما يبذله كاتب القصة من جهد لا يقل إن لم يزد على ما بذله كاتب القصة الطويلة) فليس فيه إنصاف، فإن كاتب القصة القصيرة يلاقي دفعة واحدة جميع الصعاب التي كانت متفرقة في القصة الطويلة، فهو يكتب القصة القصيرة

ص: 53

بجميع عناصرها الفنية في حيز ضيق محدود مع إكمال كل عنصر وإيفائه حقه في اقتضاب ملموس وحد كبير من حريته، ولا يخفى ما في الاقتضاب والاختصار والحد من الحرية من الضيق الشديد والجهد الكبير الذي يبذله كاتب القصة القصيرة. وقد أرسل سعد زغلول باشا إلى أصحابه رسالة طويلة واعتذر لعدم كتابة رسالة قصيرة بسبب ضيق الوقت!!

فلا ينافى قصر الزمن الذي تكتب فيه القصة القصيرة، وقلة الصفحات التي تكتب عليها بذل الجهود الكثيرة المضنية التي لا تقل - إن لم تزد - على ما يبذل في كتابة القصة الطويلة.

(إسكندرية)

حسن صادق حمدان

ص: 54

‌القصص

البجعة

للكاتبة الإنكليزية بامبلا. هـ. جونسون

في اللحظة التي شاهدت فيها الطفلة ولاحظت هزالها وهى واقفة بجوار النافذة المستديرة، ويداها تعبثان بعنق التمثال الخزفي للبجعة البيضاء، أيقنت أنها ستصير حتماً من الجميلات عندما يكتمل نموها. ولم تكن قد شعرت بوجودي، فوقفت ساكناً بجوار باب الغرفة أتأملها في إمعان.

كانت سنها - على ما أعتقد - تتراوح بين الحادية عشرة وكانت - إذا عن لي أن أحكم عليها - أكثر شبهاً بوالدتها جلاديس من صورة أبيها توم، تلك الصورة التي شاهدتها معلقة في المطبخ. ولاحظت أن أطرافها نامية نمواً ملحوظاً، وعينيها واسعتان بالنسبة إلى وجهها، ترتدي مئزراً قديم الطراز أبيض اللون قصير الأكمام، يتحلى بزركشة وزخارف من (الدانتيلا) على حافته. وكان نظيفاً على خلاف ردائها الداخلي الداكن الذي كان يبدوا قديماً رثاً.

كانت الطفلة تحرك أصابعها بحنان على صدر البجعة وجناحيها. وبدت كأنها معجبة بذلك التمثال المصقول، فكانت تتأمله وكأنها خبيرة بفنه وجماله. وكان شعرها مشدوداً خلف جبهتها الصغيرة البارزة، وقد انعقد بشريط أبيض. ولعلي أحدثت حركة بسيطة، فقد التفتت الطفلة ناحيتي ونظرت إلي، ثم فارقتها في الحال روح الطمأنينة، ودفعت بالبجعة خلف ستار، ثم جعلت تمسح يديها في مئزرها - وكان في بياض الثلج - فتترك فيه أثراً خفيفاً من قذارة يديها. وبدت أسنانها من بين شفتيها وتراجعت كما لو أنها ستختفي كما (أليس) خلال المرآة.

ولم أتفوه بكلمة وأنا أتأمل ذلك الجمال المنتظر. حقاً، لقد كانت أكثر شبهاً بجلاديس من توم. كانت تشبه جلاديس التي كنت أعهدها منذ زمن بعيد، لا تلك التي أعرفها الآن. ولم تصرف الطفلة عينيها عن وجهي، في الوقت الذي كانت فيه تتحسس الحائط خلفها، وتتحرك في تلصص بجواره وقد تصلب ظهرها. فقلت (تعالى. لا تذهبي) فشهقت شهقة قصيرة من الرعب، ولكني تقدمت إليها وقبضت على معصميها، وانحنت في ذات الوقت

ص: 55

حتى صار وجهي في مستوى وجهها، وقلت (لا تهربي إني عمك (فيل)). وحاولت أن تبتسم في أدب ثم ارتجفت عضلة على ركن فمها بعد أن تلاشت ابتسامتها.

