المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 819 - بتاريخ: 14 - 03 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 819

- بتاريخ: 14 - 03 - 1949

ص: -1

‌هل الشقاق طبع في العرب؟

جواب عن سؤال

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

وجهت هذا السؤال مفصلا إلى صديقي الأستاذ الكبير ساطع الحصري بك المستشار الفني لجامعة الدول العربية. ولكن المقال لم يعجب الرقيب فلم يأذن بنشره. ولما اطلع عليه الأستاذ أبو خلدون أجاب عنه بهذا البحث الذي تقرأه. وإني لأرجو بعد أن ينشر أن أعلق عليه بما يتفق مع رغبة الرقيب وواجب الحق وسياسة الرسالة.

(الزيات)

صديقي الأستاذ. . .

لقد اطلعت على السؤال الذي وجهتموه إلي، في مقالكم المعنون (هل الشقاق طبع في العرب؟).

فقد أشرتم في المقال المذكور إلي حوادث الشقاق والتنافس والتخاصم التي توالت في تاريخ العرب؛ واستعرضتم الأحزاب السياسية والفرق الدينية التي ظهرت بينهم؛ ثم ذكرتم رأي ابن خلدون في هذا المضمار. وفي الآخر تساءلتم: (هل كتب الله على العرب أن يعيشوا أبداً بطبيعة البادية ونفسية الغابة وعقلية القبيلة؟)

فوجب على أن ألبي طلبكم، فاكتب إليكم ما اعتقده في هذه القضية الهامة. غير أني رأيت من الضروري أن أقف أولاً أمام (المقدمات) التي صدرتم بها هذا السؤال، قبل أن أحاول الإجابة عنه إجابة مباشرة.

فاسمحوا لي أن أسألكم بدوري: هل تظنون أن الاختلافات التي ذكرتموها كانت من خصائص الأمة العربية وحدها؟

أنا لا أشك في أن جوابكم عن هذا السؤال سيكون بالنفي؛ لأنكم تعرفون جيداً - كما يعرف ذلك كل من يستعرض التاريخ العام - أن تواريخ الأمم الأخرى لم تخل من أمثال تلك الاختلافات.

فيترتب على ذلك إذن أن أنقل البحث إلى كمية هذه الاختلافات وشدتها، فأسألكم: هل

ص: 1

تعتقدون أن الاختلافات السياسية والدينية التي حدثت في تاريخ العرب كانت أكثر وأشد وأعنف من التي تجلت في تواريخ الأمم الأخرى؟

أنا أعرف أن الآراء الشائعة الآن لا تدع مجالاً للتفكير ملياً في هذا السؤال؛ لأنها تحمل الأذهان على الرد عليه فوراً بالإيجاب.

وأعترف بأني أنا أيضاً كنت - مدة من الزمن - من المتأثرين بهذه الآراء الشائعة، ومن المسلمين بأن تاريخ العرب يشذ في هذه القضايا عن تواريخ الأمم الأخرى شذوذاً كبيراً. أني بدأت أشك في صحة الآراء الشائعة عندما أخذت أتعمق في دراسة التاريخ العام؛ وازددت شكاً فيها كلما تغلغلت في هذه الدراسة؛ إلى أن أصبحت أعتقد اعتقاداً جازماً بأنها لا تتفق مع الحقائق التاريخية الثابتة أبداً؛ لأنها لا تقوم على مقارنات شاملة، بل تستند إلى استقراء ناقص جداً.

إننا ننفعل، ونتألم، ونغضب. . عندما نقرأ أخبار الاختلافات التي حدثت في تاريخ العرب. . ولا سيما عندما نتتبع نتائج هذه الاختلافات ونطلع على كيفية تضاؤل سلطة الخلافة، وتشتتها بين سلطات السلاطين وملوك الطوائف العديدين.

إننا ننفعل ونتألم من هذه الأخبار والحوادث التاريخية، لأننا نقيس أحوال القرون الماضية بمقاييس الأزمنة الحاضرة. . . ولا نكلف عناء البحث في التاريخ العام بحثاً شاملاً، لكي نعرف ما كانت تلك لأحوال من الأمور التي تشذ فيها الأمة العربية عن سائر الأمم، أو كانت من الأمور الطبيعية التي تتساوى فيها جميع الأمم في بعض الأطوار من تاريخها.

فيجب علينا، قبل كل شيء، أن نطلق أذهاننا من ربقة هذه الآراء الشائعة، لندرس هذه القضايا من جديد، بنظرات علمية بحتة، مع استقراء الحوادث التاريخية استقراء تاماً.

فلنبدأ أولاً بقضية الاختلافات الدينية. ولنستعرض ما حدث منها في أوربا، طوال القرون الوسطى وخلال النصف الأول من القرون الأخيرة. . . نجد أنها لم تكن قط أقل تنوعاً ولا أخف عنفاً مما حدث في العالم العربي خلال الأزمنة المذكورة، إن لم تكن أكثر تنوعاً وأشد عنفاً منها. .

أحصوا المذاهب المختلفة التي نشأت في الغرب منذ ظهور المسيحية في البلاد الأوربية خلال القرون المذكورة. . . استعرضوا الخلافات الدينية والمذهبية التي حدثت بين الدول

ص: 2

وبين الكنائس من جهة، وبين الكنائس المختلفة من جهة أخرى. . . استقصوا أخبار الحروب الأهلية والدولية التي نجمت من هذه الاختلافات الدينية في مختلف أقسام البلاد الأوربية، حتى في فرنسا التي تظهر الآن أكثر تباعداً عن الاهتمام بالأمور الدينية من جميع بلاد العالم. . . قلبوا صحائف التاريخ التي سجلت أعمال محاكم التفتيش من جهة، وحياة مؤسسي المذاهب الدينية من جهة أخرى. . . فإنكم تضطرون إلى التسليم بأن الاختلافات الدينية التي حدثت في البلاد الأوربية كانت - بوجه عام - أوسع نطاقاً، وأكثر تنوعاً، وأشد عنفاً من التي حدثت في العالم العربي.

وأما الاختلافات السياسية، فأمرها يحتاج إلى أشمل، وتفكير أعمق. . .

فيجب علينا أن نلاحظ قبل كل شيء: أن العرب انتشروا - بعد الهجرة النبوية - بسرعة خارقة، في بقاع واسعة جداً من القارات الثلاث المعلومة قديماً. ففتحوا خلال قرن واحد، بلاداً أوسع بكثير مما فتحه الرومان خلال ثمانية قرون.

تصوروا الاتساع الهائل الذي وصلت إليه الدولة العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة وأواسط القرن الثامن للميلاد. . تتبعوا حدود تلك الإمبراطورية التي كانت تمتد من سواحل بحر المحيط الأطلسي إلى شواطئ نهر السند وسهول كشغر، ومن سفوح همالايا إلى جبال البرنس والألب، ومن سواحل بحر الهند إلى أواسط بحر قزوين وبحيرة آرال، ومن باب المندب إلى جبال القافقاس. . . وتذكروا في الوقت نفسه بساطة الوسائط الناقلة والمواصلات ووسائل الحروب والسيطرة التي كانت معلومة ومستعملة في تلك العصور. . . ثم قولوا لي: كيف كان يمكن أن تبقى تلك السلطنة المترامية الأطراف مصونة من مغبة الانقسام مدة طويلة من الزمن، بالرغم من اختلاف الشعوب الكثيرة التي دخلت تحت حكمها، وبالرغم من طول المسافات الهائلة التي كانت تفصل ثغورها من عاصمتها، وضآلة الوسائط التي كانت تضمن اتصال هذه العاصمة بتلك الثغور.

قولوا لي: أية سلطنة من السلطنات التي يذكرها التاريخ القديم والوسيط، استطاعت أن تسيطر على مثل هذه البقاع المترامية الأطراف، مدة أطول من التي سيطر عليها العرب، دون أن نتعرض إلى اختلافات وانقسامات؟

لا تنس أن إمبراطورية إسكندر الأكبر - في القرون الأولى - تجزأت بعد موت مؤسسها،

ص: 3

مع أنها كانت أصغر بكثير من الإمبراطورية العربية. كما أن إمبراطورية شارلماني - في القرون الوسطى - لم تسلم من الانقسام بعد موت عاهلها، مع أنها كانت قليلة الاتساع جداً بالنسبة إلى اتساع الدولة العربية في أواخر عهد الأسرة الأموية، أو أوائل عهد الأسرة العباسية.

ولا تنس أن انقسام السلطنات والإمبراطوريات الكبيرة وانحلالها إلى إقطاعيات صغيرة كانت من الأمور الطبيعية المألوفة في جميع أنحاء العالم المعلوم في القرون الأولى والوسيطة.

ولذلك أعود وأسألكم مرة أخرى: كم أمة من الأمم التي عرفها التاريخ كانت أقل اختلافاً وأكثر اتحاداً من الأمة العربية من الوجهة السياسية؟

اليونان؟. . . ولكن التاريخ يشهد شهادة صريحة على أن هذه الأمة لم تتحد سياسياً في يوم من الأيام. . . كانت كل مدينة من المدن اليونانية الكثيرة مملكة قائمة بذاتها، دولة مستقلة عن غيرها. وهذه الحالة كانت تبدو لليونانيين طبيعية وضرورية حتى أن كبار مفكريهم كانوا يحبذون هذه الحالة، وكانوا يشاركون الرأي العام في هذا المضمار. وقد قال أفلاطون: إن عدد المواطنين في الدولة - أي الجمهورية - يجب ألا يزيد على خمسة آلاف. وقال أرسطو: إن الدول يجب أن تكون صغيرة، حتى يستطيع جميع أفرادها أن يعرف بعضهم بعضاً معرفة مباشرة.

في الواقع أن هذه المدن المستقلة - أي هذه الدويلات الصغيرة - كانت تتفق وتتحالف من حين إلى حين لدرء الخطر الخارجي الذي يحدق بالجميع. غير أن هذا التحالف كان لا يلبث أن ينفصم وينحل من جراء تنافس المدن الرئيسية على زعامة الحلف.

ومن المعلوم أن أشهر وأهم هذه المحالفات تكونت عند هجوم الماديين على بلاد اليونان. غير أن هذه المحالفة أيضاً لم تعمر طويلا، بل انحلت وزالت قبل أن يمضي على تكوينها عقدان من السنين!

وقد انقضى تاريخ اليونان السياسي بالمنافسات والمنازعات التي قامت بين أثينا وأسبارطة وكورنت. ومن المعلوم أن هذه المنافسات أدت إلى حدوث عدة حروب دامية بين مختلف المدن اليونانية كان أشهرها الحروب التي عرفت باسم حروب اليلويونيز

ص: 4

ولا ننس أن هذه الحروب التي اشترك فيها معظم المدن اليونانية هي التي أدت إلى تحطم الأسطول الأسبارطي من جهة، وإلى تدمير أسوار أثينا من جهة أخرى.

وقد حدثت هذه المنافسات والمحاربات بين تلك الدويلات، مع أن مساحة اليلويونيز - مع شبه جزيرة آتيكا - كانت أقل من مساحة بعض المديريات في مصر، والمحافظات في سوريا، والمتصرفيات في العراق. ومع أن المسافة التي تفصل أثينا عن أسبارطة لا تختلف كثيراً عن المسافة التي تمتد بين القاهرة والإسكندرية، وتقل كثيراً عن التي تفصل دمشق من بغداد، وتتضاءل تماماً أمام المسافات الشاسعة التي تفصل بغداد عن قرطبة ولا سيما بلخ عن لشبونة.

إن هذه المئات من الدويلات اليونانية التي تقاسمت هذه الرقعة الصغيرة من الأرض ظلت متفرقة متنافسة متخاصمة، ولم تجتمع تحت إدارة واحدة إلا عندما دخلت تحت حكم دولة أجنبية.

ترون، أيها الأستاذ، أن الأمة اليونانية لم تكن قط في حالة تحسد عليها من هذه الوجهة.

وأما الرومان، فلا شك في أنهم امتازوا بين أمم التاريخ القديم بالاتحاد والانتظام. والإمبراطورية التي أسسوها عاشت مدة أطول من مثيلاتها بوجه عام.

غير أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن هذا الامتياز نتج عن توافر عدة عوامل وأوضاع مساعدة لم تتيسر لغيرها أبداً.

أولاً: أن السلطنة الرومانية تكونت بتدرج عظيم، وهذا التدرج ساعد على رسوخ الأوضاع الجديدة واستقرارها مساعدة كبيرة.

ثانياً: أن الإمبراطورية الرومانية شملت جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط. ولا حاجة إلى القول بأن روما كانت في نقطة مركزية من هذا البحر، وقد ساعد ذلك كثيراً على اتصال العاصمة بمختلف أقسام السلطنة عن طريق البحر بسرعة وسهولة بالنسبة إلى وسائط النقل والمواصلة المعلومة في تلك العصور القديمة.

ثالثاً: أن السلطنة الرومانية لم تتباعد عن السواحل كثيراً، ولم تتغلغل في الأقطار القارية أبداً. إنها لم تسيطر على جزيرة العرب ولا على ما بين النهرين؛ فمعظم أقسام العراق، وجميع بلاد إيران وخراسان، وما وراء النهر والأفغان. . . ظلت خارجة عن حوزة

ص: 5

السلطنة الرومانية، وذلك قلل إلى حد كبير مشاكل الحكم التي تلازم السلطنات المترامية الأطراف.

إن اجتماع هذه الأسباب الأساسية هو الذي ساعد على إطالة عمر الإمبراطورية الرومانية بالنسبة إلى ما كان معتاداً في القرون الأولى والوسطى.

ومع كل هذا يجب ألا ننسى أن هؤلاء الرومان أيضاً لم يسلموا من آفات الاختلاف والتنافس: استعرضوا تاريخ روما بنظرة فاحصة ولاحظوا كم من المنازعات قامت بين مختلف الطبقات الاجتماعية، حتى في مدينة روما نفسها، وحتى في عهد الجمهورية؟ وكم من الحروب الداخلية نشبت بين القواد في عهد الإمبراطورية؟ وكيف أصبحت الجيوش ذات الكلمة النافذة في تنصيب الأباطرة؟ وكيف كانت الغلبة والكلمة العليا في هذا الأمر تارة إلى الجيوش المرابطة في أسبانيا، وطوراً إلى الجيوش المرابطة في سوريا، وتارة إلى الجنود المرابطة في أفريقيا؟ وكيف أصبح الوصول إلى العرش رهن النجاح في مