المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 816 - بتاريخ: 21 - 02 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 816

- بتاريخ: 21 - 02 - 1949

ص: -1

‌خاطرة.

. .

التاريخ مادته عمل ابن آدم وقوله. وابن آدم وان كذاب لا يقول الحق على نفسه ولا ينقل الصدق عن غيره. والذين أولعوا بتسجيل أعماله وأقواله من كل لون وجنس ووطن وزمن هم من سلالة خُرافة. وخرافة فيما زعموا رجل من أعراب جُهينة اختطفته الجن فلبث فيهم زمناً ثم رجع إلى قومه وأخذ يحدثهم أعجب الأحاديث مما رأى فكذبوه. ثم صار الناس يسمون كل حديث مستملح من الكذب حديث خرافة. والأقرب في نفسي أن يكون خرافة هذا رجلا رغَّاءً يعجبه أن يتحدث ويلذه أن يسمع الناس. فلما فرغ ما عنده من صرف الحديث وزخرف الرواية أخذ يصوغ الأخبار، وينسج الأقاصيص، ويصنع الأساطير، ويبتدع النوادر، ويختلق العجائب، وينسب ثمرات فنه إلى وادي عبقر وسكانه من الجن ليكون الحديث أعذب، والخبر أغرب، والتصديق أقرب. ومن طبيعة أكثر الناس تزيين الكلام والزيادة فيه، فلا تجد إنساناً ينقل حادثاً أو يروى حديثاً إلا دخل فيه برأيه وذوقه ومنفعته وهواه، فيغير ويزور ويموه وينمق، لا فرق في ذلك بين جاهل وعالم، ولا بين فرد وجماعة، ولا بين شعب وحكومة.

يقع الحادث اليوم بمرأى من الناس ومسمع فتحكيه الألسن وترويه الصحف، فلا تجد لساناً يوافق لساناً ولا صحيفة تطابق صحيفة! وتقرأ صحف العاصمة في حادثة من حوادث المدن، أو واقعة من وقائع الأقاليم، أو أمر من أمور العالم، فتجد له في كل جريدة رواية تناقض كل رواية، وصيغة تعارض كل صيغة، حتى ليبلغ الخلاف بينها حد التغاير، فتراها مثلا يو الأحد الماضي تجمع على أن الشُّرط اكتشفوا في شارع من شوارع القدس لغما من البارود؛ ولكن (البلاغ) تنفرد بأن الذي كشفوه منجم من الرصاص!

وتجلس في قهوة من القهوات فتسمع من الأفواه أصل الخبر وقد نبتت له فروع؛ ثم تسمعه في قهوة ثانية فإذا الفروع قد نبتت بها أغصان ثم تسمعه في قهوة ثالثة فإذا الأغصان قد نبتت لها أفنان؛ ثم تسمعه في قهوة رابعة فإذا الأفنان قد خرجت منها أزهار مختلفة الأشكال والألوان ، فلا ينقضي النهار حتى تمسي بذرة الخير دوحة راسخة الجذور، باسقة الذرى، وارفة الظلال؛ أو قصة بارعةالخيال، رائعة العرض، شائقة الحبكة، فيها للحزبية مغزى، وللشيوعية مرمى، وللفضولية مسلاة.

وتشهد قضية من القضايا في المحكمة فتجد في الجناية التي ترتكب في سَواء الطريق وفي

ص: 1

وضوح النهار ، من شهود النفي مقدار ما تجد من شهود الإثبات، أولئك يفندون، وهؤلاء يؤيدون، والقاضي أمام هذه الأيمان الكاذبة والأقوال المتضاربة لا يملك للحق من الباطل إلا أن يفزع إلى توفيق الله فيخلّص بين الصحيح والفاسد بعقله، ويوفق بين القانون والعدل باجتهاده.

وتحضر مجلس العدل أو مجلس الأمن فتسمع الحقائق تنكر الحقائق، والوثائق تكذب الوثائق، والكتب البيض والزرق والخضر والصفر في دولة، تقف من أمثالها في دولة أخرى موقف الكاذب من الكاذب، والثالب من الثالب، يدفع كل منها الآخر بما حشد من شهود وجمع من أدلة وساق من وقائع!

هذه مصادر التاريخ اليوم والكتابة شائعة، والتسجيل منتظم، والعمران متصل، والمواصلات سريعة، والاستخبار صناعة مستقلة وفن قائم له وسائله التي تعين عليه، وشركاته التي تستبق فيه، وأهله الذين فرغوا، فما ظنك بمصادره يوم كانت الأمية فاشية والجهالة غاشية، والشقة بعيدة، والأسباب منقطعة، والألسنة وحدها هي التي تنقل الأخبار من إنسان إلى إنسان، ومن قبيلة إلى قبيلة، ومن مدينة إلى مدينة، ومن قطر إلى قطر؟

لا يا سيدي! ألحق أن التاريخ ثروة طائلة هائلة من كذب الإنسان! فاقرأه كما تقرأ إلياذه هوميروس، وإنياذة فرجيل، وشهنامه الفردوسي، ولا تلتمس الحق في أحداث الأرض وأعمال الناس إلا في الكتاب الذي يخرجه الله يوم القيامة لكل إمرىء فيقرأ فيه ما قدمت يداه، ثم يحاسبه أحكم الحاكمين على مقتضاه!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الجديد في المشكلة الألمانية

للأستاذ عمر حليق

ألمانيا هي لولب السلم والاستقرار والرخاء في القارة الأوربية إجمالا، فإنتاجها من الصناعة الثقيلة والفحم والمواد الخام الأخرى، ومبادلتها هذا الإنتاج مع الدول الأوربية المجاورة، بالإضافة إلى حيوية الشعب الألماني وتأصل الروح العسكرية في بنيه، يفرض على المهتمين بالشئون الدولية مراقبة كل تطور يلم بالمشكلة الألمانية باهتمام خاص. فإن الظروف التي أحيط بها الألمان في أعقاب هزيمتهم ظروف مؤقتة تتلاعب بها مصالح متنافسة بين الروس وحلفاء الغرب مما يهيئ لشعب واع كالشعب الألماني أن يستفيد من حدة هذا التنافر كما حدث له في أعقاب الحرب الأولى في الأشهر الأخيرة ألم بالمسألة الألمانية أحداث هامة. فقد أعلن حلفاء الغرب في مناطق احتلالهم مشروعين رئيسيين يتوخيان إنهاء حالة الاحتلال العسكري في ألمانيا والعمل لإنشاء دولة ألمانيا مقيدة الصلاحية في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية؛ لكنها إصلاحيات واسعة في الشؤون الإدارية والاقتصادية والفكرية إلى حد ما. وهذا التطور يعني أن الألمان منذ هزيمتهم الأخيرة يعطون الفرصة لإعادة ما يستصوبونه من يتفق مع حاجاتهم ومصالحهم ونزعاتهم. وأحد هذين المشروعين يتعلق بتصفية الخلاف بين حلفاء الغرب أنفسهم حول المنطقة الصناعية الألمانية الهامة في الرور، وهذا يعني أن عقبة كبرى في وجه الحكم الذاتي لألمانيا قد زالت في منطقة حلفاء الغرب على الأقل.

أما المشروع الآخر فيتعلق بأنظمة الحكم والإدارة ومراقبة نمو القومية الألمانية لتسير في اتجاهات ديمقراطية وتكف عن التمجيد العنصري الذي مكن للنازية سرعة النجاح، وجعل العسكرية البروسية نظاماً تقليدياً هو المحور الذي يدور حواليه الألمان باحثين عن مخرج لأزماتهم النفسانية والاقتصادية.

والدراسات المتوفرة عن حاضر ألمانيا تشير إلى سرعة نمو القومية الألمانية نمواً عنيفاً حاداً. وهذا ما دفع حلفاء الغرب لأن يصوغوا الأنظمة والبرامج التي يضمونها للحكم الذاتي في ألمانيا في قوالب تحارب هذا النمو وتسعى جديا ًللحد من عنفه وتوجيه توجيهاً إنشائيا يتفق ومصلحة الحلفاء والديمقراطية التي يتوخون تثبيتها في أواسط أوربا. والسلاح

ص: 3

العلمي الذي استعمله حلفاء الغرب لتوجيه هذا الانفعال الألماني هو إعادة (تثقيف) الشعب الألماني على أسس الديمقراطية الغربية.

أما السوفييت في منطقة احتلالهم من ألمانيا الشرقية، فإنهم يتبعون برامج تطبيقية عملية لبلشفة ذلك الجزء من ألمانيا بنفس الوسائل التي اتبعوها في كل شبر من أوربا الشرقية التي خضعت لنفوذهم، في بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبلغاريا ودول البلطيق. ففي ألمانيا الشرقية ألحق الروس أجزاء غنية من الوطن الألماني ببولندا وتشيكوسلوفاكيا وأمعنوا في انتزاع أنياب الألمان العسكرية بنقل المصانع ووسائل الإنتاج إلى روسيا، واستخدام المهرة من العمال الألمان فيها لخدمة الإنتاج الروسي، وزجهم مئات الألوف من الجنود الألمان المسرحين في معسكرات العمل الإجباري الخفي. هذا إلى توجيه النظم الاقتصادية في الصناعات الخفيفة والزراعة وأحوال المعيشة اليومية توجيهاً ماركسياً على النحو الذي تتبعه الحكومات الشيوعية في روسيا ومنطقة نفوذها في شرقي أوربا. وحلفاء الغرب وإن لم يلجئوا إلى هذه القسوة في قمع الروح الألمانية، سعوا تارة بجد وطوراً بغير جد للاحتياط لها على طريقتهم الديمقراطية. فقد أنشأ الحلفاء في اجتماع عقد في لندن في الربيع المنصرم مجلس الدفاع العسكري لألمانيا وهو يشرف على ثلاث هيئات تفتيشية تراقب الألمان في نشاطهم العسكري والصناعي، وفي بحوثهم العلمية، إلى جانب الهيئة الدولية لمراقبة الرور التي تحول بين ألمانيا وبين الاستفادة من الفحم والحديد لتنمية الصناعة الثقيلة وهي نوع خفي من الاستعداد الحربي، وقل من الخبراء بشؤون ألمانيا من يعتقد بأن حلفاء الغرب مستطيعون كبح النمو الألماني في الناحية القومية والصناعية والعسكرية.

وحتى في هذا الطور الحالي من أطوار النمو الألماني فإن الوعي الألماني قد أخذ ينفجر عن انفعالات تعزز هؤلاء الخبراء.

فقد أضرب مثلا عمال المصانع في منطقة الاحتلال البريطانية احتجاجاً على تفكيك المصانع الكبرى في تلك لمنطقة. والقارئ للصحف الألمانية في مناطق الحلفاء يلمس بوضوح على الرغم من وطأة الرقابة حدة الانفعال الألماني واتجاهه نحو هذا النمو القومي في شتى نواحيه. وإن مهارة العامل الألماني ووعيه وتركز النشاط الألماني في الصناعة

ص: 4

والاقتصاد والتشكيل السياسي في بوتقته القومية الألمانية يجعل (تثقيف) حلفاء الغرب للألمان عملا ضئيل الجدوى ولكن ألسنة الرأي العام في المعسكر الإنجلوسكسونى يحلو لها أن تعتقد إن الألمان مكبوح جماحهم بواسطة هاتين السلطتين:

مجلس الدولي لمراقبة الرور، وهيئة مراقبة الروح العسكرية والإنتاج الصناعي والبحوث العلمية. وهذه السلطة الأخيرة مقصورة على الدول الثلاثة: بريطانيا وأمريكا وفرنسا.

وقد رأينا أن هيئة المراقبة الحليفة هذه وفروعها التفتيشية الثلاثة محدود نجاحها لأسباب تتصل بصميم الخلق القومي الألماني، إلا إن هناك كذلك دوافع (خارجية) تؤثر على مدى هذا النجاح وهي لذلك مصدر صراع للمعنيين بالمشكلة الألمانية. ولما كان النشاط الألماني الصناعي والفني حيويا وضروريا لا لإنعاش ألمانيا ورفع عبء النفقات المادية عن كاهل دافع الضرائب في بريطانيا وفرنسا وأمريكا فحسب، بل لإنعاش أوربا المحطمة إجمالا، فإن سلطة الرور الدولية تقيد الإنتاج الألماني بشروط تلزم الألمان بتصدير جزء معين إلى البلدان المجاورة سواء رضي الألمان أم لم يرضوا، وسواء فاض عن حاجتهم أم لم يفض، ومن هذه الشروط كذلك إقصاء الصناع والخبراء الألمان الذين كانوا على صلات وثيقة بالحركة النازية عن وسائل الإنتاج في الرور وغير الرور.

ويتوجس أعداء ألمانيا خيفة من هذه الحالة. فبالرغم مما يبدوا من صرامة في هذه القيود فإن هناك من يؤمن بأنها لن تكفي لإبادة عزم الألمان على المحاولة مرة أخرى للسيطرة على منطقة نفوذها التقليدية في أوربا وفي العلاقات الدولية، وفي الانتقام من عدوين لدودين هما اليهودية العالمية، والشيوعية الدولية. وقد اضطرت سلطات الحلفاء في الأسابيع الأخيرة لأن تنذر أصحاب الصحف الألمانية مراراً بأن يتفادوا توجيه الانفعال الألماني توجيهاً عنصريا ضد اليهود، وإن كانت قد أغفلت حدة التوجيه الملتهب الموجه ضد الشيوعية لأسباب واضحة. ولكن الألمان أو القوميين العنيفين منهم على الأقل يمزجون عن وعي (اليهودية العالمية) والشيوعية الدولية معاً. وبسبب هذا الخوف تواجه سلطات الاحتلال الحليفة في ألمانيا انتقادات عنيفة من الكتلة اليهودية القوية النفوذ في الولايات المتحدة وفرنسا كما حدث في قضية (الزاكوخ) زوجة مراقب معتقل يوخنفالد وما تبع الحكم المخفف عنها من موجة انتقاد وضغط سياسي استدعى تأليف لجنة برلمانية

ص: 5

أمريكية للتوصية بإعادة محاكمتها من جديد. ويواجه الحلفاء كذلك تحديا ًقوياً من الاتحاد السوفياتي لإعادة الحكم الذاتي لألمانيا الغربية الذي هو في الواقع جوهر النزاع الشكلي بين الانجلوسكسون والروس في المشكلة الألمانية. ولعل هذه المصلحة المشتركة تفسر لنا بعض دوافع التحالف السوفياتي اليهودي في فلسطين وغير فلسطين حيث يشتد العنصر اليهودي في كل حزب شيوعي يدين بالولاء لموسكو.

والخوف من بعث ألمانيا لا يقتصر على هؤلاء بل يحسب حسابه الفرنسيون والبلجيكيون والهولنديون الذين أصابهم منه شر عظيم مرتين في ربع قرن. ولذلك فإن المشكلة الألمانية لا تزال موضوع خلاف على بعض النقاط الجوهرية بين حلفاء الغرب أنفسهم.

وهناك من يشير إلى خطورة برامج الاحتكارات الدولية (الكار تل) لاستغلال المهارة الألمانية في الإنتاج الصناعي على حساب مستقبل السلم الأوربي على نحو ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

ولكن تباين الصالح بين حلفاء الغرب حول البعث الألماني لم يحل بين صناع السياسة منهم، وبين تنفيذ مشروعات هامة للإنعاش الألماني.

والخلاصة أن الألمان حين يتركون لأنفسهم سيكون طموحهم لبناء المجد العسكري واستعادة المركز السياسي والسيطرة الصناعية على أواسط أوربا مقيداً بسياسة روسيا الصارمة في الشرق وسلطات المراقبة الحليفة في الغرب.

وكان كلا الفريقين يحاولان انتزاع عود الثقاب من يد الولد الشرير، وبقي عليهما انتزاع الشر نفسه. ولعل هذا أصعب المهتمين في جوهر أس (الإصلاحية) وهم عنه مشغولين بالتناطح.

نيويورك

عمر حليق

ص: 6

‌السري الرفاء

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

- 2 -

تحدثت في المقال السابق عن الشاعر الكندي الموصلي السري الرفاء، وذكرت ما كان بينه وبين الأديبين الأخوين المعروفين بالخالدين من عداوة، وأنه أولع باتهامها بسرقة الأشعار وضَّمن كثيراً من شعره هذه التهمة. واليوم أعود إلى حديث هذا الشاعر، فأبين عن جانب من الوصف في شعره كيف سلك فيه وافتن نواحيه.

هو شاعر مولع بوصف ما يرى من الحيوان ومناظر الطبيعة وآثار الصناعة. ومما راقني في شعره، وصفه خطّافاً عشش في حجرته، وتكريره هذا الوصف في شعره ودعوته أصدقائه لرؤيته وعدد من محاسن داره. وفي الشعر العربي الجاهلي وصف الحيوان الوحشي والمستأنس، وصف صورة الحسية، ومعيشته وعاداته، والإعراب عن صحبة الإنسان لبعض الحيوان وعطفه عليه ومشاركته إياه البأساء والضراء، ولاسيما الجمل والفرس. ولست أعرف أدباً آخر فيه الاهتمام ومخالطته ومعاشرته إلى حده الذي بلغه الشعر العربي. والذي يذكر ما نظمه العرب في الإبل والخيل، وحمر الوحش والنعام والذئب والضبع والأسد وحيوان الصيد من الكلاب والفهود والبزاة. ويذكر مثل قول المثقب العبدي في ناقته:

إذا ما قمت أرحلها بلبل

تأوه آهة الرجل الحزين

تقول إذا درأت لها وضينى

أهذا دينه أبداً وديني؟

أكل الدهر حل وارتحال

أما يبقي على وما يقيني

فأبقى باطلي والجد منها

كدكان الدرابنة المطين

وقول القائل:

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

وقيار اسم جمل الشاعر.

وقو آخر:

شكى إليَّ جملي طول السري

صبراً جميلاً فكلانا مبتلي

ص: 7

وقول آخر:

هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى

وإني وإياها لمختلفان

وقول القائل:

حيتك عزة بعد الهجر وانصرفت

فحيِّ ويحك من حياك يا جمل

وقول أبي الطيب:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة

وإن كثرت في عين من لا يجرب

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وألوانها فالحسن عنك مغيب

من يذكر هذا وأمثاله يعرف مقدار ما عني شعراء العرب بوصف الحيوان بل بصحبته ومعاشرته.

الشعر العربي حافل بهذا الضرب من الحديث عن الحيوان.

وهو يدل على العطف عليه والإكبار من شأنه.

وقد حدثني أستاذ إنجليزي كبير من الأطباء البيطريين عن إعجابه بتكريم العرب والمسلمين للحيوان، ورفعتهم شأنه، ومعاملته ذي الروح، والرفق به على حين كان لغير المسلمين مع الحيوان شأن آخر، وقد كتب هذا الأستاذ في هذا المعني رسالة.

هذا موضوع واسع لا تسعه إلا المؤلفات الكبيرة، ولكني عرضت له هنا لأذكر كلف هذا الشاعر العربي الموصلي بوصف الحيوان والعطف عليه والعناية بأمره سنة شعراء العرب، ثم فرحه بطائر عشش عنده وجاوره وصاحبه.

زوجان من الخطاف اتخذا في قبة حجرته عشاً فلم يرعهما، بل أنس بهما، وسعد بصحبتهما، وذكرهما في شعره مرات،. وجعلهما من محاسن حجرته، ومما يرغب أصدقائه في زيارتهما.

انظر قوله في أرجوزة يستدعي صديقاً له:

لنا مغن حسن الغناء

وقهوةٌ ضاحكة الإباء

وغرفة فسيحة البناء

طائرة القمة في الهواء

يوطن في قبتها العلياء

زور خفيف الروح والأعضاء

محلق في كبد السماء

وتارة يلصق بالغبراء

ص: 8

في يلمق مشهَّر الأثناء

كأنما طُوَّق بالدماء

يُطلب أو يُخلب قلب الرائي

بين غناء منه أو بناء

يذكر لصديقه أن زائراً خفيف الروح ضئيل الأعضاء يسكن في قبته، وأنه يصعد ويصوب، فتارة يبلغ كبد السماء، وتارة يلامس الأرض، وهو ثوباً ثناياه بيض، وله طوق أحمر، كأنه طُوق بالدماء، فمن مغنياً أو يبصر بانياً عشه، يطرب أو يغلب على قلبه جمال هذا المغني الصغير والبناء الماهر فيخلبه.

ويقول في قصيدته يستزير بها صديقاً آخر ويُحسِّن له الزيارة بأن له غرفة عشش فيها الخطاف وأنس بها واطمأن إليها:

وقد كتبت أيدي الربيع صحائفاً

كأن سطور البرق حسناً سطورها

فمن روضة سارِ إلينا نسميها

ومن مُزنة مرخي علينا ستورها

وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها

بزائرة في كل عام تزورها

بمبيضة الأحشاء سود شطورها

مزنرة الأذناب حمر نحورها

مرفرفة حول البيوت وفودها

محلقة حول السقوف وكورها

لهن لغات معجبات كأنها

صرير نعال السبت عال صريرها

(كأن صوتها صرير هذه النعال المصنوعة من جلد مدبوغ جيد)

تجاورنا حتى تشب صغارها

فيحلق فينا بالكبير صغيرُها

فزرنا تر اللذات بيضاً وجوهها

محببة روجاتها وبكورها

أليس هذا وصف شاعر محب لهذا الطائر معجب به يرغب أصدقائه في زيارته بوصفه. ولولا رفقة به ورعايته له، ما عشش وفرخ في سقف حجرته وبقي حتى شبت صغاره فطارت مع كباره ويقول في قصيدة أخرى يدعو صديقاً له ويذكر ما عنده من المرائي الجميلة، وآلات اللهو، والفتية الأدباء، وهذا الطائر الصديق المستجير بغرفته، المحترم بجواره:

وغرفتنا بين السحائب تلتقي

لهن عليها كلة ورواق

تقسِّم زوار من الهند سقفها

خفاف على قلب النديم رشاق

أعاجم تلتذ الخصام كأنها

كواعب زنج راعهن طلاق

ص: 9

أنسن بنا أنس الإماء تحببت

وشيمتها غدر بنا وإباق

مواصلة والورود في شجراته

مفارقة إن حان منه فراق

فزر فتية برد الشباب عليهم

حميم إذا فارقتهم وغساق

فهذه غرفة يضرب السحاب عليها رواقة، تقسمها جماعة الخطاف، وهي في ألوان أهل الهند، فهو يسميها زوار من الهند وهو يسمع أصواتها عجما لا تبين، وهي تتصايح وتتطاير وتختلف أحياناً فتتشاجر كأنها كواعب من الزنج في خصام.

وقد أنس هؤلاء الزوار بهذه الغرفة، كالإماء المتوددات، ولكنهن لا يقمن على حال فهن يهجرن الغرفة ولا يرعين الصحبة والجوار، وإنما تقيم إبان الربيع والورد في شجره. فإن فارق الورد فارقت فما ودها إلا كهذه الزهرة، سريعة الذبول قصيرة اللبث.

هكذا يفتن شاعرنا في وصف جارته وإعجابه بها، وذكر ألوانها وأصواتها ، ومرحها وخصامها، وهذا لاشك ضرب من الشعر الطبيعي الإنساني، يؤلف بين الإنسان وبين ما يحيط به من حيوان وجمال، وهو في أدبنا كثير، ولكنه في حاجة إلى المتنوية والجمع والترتيب.

والسري يعد شاعر وصاف يفتن في الوصف، ويتناول بها الطبيعة: سمائها ونجومها وسحبها، والأرض: أنهارها وغدرانها ورياضها وحدائقها، والصناعات البشرية من القصور والتماثيل والسفن وغيرها. ولا يتسع المجال للإتيان بأمثلة في هذه الموضوعات فأكتفي بمثالين:

قال يصف السفن:

كل زنجية كأن سواد الليل

أهدي لا سواد الأهاب

تسحب الذيل في المسير فتختا - ل وطوراً تمرمر السحاب

وتشق العباب كالحية السوداء

أبقت في الرمل أثر انسياب

وإذا قدمت رءوس المطايا

للسري قدمت من الأذناب

وقال يصف الجراد:

وجحفل من جنود الله منتشر

مثل الخناصر منقوش الحيازيم

يحل بسطة إقليم فإنه عصفت

به الصبا صيرته جو إقليم

ص: 10

ما شنّ وهو ضعيف البطن غارته

إلا استباح حمي الشم اللهاميم

يلقي على الحب في أعلى منابته

كلا كلا نقشت نقش الخواتيم

إذا استغل أعاد الأرض معدمة

واستودع الترب نسلا غير معدوم

تلك نبذة عن السري الرفاء، ولعله يجد من عنابية الأدباء ما يؤدي حقه من نشر شعره والإشادة بذكره. . .

عبد الوهاب عزام

ص: 11

‌عدل السماء

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 2 -

(ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلاً يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حماقتك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)

لقد نزلت - يا رفيقي - قربتك فأحسست بالوحدة وأنت بين أهلك واستشعرت الغربة وأنت في دارك، وعشت فيها أياما ًفما رف إليك قريب من ذوي قرابتك، ولا هفا نحوك واحد من أخوتك. وكيف يفعلون وهم قد لمسوا منك الجفوة والامتهان والشح، فما تلبثت نفسك أن ضاقت بالحياة وحيداً في هذه القرية، فثارت خواطرك ثورة عنيفة جَياشَّة فبعت دارك لأنك لم تجد فيها الراحة ولا المأوى، بعتها - وهي كل ما تملك في القرية - فعفت على آخر أثر لك هناك، مثلما مسحت على آخر خفقة من خفقات العطف والحنان حين اشتريت هذه الدار وأفزعت عنها أهلها، اخوتك أنت. . . ثم خرجت - وحدك - من الدار ومن القرية جميعاً. انطوت الأيام فما عدت سوى ذكرى في القلوب، أو تاريخ على الألسن كان حديث القوم حيناً.

يا لعدل السماء! لقد خرجت اليوم قسراً من الدار التي طردت منها بالأمس اخوتك في غير شفقة ولا رحمة. وأرسل اخوتك الأطهار نظراتهم في إثرك وأنت تتواري خلف الافق، وتعلقت بك أبصارهم، وخففت في أسى ولوعة حين أيقنوا أنك أصبحت غريباً عنهم، وترقرقت العبرات في عيونهم لأنهم وجدوا لذع فقدك، فقلوبهم ما تزال غضه نقية لم تشوهها المدنية ولا حجرتها المادة، وأزعجتهم أن تخرج من القرية - وحدك - كآسف البال مضطرب النفس يرمضك الأسى ويمضك الهم. ولكن واحداً منهم لم يستطع أن ينطلق وراءك ليردك إلى أهلك خشية أن تلقاه في غلظة أو تحدثه في قسوة.

آه يا رفيقي، لو وجدت الرحمة إلى قلبك سبيلاً!

وعدت إلى المدينة، إلى عملك الحكومي، وما في يديك سوى ما قبضته ثمناً لدارك وسوى ما فدحك من بث وشجن حين فقدت الأخ والصديق والقريب، وحين لفظتك القرية التي ولدت فيها وترعرعت بين ربوعها. . . لفظتك وقلبك يهفو نحو ملاعب الطفولة وأحباء

ص: 12

الصبا ومسارح الشباب.

لشد ما غاظك - وأنت في القرية - أن يتغافل عنك أهلك وأن يتجاهلوا وجودك وأن ينبذوك جانباً، على حين قد جئت إليهم تريد أن تخطب الود، وتكفر عن الخطيئة وتصل ما انقطع. ماذا - يا ترى - طمس على قلوبهم فما نبضت بحب ولا خفقت بعاطفة، وأنت ابن أبيك، وأبوك كان في الذروة خلقاً وجاهاً، وهو قد عاش بينهم عمره الطويل في العزة والمنعة والشرف يوقره الكبير ويحترمه الصغير؟ ماذا يا ترى؟

وتراءى لك أن أهلك قد جفوك لفقرك، وعافوك لمرضك، فعقدت العزم على أمر، وأنت ما تزال شاباً فيك مسكَ من قوة وبقية من نشاط.

وخلصت إلى عملك الحكومي وتقضي فيه صدر النهار، وإلى عمل في شركة تجارية تقضي فيها صدرالليل، وأنت بين هذا وذاك تعين محاسباً - زميلاً لك - على عمله لقاء أجر معلوم. واغتمرت في عمل مستمر متواصل يستغرق وسعك ويستنفذ طاقتك، وأنت في شغل لا تجد مس الضنا ولا تحس شدة الرهق، فقلبك راض مطمئن، تأخذ نشوة المال حين تجمعه وتحصيه ثم تدخره عسى أن تبلغ الغنى أو ترقى إلى الثراء فتكون بين أهلك وذوي قرابتك رجلاً.

وضننت بهذا الجهد - وهو ضخم - أن تبعثره نوازع الحياة أو أن يمزه بهرج المدينة، فعاودك داء البخل والكزازة فتلمست مسكناً في حجرة ضيقة من منزل حقير بأجر زهيد تقضي فيها ساعات نومك، تقبل عليها في هدأة الليل وتفرغ عنها في بكرة النهار.

هذا المكان قذر وضيع تتراكم في نواحيه الأوحال والأوساخ وتفوح منه رائحة نتنة ذفرة، ولكنه لا يوحي إلى نفسك الغضاضة ولا يبعث في قلبك التقزز. وماذا يضيرك وأنت تتوارى في هذا الوكر عن الأبصار والقلوب؟ ثم لجَّ بك البخل وضربك الشح فأصبحت لا تبالي أن تبدو أمام الناس في أسمال خَلِقة تزدرديها النفس وتقتحمها العين، ثم ضيقت على نفسك لا تحبوها إلا بالتافه من الطعام، ولا ترفه عنها ما تعاني من كلال ونصب ولا تخفف عنها ما تقاسي من عناء وسأم.

وتعاورك الإرهاق وسوء التغذية وانحطاط المسكن، ولكنك ادخرت مالاً.

وعجبت أن ترى زملاءك في الديوان يتلقفون (الترقية) و (الدرجة) و (العلاوة) وأنت

ص: 13

تنظر وتنتظر فلا تنال شيئاً ، لماذا؟ وأنت لا تهمل ولا تتكاسل، تنطوي على عملك في دأب ونشاط وتنزل عند رأي (المدير) في غير تردد ولا نقاش تبتغي أن تنال عنده الحظوة، وأن تبلغ منه الرضا، ولكنك ما تبرح في مكانك منبوذاً في ناحية.

أما هؤلاء الذين يظفرون بالترقية والدرجة والعلاوة فما منهم من يؤمن بالعمل، ولا من يرعى حق الوظيفة، ولا من يعني بالواجب، فهذه أكداس من الورق تتراكم أمامهم فلا يعيرونها التفاته ولا يأبهون لما بها، ولكنهم يجنون رضا الحكومة، ويستمتعون برحيق الوظيفة، وأنت تنظر وتنتظر في غير رجاء ولا أمل، فليت شعري لماذا؟

وخُيِّل إليك أن السر هناك في حجرة المدير فذهبت تكشف عن خبيئة الأمر فما أعجزتك الحيلة ولا ضاقت بك الوسيلة وأنت ذو ثقافة وعقل.

ورأيت الموظف يتملق (سعادة المدير) بأساليب أيسرها الإطراء والمدح، ويقترب إليه بوسائل أكرمها التذلل والتعبد والمدير يتقبل هذا وذاك في رضا وسرور. . هذا سبيل وعز عليك أن تسلكه فما في طبيعتك أن تفعل. ولكنك برمت بما ترى حواليك وحار عقلك، وآنذاك أن ترى مَنْ هم دونك يتسلقون السلم في سرعة وسهولة، وأردت أن تتذوق بعض ما يسعدون به.

وسطعت في خيالك خاطرة انجابت لها كل الخواطر السود في رأسك، وهدأت لها أعصابك الثائرة، فأنت قد عقدت العزم على أن تصل حبلك بحبل (سعادة المدير) فتتزوج من ابنته.

وزَين لك خيالك الأمر، فغداً - حين تتزوج من ابنة المدير - تصبح أنت صاحب الرأي في المكتب، وصاحب السلطان في الديوان، وصاحب الكلمة في المصلحة. واستبدت بك الفكرة فبعثت فيك النشوة واللذة. . .

وذهبت إلى (سعادة المدير) تخطب إليه أبنته فربتَ على كتفك وأجلسك إلى جانبه وحباك بعطفه وانفتح لك باب حجرته وباب داره في وقت معاً، وانحنى لك ساعيه وبوابه وهابك مرءوسيه وأعوانه، واحتفل بك أهله وأقاربه، ثم طلب إليك المهر فما تعوقت وما تعوق هو الآخر، فجاءتك الترقية والعلاوة والدرجة جميعاً، وابتسم (سعادة المدير) وابتسمت أنت أيضاً ولكن الأيام. . .

فيا ليت شعري هل كان أبوك يستنزل سخط السماء على ابنه العاق حين كان يتمتم بكلمات

ص: 14

لم تسمعها أذن؟

وتمت المراسيم الأولى للزواج، وجاء جهاز العروس بين فرح الأهل وبهجة الأقارب، وانتهى كل شيء فلم تبق سوى أيام ثم تزف إليك عروسك السعيدة. وأردت أن تلقي بنفسك في غمرات العمل الشاق لتدخر مالاً تنفقه عن سعة في شهر العسل، ولكنك أحسست بقوتك تتقوض وبصحتك تنهار، فانطلقت تطب لمرضك فأرسلك الطبيب إلى مصحة حلوان.

وأنت الآن - يا رفيقي - هناك في مصحة حلوان لا تجد الصديق لأنك خاصمته منذ زمان ولا تجد المال لأن المدير قد استنزف كل مالك مهراً لابنته ثم طار عنك، وتزوجت أبنته من مال دفعته أنت مهراً لها.

أنت هناك - يا رفيقي - تنتظر النهاية وحبداً لأن أباك استنزل سخط السماء على ابنه العاق. فيا ليت شعري. . يا ليت!

كامل محمود حبيب

ص: 15

‌حين تعبث الأقدار

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

ليست هذه القصة خيالية، وإنما حادث حقيقي؛ وقف كاتب هذه السطور على تفصيلاته من أشخاصه أنفسهم وباشر أخيراً بنفسه بعض إجراءات فضائية ترتبت عليه.

بدأت وقائع هذا الحادث منذ خمس عشرة سنة. وفي الشهر الماضي سدل الستار علىالفصل السبابقأسدل الستار على الفصل السابق للأخير منه. أما نهايته فهي سر المستقبل.

منذ خمسة عشر عاماً خطفت امرأة طفلة صغيرة تبلغ من العمر خمس سنوات من أسرة غنية تقطن بلدة من أعمال مديرية أسيوط. وكان اختطاف البنت بتحريض أحد خصوم والدها وتدبيره - على ما يقول - لضغينة بينهما. ولم تُسفر في ذلك الحين أبحاث البوليس ولا تحقيقات النيابة عن نتيجة، ولم تثبت التهمة على شخص معين وقُيدت القضية (ضد مجهول) و (حفظت لعدم معرفة الفاعل) وانتهى الأمر عند هذا الحد من الناحية القضائية، وظلت الطفلة مفقودة، ولم يهتد إليها أحد على رغم جهود والدها المتواصلة في البحث عنها، وقد أرسل في هذا السبيل أقاربه ومعارفه إلى أطراف المديرية، ثم إلى مختلف أنحاء البلاد، وأنفق جانباً من ثروته بلا جدوى. وكم نصب عليه الكثيرون من الدجالين: من محضري الأرواح ومحترفي التنويم المغناطيسي والمنجمين وقارئي الكف وغيرهم. وقد وفد إلى القاهرة لمقابلة بعضهم مخدوعاً بإعلاناتهم ومحاضراتهم الماكرة التي يُغرون بها السذج. وكان كل واحد منهم يرسله إلى ناحية نائية من البلاد يزعم أن ابنته نقلت إليها حتى يُبعده عنه بعد أن يستولي على كل ما يمكنه الاستيلاء من ماله. وادعى بعض الخبثاء منهم أن الطفلة هُرِّبت إلى خارج البلاد ليعجزه عن السفر إليها.

وظلت الأم المسكينة تبكي ابنتها ليل نهار السنين الطويلة حتى فقدت بصرها وعز الدواء. وكان أشد ما يفزعها أن تكون ابنتها تقاسي آلام الجوع أو ذل الخدمة أو ما هو شر من هذا كله وحشية بعض الرجال يقودونها إلى الرذيلة ويكرهونها عليها، حتى كانت أن تكون ابنتها قد ماتت خيراً من أن تتجرع هذه الأهوال وتسقط في تلك الهاوية.

وأخيراً ترامى إلى علم والدها أن لخاطفي أبنته، أو بالأحرى لمن اشتبه فيهم - أقارب في

ص: 16

القاهرة يذهبون إلى زيارتهم من حين إلى أخر، فظن الرجل أن يكونوا قد أرسلوها إليهم ليخفوها، أو أنهم تركوها شريدة في شوارع العاصمة. فاستأنف بحثه فيها واستعان ببعض أقاربه وأقاربهم هنا، وصاروا يتفرسون في كل فتاة يقابلونها في الأزقة والطرقات عساها أن تكون ضالتهم المنشودة.

وحدث في الشهر الماضي أن وقع نظر أحدهم على فتاة فقيرة في أحد الأحياء الوطنية تشبه ملامحها - بعض الشبه - ملامح ابنتهم المفقودة فتعقبها عن بعد إلى أن وصلت إلى مسكنها المتواضع، ثم أرسل إليها خالتها التي تحققت من التفرس فيها ومن حديثها معها ومن الكشف على بعض مميزات في جسمها أنها أبنة أختها المفقودة، فلجأ إلى البوليس وهناك قصت الفتاة تاريخها من بدء ما أمكنها أن تذكر إلى حالتها الراهنة.

قالت إنها تذكر أنها كانت مع امرأة اعتادت أن تعاملها بخشونة وتضربها بقسوة، ثم انتقلت من منزل إلى منزل لا تستطيع الإرشاد عن أماكنها، وكانت تخدم في البيوت، وأخيراً التحقت بخدمة أسرة تجاور كاتب هذه السطور، وكان لرب هذه الأسرة خادم يعمل في محل تجارته فتزوج الفتاة من نحو عامين وتركت الخدمة وعاشت مع زوجها راضين قانعين بما قسم لهما من شظف الحياة. ومنذ بضعة شهور ولدت طفلا ففرح الزوجان به فرحاً شديداً وانصرفت الزوجة إلى العناية بمولودها والسهر عليه ولقيت من مخدومتها السابقة كل مساعدة. . . إلى أن فوجئت بطلبها إلى مركز البوليس هي وزوجها على الوجه المتقدم.

وهنا قامت مشكلة على جانب من الخطورة، فقد كان من المستطاع حل المسألة على خير وجه بأن يساعد والد الفتاة، وهو غني، زوج ابنته الفقير على رفع مستواه حتى يصبح كفئواً له فيؤجر له مثلا بعض أطيانه بإيجار قليل في بادئ الأمر، أو يقيم له متجراً يرتزق منه الخ. . . ولكن وقفت عقبة أمامهم عقبة كؤود فقد اتضح أن الزوجة وأسرتها من الأقباط المسيحيين، وكانت الفتاة قد تزوجت هذا الشاب المسلم وهي تجهل حقيقة أمرها وتعتقد أنها مسلمة مثله. ولم يكن أهل الزوجة على درجة من التعليم وسعة العقل والتسامح الديني يجعلهم يقبلون هذا الزواج الذي تجيزه المسيحية والشريعة الإسلامية على السواء؛ بدليل زواج الكثير من المسلمين بالأجنبيات المسيحيات بقبول أهل الزوجة ورضاهم. لهذا عارض والد الفتاة وأقاربهم في استمرار زواج ابنتهم بزوجها هذا، وقالوا إنهم سيطلبون من

ص: 17

القضاء إبطاله لأنه بُني على الخطأ، والخطأ يبطل التعاقد.

أمام هذا الإشكال وهذا النزاع وأي بوليس القاهرة أن يحيل الموضوع كله إلى (الجهة المختصة) وهي مركز بوليس أهل الزوجة حيث وقعت الجريمة - جريمة الخطف - وحيث يسهل استكمال تحقيق شخصية هذه الفتاة رسمياً، وهل هي حقيقة ابنة (المشتكي) وذلك بشهادة الجيران وباقي أفراد العائلة على ضوء المحضر القديم (المحفوظ) بالنيابة، فعارضت الفتاة وقالت: إنها لا تريد أن تفارق زوجها والد ابنها، وأنها راضية بحياتها الحاضرة؛ غير أن المأمور أمكنه أن يقنعها بالسفر مع زوجها، فقبل الزوجان بعد أن رأيا من كرم أخلاق والد الفتاة وباقي أسرته وحسن معاملتهم ما شجعهما على ذلك، وسافروا جميعاً.

وكان منظر مؤثراً حقاً لقاء تلك الأم المسكينة الضريرة بابنتها بعد فراق خمسة عشر عاماً، فأخذت تضمها إلى صدرها بحنان وتقبلها وتتحسس بيدها رأسها ووجهها وشعرها وجسمها تستعيض بهذا عن نعمة الأبصار وكأنها في حلم لذيذ لا تصدق أنه حقيقة. وبعد أن استراح الجميع وأكلوا وشربوا وأكرموا الزوج كل الإكرام، أخذوا يطوفون بالفتاة أنحاء المنزل وملحقاته وعلى الشوارع المحيطة به فقالت إنها تذكر فعلاً بعض هذا حين كانت طفلة، وأيقنت أنها ابنة هذه العائلة حقيقة. وقد تأثرت بحالة والدتها وقالت إنها لن تتركها بعد الآن. وأشفق زوجها كذلك على هذه الأم الضريرة. وبعد أن كان مصمما على الرجوع مع زوجته إلى القاهرة أقنعه ذووها بأن منا الخير لابنه أن يتولوا هم بما لهم من ثروة وجاه أمر تربيته وتعليمه حتى مرحلة التعليم العالي الذي يعجز عنه هو بطبيعة الحال؛ ويخصون الطفل ببعض أملاك جده بشرط أن يتخلى أبوه عن زوجته ويترك لهم الطفل على أن يحضر إلى القاهرة من وقت إلى آخر لمشاهدته، أو يحضر هو لزيارته كلما شاء معززاً مكرماً في ضيافتهم. وبعد أن تردد الرجل كثيراً وفكر رأى أن يضحي بسعادته الزوجية ويحرم نفسه ابنه العزيز ضماناً لمستقبل الطفل، فقبل أن يطلق زوجته ويترك لها حضانة ابنها، وعاد إلى القاهرة وقلبه يتمزق حزناً على فراقها وفراقه، ومازال يحن إليها بكل جوارحه. وهكذا ذهب ضحية اختلاف الدين. على أنه يجد في المستقبل الزاهر الذي ينتظر الطفل خير عزاء. وهو يكرر الآن القول ليعزي نفسه: (إن الله فتح على أبني وإن

ص: 18

كان قد حرمني منه ومن زوجتي).

على أن الرواية لم تتم فصولها، لأنه يبقى أن نعرف ما يكون عليه مركز الابن من والده ومن والدته ومن وأسرة كل منهما متى بلغ سن الرشد، وإلى من منهما ينتمي؟

نصيف المنقباوي المحامي

ص: 19

‌القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب

‌الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 3 -

وكان للجيش ديوان من الناحية الإدارية والمالية. وكان الجندي في ذلك الحين موسعاً عليه الرزق، بل كان الخير يغدق عليه أحياناً من ناحية المتنافسين على تولي زمام السلطان، فعندما وزر شاور مثلا زاد الأجناد على ما كان لهم عشر مرات

وفي العصر الفاطمي كان الجنود يتقاضون مرتباتهم نقودا، ً ويظهر أنهم ما كانوا يأخذون مرتباتهم شهرياً، وإنما كان يعطي لهم في العام مرة، وأن هذه المرتبات تبلغ ثلث خراج الدولة، يفهم ذلك من قول المقريزي في خططه. وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند من فيه حماسة وشدة، ومن الكتاب العدول، وكاتب نصراني، فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج على ما تشهد به المكلفات المذكورة، فينفق في الأجناد، فإنه لم يكن حينئذ للأجناد إقطاعات.

ولكن نور الدين محموداً بالشام فضل أن يعطي جنده إقطاعات ينالون منها أجورهم. وكان الجندي إذا مات أعطي إقطاعه لولده فإن كان صغيراً رتب معه من يلي أمره حتى يكبر؛ فكان أجناده يقولون: الإقطاعيات أملاكنا، يرثها أولادنا الولد عن الوالد فنحن نقاتل عليها؛ وسارت الدولة الأيوبية والمملوكية على هذا النظام فكانت تمنح الأمير وأجناده الإقطاع، على أن يكون للأمير الثلث ولأجناده الثلثان، فلا يمكن الأمير ولا مباشروه أن يشاركوه أحداً من الأجناد فيما يخصهم ألا برضاهم ، وكان الأمير لا يخرج أحداً من أجناده حتى يتبين للنائب موجب يقتضي إخراجه. فحينئذ يخرجه نائب السلطان، ويقيم الأمير عوضه وكانت إقطاعات جند الأمراء على ما يراه من زيادة بينهم ونقص، ومن مات من الأمراء والجند قبل استكمال مدة الخدمة حوسب ورثته على حكم الاستحقاق، فإما أن يرتجع منهم، وإما أن يطلق لهم على قدر حصول العناية بهم. وإقطاعيات الأمراء والجند، منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها. وكان لجميع

ص: 20

الأمراء على السلطان الرواتب الجارية في كل يوم من اللحم وتوابله كلها والخبز والشعير للخيل والزيت؛ ولبعضهم الشمع والسكر والكسوة في كل سنة، وكذلك لجميع مماليك السلطان وذوي الوظائف من الجند. ولكل أمير من الخواص على السلطان مرتب من السكر والحلوى في شهر رمضان، ولسائرهم الأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم، وكانت الخيول السلطانية تفرق على الأمراء مرتين في كل سنة.

وفي الحملات الحربية الكبرى كان بعضها السلاطين يلجأ إلى فرض ضرائب جديدة على الشعب المصري كما حدث في عهد قطز فإنه عند ما أزمع حرب التتار أخذ من أهل مصر والقاهرة على كل رأس من الناس من ذكر وأنثى ديناراً واحداً، وأخذ من أجرة الأملاك والأوقاف شهراً واحداً وأخذ من الأغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلا، وأخذ من الترك الأهلية الثلث من المال وأخذ على الغيطان والسواقي أجرة شهر، فيبلغ جملة ما جمعه من الأموال في هذه الحركة ستمائة ألف دينار. وبهذه الأموال جند جيشاً هزم التتار لأول مرة تاريخ حياة التتار.

والقارئ لوصف المجلس الاستشاري الذي عقده قطز من علية القوم لفرض ضرائب جديدة للجيش يرى ما كان عليه هذا الجيش من سعة في الحياة. والحق أن سلاطين ذلك الحين لم يضنوا على جيوشهم، لعلمهم بأنهم الساعد والعضد في الدفاع عن أرض الوطن. ولم يكن الجند يخرجون إلى قتال إلا وهم مغمورون بالرزق والعطاء. أنفق الأشرف خليل ابن قلاوون في سني حكمه الثلاث نفقات: الأولى في أول جلوسه في السلطنة، والثانية عند توجهه إلى عكا، والثالثة عند توجهه إلى قلعة الروم.

وكما عني الفاطميون بإنشاء جيش يرى لجب يحفظ ملكهم، ويصون إمبراطوريتهم، لم يغفلوا عن أن بلادهم - ولها شواطئ مترامية الأطراف على بحرين عظيمين الأبيض والأحمر - تحتاج إلى أسطول ضخم يصون الحمى ويحمي الذمار، فأنشأ المعز لدين الله قوة بحرية مكونة من أكثر من ستمائة قطعة، وقد أعانته تلك القوة وأعانت خلفاءه على تثبيت سلطانهم وحفظ هيبتهم.

ولكي ينال الأسطول ما يستحقه من الرعاية أنشأت الدولة له ديواناً خاصاً يقال له ديوان العمائر، يعني به من الناحية الإدارية والمالية.

ص: 21

وزاد عدد جنده على خمسة آلاف مقاتل، لهم عشرة قواد بعين منهم واحد رئيس الأسطول، فإذا ساروا إلى الغزو وكان هو الذي يقلع بهم، وبه يقتدي الجميع، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه. وعلى الأسطول مقدم يكون أميراً كبيراً من أعيان أمراء الدولة وأقوالهم نفساً وللجند عشرون عريفاً يسمون النقباء هم الذين يفرقونهم ويجمعونهم إذا كان غزو.

ولقواد الأسطول مرتبات يصل أعلاها إلى عشرين ديناراً في الشهر، وبعضهم يأخذ خمسة عشر ديناراً، أو عشرة دنانير أو ثمانية أو دينارين، وذلك أقل مرتباتهم. وللجند الأجور والجرايات مدة سفرهم لكل واحد خمسة دنانير، أما بعد عودتهم فإنهم ينالون رزقهم بكدهم، ويكونون على استعداد للغزو إذا طلبهم العريف له.

وتتفق الدولة على الأسطول من إقطاعات خصصت به تعرف بأبواب الغزاة وفيها ما يرد إلى الخزانة من ثمن المطرون الذي احتكرته الحكومة.

فإذا أراد الأسطول الغزو جمع النقباء له الرجال من غير أن يكرهوا أحداً على السفر، ثم يعين الخليفة يوماًُ للنفقة يجلس فيه ومعه الوزير، كما يحضر صاحباً ديوان الجيش وهما المستوفي والكاتب وللمجلس أنطاع تصب عليها الدراهم ويحضر لذلك الوزانون لبيت المال فإذا تهيأ الانفاق أدخل الغزاة مائة مائة، وتكون أسمائهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحداً واحداً فإذا كمل عددهم عشرة وزن الوزانون لهم: لكل واحد خمسة دنانير، ويستمر ذلك مدة أيام متوالية مرة ومتفرقة مرة، فإذا تكاملت النفقة وتهيأت السفن للسفر خرج الخليفة والوزير إلى ساحة النيل بالمقس خارج القاهرة، وكان هناك منظرة يجلس فيها الخليفة لوداع الأسطول ولقائه إذا عاد، فإذا جلس للوداع جاءت القواد بالمراكب من مصر إلى هناك، للقيام بمناورة بين يدي الخليفة وهي مستكملة عددها وأسلحتها وما فيها من المنجنيقات، فيرمي بها، وتنحدر المراكب وتقلع وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدو، ثم يحضر المقدم والرئيس بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو للجماعة بالنصر والسلامة. ويعطي للمقدم مائة دينار وللرئيس عشرين دينار. وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى البحر الأبيض للغزو والجهاد؛ فإذا أدى واجبه عاد وخرج الخليفة أيضاً للقائه. ومن ذلك يبدو مقدار اهتمام الخليفة بالقوة البحرية ومدى عنايته بأمرها. وكانت العادة أن ما غنمه

ص: 22

الأسطول من المال والثياب ونحوهما يكون لغزاة الأسطول لا يشاركهم فيه أحد وليس للخليفة سوى الأسرى والسلاح.

ولم يزل أمر الأسطول معيناً به طول عصر الدولة الفاطمية؛ وإن كانت عدد سفنه قد قلت في عهد الحروب الصليبية، ولكنها لم تنقص عن قطعة في آخر عهد الدولة الفاطمية. فلما دخل الفرنج أرض مصر في عهد شاور خاف أن يقع الأسطول الفاطمي في يد ملكهم مري، فأحرق جزءاً كبيراًُ منه ونهبه العبيد فيما نهبوا، وهكذا فقدت مصر جزءاً كبيراً من قوتها البحرية بسبب هذا العراك الذميم على السيطرة والسلطان بين وزراء ذلك الزمان.

فلما جاء صلاح الدين رأى واجباً عليه لكي يتم رسالته أن يعني بأمر الأسطول به أساطيل الصليبية؛ ففي سنة 572 وهو مقيم بالإسكندرية رأى الأسطول وقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته فأمر بتعميره، وجمع له من الأخشاب شيئاً كثيراً ومن الصناع عدداً جماً حتى إذا تم صنع المراكب أمر فحمل إليها ما هي في حاجة إليه من السلاح والعدد وشحنه بالرجال، وولى فيه أحد أصحابه، وخصص له إقطاعاً خاصاً، وموارد ثابتة يجني منها مقدار ضخم ينفق عليه، وزاد في دينار الأسطول، فجعله يساوي نصف دينار وربعه بعد أن كان يساوي نصف دينار وثمنه، وأفراد للأسطول ديواناً خاصاً سلمه إلى أخيه الملك العادل، وأعطى صلاح الدين صاحب الأسطول سلطة كبرى في تخير رجاله وإعداد سلاحه فكتب إلى سائر البلاد يقول: القول قول صاحب الأسطول وألا يمنع من أخذ رجاله وما يحتاج إليه واشتهر من قواد البحر في عهد صلاح الدين القائد العظيم لؤلؤ. وبلغت عدة الأسطول سنة 575 ستين شينياً وعشرين طريدة ولابد أن يكون عدد قطع الأسطول قد زاد بعدئذ فإن صلاح الدين ما كان يضن هذه القوة البحرية بمال.

واستمرت العناية بأمر الأسطول قليلا بعد وفاة صلاح الدين ثم قل الاهتمام به صار لا يفكر إلا عند الحاجة إليه فإذا دعت الضرورة طلب له الرجال، وقبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهاراً وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا ولا يعطون إلا قليلا من الخبز ونحوه، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدو فصارت خدمة الأسطول عاراً يسب به الرجال وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطولي غضب غضباً شديداً بعد أن كان خدام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله والغزاة لأعداء الله، ويتبرك

ص: 23

الناس بدعائهم.

ثم عادت العناية بأمره في عهد الصالح أيوب، وكان له أكبر الأثر في معركة المنصورة كما رأينا، وأهمل أمره بعد ذلك حتى أيام بيرس فاستدعى رجال الأسطول وأمر بصنع السفن وقطع الأخشاب لعمارتها، وكان يشرف على صنعها بنفسه ويجلس بين الأخشاب والعمال ويقتدي به الأمراء فيحملون بأنفسهم آلات الشواني ويساعدون في صنعها وبني أكثر من أربعين سفينة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد وذلك في شوال سنة669 ولما حطم هذا الأسطول عند قبرص أعيد بناء غيره وخرج بيرس لاستعراضه كما كان يركب مع الخليفة لمشاهدة مناوراته الحربية في النيل. وفي تقليد الخليفة لبيبرس يوصيه بالعناية بأمر الأسطول ويقول له: وكذلك أمر الأسطول الذي تزجى خيله كالأهلة وركائبه، سابقة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حامله، وهكذا تكلفت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام وإذا شبهها قال هذه ليل تقلع بالأيام وهذا التشبيه يدل على أنها كانت تطلى باللون الأسود. فلما كان عهد قلاوون رأينا في الحملة التي وجهها إلى بلاد النوبة سنة 688 خمسمائة مركب، ما بين حراريق وغيرها.

وفي عهد خليل بن قلاوون زادت العناية بأمر الأسطول حتى كملت عدة الشواني نحو ستين شونة ملأها بالعدد وآلات الحرب. وعزم السلطان على الخروج لمشاهدته، فأقبل الناس من كل صوب يريدون أن يشهدوا تلك القوة البحرية الضخمة، واستعدوا لذلك قبل مقدم السلطان بثلاثة أيام، وصنعوا لهم أخصاصاً على شاطئ النيل وأكثروا الساحات التي قدام الدور بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا خرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك ولما حضر السلطان برزت الشواني واحدة بعد واحدة، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملح، والنفط يرمي عليها وعدة من النقابين يعمل الحيلة في النقب، وما منهم إلا من أظهر في شونته عملاً معجباً وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه، ثم عاد السلطان وأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم وكان شيئاً يجل وصفه، وأتفق فيه مال لا يعد بحيث بلغت أجرة المركب ستمائة درهم ولما بلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنجة بعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح، وأقيمت مثل هذه

ص: 24

المناورة وهذا الاحتفال سنة702 في عهد الناصر محمد ابن قلاوون.

(يتبع)

أحمد أحمد بدوي

ص: 25

‌اقرأ معي

للأستاذ إيليا حليم حنا

كان الملك هنري الرابع ملك فرنسا يقول دائماً للولاة والحكام:

أوصيكم بالفقراء والوضعاء خيراً فإنهم عماد المملكة ولولاهم لما كنتم ولما كنت أنا شيئاً يذكر؛ ففي استطاعتهم أن يستغنوا عنا؛ أما نحن فليس في استطاعتنا أن نستغني عنهم!

عندما حاصر الإمبراطورية (كنراد الثالث) دوق بافاريا وتغلب عليه وافتتح أمر رجاله بقتل الدوق مع كل رجاله الأخصاء فمثلت زوجة الدوق ونساء قصرها بين يدي الإمبراطور وطلبن منه أن يسمح لهن بالخروج من القصر إلى مكان أمين حاملات ما يقدرن على حمله. ولما سمح لهن بما طلبن خرجت كل واحدة منهن حاملة زوجها على ظهرها. فلما رأى الإمبراطور ذلك أعجب بأمانتهن وحبهن لأزواجهن وعفا عنهم.

كان قدماء اليونان إذا نبغ فيهم صانع أو شاعر أو خطيب أقاموا له الأعياد وسيروا المواكب ونظموا الحفلات وقدموا له تاج فخار مصنوع من أغصان الشجر المسمى بشجر الغار الذي كانوا يعتبرونه من الأشجار المقدسة الخاصة بالآلهة ولا سيما (أبولون) إله الشعر والفنون الجميلة. وكان القوم يهرعون إلى تلك الحفلات من كل جانب وينسلون إليها من كل حدب فيذهبون من برقة وصقليا وإيطاليا إلى أثينا للاشتراك في تكريم نوابغهم.

وكذلك كان الرومان، لكنهم كانوا يجعلون تلك الحفلات التكريمية مقصورة فيها للمحتفل به الهدايا والمكافآت.

على أن هذه كانت أيضاً من عادات العرب قبل الإسلام. قال أبو الحسن بن رشيق القيرواني في الجزء الأول من كتاب العمدة (كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس وبتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم وذود عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ)

وفي عهد الإسلام وخاصة في عصر الدولة العباسية رفع الخلفاء والأمراء قدر العلماء والشعراء وأجزلوا لهم العطاء. وروى عن المأمون أنه كان يعطي زنة الكتاب المترجم ذهباً.

ص: 26

يقول الدكتور أدلر أحد أقطاب علم النفس الحديث إن معظم ما يرى في بعض الناس لا يرجع إلى امتياز طبيعي وإنما يرجع في الحقيقة إلى نقص فيهم وخاصة في أجسادهم وهذا النقص يدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم دون غيرهم كفاية فيضاعفون جهدهم لكي يبلغوا نوعاً من التبرز يغطون به هذا النقص. والإنسان العادي الذي ليس به أي نقص في رأى أدلر محدود الأطماع والجهود لا يرى ما يدفعه إلى التبرز. أما الناقص فإنه دائم الإحساس بنقصه يدأب على أن ستره بتفوقه في ناحية من النواحي. وقديماً حاول الروماني الألكن أن يكون خطيباً وتغلب على لكنة لسانه وأصبح أكبر خطباء الرومان. وقلما نجد رجلا نابغة إلا وبه شيء من النقص الطبيعي حاول أن يعتاض عنه بكفاية جديدة فحذق فنا أو طريقة حتى زاد حذقه عن المعتاد فنبغ.

خطب عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته ام إياس فوافق والدها وخلت بها أمها فقالت: أي بنية. . . أنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي درجت، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبداً واحتفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخراً.

أما الأولى والثانية، فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة.

وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينيه وأنفه، فلا تقع عينيه منك على قبيح، ولا يشتم منك إلا أطيب ريح.

وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبه، وتنغيص النوم مغضبه.

وأما السابعة والثامنة، فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصي له أمراً، ولا تفشي له سراً، فإن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. وإياك والفرح بين يديه إذا كان ترحا، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً. فاحفظي وصيتي واعملي بنصيحتي.

قرأت في مقال أعده مكتب رئيس البوليس في مدينة لندن ما يلي عن بصمات الأصابع:

إن تطور علم بصمات الأصابع قد ثبتت أهميته العظمى لنفع الجنس البشري الذي يعيش

ص: 27

في العصر الحديث. أخذ بصمات الأصابع لا يساعد على اقتفاء آثار المجرم وعلى إثبات جريمته فقط، بل إنه يعمل كذلك على حماية البريء ضد اتهامات لا يكون لها أساس من الصحة.

عندما تنظر إلى راحة يدك ترى خطوطاً عرضية وفجوات صغيرة تبدو أنها تتجه في جميع الاتجاهات؛ وعندما ننظر إلى أطراف أصابعك ترى أن تلك الخطوط تنظم نفسها في نموذج خاص. وهذا النموذج وتلك الفجوات كانت موضع دراسة العلماء لعدة سنوات وكان من نتيجة أبحاثهم أن توصلوا إلى هذه الحقيقة العجيبة وهي أن الخطوط التي توجد على راحة اليد تتكون قبل مولد الإنسان إلا أنها لا تغير شكلها مهما طال عمر الإنسان وتظل واضحة على اليد حتى يتحلل الجسم بالموت. ولم يكتشفوا أن بصمات أصابع كل أنسان تختلف عن غيره فحسب بل أن كل إصبع في اليد الواحدة يختلف عن غيره في تفاصيل النموذج.

ولو انفق وحدثت إصابة سطحية على الجلد الذي يغطي الإصبع نتيجة حرق أو نتيجة القبض على شيء ساخن فإن الخطوط قد تختفي مؤقتاً ولكنها لا تلبث أن تعود إلى الظهور مرة أخرى متخذة شكلها السابق. ولكن إذا جرحت راحة اليد أو الأصابع جرحاً عميقاً تظل هناك علامة دائمة.

ويعمل بنظام أخذ بصمات الأصابع في معظم أنحاء العالم المتمدن منذ ما يقرب منتصف قرن. وهذا النظام من الدقة بحيث لم يخفق مرة واحدة في تحقيق الشخصية.

الأبيض - سودان

إيليا حليم حنا

ص: 28

‌في القاع يا رب

للشاعر سعد دعبس

مهداة إلى روح الشاعر البائس (عبد الحميد الديب)

(دعبس)

حطمي الزورق يا ريح فقد طال ظلامي

وجرى الشك ورائي ومشى الوهم أمامي

فدعى الأمواج تسري في الدياجي بحطامي

واجعلي من شاطئ النسيان داري ومقامي

حينما تسبح روحي فوق هامات الخلود

وأرى عمري سطراً في قواميس اللحود

سوف أحيا في سنا الفجر وهمسات الورود

مثلما شاء خيالي لا كما شاءت قيودي

أنا يا رب شكاة سمح الزمان

لم يع الدهر صداها فجفاها وجفاني

أنا يا رب غريب في زماني ومكاني

وطني تاه عن العين ومن روحي دان

أه لو يسري بي الموج إلى واد بعيد

حيث لا أحيا بدنيا ما أحست بوجودي

حلق الباغم فيها وهوى رب القصيد

آه ضاعت أنغم الأحرار في دنيا العبيد

وأنا ذوبت روحي في أناشيد خيالي

وتوهمت الصدى يبقي على مر الليالي

وإذا بالقاع يطو يني ولا يدري بحالي

وإذا لحني سراب ضاع في بطن الرمال

ص: 29

كيف أشدو يا إلهي والأعاصير ورائي

عابثات بهنائي ساخرات بشقائي

كلما لاح صباحي لم أجد إلا مسائي

وإذا أرسلت لحناً خلته رجع بكائي

لِمَ أشدو يا إلهي وأنا رهن القيود

وجموع الكون غرقى في بحار من جمود

ليس يدري عالم الموت أناشيد الخلود

وسواء أنغم الطير وصيحات القرود

قهقهات من فم الأوهام تطوي بسماتي

ورياح الشك حولي عاصفان بصلاتي

لا تدعني يا إلهي أتغنى بشكاتي

ربما تفني دموعي فأغنى بحياتي

أنا في القاع ولا شيء سوى القاع أمامي

ربما ينعم بالفجر الأفاعي وأنا رهن الظلام

قل لمن يطفو على السطح بعيداً عن حطامي

أنا في القاع ولا شيء سوى القاع أمامي

سعد دعبس

ص: 30

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

تحية قلبية وأخرى قلمية:

أتلقى من حين إلى آخر كثيراً من الكتب التي يهديها إلىَّ أدباء تربطني ببعضهم صلات ود وصداقة، ولا يربطني بأكثرهم شيء من صلات الود والصداقة، وكذلك الأمر فيما يختص برسائل القراء. ومما يؤسف له أن الذين يخرجون الكتب في هذه الأيام من الكثرة بحيث لا يستطيع الذين يكتبون النقد وهم قلة، أن يتتبعوهم فيما يكتبون وأن يتحدثوا عن مؤلفاتهم ناقدين أو عارضين! وليت الأمر يقف بهم عند هذا الحد، وهو التفضل بإهداء الكتب والاكتفاء بتقبل الشكر. . . كلا ولكنهم يطلبون إلى الناقد - عن طريق التلويح أو التصريح - أن يكتب عن الأثر الأدبي الذي أخرج، وأن يثني على الجهد الفني الذي بذل، لقاء ما قدموا إليه من ثمرات القرائح وما خلعوا عليه من أثواب المديح والإطراء! ويحار الناقد ماذا يقرأ وماذا يدع إن وقته لأضيق مما يقدر الذين بعثوا إليه بكتبهم راجين أن يشير إليها من قريب أو من بعيد، وإنه ليلقي من كتبهم ما قرأها كثيراً من العنت والإرهاق وإن منها ليذهب فيها الوقت والجهد بلا فائدة ترجي ولا غناء!.

والدهشة بعد ذلك في تلقي العتاب إذا ما تحدث عن كتاب فلان وأغفل كتاب علان؛ الدهشة التي تصاحبها الحيرة في الاعتذار لمن يهدون إليه كتبهم فلا يكتب عنها فيتبعون. . . ماذا يقول لهم وكيف يعتذر إليهم؟ أيقول لهم إنه لم يجد من وقته متسعاً للكتابة، أم يعتذر إليهم عن غثاثة الإنتاج وضآلة الجهد وتفاهة المادة؟ أمران كما يقولون أحلاهما مر. وليت الكتاب من أصدقاء يقدرون ويخففون من وقعها على النفس والشعور.

أما أنا فقد آليت على نفسي ألا أكتب عن أي أثر أدبي إلا إذا لمست فيه للأدب وفائدة للقراء. وحسب كتاب لم يتحقق فيه هذا الأمل المرجو أن أقدم الشكر على إهدائه، وحسب صاحبه تحية أقدمها إليه من قلبي. أما الكتاب الذي يضيف إلى رصيد القارئ ثروة فكرية جديدة فلن أتردد في أن أقدم إلى صاحبه التحية من قلمي!

هذه كلمة من مؤلفات الأدباء أنتقل بعدها إلى رسائل القراء. إن بعضها يردد واحدة لا تكاد تتغير وهي الشكوى من إهمال (الرسالة) لكثير مما يرسل إليها من إنتاج أدبي لا ذنب

ص: 31

لأصحابه إلا بعدهم عن الشهرة وذيوع الاسم! أما بعضها الآخر فيحمل إلىَّ مقالات وقصائد مصحوبة برجاء مرسليها أن أدفع بها إلى المطبعة لتأخذ طريقها إلى صفحات (الرسالة) وأيدي القراء، لأن ذوقي المتواضع من شأنه - في رأيهم - أن يستجيب لأمثال هذه الوثبات الفكرية والتهويمات الروحية!

إن ردى على هؤلاء الذين يحتكمون إلى ذوقي ويطلبون وساطتي، هو أنني لا أملك لهم غير الشكر والإعجاب، ولكن إعجابي لن يغني من (الرسالة) شيئاً. . . أن المرجع الأول والأخير هو ذوق الأستاذ العميد واعجاب الأستاذ العميد وانه فيما أعلم لا يوصد بابه ولا يغلق قلبه في وجه الذين تلوح له منهم بوادر نبوغ أو نفحات ذكاء أو اكتمال أداة! أما الشاكون من إهمال إنتاجهم فيستطيعون أن يجدوا الجواب على شكواهم في هذه الكلمات، وليثقفوا من أن عميد (الرسالة) لا يتردد في نشر ما يستحق أن ينشر، ولا في تقديمه على غيره إذا كان يستأهل التقديم

والدليل على ذلك قصيدة هذا العدد، فإن صاحبها الناشئ لم يعرفه أحد ولم يقرأ له فيما أظن أحد. .

رأي في السير ريالزم:

يسألني قارئ فاضل من قراء (الرسالة) عن رأيي في مذهب (السيرريالزم) عقب أن أتيت على ذكره في الكلمة التي تناولت فيها بالنقد كتاب (خلف اللثام) وهل يقدر لهذا المذهب الجديد الذي غزا ميدان التصوير والأدب في فرنسا وبعض البلاد الأوربية أن تشيع تعاليمه وتسيغه الأذواق ويستجيب له الفنانون هنا كما استجاب له بعضهم هناك؟

إن رأيي الذي أومن به ولا أحيد عنه أن مذهب (السير ريالزم) شعوذة فنية لا أكثر ولا أقل سواء في ميدان التصوير أم في ميدان الأدب إن الفن الذي لا تخرج منه بغير (اللخبطة) لا يعد فناً! وأي فن هذا الذي لا يبعث في نفسك وحسك شعوراً بالجمال ولا تذوقاً لألوانه ومعانيه؟ أي فن هذا الذي لا تلمس فيه أثراً للربط بين فكرة وفكرة ولا بين مقدمة ونتيجة في أدب الكاتب ولا تناسياً بين بُعد وبُعد ولا بين زاوية وزاوية في لوحة الرسام؟!.

(لخبطة) ولا شيء غير (اللخبطة). . . وحسبك أن تقرأ كتاباً لأندريه جيد وآخر لأندريه بريتون، وأن تشاهد لوحة من لوحات دى لاكروا وأخرى من لوحات بيكاسو إن جيد يمثل

ص: 32

الوضوح والصدق والجمال، فهو قريب إلى عقلك قريب إلى قلبك، قريب إلى ذوقك؛ لأن أدبه وليد وشائج قوية من صلة الفن بالحياة. . . أما بيتون فهو هناك فيما وراء الواقع، أو فيما وراء العقل والقلب والذوق أو وراء الشطحات الفكرية التي تلغي كل صلة بين الفن والحياة!

بريتون في الأدب وبيكاسو في التصوير، وكلاهما عميد المذهب السريالي في فنه. . . أما بيكاسو فكان فنانا عظيماً يرفع من فنه الخصوم قبل الأصدقاء ولكن انحرافه في أواخر أيامه إلى هذه الشعوذة السريالية أفقده من كانوا يكبرون فنه ويشيدون بنبوغه وعبقريته! إن الفارق بين لوحة من لوحات دي لاكروا وأخرى من لوحات بيكاسو، هو الفارق بين فن يهز فيك مواطن الإحساس بالجمال وفن يهز مواطن الإحساس بالنفور. . .

إنك تستطيع هناك أن تخرج بشتى المعاني ولكنك لا تستطيع هنا أن تخرج بشيء!

هذا هو رأي في المذهب السريالي، وأؤكد للأديب الفاضل أن هذا المذهب الجديد لا يشق طريقه في فرنسا وهي موطنه الأول بسهولة ويسر لأن خصومه الكثيرين يهاجمونه في عنف لا هوادة فيه ويرمون أصحابه بالدجل والخروج على كل مألوف من أوضاع الفن وإذا كان بعض الكتاب والفنانين قد انحرفوا إلى هذا المذهب واندفعوا في تيار الدعوة إليه فإنه على التحقيق انحراف إلى حين واندفاع إلى حين. . . ذلك لأن الساخطين عليه لا يقاس إليهم الراضون عنه، سواء في مجال الكثرة العددية أو في مجال الطاقة الفكرية أو في مجال الشهرة والتفوق وغلبة الآراء والأحكام. ولا أعتقد أن مثل هذا الشذوذ في محيط الأدب والفن يمكن أن يكتب له البقاء هنا إلا إذا كتب له البقاء هناك، وهذا أمر يشك في وقوعه إذا ما احتكمنا إلى العقل الذي يزن النتائج على ضوء المقدمات!

حول مسابقة المصور للقصة القصيرة:

لم أكن أعرف أنني محتاج إلى دروس في فن القصة حتى قدر لي أن أطلع على كلمة في (البريد الأدبي) وجهها إلى الأديب حسن صادق حمدان في عدد (الرسالة) الماضي!

لقد رأى الأديب (العالم) أن يعقب على كلمتي التي نقدت فيها رأيا لمجلة المصور عن فن القصة القصيرة، ولقد جاء في تعقيبه أنني انحرفت عن الصواب حين قلت إن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى

ص: 33

المفاجآت؛ انحرفت عن الصواب لأن مجلة المصور لم تشترط أن تكون القصص المتسابقة من النوع التحليلي. . لو راجع الأديب المعقب نفسه ورجع إلى ما كتبت لعلم أنني كنت أنقد رأياً ينادي بأن المفاجأة في ختام القصة تعد أهم أركانها على الطلاق ومعنى هذا أنني كنت أعترض على رأي يغلب عليه التعميم حيث يجب التخصيص، لأن هناك فناً قصصياً يخرج عن دائرة هذا الحكم الذي لا يفرق بين قصة موضوعية وأخرى تحليلية، هذا هو ما قصدت إليه في مجال التعقيب على رأي لا صلة له بما اشترطه (المصور) للمسابقة من تحديد النسبة العددية لكلمات القصة بستمائة كلمة، وإذن لا أكون قد انحرفت عن الصواب، ولكن الأديب المعقب هو الذي انحرف عن الفهم!

وأؤكد له مرة أخرى أن القصة الطويلة هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص، وطاقة القصاص، وأن الجهد الذي يبذل فيها لا يمكن أن يقاس إليه نظيره في القصة القصيرة. ولقد قدمت له الرأي في شيء من التفصيل وبقي أن أقدم إليه الدليل: إن الأستاذ توفيق الحكيم بكتب (لأخبار اليوم) قصة تمثيلية قصيرة كل شهرين تحتل صفحة واحدة لا تزيد عليها إلا في القليل النادر ويمكنه أن يرجع إليه ليسأله عن الوقت والجهد اللذين يبذلهما في كتابة مثل هذه القصة إنه لا يتفق في كتابتها إذا ما نضجت الفكرة في ذهنه أكثر من بضع ساعات. . . هذا في تمثيلية قصيرة من فصل واحد، فهل يدري الأديب المعقب كم بذل توفيق الحكيم من وقته في وضع مسرحيته الجديدة (أوديب الملك) لقد أنفق من وقته وجهده أربع سنوات لا بضع ساعات!! ثم يظن أن العناء الذي لقيه محمود تيمور في كتابة قصة قصيرة مثل (خلف اللثام) يعادل ما لقيه من عناء في كتابة قصة ضخمة مثل (سلوى في مهب الريح) وإذا أراد أن يحكم على الطاقة الفنية عند توفيق الحكيم فهل تنكشف له هذه الطاقة من مسرحية تحتل صفحة من (أخبار اليوم) كما تنكشف له من (أهل الكهف) و (بجماليون) و (شهرزاد) و (سليمان الحكيم) و (أوديب الملك)؟! وهل تنكشف له الطاقة الفنية عند تيمور من قصة قصيرة كما تنكشف له من (نداء المجهول) و (حواء الخالدة) و (سلوى)؟! وبعد ذلك يقول في تعقيبه:(إن كاتب القصة القصيرة يلاقي دفعة واحدة جميع الصعاب التي كانت متفرقة في القصة الطويلة)!. . أي صعاب يا أٍستاذ؟ إن حي دي موبسان في مجال القصة القصيرة خير بكثير من أونوريه دي

ص: 34

بلزاك؛ ولكن أنفاسه تتقطع إذا ما حاول أن يجري معه في حلبة القصة الطويلة. . . هناك حيث رفعت بلزك طاقته الفنية إلى مرتبة أعظم قصاص في تاريخ الأدب الفرنسي إن القصاص العظيم أشبه بالجواد الأصيل. . . ذلك الذي لا تتضح طاقته على العدو إلا في رحاب المسافات الطويلة!

هذه كلمة لا أعتقد أنها تشق على فهم الأديب المعقب، وارجوا ألا تشق على إفهام غيره من المعقبين!

الفن عندنا وعندهم:

وقفت في (الأهرام) منذ أسبوعين عند صورة رائعة المغزى بعيدة الدلالة، تستحق من كل ذي عينين أن يقف عندها طويلا ليخصها بفيض من إكباره وإعجابه. . . أما تلك الصورة الفريدة فقد أشارت إليها الصحيفة الكبرى بهذه الكلمات:

(يقوم الممثل الكبير سيرلورنس أوليفييه مع زوجته فيفيان لي بتمثيل مسرحيتهما الجديدة (مدرسة الإشاعات) على مسرح (نيوثييتر) بلندن. وقد بلغ تهافت الجمهور على مشاهدة هذه المسرحية أن حجز جانب كبير من الأماكن مقدماً لعدة أسابيع؛ ويرى في الصورة جمع كبير وقد افترشوا الأرض لقضاء ليلتهم أمام مدخل المسرح ليتمكنوا من حجز أماكنهم عند فتح شبابيك التذاكر في الصباح).

أناس يفترشون الأرض وفي بيوتهم الفراش الوثير، ويتحملون مرارة الانتظار وما كان أغناهم عن الانتظار، ويضحون بالوقت وما أحوجهم إلى كل دقيقة يفندوها وتعود عليهم بما يشتهون ولكنه دعاء الفن. . . يلقي منهم آذاناً مصغية، وقلوباً متلهفة، ونفوساً تنشد متعة الذوق والفكر والروح.

عندهم فنانون عشقوا الفن وأخلصوا له. وعندنا مهرجون أجادوا التهريج ونبغوا فيه. . . وعنهم جمهور يستهويه كل جليل من الأمور وكل رفيع من الفنون وعندنا جمهور بليد الذوق متحجر العاطفة، يقضي ليله ونهاره متسكعاً في الطرقات أو متثائباً على القهوات! عندهم الوقت يوزعونه بين العمل المثمر حين يناديهم الواجب، وبين الكتب المفيدة حين تدعوهم المعرفة، وبين ملاعب التمثيل حين يشوقهم التحليق في سماء كل معنى جميل؛ وعندنا الوقت نضيق بطوله؛ لأنه فراغ وهباء: العمل في إخلادنا استخفاف بالتبعة

ص: 35

وانحراف عن الجادة، والكتب في أيدنا مجلات تدغدغ الغرائز بالصور العارية والأفكار العارية، والترويح عن النفس في رأينا ميل إلى كل تسلية تافهة وكل لهو رخيص! هذا هو الفن عندنا وعندهم. . . وإذا كنت قد دفعت إلى شيء من الاستطراد فإن الحديث في مجال الفن يغري به ويدعو إليه وحسب المسرح هناك هذا الامتلاء، وحسبه هنا هذا الخواء!

شهداء المثل العليا:

قرأت بتأثر بالغ تلك الفصول التي كتبها في (المصور) القائمقام الشهيد فهيم بيومي قبل أن يودع مثله العليا في الطريق إلى الله. . . فصول كتبها بمداد قلمه ثم ختمها بدماء قلبه، وعلى صفحات (المصور) وفوق ثرى الأرض المقدسة ترك البطل الشهيد وصيته لأصحاب المثل العليا: سطورها من وقدات الفداء ونبل التضحية، وألفاظها من لفحات الجهاد وصدق البطولة، ومعانيها من وثبات وحرارة الأيمان!