سألتها في رقة (لماذا تخافينني؟ إني أعرف والدتك منذ زمن طويل. وها قد مضت عشرون عاماً دون أن أراها. أليست تلك مدة بعيدة؟ لقد أخبرتني أن أحضر هنا لأشاهدك) وأضفت قائلاً حتى أجعلها تشعر بالسعادة (لأشاهد أي فتاة كبيرة لها).

وأومأت الفتاة برأسها في ضمت تشير إلى البجعة. فقلت (تمثال جميل، أيعجبك؟) فابتسمت.

قلت (ما اسمك؟) فلم تجب. قلت (أنت (آسي)) فهزت رأسها بالنفي في شدة وخوف ظاهر. وعجبت، ما الذي فعلته جلاديس حتى جعلت هذه الطفلة مرهفة الأعصاب تهاب الغرباء؟ وشاهدت جلاديس من خلال النافذة، واقفة عند مدخل الخباز، تسارع في شراء كعك للشاي، فقد كانت زيارتي لها فجائية، ولم يكن عندها ما تقدمه إلى، ولذلك قالت لي (ألا تستطيع أن تسلي نفسك مدة عشر دقائق يا فيل؟ يجب أن أستحضر العشاء لتوم. وإذا حضرت آسي قبل عودتي فعرفها بنفسك).

وقلت للطفلة (متى قدمت؟ لقد أخبرتني والدتك أنك ذهبت إلى الخليج).

فابتسمت كأنما سرت لقدومها إلى الدار على غير انتظار. فجأة أمسكت البجعة ودفعتها في يدي، ثم قالت (جميلة!) فوافقتها على ذلك. تذكرت رؤيتي لهذا التمثال منذ عشرين عاماً في الدار جلاديس القائم على قمة الجرف. وكانت البجعة قطعة أثرية نفيسة من الخزف.

ووضعت الطفلة يديها على كتفي، فركعت، وإذا بها تجلس على ركبتي، وهى تبتسم في وجهي، وكأنما توطدت الصلات بيننا. وأخبرتها بوجه الشبه بينها وبين والدتها، وحدثتها عن جمال أمها. وقلت أتعرفين أننا اعتدنا - أنا ووالدتك أن نذهب إلى الخليج، وقد حملنا معنا أدوات الشاي انقضي بقية يومنا هناك؟ وكنت أسبح حيث تقوم تلك الصخور الثلاثة في صف واحد، وأدعي بأني في يوم ما سأسبح وأسبح ولن أعود بتاتاً. ثم أختبئ في ذلك الكهف الصغير الواقع تحت الجرف مباشرة وأناديها مثل. . .) وبحثت عن كلمة لطيفة فقلت (مثل النورس)

وصفقت الفتاة، ثم عقدت يديها كما لو أنها تذكرت تحذيراً بألا تفض أصابعها مطلقاً.

ص: 56

وانتظرت متابعتي الحديث فقلت (ثم أسبح راجعاً فتعنفني، ثم ننفجر ضاحكين. . . كان ذلك منذ زمن بعيد).

فسألتني وهي ترفع إصبعها في حذر لتلمس قمة رأسي (وأين كنت؟) فاعتقدت أنها تعني (أين كنت هذه المدة؟) فأجبت (كنت في الخارج).

فبدت كأنها تفقه ما قلته. وكنت قد وضعت البجعة على الأرض بجواري فشعرت بها تنزلق عن ركبتي متجهة الوجه ثم عادتِ تجلس معي وانتظرت أن أفضى إليها ببقية الحديث، فقلت (إني لم أقابل والدك بعد، مع إني شاهدت صورته) فعبست فقلت (ولكني - سأقابله الليلة عندما يعود من عمله).

ووضعت الطفلة ذراعها حول عنقي، فشعرت بسرور عظيم يخالجني، وإذا بي أسألها (أية هدية تودين أن أبعث بها إليك؟) فابتسمت. فأردفت قائلاً (سأشتري لك واحدة مثلها من لندن، وسأبعث بها إليك في طرد مسجل ومدون باسم الآنسة آسي أون) فحركت رأسها في عنف، ثم أخفت وجهها بين يديها، وبعد لحظات نظرت إلي، وقد استعادت هدوءها السابق، ثم جذبت الشريط المعقود من شعرها، فانسدل بلونه الأشقر كلون الصباح على رمل الشاطئ الندي.

