المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 817 - بتاريخ: 28 - 02 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 817

- بتاريخ: 28 - 02 - 1949

ص: -1

‌مشروع مولوتوف

للأستاذ عمر حليق

في الخامس والعشرين من يناير سنة 1949 أعلنت موسكو نبأ تأليف اتحاد اقتصادي للمنفعة المشتركة في منطقة النفوذ السوفيتي ليعمل علانية على مكافحة مشروع مارشال الأمريكي للإنعاش الأوربي. وقالت وكالة الأنباء الروسية الرسمية (تاس) التي أذاعت الخبر أن المشروع الروسي الجديد جاء نتيجة لمؤتمرات عدة عقدتها في موسكو الدول الحليفة لروسيا في أوائل السنة الجديد؛ وأن هذه الدول (التي رفضت الانصياع لديكتاتورية مشروع مارشال) قد أنشأت فيما بينها (مجلساً للمساعدة الاقتصادية المتبادلة لتدعيم التعاون الاقتصادي أكثر فأكثر) بين بعضها وبعض. وقالت تاس كذلك أن عمل المجلس الاقتصادي هذا سيتناول (تبادل الخبرة الفنية والاقتصادية) بين الدول المشتركة فيه، و (تقديم المعونة المتبادلة للحصول على المواد الخام والمواد الغذائية والآلات الصناعية وما إليها) وأن المجلس سيجتمع دورياً وأنه يرحب بكل من يرغب في الانضمام إليه من الدول الأوربية التي تدين بها بالمبادئ التي يدين بها مؤسسوه والمشتركون في هذا المشروع غير الروس خمس دول في منطقة النفوذ السوفيتي وهي رومانيا وبولندة وبلغاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا. وقد تركت يوغسلافيا - وخلافها مع موسكو قد اتسعت شقته - خارج هذا المجلس.

قبل سنة ونصف أي في منتصف عام 1947، خرج الرفيق مولوتوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي في اجتماع مجلس وزراء الدول الأوربية بباريس غاضباً. وكان موضوع البحث بين روسيا وفرنسا وبريطانيا في ذلك الاجتماع مشروع مارشال الأمريكي لإنعاش اقتصاديات أوربا. وقد اصدر مولوتوف عقب انسحابه تصريحاً قال فيه: أن الاتحاد السوفيتي قد رفض المشاركة في المشروع الأمريكي لأن أمريكا لا تتوخى إنعاش أوربا بل تريد تقسيمها وبث الشقاق بين دولها.

وتبع تصريح مولوتوف هذا بيان من (البوليت بيرو) القيادة العليا للسياسة السوفيتية اعترف فيه الروس بأن مشروع مارشال هو أكبر تحد يواجه الاتحاد السوفيتي.

وعلى أثر ذلك شرع الروس في اتخاذ خطوات عملية في ميادين السياسة والاقتصاد

ص: 1

لمكافحة مشروع مارشال. وكان أبرز هذه الخطوات في مجال السياسة تأليف (الكومنفورم) وهو المركز الرئيسي الرسمي للشيوعية الدولية (وكانت روسيا قد حلته خلال الحرب) وجعلت قيادته المركزية في العاصمة البلغارية، وتلا ذلك نشاط عسكري في مناطق الثورات الشيوعية في اليونان والصين واتخذت المساعدة السوفيتية ليهود فلسطين دوراً عملياً لم يشعر العرب بخطورته إلا بعد سنة من استمراره.

ولم تقتصر روسيا في إجابتها على تحدي مشروع مارشال على هذه الخطوات السياسية والعسكرية، بل أردفتها بنشاط اقتصادي تدريجي شبك الروس فيه اقتصاديات دول شرقي أوربا بعضها ببعض ثم ربطتها جميعاً بالاقتصاد السوفيتي. وهذا في الواقع عملية ابتدأت روسيا بالعمل بها منذ أن احتلت شرقي أوربا أثر تراجع الألمان عنها 1945، وكانت وسائل موسكو لتحقيق هذه السيطرة الاقتصادية سلسلة من المعاهدات التجارية ركزت الإنتاج الصناعي والزراعي في منطقة نفوذها في بوتقة التبادل التجاري الإقليمي. وقطعت دول شرقي أوربا الجزء الأكبر من معاملاتها التجارية مع أوربا الغربية والعالم الخارجي إجمالا. ثم جعل الميزان التجاري في جميع الدول الشيوعية المتحالفة متمشياً مع رغبات الاتحاد السوفيتي الذي أصبح بحكم هذا التوجيه وبما له من سيطرة ونفوذ سياسي، العنصر السياسي في الكيان الاقتصادي في شرقي أوربا وهي جزء من العالم يضم ست دول تبلغ مساحتها حوالي عشرة ملايين ميل مربع وعدد سكانها 262 مليونا من الأنفس.

وأستمر نشاط الروس في منطقة نفوذهم لتدعيم النظام الشيوعي ومكافحة الغرب الانجلوسكسوني في ميادينه الاقتصادية والسياسية والفكرية، وظل العالم الخارجي لا يعلم إلا قليلا عن مدى اتساع هذا النشاط ومبلغ نجاحه بسبب الرقابة السوفياتية الشديدة. ولكن المتتبعين للشؤون الروسية قدروا بأن جواب موسكو على مشروع مارشال الذي أحرز قسطاً من النجاح للغاية التي وضع من أجلها - جواب روسيا سيكون من نوع التحدي. وقال الخبراء بأحوال منطقة النفوذ السوفيتي أن هناك خططا اقتصادية منسقة يعمل لها السوفيت بالتعاون مع الحكومات الشيوعية القائمة هناك. وكان هؤلاء الخبراء يطلقون اسم (مشروع مولوتوف) على النشاط السوفيتي. وفي الأشهر الأخيرة كاد العالم أن ينسى أن هناك شيئاً اسمه مشروع مولوتوف، لندرة ما تتناوله الألسن، على عكس الدعاية الواسعة

ص: 2

التي يلقاها مشروع مارشال في الصحافة العالمية - أو صحافة الحلف الغربي على الأقل. إلى أن نقلت وكالة تاس نبأ تأليف المجلس الاقتصادي الجديد.

هذا المشروع السوفيتي الجديد، مجاله منطقة جغرافية غنية بالمواد الخام من الفحم والحديد والزيت لا يزال معظمها في باطن الأرض إذ لا تتوفر لدى دول شرقي أوربا الوسائل الآلية الحديثة ولا رأس المال ولا الخبرة الفنية لاستخراجها. فالخبرة في الإنتاج والتعدين، ومدى التصنيع في شرقي أوربا إجمالا قاصر عن اللحاق بالحضارة المادية المتفوقة التي عرفت بها دول أوربا الغربية والعالم الجديد. ولذلك فإن الخبراء في العالم الإنجلوسكسوني يعتقدون بأن هذا المشروع الروسي الجديد سيقتصر على تنسيق المعاهدات التجارية بين الدول الشيوعية، وأنه لن يسعى لتنفيذ برامج اقتصادية ضخمة تتناول التصنيع وتدعيم التبادل النقدي وغير ذلك من أوجه الاقتصاد التطبيقي على النحو الذي يعمل له مشروع مارشال في غربي أوربا وشمالها وجنوبها.

ويضيف إلى ذلك هؤلاء الخبراء - إن العقبة الكبرى التي تقف في وجه المشروع الروسي الجديد، حتى ولو اقتصر على تنسيق التبادل التجاري، هي أن منطقة النفوذ السوفيتي لا تشكل كتلة طبيعية تستطيع موازنة التبادل التجاري. فليس في الكتلة السلافية سوى تشيكوسلوفاكيا من يستطيع أن يؤمن تبادلا تجارياً سليماً؛ ففي تشيكوسلوفاكيا صناعات ثقيلة تستطيع أن تتبادلها مع حاصلات روسيا الزراعية أو حاصلات الدول الشيوعية الأخرى ومعظمها زراعي كذلك.

وكانت هذه الدول قبل أن تنصهر الكتلة السلافية تتبادل النسبة الكبرى من محاصيلها الزراعية مع ألمانيا ودول أوربا الغربية المعروفة بوفرة الإنتاج الصناعي.

وليس للدول الشيوعية في منطقة النفوذ السوفيتي الآن سوى روسيا لتتبادل معها الإنتاج الزراعي بإنتاج صناعي يسد حاجتها. ويعتقد الخبراء إنجلوسكسون أنه ليس لدى الاتحاد السوفيتي وفرة الإنتاج الصناعي ما تسد حاجيات حلفائه في شرق أوربا بسبب مشروعات الخمس سنوات الإنشائية التي تحدد طاقة الإنتاج الروسي وتوزعه على مطالب الشعب الروسي قبل كل شيء. وفوق ذلك وفرة الإنتاج الزراعي في روسيا نفسها من القمح الأوكراني والمواد الغذائية الأخرى يجعل شراءها للمنتجات الزراعية من الدول الخاضعة

ص: 3

لنفوذها نوعا من الإحسان لا يستند إلى دعائم اقتصادية سليمة.

وهنا تتدخل لايك سكسس فيقول خبراؤها أن الدول التابعة لمشروع مولوتوف الروسي، والدول المنظمة لمشروع مارشال الأمريكي، سيرغمان في نهاية الأمر على تبادل التعاون. فإن الكيان الاقتصادي الذي تحاول موسكو تدعيمه في شرقي أوربا هو كيان زراعي؛ وإن الإنعاش الذي يحاول الإنجلوسكسون تحقيقه في باقي أوربا هو كيان صناعي؛ وإن تشابك السياسة والاقتصاد في الحياة الأوربية والدولية إجمالا ليس من السهل القضاء عليه. ولذلك فإن خبراء لايك سكسن يعتقدون بأن التبادل التجاري بين منطقة النفوذ السوفيتي ومنطقة الحلفاء لن ينقطع ما دام أن كلا المعسكرين ليس في صراع مسلح، وهذا الاتصال التجاري أحد السدود التي تقف في وجه اندلاع لهيب جديد.

(نيويورك)

عمر حليق

معهد الشؤون العربية الأمريكية

ص: 4

‌الغزي الشاعر

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

هو شاعر من كبار شعراء العرب عاش في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة ورحل إلى الشرق فأمضى معظم عمره في الأسفار. ونشر شعره بالعراق وخراسان. وكان أحد شعراء العربية الثلاثة الذين عرفتهم بلاد العجم في القرنين الخامس والسادس. وثانيهم أبو المظفر الأبيوردى الأموي شاعر العربية في القرن الخامس، والثالث الأرجاني الذي عاش من سنة 460 إلى سنة 544

ولد الغزي في غزة هاشم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. وفارق وطنه في سن الأربعين فدخل دمشق ورحل إلى بغداد وأقام في المدرسة النظامية سنين كثيرة. ومدح ورثي كثيراً من المدرسين بها. . . ثم رحل إلى خراسان ومات بها في طريقه من مرو إلى بلخ سنة 523. ونقل إلى بلخفدفن بها.

وقد تحدث المؤرخون عن كثرة أسفاره فقال ياقوت في معجم البلدان: سافر الدنيا. وقال صاحب الخريدة: جاب البلاد وتغرب وأكثر النقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان.

وقد ذكر هو أسفاره في مواضع من شعره. يقول:

كم بلدة فارقتها فوجدت في

أخرى مُراداً مكثباً وَمرادا

وتركتها ربداء كالظلم التي

يلبسن من فقد البدور، حدادا

إن كنت سرت عن العراق مؤنبا

جيا فلست بشاكر بغدادا

فمتى أضام وهمتي فوق السها

أو يستطيع لي الزمان عنادا

ويقول:

كم لبسنا أضفي السوابغ ذيلا

وطرقنا أحمي القبائل جارا

فخلونا بالعامرية والخيل صـ

يام والحي ما شب نارا

وانكفأنا والفجر يعطس والريـ

ح تعفي بذيلها الآثار

وشهدنا الوغى وقد رتق النقـ

ع فتوق الآفاق والأمصارا

ولقينا الملوك عربا وعجما

وحصلنا على الجزيل مرارا

ص: 5

وسهونا عن قص أجنحة العمـ

ر بما يصلح المعاد فطارا

وكأنه في هذه الأبيات يجمل سيرته، ويذكر خلاصة ماضيها وتجاربه.

ويقول في أبيات أخرى.

وطامعة ترى الخرِّيت فيها

كأمي تناوله كتابا

لبست قتامها وخرجت منها

خروج مهند سلب القرابا

بسير يحرق النار اشتعالا

وعزم يسبق الماء انصبابا

ولما قل منتقدٌ وأمت

بغاثة كل منتحل عقابا

وأصبح منسم الدنيا سناما

وخر الرأس وارتفع الذنابى

شمخت بأنف فضلى عن مرام

يضم أُسود بيشة والذئابا

وكم أرسلت من مثل شرود

سري في ظهر قافية وغابا

مدح الغزي كثيراً من أمراء المشرق وملوكه، كبني نظام الملك، والسلطان سنجر بن ملكشاه.

وفي شعر الغزي، كالابيوري والأرجاني - وهم عرب خلص عاشوا في إيران وما يتصل بها في ذلك العصر وقد حيت اللغة الفارسية وازدهرت آدابها - في هذا الشعر مجال واسع لتأريخ الأدب العربي وقياسه بالآداب الأعجمية التي نشأت في حضانته وتحت سلطانه، وبيان مكانته في تلك الأقطار.

وفيه كذلك إبانة عن نزعات شعراء العرب في الأقطار الأعجمية واعتدادهم بأصولهم وتشوقهم إلى أوطانهم.

وقد سبق أبو الطيب المتنبي إلى الحنين إلى الشام، وافتقاده بني قومه حينما رحل إلى فارس أشهراً قليلة مدح فيها ابن العميد وعضد الدولة فقال:

أحب حمصا إلى خناصرة

وكل نفس تحب محياها

وذكر مواطن لهوه في تلك الأصقاع. وقال أيضاً في وصف شعب بوان:

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

وافتقد ما ألف في دمشق من ضيافة فقال:

ص: 6

ولو كانت دمشق تني عناني

ليبق الثرد صيني الجفان

وأما الأبيوردي الشاعر الأموي فكان لسان العرب في القرن الخامس. أشاد بمجدهم وتمدح بأخلاقهم وحن إلى أوطانهم وهو لم ينشأ بها، ولم يعش فيها إلا قليلا في العراق، حتى سمى قسماً من ديوانه النجديات.

وهذا أبو اسحق الغزي تعاوده ذكر غزة وباديتها، وبلاد العرب، فيعرب عن شوقه وحنينه.

وكما أشاد أبو الطيب بالبداوة حين قال:

ما أوجه الحضر المستحسنات به

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

ابن المعيز من الآرام ناظرة

وغير ناظرة في الحسن والطيب

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

أولع الأبيوردي ببوادي العرب وكرر ذكرها والإشادة بالعيش فيها.

ومن قوله في هذا:

ويعجبني نفح العرار وربما

شمخت بعرنيني وقد فاح عنبر

ويخدش عمدي بالحمى صفحتا الثرى

إذا جر من أذياله المتحضر

وما العيش إلا الضب يحرشه الفتى

وورد بمستن اليرابيع أكدر

بحيث يلف المرء إطناب بيته

على العز والكوم المراسيل تنحر

ويغشى ذراه حين يأتم للقرى

ويسري إليه الطارق المتنور

يفخر في هذه الأبيات بالبداوة، ويشيد بما يعبر به الأعراب من أكل الضباب فيقول:

وما العيش إلا الضب يحرشه الفتى

في هذه البادية العزيزة الكريمة

حيث تستحكم الشجاعة والسخاء. وكذلك الغزي يحن إلى البادية بين الحين والحين. ويذكر قبائل العرب ويمدحها ولكنه أقل من الأبيوردي حماسة وحنيناً؛

يقول:

أين أيامنا بغزة والعيش

نضير واللهو رحب المجال

ومزايا حسن البوادي بَواد

بهلال في حلة من هلال

أي بإنسان كالهلال حسناً في حلة من بني هلال.

ص: 7

ويقول في تفضيل البدو على الحضر.

وغضة العين يحمي حسنها خفر

ولا خفير فعين الحسن كالخفر

سجية في البوادي لا أخل بها

والبدو أحسن أخلاقا من الحضر

قوم كأن ظهور الخيل تثنيهم

وما سمعت بأنبات بلا مطر

لا يجسر الطيف يجري في منازلهم

مهابة خيمت في مطرح الفكر

لما رضوا بشفار البيض معتصما

عزوا فما احتاج جانيهم إلى وزر

ويقول:

وأبرح ما يكون هوى البوادي

إذا رفعوا على العيس القبابا

تسير بكل جارحة حتما

أسود يتخذن السمر غابا

ثم الغزي بعد وقور في شعره حكيم، يصوغ الحكم والمواعظ، ويضرب أمثالا من تجارب وما لقي من غير الزمان. وهو في هذا الفن يبلغ درجة عالية يمتاز فيها. وهو مهما يفتن في ضروب الشعر لا يستطيع إخفاء نزعته إلى الزهد، وابتئاسه بأحداث الدهر، وقد عاش الرجل أكثر من ثمانين عاماً، وطرف في البلاد كثيراً فرأى وسمع وجرب ملء الأزمنة التي عاش فيها والأمكنة التي أقام بها.