فهيم بيومي ومن قبله أحمد عبد العزيز ومن بعدها أبطال وأبطال. . . وفي سبيل الله والوطن دماء فجرها القدر عيوناً لتسقي بها رمال الصحراء! لقد كانوا أصحاب مثل عليا في سبيل مثلهم عاشوا على الأرض وفي سبيلها صعدوا إلى السماء: أرواحهم على أيديهم وأنظارهم إلى الأفق البعيد، وهمساتهم في رحاب المجد أشواق. . . ولقد مضوا إلى غير رجعة، وبقيت منهم الذكرى تعبق في آفاقنا بأرج الحب، وتعطر مآقينا بدموع الوفاء، وتملأ تاريخنا برنين الخلود! يا رحمة الله لكم يا أبطال!. . لقد كان شاعرنا ينطق بلسانكم حين قال:

أخي إن جرى في ثراها دمي

وأطبقت فوق حصاها اليدا

ففتش على مهجة حرة

أبت أن يمر عليها العدا

وقبل شهيداً على أرضها

دعا باسمها الله واستشهدا

أنور المعداوي

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

قضية أدب وفن:

يذكر القراء ما كتبته عن تغزل الهائمة أماني فريد في الدكتور إبراهيم ناجي، والعكس. . . وكان اهتمامي بالكتابة في هذا الموضوع لأني وجدته أمراً جديداً يستحق الوقوف عنده ولاشك أن تغزل امرأة برجل معين على صفحات منشورة قفزة جريئة بالغة الجرأة، يتهيبها الرجل فضلا عن المرأة والمرأة الشاعرة نفسها لا تزال تردد في خطوة تسبق تلك القفزة، وهي أن تتغزل غزلا غير محدد كما يفعل الرجل.

وقد حفزني على العودة إلى هذا الموضوع ما تلقيته من الرسائل وما سمعته من الأحاديث تعقيباً عليه وصدى له، وكلها تعبر عن الارتياح إلى ما كتبت عدا رسالة واحدة حوت لومي عليه، وهي من الهائمة أماني فريد تقول في أولها:(إني لجد خجلة من أن أرى كاتباً وأديباً لا يستطيع أن يفرق بين العلاقات الأدبية بين الشعراء وغيرها من العلاقات التافهة العابرة). وكنت أحسبها خجلة لغير هذا فإذا هي خجلة بالنيابة عني. . . وبعد كلام آخر لا يفيد في الموضوع تختم رسالتها بقولها: (والعجيب إن الرجل المصري لازال يحقد على المرأة إذا رآها استطاعت أن تبزه وتنتج ما لا يستطيع هو. . . فرفقاً يا سيدي وكن في أحكامك متوخياً العدل حتى لاتسم كتاباتك بسمة النقد الجائر. . كنت انتظر أن اسمع منك ومن غيرك من النقاد الأفاضل كلمة مدح وتشجيع لا قدح وأقباط للهمم).

وأترك جانباً مسألة حقد الرجل على المرأة وبزها له، لننظر هل أنا ظلمتها، وهل ما صنعته هي يستحق المدح والتشجيع؟ قد يستحق غزلها في الدكتور ناجي مدحه وتشجيعه، وقد فعل كيلا بكيل. . . ولست أدري علام المدح والتشجيع، أعلى (العلاقات الأدبية بين الشعراء)، أم على قيمة الإنتاج؟

أما (العلاقات) وكما بدت في مجلة (العالم العربي) فقد استنكرها من حدثوني ومن كتبوا إلى. كتب الشاعر النابغ الأستاذ إبراهيم محمد نجا: (وقد ارتاحت نفسي إلى حديثك عن الملهمة (فلانة)، والدكتور (عمر بن أبي ربيعه)، ذلك الحديث الذي تشيع فيه السخرية التي تبعث الألم وتورث الإشفاق، وقد كنت أحب يا أخي الفاضل أن تصرح بأن هذه الأبيات

ص: 37

المنسوبة - إلى تلك الهائمة - ليست من صنعها، وإنما هي من صنع صاحبها المتيم، يعرف ذلك كل من قرأ شعر الطبيب الشاعر، ويعرف ذلك أيضاً كل من عرف هذه الهائمة، وعرف (مقدرتها) على نظم الشعر) ويقول الأديب صبري حسن علوان بكلية العلوم:(وماذا تريد أماني من الأماني؟ أأن تكون ليلى القرن العشرين، حتى يكثر في حبها المجانين. . . أم أن تناجي. . وليس إلا أن تناجي. . . أم أنها رأت الجرائد والمجلات لا تنشر إلا كل غريب جديد فبالغت في الأغراب والتجديد. . .؟)

أما من حيث الإنتاج نفسه، فأنا لم أعرف الهائمة ولم أعرف (مقدرتها) على نظم الشعر ولكني أعرف الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي (خليفة عمر بن أبي ربيعه) وأعرف شعره، وأزعم أني أجد في الأبيات المنسوبة إلى الهائمة. وننظر في الأبيات من ناحية أخرى، وهي ناحية الصدق في التعبير، تقول:

تعال إلى القلب بعد العذاب

فقد مر عمري وولى سدى

يناديك قلبي هوى واشتياقاً

فما لك لست تجيب الندا

فإذا فرضنا أنها كانت في عذاب قبل الدكتور ناجي، وأن عمرها ذهب سدى قبل الهيام به، وأن قلبها يناديه ويهواه ويشتاقه، فهل هو لا يجيب الندا؟ ما أظن ذلك وتقول:

أبيت على لهفة للقاء

ولكن أخاف حديث العدا

فكم ليلة يا قرير الجفون

تركت جفوني بها سهدا

ولنفرض أيضاً أنها باتت تتلهف على لقائه، فهل تخاف حديث العدا من تنشر هوى قلبها العالم العربي. . .؟ وهل من مقتضيات (العلاقات الأدبية بين الشعراء) أن يبيت الشاعر قرير الجفون الشاعرة يستبد بها السهد ليالي كثيرة؟

ونتابع البحث عن صدق التعبير فنرجع إلى الأبيات التي نشرت للهائمة في (البلاغ)

وجاء فيها هذا البيت:

أراني شقياً حزيناً

فيا نفس أين الرجاء

وكان ينبغي لتكون صادقة التعبير أن تقول إنها (شقية) أما (الشقي) فهو غيرها. . .

وأنا أعلم أنه لا يرضيها أن تحلل (أبياتها) على ذلك النحو ولكن كيف رضيت أن تقولها؟ أو تظن أنها لا تشتمل على ما يثقل التبعة؟ هي مسكينة على كل حال ولكنا بازاء باب

ص: 38

جديد في الأدب ترى أنه لا يفضي بنا إلى خير، ولو أنا وجدنا وراء هذا (السلوك الأدبي) فناً أصيلا لكان من المحتمل أن نجد مجالا للإغضاء أو العزاء.

والقضية قضية أدب وفن أكثر مسلك اجتماعي؛ فليس لمعترض أن يدفع بالحرية لأدبية التي تخول لكل أديب أن يعبر عن نفسه في صراحة وصدق، فالوقائع في قضيتنا غير مبنية على الصدق في التعبير كما بينت، ولك أن تلمح ما يدل ذلك عليه من عدم الأصالة، أما الصراحة فهي مفتعلة لجذب الأنظار وهذا كله مع غض النظر عن تفاهة المقول وانعدام الجودة فيه.

شاعرة خضرة:

ولعل (حقد الرجل المصري على المرأة التي تبزه) لا يمنع أن نقضي لحظة مع الآنسة (ط. ع) في عالم الخيال. وهذه الآنسة تمثل طرف النقيض الثاني. . وقد استرعى انتباهي ما تنشره (البلاغ) لها من قطع شعرية تصور حياة فتاة غريبة في هذا العصر المتبرج الصاخب، هي فتاة تصور نفسها ونوازعها في شعرها تقول في قطعة بعنوان (الغد).

يقولون في الغد يأتي الهناء

ترى أين ذاك الغد المنتظر

أيقبل بعد الشقاء النعيم

كما يقبل الصحو بعد المطر؟

إذا كان هذا نظام القضاء

أصبحت أسعد من في البشر

ولكنني قد رأيت الزمان

أصم السريرة أعمى البصر

إلى أن تقول:

فيا رب رد طمأنينتي

على، وصن هذا الخفر

فإني البريئة في عالم

كثير الغواية جم الخطر

فهذه فتاة تتشوف غدها حذرة حائرة لم يمنعها الخفر من صدق التعبير عن مشاعرها صانها الله وأدامها الخفر.

وتقص علينا قصة رمزية مبينة بعنوان (عقل وقلب) تتخيل فيها أن القلب يستغيث بها من سطوة العقل ويقول:

يا ويح للقاسي

أسمعت أندادي

وتهكم الناس

في خارج الوادي

ص: 39

مغرورة قالوا

تحيا على الآل

مسرورة خالوا

من شقوة الآل

يا ضيعة العمر

في ذلك السجن

محبوسة الفكر

في ميعة السن

ثم تقول

أأطيع ذا القلبا

وأجيب إحساسي

وأجرب الحبا

وأعيش كالناس

ويكاد القلب يبلغ بحجته، ولكنها تعتصم من رغباته، وتقول:

ورجعت أدراجي

أتجانب الناسا

في برجي العاجي

أتذوق الكاسا

كأس من الطهر

وهناءة البال

والفن والشعر في

برجي العاجي

وتصر على التشبث بالشعر غاية ومثلاً، وتقول:

هل يأخذ القبر

مني سوى جسمي

والصيت والشعر

لن يتركا اسمي

سأصير شاعرة

من قادة الفكر

أنا لست ساخرة

يا قلب من يدري

وأهم ما في هذا الشعر إن به روحاً، والشاعرة موفقة في تصويره تصويراً يبرزه حياً، وإن كان في حاجة إلى مزيد من العناية من حيث إخضاع التعبير ويتحقق ذلك بالتأمل في المأثور وكثرة المعالجة. والفتاة الآنسة وإن كانت في أول الطريق إلا أنها على الجادة، تهديها إلى الغاية موهبة صادقة مخلصة. فهنا يا آنسة ن. من يدري. . .

القياس في اللغة:

أتيت في الأسبوع الماضي على ملخص مضغوط لمحاضرة الدكتور أحمد أمين بك (مدرسة القياس في اللغة) التي ألقاها في مؤتمر المجمع اللغوي ودعا فيها إلى الاجتهاد في اللغة وأذكر الآن أن الأعضاء الذين عقبوا على المحاضرة بالمناقشة أجمعوا على الإشادة بها وإن

ص: 40

كانوا قد خالفوه في بعض أجزائها وخاصة من الناحية التاريخية وقد عبر الدكتور أحمد زكي بك عن ذلك فقال إن التعليق على المحاضرة بتصحيح هنا وتخطيء هناك لا يؤثر في غايتها وإنما تهمنا هذه الغاية. وقال الدكتور طه حسين بك: ليس علينا خطر من أن نبيح لأنفسنا ما أباحه العرب لأنفسهم من قديم الزمن، ولا نزاع إن المحاضرة لا تمثل اعتدال الدكتور أحمد أمين بك فقط ولكنها كذلك تمثله محافظا في تجديده وقد تليت النتائج الخمس التي ذكرتها في الأسبوع الماضي فوافق المؤتمر على الأربع الأولى، ودارت مناقشة في النتيجة الخامسة التي تتضمن جواز ارتجال كلمات جديدة فقال الدكتور عبد الوهاب عزام بك: يجب أن يقتصر وضعنا للكلمات على ما نحتاج إليه فقط. وقال (المرحوم) الجارم بك: أريد ضابطاً لهذا الأمر. فقال الدكتور طه: الضابط هو أصول للغة العربية في قبول الألفاظ الأجنبية. وسأل الشيخ عبد القادر المغربي: هل الارتجال يضر سلامة اللغة فلو اخترع أحد لعبة وارتجل لها كلمة مثل (دمخ) فهل يجيزها المجمع أولا يجيزها؟

ثم رأى أن يتخذ في هذا الموضوع قرار عام هذا نصه:

(الأخذ بمبدأ القياس في اللغة على نحو ما أقره المجمع سلفاً من قواعد وجواز الاجتهاد فيها متى توافرت شروطه كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد أمين بك في محاضرته (مدرسة القياس في اللغة).

عباس خضر

ص: 41

‌البريد الأدبي

حرية الأدب والفن:

إن المناقشة التي دارت في المجمع اللغوي بين الدكتور احمد أمين والدكتور طه حسين في حرية الكاتب وتقيده بأهداف معينة - وعلينا الشكر للأستاذ عباس خضر على نشره لموجز أدلة الفريقين - إنها لمناقشة جديرة باهتمام كبير وإن كان الموضوع قد قتل بحثاً ودرساً في الغرب منذ إن اتفق لفيكتور هيكو اختراع قوله (الفن للفن) فقد كان الصراع بين أنصار هذه النظرية - نظرية عدم استخدام الفن لأغراض معينة - وخصومها، ومن بينهم هيكو نفسه، قوياً حاداً طيلة القرن الماضي ولسنا نحن الشرقيين في حاجة إلى (تمثيل) ذلك الصراع في بلادنا وترديد آراء الغربيين في مسألة كهذه لأن الغربيين هم كما قال الدكتور إقبال الحكيم الشاعر الهندي (يكتشفون ويتتبعون مسير النجوم في السماء، ولكن لا يسعهم أن يهتدوا إلى الطريق في دنيا الأفكار) لا يؤمل منهم أن يصلوا إلى رأي قاطع حازم فيما يتعلق بالمسائل الأخلاقية، مع أن تفوقهم في العلوم الطبيعية لا يسع أحداً إنكاره في العصر الحاضر. والحقيقة التي يجب أن نتأكد منها ونذكرها دائماً، هي أن الاختلاف والتجديد في الرأي والتقدم - تلك الكلمة التي يحلو لنا الإكثار من النطق بها - إنما هو مفيد في حقل المسائل الطبيعية دون ما ينتمي إلى الأخلاق والمبادئ التي يبتني المجتمع عليها؛ فإن الحرية بشأن التعرض لها إنما تؤدي إلى عدم الاستقرار والفوضى الاجتماعية، وعلاوة على ذلك فإن الحرية لا تتميز عن الفوضى إلا بأن الأولى تحدد بحدود معروفة، والثانية لا حدود لها.

وخلاصة القول أن المسلمين في غنى عن مثل هذه المناقشة في المسائل الأخلاقية والاجتماعية، لو أنهم ردوها إلى الإسلام وسيرة الرسول. لننظر إلى قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون وقول النبي في أمريء القيس بأنه قائد الشعراء إلى النار، ولنتقارن هذا وذاك بما هو معروف من تشجيع النبي لحسان بن ثابت وإنعامه على كعب بن زهير، ثم لنتأمل لعلنا نجد فيه حكما فصلا بأن الفن ليس للفن، بل إنه عامل من العوامل الشديدة التأثير في النفس وفي الحياة، ولذلك يجب أن يخضع لقاعدة التنظيم الإجماعي حتى يخدم أغراض المجتمع الخاصة ولا يخرج عليها. وهذا هو تفسير تلك القيود التي وضعها

ص: 42

الإسلام على بعض نواحي النشاط الفني والتي ربما ثقلت على دعاة حرية الفن؛ فإن كل ما يدعوا إلى الوثنية أو أخلاق الجاهلية إن كان من الفن فهو فن سوء، ولا مجال للاعتراف به في نظام شامل كالإسلام الذي يكفل حياة جد وعمل دائمين في سبيل الخير لا حياة لهو وترف في حال من الأحوال. وكذلك الانهماك في اللذات والتعبير عنها تعبيراً صادقاً مثل حكاية طروق حبلى ومرضع، فإن هذا النوع من الحرية للأديب التي يدعوا إليها بعض الكتاب الفرنسيين ويعجب بها بعض كتابنا البارزين - لا توجه الإنسانية إلى سواء السبيل وحسن المصير، بل تعاون على صرف النظر والذهول عن سوء الحال وخير المستقبل وتسبب الفتور في العزيمة والركود في التعمير لاشك أن مدار الفن على التعبير الصادق ولكن هل يتحول الشر بمجرد كونه موضوعاً لمثل هذا التعبير إلى الخير؟ أفلا يجب على الكاتب إذا اتخذ الشر موضوعاً لعمله أن يعالجه بحيث يبغضه إلى القراء؟ ولا يقل أحد في ذلك إرهاقاً للكاتب لأن الكاتب الذي حبب إليه الشر قل نفوره منه عن نفور الجمهور هو عدو للخير والمجتمع قبل أن يكون كاتباً أو شاعراً. أما القول بأن مذهب الفن للفن ليس له أية صلة بالأخلاق فإنه سينتفض إذا راعينا هذا الجانب نفسه أعني جانب الموضوع الذي يقع عليه اختيار الكاتب، كما أن حسن التصوير أو قبحه من الناحية الأخلاقية لا يمكن في الفن نفسه، بل يأتي من الموضوع الخارجي له. وعلى كل حال فإن الأدب الذي لا يرمي إلى غاية إنما مثله هز الأرداف العارية الذي يسمي فن الرقص في بعض الحانات ولكل منا رأيه في مدى جدواه للمجتمع والأخلاق والإنسانية.

