الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 818
- بتاريخ: 07 - 03 - 1949
عودة الأبطال
اليوم يعود أبطال الفلوجة إلى أحضان الوطن المنجب الحاني، فيلقاهم لقاء المعجب المزهو، وفي يمناه أكاليل الغار للجباه المرفوعة، وفي يسراه أوسمة الفخار للصدور الجريئة. ثم يقبل بلبه على حماة العز وأباة الذل وسقاة المنون ويقول لهم بألسنة الجموع الوافدة من كل إقليم، الحاشدة في كل طريق، الهاتفة في كل مكان: مرحى! مرحى! لله غرس زكا ونشأ كرم وشباب عز! لا تزال مصر كنانة الله مادام ثراها طيبا ينبت هذه الأجساد، ونيلها ظهورا ينشئ هذه الأرواح، وجوها صافيا يبدع هذه الشمائل!
كانت هذه البطولة المثلية النادرة لجيش الوادي مكظومة في نفوسه الكبيرة، لا تجدها متنفسا ولا مفِيضا من سوء الحال ومكر الاحتلال حتى ظنت به الظنون، وطارت حوله الريب، وقال المرجفون من ذئاب الاستعمار وأذناب المستعمر: إن مصر كالحسناء المشتهاة، جمالها يغرى بها ولا يدفع عنها. فلابد لها من زوج قادر يضمن لها المصير، ويذود عنها المغير. وأوهموا الناس أن جنودنا دمى للزينة، وأسلحتنا لعب اللهو. وساعدهم على هذا الإفك حكومات كنواطير الكرمة أقامها الثعلب ليخدع بها غيره. ثم أخذ يعبث في العنب ولا يخاف، ويجأر بالضباح ولا يبالي! حتى أراد الله للسر المكنون أن يذيع، وللكنز المدفون أن يظهر، فقيض لهما رجل الأمة النقراشي. وحانت محنة فلسطين، فألفى الرجل العظيم في وطيس الحرب بالجوهر الأصيل والمعدن الحر، فثبت على النار كما يثبت الذهب المصفى على المحك.
فلله يوم ذوَّب الغشَّ نارُه
…
فلم يبق ألا صارم أو ضُبارم
تقطعَ مالا يقطع الدرع والقنا
…
وفرَّ من الأبطال من لا يصادم
وبقي المعدن المصري وحده في البوتقة! وقال الغريب: إنها فرصة تبعث بيني وبين مصر المعاهدة المقبورة. وقال القريب: إنها محنة تكفكف قليلا من غلواء مصر المغرورة! وقال جيش الفاروق: لا هي فرصة، ولا هي محنة، وإنما هي نشيد جديد من ملحمة البطولة التي لا تزال تنظمها مصر. ووقف من قواد روسيا وجنود صهيون وأسلحة أوربا وممالأة أمريكا ومخادعة إنكلترا، موقفه الخالد، فيخيب آمال العدو، وكذب ظنون الصديق!
وكانت الفلوجة بؤرة النار وقطب المحنة: احتشدت لها جموع اليهودية وأوربا الشرقية مدربة مجهزة، وأحدقت بها قواها البرية والجوية مجمعة مركزة، وتفجرت عليها قذائف
الجحيم من جهاتها الخمس أربعة أشهر وأثني عشر يوما لم يهادن فيها صهيون المحنق المغيظ ألا ليجدد ما دمر من عتاده، أو ليدفن ما قتل من أوغاد. وظاهر المحاصرين على المحاصرين اشتداد البرد ونفاد القوت ونقص الذخيرة وانقطاع المدد وإغواء العدو. فلو أن قائد الفلوجة سلم على هذه الحال لقواد الروس، لوسعه من العذر ما وسع قائد باريس حين سلم لقواد الألمان، وقائد برلين حين سلم لقواد الحلفاء.
ولكن أسد العرين كان أعرف بأشباله وأبصر بواجبه وأشعر بتبعاته؛ فوقف موقفه الذي قلت في تواريخ الأمم نظائره، ثم أخذ يطلق المنايا على قطعان المحاصرين كلما هاجموه فيجعلهم حصيدا يحجب وجه الثري، ويتخم بطن الأرض!
وهكذا اختار الله سيد طه وأركان حربه وسائر جنده ليكونوا حجة لمصر على أن صبرها لا ينفذ، وعزمها لا يخور، وجيشها لا يقهر!
لقد طلبوا الموت فوجدوا الحياة، وابتغوا الشهادة فظفروا بالمجد، وحاربوا جنودا فانتصروا أبطالا، ودخل الفلوجة وهي نكرة من نكرات فلسطين، ثم خرجوا منها وهي معرفة من معارف العالم!
أحمد حسن الزيات
الكنيسة والدولة في ضل الشيوعية
للأستاذ عمر حليق
اتجه رأس الحرية السوفيتية إلى المعقل الرئيسي الذي تتركز فيه المعارضة الراسخة المنظمة للفكرة الماركسية والدعوة الشيوعية والتوسع السوفيتي. هذا المعقل هو الكنيسة الكاثوليكية وهي نظام عالمي ثابت الأركان متحد الولاء في مركزية بابوية تعمل في تؤدة وخبرة ودقة طالما اشتهرت بها هذه الرهبانيات الكاثوليكية التي تحمل تراث عشرات القرون من النشاط الديني، وهو في المجتمعات الكاثوليكية مزيج من شؤون الدنيا والدين لا يقتصر على ناحية معينة في المجتمع الذي يعيش في وسطه ولكنه يسعى متعمدا لأن تكون له اليد الطولى في التوجيه الشعبي عن طريق المدارس والسنة الرأي العام والكلمة النافذة في التوجيه الحكومي في الشؤون الداخلية والخارجية بواسطة التكتل الكاثوليكي في الحياة السياسية. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية في يوم من الأيام قاصرة عن تمويل هذا النشاط المحكم لأنها - كما قلت نظام على موفور الموارد يتساند في الملمات ليسعف الأجنحة المهيضة في هيكله الضخم وهو يضم رعية تبلغ حوالي 400 مليون من مسيحي العالم
فلا غرابة أذن أن تثير محاكمة الكاردينال ميدزنتي هذه الضجة العنيفة لا في العالم الكاثوليكي فحسب، وله حوالي ثلثي الأصوات في الأمم المتحدة، بل كذلك في الثقافات التي بينها وبين الكاثوليكية في صراع تقليدي عنيف كالبورتستانتية الأنجلوسكسونية والأسكندنافية. ذلك لأن التحدي السوفيتي لا يقتصر على الكنيسة الكاثوليكية في محاربتة للقيم الدينية. وإنما هدفه هذه القيم نفسها في أي مذهب كانت، لأنها في مفهوم الشيوعية:(أفيون الشعب).
ولموسكو طرق متنوعة في صراعها في النظم الدينية. ففي التحاد السوفيتي نفسها، لم تجده الثورة الشيوعية في مستهلها (1917) صعوبة في القضاء على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فقد كانت عناصر التفكك في المجتمع القيصري تشمل الكنيسة، فضلا عن أن الكنيسة الأرثوذكسية ليست عالية وليس لها طبيعة الرسوخ والنفوذ الدولي الذي يمتع به الفاتيكان. ولما تمكنت العقيدة الماركسية في نفوس الجيل الجديد في الاتحاد السوفيتي. لم يجد (البوليت بيريد) في موسكو بأسا من أن يعاد تأليف الكنيسة الأرثوذكسية في كيان
صوري يعالج مشاكل الجيل البائد من الأرثوذكسي الروسي بالإضافة إلى أن هذه الخطوة جاءت في مستهل التوسع السوفيتي الإقليمي مما صبغها بطابع من الدعاية لم يخف على أحد.
أما حالة الثلاثين مليونا من المسلمين في روسيا السوفيتية فغامضة يحط بها ستار من الكتمان لم يحاول الأزهر - وهو السلطة العليا في الإسلام - أن يعترف مبلغ بؤسها. فالاتصال الروحي والفكري والجغرافي مع هذه المناطق الإسلامية في القارة الروسية منقطع. وقد بعثت موسكو نماذج من المسلمين الروس إلى الحج على سبيل الدعاية ولكنها أقلعت عن ذلك. ولم يسمع للمسلمين الروسيين صوت المأساة التي ألمت ببيت المقدس. وفي تقرير نشرته جماعة من المسلمين القوقازيين المشردين في معسكرات اللاجئين الأوروبية أن النسبة الكبرى من قتلى الجيش الأحمر في معارك الشتاء الجهنمية (1943) ضد الجبار النازي كانت من مسلمي القوقاز وتركستان والمناطق السوفيتية الإسلامية الأخرى في شرقي آسيا وأوسطها. فقد قدم السوفيت زهرة الشباب الروسي المسلم طعما لآلة الحرب السوفيتية في مستهل الهجوم العنيف الذي طوح بحملة هتلر، وكانت هذه أكبر تضحية في الأنفس التي قدمها الروس في الحرب المنصرمة.
على كل حال فإن ظروف الإسلام ليست خيرا من ظروف المسيحية في منطقة النفوذ الشيوعي في أوربا وآسيا.
وتنفرد اليهودية بحرية العمل في تلك المنطقة. فاليهود وحدهم محظيو السوفيت، ولهم حرية النشاط المذهبي والسياسي (كالصهيونية) والتنقل من روسيا وشرقي أوربا إلى أي مكان شاءوا خارج ما يسميه الغربيون (الستار الحديدي). وأرقام الوكالة اليهودية لسنة 1947 تشير إلى أن 89 بالمائة من يهود فلسطين هم من السلافين.
أما الكاثوليك في الاتحاد السوفيتي نفسه فقلة ضئيلة لا تتجاوز بضعة آلاف. ولكن الصراع بين الكومنفروم (الشيوعية العالمية) والفاتيكان يزداد حد يوما عن يوم في الدول الكاثوليكية التي يسطر عليها الشيوعيون إما بالغزو المسلح أو بموجب معاهدات بوتسدام وبالطا، أما بواسطة الانقلاب الثور ي كما حدث في تشيكوسلوفاكيا والدول الكاثوليكية في المعسكر السوفيتي هي:
مجموع سكانها
عدد الكاثوليك
بولندة
24 مليون
22 مليوناً
تشيكوسلوفاكيا
12 12 مليونا
12 8 ملايين
المجر - هنغاريا
9 ملويين
7 ملايين
وهناك أقليات في رومانيا وبلغاريا لا تبلغ هذه النسبة المرتفعة
والطرق العملية التي تلجأ إليها الشيوعية لمحاربة الكنيسة في هذه الدول تختلف في بعض أوجه التنفيذ؛ ولكنها تتحد في مبلغ العداء والتحدي. وهذا باعتراف ستألين حين قال في أحد خطبه:
إن الحزب (الحزب الشيوعي الروسي) لا يستطيع أن يقف على الحياد إزاء العقيدة الدينية، وأنه يشن حملة على الدين وعلى كل أنواع التحامل المذهبي، فهذه هي افضل وسيلة لتقويض النفوذ الذي يمارسه رجال الكهنوت وينصرون (الطبقات الاستغلالية).
فلم يفعل الشيعيون في بولندة ضد الكنيسة الكاثوليكية ما فعلوه في روسيا ورومانيا مثلا حيث قيد نشاط الكنيسة الكاثوليكية في التوجه الشعبي والحكومي وجردت من صلاحيات التعليم والتوجيه السياسي وجعلت دائرة حكومية مقيدة بالتعليمات شأنها شأن الدوائر الحكومية الأخرى في الناحية العملية إن لم يكن في المظهر الخارجي. ثم حملت الأهلية الكاثوليكية على اعتناق الأرثوذكسية والتخلص من الولاء للفاتيكان هذا على الأقل ما تردده مصادر الحلفاء من أنباء شرقي أوربا.
أما بولندة حي للكاثوليكية رسوخ متين في الأكثرية الساحقة من السكان. فقد أحجم النظام الشيوعي القائم هناك عن الإمعان في سياسة القمع والعنف مع الكنيسة الكاثوليكية، فقد أبقى لها بعض الحرية والنفوذ في التعليم والنشاط الاجتماعي، إلا أنه قيدها في المجال السياسي بمشروع السنة الماضية يسلخ عنها ممتلكاتها الواسعة مما جعلها تعجز عن القيام بمصاريف التعليم والمعاهد الخيرية محاولا بذلك إبعاد الشقة بينها وبين القوى الشعبية المؤازرة لها المتحمسة للدفاع عنها. وحين انتصرت القيادة الكاثوليكية العالمية في الفاتيكان الكنيسة بولندة وضع الشيوعيون العراقيل في وجه هذه المساعدة وترك هذا الجناح المهيض من العالم الكاثوليكي يعيش على تبرعات المزارعين البولنديين في بلد يوجه الاقتصاد فيه نحو الماركسية الشاملة مما يجعل مبلغ العون الشعبي للمؤسسات الحديثة شحيحا ضئيلا مما سيؤدي إلى تقليد نشاطها التقليدي.
وفي تشيكوسلوفاكيا اتخذت الكنيسة الكاثوليكية موقفا سلبيا في النظام الشيوعي الذي استولى على الحكم، ولكن كاثوليك تشيكوسلوفاكيا كما ليس خيرا من إخوانهم في بولندة.
أما في هنغاريا، فقد كان التحدي في أعنف مظاهره في بلد أكثر من ثلثي سكانه من اتباع الكاثوليكية، فقد صادرت الدولة الشيوعية أموال الكنيسة عملا بقوانين توزيع الأراضي على صغار المزارعين ولم تترك الدولة لمؤسسات الكنيسة الخيرية سوى مخصصات تافه، وحددت نسبة المعلمين من الرهبان في المدارس الأولية والثانوية التابعة للكنيسة، ومنعت التعليم الديني إجمالا في مدارس الدولة والمعاهد الأهلية. وقد حمل الكاردينال مندزنتي وكيل البابوية في بودابست لواء التحدي لهذه الإجراءات مما أدى إلى محاكمته على النحو الذي تناقلته الأنباء.
والاتهامات التي عزيت إلى الكاردينال الهنغاري أربعة:
1 -
تعاونه مع الأواسط الأجنبية (الفاتيكان وسفارة أمريكا) ضد الحكومة الهنغارية.
2 -
رياسته لمنظمة تسمى لقلب نظام الحكم.
3 -
متاجرة بالعملة الأجنبية (لعلها المساعدة التي يتلقاها من الفاتيكان).
4 -
عداوته لليهود. فالعنصر اليهودي في النظام الشيوعي القائم في هنغاري وفي كل مكان واسع النفوذ متمكن في مراكز التوجيه.
وهذه الاتهامات في حد ذاتها تظهر طبيعة الدفاع الذي تهيئه الكنيسة الكاثوليكية ضد التحدي الشيوعي.
فالفاتيكان لا يترك أجنحة المهيضة في منطقة النفوذ الشيوعي تصارع منفردة، وإنما يقدم لها المعونة المادية والمعنوية بواسطة المبعوثين الدبلوماسيين للدول الغربية في عواصم الحكومات الشيوعية. ويبدو أن الولايات المتحدة بحكم المصلحة هي رسول الفاتيكان لاتباعه في المنطقة الشيوعية.
وهذه الاتهامات كذلك تدل على أن الكنيسة الكاثوليكية في صراعها مع الشيوعية لا تقتصر على التربية الدينية، فهي ترعى منظمات سياسية دنيوية الوسائل كعصبة العمل الكاثوليكي التي أنشأها البابا بنديكت الخامس عشر قبل ثلاثين عاما، وهي شبكة من الهيئات الشعبية تجند القوى الشعبية لنصرة الكنيسة وتتكلم باسمها في الشؤون المدنية، وهي مرتبطة مع بعضها على يد الفاتيكان وإدارته المركزية في دقة وأحكام.
وقد شعرت الكنيسة الكاثوليكية بخطورة التكتل العمالي واحتكار اليساريين لهذا التكتل فشرعت تنافسهم، ففي كل مجتمع كاثوليكي نقابات للعمال الكاثوليك توحي إلى الطبقات العامة أن الكنيسة نصيرة للعمال، وان نصرتها لا تقتصر على الخلاص الروحي، بل تتناول كذلك الإنعاش المادي عن يد التنظيم العمالي وما يستلزمه من ضمانات اقتصادية واجتماعية، وهذا النشاط يكون خارج سيطرة الكنيسة المباشرة، ألا أنه يعمل بإيحائها وينال بركتها ويلبي دعوتها عند الحاجة.
أما موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود في صراعهم مع الشيوعية الدولية، فهو غامض ودقيق، فمن التهم الموجهة إلى الكاردينال الهنغاري تهمة التحريض على اليهود. وقد حوكم من قبله عدد من الرهبان الكاثوليك في بولندة ورومانيا بنفس التهمة. والعداء لليهودية العالمية يقرأ بين السطور في المنشورات والصحف الكاثوليكية، ومع ذلك فلا يتخذ هذا العداء على خطورته طابع التحدي العلني (وقضية العدوان الصهيوني على الأماكن المقدسة اقرب مثل على ذلك)، وذلك لأسباب عدة، منها أن تسرب النفوذ اليهودي إلى ألسنة الرأي العام الدولي يجعل الكنيسة الكاثوليكية تتفادى أثار غضبه، وخصوصا في الدول الانجلوسكسونية لئلا تتهم حملتها (أي الكنيسة) على الشيوعية بالعداء المذهبي والعنصري،
وهو (وباء) أحاطته اليهودية العالمية بحاجز من الأشواك الفكرية، فأصبح وصمة يهدد بها في الحضارة المسيحية المعاصرة كل من حدثته نفسه بالكشف عن خفايا الأجرام اليهودي في مجاله العالمي.
وقد وجد الكاثوليك أنفسهم في العالم البروتستانتي مرغمين على إسقاط هذه الناحية اليهودية في صراعهم مع الشيوعية الدولية لئلا يمعن النفوذ اليهودي القوي في ألسنة الرأي العام في إثارة الوقيعة التقليدية بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وقد ظهرت بوادر هذه الوقيعة من جديد في تصريحات بعض القساوسة البروتستانت الأمريكان في تعليقاتهم على محاكمة الكاردينال الهنغاري، وكادت هذه النزعة تتسع لولا أن أقدمت حكومة شيوعية أخرى هي بلغاريا على اعتقال 15 قسيسا بروتستانتيا، فقضت بذلك على أحداث المستنكرين البروتستانت للضجة الكاثوليكية.
وقد استفادت القيادة العسكرية الغربية من حدة هذا الصراع الديني الشيوعية والدين لتكسب لها عونا أدبيا في البرنامج الحربي الهائل الذي يعده الآن المعسكر الغربي للمعركة الفاصلة.
(نيويورك)
عمر حليق
معهد الشؤون العربية الأمريكية
-
على رمال أحد
الفدائية الأولى
للسيد عمر الخطيب
(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المج الكبرى ورسمت حدود عالم إسلامي واسع).
- 1 -
خرج محمد يستقبل وفد (يثرب) وقد بدت على وجهه متاعب ما يكابد من عنت وأذى، ومعاندة واستهتار، من هذه العصبة الفاجرة من قريش، التي ألبت عليه القبائل، وأغرت به الصبيان والسفهاء، ودفعت إلى هجوه الشعراء، ينعتونه تارة بالكاهن والساحر، وطورا بالمجنون والشاعر، وهو صابر على أذاهم راض بقضاء الله فيه، يتسع قلبه الكبير لهذه المكاره كلها، وتطوى نفسه العظيمة هذا العبث الذميم، فهو يمشي على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا أسمعه السفهاء شتما والصبيان رجما رفع يده إلى السماء وقال (ربي أهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وحين لمح صلى الله عليه وسلم الوفد اليثربي الكبير، أختفت من وجه سحابة الألم، واستقبله باسما مرحبا، وجلس يحدثه عن عودته، ويبين له مبادئ رسالته، ويحثه على الصبر والشجاعة والتضحية، ويعلن لهم أن شريعته لا ترضى بالظلم والعبودية، ولا تقر الشرك والأوثان، وتنفر من البغي والعدوان. . . فإذا بالوفد يخشع، وبالعيون تدمع، وبالقلوب تجب، وبالنفوس تصفوا، وبالأرواح تصفق، فيتقدم الوفد اليثربي من الرسول مصافحا معاهدا، يبايعه على أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يأمر بالمعروف، ويسعى في الخير، ويدعو الله ويضحي في سبيله بالمال والنفس. . .
وتقدمت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك امرأة رزان، تمشي استحياء، ويكسوا محياها خفر المؤمنة التقية، وصبر الأم الحنون، وجلال من تملكت الخشية قلبه، وبسالة من باع في سبيل الله روحه. . . تقدمت تعاهد محمداً إلى الأيمان والتضحية والأقدام. . . فبارك صلى عليه وسلم عهدها، ودعا لها، وأمرها أن تكون رسولا إلى لداتها وأترابها،
تدعوهن إلى الأيمان، وتغدوهن بلبان الإسلام، حتى تجلى نفوسهن، وتطهر قلوبهن، وتسمو مكانتهن، وينلن حقوقهن. . .
- 2 -
بينا (أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية) تنتقل من دار إلى دار، مبشرة الإسلام، داعية إليه نساء العرب، تمحضهن النصيحة، وتزف إليهن البشرى، وتحثهن على الخير والمعروف. . . وإذا بصوت النفير ينساب من جوانب المدينة، ويصل إلى أذنها ضئيلا خافتا، فيفزع فؤادها، ويهز جوانب نفسها فتخف مسرعة إلى بيتها، لتعرف الخبر من أهلها فإذا بها تفاجأ برهط من الصحابة مقبلين، وقد لبسوا دروعهم، وتقلدوا سلاحهم، فعلمت (أم عمارة) أنها الحرب، فانبلجت أسارير جبينها، واستيقظت مشاعر فؤادها. . . وأغذت السير حتى دخلت دارها، فألفت ابنيها وزوجها يجلون سيوفهم، ويصلحون لأماتهم، ويسرجون جيادهم، فانفجرت ثناياها عن ابتسامة الرضى والفرح، وأقبلت على أبنيها لتعانقهما وتقبلهما قبلت الوداع. . . وهنا صاح بها هاتف من ضميرها الحي المؤمن أن أذهبي يا أم عمارة مع الرسول في غزوته، تضمدين الجرحى، وتعدين السقاء، وتصلحين من شأن المجاهدين. . فلم تشعر إلا وقد انصرفت عن ابنيها، وراحت تعدو نحو المجد، لتلقى إلى الرسول بدخيلة نفسها، وأمينة فؤادها، لعله يسمح لها فتنال الشهادة في سبيل الله؛ وتضع في بناء الإسلام لبنة المرأة الشهيدة (والفدائية الأولى). . .
أذن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لأم عمارة بالخروج لغزوة (أحد) مع زوجها وابنيها، فرجعت فرحة جذلة، يرقص فؤادها طربا، وتزغرد روحها سرورا، وأعدت للخروج عدته، فجمعت العصائب، وأصلحت المراشف، وخرجت تمني النفس بالشهادة، وترنو إلى الجنة، وترقب من وراء هذا النقع الثائر النصر المبين.
- 3 -
شمرت الحرب عن ساقها، وحمى الوطيس، واحمرت الأحداق، ولم يمض غير قليل حتى التحم الفريقان: جيش محمد وجيش أبي سفيان، فجلجلت المساء بالتكبير، وصدق فرسان الإسلام الحملة، وأعملوا في رقاب المشركين السيوف، وثبتوا ثباتا انخلعت له قلوب
أعدائهم، وتزلزلت قواهم، ووهنت عزائمهم وإذا بهم يلوذون بالفرار، أمام هذه الوثبات الجبارة من هذه الأسود المؤمنة. وظن المرابطون على الجبل أن المعركة قد انتهت، فانصرفوا إلى الغنائم، وكانت هذه فرصة لجيش قريش، فكر راجعا وعزم على أن يمحو الإسلام، ويبطش بمحمد، واستمات المشركون في الهجوم، وعللوا أنفسهم بالحياة بعد الموت، وبالنصر بعد الاندحار. . .
رأت أم عمارة كتيبة من الأبطال المغاوير الثابتين حول محمد يردون عنه، ويقاتلون دونه، وقد آلوا أن يفدوه بأرواحهم، ويموتوا أمامهم عن أمامه عن أخرهم، فثارت فيه حميت الإسلام، وأيقنت أنها ساعات فاصلة في تاريخ هذا الدين، وتمثلت أمامه الجنة الوارفة الظلال بسبيلها ونعيمها وخلودها، ورأت أن ليس بينها وبين الجنة وما أعد الله فيها للشهداء إلا أن تجود بهذه الروح، وتهرب من هذه الدنيا. . . وذهبت تطوف بخيالها في جوانب هذا العالم المنشود، وتمتع الروح بهذه الأماني العذبة، والآمال العطرة. . . ولم يردها إلى الواقع التي هي فيه إلا صياح القريب ترامي إلى أذنها، وصوت قوي يقول (دلوني على محمد لا نجوت إن نجا). فنظرت أم عمارة فإذا (بابن قميئة) يعدو والسيف بيده قاصدا رسول الله، فأظلمت الدنيا في وجهها، وربت ربوة شديدة، وزأرت زئير اللبؤة ديس عرينها، وانتضت حسامها البتار، وأقبلت تعترض طريق أبن قميئة. . . وتستقبل ضرباته بصدرها وكتفيها، حتى ردت هذا الوحش الهائج عن محمد، وأكرهته على الفرار حتى ليقول الرسول صلوات الله عليه (ما ألتفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
ورأت أم عمارة ابنها، وفي ذراعه جرح ينزف الدم فأقبلت نحوه تعصب جرحه وتضمده، ثم تحفز إلى العمل، وتلقى عليه دروس الصبر والبطولة فتقول:(قم يا بني فضارب القوم وجاهد في سبيل الله. . .) فيقوم الفتى الباسل، ترب الشجاعة، ولدة الإقدام، ويمشي نحو سيف ملقى بجانبه، ليعاود الكر والفر، ويقاتل في سبيل الله، وهنا تند من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فيرى هذا المشهد المؤثر فيمتلئ قلبه إكبارا وحبا ويقول:(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟) ويلتفت عن يمينه فيرى رجلا مقبلا يخب في سيره، ويلتفت يمنه ويسره فيقول الرسول:(يا أم عمارة هذا الذي ضرب ابنك) وما إن سمعت أم عمارة نداء الرسول حتى أهتز كيانها، ووثب جنانها، وأسرعت تعترض طريقه، وقد آلت أن تثأر
لابنها ولإخوانه الذين جرحوا واستشهدوا في سبيل الإسلام، ثم شهرت في وجه سيفها وضربت به ساقه وصدره، فوقع قتيلا يتخبط بدمه. . .
ورأى رسول الله هذه البطلة تثار لابنها، وتقتص من جرحه فتملكه إعجاب شديد، وأبتسم حتى بدت نواجذه وقال لها:(استقدمت يا أم عمارة، الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك من عدوك واراك ثأرك بعينك).
ولم تكد أم عمارة تجهز على فريستها، وتمسح حد سيفها، وتلقى به في غمده، حتى سمعت تصايحاً، ولمحت غباراً، ونظرت فإذا بها ترى ثلة من مشركي قريش، قادمين نحو محمد، وفي عيونهم حنق وشر يريدون قتل الرسول واستئصال المدافعين عنه فتحسست مقبض سيفها، ثم سلته من غمده وعلمت أن حديثه لم ينته، وأن لسانه لم يسكت، وانه مازال به شوق إلى الدم، وشغف بأعناق المشركين فاستلته وصاحت (الله أكبر الله أكبر) وهمت أن تعدو نحوهم. . . لتؤدبهم مرة أخرى، وترجع برأس قائدهم الطاغية، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مولياً ومعه ترس فصاح به:(ألقي ترسك إلى من تقاتل). فألقى الرجل ترسه وتناولته أم عمارة ونهدت إلى المشركين، وهنا أقبل عليها فاستقبلت ضربته بالترس، وأهوت بضربة قوية على عرقوب فرسه فوقع على ظهره، يفحص بقدميه: وخشي الرسول أن ينهض هذا العاثر فيقتل أم عمارة فصاح يأبنها (يا أبن أم عمارة، أمك أمك فعاونها) فانتضى الفتى سيفه وتقدم من الفارس العاثر وعاون أمه في القضاء عليه ولم يتركاه إلا جثة هامدة. . .
- 4 -
انصرف (ابن قميئة) إلى صحبة بعد أن ردته أم عمارة خاسئا ذليلا، يحمسهم، ويقسم عليهم باللات والعزى، أن يقتلوا محمداً ويستأصلوا دعوته، ويبيدوا صحابته، وينصروا آلتهم. . . ومازال بهم حتى أثار حفائظهم، وأذكى قلوبهم وأحمى دمائهم فقاموا يقصدون محمداً. . .
ورأت أم عمارة أبن قميئة مقبلا قد عاد ثانية مع أصحابه بعد أن ردته على أعقابه خاسراً، فعلمت أنه قد بيت أمراً وأراد شراً فلم تجزع ولم تجبن، بل تطلعت نحو السماء، تستلهم العون والقوة؛ وتقدمت تدافع عن الرسول، فتجندل الفرسان، وتصرع الشجعان، وتتلقى الضربات ثابتة الجنان، صابرة راضية مطمئنة حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا، ولم ترجع
إلا ومرفوعة الهامة، موفورة الكرامة، قد ردت مع إخوانها عدوان المشركين ودافعت عن قائدها العظيم. . . والرسول الأمين. . .
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء تتدفق من جراحها فصاح بابنها (أمك أمك. اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وقلان. . .) وسمعت أم عمارة رسول الله يثني عليها هذا الثناء ويطري عملها ويبارك جهادها، فطابت نفسها، وقرت عينها وقالت (يا رسول الله، ادع الله أن نرافقك في الجنة) ثم تركت لدموعها الحديث. وهنا رفع محمد يديه إلى السماء وقد اخضلت لحيته بالدموع وقال: (اللهم أجعلهم رفاقي في الجنة) فقالت أم عمارة: (ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد هذا الدعاء) ثم ألقت رأسها في حجر ابنها، ونامت متأثرة بجراحها، فخورة بجهادها، وقد اطمئن ضميرها، وقر فؤادها. . . ثم أرخى الليل جناحه، وغمر المدينة بظلام وسكون. . .
- 5 -
نظرت (أم عمارة) وكان لا يزال رأسها في حجر أبنها فرأت الشمس ساطعة، والنهار مشرقا، وسمعت المنادي يدعو إلى الجهاد والناس يسرعون في الاستعداد، والمدينة في حركة دائبة، وعمل مستمر فعاودها الحنين للقتال، وصاح بها هاتف من ضميرها مرة أخرى يقول:(إلى حم راء الأسد يا أم عمارة. . . إلى الثأر من المشركين إلى أعداء كلمة الله. . . ورفع منار الإسلام) فهبت واقفة وأرادت أن تخطو إلى الأمام لتحمل سيفها وتهاجر إلى الله وتجاهد في سبيله، ولكنها عجزت عن المسير، وأقعدتها الجروح الدامية فمكثت تبكي وتندب حظها العاثر، وتعلل النفس بالجهاد القريب تحت راية محمد، وانصرف أهلها يضمدون جروحها، ويخفون عنها، حتى اقبل الليل. . . فنامت دامية الجسد حسيرة الفؤاد. . .
القاهرة
عمر الخطيب
(فتى الفيحاء)
شعراء معاصرون
العاطفة الدينية في شعر محرم
للشيخ محمد رجب البيوتي
- 1 -
منذ انتقل إلى جوار ربه الشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد محرم وأنا أشعر بحماس يدفعني إلى الكتابة عن عاطفته الدينية، فقد قرأت الكثير من روائعه المبدعة، فلمست فيها روحا حية متوثبة، وكان للنغم الساحر الذي تردده قيثارة الشاعر روعة عجيبة، فهو يرتفع بالقارئ إلى أفق رحب فسيح ترفرف فيه أجنحة الفضيلة والعزة، ويذكره بما كان للأمة العربية في عهدها الغابر من مجد باذخ قامت دعائمه على البسالة والكرامة فيحرك العاطفة ويوقظ الشعور. . .
والحق أن دراسة محرم رحمة الله من ألزم اللوازم في عصر ماجن ما جن مستهتر، فقد عصفت برءوس بعض الشعراء قي الشرق والغرب فوازع خبيثة تدفعهم إلى الفوضى الخليقة والتحلل الإباحي، زاعمين أن الشاعر الحق هو الذي ينساب وراء غرائزه وميوله، وأن العبقرية توقع صاحبها في مزالق مريبة، بل إن منهم من يتعمد الوقوع في البغي ليكون أحد هؤلاء العباقرة المتحللين!! وكم جر الاستعمار الغاشم على أبناء الشرق فضائحه ومخازيه، فزين له الخبيث، وبغض إليهم الحسن الجميل!.
نشأ الشاعر في بيت ريفي متدين فقد كان والده حريصا على تثقيفه وتهذيبه، فأحظر له في دور الطفولة من قام بإرشاده وتوجيهه فحفظ القرآن الكريم ودرس النحو والعروض واللغة، وأكب على استظهار النصوص الأدبية، ففتحت أكمام شاعريته الغضة، وبدأ يتغنى بمقطوعات بدائية تبنى عن ملكة واستعداد، وقد اتجه بنوع خاص إلى الثقافة الدينية فقرأ الحديث الشريف، وطالع السيرة المطهرة ودرس التاريخ الإسلامي المجيد، ثم عكف على قراءة الصحف والمجلات فألم إلماما مفيدا بسياسة أمته ووطنه، وشاهد في معية صباه ما يدبره المستعمرون من مكايد خاتلة للعالم الإسلامي، فتأوه لمصباح الفادح، وأطلق لشاعريته العنان فتغنى بمجد الإسلام وحث على استرجاع ما فقده الشرق من عظمة شاهقة وجاه
عريض.
وإذا كنا نعتبر محرماً شاعر العاطفة الدينية في عصره دون منازع فأننا نتخذ منه دليلا يبطل ما زعمه الأصمعي من أن الشعر في جملته نكد صعب لا يسهل إلا في الشر، وتلك دعوى زائفة وجدت مكانها في العقول فحولت أنظار الشعراء عن الدعوة إلى المثل العليا، والتمدح بالأخلاق الدينية الرفيعة، وأنت تطالع الدواوين الشعرية فتجد ما قيل في المجون والخلاعة أضعاف ما قيل في التصوف والاحتشام وبديهي أن الشاعر المتمكن المطبوع يستطيع أن ينظم - بقوة إتقان - في شتى الأغراض التي تأخذ بمجامع قلبه، وتسيطر على خوالج نفسه، سواء كانت تتجه إلى الخير أو الشر، فالمدار على إذن قوة الشاعر وموهبته، ومن يستطيع نظم الرقائق الفاتنة في الليل الدامس، لا يعجزه أن يرسم الصور الساحرة للصباح الضئ، وهاهو ذا محرم قد أندفع وراء عاطفته اندفاعاً حميداً، فجاء شعره نموذجاً حسناً للشعر المثالي الرصين.
ونحن حين نشيد باتجاه محرم وجهة الخلق والدين، ولا نعني بذلك أنه عقد في ديوانه فصولا خاصة بالدعوة الإسلامية، ولكننا نؤكد أن عاطفته الدينية قد ارتسمت بوضوح في شتى الأغراض الشعرية التي تحدث عنها الشاعر الكبير، فأنت تقرأ مدائحه ومرائية واجتماعياته وسياساته فتجد كل بيت ينطق بإيمان قائله، ويحدد الهدف الخلقي الذي يدعو إليه في حرارة وإذا رزق الشاعر إيماناً فلابد أن يترسم في مرآة شعوه، فهو إذا جال في إحدى سبحانه سيطرت عليه عاطفته المخلصة فوجهته أكمل توجيه حتى يصل إلى المرفأ الأمين.
وكنت سألت من أثق بهم من خلطاء محرم ورفقائه عن حياته وأخلاقه فسررت بما عملت من مروءته ونبله، حيث كان يبذل ما يملك - على ضآلته - في معونة المستعين، كما يحافظ على فرائض العبادة من صلاة وصيام. ثم هو إلى ذلك صفوح متسامح لا يؤاخذ مسيئاً بنقيصة، ولا يميل إلى الجدال والثرثرة في غير طائل. ويمكننا أن نقول إنه اتخذ كتاب الله إما ما يأتمر بأوامره، ويجيد عن نواهيه، وإنه ليعلن ذلك في صراحة إذ يقول:
أقول لصاحبيّ - وعاهدني -
…
كتاب الله بينكما وبيني
فكونا صادقين ولا تخونا
…
فإن لنا لإحدى الحسنين
ولست ببائع نفسي وديني
…
ولو أتيت ملك المشرقين
لهذا سلطة ولتلك أخرى
…
فما بالي وبال السلطتين
سأملأ هذه الغبراء مجداً
…
وأترك أهلها صغر اليدين
على التاريخ بعد الموت حقي
…
وعند الله يوم الدين ديني
وقد أباح الشاعر لنفسه أن يتمدح بمروءته وتقواه، ولسنا نؤاخذه على ذلك فقد نشأ في عهد إباحي، وجد فيه من يتشدقون بآثامهم المخزية ويجاهرون بفضائحهم المندية، فإذا ألم بهم داع إلى الحق لووا رءوسهم ساخرين!! فلا مناص من أن يجاهر المهذب العف بشمائله، ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولقد صور الشاعر أخلاقه، وشرح عواطفه تشريحا صادقا حين:
من أيادي الله أني لم أخن
…
عهد الأوفى أروم المغنما
راودتني عصبة عن حقه
…
فأبى العرق الكريم المنتمى
عفة تقذف بي عن همة
…
تقذف النسر وترمي المزرما
لا أرى الغدر وأن جشمني
…
صرف دهر ظالم ما جشيما
مرحبا بالبؤس في أسبابه
…
عفة البأس عن أن يأنما
ما يريد الدهر من مستبسل
…
ما يهول الخطب إلا اقتحما
وسنوجز الحديث إيجازا، فنترك كلام الشاعر عن نفسه ونميل بشي من التحليل إلى بعض الأغراض التي جال في حلباتها جولات موفقه. وفي رأي أن قصائد محرم السياسية والاجتماعية والتاريخية تكفي الباحث المنصف في تكوين رأي صادق في عاطفته الإسلامية، ونبدأ بالحديث عن سياساته فنقول:
- 2 -
كان للخلافة العثمانية في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن ظل ينبسط على الدول العربية المتجاورة، ولئن تغلغل النفوذ النفوذ الاستعماري في شتى بقاع الشرق حقبا متوالية، فقد كان أبناء هذه الدول ينظرون إلى الخليفة العثمانية نظرة عالية، فيرون طاعته فرضا أكيداً يوحيه الإسلام وتملية العقيدة، ورغم ما أشتهر به عبد الحميد من العسف والجور والخروج عن شرعة الأنصاف فقد لهجة بمدحه كثيرا من الأدباء والشعراء، إذ
كانوا يصرفون النظر عن شخصه ويرون الخليفة فكرة رمزية تقيم العدل وتجدد معالم الدين، وقد تفانى محرم - جربا وراء عاطفته الدينية - في محبة الأتراك فمنح خلفائهم الود وهاجم أعدائهم بقذائفه الصائبة. وأنت تقرأ مديحه في السلطان العثماني فتجده ينظر إليه من نافذة العقيدة، فيذكره بمركزه الديني ومقامه الإسلامي ثم يدلف إلى تقديم نصائحه التقليدية فيحث على الوحدة القومية، وينادي بالجامعة الإسلامية، وكان للمعارك الحربية التي خاضها الجيش العثماني صدى تردد في نفس الشاعر، فسجل الوقائع اليونانية، وندد بمن يهددون (الرجل المريض) بالثورات الداخلية والفتن الخارجية، وقد اعتمد الشاعر على خياله البعيد، فبالغ في مديح الجنود الأتراك مبالغة تدعو إلى العجب، وكأنه أراد أن يقوى الروح المعنوية في الشعوب الإسلامية فجوف الحقائق تجويفا يناقضه الواقع، وهو بلا شك مشكور لغيرته وحميته، وإلا فهل كان الجيش التركي في رمقه الأخيرة كما قال فيه؟
لهم كل يوم غارة تصبح العدى
…
وأخرى تضئ الليل والليل فاحم
إذا نفروا لم ينفروا عن شمالها
…
ولم يصحروا عن سيلها وهو عارم
بنوها الألى لا يرهبون بها الردى
…
إذا اهتزمت في حافتيها الزمازم
إذا أقدموا لم يثنهم عن مغارهم
…
غداة الوغى أهوالها والمآزم
معمون فيها مخولون إذا اعتزوا
…
نمتهم قريش في الحفاظ وهاشم
أولئك أبطال الخلافة تحتمي
…
بأسيافهم أن داهمتها العظائم
هم المانعوها أن يقسم فيئها
…
وأن تستبي بيضاتها والمحارم
هم الناس لا ما تنكر العين من قذى
…
وتوشك أن تنشق منه الحيازم
وما الملك إلا ما أطالت وأثلت
…
طوال العوالي والرقاق والصوارم
ولقد ظل الشاعر على إخلاصه للدولة العثمانية، يمجد في أعلامها ويسهب في الثناء على مواقفها، وينذر الثوار الداخلين فيذكرهم بمسئوليتهم الفادحة أمام الله إذ يشعلون الفوضى بلا موجب، ويوقدون الفتنة في ربوع مضطربة تعصف بها الرياح الهوج.
وكم كان الألم لاذعاً في نفس محرم حين طوى بساط الخلافة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقد أفزعه اضطهاد الكماليين لرجل الفقه والتشريع، ونقا إليه ما ارتكبوه من غلو فاحش، حيث وأدوا العاطفة الدينية في وقت أصبح فيه القابض على دينية كالقابض على
الجمر. وأذكر أنه نظم في سقوط الخلافة ملحمة طويلة طبعت وحدها في كتاب مستقل، وكان يهمني أن أستشهد ببعض أبياتها الدامغة، لولا ضياعها من يدي. ولا أدل على حماس الشاعر للأتراك العثمانيين من قصيدته المؤثرة في رثاء والده، فقد نسى مصابه الشخصي، وغالبته العاطفة الدينية فترك الأنين والدموع وأندفع إلى الحديث القائم العثمانيين والإنجليز، ولك أن تقدر معي شعور مسلم غيور، هاجت عاطفته الدينية فأنسته ما وقع فيه من أسى قاتل، وحزن مرير.
هذا وسياسات محرم تتسم بطابعها الإسلامي فمدائحه في العزيز حث وتذكير بالآداب الخلقية، ورجوع بالأمة إلى ماضيها المجيدة؛ وقصائده في الحرب العالمية الأولى تنديد بالحضارة الغربية المتوحشة، وتصوير صادق للمسارح الدولية التي تراق فيها الدماء وتتناثر عليها الأشلاء. هذا إلى مقارنة معتدلة بالحضارة الإسلامية في عهدها الزاهر، وكيف كانت مناراً شع على العالم بضوئه الوهاج. وحين قامت الحرب الطرابلسية الإيطالية صرخ محرم صرخات مؤرقة، ولم يشأ أن يقصر شعره البربرية الإيطالية المتوحشة، فيكتفي برسم الفضائع الدامية التي أرتكبها المحتلون بالشعب الأعزل المستكين، بل غمره شعوره الديني في طوفان جارف صخاب، فتمثل البيت الحرام يرتجف رعبا بمكة، ويثرب ذات القبر الطهور تولول جازعة؛ استصرخ الغر الميامين من أبطال الإسلام، فتساءل عن علي بن أبي طالب، وتطلع على خيل الله يقدمها صاحب اللواء، وتذكر ابن الخطاب في فتوحاته الشاسعة وحن إلى المقاديم من فهر ومضر وقريش، أسمعه يقول:
أين ابن عم رسو الله يطفئها
…
حرباً على كبدي من نارها شرر
أين اللواء وخيل الله يبعثها
…
عمرو ويقدم في آثارها عمرو
أين المقاديم من فهر ومن مضر
…
ومن قريش وأين السادة الغرر
أين الملائكة الأبرار يقدمهم
…
جبريل يستبق الهيجا ويبتدر
أين الوقائع تهتز العروش لها
…
رُعباً وتنتفض التيجان والسرر
أين القياصر مقهورين لا صلفا
…
نآى بجانبهم عنا ولا صعر
أيطرب البيت أم تبكي جوانبه
…
حزنا ويقول فيه الركن والحجر
ويح الحجيج إذا حانت مناسكهم
…
ماذا يرى طائف منهم ومعتبرو
أين الحماة وقد ضاعت محارمنا
…
أين الكفاة وأين الذادة الغير
وهكذا كان التذكير بالماضي سلاحا سلا بائرا في قبضة الشاعر، والحق انه آتى أكله وأثمر في حينه فوثقت الأمم العربية بماضيها المجيد، بعد أن حاول الاستعمار الغاشم أن يبرزه في صورة نكراء.
وطبيعي أن يكون ندب الماضي االبهيج مقروناً بالتحسر على الحاضر الأليم؛ فالصورة الجميلة المشرقة لا تكمل لها أسباب الروعة إلا إذا قرنت بصورة دميمة بشعة، وحالة الشعوب الإسلامية قد بلغت من الهوان مبلغا يستدر الدموع، فكانت الشكوى من انحطاط الشرق ميدانا فسيحا تحول فيه الأقدام حتى ليجوز لنا أن نعتبره عنصراً هاماً من عناصر الشعر الحية في نهضتنا الحديثة. ومعلوم أن الشعور بالنقص هو الدافع الأول إلى الكمال والتقدم، فلا مناص إذن من الاعتراف بالواقع الأليم. وكم تضرع محرم إلى ربه راجيا أن يأخذ بيد أمته إلى طريق البر، وكم سهر الليالي الطويلة يتألم فيما خيم عليها من غواش حالكة؟ وكم وقف بين اليأس والأمل لا يدري أي يبتسم الدهر للشرق أم تكون الأخرى فيضل الكابوس الأوربي جاثما فوق صدور المسلمين؟ عواطف مشتجرة متناحرة خلقتها الروح المتوثبة في نفس الشاعر فصيرته في حيرة من أمره إذ يقول.
تفاقمت الخطوب فلا رجاء
…
وأخلفت الظنون فلا وثوق
تطالعنا السنون مروعات
…
ونحن إلى أهلتها نتوق
يمر العهد بعد العهد شراً
…
فأين الخير والسعد الأنيق
نوائب روّع التنزيل منها
…
وضج القبر والبيت العتيق
بنا من ضارب الحدثان مالا
…
يطيق مضاءه العضب الذليق
كأن جراحه في كل قلب
…
شفاء للمنية أو شدوق
رويد البوم والغربان فينا
…
أما يغني النعيب ولا النعيق
وردنا للنواعب لو عمينا
…
وسدت من مسامعنا الخروق
أمض قلوبنا داء دخيل
…
وهمّ في جوانحنا لصيق
وجف الريق حتى ود قوم
…
لو أن السم في اللهوات ريق
وبرح بالترائب مستطير
…
يعاوده التميز والشهيق
ولولا هذه الصيحات المدوية ما أستيقظ أهل الكهف في: الشرق. ولن ألفت القارئ إلى ما في الأبيات السالفة من سلاسة وعذوبة فهي يتم عما يترقرق فيها من جمال فاتن، وتشهد لقائها المطبوع بالجودة والافتنان.
ولقد كان الشاعر دارساً لدينه دراسة مستفيضة، ولم ينجح به هواء - وهو المسلم الغيور - إلى المغالاة والتعصب، بل كان يضع الأمور في نصابها وضعاً صحيحاً، فحين بذر (السيرغورست) بذور الشقائق بين المسلمين والأقباط، أدرك محرم مراميه الدنيئة، فهب يدعوا إلى التسامح الديني ويذكر العنصرين المتناصرين لمبادئ الإنجيل والقران، ويشيد بعظمة المسيح ومحمد، ويرجع القهقري إلى التاريخ المصري القديم فيصور مجد الفراعنة الزاهر، ويستشهد بالأهرام الشاهقة، والمعابد الماثلة، ويعرض لما كان بين عمر والمقوقس من عهود، ثم يهدف إلى المطامع الأوربية وما بيته الإنجليز لمصر من شر يعصف بالعزة ويمحق الكرامة. وقديما كان التسامح والتواد منهج القادة من المفكرين والمصلحين وبهذه الروح السامية تكشفت خبائث المحتلين وافتضح الثعلب الإنجليزي الماكر فأطرق برأسه إلى الأرض حين أبصر الهلال والصليب يتعانقان في محبة وسلام.
(البقية في العدد القادم)
محمد رحيب البيومي
المغامر العظيم
عن الإنجليزية
في فتن الجبال،
وعلى رؤوس الأمواج،
في منابع المياه،
وتحت قبور الأموات،
في غمرة الفيوض العميقة،
التي يطأطأ (نِبتُون) لها الرأس،
وفوق الصخور الوعرة الشُّم،
لن يعدم الحب أن يشق لنفسه طريقاً،
وحيث لا مكان للدودة تقر وسكن،
وحيث لا فضاء للذبابة ترن فيه وتهَوِّم،
حيث لا يجرؤ الفارس التَحْريم،
خوفاً على نفسه من التلف والبوار،
فإن الحب - إذا أقيل - مرق في سرعة،
ولم يعدم أن يشق لنفسه طريقاً،
قد تعدُّه طفلا إن نظرت إلى قُواه،
أو تعده جباناً لأنه يجنح إلى الفرار،
على أن تلك التي يَشرِّفُها،
لو اختبأت من ضوء النهار،
وأقامت على نفسها ألفاً من الحراس،
فلن يعدم الحب أن يشق لنفسه طريقاً،
تخلصاً منه يرى البعضُ يسجنه،
والبعض يحسبه - يا للمخلوق المسكين - أعمى،
ولكن أغلقوا عليه ما شئتم،
فان الحب الأعمى - كما يحلوا لكم أن تدعوه -
لن يعدم أن يشق لنفسه طريقاً،
قد ترضون النسر على أن يخضع لقبضاتكم،
أو لعلكم تصرفون كاهن الشرق عن دينه،
أو لعلكم تصرفون كاهن الشرق عن دينه،
بل ربما زحزحتم اللبؤة عن فريستها،
ولكنكم لن تستطيعوا أن تقفوا في وجه العاشق،
فإنه لن يعدم الحب أن يعشق لنفسه طريقاً.
السيد مصطفى غازي
ليسانس في الآداب من جامعة فاروق الأول
نصير الدين الطوسي
حامي الثقافة الإسلامية وتراث العرب الفكري إبان الغزو
المغولي
للأستاذ ضياء الدخيلي
مدرسته ومكتبته في مراغة، جهوده الخصبة في حقول علم الفلك في مرصده العظيم، شهادات كبار المستشرقين سيديو الفرنسي، نلينو الإيطالي وفليب وسارتون واسمث الأمريكيون.
ما يقوله فيه ابن العبري وأبن شاكر وابن كثير ودائرة المعارف الإسلامية وابن الوردي وابن قيم الجوزية.
قال داود اسمث الأمريكي في كتابه تاريخ الرياضيات ج1 ص 287. (وفي عصر انحطاط المعرفة في بلا الإسلام لا تجد في القرن الثالث عشر من يستحق أن نخصه بالذكر سوى المؤلف من إيران أنفق سنوات حياته الأخيرة في بغداد. ذلك هو النصير الدين محمد ابن محمد بن الحسن أبو جعفر وكان من سكان طوس في خراسان وعاش من 1201 حتى سنة 1274 وقد نبغ في علوم مختلفة وألف في علم المثلثات والفلك والحساب والهندسة وفي تركيب الإسطرلاب وكيفية استعماله).
فها أنت تجد اسمث يسجل إعجابه بالطوس وبالظاهرة التي لفتت إليه الأنظار وهي تبريره في علوم مختلفة وتأليفه فيها الكتب الخالدة. وقد فات اسمث علوم جليلة أخرى تفوق فيها الطوسي ومنها الفلسفة. فإن كتابه في شرح إشارات ابن سينا من أنفس الكتب كما شهد له بذلك ذوو الفضل، وأن دائرة المعارف الإسلامية قد اعترف له أيضاً بأنه كان علامة في مواضيع شتى وعلوم متباعدة الأغراض وأنه ألف فيها الروائع النفسية وقالت أنه ومعنى هذه الكلمة صاحب التآليف والتصانيف في مواد شتى، وقالت أنه يرجع الفضل في شهرته وذيوع صيته وراء الدوائر الشيعية لكتيبة وتتبعاته في العلوم الصحيحة من الطب والطبيعيات (الفيزياء) والرياضيات وعلى الأخص في علم الفلك والهيئة حيث نال الطوسي أكبر شهرة بأعماله العظيمة في حقل علم الفلك. وقد كان مدينا في حصوله على وسائل
تتبعاته الفلكية لشغف خانات المغول بفن التنجيم وعلى الأخص صاحبه هولاكو الذي رغبه في بناء مرصد كبير في مراغة جهزه جهز بأحسن الأدوات وبعضها أستبط وصنع لأول مرة وزوده بجماعة كبرى من الراصدين والمراقبين. وكان عمر الطوسي عندما ابتدأ ببناء الرصد 60 عاماً وقد بقى 12 سنة أخرى حتى أنجز وأتم عمله في حسا ب جداول جديدة للكوكب السيارة قامت على الأرصاد والمشاهدات الشاملة. وقد دون استنتاجاته في كتابه (الزيج الايلخاني) وتتناول المقالة الأولى بحث التواريخ، والثانية حركات السيارات، وخصصت المقالتان الثالثة والرابعة للأرصاد التنجيمية. ومن مؤلفاته الأخرى نذكر كتاب (التذكرة الناصرية) وفيها تخطيط وعرض لجميع ما في حقل علم الفلك وقد علق عليها العلماء المتأخر ون وشرحوها عدة شروح الخ (راجع في دائرة المعارف الإسلامية الجزء الرابع ص 890 من النسخة الإنجليزية).
وقال المستشرق الفرنسي العلامة سيديو في كتابه (تاريخ العرب العام) وكان سيديو أستاذ التاريخ في كلية سان لويس عضوا في مجلس الجمعية الآسيوية وفي اللجنة المركزية للجمعية الجغرافية في فرنسا وسكرتير كوليج دو فرانس الخ. . قال في (ص 410) واختلط تاريخ سلاطين آل سلجوق بأخبار الحروب الصليبية منذ القرن الثاني عشر فظلت العلوم في المشرق مغطاة طيلة هذه الحروب بغطاء لم يرفعه عنه أحد بعد.
وهذا لا يعني أن الدراسات الجدية هجرت فقد أبصرنا خان المغول هولاكو بجمع في بلاطه (عام 1259 م) علماء اشتهروا بمعارفهم الرياضية والفلكية وأشهر هؤلاء العلماء هو واضع الزيج الأبلخاني نصير الدين الطوسي. وقد وجد هذا العالم في نعم مولاه الجديد ما يشجعه فأقام مرصد مراغة وجمع بعناية ما هو منثور في خراسان وسورية وبغداد والموصل ومن المخطوطات. ولم يأل جهدا في إكمال الآلات التي يستعملها في إرصاده.
ومما صنعه أحداث ثقب في قبة المرصد تنفذ منه أشعة الشمس على وجه تعرف به درجات حركاتها اليومية ودقائقها وارتفاعها في مختلف فصول السنة وتعاقب الساعات: وهذا يعني تطبيقا جديدا للميل ذي الثقب الذي استعان به العرب منذ القرن العاشر. ومن هذا الميل وذات الحلق الكبرى التي تشابه آلة (نيخو براهة) وأرباع الدائرة المتحركة والكرات السماوية والأرضية وأنواع الإسطرلاب تتألف مجموعة آلات مهمة استعان بها
نصير الدين الطوسي.
قال (سيديو) وساعد نصير الدين في أعماله مؤيد الدين المرضي وفخر الدين الخلاطي التفليسي ونجم الدين بن دبيران القزويني وفخر الدين المراغي الموصلي ومحي الدين المغربي وغيرهم. فانجز في (12) سنة من الأعمال ما يتطلب (30) سنة على حسب الحسابات الأولى وعلمنا أنه اقتبس الزيج الحاكمي لابن يونس مع إدخال تعديلات مفيدة قليلة إليه ففتح دور إقبال كبير على المرصد ولخص على شاه البخاري والندام (كذا في أحياء الكتب العربية - ولعل الصواب هو النظام) ونجم الدين ابن اللبود ي - الزيج الأبلخاني، وصحح هذا الزيج غياث الدين جمشبد بن مسعود الكاشي؛ فكانه معول جميع المدارس الفلكية حتى ظهور ابن الشاطر الذي عد في سنة 1360 شيئا مما ارتضاه أسلافه في النتائج.
يقول (سيديو) آذن أعاد مغول بلاد فارس إلى المدارسة العربية بعض رونقها وترى من ناحية أخرى أن (كوبلاي خان) أخا (هولاكو خان) عندما أتم فتح الصين نقل إلى مملكة أبن السماء وسائل علماء بغداد والقاهرة.
ونلقى (كوشى كيننغ) في سنة 1280 م أزياج ابن يونس من جمال الدين الفارسي فدرسها دراسة دقيقة وإن عرض (غونيبل) لآثار (كوشي كينغ) لم يكن ليكتشف القناع عن أصلها. وعلى ذكر سيديو ابتكار الطوسي إحداث ثقب في قبة المرصد تنفذ منه أشعة الشمس على وجه تعرف به درجات حركاتها اليومية ودقائقها وارتفاعها في مختلف الفصول وتعاقب الساعات الخ - بهذه المناسبة نذكر للقارئ الكريم ما نقله ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774هـ في الجزء 13 من كتابه (البداية والنهاية) عن عظم قبة المرصد.
قال ص 267 (إن الخواجا نصير الدين هو الذي كان قد بنى المرصد بمراغة ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء وبنى فيه قبة عظيمة وجعل فيه كتابا كثيرة جدا).
وكان ابن العبري المتوفي سنة 1286م في مدينة مراغة من أعمال أذربيجان - قد انتقل اليها منذ برهة من الموصل، روى أخوه برصوما أنه لما فتشت التعديات في نواحي نينوى الح عليه في الانتقال إلى مراغة وكان هناكفي (مراغة) مكرماً من خاصة الناس وعامتهم
(وإذا عرفنا أن وفاة الطوسي رحمة الله - كانت عام 1274م علمنا أن ابن العبري توفي بعد الطوسي ب (12) سنة فهو إذن قد شاهد الحركة العلمية في مراغة).
وقد قال ص500 من تاريخه (وفي 675هـ توفي في الخواجا نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغه: وهو حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة واجتمع إليه في المرصد جماعة من الفضلاء والمهندسين وكان تحت حكمه جميع الأوقاف في جميع البلاد التي تحت حكم المغول وله تصانيف كثيرة: منطقيات وإلاهيات وأوقليدس ومجطسي وله كتاب أخلاق فارسي في غاية ما يكون من الحسن جمعه فيه نصوص أر سطو وأفلاطون في الحكمة العملية، وكان يقوي آراء المتقدمين ويحل شكوك المتأخرين والمؤاخذات التي أوردوا في مصنفاتهم ثم يذكر أعوانه على الرصد. وقد ذكر عن محي الدين المغربي ما نقله له من كيفية خلاصه من ذبح التتار له فقال: كان محي الدين المغربي مع الملك الناصر فلما أراد المغول أن يقتلوه وجماعته قال محي الدين لهم: إنني رجل أعرف علم السماء والكواكب والتنجيم ولي كلام أقوله لملك الأرض (يعني هولاكو) يقول أبن العبري - قال محي الدين المذكور لما اجتمعنا به في مدينة مراغة - أنني لما قلت لهم هذا الكلام أخذوني وأحضروني بين يدي هولاكو فتقدم أن يسلموني إلى خواجا نصير الدين).
وإنك من كلام ابن كثير وابن العبري وهما قريبا عهد بالطوس إذ توفي ابن كثير بعد الطوسي ب (99) سنة - نجد أن الطوسي رحمة الله قد أحدث حركة علمية جبارة في مراغة عهد الغزو المغولي وقد حمى الثقافة الإسلامية من الدثور والاضمحلال في زمن تهدمت فيه اغلب الحواضر الإسلامية من سمرقند إلى بغداد وغيرهما، وكان مرصده عظيما ومكتبته أعظم.
لقد شيد نصير الدين صروح تلك المدرسة التي اسبغ عليها طابعة الخاص من اهتمامه بالفلك والرياضيات والفلسفة فلم تكن مدرسة لغوية كمدرستي الكوفة والبصرة حين انتظمت حلقات الكوفيون والبصريين من النحاة وعلماء اللغة كالأصمعي وأبي زيد والخليل بن أحمد وتلميذه سيبوية - كلا إنما كانت مدرسة الطوسي معهداً للعلوم العقلية؛ لذلك تركت صدها مدويا في أوربا وأمريكا وكانت يد الطوسي المباركة رحمة حمى الله بها تراث الإسلام
ونتاج الأدمغة العربية وباقي الأمم الإسلامية فحفظ به كتب العلم وأنقذها كما أنقذ كثيرا من النفوس المحترمة من سيوف البرابرة المتوحشين (المغول). وما أدرى ما يريد بعض المتطاولين عليه رحمه الله أكانوا يريدون منه أن ينتحر بسيوف أولئك الطغاة وماذا يفعل أولئك الطغاة وماذا يفعل تجاه تيار همجيتهم وبربريتهم؟ بل أن روضات الجنان يحدثان أن هولاكو كاد يفتك به في بعض المواقف بتأثير دس المغرضين والكائدين والحاسدين.
إن الطوسي امتاز بعقلية جبارة. والغريب أنه مع كثرة تآليفه في أدق العلوم الفكرية - كان سياسيا محنكا، وزر لعدة ملوك واحتفظ بكرامته لولا وشايات الحساد الذين كادوا له حتى أعتقل في سجن الموت عند الإسماعيلية.
قال الإمام الحافظ المؤرخ بن كثير الدمشقي (أن الطوسي كان يقال له المولى نصير الدين ويقال له الخواجا نصير الدين. اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً وصنف في علم الكلام وشرح الإشارات لأبن سينا، ووزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية؛ ثم وزر لهولاكو وكان معه في واقعة بغداد. ومن الناس من يرغم أنه أشار على هولاكو خان يقتل الخليفة فالله أعلم وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه وقال كان غافلا فاضلا كريما الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله. وقد توفي وله خمسة وسبعون سنة وله شعر جدي قوي، واصل اشتغاله على المعين سالم بدار (كذا) بن علي المصري المعتزلي المتشيع فنزع فيه عروق كثيرة منه حتى أفسدت اعتقاده)
وقال الشيخ زين الدين عمر بن الوردي في تاريخه (ج2 ص223).
(وفي سنة 675هـ في ثامن من ذي الحجة توفي النصير الطوسي محمد بن محمد بن الحسن خدم صاحب الألموت (كذا) ثم خدم هولاكو وحظى عنده وعمل له رصدا بمراغة وزيجا، وله إقليدس يتضمن اختلاف الأوضاع ومجسطي وتذكرة في الهيئة، وشرح الإرشادات وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها ومولده جمادي الأول سنة 597 ودفن في مشهد موسى الجواد) لقد شيد الطوسي قواعد مدرسته في مراغة ولم تكن هذه المدينة عاطلة من العلم قبله فإن ياقوتا المتوفى سنة 626 هـ وكان قبل الطوسي يحدثنا أنه ينسب إلى المراغة جماعة من المحدثين والفقهاء وأن بها أثار ومدارس وخانقاوات
حسنة وأنه كان بها أدباء ومحدثون وفقهاء.
ويقول أبن العبري في تاريخه (وكان في هذا الزمان وفي سنة 575 هـ وما قبيلها من الحكماء المشهورين بالشرق السموأل ابن أيهوذا المغربي الأندلسي الحكيم اليهودي قد هو وأبوه إلى المشرق وكان أبوه يشدو شيئا من الحكمة، وكان والده السموأل قد قرأ فنون الحكمة، وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنفات. وصنف كتباً في الطب وارتحل إلى أذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولاداً هناك سلكوا طريقته في الطب، ثم أسلم وصنف كتاباً في إظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراوغة قريبا في سنة 570 هـ).
وإذن فإن مراغة كانت تحتضن حياة علمية قبل الطوسي رحمه الله الذي ولد عام 597 هـ أي بعد وفاة هذا الحكيم اليهودي بسبعة وعشرين عاما.
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي
القوية الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 5 -
حاول الأسطول المصري في أول عهد الحروب الصليبية أن يقوم بدوره في الدفاع عن الأراضي المقدسة، فكان ينجد المسلمين عسقلان ويافا وصور وبيروت وطرابلس وجبلة واللاذقية، وكان ينتصر على الإفرنج أحيانا، وأحيانا يرده الفرنج عن وجه فيعود إلى مصر، وكان أهل الشام يترقبون قدوم الأسطول إليهم، ويدخل الأمل قلوبهم إذا وجدوه في موانيهم، وكان قديرا على رد العدوان عن بلادهم لو أن الحالة السياسية في مصر ساعدته ذلك؛ فلم يكن ضعف ولا قلة في جندا أو سلاح أو أموال، ولكن الحالة السياسية التي سادت مصر في آخر عصر الدولة الفاطمية هي التي حالت بين الأسطول وبين المساهمة الفعالة المجدية في هزيمة الصلبين.
فلما جاء صلاح الدين الأيوبي انتفع بالأسطول المصري أيما انتفاع واشترك الأسطول اشتراكا فعلياً ناجحاً في إنزال الهزيمة بالأعداء المغيرين، فهو، حينا يستولي على سفنهم، ويظفر بالأسرى منهم، كما حدث سنة 575، ففي هذا اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في معركة مرج عيون ظفر الأسطول بسفينتين وألف أسير وغنمت من هذه الغزوة أقوام كانت أعينهم لا تعرف عين الدرهم ولا وجه الدينار، وحيناً يغزو الساحل غزوة موفقة يحطم فيها أسطول الفرنج كما حدث في غزوة عكا؛ تلك الغزوة التي وصفها القاضي الفاضل بقوله: الأسطول المصري غزا غزوة ثانية غير الأولى، وتوجه عن السواحل الإسلامية مرة أخرى، من الله فيها منة أخرى، وكانت عدته هذه السنة قد أضعفت وقويت، واستفرغت فيها عزائم الجهاد، واحتلت به الرجال الذين يعملون في البحر، ويفتكون في البر، ومن هو معروف من المغاربة بغزو بلاد الكفر، فسارت على سوار هي كنائن، إلا أنها تمرق مروق السهام، وواكد هي مدائن إلا أنها تمر مر السحاب غير الجهام، فلا أعجب منها تسمى غرباناً وتنشر من ضلوعها أجنحة الحمام، فطرقت في الأحد حادي عشر جمادى الأولى
ميناء عكا، وهي قسطنطينية الفرنج ودار كفرهم، أبدلها الله من الكفر إسلاما، وخلع عنها الشرك البالي، وخلع عليها من التوحيد أعلاما؛ فما هي إلا أن حذفت والجة على الميناء وفيه المراكب والبضائع، فاستولت على المراكب تحطيما وتكسيرا، ونطاحا يقلقل ولو كان ثبيرا، وأخلت ساحل الفرنج بقتالها، وباشرت مثل المساء بنزولها ونزالها، وهذا مما لم يعهد من الأسطول الإسلامي مثله في سالف الدهر، لا في حالة قوة إسلام ولا ضعف كفر.
وفي مرة أخرى أغار على بيروت فسبي منه وعاد بالغنائم وحيناً يساعد الجيش البري فيشغل العدو بالقتال، كما حدث في معركة طبرية، وإذا كان الأسطول المصري قد كسر أمام صور فليس ذلك راجعاً إلى الغفلة رجاله في الليل، وكأنهم كانوا شديدي الثقة بأنفسهم فأنتهز الفرنج هذه الغفلة وخرج أسطولهم في الليل، فأسر الفرنج مقدمي الأسطول المصري وقتلوا خلقاً عظيما، وأخذوا منه خمس قطع، ولم يؤثر ذلك في قوة الأسطول الذي أستعاد مركزه، وأخذ مكانه في معركة عكا، وقد ألقي عليه في هذه المعركة عبء كبير؛ ففي سنة 585 يستدعيه صلاح الدين ليعينه على أخذ المدينة، فتسرع إليه خمسون قطعة مع القائد لؤلؤ، تنقض فجأة على أسطول الفرنج فتبدده، وتضفر ببطستين كبيرتين بما فيهما من أموال ورجالهم، وقويت نفوس أهل عكا بوصول الأسطول، وقى جنانهم وأرسل صلاح الدين الذي يطلب مدداً جديداً من الأسطول، فعني الفرنج بتعمير أسطولهم لقتاله ومنعه من دخول عكا، واشتد أسطول صلاح الدين في قتال أسطول العدو، وسار الناس على جانب البحر تقوية للأسطول وإيناساً لرجاله، والتقى العسكران في البر والأسطول في البحر، وجرى بينهما قتال شديد انتهى بانتصار الأسطول المصري، واخذ من العدو الشواني، وقتل به ونهب جميع ما فيه، وظفر من العدو بمركب أيضاً كان واصلاً من قسطنطينية، ودخل الأسطول المنصور عكا، وكان قد صحبه مراكب من الساحل فيها ميرة وذخائر، وطابت قلوب أهل البلد، وانشرحت صدورهم؛ فإن الصاعقة كانت قد أخذت منهم.
ولما أشتد الأمر بعكا وأدار الفرنج مراكبهم حولها حراسة لها من أن يدخلها مراكب المسلمين، وقويت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة، ركب جماعة من المسلمين في بطسة، وتزيوا بزي الفرنج، حتى حلقوا لحاهم، ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث ترى من بعد، وعلقوا الصلبان واستطاعوا بهذه الحيلة دخول عكا سالمين. وفي مرة أخرى قدمت
إلى المحاصرين من مصر ثلاث بطس مشحونة بالأقوات والميرة وجميع ما يحتاج إليه في الحصار بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاء، وقد فني الزاد ولم يبقى عندهم ما يطعمون، فلما دنت من عكا خرج إليها أسطول العدو يقاتلها، ولكنها استطاعت أن تفلت وتصل سالمة إلى عكا، وتلقاهم أهلها تلقي الأمطار بعد الجدب وامتاروا ما فيها، وحاول الفرنج وهم يحاصرون عكا حرق الأسطول المصري بها، والاستيلاء على برج الميناء حتى يحرسوه، ويحولوا دون دخول المراكب بالميرة إلى المدينة، فأعدوا بطسة ببرج مملئوها حطبا يشعلونه نارا ويلقونه على برج الميناء لقتل ما فيه وأخذه - وبطسة ثانية ملئوها حطباً ووقوداً على أن يدفعوا بها، حتى تدخل بين البطس الإسلامية، فيلهبوا الوقود فيحرق البطس الإسلامية، ويهلك ما فيها من الميرة، وجعلوا في بطسة ثالثة مقاتلة تحت قبو، بحيث يكونون تحت في مأمن لا يصل إليهم أذى سلاح، فأذ أرادوا إحراقه دخلوا تحت ذلك القبو فأمنوا، ولكنهم ما كادوا يشعلون النار، حتى أنعكس الهواء عليهم، أما البطسة التي كانت معدة لإحراق البرج فإنها احترقت بأسرها، وهلك من كان فيها من المقاتلة إلا القليل، وكذلك احترقت البطسة التي كانت معدة لإحراق الأسطول المصري ووثب المسلمون عليها فأخذوها. وأما ذات القبو فقد أنزعج من فيها وخافوا وهموا بالرجوع، واضطربوا اضطراباً عظيما، فانقلبت وهلك جميع من كان بها، لأنهم كانوا في قبو لم يستطيعوا الخروج منه.
وحاول الأسطول مرة أخرى دخول الميناء يحمل إليها الميرة فتحطم بعضه على صخور الميناء، لاضطراب البحر واشتداد هيجانه. وكان فيه من الميرة مما لو سلم لكفى البلد سنة كاملة وكان هذا سببا من أسباب سقوط عكا. وحاول صلاح الدين أن يرسل بطسة كبيرة مشحونة بالالآت والأسلحة والميرة والرجال والأبطال المقاتلة، حتى تدخل البلد مرا غمة للعدو، وكان عدة رجالها المقاتلة ستمائة وخمسين رجلا، فأحاط بها العدو من جميع جوانبها واشتدوا في قتالها، وجرى القضاء بأن وقف الهواء فقاتلوها قتالاً عنيفاً، وقتل المن العدو عليها خلق كثير، وأحرقوا للعدوا شينياً كبيراً فيه جند كثير هلكوا جميعاً، ولكن العدو تكاثر على أهل البطسة، وكان مقدمهم رجلاً شجعان مجربا يقال له: يعقوب، من أهل حلب، فلما رأى أن الدائرة ستدور عليهم صمم هو ومن معه ألا يسلموا من هذه البطسة شيئاً. فأعملوا معاولهم فيها ففتحوها من كل جانب فامتلأت ماء وغرق جميع من فيها وما فيها، ولم يظفر
العدو منها بشيء. وتلفف العدو ومن كان فيها، وخلصوه من الغرق وأرسلوه إلى المدينة ليخبرهم بالواقعة.
وظل الأسطول المصري طول عهد صلاح الدين قائماً بواجبه يغير على أسطول الفرنج، ويقتل من رجاله، ويأسر ما شاء منهم ويستولي على مراكبه.
ولم يقف جهاد الأسطول في عهده على حزب الفرنج بالبحر الأبيض فقط، كنت له وقفات حاسمة في البحر أيضا، دافع فيها الفرنج عن الأراضي المقدسة بالحجاز؛ ذلك أن صاحب الكرك وهو من ألد أعدا المسلمين وأشدهم نكاية فيهم، فكر في مهاجمة المسلمين في البحر الأحمر ظناً منه أنهم غير مستعدين فيه، وتأديباً لحماية أيلة التي كنت تغير عليه، ولا سبيل له عليها لأنها تقيم بقلعة في وسط البحر، فبنى سفنا، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل، وجمعها في أسرع وقت، وشحنها بالمحار يبن وآلات القتال، وسارت السفن وقد افترقت فرقتين، أقامت إحداهما على حصن أيلة يحصرونه ويمنعون أهله من ورود الماء، فأصاب أهله شدة وضيق، ومضت الثانية، وهي فرقة فدائية إلى عيذاب، وأفسد جندها في السواحل، ونهبوا، واخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية، ومن فيها من تجار، وفاجئوا الناس منهم على حين غفلة منهم، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً ولا محارباً وأرادت الفرقة أن تقطع طريق الحج، فقد كانت الغزوة في شهر شوال سنة 578، وأن تمضي إلى المدينة المنورة لتنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقل جسده الشريف إلى بلادها، وتدفنه عندها، ولا تمكن المسلمين من زياراته إلا بجعل؛ وسارت الفرقة إلى بلاد الحجاز، وجاء الخبر إلى مصر وبها الملك العادل أخو صلاح الدين، فأمر قائد الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ أن يتتبع هؤلاء الغزاة، فانقض على محاصري أيلة انقضاض العقاب، فقاتلهم فقتل بعضهم وأسر الباقي، ومضى تواً إلى شاطئ الحجاز، فوجدهم قد أوغلوا في طريق المدينة حتى لم يبقى بينهم وبينها إلا مسافة يوم، فمضى خلفهم على خيل أخذها من الأعراب وحاصرهم هناك في شعب حتى استسلموا، فقتل أكثرهم، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها، عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله، وعاد الباقين إلى مصر، فكان لدخولهم يوم مشهود، وأرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل بأمره بقتل أسراره، وبقول له على لسان القاضي الفاضل: وهؤلاء الأسارى قد ظهروا على عورة الإسلام كشفوها
وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها. . . ولابد من تطهير الأرض من أرجاسهم، والهواء من أنفاسهم، بحيث لا يعود منهم مخبر يدل الكفار على عورات المسلمين. ويظهر أن العادل كان من رأيه الإبقاء عليهم فكتب إلى أخيه بما رآه، ولكن صلاح الدين لم يغير رأيه فيهم فكتب إلى العادل يقول له:(وليس في قتل هؤلاء الكفار مراجعه، ولا للشرع في إبقائهم فسحة ولا في استبقاء واحد منهم مصلحة، ولا في التغاضي عنهم عند الله عذر القبول، ولا حكم الله في أمثالهم عند أهل العلم بمشكل ولا مجهول، فليمض العزم في قتلهم، ليتناهى أمثالهم عن فعلهم، وقد كانت عظيمة ما طرق الإسلام بمثلها)؛ غير أن العادل والسياسة جزء من عناصره لا يسرع إلى قتلهم بل يراجع أخاه كرة أخرى، فيرد عليه بالقول الفصل: قد تكرر الفناء في معنى أسارى بحر الحجاز، فلا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، ولا نوردهم بعد ماء البحر إلا ناراً فأقلهم إذا بقى جنى الأمر والأصعب، ومتى لم تعجل الراحة منهم وعدت العاقبة بالأشق الأصعب، فلم يبق بعد ذلك مجال للمراجعة وقتل الأسرى، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الدينانة.
هذا وكان للأسطول المصري في البحر الأحمر الفضل في بلاد اليمن على يد توران شاه أخي صلاح الدين فهو الذي حمل الأزواد والعدد ولآلات إلى تلك الديار.
ورأينا الأسطول المصري في عهد العادل يظفر بالفرنج سنة593 ويعود القاهرة غانما سبعين فارساً بذل أحدهم في فدائه ثمانين ألف دينار، ويعود من الغزو في السنة التالية حاملا معه أربعمائة وخمسين أسيراً.
وكان للأسطول المصري أثر حاسم في معركة المنصورة الأولى في عهد الكامل سنة 617، وكان عدد شواني المسلمين مائة قطعة والمعركة الثانية سنة 647، تلك التي انتهت بهزيمة الغزاة من الفرنج، فإن صالح أيوب ما كان يدخل المنصورة، حتى قدمت الشواني المصرية بالعدد الكاملة والرجالة؛ فلما مات وعسكر الصليبيون أمام المنصورة كانت الميرة ترد إليهم من دمياط في النيل، فصنع المسلمون عدة مراكب، وحملوها وهي مفصلة على الجمال إلى بحر المحلة، وطرحوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، فلما جاءت مراكب الفرنج خرج عليها تلك المرغبة بغتة، وقاتلتها وقدم الأسطول المصري من المنصورة، فأخذ مراكب الفرنج أخذاً وبيلا، وكانت اثنتين وخمسين مركباً وقتل منها وأسر نحو ألف
فرنجي، وغنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحملت الأسرى على الجمال إلى المعسكر، فأنقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقعه الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب، وقوى المسلمون عليهم، وطمعوا فيهم، وأراد الفرنج الانتقام، فأخذوا من مراكب المصريين سبع حراريق، وأرسلوا إلى دمياط في طلب الميرة، فجاءت مراكبهم تحملها، فالتقت بها شواني المسلمين، وأخذت منها اثنين وثلاثين مركباً، منها تسع شوان، فاشتد الغلاء عند الفرنج، وشرعوا في مراسلة السلطان يطلبون الهدنة.
وفي عهد بيبرس أراد السلطان أن يغزو قبرص، ويستولي عليها، فلم علم أن صاحبها قد قدم عكا بمراكبه، نجدة لأهلها، انتهز فرصة خلوها، فجهز سبعة عشر شينيا، وصلت الجزيرة ليلا، فهاجت عليها ريح طردتها عن المرسى، وألقت بعض الشواني على بعض، فتحطم منها أكثر من أحد عشر شينيا، وأخذ من فيها من الرجال والصناع أسرى، وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفس، فعظم ذلك على الظاهر بيبرس، وأرسل صاحب قبرص رسالة كتاباً إلى السلطان، يشمت به فيه، فرد عليه السلطان بجواب أرعد فيه وأرق وقال فيه: إلى حضرة الملك. . . نعلمه أن الله إذا أسعد إنسانا دفع عنه الكثير من قضائه باليسير، واحسن له بالتدبير فيما جرت به المقادير، وقد كنت عرفتنا أن (الهوى) كسر عدة من شوانينا. . . ونحن الآن نبشره بفتح القرين، وأين المبشارة بتملك القرين، من البشارة بما كفى الله ملكنا من العين، وما العجب أن يفخر بالاستيلاء على حديد وخشب، الاستيلاء على الحصون الحصينة هو العجب. . . وليس من أتكل على الله وسيفه كمن اتكل على الريح، وما النصر بالهواء مليح، إنما النصر بالسيف هو المليح. . . وأن عدمت من بحرية المراكب آحاد فعندنا من بحرية المراكب ألوف، فلئن كنتم أخذتم لنا قرية مكسورة، فكم أخذنا لكم من قرية معمورة، وان استوليتم على سكان، فكم أخلينا بلادكم من سكان). ثم أصدر بيبرس أمراً بإنشاء عشرين شينياً، وبذل جهده في الإسراع بصنعها، فلما كملت احتفل بإتمامها، وخرج لأستعرضها، ولكنه لم يحاول غزو قبرص مرة أخرى.
وقد رأينا ما كان من انزعاج الفرنج عند ما سمعوا باستعراض خليل بن قلاوون أسطوله الضخم في النيل، فأرسلوا إليه الهدايا طالبين الصلح، واستطاع الأسطول المصري في أيام
الناصر محمد بن قلاوون أن يمضي إلى الجزيرة أرواد من أعمال قبرص ويستولي على ما فيها ويملكها، ويأسر من الجزيرة مائتين وثمانين أسيراً.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي
المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول
أدب القصة القصيرة
للأستاذ نصري عطا الله
قرأت ما كتبه أدبيان فاضلان عن القصة القصيرة بالعدديين 812، 815 من الرسالة الغراء بمناسبة المباراة التي أجرتها إحداها المجلات الأسبوعية، وقد عن لي أن أعلق على ما جاء في مقاليهما بما يلي:
تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في (الكم) وحده بل في (الكيف) أيضا. وقصر الأقصوصة يجب أن يكون إيجابيا لا سلبيا، وذلك يعني أن العاطفة التي تحفز كاتب الأقصوصة إلى كتابتها هي العاطفة التي يمكن التعبير عنها تعبيراً كاملاً يفي بشروط الفن في حدود قصرها، ولإيجاز هنا لا يمكن أن يكون إرادياً واختياراً بل هو تلقائي محض. أما اصطناعه اصطناعاً لغاية يهدف أليها الكاتب فذلك ما يخرج بالأقصوصة عن جوهرها ومقومات كيانها، ومن هنا قيل إن أول شروط كتابة الأقصوصة الجيدة هو ضرورة تلك الكناية أي نضج العاطفة وتبلورها أولا في نفس الكاتب ثم شعوره بالحاجة إلى التعبير عن تلك العاطفة في أقصوصة لا في قصة أو مقالة أو قصيدة.
وهكذا نستطيع أن نقول أن الأقصوصة ولدت يوم قامت الحاجة إلى التعبير عن لون معين من الإحساس بطريقة خاصة لم تحققها الصيغ الأدبية التي كانت موجودة حتى ذلك الحين. وليس هناك إذا (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد كبير من حرية الكتاب).
الخاصية التي تتميز بها الأقصوصة هي وحدة المحور التي تدور حوله، أي أنها تنصب على فكرة واحدة أو عاطفة واحدة فقط؛ فالكاتب يرتب حوادثها ويختار شخصياتها ويحلل نفسياتهم ويضع على ألسنتهم الحوار بحيث يؤدي كل هذا إلى جلاء حقيقة واحدة لتكن (حب الترف يؤدي إلى التهلكة) مثلا ولا يجوز أن يضمنها ما يرمى إلى جلاء فكرة أو عاطفة أخرى.
وترتبط هذه الخاصية بخاصية أخرى هي الإيجاز وهو مالا يتوفر على وجه سوى إلا للكاتب الفطن، الخبير بالنفوس وأغوارها المتمكن من اللغة وأساليبها فمثل هذا الكاتب وحده يستطيع أن يختار الخطوط الرئيسية لشخصيات أقاصيصه دون أن يزحمها بالتافه من الأوصاف والوقائع، كما يستطيع أن يعبر عما بنفسه تعبيرا دقيقا، قويا، مؤدبا في أقل
عدد ممكن من الألفاظ.
تحتفل الحياة حولنا بمئات الموضوعات التي تصلح مادة للأقصوصة؛ ولكن الكاتب لا يفطن إليها إلا وهو في مرتبة خاصة من حرارة الإحساس ونضج الشعور. والأقصوصة جيدة هي التي تشعر بعد قرأتها بأننا قد زدنا شيئا، ولا يتحتم أن تضيف القصة إلى معلوماتنا وخبرتنا شيئاً جديداً، بل يكفيها أن تزيدنا إحساساً وشعوراً بما كنا نعرفه قبلا ولا نحفل به كثيراً. وقد قال دوهاميل (. . . إن ما في المألوف من روائية لا يلبث أن يربنا كيف يصبح العادي خارقاً والحادث اليومي شاذاً، المهم هو أن ندرك ما نراه كل يوم دون أن نلتقي إليه بالا، ومنه يتكون نسيج حيانا اليومية العجيبة لو تأملنا. ونحن بذلك نضيف إلى معرفتنا بالإنسان وتصورنا غليه أشياء جوهرية).
لا يتحتم أداً على كاتب الأقصوصة أن يضمنها (حكاية) تتألف من حوادث متعددة أو معقدة، بل يكفيه أن يبنى الأقصوصة على فكرة مفاجئة، أو بارقة شعور، أو اتجاه جديد في النفس جاء إثر حادث أو تجربة، أو تطور ما طرأ على إحدى العواطف لسبب من الأسباب المستمدة من واقع الحياة أو باطن النفس. أن كل ما تجيش به النفس وتستجيب له يصلح مادة للأقصوصة ولكن لن يكتبها إلا الذي يستطيع أن ينقل إلى نفوسنا ما جاش بنفسه وذلك عن طريق الأداء الفني الموفق.
قد تكون المفاجأة عنصرا من عناصر الأقصوصة أو قد لا تكون، ولكن ما من كاتب أو ناقد يسلم بأن كل أقصوصة يجب أن تقوم على المفاجأة، بل يجب أن نقرر واثقين مطمئنين أن الكاتب الفقير في عواطفه وخياله وخبرته بالنفس والحياة وهو وحده الذي يعمد إلى حشد الحوادث وترتيب المفاجئات لا لشيء إلا لاستثارة نفوس السذج من القراء بطريقة صناعية مفتعلة.
من السذاجة أن يقول قائل إن الأقصوصة ليست ميداناً لعرض صور الحياة المختلفة بما تحفل به من كثرة وعمق وغنى وقنوع؛ والأمثلة على صدق ما نقول كثيرة؛ فالكاتب الكبير (موباسان) يبرز من وراء أقاصيصه عملاقا جبار الفكر جال بذهنه في كل مجال، ودرس كل عاطفة، وحلل كل غريزة، وعرض لكل رأى. وفي أقاصيصه نستطيع أن ندرس النفس البشرية والطبيعية والحياة دراسة شاملة مستوفاة. والقول نفسه ينطبق على تشيكوف
أيضاً. والعبرة بشخصية الكاتب؛ فكلما كان صاحب شخصية فذة اتسع ميدان الكتابة أمامه.
وأحب أن أذكر هنا أنه لا يصح أبدا أن يحكم القارئ الشرقي على شخصيتي موباسان وتيشكوف بما نقل من أدبهما إلى العربية فذلك اقل من القليل ولا يكشف أبداً عن كل نواحي شخصيتهما.
يجب أن ننزل على حكم الواقع آسفين مضطرين، ونفرق - دون أن نعترف - بين الأقصوصة الأدبية والأقصوصة الصحفية. فالأقصوصة الأدبية هي التي أجملنا عناصرها قيما سلف، أما الأقصوصة الصحفية فهي التي يضع شروطها ويحتضنها أصحاب ومحرر المجلات الرائجة. وهي أقصوصة تجافي كل عناصر الأدب وخاصيته؛ فمن شروطها ألا تكون عميقة، وان تخلو من التحليل النفساني، وأن تتراكم فيها الحوادث والمفاجئات بعضها فوق بعض، وان تكون بالغة القصر، مشوقة، غير قاتمة أو قابضة، وأن تنتهي بحادث سعيد، وأن تكون سهلة حتى يستطيع قراءتها كل قراء المجلة من البواب والحلاق وبائعة الخردوات إلى الكواء والقصاب وطالب المدرسة الابتدائية. والقاعدة في هذه المجلات هي:(عندنا جمهور يجب أن نرضيه بأي شكل) وقد قال لي كاتب كبير (كبيرة الحجم!) كان يرأس إلى وقت قريب تحرير إحدى المجلات الكبيرة: إن القارئ فريسة يجب إصابتها من أول طلقة. ومؤدى هذا أن الأقصوصة التي يشك المحرر في أن قارئاً من القراء الذين سبق بيانهم قد يعرض عنها أو لا يرتاح لأي سبب يمليه الرأس الأجوف أو الذوق الفاسد، فمصيرها إلى سلة المهملات حتى لو كان كاتبها موباسان أو تشيكوف.
(القاهرة)
نصري عطا الله
أحلام
للأستاذ إبراهيم الوائلي
رُدَّي إليَّ ترانيمي وأقداحي
…
فقد ظمئت إلى الأنغام والراح
هجرتني وزويت الكأس والنغما
…
فعاد قلبي كالأوتار منحطما
ماذا عليك إذا ما الدهر قد أثما
…
لو تطفئين من الأنفاس ما اضطر ما
يا جنتي وخيالاتي وأفراحي
ردى إلىَّ ترانيمي وأقداحي
سلي الطيور ونجواها على الشجر
…
ونسمة الروض تندى بالشذى العطر
والنور يلمع فوق الزهر والغُدرُ
…
هل كان إلا الربيع السمح من وطر
فيه أبدد آلامي واتراحي
ردى إليَّ ترانيمي وأقداحي
ردي إليَّ ربيعاً كان مزدانا
…
وجنة عبقت بالسحر ألوانا
أيام كنت بعيد الهم جذلانا
…
كالطفل يبسم للأطياف وسنانا
وأنت لحن أماسيِّ وأصباحي
ردي إليَّ ترانيمي وأقداحي
هذي حياتي ضلالات وأوهام
…
ونغمة الشعر أنات وآلام
والسكر، ما السكر؟ لا خمر ولا جام
…
تلك الحياة - وعيش المرء أحلام -
لم يبق في النفس منها غير أشباح
ردي إليَّ ترانيمي وأقداحي
عاودت أمسيَ أستجلى الذي دفنا
…
فلم أجد غير عهد يشبه الوسنا
وجئت أبحث عن يومي وما اضطبنا
…
فما تبينت إلا الكد والمحنا
وغاية كظلال الأجرد الضاحى
ردي إليَّ ترانيمي وأقداحي
البيد جُنت بأنياب وأظفار
…
والركب ما بين أهوال وأخطار
يا للضلال ويا للسلسل الجاري
…
دنيا من العيش قد لُفت بإعصار
فعاد كل هزاز غير صداح
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
راجي الراعي يعود إلى ميدانه:
إلى الأديب الأستاذ أنور المعداوي
لم يسعدني الحظ بعد بالتعرف إليك - وبين النعمة والنقمة نقتطان هما الحظ - ولكنني قرأت كلمتك عن (قطراتي) في (الرسالة) فتبينتك على ضوء قلمك الصافي العميق صفاء الينبوع وعمقه، وما أجمل الصفاء والعمق يجتمعان! ما أجمل الأديب - وأنت هو الأديب - يفتش عن الكتاب العاري الذي لا يتشح بغلاف، لعل فيه قوة مكنونة ضائعة فيلبسه وشاحه ويجبي صاحبه بتلك الكلمات الفواحة بطيب الخلق وعبيره. . .
لقد هزني في الصميم قلمك الحي الصادق الصريح المخلص للأديب وبنيه كما هزك كتابي. وأنا كنت هجرت الأدب لرأيتني أعود إليه اليوم وقد أيقظت ما رقد في صدى! ولكن القضاء لم يشغلني ولم يشغلني عن الأدب الذي هو محور كياني وقبله أملي في هذه الحياة الصغيرة القصيرة التي لا تتسع للحلم البعيد الكبير، وكأن بينهما عداء قديما لا أدري من أثاره ولماذا أثير. . .
أحييك شاكرا لك حسن ظنك، معجباً بروحك وكأسك التي لا شائبة فيها ولا ثمالة.
إن لي إلى جانب الفجر في كل يوم فجري الذي يأتيني بتلك (القطرات) ويأبى أن يفارقني كأنه يقول: أنت صاحب القطرات ولست شيئاً آخر؛ ذلك هو حكم القدر في الناس يفرغهم على الصور التي يختارها. . .
لدي الآن بالعربية من طراز الكتاب الذي وقعت عليه (القطرات) التي أبعث بها إليك، ما يسمع ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير أود إخرجها في كتاب للأقطار العربية، ولكنني لم أوفق بعد في تحقيق هذه الأمنية، ولدي من الطراز نفسه كتاب الإنجليزي لم يطبع بعد، وكتاب بالفرنسية طبع في عام 1936 أبعث إليك أيضاً بنسخة منه. . .
منذ ربع قرن وأنا أكتب وتبقى لي كتبي لا أوافق في نشرها على الملأ، وأنا لا أملك في الدنيا غير قطراتي التي تفتش عن كؤوسها. . . وكأنه كتب للخيال الخلاق أن تنكره الحياة لمواليده وتحرمها الغذاء والدواء، فتظل عرباته في العراء تتحرق وتتلوى بين الضعفاء
والبلداء، تلك هي المعركة الناشبة منذ الأزل بين الأرض والسماء، وهذا هو ما في ما تدعوني إليه موضع العلة ومصدر البلاء! ولكنني مازلت أعتقد أن في الناس على وفرة القوالب التي أفرغوا فيها جيشاً من الخلق إلى جانب قراء الروايات والأدب السهل الرخيص، تلذ له الموجة الفكرية الوضاءة القصيرة التي تحمل شيئاً جديداً. ولا هم لي الآن إلا أن أطل بفجري وندا على هذه الدنيا المترامية الأطراف دنيا العروبة وفي رأسها مصر. فإذا سيقت وشربوا ظللت في الكرمة أسقي وظلموا يشربون حتى تفرغ الدنان، ولن تفرغ ما تبقي القلم في يدي. . .
إن كلمتك هي التي تملى على ما أكتب، وإني أتمنى أن يكون هذا الذي جرى به قلمك الجميل على صفحات (الرسالة) أول الصداقة بيننا، تنيرها الروحانية ويوثق الأدب عراها. . .
والسلام عليك من المخلص:
راجي الراعي
قصر العدل - بيروت
إلى الأديب المبدع الأستاذ راجي الراعي:
من حق رسالتك الرائعة على أن يقرأها الناس، لأنها في رأي الفن قطعة من الفكر المحلق والبيان المشرق والخيال الوثاب. ولن أنسى أنني مدين بالشكر لقطرات نداك لأنها هي التي قادتني إليك، وعلى جناحيها طفت بسمائك وحلقت في أفقك، وصافحتك بروحي من وراء الآماد والأبعاد! إن رسالتك لتؤكد لي مرة أخرى أنك تحمل بين جنبيك قلب إنسان، وتحمل بين يديك قلم فنان. . ومن هذين المنبعين يفيض إعجابي بك وتقديري لك، وكلاهما همسة يتردد صداها بين حنيا الضلوع وشغاف القلب. . .
وأنا سعيد بأن يكون هذا الذي جرى به قلمي على صفحات (الرسالة) أول الصداقة بيننا، وإنها لصداقة تنيرها الروحانية كما تقول ويوثق عراها الأدب، وشاكر لك هذا التقدير الكريم الذي أضفيته على قلم يهتز حياء من فيض ثنائك، وحسبه أنه قد اغترف يوما من فيض نداك!
وإذا كان القضاء لم يشغلك عن الأدب، فإن الأدب ليعتز بأن تكون في ميدانه، تسقى الظامئين من كؤوس خمرتك الفكرية المعتقة في دنان الإلهام!
أجل يا صديقي، إن بإمكانك هنا ولي هناك. . . إنك صاحب القطرات ولست شيئا آخر، وإن فجرك الذي يشع في بأضواء النبوغ ليهدي السالكين إلى فجاج الحق والخير والجمال.
بقى أن أقول لك إن راجي الراعي القاضي لم ينصف راجي الراعي الأديب، وإن ميزان عدلك قد ظلم ميزان فنك: قطراتك أنت تفتش عن كؤوسها؟ كلا يا صديقي، أن كؤوسنا نحن هي التي تفتش عن قطراتك! مواليد خيالك الخلاق تنكر لها الحياة؟ أنك لتظلم الحياة في جوهرها المصفى. . . إن الحياة لا يمكن أن تبخل على الموهوبين من أمثالك بالذكر الجميل! أما الذين يبخلون فهم والبلداء الذين حرمهم الله نعمة الذوق والفكر والشعور، وأظنك توافقني على أن هذا القطيع الآدميين لا يستطيع يغير شيئاً من وجه الحقيقة، ولا أن يقيم الميزان لأقدار الناس، ولا أن يحول بين فيض الإبداع وبين التدفق في أودية الروح ومسارب العاطفة!
عليك إذن أن تكتب لهؤلاء الذين تلذ لهم الموجة الفكرية الوضاءة التي تحمل شيئا جديداً. . وثق أنك إذا سقيت فستظل في الكرمة تسقى ولن تفرغ الدنان: إن كرمتك يا صديقي لنمت جذورها إلى أرض العبقرية بأسباب، أما دنانك فأنا أبشرك منذ اليوم بكثرة الظامئين المتلهفين إلى أن يشربوا نخب أدبك العالي وفنك الرفيع!
أخلص الشكر على هديتك الكريمتين. . . وإلى اللقاء في رسائل خاصة، تنقل إليك والي ومضات من الفكر ودفقات من الوجدان.
توفيق الحكيم والفن الإنساني:
منذ أيام دق جرس التلفزيون في مكتبي بوزارة المعارف، وكان المتحدث هو الأستاذ توفيق الحكيم. . . لقد تفضل الأستاذ الصديق فاتصل بي ليقول إن كلمات كتبتها عن (شهداء المثل العليا) قد تركت أثرها في نفسي وصداها في قلبه، وكم يود أن يستمع لكثير من هذه النبضات الإنسانية فيما أكتب من تعقيبات! وقلت للصديق الكريم رداً على جميل تقديره: يبدو أن بين فكرينا شيئاً من توارد الخواطر، وأن بين قلبينا شيئاً من توارد الخفوق. . . لقد كنت على وشك الاتصال بك لأقول لك أيضاً إنني أود أن تخرج لنا روائع أخرى يبلغ
فيها الفن الإنساني ذروته كما بلغها في (سليمان الحكيم)! ثم تشعب الحديث من الفن الإنساني إلى غيره مما عرضنا له من فنون.
والحق أني لم أكن قد قرأت بعد هذه المسرحية الرائعة حتى تفضل الأستاذ الحكيم فأهداها إلي في طبعتها الثانية التي ظهرت منذ قريب. . . ولقد خرجت بعد قرأتها بحقيقة ملموسة، تغيرت على ضوئها نضرتي إلى معدن الإنسانية في قلب هذا الفنان. إن من يقرأ (سليمان الحكيم) يلمس أن صاحبها يملك قلبا يهتز اهتزازا عميقا أمام جيشان العاطفة! ولكن أين كانت كل تلك النبضات الشعورية والحركات النفسية، ولم لم تفرض نفسها على بقية إنتاجه بمثل هذا التدفق الذي عطر كل صفحة من صفحات (سليمان الحكيم)؟!
هناك جواب واحد لهذه السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه نفسيات أبطاله، هناك حيث تجد الصراع بين ذهن وذهن لا بين عاطفة وعاطفة، ومن هنا تختفي الومضات الوجدانية في تيه من التأملات الذهنية، ولكنه في (سليمان الحكيم) شيء أخر. . . إن جو المسرحية كان جوا عاطفيا خالصا هيأ للشعور الإنساني أن يظهر على حقيقته، حين تراجع الفكر المجرد متخليا عن مكانه للروح المرفرفة والقلب الخفاق!
هذا أمر سأعرض له بالتفصيل عند الحديث عن مسرحية (الملك أديب) في الأيام المقبلة. . . كل ما أرمى إليه من وراء هذه الكلمة هو أن أقرر إنسانية الفن في شخصيته توفيق الحكيم الأدبية؛ وتلك ناحية كان يخالجني فيها الشك قبل أن أقرا (سليمان الحكيم) وقبل أن أستمع لرأي صاحبها في (شهداء المثل العليا)!
تحية قلبية وأخرى قلميه:
تحت هذا العنوان تحدثت في عدد مضى من (الرسالة) عما تعانيه الحياة الأدبية في هذه الأيام من تخمة في الكتاب وأزمة في النقاد، حتى يتعذر على الناقد أن يتسع وقته لقراءة هذا العدد الضخم من الآثار الأدبية والكتابة عنها! ثم قلت في ثنايا كلمتي إنني لم أكتب عن أي أثر أدبي يهدي إلي إلا إذا لمست فيه نفعا للأدب وفائدة للقراء، وحسب كتاب لم يتحقق فيه هذا الشرط أن أقدم إلى صاحبه تحية قلبية. . . أما الكتاب الذي يضيف إلى رصيد
القارئ ثروة فكرية جديدة فهو جدير بتحية أخرى قلميه! قلت هذا فكتب إلي بعض القراء عاتبين ومعترضين: إن النقد كما يقولون لم يخلق ليقصر على التنويه بالكتب القيمة والآثار النافعة لأن أصحاب هذه الكتب قد بلغوا من الشهرة والنضج وإقبال القراء ما يجعلهم في غير حاجة إلى التعريف بكتبهم والتحدث عن جهودهم، وحسبهم أن مكانتهم الأدبية قد بلغت من الصمود والمنعة ما يحاول بينها وبين الاهتزاز أمام عواصف النقد وأعاصيره! أما صغار الكتاب فما أحوجهم إلى العطف والتشجيع، والتوجيه الذي يسدد خطاهم وينمي ملكاتهم، ويغذي في نفوسهم نزعة التشوف إلى بلوغ الكمال. فالأعراض عن كتبهم أمر يثبط العزائم ويجني على المواهب ويبعث على الخمول. . . ورب شجرة تتعهد بالسقيا وتخص بالرعاية، تنموا وتشتد أعوادها وتخرج للناس كل شهي من الثمر وكل مرجو من الفائدة!
إن ردي هؤلاء العاتبين المعترضين هو أنني حين عرضت لهذه المشكلة لم أقصر إغفال الكتابة على أديب صغير دون أديب كبير، ولكني قصرته على كل كتاب يضيع معه الوقت سواء أكان صاحبه يكتب منذ ربع قرن أم كان يكتب منذ ربع شهر! أما قولهم بأن صغار الكتاب أحوج إلى التحدث عن آثارهم من كبار الكتاب؛ لأن هؤلاء الكبار تحميهم مكانتهم الأدبية من زلزلة النقد وهزات الناقدين فلا أوافقهم عليه. أن مقالا واحدا يتسم بالفهم والعمق والأصالة جدير بأن يزلزل سمعة كبر أديب من أصحاب المكانة المرموقة، وجدير بأن يبقي كتبه في رفوف المكتبات لا تمتد إليها أيد ولا ترنو عيون! ولقد أصبحنا اليوم نجتاز مرحلة فكرية بلغت الأوج وأوفت على الغاية؛ مرحلة ليس فيها أديب كبير ولا أديب صغير إلا في حساب الموازين الناضجة التي لا تفرق بين المواهب والثقافات، على ضوء الأعماق وحدها لا على ضوء الأهواء والغايات! ومع ذلك فلا بأس من الكتابة عن كتب كنت خصصتها بتحية القلب دون تحية القلم، ولا اعتراض بعد ذلك ولا عتاب!.
رسالة ماجستير في كلية الآداب:
كان ذلك في الأسبوع الماضي إذا لم تخني الذاكرة، حين توجهت إلى كلية الآداب وحملت نفسي ما لا تطيق واستمعت لمناقشة رسالة عن (العماد الأصفهاني). . . أنا لا أظلم الطالب الذي فاز بالماجستير في الآداب من درجة جيد، فكم من طلاب فازوا قبله بالدكتوراه من
درجة جيد جداً وممتاز؛ فهذه رسالة عن (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) حظي صاحبها بمرتبته الشرف الأولى واستحق شكرا الجامعة، ومعه ذلك فقد طبعها لينتفع بها الناس فبقيت لتأتنس بها رفوف المكتبات! وتلك رسالة أخرى في الفلسفة عن (الزمان الوجودي) حظي صاحبها أيضاً بمرتبته الشرف الأولى مع لقب أول فيلسوف مصري، ومع ذلك فقد طبعها ليرفع بها رأس الفلسفة الوجودية في الشرق فلم يبقى لها وجود. . . وكم من رسائل أخرى لقيت مثل هذا التقدير وانتهى بها الأمر إلى نفس المصير. . .
تخرج من هذا كله بأن لكلية الآداب نظرتها إلى قيمة الرسائل العلمية، وأن للرأي العام الفني نظرته. والفرق بين النظرتين هو الفرق بين القدرة على جمع النصوص من بطون الكتب وترتيبها وتبويبها وإخراجها في رسالة، وبين القدرة على الغوص في أعماق تلك النصوص ومراجعتها وتمحيصها وإخراجها في نظرية أو مذهب! إن خمسين صفحة تحفل بوثبات الذهن المحلق خير ألف مرة من مئات الصفحات التي لا تزخر بغير الترديد والتقليد ولكن من يسمع؟!
لحظات مع إيليا أبو ماضي
شيء في شعر المهجر يثير إعجابي، وأوثره بتقديري، وأشعر نحوه بتجاوب الفكر والعاطفة. . . ذلك هو صلة الفن بالحياة! الحياة في شعر المهجر نفس عميق، وهمس رفيق، ونبع شعور متدفق، ولعل هذه القصيدة التي صدح بها أبو ماضي في الحفلة التكريمية التي أقيمت له منذ أسابيع في دمشق من خير ما قرأت إشراقة لفظ، ورحابة أفق، وأصالة شاعرية!
عنوان القصيد (عجباً لقومي). ومطلعها هذه الأبيات:
حي الشآم مهنداً وكتاباً
…
والفوطة الخضراء والمحربا
ليست قباباً ما رأيت وإنما
…
عزم تمرد فاستطال قبابا
فالثم بروحك أرضها تلثم عصو
…
راً رأى للعلى سكنت حصى وتربا
والى العدد المقبل حيث يتشعب بها الحديث.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
قصة أوديب في الآداب المختلفة:
ألقى الدكتور طه حسين بك محاضرة عنوانها (قصة أوديب في الآداب المختلفة) بنادي الخريجين المصري يوم الجمعة الماضي. فبدأ بتلخيص قصة أوديب كما وضعها سوفوكل في أوائل القرن الخامس قبل المسيح، وحوادث القصة - كما هو معروف - تدور حول أوديب ابن الملك لايوس ملك طيبة، وصراعه مع الأقدار التي قضت بأن ينشأ بعيداً عن والديه، ثم تسوقه إلى حيث يقتل أباه وهو لا يعلم بأنه أبوه، ثم يتزوج أمه وهو لا يعلم أنها أمه، ويولد له منه أربعة أولاد، ثم يعلم أن أولاده هم أخوته لأمه. . . الخ
ثم قال الدكتور طه: أن سوفوكل صور في هذه القصة الصراع بين القضاء المحتوم والإرادة الإنسانية المختارة، وبين ذلك في مواقف القصة المختلفة. وقال إن الأسطورة كتبها كثيرون في القديم وفي الحديث، حتى لم تخل منها لغة من اللغات الحية في العالم الغربي، وقد أتيح للعربية أن تشارك في هذه الجهود، فترجمت (الدكتور طه) إليها قصة سو فوكل وقصة أندريه جيد. وجاء أخيرا الأستاذ توفيق الحكيم فكتبها بالعربية، وأنا سأقصر الحديث إلى قصتين هما قصة جان كوكتو وقصة أندرية جيد، وقد وضعتا في وقت واحد تقريبيا حوالي سنة 1930.
ثم حلل قصة جان كوكتو وقال إنه جمح فيها إلى الفن ولم يعن بالفكرة الفلسفية، فقد صور جوكاستا (أم أوديب) امرأة مرحة ماجنة تعشق الكاهن ترسياس وتتغزل فيه، وقد أهمل جان كوكتو الفكرة الفلسفية القديمة في القصة واتجه نحو فلسفة فرويد فيما يكون من الأحاسيس الخفية بين الأمهات والأبناء. وأنتقل الدكتور بعد ذلك إلى قصة أندرية جيد إنه أمضى القصة كما أمضاها سوفوكل ولكنه جعل أولاد أوديب من شباب العصر الحديث يندفعون إلى التجديد في كل شيء، وجعل الصراع بين الدين ممثلا في الكاهن ترسياس وبين أوديب الملك الذي لا يؤمن إلا بنفسه وعقله وشعوره ووجدانه.
ثم قال إنه يفضل قصة أندرية على قصة جان كوكتو. ويفضل على الاثنين قصة سوفوكل.
وبعد ذلك وصل الدكتور طه إلى الأستاذ توفيق الحكيم فقال إنه يسره أن يحاول الأستاذ
توفيق هذه المحاولة، ولكنه لم يتخذ ما كان ينبغي أن يتخذه من عدة، وأول ما كان ينبغي أن يتخذه من عدة، وأول ما كان ينبغي أن يتخذ أن يقرأ وأن يقرا كثيرا، على رغم ما يحدثنا به من أنه قبل أن يكتب القصة قرا في الأدب اليوناني كثيرا، فإنا نرى أن هذه القراءة متواضعة ومتواضعة جدا. . . ثم ذكر الدكتور بعض المآخذ في قصة الحكيم، منها جعل أوديب يقتل الأسد بهراوة بيده ثم يحمله على ظهره ويلقيه في البحر، ولو فرضنا أنه من الممكن أن يقتل الرجل الأسد بهراوة ويحمله على ظهره فأي بحر هذا الذي ألقاه فيه؟ إن الإنسان يسير بين طيبة وبين البحر يوما كاملا دون أن يحمل أسداً على ظهره. أكبر الظن أن توفيق الحكيم لم ير الخريطة، ولعله قد اشتبهت عليه قرية صغيرة قريبة من البحر أسمها طيبة وهي غير طيبة والتي وقعت فيها أحداث القصة.
ومن تلك المآخذ مأخذ قال إنه أفسد القصة من ناحية الفنية إفسادا ليس بعد إفساده، ذلك أنه صور ترسياس في صورة المتآمر الذي ينزل إلى ما يجري عليه الناس من أنواع الدسائس والشرور، ثم مأخذ قال إنه افسد الناحية الفلسفية بأن جعل أوديب يطلب إلى زوجته وأمه جوكستا أن تصرف النظر عما حدث، ليعيشا مع أولادهما مكتفين بالنفي من طيبة، وهذا لا يتفق مع غاية القصة من شعور بالإثم، ومن حسن الحظ أن جوكستا ماتت ولم تقبل ذلك.
ثم قال أن توفيق الحكيم لم ينس أنه كان عضواً في النيابة العمومية، فقد خلط الحوادث خلطاً عجيباً عندما حكم على الكاهن ترسياس بأن يختارا بين الموت والنفي ثم وقفهما أمام الشعب ليحاكما.
وخرج الدكتور طه من الكلام على قصة توفيق الحكيم بأنها جمعت بين قصور جان كوكتو في الناحية الفلسفية وبين قصور أندرية جيد في الناحية الفنية.
ثم تحدث الدكتور عن المقدمة التي كتبها الأستاذ توفيق الحكيم لقصته فقال إن أقل ما يقال فيها إنها كانت تحتاج إلى عناية، فقد كتب صفحات في الجواب عن السؤال: لماذا لم ينقل العرب التمثيلية اليونانية؟ وذكر أن أمرأ القيس ذهب إلى قسطنطينية - وأنا لا أعرف أن أمر القيس ذهب إلى قسطنطينية - فلماذا لم يعد من هناك بشيء من هذا الفن؟ وراح الأستاذ توفيق يسهب في ذكر أسباب وفروض كثيرة، وما كان إغناه عن هذا كله لو علم أن العرب لم ينقلوا التمثيل عن اليونان بسبب واحد بسيط، هو أن اليونان لم يكن عندهم تمثيل
في عهد العرب لأن المسيحية كانت قد قضت عليه، ولو ذهب أمرؤ القيس إلى هناك لما وجد تمثيلا. . .
ثم ختم المحاضرة بقوله: وأنا على كل حال أهنئ الأستاذ توفيق الحكيم بهذا الجهد، وأقول إننا يجب أن نبدأ ولو مخطئين لننتهي مصيبين.
تعقيب:
أما وقد تعرض الدكتور طه حسين بالنقد لكاتب (أوديب الملك) للأستاذ توفيق الحكيم، فقد كان قسطاس النقد المستقيم يقتضيه أن يشير إلى مواطن الإجادة فيه، ولا يقصر النقد على مواضع المؤاخذة ثم على الثناء والتهنئة الساخرين. . . وأنا لم أقرأ بعد هذا الكاتب، ولكني لا أتصوره خيالا من شيء يستحق أن يوضع في كفة الحسنات، فتوفيق الحكيم كاتب معروف بجودة الإنتاج القصصي على العموم مهما كان في هذا الإنتاج من مآخذ، ويعرف قراء العربية حسن رأي الدكتور طه في بعض ما كتب الحكيم، فهل هو الآن يستوفي النقد بذكر المآخذ في (أوديب الملك) بعد أن فرغ فيم مضى من الإشادة بما أحسن توفيق الحكيم في (أهل الكهف)؟! وهل لي أن أقول أن الدكتور طه حسين لا يقصد في التقريظ إذا قرظ ولا يقتصد في الثلب إذا ثلب؟.
الثقافة المصرية في السودان:
زار السودان منذ أسابيع الدكتور عبد السلام الكرداني بك الوكيل المساعد لوزارة المعارف، واتصل هناك بالمشرفين على التعليم في حكومة السودان، وبطبيعة الحال كانت المسائل التعليمية والثقافية هي موضع الاتصالات؛ وقد استرعى التفاني من أنباء هذه المرحلة أمران، الأول رد الكر داني بك على جريدة (النيل) السودانية وكانت قد تناولت مسألة توحيد التعليم في السودان التي أثارتها الحكومة السودانية في وجه مشروع التوسع في التعليم المصري بالسودان - قال الدكتور الكر داني:(إنني ممن يرون الخير في تعدد أنواع التعليم والثقافات واعتقد أننا في مصر قد كسبنا من وجود مدارس ذات مناهج مختلفة) ثم قال: (إن هناك من يقولون في الوقت الحاضر بضرورة توحيد الثقافات عند الأمم المتكتلة بتوجيه ثقافاتها وبرامج دراستها وجهة واحدة، وكذلك ترى الجامعة العربية فيما تختص
بالأقطار العربية المشتركة فيها وقد اتخذت خطوات فعلية في هذا الاتجاه، فهلا ترون أن من مصلحة السودان العزيز وأهله الأعزاء أن يكون لديهم في بلادهم فريق من أبنائه يسيرون في دراستهم وفق المنهج الذي يسير عليه أشقاؤه في مصر الشقيقة الكبرى وأبناء عمومتهم في بقية البلاد العربية المتحدة المتضامنة سعياً وراء خيرها ورفعتها جميعا؟).
وهذه لفته بارعة من الدكتور الكرداني، وإن كان قد صاغها في قالب من التحفظ، فالسودان باتفاق السودانيين جزء من البلاد العربية إلى تتجه إلى توحيد غايتها الثقافية والتقريب بين برامج الدراسية، وتتخذ خطوات مصر وجهودها في ذلك المضمار محورا ومثلا لها، فكل جهد يبذل في الوقوف أمام انتشار التعليم المصري بالسودان ليس ضاراً فقط بوحدة الوادي، وإنما هو يمتد إلى مكان السودان من العروبة ونصيبه من قيمها الثقافية.
أما الأمر الثاني الذي لاحظته في هذه الزيارة، فهو أن الكرداني بك أدى مهمته باعتباره رجل تعليم وثقافة على خير ما تؤدى، وكان عندما يجعل بمثله أن يكون، لقي الجميع وأحسن التفاهم مع الجميع، فاحتفى به الجميع حتى امتدحت جريدة (النيل) وهي لسان الانفصاليين مسلكه في المناقشة وسعة أفقه. والذي يهمني من كل ذلك أن أضربه مثلا لرجل التعليم المصري ورسل الثقافة إلى جنوب الوادي، ولو أن كل من بعثنا بهم إلى هناك لهذه الغاية كانوا كذلك، ولم يقحموا أنفسهم فيما ليس من شأنهم، لتجنبنا كثيراً من الأشواك، ولما اضطرت حكومتنا إلى ما اضطرت إليه من الحرج فيما يتعلق ببعض مناصب التعليم بالسودان.
عزيزتي السيدة ملك:
أكتب لك هذا بمناسبة استئنافك العمل في مسرحك، بتمثيله كليوباترا لشوقي بك، فأهنك أولا بهذا الافتتاح وأتمنى لك أطيب التمنيات، ثم أتوكل على الله وأفضي إليك بغاية القصد المراد. . . راجيا أن تتقبلي ما أفضي به تقبلا حسنا وألا يتكدر منه خاطرك.
ذلك يا سيدتي أن صوتك جميل جدا ولكنك تجنين على جماله بتشبك أن تلحني لنفسك، ولا أقول فقط إنك لا توفقين في التلحين، وإنما يخيل إلي حينما أسمعك أنك تغنين غناء فطريا، وأن سامعك ليأسف على ضياع تلك الآهات والنبرات الحارة الشجية المنبعثة من قلب يشعر، في الهباء، تذروها فوضى التنغيم. ولا شك في أن عدم توفيقك في التلحين لا ينقص
شيئاً من قيمة مواهبك الأخرى، فأنت ممثلة مسح ذات ذخيرة فياضة من حنان الأنوثة، ومغنية مسرح معبرة من الطراز الأول؛ واعتقد أن صوتك يكون شيئاً آخر لو أسلمت قياده لملحن مقتدر، ونحن في عصر الاختصار، فمن أراد أن يكون كل شيء فلن يكون شيئا.
والمهم بعد هو أن الميدان الغني عندنا تنقصه الآن المسرحية الغنائية، مع أن الجمهور المصري يعشق هذا اللون من الفن. وأنت الآن - ولا أرى غيرك في هذه الظروف - التي تستطيع أن تحي المسرح الغنائي بتقديم روائع التمثيليات من الأدب الرفيع، كما يدل على ذلك اختيارك لإحدى مسرحيات أمير الشعراء في افتتاح موسمك الحالي.
فالتلحين، ياست ملك، التلحين. . . ولاشيء ينقصك غير التلحين، فلا تكابري وكوني ممن يسمع القول فيتبع أحسنه.
ولك تحياتي واحترمي.
عباس خضر.
البريد الأدبي
الفلوجة لا الفالوجة ولا الفالوجا:
أصبحت هذه البلدة العزيزة عنوناً مجيداً مضيئا من عنوان المجد في تاريخنا الحربي الحديث، فينبغي أن ننطبق بها ونكتبها على الوجه الصحيح. والعرب كانوا وما زالوا ينطقون في بالفلوجة مفتوحة الفاء مشدودة اللام مختومة بالتاء، ويجمعونها على فلاليج، ويريدون بها الأرض المصلحة للزرع، ثم أطلقوها على كل قرية بسواد العراق كما يجوز لنا اليوم أن نطلقها على كل قرية أو إقطاعية بالأرض التي تصلحا الحكومة في كفر سعد أو في غيره ثم صارت الفلوجة علما على هذه القرية بفلسطين وعلى قرية أخرى بالعراق على طريق ما بين الرمادي وبغداد. وقد كان المرحوم الرصافي يهاجر إليها كلما نبا به العيش في دار السلام. والعراقيون ينطقون بها على الضبط الوارد في كتب اللغة.
التقريب بين اللغتين:
كتب الشيخ محمود أحمد الغمراوي كلمة طامنت من أسلوب الرسالة الرفيع المتزن، فقد رمى الدعوى رمية عشواء وقولنا غير قولنا! ونحن ندعو أن يعاود قراءة كلمتنا ثم يرجع البصر، ويضيء البصيرة، فيرى أننا لا نحل الدخيلة محل الفصحى، بل دعونا دعوة (مخلصة) إلى وجوب المحافظة على اللغة ببقاء قواعدها، وأليه مقولنا:
(ونحن إذا تجوزنا في القاعدة، وقلنا لا عنت في جواز جعل فاعلين لفعل واحد كما في شأن أكلوني البراغيث لشاعت القاعدة وجرت على الألسنة، فتضيع اللغة في أوضاع تعقيدها).
وان كل ذلك ذي بصر يرى مدى تحفظنا في أيراد السياق. فقد (تجاوزنا) ولم نسق الحقيقة، وقلنا: أن إشاعة (الدخيلة. تجنى على اللغة؛ فمن أتى الشيخ بدعوتنا إلى هدم العربية؟ إن لغة القرآن تسمو إلى التعقيد، لأنها أبلغ استدلال عليه، ومقتضى هذا هو الارتفاع به عن التأويل المفضي إلى الفصاحة كوهمه وإيهامه. فنحن نعنى بالتأويل في الآية الدنو من (القاعدة) بحسب الظاهر لدفع ما قد يوهم؛ لكن الشيخ يؤيد ما لا يريده المنطق ثم يريدنا عليه!
أن المفسرين - لا الزمخشري وحده - يسيرون في التأويل على وفاق اتساق السياق ولم ينجحوا - كادعائه - إلى الإعراب متقصدين التذرع به لإيضاح وحدة المعنى.
بل اتجهوا إلى الفحوى ثم رغبوا في التأويل ليزداد الوضوح؛ فالإعراب ليس مقصودا لذاته، لأنه فرع المعنى!. وليعلم الشيخ أن لغة طيء وأزد شنوءة موافقة الفعل لمرفوعة. قال عمرو بن ملقط:
أُلِفيتنا عيناك عند القفا
…
أوْلىَ فأوْلى لَكَ ذا واقِيَةْ
وقد ذكر التوضيح أن هذه اللغة لا تمتنع مع المفردين أو المفردات المتعاطفة بدليل قول عبد لله بن قيس الرقيات يرثى مصعب بن الزبير.
تولى قتال المارقين بنفسه
…
وقد أسلماه مبعد وحميم
وعدم المنع بين صحة جعل ما يتصل بالفعل ضمائر في (لغتهم).
إما إدعاء الشيخ (محمود الغمراوي) أننا نحل الألفاظ الدخيلة محل الفصحى فردنا عليه في قولنا:
(وعندنا أن التقريب قد يكون في إشاعة الألفاظ المتقاربة في (الدلالة) مثل أمتي؟ في - متى - ومين؟ في - مَنْ - وفين - في - أين.
هذا ما يمكن بحثه في مقام (دراسته) أما القواعد الأصلية فيجب أن تبقى محافظة على اللغة).
هذا ما أثبتناه وفحواه ما يأتي:
أولا: أننا جعلنا (دلالة) الألفاظ مسوغة لتقاربها ولم نؤيد استعمل الدخيلة.
ثانياً: أننا جوزنا هذا التسامح في (دراسة) أدوات الاستفهام للأبناء.
ثالثا: أننا أوجبنا بقاء القواعد سليمة محافظة على اللغة.
أحمد عبد الطيف.
المدرس ببور سعيد - ومن العلماء
حافظ وشوقي:
طلبت مجلة المقتطف من الأستاذ الشاعر الأديب حسن كامل الصيرفي أن يكتب لها مقالة عن حافظ وشوقي بمناسبة مرور خمسة عشرة سنة على وفاتهما، فكتب لها دراسة مطولة عن الشاعرين جاوز بها حد المقالة، وجعلها كتاباً يقع في أربع وسبعين صفحة من القطع
المتوسط، وقد طبعته مطبعة المقتطف والمقطم سنة 1948م
والأستاذ حسن كامل الصيرفي شاعر وأديب، وللشعر عنده رسالة يجب أن يؤديها في كل عصر، فهو ينظر إلى حافظ وشوقي على أنهما شاعران عاشا يتردد اسماهما معا زمنا، وتعترض حياتهما عواصف تنافس أحيانا، وتمر بهما نسمات صفاء أحيانا أخر، ولكنهما كانا يشعران أنهما يتعاونان على أداء رسالة واحدة وجهتهما إلى طريقها عرائس الشعر، وطبيعة العصر، وقد ماتا معاً في سنة واحدة، كأنهما شعرا أنهما أديا رسالتهما في الشعر، ولن يستطيع واحد منهما أن ينهض وحده بعبء تلك الرسالة، بعد هذا الجهاد الطويل في تأديتهما.
وعلى هذا الأساس تقوم تلك الرسالة النفسية لشعر حافظ وشوقي، وتقوم الموازنة بين شعر كل منهما، وقد وجد الأستاذ حسن كامل الصيرفي من ذوقه - وهو ذوق شاعر أديب - مما ساعده على بلوغ الكمال في هذه الدراسة، وإني أهنئه عليها تهنئة صادقة.
عبد المتعال الصعيدي
تصحيح مردود:
في البريد الأدبي للرسالة الغراء عدد (811) اطلعت على كلمة للأديب الفاضل محمد الشاذلي حسن يخطئ فيها استعمالي لفظة (ماتع) صفة الشيء المستحسن الجميل، ويستشهد لذلك بيت المجنون الوارد في أغاني الأصفهاني:
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا
…
من الصيف يوم لا فح الحر ماتع
ويذكر أن الشراح ذكروا أن (الماتع هو الطويل).
وأقول: كون (الماتع) بمعنى الطويل لا يمنع كونه بمعنى الجيد بل البالغ في الجودة؛ ففي اللسان - أعنى لسان العرب - (متع الرجل ومتع جاد وظرف وقيل كل ما جاد فقد متع وهو ماتع والماتع من كل شيء البالغ في الجودة الغاية بابه):
خذه فقد أعطيته جيداً
…
قد أحكمت صنعته ماتِعا
وبعد: فلو لم يكن مرجعنا (اللسان) لطال حبل الكلام في مقام الاستشهاد والإيراد، خير الكلام - كما قيل - ما قل ودل، وارجوا أن يكون في هذا القليل الدليل، والسلام.
الزيتون
عدنان
أحكام اللجنة
عن نتيجة المسابقة الثقافية
1 -
تمثيليات قصيرة للمسرح المدرسي:
تقدم للجنة إحدى عشرة تمثيلية رأت اللجنة منح الجائزة الثانية وقدرها خمسون جنيها لتمثيليتي (عروس النيل) و (الساعة 12) معا لمؤلفهما عزت السيد إبراهيم، وكذلك الجائزة الثانية وقدرها ثلاثون جنيها لتمثيلية (مؤامرة صغيرة) لمؤلفها حسين محمد القباني.
2 -
تمثيليات قصيرة للإذاعة المدرسية:
تقدم للجنة إحدى عشر تمثيليات رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها ثلاثون جنيها لتمثيلية (أفراح أنشاص) لمؤلفها فريد عين شوكة. والجائزة الثانية وقدرها عشرون جنيها لتمثيلية (أرض الآباء) لمؤلفها صوفي عبد الله. والجائزة الثانية وقدرها عشرون جنيها لتمثيلية (الأم) لفتحية حسن.
3 -
المسرحيات العامة:
تقدم للجنة ثماني مسرحيات رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها مائة وخمسون جنيها لقصة (ساحر بابل) لمؤلفها عثمان حلمي. والجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لمسرحيتي (الحرية والعدالة) و (أرض السلام) معا لمؤلفهما محمد محمد شعبان، والحائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لمسرحية (جلاء الصدا) لمؤلفها عبد الواحد فرج، والجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لمسرحية (السلسلة والغفران) لمؤلفها علي أحمد با كثير.
4 -
القصة الطويلة:
تقدم للجنة ثماني قصص وقد رأت اللجنة - كما هو مخول لها - تعديل قيم الجوائز فجعلت درجة بين الدرجة الأولى وبين الدرجة الثانية سمتها (الثانية الممتازة وقدرها مائة وعشرون جنيتها) وجعلت قيمة الدرجة الثانية تسعين جنيها، وزادت درجة ثالثة خصصت لها خمسين جنيها. ثم رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها مائة وخمسون جنيها لقصة (بعد الغروب) لمؤلفها محمد عبد الحليم عبد الله، ومنح الجائزة الثانية الممتازة وقدرها مائة جنية لقصة (وراء الأفق) لمؤلفها محمد محمود شعبان، والجائزة الثانية وقدرها تسعون جنية لقصة (رجل المعجزات) لمؤلفها محمد أمين حسونه. والجائزة الثانية وقدرها تسعون جنيها
(دعاء الفجر) لمؤلفها حسين محمد القباني. والجائزة الثالثة قدرها خمسون جنيها لقصة (طريق المجد) لمؤلفها سعد مرسي أحمد، والجائزة الثالثة وقدرها خمسون جنيها لقصة (شقائق عذراء) لإبراهيم محمد با يزيد.
5 -
القصة القصيرة:
تقدم اللجنة سبع وعشرون قصة رأت اللجنة منح الجائزة الأولى وقدرها خمسون وعشرون جنيها لقصة (الضاربون في الأرض) لنظمي لوقا. والجائزة الأولى خمسة وعشرون جنيها لقصة (غابت الشمس) لمحمد يسري أحمد، والجائزة الأولى خمسة وعشرون جنيها لقصتي (الأرملة العذراء) و (الأعماق) معا لمؤلفهما صلاح الدين حافظ، والجائزة الثانية وقدرها عشرون جنية لقصة (سرقة بالطابق السادس) ليوسف إسحاق الشاروني، والجائزة الثانية عشرون جنيها لقصة (المسلمي أفندي) لنجيب محمود عزب. والثانية عشرون جنيها لقصة (صراع) لرجائي محمد. والثانية عشرون جنيها لقصة (مغامرة ليلة) لعبد العزيز شريف. والثانية عشرون جنيها لقصة (قبور في الطريق إلى تل أبيب) لعواطف بيومي. والثانية عشرون جنيها لقصة (أسطورة الأساطير) لنعمان سعد الدين. والثانية عشرون جنيها لقصة (تصفية حساب) لنري عطا الله. والثانية عشرون جنيها لقصة (هؤلاء المساكين) لمحمد عبد الرزاق مرزوق. والثانية عشرون جنيها لقصة (عذراء دمشق) لإبراهيم محمد با يزيد. والثانية عشرون جنيها لقصة (نداء الإنسانية) لعز الدين فراج. والثانية عشرون جنيها لكل من قصتي (درس) أو (السيد الحديد) لمحمد لبيب البوهي.
6 -
البحوث الأدبية والفنية:
تقدم اللجنة ثلاث بحوث رأت منح الجائزة الثانية وقدرها مائة جنية لبحث (إبراهيم باشا) لمؤلفه صبري كامل. والثانية مائة جنيها لبحث (مسلم ابن الوليد) لحسين محمود البشبيشي. وجائزة ثالثة وقدرها خمسون جنيها لبحث (الحب عند العرب) لمؤلفها محمد فتحي.
7 -
بحوث في التاريخ والآثار:
لم يتقدم أحد.
8 -
الرحلات:
تقد اللجنة مؤلفان رأت منح الجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لكتاب (رحلات في المغرب
وأسبانيا) لمحمد وهبي.
9 -
الموضوعات المبسطة في العلوم:
تقدم اللجنة سبعة موضوعات رأت منح الجائزة الأولى وقدرها مائة وخمسون جنيها لكل من موضوعي (القيمة الغذائية)(ودنيا العلم) معا لمؤلفها عز الدين فراج والجائزة الأولى مائة وخمسون جنيها لموضوع (الغذاء الكامل) لمحمد الشحات محمد، والجائزة الثانية وقدرها مائة جنيه لموضوع (العلماء الثائرون) لجمال الدين موسى، والثانية مائة جنية لموضوع (الجيل الجديد) لعزت السيد إبراهيم، والثانية مائة جنية لكل من موضوعي (الصناعات الكيميائية) و (وسائل السفر الحديث) معا لمؤلفها حسن العشماوي.
توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر ألما زني، عباس العقاد، عبد الرحمن صدقي، زكي طليمات، فريد أبو حديد، دكتور إبراهيم عبد الرحمن. دكتور مصطفى الديواني.
يعتمد
السنهوري