أنظر إلى قوله:

لا تعجبن لمن يهوى ويصعد في

دنياه فالخلق في أرجوحة القدر

وقوله:

ما الدهر إلا ساعتان: تعجب

مما مضى، وتفكر فيما بقي

ولكل شيء مدة فإذا انقضت

ألفيته وكأنه لم يخلق

والمرء أتعب ما يكون إذا ابتغى

سعة المعيشة في الزمان الضيق

وهنا يظهر الفرق بين الغزي القنوع والأبيوردي الذي لاتسع الدنيا همه ومطلبه.

ويقول الغزي.

هلا نكرت شبابي وهو أغربه

للبين معربةٌ عن غربة السفر

ليت البياض الذي زال السواد به

أبقى لنا منه في القلب والبصر

قد ضقت ذرعاً بعيش لا يسوغ ولا

تمجه النفس حتى عيل مصطبري

ص: 8

فلست حياً، ولا ميتا، ولا دنفا

ولا صحيحاً، جميع الداء في الكبر

الغزي جدير بعناية أدباء العربية لبلاغة شعره وما فيه من معان قيمة وحكم عالية، ثم لما في سيرته من تبصرة بأحوال البلاد الإسلامية في ذلك العصر، وأحوال الأدب العربي في بلاد العرب والعجم. وديوانه جدير بالتصحيح والنشر. وقد أدرج كثير من شعره غلطاً في ديوان الأبيوردي. ولابد من نشر الديوانين قضاء لحق الشاعر بن، بالعناية بشعرهما وسيرتهما.

عبد الوهاب عزام

ص: 9

‌صور من الحياة:

انتقام

للأستاذ كامل محمود حبيب

دعني - يا صاحبي - أنفض أمامك جملة حالي، فما في حديثي ما تضيق له النفس ولا ما ينزعج له القلب. هذا أمري وما كان لي الخبرة منه وإني لأضطرب بين نوازع جياشة لا تهدأ ولا تستقر.

فتعال - ياصاحبي - واجلس إلى جانبي والق إلى السمع ثم لا تلمني فأنا تجربة قاسية من تجارب الحياة. . .

صفعتني الأيام في غير شفقة ولا رحمة - أول ما صفعت - حين ماتت عني أمي طفلاً أدرج في فناء الدار، ولا أكاد أعي من أمر الحياة شيئاً، ولا أكاد أنأى عن حضن أمي إلا ريثما أعود إليه أجد فيه الحياة والدفء والحنان جميعاً، وأبي بين عمله وشبابه في شغل. وافتقدت أمي حين افتقدت القلب الذي يسعدني وأطمئن إليه، وحين غاضت الابتسامة الرفافة الساحرة التي تجذبني وتحنو على؛ فرحت أسأل عنها في شوق وأبكي بعدها في حزن وأهلي من حولي يوهمنني بأن أمي ذهبت إلى القاهرة تطب لمرضها. وعجبت أن لا أجد لها شبيهاً في من أرى. فهذه عمتي وهذه خالتي وهذه وهذه. . . لأحس في واحدة منهن معنى الأمومة ولا ألمس روح الحنان.

واشتد شوقي إليها ولجت بي اللهفة إلى رؤيتها، ثم انطوت الأيام وعبرتي ما ترقأ وحنيني ما يخبو.

وصحبتني جدتي لأبي - ذات ليلة - إلى دارها، وأرادتني على أن أستحم وجاءت هي تزيل عني أوساخ الإهمال وتمسح أعفار الشارع، تدهن شعري بالزيت وتضمخ جسمي بالعطر ثم تلبسني الحرير في رفق وتلفني في الدمقس في عناية.

يا عجباً! ما لوجه هذه العجوز الشمطاء يفيض بشراً وإشراقاً وما لها تتزين وتتطيب كأنها في ليلة زفافها!.

وسألتها ما الخبر، فقالت:(بابني غداً ستذهب لترى أمك في بيت أبيك) وثوثب قلبي طرباً وطار عقلي سروراً، وشملتني طفولتي فما أستطيع أن أكتم دوافع نفسي، فذهبت أملأ الدار

ص: 10

ضجيجاً وصخباً، أغني وأصيح وأنادي وأقفز وأجري، يكاد إهابي ينشق نشاطاً على حين يفيض قلبي فرحاً. غداً سأرى أمي! وافرحتاه! وذهبت أهيئ نفسي للقيا الحبيبة أزين وأتأنق وأقف أمام المرآة أتحسس ملابسي وشعري وحذائي. ونامت العجوز وأنا إلى جانبها لا يجد النوم إلى عيني سبيلا؛ والأخيلة الجميلة البسامة تتوزعني وأنا بينها لا أحس معنى الزمن ولا يضنيني السهر وقد مضى الليل إلا أقله.

وفي الصباح لصقت بجدتي أتبعها وأتعلق بثوبها، أستنجزها ما وعدت وهي تستمهلني، والساعات تنطوي. والأمل يخبو في نفسي رويداً رويداً حتى لفني الوجوم والأسى وبدت على الخيبة وضياع الأمل. وعند الظهر قالت لي جدتي:(الآن، نذهب لنرى أمك).

وذهبت إلى دار أبي، إلى جانب جدتي، أختال في الحرير والدمقس وأزهو في طفولتي وعطري وأرنو هنا وهناك وقلبي يخفق في شدةوعنف، ترى أين كانت تتوارى أمي، أفحقاً كانت تطب لمرضها في القاهرة؟ ودخلت حجرة واسعة من حجرات الدار فإذا عبير المسك يتضوع في نواحيها وتفوح في جنباتها روح العطر. ولقد تأنقت الحجرة في زينتها وتبرجت في أثاثها فهي تخطف البصر وتخلب اللب. وأخذت أقلب البصر في أرجاء المكان فما رأيت المرأة الجالسة في أقصى الحجرة إلا حين قالت جدتي العجوز (هذه أمك) واندفعت أنا إليها ألقى بنفسي بين ذراعيها وأدفن وجهي في حجرها لأستشعر الحنان والعطف وقد فقدتهما منذ زمان.

وألقيت بنفسي في حجرها ولكني لم أحس بذراعيها تنفرجان لتضماني ولا بنفسها تستبشر للقائي ولا بقبلها ينبض لمقدمي فرفعت بصري إلى وجهها أحدق فيه، واستلبتني الدهشة والحيرة من حياء الطفولة فأرسلت من شفتي صرخة مدوية وأجهشت للبكاء ثم رجعت إلى الوراء في فزع، رجعت صوب الباب لأن هذه المرأة لم تكن أمي. وشعرت بأنني أحتقر جدتي وأمقت المرأة التي زعموا أنها أمي.

وألفيت أبي لدى الباب فربت على كتفي في حنان وضمني إليه في عطف وقال: ما بالك؟ قلت: من عسى أن تكون هذه المرأة؟ قال: هي أمك. قلت: لا. قال: ألا أن لك أمين واحدة في القاهرة وهذه هنا! قلت: فما لي لم أرها من قبل؟ وتلعثم لسان أبي وماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا لي أن أبي كذاب فشعرت بأنني أحتقره وأمقته.

ص: 11

آه، لقد انطوى صدري على كراهية أبي وجدتي والمرأة التي زعموا أنها أمي. . . كرهتهم جميعاً لأنهم كذبوا. . . وأحسست بالأسى يتدفق عارياً إلى قلبي. وجرفني الحزن حين أيقنت بأنني فقدت أمي إلى الأبد.

وحين رأتني زوجة أبي قذى في عينيها اتخذتني هدفاً لغضبها وثورتها وعشت في الدار ضائعاً لا أفوز إلا بفضله مما يتركه الخادم. حينذاك أرسلني أبي إلى المدرسة في المدينة ودفع بي إلى خادم يقوم على أمري فكان هو أبي وأمي وجلادي، فهو أب لا يعرف الرحمة وأم لتعرف الحنان وجلاد لا يعرف الشفقة. وعشت هناك أشعر بالغربة فأبي لا يزورني إلا لماماً إرضاء لزوجته، وهو أن فعل لا يحبوني بعطفه ولا يهش للقائي ولا يتبسط معي في الحديث ولا يهتم بحاجاتي ولا يعني بطلباتي، ومرت الأيام وهو ينأى عني رويداً رويداً حتى أصبح غريباً عن نفسي وعن قلبي في وقت معاً وأغص بالحرمان فالخادم ينعم وحده بمال أبي وأنا لا أنال قرشاً واحداً أشتري به بعض ما يشتري أترابي. وأشرق بالمهانة فأنا أغدو إلى المدرسة وأروح في ثياب مضطربة قذرة مهلهلة على حين أن رفاقي يرفون في الجديد والنظيف. وأحس بالضعة فما أستطيع أن أدفع عن نفسي عبث زملائي وتهكمهم فما بي من قوة أن أفعل. وتمادى صحابي فامتدت أيديهم إلى وجهي ورأسي، فطرت أفزع عنهم وافر منهم وهم يجدون في إثري لأكون لهم سخرية ولهواً. ولم تستطع نفسي أن تطمئن إلى هذا الوضع الوضيع وأنا عاجز اليد واللسان والقلب، فذهبت أتلمس مهرباً فكنت أقضي أوقات الفسحة مختبئاً في (المرحاض) ثم أنفلت - آخر اليوم المدرسي - إلى بيتي أحمل همي بين جنبي فما أجد متنفساً إلا أن أشكو إلى هذا الخادم الفظ وهو لا يلقي بالاً إلى شكاتي إلا والعصا على ظهري، وأبي بين عمله وشبابه في شغل.

وقضيت السنوات الأولى من عمري المدرسي أتوارى عن زملائي خشية أن تنالني أيديهم وألسنتهم، وأنطوي على نفسي في ركن من حجرة خيفة أن أعرض أسمالي البالية على أعين الناس في الشارع، فعشت في منأى عن الناس أطمئن إلى الوحدة وأرى فيها سلوان القلب وراحة النفس.

أفكنت أطمئن إلى هذا الوضع الوضيع في سهولة ويسر؟. ليت شعري ماذا كان يضطرب في خاطري حين أخلو إلى نفسي وإن قلبي ليتضرم غيظاً ويحتدم حقداً على

ص: 12

أولئك الذين اتخذوني سخرية ولهواً؟.

وثارت في ثائرة القرم إلى الانتقام واشتد بي النهم إلى الثأر وشغلتني الخاطرة فملأت نفسي وسيطرت على أخيلتي، وفي رأيي أن الناس يحترمون القوي ويتملقونه ويسخرون من الضعيف ويمتهنونه. وعز على أن أعيش عمري في الذلة والمسكنة فعزمت على أمر. . .

ورحت أقضي شطراً من يومي في أحد الأندية الرياضية، وشطراً آخر بين أوراقي ودرسي، ومرت الأيام فإذا ساعدي قد اشتد وعضلي قد تكتل وإذا عقلي قد استوى واستقام.

وقويت نفسي حين رأيتني في الصدر قوة وعلماً، فطردت خادمي بعد أن أذقته وبال أمره، وانطلقت إلى أبي أطلب - في شدة وعنف - أن يرتب لي من المال ما يحفظ علي كرامتي وكبريائي فما تمهل، وانطويت عن زوجة أبي وأنا أحدجها بنظرات فيها الاحتقار والبغض، ووجدت اللذة والسعادة في أن أبطش بأترابي وأقاربي فاندفعت أذيقهم الذلة وأسلوبهم الخسف لا تأخذني بهم رأفة ولا أستشعر نحوهم الرحمة.

وتخرجت في الجامعة لأفرغ إلى الانتقام وبي إليه قرم وأخلص إلى الأخذ بالثأر وبي نهم إليه. وسلكت إلى غايتي سبلاً شيطانية وأنا أعجب أن تسيطر علي روح الإجرام وأنا رجل علم وأدب. ولكن، هل كان الشيطان إلا وعاء علم وأدب لبسته روح الإجرام؟

ودفعتني شيطانيتي إلى أفانين من الانتقام أحكم نسجها، فانطلقت. . .

اليوم غلتي وأشفيت داء صدري، بعد أن عذيت من سخروا مني طفلا وقتلت من قسوا علي

صغيراً فهل تراني ندمت على أمر وأنا أشعر بأنني قد أديت رسالة قلبي؟.

ولكن عين العدالة لم تغفل عني فأنت ترى الآن الغل في يدي والقيد في رجلي وسيف الجلاد ينتظرني بعد أيام.

فقل لي - يا صاحبي - من عسى أن يكون الملوم، من عسى أن يكون يا صاحبي؟.

كامل محمود حبيب

ص: 13

‌حول الفكر العربي

الغرض من دراسة الفكر العربي

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

- 1 -

في الوقت الحاضر تبذل الدول العربية قصارى جهدها لتحظى بمكانة دولية مهيبة تساعدها على نيل مآربها السياسية والاستقلالية إلا أن الوصول إلى مثل هذه الغاية يحول دونه عقبات، من بينها عقبة ضعف الشخصية العربية وضآلتها، ثم عقبة جهل العرب بمقوماتهم العقلية الممتازة.

ويرجع ضعف الشخصية العربية إلى تهاون العرب في التمسك بأخلاق القرآن، وتفريطهم في إعطاء التعاليم الإسلامية صبغة عملية يظهر أثرها النافع في الحياة الخاصة والعامة، بينما يعود جهل العرب بمقوماتهم العقلية الراقية إلى أن الشعوب العربية لم تكلف نفسها مشقة الكشف عن كنه ميولها الفكرية، أو تهتم بشحذها حتى تنضج، أو تعتني بكشف الميادين التي تقدر أن تخوضها وتتفوق فيها، حتى تستطيع أن تدخل غمار النضال العالمي مزودة بأسلحة أخلاقية سامية وواقعية في نفس الوقت، وتنم عن شخصية قوية لها صفات مميزة، وممونة بمعدات عقلية تستعين بها في إثبات وجودها ككائن حي فعال في الحياة الدولية يختص بأداء عمل معين لا يضارعه فيه كائن آخر من الكائنات الدولية؛ فيحقق ذلك كله للعرب ما تصبو إليه نفوسهم من رقي، ويحتلون مكانة دولية تجبر المستعمر على احترام حقوقهم المسلوبة. أما من ناحية ضعف الشخصية العربية فإنها لن تتقوى ما لم تمهد السبل لبعث التعاليم الإسلامية في صورة حية واقعية، تطلقها من سجن أروقة المساجد وحجرات الدراسة، وتدفع بها في تيار الحياة اليومية الرحب المتنوع، حتى لا يشعر أي فرد بوجود انفصال بين الدين والحياة، ويحس بأن الدين من الحياة وأنه أنزل من السماء ليلبي أغراض الحياة سواء أكانت روحية أو مادية، ولا يعترض سيل تطورها، أو يعوق تقدمها؛ فإن انقطعت الصلة بين الدين والحياة كما هو الحال في البلاد العربية، عد ذلك تقصيراً من رجال الدين في البحث عن هذه الصلة. ولذلك يجب عليهم أن يوثقوا العري

ص: 14

بين تعاليم الدين الإسلامي وحياتنا الحاضرة، وألا يحيطوا هذه التعاليم بهالة من السمو والرفعة بحيث تعلو عن حياة عامة الناس، فيصعب عليهم التمثل بها ويظنون أنها تنطوي على قيم عليا لا يقدر أن يصل إليها إلا خاصة الخاصة، مع أن الدين أراد أن يسلكها الجميع بدون تفرقة. فإذا اتصلت هذه التعاليم بحياة الناس العادية، وطبقت على شتى ظروفهم الاجتماعية، أدرك كل عربي جدوى التعلق الحق بالدين الإسلامي، وتلمس فائدته الروحية والمادية معاً، فيعتقد أن الدين قوة دينية كما هو طريق إلى الله.

إن غرض الفتوح العربية في صدر الإسلام كان نشر الدين فسلامي خارج حدود بلاد العرب. ولقد استبسل الكثير من العرب، واستشهدوا في سبيل الله، ففازوا بالجنة من ناحية، ونال أهله من ناحية أخرى قسطاً من الغنائم مثل بقية الجنود العائدين من الحروب.

فالقتال في سبيل الله وإن كان باعثه ديناً يخلد المستشهد في الجنة، وهذه غنيمة روحية، يضمن كذلك لعائلته من بعده العيش الرغد وهذه غنيمة مادية، أحس كل عربي بمدى فائدة الاستشهاد من أجل نشر الإسلام من الناحيتين الروحية والمادية، فأقبل على الجندية وخاض الوغى بشجاعة لا تقهر، فاستطاع على قلة عددهوعدده أن يزيل من الوجود الدولة الفارسية، ويزعزع أركان الدولية الرومانية.

وفي هذا الجو السماوي الأرضي عرف العرب قديماً كيف يثبتون دعائم الدين الإسلامي في النفوس. وفي هذا الجو كذلك يقدر العربي في الوقت الحاضر أن يقضي على ما تركته المدنية الغربية في نفسه من القلق الوجداني والاضطراب العقلي، لانقياده المطلق لمغرياتها المادية ومفاتنها الحسية، ولإهماله تهيئة الحياة الروحية التي تلائم مزاجه وتبعثه على طلب الكمال.

ولقد سبقنا الهنود في المضمار الديني الاجتماعي، وأخذ المفكرون الهنود من أمثال راما كريشنا وفيفكاناندا يستوحون تراثهم الديني القديم، ويعرضونه في أسلوب حديث يتفق وغايات الحضارة الحديثة بدون أن يخل بأصول الفكر الهندي الروحي. ثم جاء طاغور ووضع القواعد الثابتة للحياة الهندية الكاملة، وأبرزها في صورة واضحة في كتابه (سادهانا) استقاها من تعاليم الكتب الهندية المقدسة، ودعمها بروح الغرب العملية، فأعطى المبادئ المثالية قيما واقعية تنفع في الحياة. وبعد أن كان الهندي ينزع لاجتناب الحياة

ص: 15

أصبح بفضل هؤلاء المفكرين لا يقدس الزاهد الهاجر للحياة، المعتزل للأهل والوطن، والغارق في نفسه، والهارب من مشاكل الأرض، وإنما يقدس الزعيم القومي الذي تمثل في شخصية غاندي، ذلك البطل الوطني الذي دفع بمقومات الهند الروحية في ساحة النضال السياسي، فنالت بلاده حريتها، فعرف الهنود من مفكرين وسياسيين كيف يتفادون عيوبهم القديمة، ويتغلبون على ميلهم إلى اعتزال الحياة، ويبرزون قدرتهم على احتمال الألم في سبيل الغايات القومية بعد أن كانت قاصرة على الغايات الدينية الصرفة.

وها هو نهرو خليفة غاندي يقتفي أثره، ويسير على هدى الطابع الهندي، فما كاد يطمئن على استقلال بلاده، ويضمن ود الباكستان، حتى بادر يخوض مجال دولي حيوي أراد أن تساهم فيه بلاده في خدمة الإنسانية، وتؤدي ما عليها من واجبات في سبيل رسالتها الروحية التي ترغب في أن تعم بلاد العالم أجمع. فدعا لعقد مؤتمر ينشد عن طريقه ضم شمل الدول التي تعتنق المثل العليا والمبادئ المعنوية، وتؤمن بقوتها في تدعيم السلام، كما يبغي توحيد صفوفها للتعاون على إنقاذ العالم مما هو فيه من تفكك وتنازع، وذلك بالقضاء على النزعات الاستعمارية، وبث روح المحبة والوئام في ربوع العالم.

وهكذا عرف نهرو كيف يختار المجال الوحيد الذي تقدر العبقرية الهندية أن تشترك فيه، وتظهر براعة لا تفوقها براعة، فنجح في استغلال استعدادات قومه الأصلية في إعلاء شأنهم، ورفع مكانتهم بين الدول.

فأمام العرب نموذج من الفكر الديني الخالق الذي استطاع أن يرفعن كاهل بلاده كابوس الاستعمار بفضل تعاليم غاندي في المقاومة السلبية، وأن يقتحم الميدان الدول متخذا من أساليبه الروحية وسيلة لتحقيق سلام العالم، وهي غاية هندوكية قبل أن تكون غاية سياسية إنسانية؛ فهيأ بذلك لمبادئه الدينية قوة إيجابية

أما كيف يعطي الفكر تعاليمه الإسلامية قيمة عملية فعالة ونافعة في حياتنا الخاصة والعامة، فذلك يكون بعد تطبيقها تطبيقاً جدياً واسع النطاق يشمل المجتمع العربي بأكمله. فكل ما تأمر به التعاليم الإسلامية من تشريعات لا ينبغي أن تهمل ويستعاض عنها بغيرها من تشريع الغرب، وبحجة أنها أكثر إنسانية. فنرفض قطع يد السارق وجلد الزاني ورجم الزانية، فإن ذلك يضعف من قوة دينا، ويقلل من قدرته على مواجهة مشاكل الإنسان، وذلك

ص: 16

يورث في نفوسنا نوعاً من المهانة، فتستكين لتشريعات الغير، بينما يجب أن نتمسك بتشريعات الإسلام، لا بدافع من نعرة دينيةرجعية، ولكن بدافع من المحافظة على روح الأمة العربية، وصيانة كيان حياتهم الاجتماعية وكل ما في القرآن الكريم والحديث الشريف من مثل عالية يجب أن تؤسس عليها الأخلاق العربية. وكل ما يتضمنه هذا الكلام المقدس من حكم يجب أن تقوم بها أهواءنا ورغباتنا، حتى تصفو نفوسنا مما علق بها من شوائب المدنية الحاضرة، وتعيش في كنف حياة روحية ترتاح إليها عقولنا العربية، فتقدر أن تستوحيها، وتنهج سبل التطور إلى أن تكيف التعاليم الإسلامية بظروف الحضارة المعاصرة بدون أن تفقد شيئاً من أصالتها.

فإخراج هذه التعاليم من منابر لجوامع إلى ساحة الحياة الاجتماعية يعد أمرا ًضرورياً لنهضتنا الحضارية. إن غاندي عندما علم الهنود المقاومة السلبية قد أضاف إلى مبدأ عدم العنف الهندوكي من القوة ما ألهب مشاعر قومه الدينية، وأرهب الإنجليز وهزا إمبراطوريتهم، فكان عمله هذا أعظم عمل ديني أداه هندي لوطنه. فنحن نريد أن نشعر بقوة مفعول تعاليمنا الدينية في أعمالنا وتصرفاتنا حتى يزداد إيماننا بها قوة، ولا نفكر في أن نتخلى عنها، ونبذل جهد الطاقة لكي نبثها في جميع صور الحياة الدنيوية، فيكون ذلك باعثاً رفيعاً على طلب الرقي، ودافعاً عظيما ًإلى تشييد حضارة عربية تستمد مقوماتها من صلب التعاليم الإسلامية، وتجاري المدنية الغربية في نفس الوقت.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات

ص: 17

‌القبائل والقراءات

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

- 6 -

قيس وأسد وهذيل وكنانة:

أتيت في المقالات السابقة على ما كان لتميم من اختلاف مع القبائل الأخرى مشيراً إلى ما شاركها فيه غيرها من قيس وأسد وبعض قبائل نجد، وذلك مما كان له أثر في القراءات واللغة وقواعدها. والواقع أن لنا سبق هو الكثرة الواضحة أما خلافات القبائل الأخرى فقليلة، وسأعرض لها تكملة للبحث وإتماماً للموضوع.

وقد راعيت أن أقدم فكرة عن موطن كل قبيلة أو بطن حتى يسهل على الباحث تتبع القبيلة والعوامل التي أثرت فيها، وكيف اشتركت مع غيرها في خصائص لغوية كان سببها الجوار وأذكر مع ذلك أن هذه الأبحاث والتوفيق بينها وجمعها في وحدة مرتبطة مما لم يسبق إليه إنسان ولا وجدت أحداً أعطاها حقها من العناية والاستقصاء ويرجع هذا إلى عسر الحصول على مكوناتها وعناصرها فإذا وجدت لهجات لقبيلة مبعثرة في كتب الأدب واللغة والنحو فلا تذكر لك ارتباطها بالقراءات. وإذا أتيحت نسبتها في كتب القراءات والتفسير، فلا تمر إلا عرضاً مبتورة ينقصها الترتيب. وفوق هذا فإن مساكن القبائل ومواطنها وديانتها لا يجمعها كتاب واحد من كتب الأدب والتاريخ. وذكر ديانات العرب وأصنامهم ومن كان يعبدها يسهل معرفة القبائل المتجاورة أما ذكر شخصياتها فمن باب التعريف بمن كان له من هذه القبائل نصيب من الشهرة والذيوع. ولعل في هذا كله بياناً لمن يحسب لأول وهلة أنه زيادة أو خروج عن الموضوع.

قبيلة قيس:

تجمع هذه القبلية عدداً كبيراً من القبائل والبطون ونسبها هو قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وقد أصبح كثير من بطونها في عداد القبائل لكثرة ما شملته من أفراد فمن فروع قيس:

1 -

غطفان: ومنها عبس وذبيان، ومن ذبيان فزارة الذين وقعت بينهم وبين عبس حروب

ص: 18

كثيرة بسبب الفرسين: داحس والغبراء. ومن ذبيان أيضاً بنو مرة، ومنهم الحارث بن ظالم المرى، أحد فتاك العرب المشهورين والذي يضرب به المثل فيقال أمنع من الحارث وقد كان السبب في بعض المعارك العربية التي تسمى أيام العرب.

ومن بني عبس عنترة الفارس الشاعر. ومن ذبيان النابغة الذبياني الشاعر. ومن غطفان أيضاً بنو أشجع. وكانت منازل غطفان بنجد مما يلي وادي القرى وجبلى طيء أجا وسلمي إلا أشجع فقد كانت منازلهم حوالي المدينة. وقد اتخذت غطفان لها بيتاً للعبادة أرادوا أن يجعلوه حرماً مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه، واسم هذا البيت (بس) ووضعوا حجرين متباعدين وقالوا إنهما الصفا والمروة، واجتزءوا بذلك عن الحج إلى بيت الله الحرام، فأغار عليهم زهير بن جناب الكلبي فهدمه وعطل حرمهم وذلك في الجاهلية. وقد تفرقت غطفان في الفتوح الإسلامية.

2 -

بنو سليم بن منصور، وكانت بلادهم في عالية تجد قريباً من خيبر.

وكان بعض بني سليم سدنة (للعزي) وفي عام الفتح بعث الرسول سيدنا خالد بن الوليد فأحرقها وقال:

يا (عز) كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

ومن سليم الخنساء الشاعرة ونصر بن حجاج الذي كان بارع الجمال، فسمع سيدنا عمر بن الخطاب امرأة تنشد:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

فنفاه بعيداً عن المدينة وقال لا يساكنني رجل تتشبب به النساء.

3 -

غني وهم بنو غني بن أعصر بن سعد بن قيس، وباهلة وهم بني معن بن أعصر نسبوا إلى أمهم باهلة. وكانت غني وباهلة يعبدون (العزي) ومساكن غني وباهلة متجاورة في نجد شرقي الطائف، وبعض بني باهلة كانوا يسكنون إلى الجنوب الشرقي في الطريق بين مكة واليمن في موضع يسمى تبالة حيث كانوا سدنة لضم اسمه (ذي الخلصة) وكانت تعظمه أيضاً وتهدي له خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن ويحكى أن رجلا من العرب - وينسب ذلك إلى امرئ القيس - قد قتل أبوه فأراد الطلب بثأره فأتى ذا الخلصة فأستقسم عنده بالأزلام فخرج السهم ينهاه عن ذلك فقال:

ص: 19

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا

مثلي، وكان شيخك المقبورا

لم تنه عن قتل العداة زورا

ومن باهلة الأصمعي الرواية المشهور.

4 -

بنو عدوان وفهم أبناء عمرو بنم قيس وكانت منازل عدوان الطائف ثم غلبتهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة، ومن عدوان عامر بن الظرب العدواني حكيم العرب، ومن حكمه:

من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به. للكثرة الرعب، وللصبر الغلبة. رب أكلة تمنع أكلات.

ومنهم ذو الإصبع العدواني، ومن شعره العذب:

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب

عني، ولا أنت دياني فتخزوني

إني لعمرك ما بابي بذي غلق

عن الضيوف ولا خيري بمنون

ولا لساني على الأدنى بمنطلق

بالفاحشات، ولا أغضي على الهون

ماذا علي وإن كنتم ذوي رحمي

أن لا أحبكمو إن لم تحبوني

كل امرئ صائر يوماً لشيمته

وإن تخلق أخلاقاً إلى حين

وكانت منازل فهم بنجد ومن فهم الشاعر المشهور الأعشى وتأبط شراً أحد الفتاك والعدائين المشهورين.

5 -

هوازن: وكانت ديارهم بنجد والعالية شرقي المدينة ومكة إلى الطائف. ولهوازن فروع كثيرة منها ثقيف الذين كانوا بالطائف وما حولها، ومن ثقيف الحارث بن كلدة طبيب العرب، وأمية بن أبي الصلت الشاعر، والحجاج بن يوسف الثقفي.

وكانت ثقيف تخص (اللات) بالزيارة والهدية وسدنتها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناء، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله (ص) المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها، وفي ذلك يقول شداد بن عارض الجشمي حين هدمت وحرقت وينهي ثقيفاً عن العود إليها والغضب لها:

لا تنصروا اللات إن الله مهلكها

وكيف نصركمو من ليس ينتصر

إن التي حرقت بالنار فاشتعلت

ولم تقاتل لدى أحجارها، هدر

ص: 20

إن الرسول متى ينزل بساحتكم

يظعن، وليس بها من أهلها بشر

وكان لهوازن أيضاً صنم أسمه (جهار).

ومن هوازن سعد بن بكر الذين استرضع فيهم ر رسول الله (ص)، وكانوا بنجد شرقي مكة، وهم الذين عناهم رسول الله (ص) حينما أمال في قراءته (يحيى) وسئل في ذلك: هذه للغة الأخوال بني سعد.

ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة الذين منهم بنو نمير وبنو كلاب وبنو كعب، وأولئك هم الذين عناهم جرير بقوله يهجو الراعي النميري الشاعر:

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعباً بلغت ولا كلاباً

ومن كعب بنو عقيل رهط توبة بن الحمير وليلى الأخيلة الشاعرين العاشقين.

ومن بني عامر أيضاً بنو هلال منهم أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوج النبي (ص)، ومنهم بنو جشم الذين منهم دريد بن الصمة صاحبالبيت المشهور المتمثل به:

نصحت لهم نصحي بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

وكانت مساكن نمير بنجد ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق شمالا. وكانت كلاب وكعب بلادهم بنجد مما يلي تهامة، وكانت كلاب أقرب إلى المدينة في حمى ضرية والربذة وفدك، ثم انتقل بنو كلاب في الإسلام شمالي الشام حول حلب. وكان بنو هلال في الجاهلية بنجد، ثم ساروا في الإسلام إلى مصر ثم إلى المغرب وكانت منازل جشم في السروات قريباً من قبيلة هذيل.

قبيلة هذيل:

هم أبناء هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. كانت ديارهم بالسروات وسراتهم متصلة بجبل غزوان بالطائف، وكانوا يعبدون من الأصنام (سواعاً) وسدنته منهم، وفي ذلك يقول رجل من العرب في القرشيين:

تراهم حول قبلتهم عكوفاً

كما عكفت هذيل على سواع

وقد افترقت هذيل في الفتوح الإسلامية على المماليك. ومن هذيل أبو أبو ذؤيب الشاعر صاحب المرئية المشهورة التي مطلعها:

أمن المنون وريبه تتوجع

والدهر ليس يمعتب من يفزع

ص: 21

ومنهم سيدنا عبد الله بن مسعود الصحابي المشهور، ومن نسله المسعودي على بن الحسين المؤرخ.

قبيلة أسد:

هم أبناء أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت بأرض نحد مجاورين لقبيلة طيء من جهة وقبائل قيس وتميم من جهات أخرى وهم الذين قتلوا والد امرىء القيس وقصة ذلك وما جرى بسببها مشهورة. وقد تفرقت أسد في الفتوح الإسلامية. وكانلجديلة من طيء صنم - ولعله (الغلس) لأنه كان لطيء ومن يليها - أخذته منهم بنو أسد فتبدلوا بعده صنماً يسمى (اليعبوب) وفي ذلك يقول أحد الشعراء وهو عبيد ابن الأبرص:

فتبدلوا اليعبوب بعد آلهم

صنماً فقروا يا جديل وأعذبوا

ومن بني أسد أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش التي تزوجها رسول اللهبعد طلاقها من زيد ابن حارثة ومنها عبيد بن الأرض والكميت بن زيد الشاعران وطليحة بن خويلد الذي كان كاهناً ثم أدعى النبوة بعد وفاة الرسول ثم عاد إلى الإسلام ومنهم زر بن حبيش الذي أخذ عنه كثير من القراء.

كنانة:

هم أبناء عبد مناة ومالك وملكان أبناء كنانة بن خزيمةبن مدركة بن إلياس بن مضر، وهم الذين يطلق عليهم كنانة حيث احتفظوا باسم أبيهم. أما أبناء النضر بن كنانة فهم الذين يطلق عليهم لقب قريش سواء كانوا قريش الظاهر أم قريش أم قريش البطاح، وهم سكان مكة وما حولها، فإذا نسبت لهجة أو لغة لكنانة لم تشترك فيها قريش.

ومساكن كنانة متفرقة، ولكنها لا تبعد عن مكة كثيراً جداً ومن كنانة شرقاً إلى الجنوب قريبين من القبائل اليمنية وهم بكر بن عبد مناة، ومنهم من كانوا غربي مكة إلى الشمال قريباً من البحر الأحمر، وكانت غفار من بكر بن عبد مناة تكاد تقرب من المدينة من غريمها.

وقد عبد جماعة من كنانة القمر، وتهود منهم جماعة ولعلهم الذين قاربوا أهل اليمن، وكان لبني مالك وملكان صنم اسمه (سعد) بساحل جدة، ومما يحكى أن رجلاً من ملكان أقبل بإبل

ص: 22

له ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما دنا منه ورأته وكان يهراق عليه الدماء تقرباً إليه، نفرت منه الإبل فذهبت في كل وجه فغضب صاحبها فتناول حجراً فرماه وقال: لا بارك اللًه فيك إلهاً أنفرت علي إبلي ثم خرج في طلبها حتى جمعها ثم انصرف يقول:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا

فشتتنا سعد فلا نحن من سعد

وهل سعد إلا صخرة بتنوفة

من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد

هذا ومن غفار من بني بكر بن عبد مناة أبو ذر الغفاري الصحابي المشهور، ومنها كذلك عزة محبوبة كثير، ومن الدئل من بني بكر بن عبد مناة أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع النحو، وكذلك منها سارية بن زنيم صاحب القصة المشهورة في سيرة سيدنا عمر حيث قال له وهو بعيد عنه يا سارية ابن زنيم الجبل. . ومن بني مالك بن كنانة نسأة الشهور في الجاهلية وكذلك منهم ربيعة بن مكدوم أحد الفرسان في الجاهلية النابهين. . .