وسألت الطفلة (أتميلين إلي؟) فلمست خدي. ولاحت لي جلاديس مرة أخرى، تتحدث إلى جار لها خارج البوابة، وشاهدتها الطفلة فقفزت من ركبتي، وبدت كأنها خجلة أو خائفة. ثم اختطفت الشريط من يدي، وجمعت شعرها وعقصته، ثم ربطته، بالشريط ربطة غير متقنة في لهفة وكأنها تتوق إلى الرحيل. فسألتها إلى أين تذهبين؟).

وأشارت إلى جلاديس من خلال النافذة، ففتحتها وسألتها ما الأمر، فقالت (لقد نسيت المفتاح. أرجو أن تفتح لي الباب).

وعندما التفت حولي، وكانت الفتاة قد اختفت، فظننت أنها أسرعت إلى المطبخ تنتظر قدوم والدتها أو صعدت لتغسل يديها استعدادا للشاي، فقد لاحظت أنهما قذرتان وبهما خدوش كأنها حدثت أثناء محاولتها تسلق الصخور الزلقة التي حول الخليج وأحسست الخيبة، فقد كنت أود أن تراني جلاديس معها، فربما حدثتني بلهجة أقل خشونة من حديثها السابق، عندما ترى الوفاق الذي توطد بيني وبين الفتاة.

ص: 57

وفتحت الباب فدلفت منه جلاديس مجهدة وقالت (إني آسفة لتغيبي هذه المدة الطويلة يا فيل. إن هذا هو الضرر الذي يأتي من معرفة الناس للإنسان في الطرق، ولابد أن تقف وتحي عند كل ناصية).

وذهبنا إلى المطبخ وجعلنا أساعدها في فض حاجاتها وسمعتها تقول لي (كيف استطعت أن تجلس هنا وحدك؟). فقلت ضاحكاً: (لم أكن هنا وحدي. إن آسي كانت معي) فلم تفه بكلمة، فنظرت إليها فشاهدت في دهشة أن وجهها قد تقنع بقناع من الحيرة، فقلت (ما الأمر!؟) قالت (لا يمكن أن تكون شاهدت آسي. أنني قابلتها في طريقي وهى مقبلة من الشاطئ، وقد أرسلتها إلى محل لويز لتقص شعرها، وستحضر وقت تقديم الشاي).

وأحسست بشعور خفي من الرهبة يغزو قلبي، فقلت (ولكن، لا يمكن أن يحدث ذلك، لقد كانت تتحدث معي هنا، وكانت تجلس على ركبتي فقالت (ما شكلها؟) فجعلت أصف لها الطفلة بشعرها المعقود بالشريط، وردائها البني، ومئزرها الأبيض وقلت (وكانت تلعب بالتمثال الخزفي للبجعة البيضاء الموضوع على النافذة).

وهبت جلاديس واقفة، وقد تصلب جسمها، ثم صرخت صرخة مخيفة، وأمسكت بها قبل أن تخر ساقطة، وأجلستها على المقعد. وعندما فتحت عينيها نظرت حولها في ذهول ورعب ثم قالت (أغلق الباب والنافذة) وازداد شعوري بالخوف وخيل إلى بأن ظلاماً حالكاً قد خيم على جو الغرفة، لم أعهده فيها من قبل.

وقالت جلاديس (لقد رأيت مارجريت) واعتدلت في مقعدها وقد اتكأت على مرفقها تراقب الباب المغلق. وألححت عليها أن تفسر لي ما غمض من حديثها، وتخبرني به دون إبطاء، فقد كنت أود أن يطغى صوتها على أي صوت أتوقع حدوثه كوقع أقدام تسير في تؤدة وتردد على الدرج، واحتكاك يد صغيرة تستند على الباب، ولكنها ل تفه بكلمة. وبدافع قوي، تركتها وهى تبكي وتتوسل أن أظل معها، وذهبت إلى الغرفة الأمامية، وأزحت ستائر النافذة. كانت البجعة لا تزال في موضعها ولكني لاحظت فيها شيئاً لم ألاحظه من قبل. كان العنق يتصل ببقية الجسم بمسمار فضي لامع. واستمعت في سكون الغرفة إلى دقات قلبي، وأغمضت عيني وأنا أسير في الممر عائداً إلى المطبخ وجعلت أتحسس طريق بأطراف أصابعي دون أن أدرك ما الذي ألمسه. كانت جلاديس ما تزال متكئة على مرفقها،