السيد محمد يوسف الهندي

معنى المكروفون:

اطلعت في عدد الرسالة الغراء (814) على مقالة صاحب العزة الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب عزام بك بعنوان (من آفات هذه المدينة) وفيه ذكر عزته أن المكروفونات (المجاهر) تسبب ضوضاء. . . الخ وبودي في هذه الرسالة العاجلة أن أبين من الناحية العلمية خطأ ما سار عليه البعض في تسمية هذه الأجهزة بالميكروفونات.

فهذه الأجهزة من الناحية العلمية تسمى وهو ما يمكن ترجمته (أجهزة مخاطبة الجماهير)

ص: 43

وتتركب هذه الأجهزة من ثلاثة أجزاء رئيسية:

الأول: المكروفون ووظيفته تحويل الموجات الصوتية الحادثة أمامه إلى موجات كهربية.

الثاني: جهاز تكبير ووظيفته تكبير الموجات الكهربية الواصلة إليه من المكرفون وهو مركب من عدة صمامات لاسلكية بطريقة تختلف من وقت إلى آخر.

الثالث: مضخم الصوت ووظيفته تحويل الموجات - الكهربية - الواصلة إليه من المكرفون عن طريق المكبر - إلى موجات صوتية.

وبذلك تصل الموجات الصوتية الحادثة أمام الميكروفون إلى جمهور المستمعين مكبرة مضخمة (عالية).

والمكروفون متصل بالمكبر بسلك كهربي

والمكبر المتصل بمضخم الصوت بسلك كهربي أيضاً.

لذلك رأيت أن أكتب إلى حضرتكم راجياً الإشارة إلى ذلك في مجلتكم الغراء لما في إطلاق اسم ميكروفون على هذه الأجهزة من خطأ علمي.

أحمد محمد حلمي

مهندس لاسلكي

في التعزية عن مصيبة الموت (للرافعي):

لما فجع الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في وحيده (أمين) رحمه الله غراء السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله عن فجيعته، بهذا الخطاب المؤثر البليغ:

سيدي الأخ الجليل.

كنت مسافراً وعلمت بالنبأ الفاجع الذي يتكلم عنده الصمت: إنا لله لقد دفعك الإيمان إلى أشد معاركه في هذه الفجيعة وكأنك الجبل الباذخ لا تريد الحكمة الآلهية أن يستندإلى شيء ليكون جلاله ظاهراً بنفسه.

(إن قلبك العظيم يحمل الزمن بما فيه، ولكن الذي هو أشد من حمل الزمن، هذه القطعة الصغيرة من الماضي.

أسأل الله أن يثبت بما ثبت به النبوة، وأن يضاعف لك بالصبر والإيمان قوة على قوة،

ص: 44

وأن يجعلك من الذين عليهم صلوات من ربهم ورحمة. ولما احتسب الدكتور شخاشيري طفلا له لم يجد في مرضه طب أبيه ولا علمه (وخرّ العلم والطب على أقدام الموت جرى على لسان الوالد الحزين هذا البيت من الشعر).

أين السعادة والأيام تأباها

مرت علينا فلم نشعر بمجراها

وبعثت بهذا البيت إلى صديقه الرافعي رحمه الله فأجابه بالأبيات الحكيمة الآتية:

الله أوجدها للناس قاطبة

فما الذي عن جمع الناس أخفاها

لا ذلك المال سواها لنا ذهباً

ولا من الطين هذا الفقر سواها

والعمر في وهمها ضاعت حقائقه

كأنما هي تحيا بين موتاها

فسل صغار الورى عن هم أولها

وسل شيوخ الورى عن هم أخراها

إن السعادة أن ترضى بلا غضب

وكيف ذاك بدنيا لست ترضاها

وكتب الرافعي رحمه الله إلى صديق يعزيه قال:

المصيبة حرسك الله، وإن كانت أكبر من التعزية لكن ثواب الله أكبر من المصيبة، والإيمان بالله أكبر من الثواب، وما آمن بالله من لا يثق به، ولن يثق به من لا يطمئن إلى حكمته، ولا اطمأن إلى حكمته من لا يرضى بحكمه، ولا بحكمه من سخط على ما ابتلاه. ولقد عرفتك من أوثق الناس إيماناً فلتكن من أحسنهم صبراً وأجملهم عزاء. ونحن الضعفاء المساكين إنما نعامل الله بما يصيبنا به، فإن جزعنا فقد بلغنا حق أنفسنا فلا حق لنا من بعد! وكأنما أصبنا مرتين، وإن صبرنا فما أحرى أن يكون الصبر على المصيبة هو ربح المصيبة والسلام.

ولما مات أخوه كامل بك الرافعي قال يشكر الناس:

(تتوجه أسرة الرافعي إلى الله بقلوبها المتوجعة الحزينة تستلمه فيما تشعر به ما تشكر به، فلئن كان رزؤها في فقدها أليما، لقد كان عطف الأمة عليها كريماً. والحمد لله الذي لا بأس من روحه، بيده الخير يجعله ما يشاء فيما يعطي وفيما يمنع وهو القوي العزيز فيما يصيب به، لكنه الرحمن الرحيم فيما يثيب عليه. فاللهم اجز بفضلك عنا أحسن ما جزيت كل من واسانا أو توجع لنا أو عطف علينا ممن ساروا في الجنازة أو جاءوا للتعزية، أو حضرت رسائل عطفهم برقاً وبريداً، ندعوك اللهم أكرم مدعو، فكن اللهم أكرم مستجيب.

ص: 45

رحم الله الرافعي رحمة واسعة.

(المنصورة)

محمد أبو ريه

الأحرف السبعة:

قرأت ما كتبه الأستاذ عبد الستار أحمد فراج في (عدد الرسالة 815) فكان من الواجب الحتم أن أتمم ما كتبه بكلمة أنقلها من مقالة للأستاذ محمد زاهد الكوثري المتخصص في هذا الشأن الخطير، لأنه كان أستاذ علوم القرآن في معهد التخصص باصطنبول:

تواترت الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف، لكن اختلفوا في تفسيرها إلى نحو أربعين قولا، لا تعويل إلا على أقل قليل منها. قال الطحاوى في مشكل الآثار: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله (ص) فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. أهـ. قال القرطبي: قال ابن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأنه القرآن على حرف واحد. أهـ وقد أطال الطحاوي النفس في مشكل الآثار (ج4) في تمحيص هذا البحث بما لا تجد مثله في كتاب سواه. ومما قاله هناك إن ذلك توسعة من الله عليهم لضرورتهم إلى ذلك لحاجتهم غليه، وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما بألفاظ واحدة. اهـ

فأقامة المرادف مقام اللفظ المنزل كانت لضرورة وقتية نسخت في عهد المصطفى عليه صلوات الله وسلامه بالعرضة الأخيرة المشهورة.

عبد الله معروف

ص: 46

‌الكتب

على هامش الأدب والنقد

تأليف الأستاذ علي أدهم

بقلم الأستاذ نقولا حداد

الأستاذ علي أدهم واسع العلم عريض الاطلاع عميق التفكير؛ أعني أنه جمع الأبعاد الثلاثة في حيز ذهنه، وأبى إلا أن يجمعها بالبعد الرابع لكي تستوفي النسبية قسطها من قلمه، وهو فيض الإنتاج. فقد أخرجت المطابع له إلى الآن 12 كتاباً. والله يعلم بما عنده من كتب أخرى معدة للطبع.

وقد قرأت أمس له كتاباً ممتعاً عنوانه (على هامش الأدب والنقد) افتتحه بفصل (النقد والشخصيات) وإذا به يستفيض في الأدب النفسي بحيث يجرد الأديب والعالم عن أنفسهم ويجعل لهم كياناً غير شخصيتهم. والنقد يتوجه إلى هذا الكيان.

ثم تناول التقدير الفني بين النظرتين العلمية والفنية. وبسط الفرق بين العلم والفن ببحث جامع مانع. ثم عطف على فن كتابة التراجم وبحث نشأته وما طرأ عليه من تطور في الكتب المقدسة في الصين والهند ومصر الخ. واسترسل إلى العصر الحاضر.

وفصله في النقد الفني بين المذهب الاجتماعي والفردي دفعه إلى فيافي الفلسفة النفسية والعقلية والفلسفة العامة فأعطاك دراسة فيهما لا أظن أن لها ضريبا في مباحث الآخرين إلى أن ساقه البحث إلى الكتب والكتاب، ثم ارتفع به إلى أثر النبوغ والعبقرية في الأدب والفن، وشرح لنا الفروق بينهما. وهو بحث لاشك فلسفي عميق. إلى أن قذف به النقد إلى دار الشيطان (أعيذه منها) في الشعر الحديث. وقد راجعت هذا الفصل مرتين لما وجدت فيه من متعة عقلية ونفسية.

ثم تساءل قائلا: هل تجدي مطالعة التاريخ (الفقير بالخرافات) وهناك أبحاث لا تخطر علىبال اااأبحاث لا تخطر لك على بال تلك كيف بدئ التاريخ منذ سبعمائة سنة ميلادية وهي بدء الكتابة بالحروف الصوتية التي يقال إنها من اختراع الفينقين. وجرى على ما اعتور التاريخ من الغث والسمين والحق والباطل والعلم والجهل إلى غير ذلك من طبائع

ص: 47

التاريخ.

ثم تحول من هذه المباحث العلمية النقدية إلى نقد المتنبي الشاعر العظيم، وشرحه تشريحاً نقدياً وكشف لك عن سريرته ودل على قلبه ونزعته وطموحه فوصفه في تدينه وغروره وحزنه ومكانته في أهيل عصره (كما يسميهم هو) ونظريته في حساده حتى إذا خرجت من هذه النقدات التي كانت كمدى المشرح في البدن السمين ظهرت لك أخلاق المتنبي ونفسيته وانجلى لك المتنبي الحقيقي كأنك عشت معه.

ثم نال أبو تمام قسطاً من نقده فقابل بينه وبين المتنبي بحيث ترى أن أدهم دخل إلى سريرة هذين الشاعرين العظيمين وظفر بمزية كل منهما في الشعر.

ولم يحرم الشاعر ابن هانيء من كلمة فلسفية رائقة فيه، ويريك أن شعره يغري بالأبيقورية، وهي أن الحياة في نظره فترة قصيرة ونهزة عارضة. . . وليست جديرة بأن يقضيها المرء في طلب الغايات البعيدة وليس فيها أعماق سحيقة ترهب الناظر. وفي الوقت نفسه كان يقنص اللذات؛ فهو بعيد حياة سليمان الحكيم الذي ما ترك متعة إلا تمتع بها، وأخيراً قال: باطل الأباطيل، الكل باطل.

ولأدهم بعد ذلك فذلكات عن سير بعض الخلفاء وفذلكة عن أدب رابندرات طاغور الشاعر الفيلسوف الهندي الذي هو خير نموذج للأدب الوطني.

في هذا الكتاب المنفذ في موضوعاته ومباحثه تجلت مقدرة الأستاذ علي أدهم في التفكير والتعبير والتحبير.

روضات الفردوس:

ثم إن الأستاذ على أدهم أتحف اللغة العربية تحفة نادرة المثال في كتابه الأخير روضات الفردوس وهو محاضر مناقشات لأرواح أعلام التاريخ في جميع المذاهب الاجتماعية المختلفة. وقد تولى العالم جيثي رئاسة هذا المجلس الخيالي. وكان أبرز المتناقشين فيه كارل ماركس أبو الاشتراكية. وقد احتدم النقاش بينه وبين فولتير فيما آل إليه الأمر في روسيا عن يد لينين الذي اعتنق إنجيل ماركس بحروفه، وفحواه أن الاشتراكية لا تقوم على يد الأكثرية في البارلمان بل على يد الثورة.

وكانت ماري ستيورت ملكة فرنسا وسكوتلاندا في هذا المجلس الروحاني وكانت كل هينة

ص: 48

وأخرى ترمي كلمة تحاول بها أن تزج نفسها في المناقشة، ولكنها كانت كالسيدة التي تشتغل في التريكو تقول الكلمة وتخاف أن تخطيء في القطبة.

والعجيب أن نابليون تكلم في الخلق. وعنده أن العقل بغير الخلق نكبة الأمم. فهو شعلة يحملها طفل ويجب إطفاؤها بأي ثمن حتى ولو اقتضى ذلك موت حاملها. ولكن كارل ماركس جبهه بقوله: هذا ما فعله تلميذاك هتلر وموسوليني. وما تسميه خلقاً أسميه أنا جشعاً، وما تسميه ظهوراً وصعود نجم ليس إلا تكديس الأرباح المسروقة من جيوب الموجد الحقيقي للثروة.

فيسأله جيتي: من هو موجدها؟ فيجيب كارل ماركس. هو العاقل الصعلوك.

وهكذا يتمادى كارل ماركس في النقاش بجد ويتدخل فولتير وماري ستيورت وجيتي. وإذ يقسم نابليون الدولة إلى ثلاث طبقات: القادة، وهيئة الضباط، والجند، تنبري الملكة ماري ستيورت وتضيف إليها طبقة رابعة وهي طبقة النساء. ولكن نابليون لا يعطهن أهمية اجتماعية خارج المنزل. في كل هذه المناقشات يكون صوت كارل ماركس ملعلعاً.

ثم يأتي وشنطون محور أميركا ويجتهد أن يدخل الرب في الموضوع فيحتدم النقاش بينه وبين فولتير. ثم ينبري نابليون ويزج الباباوية والإمبراطورية في البحث. ويكون جيتي في كل موضوع ممسكاً الميزان لتأييد الاعتدال والعدالة.

وهكذا ينتقل الجدال من الاشتراكية إلى الشيوعية الدين إلى السياسة إلى جميع المذاهب الاجتماعية وأخيراً إلى الحرب. ونابليون يؤيد القوة كعامل للحضارة. وواشنطون يؤيد الإيمان كأساس لها.

ولما أشتد الخلاف استدعى جيتي روح أحد الشيوخ الأحياء وهو يغط في نومه في البرلمان وسأله عن سياسة أميركا الحالية فقال له: إننا نسير غير مرتبطين باتفاقات دائمة مع أي جزء من أجزاء العالم.

ويحتدم النقاش بين وشنطون والسناتور (الشيخ) إلى أن يتطرق إلى عصبة السلام وكانت في رأي وشنطون ثوب تنكر لعصبة الحرب ونصحاً بالابتعاد عنها.

وهنا اشتبك كارل ماركس وفولتير في موضوع عصبة السلام، واقتضى الأمر التعريض بهتلر وموسولوني، ثم بالفاشية.

ص: 49

ثم يستدعي جيتي روح أحد الفاشين من الأرض وهو نائم لكي يسألوه عن مذهبه. وإذ يرى هذا الفاشي مارى ستيورت يقول: أسيدة في حلقة رقص أو ربما كانت مغنية في الأوبرا. والنساء في إيطاليا يطعن موسولوني ويلدن الأطفال في أقصى سرعة - إلى غير ذلك من الحديث عن تربية الأطفال لأنه هو مدرب للأطفال وأنه يصوغهم كما يشاء موسولوني.

ثم يستدعي جيتي شخص نازي ويحتدم الجدال بين هذا النازي وفولتير ومارى وستيورت إلى أن يقول لهذه الملكة أي سلوك فجور ودعارة تسلكه امرأة هنا. ما الذي تصنعينه هنا محفوفة بالرجال. . . اذهبي واحملي أطفالا لوطنك والفوهرر. . . وما قال كارل ماركس كلمة حتى كان ذلك النازي يصيح به: أيها اليهودي القذر!

ثم أستدعى جيتي شيوعياً من نومه فجرى بينه وبين كارل ماركس جدال لا يسعه هذا المقال. فعلى القارئ أن يطالعه في الكتاب الذي نحن بصدده. وفيما كنت أقترب في هذا السفر النفيس إلى آخره كنت آسف أنه سينتهي وأنا لا أريد أن ينتهي لأنه كان آخذا بمجامع لي فأشكر لصديقي الأستاذ علي بك أدهم انتقاءه هذا الكتاب وتقله إلى العربية لمؤلفه العلامة الإسباني سفاد وردى مادارياجا.

نقولا الحداد

ص: 50

‌القصص

من روائع أدب القصة القصيرة الإنجليزية:

أولالا

للكاتب الإنجليزي روبرت لويس ستيفنس

(روائي أديب إسكتلندي ولد في أد نبرة في 13 نوفمبر1850 ودرس القانون في أكاديمية أد نبرة وجامعتها ومارس المهنة ثم انصرف عنها إلى الأدب. أول ما ظهر من آثاره الأدبية مقالاته في مجلة (كورن هل)1874. تجول في أوربا وكتب عن رحلاته هذه. ذهب إلى أمريكا عام 1880 وتزوج بالمز إزيون الأمريكية. عاد إلى إنجلترا وكتب في 1882 قصة (جزيرة الكنز) التي جعلت اسمه على كل لسان. وفي عام 1886 كتب قصة (كدنايد) والقصة العجيبة التي سماها (الدكتور جاكيل والمستر هايد) وهي التي تضرب الأمثال بين الناس بها للرجل المخاتل ذي الشخصيتين المتنافرتين. وكتب قصصاً قصيرة كثيرة عام 1884 - 1887 وفي هذا العام ذهب إلى أمريكا، وساح في المحيط الهادي، واستقر به النوي في (ساموا)، وأخذ يرسل منها إلى إنجلترا أروع القصص، حتى وافته منيته بعيداً عن الوطن الرابع من ديسمبر عام 1894 وهو مكب على كتابة قصته

تمهيد للقصة:

تقع حوادثها في شمال أسبانيا في قصر عظيم من قصور أشرافها قد عبث الفقر بجدرانه وسكانه عبثاً شديداً وتدور حوادث القصة بين أربعة أشخاص: أولهم شاب إنجليزي في ميعة العمر، جميل الطلعة، في رجولته وجماله وشجاعته كل ما يحرك الحب في قلب المرأة ويدلهها - وهو جريح. وثانيهم شاب ريفي غير متعلم، تبدو عليه دلائل البله وهو ابن السنيورة النبيلة صاحبة القصر. وثالثهم السنيورة نفسها، وهي سيدة في العقد الخامس من العمر، تطل من وجهها أثار جمال ساحر، وهي مصابة بالجنون. ورابعهم أولالا، ابنة السنيورة، وهي فتاة في ربيعها الثامن عشر، رائعة الجمال شاعرة، وفيلسوفة، ومتبتلة.

تلخيص القصص:

أخذت جراح الشاب الإنجليزي تتماثل للشفاء، فقرر الطبيب إبعاده عن ضوضاء المدينة

ص: 51

إلى مناخ جبلي جاف مدة شهرين، واتفق مع عائلة إسبانية في الريف على قبوله هذه المدة في قصرها، ولكن العائلة اشترطت سلفا أن لا يحاول هذا الإنجليزي التعرف على أفراد الأسرة، أو التدخل فيما لا يعنيه من شؤونهم، وقد كان هذا الشرط كافيا لرفضه الذهاب، لولا أن الضرورة الصحية جعلته يخضع لهذا اللون العجيب من حسن الضيافة وكرم الجوار!

وحضر فيليب ابن السنيورة لاستصحابه، وأخذ طريقهما إلى قصر يبعد عن المدينة عشرين ميلا، في عربة أثرية يجرها جواد هزيل. لم يحاول أحدهما التحدث إلى صاحبه، إنما كان فيليب يرفع عقيرته، طيلة الطريق، بغناء سمج لا يجري فيه على قاعدة من أبسط قواعد ذلك الفن الجميل. واختفت ذكاء وراء الأفق، تاركة خلفها على حواشيه ذيولا ممتدة هنا وهناك من نضار مصهور، وأخذ الظلام يسحب رداءه فتبدو في الظلمة موحشة تبعث الكآبة والخوف في أحشائها إلى النفوس. . ولمحا ضوءاً بعيداً ما لبث أن ظهر أنه ينبعث من إحدى نوافذ القصر الذاهبين إليه.

وعلى مسافة يردات معدودات من القصر تركا العربة، في حراسة فلاح من خدم القصر، واجتازا الباب الخارجي والردهات الداخلية حتى وصلا إلى غرفة قد وضع فيها سرير ومنضدة عليها نبيذ وطعام حار شهي، وقد أضرمت فيها نار جعلت جوها دافئاً.

انصرف فيليب إلى بعض شؤون، وتناول الجريح الطعام، وأوى إلى فراشه متعباً منهوكا وراح يسبح في نوم هادئ عميق! وأفاق مبكراً وأول ما دار بخلده أن يتعرف على ما حوله وعلى كل شيء يجد السبيل إليه مدفوعا إلى ذلك بحب الاستطلاع الذي أثاره في نفسه شروط الأسرة البعيدة عن اللياقة وأول ما بدأ به الغرفة التي يرقد فيها. أجال بصره فرأى صورة فتاة جميلة تدل ملابسها على أنها لا تعيش في هذا الزمن ولكن قسمات وجهها شديدة الشبه بملامح فيليب أخذ يطيل النظر إليها وهو في كل مرة يشعر بأن الصورة توقظ في قلبه لوناً غامضاً من الحب وارتاح إليه وأنس به الوحشة، وفي هذا المكان المقفر من العطف والوجوه الجميلة.

ثم أخذ يقضي أوقات فراغه في لهو بريء: يبدأ من الصباح فيصعد التلال المجاورة، ويدور بالغابات والجداول حتى يأخذ منه التعب مأخذه، فيعود إلى غرفته غير ملتفت إلى

ص: 52

شيء حسب الاتفاق مع الطبيب، إلا بمقدار ما هو ضروري لرؤية الطريق.

مل هذه الحياة الرتيبة وكرهها، واستدعى فيليب إلى غرفته وأخذ يحدثه في لباقة وبراعة عن مواضيع بعيدة، يدس في ثناياها أسئلة عن الأسرة وأحوالها، ما لبثت أن أغضبت فيليب فتركه دون أن يجيبه عن شيء منها.

غير أن ذلك لم يثبط عزيمته وصمم على أن يكتشف بنفسه كل شيء، وأخذ في ذهابه وإيابه يلتفت يميناً ويساراً فرأى الجناح الذي تعيش فيه السنيورة. وبينما يهم بالخروج في صبيحة يوم مشمس جميل رآها جالسة في نور الشمس بالقرب من طريقه فحاول أن يتقدم إليها بالتحية، ولكنه تذكر الشرط القاسي فمر بها وهي تتلفت إليه دون أن يرفع طرفه إلى مكانها، غير أن الجرأة عاودته فحياها، فردت له تحية جافة، لا حياة فيها ورمقته بنظرة جامدة هادئة، منبعثة عن كبرياء. . ولكنه أدرك بعد زمن أنها صادرة عن عقل غير سليم!

وألف صاخبا السنيورة وألفته، فكان يمر بها صباح ومساء يرفع إلى مكانها تحياته، وينطلق إلى رياضته وراء التلال أو يمر بفيليب وهو منهمك في أعماله الزراعية. لقد كان سلوك السنيورة السلبي غير مشجع له على التحدث إليها، لذلك رغب في الابتعاد عنها.

وقد أدرك بفطنته أن الأسرة مرضاً وراثياً من الغباوة أو الجنون، بدا له واضحاً في عقل فيليب وسلوكه وفي عقل السنيورة وسلوكها. لقد سمع من الطبيب أن للأسرة فتاة في ريعان الصبا، فحسبها نوع والدتها وأخيها فاحتقرها وأمات الخيال الذي كان يود البحث عنها في شعوره!

واستمر في رحلاته القصيرة. ولك الشيطان سول له في أحد الأيام أن لا يذهب إلى التلال البعيدة، ولكن إلى داخل القصر، واغتنم فرصة ذهاب فيليب إلى أعماله الزراعية، وفرصة استسلام السنيورة إلى نوم تحت الشمس، وانسل إلى القصر وأخذ يور في حجراته وصالاته الرحبة، فبهره تخيل ما كان هذا القصر من السؤدد والثراء، وراح يغرق عواطفه في لجة من الفن تبدت في مئات الصور الرائعة لكبار الفنانين قد علقت هنا وهناك وقد أخذت يد التلف تشوه جمالها واستمر في تجواله حتى وصل إلى مكان فيه أوراق مبعثرة وكتب قيمة، بعضها أدبي وبعضها ديني، والآخر فلسفي. وهي لكبار المؤلفين في اللغة اللاتينية. ومظهر الكتب يدل على كثرة استعمالها وامتدت يده تعبث بأوراق فوق كرسي،

ص: 53

فرأت شعراً قد كتب بقلم رصاص وبخط أنيق جداً على ورقة، يدل على براعة فنية وشاعرية فذة والهام خصب فعلم صاحبنا أن الغرفة التي هو فيها مخدع العذراء التي يبحث عنها، وإنها هي الشاعرة الجميلة الفيلسوفة. أحس في أعماق نفسه بأنه أقترف جرماً أخلاقياً بشعاً لاستباحته مخدع فتاة خفية عنها وعن أسرتها كما يفعل اللصوص، وتراجع مذعوراً من تأنيب ضميره إلى قواعده في تلك الغرفة الكئيبة، والشعر الرائع لا يزال يتردد في حنايا حسه وهو يقول لنفسه، إن التي تنظم شعراً من هذا النوع لا تكون إلا ملاكاً من ملائكة الرحمة وغير ممكن أن تكون مصابة بجنون.

وارتمى فوق سريره يفكر في الشعر وفي ناظمه، ويحلم بلقائها. . وعبثاً حاول صرف خيالها عن خاطره، وعبثاً حاول مقاومة تلك الرغبة العنيفة التي تدفعه دفعاً إلى العودة للجناح الخاص الذي تعيش الشاعرة الشابة فيه من ذلك القصر الكئيب وأخذ طريقه بعد أيام إلى مكانها. . . وفيما هو يهم بفتح الباب المؤدي إليه، إذا بيد تفتحه وإذا به وجها لوجه أمام فتاة بارزة النهدين، في عنفوان الصبا ونضارة الشباب. وما رأى لها شبيها في حياته. . . تراجعت الفتاة قليلا مشدوهة. . . وهي تكاد تلتهمه بنظراته الجائعة. . . وتراجع قليلا، محمر الوجه خجلا من اكتشافه في ذلك المكان الخاص من القصر لا يسمح له بالذهاب إليه، وولى الأدبار إلى غرفته، بعد أن ألقي نظرة طويلة على الشاعرة الجميلة الشابة الساحرة، وهي تلاحقه بنظراتها التي حملت إلى قلبه أولى رسائل الحب الجارف العنيف.

تغيرت حياة الشاب بعد هذا اللقاء. . أصبح لا يجد معنى للحياة إلا إذا رآها. . . لا يشتهي الطعام، ولا يجد النوم إلى جفنه سبيلا. وأحس في نفسه أنه يتحول إلى مخلوق جديد لا يمت بصلة إلى الإنسان الذي كان يعيش في جلده. . .

أصبحت المروج الجرداء والتلال الموحشة والبراري الصامتة روضة من رياض الجنة. . . أنه يرى وجه أولالا في كل ما تقع عليه في الدنيا، فيرى كل شيء ساحراً جميلا. لقد أصبح عاشقاً.

وأفاق مبكراً ومر في طريقه العادي فرأى وجه الشاعرة الجميل يطل من مكان قريب. . . فاندفع إليها مشدوها مذهولا ولكنها تراجعت قليلا وحاول أن يقول لها كلمة فرأى أن الكلمات تموت على شفتيه. ففر متجها إلى التلال القريبة. . . وجلس على صخره تطل

ص: 54

على قصر الحب والسعادة وأخذ يحلم بسعادة اللقاء، ويضمد في قلبه الجراحات العميقة التي خرج بها في المعركة النظرات في صباحه. وبينما هو مذهول، إذ لمح شبحاً يقترب من مكانه وراء الأشجار. . حدق طويلا. يكاد يجن! لقد اقتربت! إنها. . إنها أولالا. . . أسرع بلا فيها مادا ذراعيه إليها فغابت معه في قبلة طويلة وهي تبكي بكاء موجعاً عنيفا. . ثم تدفعه فجأة وتفر منه كالمهاة التي يطاردها الصياد إلى سجنها في القصر العتيد.

عاد إلى القصر يتبعها، وهو كالمجنون. . . إنه يريد أن يضمها إلى صدره مرة أخرى، يريد أن يتحدث إليها. ولم يكد يدخل غرفته حتى وجد ورقة من نفس الورق الذي قرأ القصيدة فيه قد كتبت بنفس الخط، تطلب منه أن يرحمها إن كان يحبها، بمغادرة القصر في اليوم التالي.

كان يقدر أن يمر به كل هول في الحياة، بعد ما حمل قلبه حباً من هذا النوع، فلا يأبه له، ولكنه ما قدر أن تطلب إليه أولالا. . أولالا التي أحبته وأحبها حباً جنونياً، أن يغادرها حالا وتستحلفه باسم الحب أن يفعل. أنه لا يحتمل ذلك أراد أن يخادع الواقع بالكذب زاعماً أنها لم تطلب منه، وأنه يحلم. . ولكنه يرى أن خطها وأسلوبها الشعري ودموعها وراء كلماتها. . إنه أمام الحقيقة المرة. . . أنه لا يقوى على ذلك. . . وأسرع نحو النافذة يريد التخلص من الحياة ولم يفطن إلى أنها موصدة فاصطدمت ذراعه بالزجاج فجرحت جرحاً بالغاً تصبب منه الدم بغزارة. . . فصرخ وأسرع نحو أولالا. . . فصادفته السنيورة فطلب مساعدتها. لقد هاج منظر الدم المتدفق جنونها المكبوت فاندفعت إلى ذراعه تعضها كالحيوان المفترس عضاً أليما وهي تصرخ صراخاً منكراً وصل إلى مسامع أولالا وفيليب فأسرعا وأنقذا حياته واحتملاه إلى غرفته وراحت أولالا تضمد جراحاته وتصلي وهي دامعة العينين. . وأفاق بعد لأي فوجد أولالا منفردة إلى جانبه تمرضه وتسهر عليه وهي تبكي راكعة أمام سريره فتناول يدها بقبلاته وبللها بدموعه وعلى حين فجأة تترك الغرفة، فيدخل فيليب ويحمله إلى مدخل القصر ويوصله إلى عربته إلى دير قريب.

قضى صاحبنا في الدير الجديد أياما اندملت فيها جراح ذراعه ولكن ما تزال جراح قلبه دامية. وأخذ بعد أن استرد قسما من عافيته يتردد على جبل منيف يطل من مسافة بعيدة على قصر أولالا. كان يجد عزاء كبيراً في الجلوس على قمة ذلك الجبل.

ص: 55

وكثر تردده على ذلك المكان، وكانت في قمته صخرة وجد الراحة والعطف في قلبها الجلمود. . . واستغرق في أحد الأيام في ذهول عاطفي جعله كالميت لا يتأثر مما حوله ولا يحس بوجود نفسه وفتح عينيه فجأة وحملق. . وعاد إلى وعيه فرأى. . وحسب نفسه في حلم. . ولكن التي يراها أولالا. . أولالا جاءته بنفسه تبتسم إليه. . لقد تلاقيا. . عجبت أولالا من رؤيته في تلك القمة - ولكنها كانت تعرف ذلك وتعمدت المجيء - وتظاهرت بالعتب عليه لبقائه قريباً منها حتى ذلك الوقت وقالت له إن قصة حبهما قد تحث بها القاصي والداني وأن الناس قد نذروا قتله وقتلها. وجثت على الأرض واستغرقت في صلاة عميقة وهو يدعو الله أن يلهمه ويلهما الصبر والرحمة. وودعته بعد أن قالت له إنها راهبة، وقد وضعت حب الله بينه وبينها.

وعاد إلى ديره وقد أخذ اليأس من نفسه كل مأخذ: إنه لن يراها بعد اليوم.

لعمرك ما فارقت بغداد عن قلبي

لو أنا وجدنا من فراق لها بدا

كفى حزناً أن رحت لم أستطيع لها

وداعاً ولم أحدث بساكنها عهداً

المسيب - العراق

علي محمد سر طاوي

مدرس الإنجليزية في متوسطة المسيب

ص: 56