(للبحث بقية)

عبد الستار أحمد فراج

محرر بالمجمع اللغوي

ص: 23

‌طرائف من العصر المملوكي:

الروح القومية

للأستاذ محمود رزق سليم

الروح القومية عاطفة عامة، وإحساس مشترك بين بني الوطن الواحد، تشعرهم بأنهم مجموعة من الناس، من الخير لهم أن يأتلفوا ويتحدوا، ليكون لهم من وراء ذلك قوة يستطيعون بها أن يتغلبوا على صعاب الحياة وعقباتها، في الداخل والخارج، وتحدد لهم أهدافاً خاصة يرون فيها حفظاً لكرامتهم، وإحقاقاً لحقهم، وتغذية لنزعاتهم، وإقراراً لآمالهم.

ويتركز حب هذه الأهداف في نفوسهم تركز العقيدة، إيماناً بها وإيثاراً لها. لذلك يسعون جاهدين في سبيل بلوغها، مضحين بكل مرتخص وغال، من رأي ونفس ومال.

والروح القومية في الأمة مثلها مثل الكائن الحي، يولد ويتغذى وينمو ويقوي ويعمل ويوجه. ولها عوامل لميلادها وغذائها ونموها وقوتها، كما أن لها عوامل مضادة مناقضة، إذا هي صادفتها أضعفتها، وكبتها وأماتها.

وعوامل نموها وقوتها كثيرة متعددة لا مجال لحصرها والحديث عنها الآن، ولا لتوضيح أثرها؛ ولكننا نذكر أن من بينها اتحاد أبناء الوطن قي الوطن واتفاقهم في الجنس واللغة والدين وتجانسهم في الثقافة وتعرضهم لعوامل اقتصادية مشتركة أو لأخطار خارجية أو داخلية متشابهة، وكذلك قيام أفذاذ الرجال من بينهم وقادة الفكر الذين ينزعون نزعة وطنية خالصة من الشوائب، فيوقظون وينبهون ويحمسون ويوجهون، ويضرمون نار البعث والنشور، حتى تفيق الأمة من سباتها، وتتنبه من غفلتها، وتعرف لنفسها كرامتها وحقها، وتسعى لإدراك آمالها.

ومن عوامل لإضعافها تتابع الغارات الخارجية وطول العهد بالاستعمار، وضعف الثقافة واضطرابها، وانتشار الأوباد واستبداد الولاة ونحو ذلك.

وبمقدار ما يتاح للأمة من عوامل القوة، تذكو فيها الروح القومية، وتنشط النزعات الوطنية، ويقوى الرأي العام، ويفرض مناهج الأمة في السياسة والإدارة والاقتصاد والتعليم والأوضاع الاجتماعية، وغير ذلك.

وبعد فهل كانت بهذه البلاد المصرية العزيزة إبان العصر المملوكي روح قومية ونزعات

ص: 24

وطنية ترمي إلى المحافظة على الكرامة العامة، ورعايةالحقوق؟ وإذا كانت هناك روح، فما مظاهرها وما عوامل حياتها؟ وإن لم تكن هناك روح، فما الأدلة على ذلك، وما الأسباب التي وجهتها الأقدار سهاماً إلى هذه الروح، فقضت عليها؟

الحديث في ذلك يطول، لا يستوعبه مقال واحد؛ إذ البحث فيه يتطلب النظر الطويل في التاريخ وفي النظم الإدارية والأحداث الاجتماعية، وفي أنواع الثقافة وأصباغها، وتتبع نزعات العامة، وتلمس مصادفاتها التي تخرج فيها عن وقارها، وعن حياتها الآلية العادية، في تلك العصور الوسطى التي امتحنت فيها الأمة بطغيان سلاطينها واستبداد أمرائها وعبث جندها وتراخي كثير من علمائها عن إصلاح إدارتها.

لقد انضوت مصر تحت اللواء العربي، واندمجت في نطاق الأمم العربية، بعد الفتح العربي. ولا غضاضة على روحها القومية من هذا الانضواء والاندماج، ما دامت قد رأت في الإسلام عدالة فياضة، ومساواة كاملة، وأخوة نقية، وأنست في الحاكم الإسلامي رعاية عامة ونزاهة تامة، وتسامحاً كريماً، وحباً للخير.

ولكن جرت الأحداث في الدول الإسلامية، بعد، على غير ما يشتهي الإسلام، فانساقت مصر إلى الانفصال والاستقلال وأخذت سمتها نحوهما، واستردت روحها القومية حريتها في الظهور والعمل.

وبدأ ذلك بدءاً جميلا منذ العصر الطولوني، وما زال حتى كان تمهيداً حسناً للعصرين الفاطمي والأيوبي اللذين استقلت فيهما مصر استقلالا كاملا أكثر من ثلاثة قرون، وغزت جنودها باسمها في البلاد المجاورة وفرضت سيطرتها، وحملت أعباءها كاملة إبان الحروب الصليبية.

فلما آلت سلطنة مصر إلى حكم المماليك وجدوا فيها أمةمستقلة غازية حاكمةاتسعت رقعة مملكتها خارج حدودها، وعنيت بنشر ثقافتها عناية محمودة، فوجدوا من هذا، الأساس الوطيد لبناء مجيد.

وكنا نرجو لو أن المماليك نهجوا في سياستهم الداخلية منهجاً يرمي إلى إعزاز الشعب وإنهاضه، والسمو بمستواه الروحي، واتبعوا إزاءه هذا النهج الحميد الذي اتبعه وإلى مصر ومحييها الكبير محمد علي، بعدهم بنحو ستة قرون. . إذاً لاستطاع الشعب المصري أن

ص: 25

يغير وجه التاريخ، وأن يفرض سيادته - على الأقل - على هذه الرقعة الواسعة من غرب آسيا أكثر مما فرض. ولتحققت لمصر على يدهم، أحلام محمد على، الذي صادفته عقبات لم يكن لها وجود في العصر المملوكي، كأتمار الدول الأوربية به، ووقوفها سداً منيعاً وعصبة واحدة في سبيل توسعه. ولكن المماليك تجاهلوا الشعب وأنكروا مواهبه وتناسوا حقوقه، وفرضوه بقرة حلوبا تدر لهم وهم ملاكها.

حقا! قد كونوا لأنفسهم جيشاً عظيما كثيفا مزوداً، حفظوا به كيان دولتهم وفرضوا مهابتها ووسعوا رقعتها، وحكموا به فيما حكموا البلاد الشامية والحلبية والحجازية، حتى أصبحت سلطنتهم أقوى سلطنات المسلمين شرقاً وغرباً. وفي هذا ما فيه من إعزاز لمصر، وتقوية لمعنوياتها، وتنشيط لروحها.

غير أنهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً، وراشوا للروح القومية سهاماً قاتلة جديرة بالقضاء عليها، قمينة بأن تورث في النفوس ضعف الثقة بكفايتها، والارتياب بمواهبها، والشك في نباغتها.

لقد كان منهم الجافي الطبع الكثير الصلف، المتتابع الجور السريع إلى تقرير الضرائب الفادحة، العاجل إلى المصادرات الظالمة، المبالغ في فرض الغرامات المالية والعقوبات.

حقاً كان السلاطين والأمراء في طليعة ملوك الإسلام وأمرائه احتضاناً لشرعه، وتشجيعاً للعاملين على نشر سننه، واحتفاظاً ببلاده. ولقد احتضنوا الخلافة بعد زوالها من بغداد، فجددوا لها شباباً، وألقوا عليها ثياباً، وأنشئوها نشئاً آخر منذ عصر الظاهر بيبرس. وهي على علاتها قد جعلت القاهرة - فيما جعلها - رمزاً ومحوراً تطيف به قلوب المسلمين.

ولكننا لا ننسى أنهم كانوا يباينون أهل البلاد وعامة شعبها في اللغة والجنس، ولم يحاولوا السير خطوة واحدة في سبيل محو هذه الفوارق الأصلية الجوهرية، التي من شأن بقائها وطول قيامها أن تصيب الروح القومية في الصميم، وتعمل على هدم الكيان الوطني، والفرقة بين عناصر الأمة.

بل لا نغلو إذا قلنا إنهم بكثير من تصرفاتهم، وبألوان من فهمهم السقيم قد زادوا هذه الفرقة وعملوا على هذا الهدم.

ونقصر حديثنا هنا على ثلاثة عناصر ذات مساس مباشر بالنواحي المعنوية في النفوس،

ص: 26

مبعث الروح القومية الصحيحة، وهي ملكية الأراضي الزراعية، والجندية، والتعليم.

أما ملكية الأراضي الزراعية فقد حرموها على أهل البلاد، وقصروها على الطبقة الحاكمة، وهي المكونة من السلطان وأمرائه وجنودهم، ولعل لهم عذراً إذ وجدوا مثل هذا النظام الإقطاعي كان قائماً من قبلهم في عهد بني أيوب وغيرهم، وقد قسموها على أنفسهم، واتبعوا في تقسيمها أحد نظامين يسمى كل منهما (الروك) وهما الروك الحسامي نسبة إلى ملك مصر حسام الدين لاجين، والروك الناصري نسبة إلى ملك مصر الناصر محمد بن قلاوون.

والنظام الناصري هو الذي اتبع في أكثر أعوام العصر. ويتلخص في أن الأرض الزراعية تقسم إلى أربعة وعشرين قيراطاً. . للسلطان منها عشرة، وللأمراء والجنود أربعة عشر. ويختلف عنه النظام الحسامي في نسبة الأنصبة.

ثم قسمت الأراضي إلى قطع ذات مساحات مختلفة، كل منها يسمى إقطاعاً. يهب السلطان منها ما يشاء للأمراء والجنود في حدود النسبة المبينة المتفق عليها. والإقطاعات لا تورث بل ترد إلى السلطان بموت أصحابها. وكذلكيستردها السلطان إذا شاء لسبب من الأسباب، أو يستبدل بها غيرها.

وصاحب الإقطاع يستغل أرضه وينتفع بثمراته كما يشتهي وفق هواه، مستعيناً بمن يسكن في الإقطاع من الزراع.

ونحن لا نريد هنا أن نفيض في وصف تلك النظم الشائنة. وإنما همنا أن نشعر القارئ الكريم بما كان يعانيه المواطن المصري، وبخاصة الزراع؛ فقد حرم عليه أن يملك أرضاً ولد فيها جده وأبوه، وبنياته وبنوه، ووهب لها كل ما في قلبه من حب، وما في جسده من قوة. ثم هو لا ينتفع بشيء من غلاتها يتناسب وما يبذل في سبيله من جهد وكد وكفاح وعرق. فأية غضاضة ترين على نفسه وأية مرارة تفيض على فؤاده، وأي ضعف ينتاب روحه، وأي وهن يصيب معنوياته حينما يشعر بما يعانيه من حرمان وقسوة وشظف عيش. . .؟

لقد عرف الزارع حينذاك بأنه (فلاح). فقد قال المقريزي ما نصه: (ويسمى المزارع المقيم بالبلد (فلاحاً) قرارأً، فيصير عبداً قناً لمن أقطع تلك الناحية، إلا أنه لا يرجو قط أن يباع

ص: 27

ولا أن يعتق، بل هو قن ما بقي، ومن ولد له كذلك).

وقد لبث الفلاح المصري محروما ملكية أرض بلاده الزراعية والانتفاع الحر بثمراته، حتى صدرت لائحة الأراضي في عهد سعيد باشا، فأباحت له الامتلاك والانتفاع، لأول مرة.

أما الجندية والتعليم فقد سبق لنا أن أشرنا إليهما في بعض هذه المقالات. ولقد كان بالبلاد نوعان من التعليم: عسكري وشعبي. أما التعليم العسكري فقد كان مقصوراً على طائفة المماليك دون سواها لكي تتكون منها جنود الدولة والطبقة الحاكمة من أمراء وسلطان. وكان المدد التقليدي لها، المماليك الجدد الطارئين على البلاد أرقاء من الأسواق الخارجية. ولا يسمح لأي فرد من أفراد الشعب بالانتظام في سلك الجندية، ولا أن يتعلم في طبقاتها. كأن المهارة العسكرية وقف على طائفة المماليك دون سواهم، وموهبة خاصة خلقتها العناية فيهم. وفي هذا ما فيه من إضعاف للروح القومية، وقتل للثقة بالنفس، فكنت ترى الشعب وكأنما استقر في أفئدة أبنائه أنهم لا يصلحون لحرب أو ضرب، وأنهم غير أكفاء للدفاع عن أنفسهم ووطنهم.

غير أن من الإنصاف أن نذكر أن الوطني المصري الصميم لم ينعم بالانتظام في مسلكالجندية ببلاده منذ زمن بعيد جداً، قد يصل إلى ما قبل العهد الروماني، ولم يرد إليه هذا الحق الطبيعي إلا منذ النهضة الحديثة في عهد محمد علي.

أما التعليم الشعبي فكان في جماع أمره دينياً ومكانه المساجد وما شابهها من دور التعليم. وقد أغدق عليه السلاطين إغداقاً محموداً وعنوا به عناية مذكورةمشكورة، وكذلك فعل الأمراء والرؤساء.

وقد وجد الشعب في هذا الضرب من الثقافة شيئاً يعوضه ما حرمه من التعليم العسكري، فكان فيه متنفس لمواهب أبنائه. ومن حسن الحظ أن طائفة المماليك لم تشارك الشعب في الأخذ من هذه الثقافة بنصيب إلا لماماً لماماً - وقد يكون هذا من سوء الحظ كذلك - فاتسع نطاق العمل أمام أبنائه الذين يتخرجون في هذا التعليم الشعبي الديني، وسموهم المتعممين، ووكلت إليهم مناصب القضاء الشرعي، والكتابة، وما إليهما من الأعمال.

وأهم ما يشوب هذا الضرب التعليمي أنه كان يقدم إلى الشعب صدقة عليه وإحساناً، لا

ص: 28

على أنه حقه يؤدي إليه.

ومهما يكمن شيء فاختلاف الثقافة هذا الاختلاف الصارخ بين العنصرين، وحرمان الشعب من التعليم العسكري - فضلاً عن الاختلاف في اللغة والجنس - كان له أثره في شجب هذه الأمة والتفريق بين طوائفها، وخلق جو من الشقاق والحقد والشك بينها.

وهذه العوامل كلها من دأبها أن تشيع الغربة بين طبقات الشعب، وأن تسلط بعضها على بعض، فيستأثر البعض بالنعيم والسلطان، ويبوء الآخر بالفقر والحرمان. ولا يتحقق بينهم معنى التعاون الصحيح الناشئ عن الشعور العميق بالواجب ومقتضياته. ولهذا يروي ابن إياس أن الشعب امتنع عن دفع الضرائب للأشرف طومان باي سلطان مصر حين الفتح العثماني مع حاجة هذا السلطان الشديدة إلى الضرائبالمذكورة. وكانت حجة الممتنعين أنهم لا يدرون حينذاك لمن البلاد! أللمماليك هي أم للعثمانيين الغازين؟ فهم ينتظرون ريثما ينجلي القتال ويعرف ولي أمر البلاد الشرعي، فتؤدي إليه الضرائب. . .

على أن جميع العوامل التي انتابت الأمة المصرية في ذلك العصر، لو انتابت أمة غيرها لقضت عليها القضاء الأخير، وشتت شمل بنيها، وفرقتهم أيدي سبأ، ولعانى الزمان معجزة إذا هم بجمع شملها ولم شعثها مرة أخرى.

ففي بقاء هذه الأمة، وفي حرصها على الذود عن كرامتها، والدفاع عن حقها، والسعي لإدراك أملها، ما يدل دلالة واضحة على مذ خورها العظيم من القوى الروحية والمقومات المعنوية.

وقد بدت منها هذه الروح في عصر المماليك في مناسبات كثيرة ومظاهر جمة. وأبرز تلك المظاهر هذه المكانة التي تبوأها علماء الدين وفقهاء الشريعة. فقد كانوا من صميم الشعب وناشئته وآلت إليهم - كما نوهنا - مناصب والكتابة والتدريس والفتوى ورعاية الوقف وأموال اليتامى وما إلى ذلك، فأصابوا حظاً وفيراً من الفقه والعلم والدين والمال جميعاً، أنبت في نفوسهم عزة ومنعة، وفي أفئدتهم أنفة وإباء، فكان كثير منهم يتأبى إلا على الحق، ويترفع إلا عن العدالة. وكانوا بطبيعة نشأتهم، وبطبيعة عملهم الرسمي وغير الرسمي، ألصق بالشعب وأدنى صلة به وأكرم هيمنة عليه، وأقدر على التأثير فيه. ولهذا خشيهم السلاطين وتملقوهم لكي يدرءوا عن أنفسهم مغبة سخطهم، ورحبوا بالوافدين منهم الأمصار

ص: 29

الإسلامية، الفارين من وجه، الطغاة والغزاة ببلادهم. وأخذوا يستشيرون النابهين منهم في كثير من أمور الدولة، وبخاصة إبان الأزمات.

ومنهم عز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، كان ذا مهابة وجلال، توقف عن مبايعة الظاهر بيبرس بالسلطنة، فعطلت المبايعة حتى ثبتت له عتقه. ومنهم أمين الدين يحيي الأقصرائي الذي كف يد قايتباي - على قوته وجبروته - عن المساس بمال الوقف، وقد أراد الاستيلاء على شيء منه للأنفاق على حروبه، ولهذه الحادثة أشباه.

على أن العلماء أنفسهم كانوا لا ينون يبذلون البذل الشديد والجهد الجهيد في نشر الدين القويم بين الناس، وبث الشريعة السمحة، والدعوة إلى العمل بها واتباعها، وتميز الحلال من الحرام، فقعدوا للتدريس العام في المساجد، وتصدوا للفتوى العامة، يقصدهم من أجلها القصاد، ويراسلهم بها المرسلون من فجاج العالم الإسلامي، فنهضوا بهذا العبء أفضل نهوض، وجرى الجدل بين بعضهم والبعض بسبب هذه الفتاوى والمساءلات. والعامة تترقب نتيجة الجدل وعاقبة النقاش، وتتعصب للبعض على البعض، وتتحيز لفريق دون فريق، فكان من وراء ذلك حركة ذهنية فكرية لا بأس بها ذات مساس بالعقيدة، ووجد الناس فيها عوضاً عن هذا الكبت السياسي، وبديلا من هذا الحرمان العسكري، ومتنفساً عن هذا الاختناق.

ومن المظاهر الحية لتلك الحياة الفكرية المحاكمات التي جرت على بعض العلماء المجهدين - كابن تيمية الحراني وتلميذه ابن القيم - بسبب بعض آرائهما وأدى ذلك إلى سجنهما واشترك في الجدال عدد جم من أفاضل علماء العصر، وألفت في موضوعاته شتى الرسائل والمؤلفات.

وفي عهد الأشرف قايتباي قامت فتنة كبرى بين العلماء وتابعهم فيها العامة، واشترك في لجتها العلماء. وكانت بسبب الشاعر الصوفي عمر بن الفار - أحد شعراء العصر الأيوبي - وما ساقه من ألفاظ وعبارات في تائيته المشهورة، مما رمزبه إلى الذات الإلهية. فكفره بعضهم ونسبة إلى الحلول، وأعتذر له البعض بضيق اللغة عن أداء معانيه النفسية، وكانت ضجة كبرى ضلت زمناً، وألفت فيها الرسائل والمقالات والبحوث والأشعار، وأوذي بسببها بعض العلماء، حتى حسمها السلطان بفتوى كتبها شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وكانت

ص: 30

في صالح ابن الفارض.

وإذا علمنا أن الدول الإسلامية في تلك العصور كانت تقوم على أساس من الدين متين - والدين أهم دعائمها - تبين لنا خطر مثل هذه الفتن والمشكلات، وفهمنا أنه تمت بصلة ما إلى سياسة الدولة وعقلية الجماهير ومشاعرهم.

من هذه الحوادث وأشباهها نستدل على أن روحالمعارضة والإقدام على النقد كانا على ضرب من الحياة محمود، والنقد والمعارضة الصالحة بعض مظاهر الروح القومية ومقومات الرأي العام

وقد سبق لنا في إحدى هذه المقالات أن تحدثنا عن النقد الاجتماعي وبينا كيف تناول كثير من الأدباء والشعراء الحياة الاجتماعية بالنقد المرير السافر، فنقدوا الأسرة ونظامها وعلاقات أفرادها بعضهم بالبعض، والنظام الإداري وما فيه من فوضى واضطراب وقلق وسرقات وادعاءات ورشوة ومحاباة وظلم وما بين طوائف الأمة المختلفة جنساً ولغة وديناً من أحقاد وأحن. وقد مزح بعض الشعراء نقده اللاذع بالتورية والفكاهة والدعابة فخرج مخرجاً كيساً مقبولا.

والحق أن الشعب المصري كان - على علاته - ذا إحساس سياسي ناقد عجيب، شارك به في حادثات بلاده على اختلاف ألوانها. يبدو لنا ذلك مما يقحمه بعض المؤرخين - كابن إياس - من العبارات في ثنايا روايتهم التاريخية كقولهم في سياق حادثة ما:

و (كثر القيل والقال) و (أرجف الناس) و (فأشيع بين الناس) و (فضج الناس له بالدعاء) إلى نحو ذلك من العبارات. وأذكر أن ابن إياس قال في إحدى عباراته ما مؤداه: (إن أهل القاهرة ما تطاق ألسنتهم، ويل لامريء تقع عيونهم منه على مذمة) هذه العبارات وأشباهها تشعرنا بوجود ذلك الإحساس الذي أشرنا إليه، وإن كانت ساذجة غامضة. غير أن هذا الإحساس لم تتح له حرية كافية للظهور والعمل خوفاً من المستبدين الطغاة، ولم ينضج نضوجاً كافياً يسمو به إلى تكوين رأي عام له أثر في سياسة الدولة وإرادتها.

على أن التاريخ يحدثنا أن الشعب كثيراً ما نهض إلى معونة حكامه في حروبهم الخارجية، وقدم إليهم ما طلبوا من الدواب والغلال والمال، ولم يتأب كثيراً على الضرائب التي يفرضونها عليه، ولكنه كان يتأبى عليها ويقاومها إذا كانت فادحة ظالمة. ومثال ذلك ما

ص: 31

حدث في عهد الأشرف الغوري، فقد فرض ضريبة جائرة ضج لها الناس وثاروا في وجه نائب سلطنته وغيره من الأمراء، وعرضوا لهم في الطريق ورجموهم بالحجارة، فأعمل المماليك فيهم السيف وقتلوا منهم وأثخنوا فيهم.

والذي نحب أن نخلص إليه - ما سبق أن نوهنا به - وهو أن هذا الشعب المصري الكريم - على علاته - تكمن فيه روح قومية فطرية قويمة سليمة تحتاج إلى ما يظهرها ويحسن توجيهها ويسير بها في الطريق السوي بما يعود بالنفع والعزة لهذا الوطن الكريم.

محمود رزق سليم

مدرس الآداب بكلية اللغة العربية

ص: 32

‌القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب

‌الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 4 -

وتنوعت سفن الأسطول، فكان منها الشواني وهي أكبر السفن الحربية في مصر وأكثرها استعمالا، وكانت أهم القطع التي يتألف منها الأسطول، وهي سفن حربية كبيرة تتخذ الأبراج العظيمة والقلاع، وتزود بالعدد الحربية، وتجهز بالأسلحة والنفطية لتستعمل في الهجوم على الأعداء والدفاع عن نفسها إذا هاجمها العدو، وبها اللجام وهو حديدة طويلة محدودة الرأس تقذف به سفن العدو لتفرقتها. وبها أيضاً كلاليب وهي خطاطيف كبار من الحديد تطرح عليها فتوقفها. ومنها الجلاسات مفردها جلاسة وهي نوع من السفن الحربية الكبيرة تسير بالشراع والمجاذيف وهي أثقل وأقوى من الشيني. والمسطحات وهي من أكبر سفن الأسطول. وكذلك السلنديات وهي مراكب حربية كبيرة مسطحة لحمل المقاتلة والسلاح وتعادل في أهميتها الشونة والحراقة. والبطسات وهي من أشهر أنواع السفن في أيام الحروب الصليبية، قد يكون لها أربعون قلعاً كانوا يشحذونها وقت الحرب بالآلات والأقوات والميرة والرجال والمقائلة والأسلحة وآلات الحصار وكانت تحمل آلاف الجند، ولها أسطح عالية، وطبقات كل طبقة خاصة بفئة من الجيش. والغربان ولا يبعد أن يكون أسمها مأخوذاً من أسم الغراب لأن مقدمتها على شكل رأسه، وهي تحمل الغزاة وسيرها بالقلع والمجاذيف منها ما له مائة وثمانون مجذافاً. والعشاريات وتجر بعشرين مجذافا، ولعلها كانت خاصة بالرؤساء، كما يفهم من وصف عبد اللطيف البغدادي لها. والقوارب نافعة لغزاة المسلمين وقت الحرب في البحر، يكون في كل قارب أربعة أو خمسة من الرماة يعينون غربان المسلمين على قتال غربان الإفرنج وقراقيرها. والبركوشات وهي مراكبصغار.

ومنها الحراقات وهي نوع من السفن الحربية كانت تستخدم لحمل الأسلحة االنارية، وكان بها مرام ومنجنيقات تلقى منها النيران على العدو، وكان في مصر نوع آخر من الحراقات

ص: 33

في النيل استخدم لحمل الأمراء ورجال الدولة في الاستعراضات البحرية والحفلات الرسمية.

والحمالات وهي مراكب تحمل الأزواد للرجال، وآلات الحرب والحصار من الأخشاب الكبار والدبابات وأبراج الزحف وغير ذلك، ويكون فيها غلمان الخيالة وصناع المراكب؛ والقواقير، ولا تقف إلا في المكان الغزير الماء لأنها سفن عظيمة تحمل الزاد والكراع والمتاع للأسطول؛ والطرائد وهي سفن صغيرة سريعة الجري كانت تستعمل غالباً لحمل الخيل وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرساً.

والشيطي ووظيفته الكشف والاستطلاع.

وعني الخلفاء والسلاطين بتوفير الخشب للأسطول فكانوا يعينون له الحراج ومنها ما هو بالوجه القبلي في البهنسا وسقط والأشمونين وأسيوط وإخميم وقوض وغيرها، والحراج أشجار من سنط لا تحصى كثرة في أرجاء المملكة، ويأمرون بحفظها، وألا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وأحياناً تصنع من خشب الجميز، وهو الخشب الذي جهز به الظاهر بيبرس شوانيه بدل ما تحطم له عند قبرص، وحيناً يستخدم له شجر الأثل والنبق والسرو، وكثيراً ما كانت الأخشاب تجلبمن بلدان أوربا الجنوبية على أيدي البنادقة.

وكان لصناعة الأسطول ثلاثة أماكن بمصر هي جزيرة الروضة ودمياط والإسكندرية، وموانيه التي كان يرابط بها هي دمياط والإسكندرية وعيذاب على شاطيء البحر الأحمر وعسقلان وعكا وصور وغيرها من سواحل الشام قبل أن يغلب الفرنج عليها.

والظاهر أن جند الأسطول في العصر الفاطمي كان مكوناً من المغاربة لمعرفتهم بمعاناة البحر، وفي عهد صلاح الدين استخدم جنوداً مغربية كذلك وجنداً من المصريين الأقوياء الأشداء، وظل المصريون هم المورد الأساسي للأسطول حتى بعد انتقال السلطان إلى المماليك فإنا نجد بيبرس يجهز أسطولا لغزو قبرص، فيه الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور رئيس مصر، وشهاب الدين محمد بن عبد السلام رئيس الإسكندرية، وشرف الدين علوي بن أبي المجد بن علوي العسقلاني رئيس دمياط، وجمال الدين مكي بن حسون مقدماً على الجميع، فلما جاء خليل بن قلاوون رتب بالأسطول عدة من المماليك السلطانية وألبسهم السلاح وإن كان الجند المصري له الغلبة أيضاً وكذلك جند المماليك في الأسطول

ص: 34

في عهد الناصر بن محمد بن قلاوون.

وكانت التعبئة الحربية تشبه أختها أحياناً، فقد يصنع أمير البحر من سفنه وجناحين ومقدمة وساقة وقد يصنع مراكبه على شكل نصف دائرة حتى إذا حاول العدو الاقتراب منها أحاطت به، وقد يقابل أمير البحر عدوه بمراكبه صفوفا ًمستقيمة فتنطح مراكبه مراكب العدو باللجام قريباً من مؤخرها لتغرقها، أو يشغل أمير البحر مراكب خصمه ببعض المراكب ثم ينقص عليه مرة واحدة من ورائه وهكذا.

(يتبع)

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 35

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

كاتب لا يعرف قدر نفسه:

سلامة موسى هو الكاتب الذي أعنيه. . . ولو كان يعرف قدر نفسه لما تهجم على أستاذين يعرف قدرهما المثقفون لا أنصاف المثقفين من قرائه والمعجبين به!.

لقد كتب حضرته كلمة في العدد (188) من مجلة المسامرات عن الشاعر الألماني جيته تحت عنوان (مثلي الأعلى). . . ومن حسن حظ الشاعر الخالد أنه ودع الحياة قبل أن يعلم أنه مثل أعلى لسلامة موسى، وقبل أن يقرأ كلمة يستطيع أن يكتبها عنه بعض النابغين من طلبة المدارس الثانوية!.

لا يهمني أن أنقل للقراء ما كتب هذا الرجل في مجال الحديث عن جيته، لأن صفحات (الرسالة) تضيق بهذا الطراز من المعلومات التي يعرفها صغار الطلاب. . . ولكن يهمني أن أنقل إليهم هذه الفقرات التي تكشف عن مركب النقص في الشخصية الأدبية:

(وقد ترجم من كتب جيته إلى العربية كتابان الأول آلام فرتر الذي ترجمه و (ألفه) الأستاذ أحمد حسن الزيات، والثاني فاوست الذي ترجمه الدكتور محمد عوض محمد. . . وكلتا الترجمتين لا تحتفظ بالروح الأصلي لقصتي الشاعر الألماني، وعلى من يريد الوصول إليه أن يرجع إليهما في الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية)!.

هذه كلمات رجل يتقلب على جمرات محرقة من مركب النقص، ومركب النقص في حياة سلامة موسى أنه تناول قلمه ليكتب منذ ربع قرن، ومعذلك فهو ينظر فيجد نفسه في مؤخرة الصفوف. . . من هنا ينبع حقده الدفين على هؤلاء الذين ارتقوا سلم المجد الأدبي في وثبات وخلفوه على الأرض!.

ترجمة الزيات عن الأصل الفرنسي لا تعجب سلامة موسى، وترجمة عوض محمد عن النص الألماني لا ترضي سلامة موسى. . . وعلى الذين يريدون الوصول إلى الروح الأصلي أن يرجعوا إلى سلامة موسى وقلمه، قلمه الذي يذكرني بأقلام المترجمين في روايات الجيب!.

مركب النقص ولا شيء غير مركب النقص. . . ولن يغير هذا المركب البغيض شيئاً من

ص: 36

هذه الحقيقة المؤلمة التي يحس لذعها الرجل، وهي أنه يوم تؤرخ هذه الفترة من أدبنا العربي المعاصر فلن يذكر فيها أسمه إلا في مجال التسجيل الإحصائي!.

إن الثقافة المهوشة والمعومات المبعثرة لا يمكن أن تحتل مكانها في تاريخ الأدب، إلا إذا قدر لتاريخ الأدب أن يكتبه المعجبون بقلم الأستاذ سلامة من قراء (النداء)!!.

كرافتشنكو مرة أخرى:

إنك تذكره بلا ريب. . هذا الموظف الروسي الكبير صاحب (آثرت الحرية). ولقد حدثتك في عدد مضى من (الرسالة) عن الكتاب وصاحبه، وعن تلك الضجة التي أثارتها حوله مجلة (لي ليتر فرانسيز)، وهي الضجة التي شغلت الرأي العام الفرنسي قبل أن تأخذ طريقها إلى القضاء، وشغلت الرأي العام في العالم بعد أن دفع بها كرافتشنكو إلى أيدي العدالة مطالباً بمعاقبة خصومه طبقاً لنصوص القانون!.

يقول خصوم المؤلف الروسي إنه كذاب يبرأ منه كتابه بكل ما حوى من تضليل وخداع. . . ويقول كرافتشنكو إن لديه الدليل على صحة كل رأي سجله، وكل قصة أتى بها، وكل حادث أورده وأستند إليه. والرأي العام بعد ذلك موزع الفكر بين مزاعم ومزاعم، وبينوثائق ووثائق، وبين شهود وشهود، يترقب اليوم الذي يقول فيه القضاء كلمته. . . وإنها لكلمة تقرر مصير الكتاب ومستقبل صاحبه، وتحدد مكان الخصوم وسمعة الصحيفة الفرنسية.

كرافتشنكو في رأي خصومهه سكير ومحتال وجاهل وكذاب وخائن. ولكن تجريحهم لشخصيته يستند أول ما يستند إلى تلك الدعامة الكبرى من دعائم الاتهام وهي الكذب. أنهم يسلكون شتى الطرق بغية الوصول إلى هذا الهدف الذي تتحطم على صخوره كل حقيقة من حقائق (آثرت الحرية)، وهو أن كرافتشنكو كذاب بالطبع والسليقة.

في هذه الدائرة يحصر القائمون على أمر المجلة الفرنسية جهودهم ويستمدون أدلتهم من واقع الكتاب وواقع الحياة. أما واقع الكتاب فقد قدمت إليك منه ثلاثة نماذج لثلاثة أسئلة وجهها الخصوم إلى صاحب (آثرت الحياة) عن بعض ما عرض له من وقائع هي في رأيهم أوهام وأباطيل. وأما واقع الحياة فقد خطر لهم أن يواجهوا كرافتشنكو بزوجته السابقة لتدلي برأيها فيمن كان أقرب الناس إليها، تلك التي كانت في يوم من الأيام أقربهم إليه. . . ومرة أخرى يقف كرافتشنكوا في مهب العاصفة! إن الزوجة السابقة تقف اليوم في ساحة

ص: 37

القضاء لتنعت زوجها بالكذب وسوء الخلق وانحراف الطبع، وإنها لتنتزع الأدلة على صدق قولها من أعماق الذكريات، ومن واقع تلك الفترة التي جمعت بينهما تحت سقف واحد ثم دفعت بكل منهما إلى طريق. . . ولقد كان زواجهما منه جحيماً لا يطاق، خرجت منه بطفل تدعو الله ألا يرث شيئاً من أخلاق أبيه!

وهنا يقف كرافتشنكو ليزأر كحيوان جريح: أن هذا الذي تنطق به محض افتراء دنيء وادعاء باطل. . . أليس عجيباً ألا أسمع إلا في هذه اللحظة بأنني أب لطفل لا أعلم شيئاً من أمره ولا متى ولد؟! أن الملقن الحقيقي لهذه الشهادة الملفقة هو الجستابو الروسي ولقد بعث بها من موسكو إلى هنا لتشهد ضدي. . . هذه السيدة المحترمة التي لقي أبوها حتفه في مجاهل سيبيريا تحت وطأة التشريد والتعذيب!

وتنهض الشاهدة مرة أخرى لتصرخ في وجهه: إنك أكبر كذاب يا كرافتشنكو. . لقد طلبت إليك يوماً أن تساعدني على تربية طفلك فضننت عليه بعطفك دون أبوتك، أما أبي فقد مات على فراشه في موسكو ولم يمت كما زعمت في مجاهل سيبيريا! وإنك بعد ذلك لفي الطليعة من صفوف الخونة. . لقد أنكرت بنوتك لوطنك بالأمس في (آثرت الحياة) وأنكرت أبوتك لولدك اليوم في ساحة القضاء!

هذه هي المفاجأة الثانية من مفاجآت القضية المثيرة التي يترقب الناس نهايتها بشغف بالغ واهتمام كبير. . وفي انتظار كلمة القضاء نستطيع أن نؤكد حقيقة ليس إلى إنكارها من سبيل، وهي أنه لو قدر لكرافتشنكو أن ينتصر على خصومه لكان انتصاره لطمة قاسية للشيوعية الروسية والفرنسية! ترى من سيخرج من هذا النضال مرفوع الرأس! سؤال تجد الجواب عنه في الغد القريب.

رسالة من أديب ثائر:

سيدي الأستاذ أنور،

هذه الرسالة لك وحدك لا للبريد الأدبي. . كيما أضمن الحرية لقلمي.

بلى يا سيدي، هاأنذا وقد رجعت إلى عدد (الرسالة) الماضي كما أشرت أراني قد حرت وفي مخيلتي ما أعجز عن أن أصوره بيراعي. ولقد نقلت لنا في تعقيبك على كلمة الأستاذ الصعيدي في مسرحية (الملك أوديب) بأنه إنما بني انتقاده للمسرحية على أنها من

ص: 38

الأساطير، فهي من ألاعيب كهان جهلة - كما زعمت مما جعلك تسترسل في قذفك له بذلك التهكم اللاذع، حين رميته بسذاجة النظرة الخ. . ويا ليت الأمر قد وقف بك عند هذا الحد، ولكنك قد اجترحت ما لا تغفره لك لغة قومك ولغتك التي نسبت إليها النقص! وإني أحيلك يا من تعرف غير لغتك إلى البحث عن أصول فن المسرحية والمبتغى منه. . . ثم لتراجع المسرحية مرة أخرى وترجع بعد ذلك إلى رأي الأستاذ الصعيدي مدققاً النظر: هل ما أراد هو ما أردت، أم أنه رأى فيما أورده (سوفوكليس) من حوادث مضطربة في مسرحيته بعداً عن الغرض الذي سيقت له؟ وهل بلغت أوج الكمال الغني أم أنها بحق ألاعيب كهان جهلة. . .؟

وكأين من عجلة تجر صاحبها إلى حيث تتقطع راحتاه من الطرق على أبواب الندم.

وإلى الأستاذ أطيب تحياتي.

الثائر

محمد الهادي عطية

هل تستطيع أن تخرج بشيء من هذه الرسالة الرائعة؟ إنها امتحان عسير لمقدرتك على الفهم، وتجربة طريفة لاختبار مقاييس الذكاء. أما أنا فقد رسبت في الامتحان وأعلن ذلك على رءوس الأشهاد! لماذا نشرتها إذن وقد بعث بها صاحبها إلي وحدي؟ لقد نشرتها لسبب واحد، هو أن أطمئن حضرة الثائر على أن أعصابي تحتمل في كل يوم كثيراً من اللغو الذي يضيع معه الوقت والفائدة، ولأطمئنه أيضاً على أني كما أبيح لقلمي أبيحها لأقلام الناس ولو بلغو من النبوغ هذه المرتبة العالية التي بلغها السيد عطية!

لقد خشي الأديب الثائر - وأتوسل إليه أن يترفق بأعصابه حرصاً على صحته الغالية - خشي أن يبعث بكلمته إلى (الرسالة) فلا تحظى بعطف (البريد الأدبي)، ومن هنا بعث بها إلي كي يضمن الحرية لقلمه!

ترى هل اطمأن على أن كلامه القيم قد اطلع عليه القراء؟ هذا هو الأمر الوحيد الذي تقطعت بسببه راحتاي من الطرق على أبواب الندم!

من عجائب الترجمة في العصر الحديث:

ص: 39

تسمع في العصر الحديث عن عجائب المخلوقات فهل سمعت عن عجائب الترجمة؟

هذا موضوع طريف أعددته للنشر والتعقيب، ولكن الأستاذ الجليل صاحب الرسالة قد سبقني إلى الإشارة إليه في ثنايا كلمته التي طالعها القراء في الأسبوع الماضي حيث قال:(يقع الحادث اليوم بمرأى من الناس ومسمع، فتحكيه الألسن وترويه الصحف، فلا تجد لسانا يوافق لسانا، ولا صحيفة تطابق صحيفة! وتقرأ صحف العاصمة في حادثة من حوادث المدن، أو واقعة من وقائع الأقاليم، أو أمر من أمور العالم، فتجد له في كل جريدة رواية تناقض كل رواية، وصيغة تعارض كل صيغة، حتى ليبلغ الخلاف بينها حد التغاير، فتراها مثلاً يوم الأحد الماضي تجمع على أن الشرطة اكتشفوا في شارع من شوارع القدس لغماً من البارود، ولكن (البلاغ) تنفرد بأن الذي كشفوه منجم من الرصاص!)

هذه هي إشارة أستاذنا الزيات إلى إحدى عجائب الترجمة حيث انفردت بها جريدة البلاغ. والخبر الذي أذاعته وكالة (اليونيتديرس) وترجمته الصحف المصرية ومنها (البلاغ) يتمثل في هذه الكلمات: (أكتشف مراقبو هيئة الأمم المتحدة لغما أرضيا في الطريق الموصل إلى بيت الحكومة في القدس، حيث يقيم أعضاء لجنة فلسطين التابعة للهيئة. وقال المراقبون إنهم تتبعوا السلك المتصل باللغم إلى أن وصلوا إلى نقطة تابعة لإسرائيل المزعومة، وإن اللغم كان في المنطقة المحايدة التي تحيط ببيت الحكومة. وأضاف المراقبون إلى ذلك أن تقريراً بهذا الحادث سيرفع إلى المستر تريجفي لي السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة. . . الخ).

لغم في كل الصحف ومنجم رصاص في (البلاغ). . والذنب في ذلك ذنب المترجم اللبق الذي رجع إلى القاموس فاكتفى بالمعنى الأول لكلمة ولم يكلف نفسه عناء الاطلاع على المعنى الثاني! ولو فرض أن المترجم (البلاغ) لا يعرف غير معنى واحد للكلمة فكيف غاب عن ذكائه أن الكشف عن منجم رصاص لا يستحق أن يرفع بشأنه تقرير إلى سكرتير هيئة الأمم المتحدة؟! كيف غاب عن ذكائه أن المعنى المقصود لا يستقيم مع (منجم الرصاص) فلابد للكلمة من ترجمة أخرى؟!

(تشنيعة) على السير ريالزم:

ص: 40

قلت وأنا في نعرض الحديث عن المذهب السريالي في العدد الماضي من (الرسالة) إن هذا المذهب الجديد لا يشق طريقه في فرنسا وهي موطنه الأول بسهولة ويسر، لأن خصومه الكثيرين يهاجمونه في عنف لا هوادة فيه، ويرمون أصحابه بالدجل والخروج على كل مألوف من أوضاع الفن!. . . قلت هذا بالأمس، ويهمني اليوم أن أقدم للقراء هذه (التشنيعة) الطريفة التي يهديها خصوم المذهب السريالي إلى الرسام بيكاسو:

أقام بيكاسو معرضاً لصوره في إحدى المدن الفرنسية، وفي يوم من الأيام الزاخرة بالزوار والمشاهدين، وقف أحد الفنانين يتأمل لوحة فريدة أشير إليها بهاتين الكلمتين:(هتك عرض)! وقف يتأملها ساعتين دون أن يخرج بشيء يوضح الصلة بين اللوحة ما جاء تحتها من كلمات يأباها الذوق والسمع. . . وعند ما هم بمغادرة المكان شاكا في ذكائه سمع صوتاً ساخراً يقول له:

- ثق يا صاحبي أن ذكائك بخير. . . لقد وقفت أمام هذه اللوحة ساعتين دون أن تفهم شيئاً، فهل تعلم أنني أمامها أربع ساعات دون جدوى، أنا الذي قدمت إلى محكمة الجنايات ست مرات بتهمة هتك عرض؟!

أنور المعداوي

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الأسمر يسطو على شعر الزين:

قال الشاعر الذي فقد منذ عام، الأستاذ احمد الزين في مطلع رثائه لشاعر النيل حافظ إبراهيم:

أفي كل حين وقفة إثر ذاهب

وصوب دم أقضي به حق صاحب

أودع صحبي بعد واحداً

فأفقد قلبي جانباً بعد جانب

تساقط نفسي كل يوم فبعضها

بجوف الثرى والبعض رهن النوائب

فيا دهر دع لي من فؤادي بقية

توصل ودود أو تذكر غائب

ودع لي من ماء الجفون صبابة

أجيب إليها في البين صيحة ناعب

وأخيراً قال الأستاذ محمد الأسمر في تأبين المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا:

أفي كل يوم دمعة خلف غائب

وفي كل يوم لوعة بعد غارب

رجال كأمثال النجوم فثاقب

مضى وهو لماع إثر ثاقب

لأوشك دمعي أن تجف شؤونه

على كل ماض ليس يوماً بآئب

إذا ما انتهينا من رثاء لذاهب

بدأنا رثاء بعد ذاك لذاهب

أما يسترح الشعر في كل ساعة

ورثاء لحر، أو رثاء لصاحب

وقد كان الأسمر صديقاً للزين، فهل استباح السطو على شعر صديقه الراحل بحق الصداقة؟ وهل هذا نوع جديد من الوفاء بين الشعراء؟ أو هو مذهب جديد في الأدب يقضي بإرث الصديق فيما قاله من الشعر. . .؟ أو حسب الأسمر أن الزين قد قضى وانطوى شعره، وأن أحداً لن يراه وهو يتسلل إلى مراثيه يستمد منها ما يجلجل به على المنابر؟ على أنني عجبت للأسمر وما هو بالعاجز عن النظم، أن يكون أخذه من شعر الزين هكذا ظاهرياً مكشوفاً. . دع عنك اتحاد الوزن والقافية، وانظر إلى الألفاظ والمعاني. اللهم إلا إذا قدرنا جهده الجبار في استبدال (يوم) ب (حين) والعدول عن (وقفة) إلى (دمعة) ثم تحويل (إثر ذاهب) إلى (خلف غائب) في البيت الأول مثلاً! وكأني به قد أمسك بكل بيت من أبيات الزين، فخنقه، فأخذ أجزاء منه ميتة فبنى بها بناء لا تسكنه روح، فقضاء حق الصاحب

ص: 42

بسفح الدموع قضى نحبه في البيت الأول على يد الأسمر، وكذلك كان مصير فقدان القلب تباعاً من توديع الراحلين المتتابعين في البيت الثاني، وهكذا لحقت بقية الأرواح النابضة في أبيات الزين يروح صاحبها وانتقلت إليه في العالم الآخر. وانظر إلى الزين يستبقي الدهر بعض فؤاده ويسأله أن يدع من ماء الجفون، ليقضي حق الصاحب الورود ويستجيب لداعي البين حين يصيح الناعب، ثم انظر إلى الأسمر الملول الذي يطلب الراحة للشعر، فالأول يندمج في جو الحزن ويستعذب بكائه ويستبقي للآتي بعده، أما الثاني فهو ضجر من وقته من وقفته يستعجل الخلاص منها، فيقول:

أما يستريح الشعر في كل ساعة

رثاء لحر، أو رثاء لصاحب؟

ولست أدري لم يرثي (الصاحب) إذا كان شيئاً آخر غير (الحر)! كما لا أدري معنى التنويع بين الحر والصاحب، ولم لا يكون الصاحب حراً؟

وبعد فقد كان أحمد الزين وفياً لأصدقائه الراحلين من الأدباء والشعراء، حتى لقد مراثيه عليهم، فهل هذا جزاؤه ممن رحل عنهم من الأصدقاء؟ لكأنه كان يقول في نفسه حينما قال في حافظ:

وفيُّ الرسل بين معاشر

نصيب الحمى منهم وفاء الثعالب

يدورون بالأمداح يبغون مأرباً

فيا ضيعة الأوطان بين المآرب

أو كما قال في ختام هذه المرئية الخالدة:

إذا الشعب بالإهمال أرسب عالياً

فلا بدع لو يعلو به كل راسب

بين مدير الإذاعة وأم كلثوم:

لم يعد خافياً ما نشأ من خلاف بين الإذاعة وبين أم كلثوم في شأن إذاعة مسجلاتها الغنائية. ويظهر أن الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة قد هالته طلبات أم كلثوم الباهظة فوقف في سبيلها. ومن هنا نشأت بين الاثنين معركة طريفة. تستمد طرافتها من مظهرها، فقد كتب الأستاذ محمد التابعي يدافع عن أم كلثوم ويقول باستحقاقها ما تطلب من مال، ويهاجم شخص المدير. ورد عليه الأستاذ عبد الرحمن الخميسي بمقال في جريدة (المصري) عنوانه (الأغاني في السوق السوداء) وصف فيه الأستاذ التابعي بأنه صديق أم كلثوم. ونشرت (البلاغ) مقالا بعنوان (الآنسة أم كلثوم تتقاضى أكبر مرتب في الدولة) ثم

ص: 43

نشرت (أخبار اليوم) مقالا هاجمت فيه مدير الإذاعة وحسبت ما يتقاضاه من الإذاعة ومن معاشه في الحكومة فإذا 3060 جنيهاً سنوياً على حين أن مرتب رئيس الوزارة 2500 جنيه فقط.

وكأن مؤيدي أم كلثوم يقولون ليست هي وحدها التي تأخذ مالا كثيراً من الإذاعة أو تريد أن تستزيد من المال. ولكن هل هذا يبرر مطالبها؟ إنها الآن تأخذ من إذاعة مسجلاتها 6300 جنيه في السنة وتريد أن تزيدها إلى عشرة آلاف وثمانين جنيهاً وكل ذلك دون أن تبذل أي جهد، ولكنها وجدت إذاعة (عسلا) فتريد أن (تلحسها) كلها. . وعقدة الخلاف أن الإذاعة تحرص على رضاء المستمعين وعدم حرمانهم غناء أم كلثوم وهي تعلم ذلك فتغالي في الثمن وتعلم أيضاً مكان (خاطرها) من أعضاء مجلس الإذاعة.

ولولا أني لا أريد أن أنتقل من الجد إلى المزح لاقترحت أن ينقل أمر الإشراف على الإذاعة من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى وزارة التموين ليعالج الأمر وزيرها الرجل العظيم صديق الشعب الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، فيضم مسألة الغناء إلى مسائل السكر والصابون والصودا الكاوية. . .

ولكني ألزم الجد، فأقول أن الأمر يتطلب الحزم والصرامة في سبيل الصالح العام، فحرام أن تبدد أموال الدولة، والدولة في حاجة إليها؛ فهذه الأموال إما أن تكون الإذاعة محتاجة إليها في تدبير شؤونها كتحسين البرامج وإنصاف الموظفين وغير ذلك، وإما أن تكون زائدة على حاجتها فعند الدولة لها ألف وجه ووجه.

جوائز فاروق الأول:

أقيمت حفلة لجوائز فاروق الأول في العلوم الاجتماعية والكيميائية والجيولوجية وعلوم الحياة بجامعة فاروق بالإسكندرية في عيد الميلاد الملكي. وألقى معالي وزير المعارف كلمة اللجنة الدائمة للجوائز، فأعلن فيها ما وصلت إليه لجان الفحص لسنة 1949، وقد رأت هذه اللجان أن الكتب والبحوث التي فحصتها لم تستوف بعض الشكليات والشروط لاستحقاق الجوائز.

وكانت لجان الفحص قد غربلت ما قدم لها، ثم صفت ما غربلته، فكانت الصفوة: كتاب (أسس الصحية النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي عميد معهد التربية العالي، وكتاب

ص: 44

(سافونارولا) للدكتور حسن عثمان الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة فاروق، وكتاب (السودان في قرن) للأستاذ مكي شبيكة، وبحث في الجيولوجيا غير مطبوع للدكتور رياض عبد المجيد حجازي. فأوصت لجان الفحص بإيفاد حضراتهم إلى الخارج على نفقة الدولة تمكيناً لهم من وسائل البحث والدراسة بالاتصال بالمعاهد العلمية والهيئات العالية. وكان الدكتور القوصي والدكتور حسن عثمان موجودين في الحفلة، فصالحها مندوب جلالة الملك. أما الأستاذ مكي شبيكة والدكتور حجازي فهما في الخارج، الأول مبعوث من كلية غوردون السودانية إلى إنجلترا والثاني في بعثة من وزارة المعارف إلى أمريكا وقد مدت له اللجنة مدة البعثة.

وقد نوه معالي وزير المعارف بأسماء المختارين الأربعة، وأشاد بجهودهم العلمية، وأشار إلى أن الغاية من تنظيم هذه الجوائز التي يتفضل بها جلالة الفاروق، هي رفع مستوى الإنتاج العلمي، فإذا رأت اللجنة الدائمة عدم استحقاق الجوائز فإنها تلجأ إلى وسائل أخرى تؤدي إلى تلك الغاية، مثل إيفاد العلماء إلى الخارج لأنه يسهل لهم البحث واستكمال الدراسة.

ولا شك أن هؤلاء الأربعة المختارين - وإن كانت مؤلفاتهم لم تنل الجائزة المادية - قد نالوا ما هم أهله من حسن التقدير والتكريم، وخاصة الدكتور عبد العزيز القوصي، فهو من مفاخر مصر في علم النفس، وله مكان ملحوظ في المجامع العلمية بالخارج.

بناء النهضة:

نظم قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية سلسلة من المحاضرات العامة موضوعها (بناة النهضة المصرية في القرن العشرين) شملت أنواعاً مختلفة من النهضات، من سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، وكان آخر حلقة في هذه السلسلة محاضرة للدكتور محمد صلاح الدين بك عن بناة النهضة في المسرح والموسيقى، فتحدث عن الموسيقى من عهد محمد عثمان وسلامه حجازي إلى عبد الوهاب وأم كلثوم، وتحدث عن المسرح من سلامة حجازي أيضاً إلى زكي طليمات، وقد بين أهمية من تحدث عنهم في الفن وأثره في تطوره، فسلامه حجازي زواج بين المسرح والغناء، وجورج أبيض استطاع أن يجعل للتمثيل قيمة مستقلة عن الغناء، ومحمد تيمور وزملاءه من هواة المسرح المثقفين كانوا

ص: 45

طبقة ذات أثر كبير في ارتقاء المسرح، ومن هؤلاء زكي طليمات الذي لا يقتصر على الجهد الفردي فهو يصنع الآن جيلا جديداً يرجى على يديه عهد للتمثيل في مصر، وكذلك مثل في الموسيقى، وقد وقف طويلا مع سيد درويش، وقال إنه استطاع أن يجعل الفن ذا موضوع، ومن عبقريته أنه ذهب في التجديد إلى مدى بعيد مع الاحتفاظ بالأصول الشرقية للنغم والموسيقى.

هذا وقد نشر في الصحف عنوان هذه المحاضرة هكذا (بناة النهضة الأدبية) واحتشد جمهور كبير في قاعة يورت التذكارية، وقدم رئيس قسم الخدمة العامة، للمحاضرة بكلمة قال فيها أن المقصود بالنهضة الأدبية ونهضة المسرح والموسيقى لما لهما من شديد الصلة بالأدب. وقد ألمع هذا الوضع وهذا الجو إلى تقصير في هذه السلسة، إذ أهمل فيها الجانب الأدبي إهمالا تاماً، ولم يذكر رئيس الخدمة العامة سبباً مبرراً لهذا الإهمال. قد يقال أن الجامعة حرة فيما تختار من الموضوعات، ولكنها محاضرات عامة تدعو إلى إلقائها بعض قادة الرأي والفكر في مصر، ومن تمام الفائدة أن تستوعب الجوانب المختلفة، ولم يكن ينبغي أن يهمل الحديث عن النهضة الأدبية وهي أم النهضات جميعاً، حتى أنك لا تجد نهضة إلا كان الأدب لسانها والأدباء باعثيها وداعين إليها.

عباس خضر

ص: 46

‌البريد الأدبي

نصيب المعلم:

كان من صدى الإعلان في (الرسالة) عن كتاب عالم الذرة ثلاث رسائل لا أكثر من بعض القراء. وصاحب إحداها بفرض علي جزاء لقراءته مقالاتي في الرسالة أن أقدم إليه كتابي مع الشكر وأنا أقول له:

أنت غال وقد طلبت رخيصاً

ينفع العلم أن تنله قنيصاً

وصاحب الرسالة الثانية يطلب الكتاب هدية لا قيمة لها جزاء تدلله في حبي. وقد حبر بهذا الكتاب أربع صفحات. وأنا أظنه من حسناء، حتى كدت أعتقد أني أخو أفروديت أو ابن فينيس، أو أني كيوبيد بعينه على الرغم من أني (بلغت من الكبر عتياً) والسنون (قد أحوجت سمعي إلى ترجمان) وما انتهيت من تلاوة الرسالة حتى رأيت نفسي أمام المرآة.

وصاحب الرسالة الثالثة قصم رقبة ضني بأن استشفع بعيد ميلاد فاروقنا المعظم لأنه كتبها في يوم العيد السعيد. وأنه أرجو من حضرات القراء الكرام أن يعلموا أني أغلقت باب الشفاعات لكيلا يستشفعوا بالنبي وبالمسيح الرحيم. وخير لهم أن يتشفعوا بالقروش العشرين إن كانوا يرون أن كتابي يساوي هذا الثمن السقيم، والحمد لله رب العالمين.

نقولا الحداد

2ش البورصة الجديدة بالقاهرة

لاوجود إلا وجود واحد:

لاشك أن آفة الشرق هي الغرب، وأن داء الشرقيين المستفحل هو إيمانهم بأن كل ما أتى به الفكر الغربي من مذاهب هو المثل الأعلى الذي ينبغي أن يحتذيه كل فكر ينشد الكمال. ونحن العرب نتخذ دائماً من المعايير الغربية مقاييس أفكارنا. فإن خالفتها فهي مبهمة غامضة، وإن سارت على منوالها فهي واضحة جلية، ولا نفكر مطلقاً في أن نعتز بنتاج الشرقيين بل ننظر إليه من خلال المذاهب الغربية التي تحول دون فهمه فهماً صادقاً، وتفسد أحكامنا عليه.

وها هو الأستاذ نقولا الحداد لم يستطيع أن يفهم مضمون حقيقة وحدة الوجود عند طاغور؛

ص: 47

لأن ذهنه مشبع بمذاهب الغربيين في هذه الحقيقة. ولا يدري كيف يحدد موقف طاغور بالنسبة للذين يقولون بأن أصل الوجود جوهر واحد سواء أكان روحياً أو مادياً، أو بالنسبة للذين ينادون بثنائية الوجود أو يعتقدون بجوهرين هما الروح والمادة، لأنه تعود أن ينسب كل رأي إلى فكرة غربية مماثلة لها، ويقارنها بها؛ فإن لم يجد لها نظير صعب فهمها عليه. ولذلك يجب علينا جميعاً أن نتعود فهم الأفكار الشرقية وعقولنا خالية من النظريات الغربية، فإنها تشتت أذهاننا وتبلبلها فتأسرها في مكان ضيق لا تقدر أن تدرك ما خارجه، وإن حاولت عجزت عن فهمه. وكما هال الأستاذ الحداد أن يكون منبت حقيقة وحدة الوجود هو الشرق، ولم يكن أول قائل لها هو اسبينوزا، فأخذ يستوضح عن صلتها بالدين الهندوكي وتغافل عن أفلوطين قد تأثر بأفكار الهنود في وحدة الوجود الروحية، وأتى من قبل اسبينوزا بمذهب فيها، قد تأثر به اسبينوزا نفسه كما تأثر ببعض المتصوفين الإسلاميين الذين تكاد كل نظرياتهم في التصوف مستمدة من صلب التعاليم الهندوكية.

أما كيف عرف الهنود تلك الوحدة فيرجع ذلك إلى عهد يبعد في القدم إلى أكثر من خمسة وعشرين قرناً، يوم كانوا يؤمنون بآلهة كثيرة تمثل مختلف قوى الطبيعة وشتى مظاهر الكون. ويوضح (الفيدا) وهو كتاب هندي مقدس لا يعرف واضعه أو واضعوه - ماهية كل إله. ويذكر الأدعية التي ترفع له، ويعين القرابين التي تبذل من أجله ولا يشير كتاب الفيدا إطلاقاً إلى حقيقة وحدة الوجود التي جاء بها (اليوبانيشاد) من بعده وهو كتاب هندي ديني آخر مجهول مؤلفه أو مؤلفوه. يضع فلسفة الهنود الهندوكية في وحدة الوجود، ويضم كافة الآلهة الهندية في إله واحد يشملها جميعاً ويحل فيها، وهو براهما الذي يستمدون وجودهم من وجوده، ولا يبعدهم الهنود إلا لأنهم آلهة يتجلى منها الإله الأكبر (براهما) الذي يكمن في كل شيء في الكون. وإن مظاهر عبادة الحيوان وتحريم قتله، وتقديس الأشجار ومنع قطعها، والتبرك بمياه الأنهار، يبين لنا كيف يعبد الهنود الظاهرات الطبيعية التي يستقر فيها يراهما.

وتناول طاغور هذه الحقيقة بتفكيره الشاعري وعرضها بخيال الفنان الملهم في أسلوب روحي يفيض عذوبة وحلاوة. فإن اعترى أفكاره عند تأملها عقلياً الإبهام، فلا يجب أن نلومه لأنه شاعر قبل أن يكون فيلسوفاً، وما أراد لنفسه أن يكون في يوم من الأيام فيلسوفاً،

ص: 48

وإن ارتضى أن يكون شاعراً حكيماً. فهو ليس صاحب مذهب محكم التصميم يستند في تفسيره على منهج عقلي منظم. ولم يخط كتباً فلسفية قط. وإن حاولت أن أستخرج من كتابه أصول فلسفة أعالج فيها المشاكل الميتافيزيقية والأخلاقية والفنية التي اشتغل بها طاغور بطريقة لا تمت لطرق الفلسفة بصلة، فإنما ذلك رغبة مني في أن أعرض أفكار حكيم في أسلوب فلسفي لا غير.

لقد زعم طاغور أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة لا تحتمل التفرقة بين خالق ومخلوق، وجودها روحي، وأن ما يبدو في الكون من مادة فهي مظهر خادع يخفي براهما المستقر داخلها؛ لأن براهما حين امتلأ بالسرور - ذلك السرور الذي لم يبين لنا طاغور كنهه، أو يذكر سبب نموه في براهما حتى امتلأ به - فصدرت عنه الخليقة لم يفصل بينه وبينها فصلا تاماً، وإنما كمن فيها وأعطى للإنسان فرصة للعودة إلى منبعه الذي انبثق منه، بمنحه حرية التصرف في شئون دنياه، وتقييده بقانونه الأخلاقي ومن يقطع الصلة بين براهما والمخلوقات يقع في (المايا) أي الباطل الذي إليه أن الباطل مستقل عن المخلوقات بينما براهما يتجلى في الكون في صور القوانين التي يتقيد بها هذه المخلوقات فتخضع روح الإنسان للقوانين الأخلاقية ويخضع جسده وجميع محتويات الطبيعة الأخرى للقوانين الكونية. ومعرفة هذه القوانين معرفة لله المتحد بكل شيء، إلا أنه لا يكفي للإنسان أن يعرف هذه الوحدة ليصل إلى الكمال الروحي وإنما يجب عليه أن يعرفها ويحياها معاً ويحس ببراهما الذي يوجد في كل جزء من أجزاء الكون إحساساً حياً، تنطق به كل حركاته من أفعال وأقوال ويدمج شعوره بفرديته فيها جميعاً بحيث لا يستطيع أن يميز بين وجوده وبين سائر الموجودات.

وإذا أراد الأستاذ نقولا أن يعرف المزيد وكيف يفوز الإنسان بهذه الحياة فإني أرجعه إلى ما سبق أن نشرته في مجلة الرسالة عن طاغور وما سأنشره قريباً إن شاء الله عن فلسفة طاغور الأخلاقية والفنية.

عبد العزيز محمد الزكي

ص: 49

‌القصص

في ميدان الجهاد

للأستاذ وهبي إسماعيل حقي

إلى المجاهد الكبير من اجتمع إلى حكمة الشيوخ عزمات الشباب صاحب الدولة (احمد باشا حلمي) وفقه الله في مهمته. . .

كان الوقت ليلا، وكانت السماء صافية الأديم، وكان القمر يرسل أضوائه الفضية الساطعة، فتملأ الأرجاء أمنا، وتغمرها نوراً، ولولا أن الجو تتمشى في جنباته موجات من يرد فبراير القارس لتبدلت الحال، ولخرج الناس من مكامنهم ليستمتعوا بهذه الطبيعة الأخاذة، ويستنشقوا عبير النسيم الذي انبعث من البحر الأبيض يحمل النشاط والقوة، ولما لجأت (كتيبة الإيمان) - إلى ذلك الكهف الذي اتخذته مقر لقيدتها، في إحدى جبال فلسطين الكثيرة، والتف أفرادها حول النار ليصطلوا.

وكانت هذه الكتيبة واحدة من الكتائب التي ألفت جيش الإنقاذ الذي خف فلسطين حينما وضح اليهود عن المغالاة في مطامعهم بإثارة الغارات - من آن لآخر - على القرى العربية الآمنة ومثلوا معهم تلك الأدوار التي حدثنا عنها التاريخ في عصور الجاهلية الأولى، ومن هتك الأعراض، وسلب الأموال وقتل الضعفاء من الشيوخ والأطفال.

واتخذت كهفاً واسعاً مركزاً لها، فيه توضع خططها الحربية، وفيه تحفظ المؤونة ومنه تشن ضد الصهيونيين العتاة.

كان ضوء القمر على باب الكهف يعاون أشعة النار في تبديد الظلمة، فيستطيع الإنسان أن يميز وجوه الحاضرين، فيرى فيهم الأبيض والأسمر، والأسود والأشقر، ويرى فيهم الطويل والقصير.

فهولاء الأربعة البيض الذين اتخذوا مجلسهم قريباً من الموقد، تنبئ ملامحهم أنهم أوربيون: فأما العملاقان - اللذان تشع من عيونهما أشعة القوة والجد، وينبعث منها بريق الأمل - فهما من إحدى المدن الألبانية التي تغذى أهلها بلبان الحرية، ومن أجلها حاربا الطليان والألمان، ثم حاربا الشيوعية، وأخيراً تركا الوطن إلى إيطاليا فراراً بعقيدتهما.

وأما هذا القميء العريض المنكبين الذي اتسمت آيات الحزن على صفحة وجهه، ولاح

ص: 50

الامتعاض وحب الانتقام في أساريره، فإنه من تلك القرية البوسنوية المسلمة التي أغار عليها ذلك الوحش الآدمي المجرم (ميخائلوفيك) فحرق رجالها وهم يؤدون صلاة العيد في أحد مساجدهم واجبر، نساءها أن يرقصن على الثلج عاريات، بعد أن سلبهن الشرف والعرض، ثم أعدمهن رمياً بالرصاص. وكان من حظ رفيقنا هذا أن تأخر عن شهود الصلاة فنجا من الموت، وفر إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا.

أما هذا الذي يشبه الصيني إلى حد بعيد فهو من تتار بولونيا غادر بلاده بعد الزحف الروسي ليحارب الظلم والاستبداد فوصل إلى جبال ألبانيا وحارب مع عصابتها جيوش المحور.

وجمعت المقادير بين الأربعة في أحد معسكرات إيطاليا، واستمتعوا إلى تلك الفظائع التي يرتكبها اليهود مع عرب فلسطين فهبوا للدفاع عن الحقوق المهضومة ورد العدوان الصارخ.

أما الباقون من أفراد الكتيبة فيستطيع من يراهم أن يعرفهم بسيماهم ولكنتهم العربية، فمنهم المصري والسوداني، ومنهم السوري والعراقي والمغربي واللبناني ومنهم غير هؤلاء كثيرون.

اجتمعوا حول النار في الكهف يتشاورون ويتباحثون في الأعمال التي يجب أن يبتدئوا بها في غدهم.

وقال قائدهم الأكبر، وهو فلسطيني أتم علومه أتم علومه في ألمانيا، ودرس الفنون الحربية في معاهدها، ونبغ في الهجوم الخاطف: في الصباح المبكر سنهجم على مواقع العدو القريبة منا في ناحية الشمال.

وأستقر الرأي أن يبدأ الهجوم من الساعة الخامسة قبل أن تبزغ الشمس، ويملأ نورها الجو، وصدرت الأوامر للجميع أن ينظفوا أسلحتهم، وأن يتموا استعدادهم. . . وتفرقوا إلى مضاجعهم

في زوايا الكهف، وفي الساعة الرابعة جلجلت أصوات المؤذنين في الفضاء:(الصلاة خير من النوم) فهرع الكل إلى الينبوع الذي لا يبعد كثيراً عن الكهف وأسبغوا الوضوء لصلاة الفجر، وأمهم قائدهم. ولما قضيت الصلاة، توجهوا إلى الله مخلصين أن يهيئ لهم النجاح

ص: 51

في مسعاهم وأن يكتب لهم النصر على أعدائهم.

ورجعوا إلى مقرهم فلبسوا أسلحتهم وحملوا أمتعتهم وخرجوا إلى باب الكهف يقطعون المسافة أمامه ذهوبا وجيئة وهم ينتظرون الأمر بالانقضاض، وكل منهم يهمس لأخيه: متى سنذهب؟ لقد تأخرنا اليوم!.

ثم دوى في الفضاء صوت جهوري تردد صداه في جنبات الوادي: استعدوا.

فخشعت الأصوات، وشمل الحاضرين سكون رهيب، وتراص الجميع في صفوف منتظمة، ووقف على رأس كل صف ضابط ينادي الجنود بأسمائهم.

ثم برز القائد الأعلى وخطب فيهم يستنهض الهمم ويستحث العزائم فقال: لست أرابي في حاجة لأن أذكركم بما يجب على الجندي في الميدان من الاستبسال في القتال، والحرص على الفوز. لا أملك إلا أن أقول: علينا أن نصل إلى النصر بأي ثمن.

فرد الجند من أعماق قلوبهم: إننا - بعون الله تعالى وحسن قيادتك - منتصرون (إن ينصركم الله فلا غالب لكم).

وزحف الجند في حذر، وكانت النجوم لا تزال تؤدي رسالتها في كبد السماء، ترشد الضال، وتنير الطريق. وكان البرد قد بلغ النهاية في الشدة، ولكن الكتيبة ما كانت تقيم له في حسابها وزنا كأن حرارة الإيمان بددت من حولها برودة الطقس.

وكان على الجند الزاحف أن يقطع مسافة غير قصيرة ليصل إلى خنادق العدو التي توفرت له فيها أسباب الراحة وألوان المتع، وكميات من الزاد والذخيرة لاتحد. . . ففيها الفرش الوثير، والطعام الكثير، والعتاد الوفير، الذي انثال على اليهود من كبريات دول الغرب.

وحين أصبحوا غير بعيد من مراكز العدو استمعوا إلى القائد يصيح فيهم: تأهبوا للهجوم. فانقسموا إلى أربع فرق، كل فرقة لا تعدو العشرين، وإن هي إلا لحظات حتى كانوا مرهفي الحس لتلقي أمر القائد.

ووصلوا إلى المنطقة التي تجب فيها الحيطة ويلزم الحذر حيث الألغام المبثوثة، والأسلاك الشائكة والقنابل المنثورة. ولم يمض إلا قليل حتى أصوات الطلقات في الفضاء، فعلموا أن الحراس قد أحسوا بهم، وأنهم يستعدون للقائهم.

وانبطح أفراد الكتيبة على الأرض، وابتدأت المعركة، وكانت رعدة من البرد قد سرت في

ص: 52

أجسادهم حين افترشوا الأرض، لكنها لم تلبث أن تبددت عندما حمى الوطيس.

ثم تعالت صيحات الفزع من خنادق الصهيونيين، وارتفعت أصوات السب واللعن لمن حرمهم لذة التمتع بالنوم في ذلك الوقت الباكر.

وأخذ أفراد الفرق يتقدمون رويداً رويداً زحفاً على البطون ووابل الرصاص يمرق من فوق رءوسهم فلما كانوا على خمسين متراً من مقر الأعداء، تزايدت الطلقات، فلم يعقهم ذلك عن التقدم في العراء.

وقد أطلقوا العنان لأسلحتهم تقذف بنيرانها إلى الخنادق التي لم تتأثر بها كثيراً فكانت تصدم بالجدر المتينة ثم تعود من حيث أتت حسيرة، لأنها لم تبلغ الغاية ولم تقيم بالمهمة.

ونادى القائد نداءه الصارم: أيها الجنود البواسل! الكلمة الآن للقنابل. . . ليهجم الصف الأول على الخنادق الكامنة إلى اليمين. وأما الثاني والثالث فليقوما بالهجوم على الخنادق في الشمال. وليقف الرابع بالمرصاد، ليتقدم إلى من هم في حاجة إلى مساعدته.

وبدأت الشمس تنشر أشعتها في صفحة الكون، فتبعث الدفء وتخفف حدة البرد، وتجلى الموقف على حقيقته، فهاتان قوتان تعتركان: أما أولاهما فهي قوة الظلم والعدوان، وحوش في زي الإنسان وجائرون في لبوس ذوي الحق المضاع والجناح المهيض. وهم من أجل ذلك يرتعشون فرقاً ويرتعدون خوفاً كلما التقوا مع المجاهدين في ميدان؛ لأنهم لا يعرفون الحكمة ولا الداعي لمحاربتهم لهؤلاء الوادعين الذين أمنوا في أوطانهم، واطمأنوا في ديارهم.

أما القوة الثانية فهي قوة الحق تتمثل في هذه الحفنة من الأبطال الذين خرجوا من ديارهم وأبنائهم، واستلموا سيوف العدالة ليبطشوا بالذين استباحوا الحرمات واعتدوا على الحريات، وعاثوا في الأرض فساداً. . . إنهم حين يندفعون إلى الأوكار اليهودية، قد وقر في نفوسهم، وارتسم في أذهانهم تلك الفظائع التي ارتكبها هؤلاء الأشرار من سفك الدماء، وتقتيل الأبرياء، وهتك الأعراض، وتشتيت الأسر، وبقر بطون الحبالى، فتلتهب عزائمهم وتتمليء نفوسهم بالشجاعة والقوة، ويشعرون بالارتياح فيتقدموا إلى العدو وهم أشد تعطشاً لسفح دمه ثأراً لإخوانهم.

واستطاع جند الكتيبة أن ينفذوا إلى الخنادق، وفي داخلها نشبت المعركة، واشتد القتال. فلم

ص: 53

يثبت لليهود قدم، ووجلت قلوبهم، وارتخت أعضاؤهم، ولم يكن لهم هم سوى البحث عن الوسيلة للفرار.

ووقف بعض الجند من كتيبة الإيمان يقتلون من زينت له نفسه الهرب على باب الخندق، وهم يصيحون من الفرح: أين موسى شرتوك الذي سول له شيطانه أن يفخر برجاله في العالم أجمع

أهؤلاء هم الرجال الذين هددوا باحتلال الأراضي المقدسة حتى الحدود المصرية؟. أهؤلاء هم الذين نشروا الخوف وأشاعوا الرعب في ربوع فلسطين الآمنة؟ هاهي حصونهم لم تحملهم منا؟ وهاهي أشلائهم قد تناثرت حولها؟ وهاهي أسلحتهم واستعداداتهم لم تحل بيننا وبينهم. إنهم باغون وعلى الباغي تدور الدوائر.

واحتلت الكتيبة خنادق اليهود. وتولتهم الدهشة من عجيب ما رأوا فيها، فهي مزودة بكل طريف من الكماليات فضلا عن الضروريات: فهذه وسائل التدفئة الحديثة وتلك، آلات الكهرباء، وهذا رياش فاخر، وذاك معين من المؤونة لا ينضب، إلى غير ذلك مما لا يدع للشك مجالا في إنهم كانوا يعتقدون أنهم في هذه الأماكن مخلدون.

وتراءى لأفراد الكتيبة عظم الفرق بين القوتين وبين الاستعدادين، كعظم الفرق بين السماء والأرض. . . وانخلعت قلوبهم من الحيرة لهزيمة هؤلاء الصهيونيين مع هذا العدد الوفير، وهذه العدة البالغة، وأيقنوا أن النصر للقوة المعنوية دائماً، وللقوة المادية نادراً.

وألقى الجنود نظرات خاطفة على عتاد الأعداء ليحملوا ما هم في حاجة إليه من متاع وسلاح، ثم التفوا حول قائدهم ليصغوا إليه وهو يأمرهم بملاحقة الأعداء ومواصلة الهجوم حتى يجتنوا ثمار النصر ناضجة، فانبسطت الأسارير، وارتسمت على الشفاه بسمات الفرح بذلك النصر المبين. وتزايد سرورهم حين عرفوا أن عددهم لا ينقصه إلا ثلاثة قد لقوا حتفهم برصاصات صهيونية غادرة.

وتعانق الجميع عناقاً سريعاً حاراً، تعبيراً عن ابتهاجهم بهذا الفوز الحاسم، ثم انصاعوا لأمر القائد الذي ناداهم: إلى الأمام أيها الأصدقاء؛ فعلينا أن نحتل جميع المراكز القريبة ليتم تطهير المنطقة كلها.

واستبسل اليهود في الدفاع عن مراكزهم، ونشطت مدافعهم الثقيلة والخفيفة، وأطلت فوهاتها

ص: 54

من فتحات الخناق لتقذف الحمم، وتجاوبت الطلقات، وتلوت في أجواز الفضاء مسرعة متوالية كأنها حيات تسمى، وكأنها تزأر زئيراً مفزعاً، وتدوي دوياً مزعجاً، لو سمعه من لم يتعود لطاش عقله، وفقد السيطرة على أعصابه.

ولكن أفراد الكتيبة كانت قلوبها تخفق الشجاعة كلما سمعت قصف المدافع، ورعد القنابل وعصف البنادق، ولم يفت في عضدها تلك الانفجارات من حولها ولا ذلك الدوي الذي يصم الآذان.

وأحس الجنود أن ما معهم من العتاد أوشك أن ينفذ، ومع ذلك لم ينكص واحد منهم عن التقدم. ولكن اقتصدوا كثيراً في إطلاق الرصاص، وكانوا يسدون إلى الهدف دائماً. وفرغت القنابل ولم يبق لدى الكتيبة سوى عدد لا يفي بالغرض من الطلقات.

وأحس العدو ذلك من فتورهم في الهجوم، فقويت روحه، واجترأ على الخروج من مكمنه، وواجه أفراد الكتيبة بالعدد والعدة، وتحولت المنطقة إلى قطعة من الجحيم؛ فالتهبت البقاع، واشتد القتال. . . ثم نفذت ذخيرة الكتيبة، وخمدت مدافعها، وسكتت بنادقها، ولكن أحداً من رجالها لم يتزحزح عن موقفه لأنهم يعلمون أن لهم إحدى الحسنين، والنصر المؤزر أو الفوز بالجنة.

ونادى القائد محمد: إلى الأمام أيها الأبطال. . . لا ترهبوا الموت. . . إلى الممر فهناك النصر. . . لكنه لم يتم كلمته فقد نفذت إلى قلبه رصاصة آثمة ألقته على الأرض، وحاول أن يقف على رجليه فلم يستطع. . . أراد أن يستمهل الموت حتى يؤدي واجبه كاملا لكن الموت لم يمهله. . . تقدم خطوتين إلى الأمام زحفاً ولم يقو على الاستمرار، فعلم أنها آخر لحظاته فرمق الجميع بنظرة عطف وحنان، وسمعه أقرب الجند إلى مكانه يهمس بكلمات متقطعة وعى منها:(إلى الأمام. . يا أصدقائي خذوا بثأري. لا تهدروا دمي. . . تحيا. . .) ثم فاضت روحه إلى بارئها تشكو تعسف الصهيونيين، وتستنجز وعيده فيهم (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله). . . وأتم الجندي كلمته. (تحيا فلسطين).

ثم تقدم أصدقاؤه لينفذوا خطته، وهم يعلمون أنه إنما أراد أن يقذف الرعب في قلوب الأعداء بهذا التقدم، فيفسد عليهم خططهم، وإن أعقب ذلك موت كثير من رجاله، فالحرب تضحية.

ص: 55

ثم سمع الجند صوت القائد يأمرهم أن يثبتوا في أماكنهم، وأن يفكروا في الانسحاب حتى لا يفجعوا الوطن في حياتهم؛ فإن الذخيرة قد نفدت، وإن القائد قد قتل، وإن التقدم مع كل هذا معناه موت الباقين. وكان مما قاله لهم: قفوا إلى أن تصدر إليكم أوامر أخرى.

واشتدت ضربات اليهود، وأقاموا ستاراً كثيفاً بمدافعهم الرشاشة لا يتسنى لإنسان معه أن يرفع رأسه إلى أعلى إلا إذا كان في غنى عن حياته.

وطلب القائد إلى الجند أن ينبطحوا على الأرض، وأن يزحفوا على بطونهم إلى أن يخرجوا من ميدان القتال ويبعدوا عن مرمى قذائفهم.

وكانت جثة قائدهم محمد على عشرة أمتار منهم، تسبح في بحر من دمائه الزكية، والتبس الأمر عليهم أيتركون هذا الجدث الطاهر في تلك العصابة الآثمة يمثلون به؟ أم يعودون إليه ليحملوه معهم وإن سبب لهم هذا العمل المتاعب والصعاب.

ولم يطل بهم التردد؛ فقد وقف (سعيد) - وهو جندي من جنود الكتيبة غير المبرزين - وأسرع إلى حيث جثم قائده وحاول زملاؤه أن يحولوا بينه وبين ما أراد فلم تجد محاولتهم. . . وانحنى سعيد على جثة القائد بين يديه وهم به أن يرفعه إلى أعلى، وما هو إلا أن برز صدره حتى ندت عنه صيحة مدوية أعقبها أنات موجعة؛ وسقطت الجثة أمامه؛ فقد سدد إليه الأعداء رصاص بنادقهم فأصابه منها رشاش، خارت له قواه، واصطكت أسنانه ولكنه ملك زمام شجاعته، واستجمع قوته وحمل الجثة ثانية، وأسرع بها إلى قومه وهو يجر رجليه في مشقة بالغة وحين وصل إلى رفاقه سقط أمامهم مغشياً عليه، تتفجر الدماء غزيرة من جوانبه تخط على رمال الصحراء صفحة المجد الخالد والبطولة النادرة. . . وارتسمت على شفتي سعيد بسمة الرضا بما صنع؛ فقد حال بين جثة قائده وزميله وبين الأعداء ن تبطتتتتتبطشتبطش أن بها. وتم انسحاب الكتيبة إلى مكان أمين، وقد حملوا معهم سعيداً الجريح، ومحمداً القتيل. ثم التفوا حول سعيد يضمدون جراحه، وكلهم أسف لما حل به. فلما أفاق توالت عليه الأسئلة، عن حاله، وبماذا يحس، وأجابهم بصوت خافت: إني بخير والحمد لله. . . ليست حياتي في خطر. . . وليس بي سوى الحزن على محمد القائد البطل. . . لقد كتب المسكين إلى أمه أمس، وأنا الذي أودعت البريد رسالته التي يقول فيها إنني في صحة جيدة. . . وإنني سعيد في حربي لهؤلاء الجبناء الأنذال، وأجد اللذة في

ص: 56

الانتصار المتوالي عليهم. . . ثم ختم الرسالة بقوله: إنك يا أماه ستفخرين كل الفخر عندما أعود إليك مرفوع الرأس عقب الانتصار النهائي على (بن صهيون) وأقص عليك تفاصيل المعارك التي خضناها، وسيرة الأبطال الذين اشتركوا معي في هذا الجهاد المقدس). ثم سالت من عيني سعيد قطرات من الدموع مسحها براحتيه، والتفت إلى زملائه الذين أحسوا مثل إحساسه وهو يقول: ولآن علينا أن ننتقم لمحمد. أليس كذلك أيها الأصدقاء؟ فأجابه الجميع في صوت واحد: نعم يا سعيد! سننتقم له أشد الانتقام!

قال من نقل إلى هذا الحديث - وهو ممن خاض جميع المعارك مع هذه الكتيبة، قبل أن تزحف الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، وكان ضابطاً في الجيش برتبة الملازم الأول، فترك وظيفته وتطوع في جيش الإنقاذ - استرحنا يومين كاملين، تم فيهما استعدادنا، وعادت إلينا حيويتنا، ثم قمنا بهجوم خاطف عنيف على مراكز العدو في تلك البقعة، واشترك معنا سعيد، وأبلى فيه بلاء حسناً، واستشهد وهو ينزل العلم الصهيوني ليرفع مكانه العلم العربي فوق برج المستعمرة.

واحتفلنا بجنازته احتفالا رهيباً، ودفناه بجوار (محمد القائد البطل) ووضعنا بجوار قبريهما حجراً كبيراً خططنا عليه تاريخ استشهادهما في الهجومين المتوالين، ليذكر الذين يزورون الأراضي المقدسة تلك الأعمال الحربية العظيمة التي قامت بها الكتائب المتطوعة في تنظيف فلسطين من الوباء الصهيوني.

والآمال كبيرة في الجيوش النظامية ألا تدع صهيونياً واحداً يتنفس هواء تلك البقاع الطاهرة التي روتها دماء المجاهدين الأحرار.

ثم انحدرت على وجه صديقي (صدقي) دمعة كبيرة وهو يستنزل الرحمة لزملائه الأبطال.

وهبي إسماعيل حقي

عضو البعثة الألبانية بالأزهر

ص: 57