ص: 58

وقد بدت في عينيها دلائل الرعب والخوف. فقلت (من هي مرجريت؟) قالت (أنها ابنتك. أنت بعد فراقك الفجائي مباشرة. كانت طفلة جميلة. وكانت تعيش معنا - أنا ووالدتي - دون أن يعرف أحد عنها شيئاً، ولم نكن نسمح لها بالخروج فيما عدا الحديقة بعد الغسق. كان من الصعب أن نهدئ من حالها، فقد كانت دائمة اللهو والمرح، دائبة على اللعب والغناء. وكانت معجبة بالبجعة البيضاء وتحب أن تلهو بها، فتنهاها جدتها عن ذلك، لأن التمثال كان تحفة ثمينة. ولكن حدث في ذات يوم أن أسقطت البجعة فانفصلت رأسها. أظنك قد لاحظت المسمار المثبت في عنقها).

وكنت أعرف انه لم يكن هناك مسمار عندما كانت الطفلة تداعب بأناملها الجميلة جسم البجعة المصقول.

واستطردت تقول (كانت والدتي ذات مزاج حاد، وكان من الصعب عليها أن تساعدني في ولادة ابنتي التي لا يعرف الناس عن والدها شيئاً، بل كانت تشعر بالعار من ذلك. ولم يكن يزور دارنا القائمة على الجرف هناك سوى اللبان وبائع الصحف. وعندما رأت والدتي البجعة المكسورة، انحنت على الطفلة، وقبل أن أمنعها، كانت قد لطمتها لطمة قوية على أذنها. ولم تكن والدتي في الواقع تعني أن تؤذيها، بل أرادت أن تلقنها درساً في الطاعة. وعدت مرجريت صاعدة إلى الطابق العلوي وهى تبكي وتنتحب، وشعرت بألم وارتباك من كل ما حدث فقد كنت مغرمة بالطفلة، حقيقة كنت احبها حباً شديداً. وفي تلك الليلة خرجت مر جريت من نافذة غرفتها وهربت ولا أدري كيف استطاعت النزول من ذلك الارتفاع، فقد كان من الصعب على طفلة مثلها أن تهبط على تلك النباتات المتسلقة الرفيعة.

وكدت أجن. ولم أجرأ على الحث عنها بحثاً دقيقاً خشية ألسنة الناس. على آية حال، مكثت طوال الليل هائمة عند الجرف. وفي الصباح عثرت على قطعة بيضاء من القماش ملتصقة على قمة إحدى الصخور الثلاثة، فنزلت ولا أدري كيف، فإني كما تعرف أخاف دائماً المرتفعات. كانت قطعة من مئزرها قد انحشرت بين نتوءين. فاستنتجت ما حدث. ومكثنا أسابيع ننتظر دون أن نجرؤ على التحدث، ولم نستطع النوم ليل نهار. وأخيراً وجدوا جثتها. كان قد لفظها البحر وقد ألقاها على الشاطئ على بعد أميال من هنا، في مكان لا أعتقد أننا ذهبنا إليه يوماً ما. ولم يتبينوا شخصية الجثة، فإنه لم يبق منها شيء عندما. . .)

ص: 59

وفجأة أمسكت بمعصمي وقالت: (ألا تسمع؟).

وكدت أموت رعباً وأنا أقول (ماذا؟). قالت (توم. أنه قادم. لا تخبره بشيء. قل إني مريضة. قل إنه أغمى علي. قل أي شيء. . .).

وسمعته وهو يفتح الباب. فقلت لها في سرعة (ولماذا احتفظت بالبجعة؟)

فنظرت إلي كأنها لا تعي ما أقول. ثم قالت (إنها تحفة قيمة. لقد كانت والدتي تقول أنها ثمينة) وجعلت عيناها تتطلعان إلى السقف والحوائط والأركان، كأنها لا تدري من أي فضاء في العالم قد يعود شيء إليها، شيء كان عزيزاً عليها، ثم فقدته إلى الأبد.

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 60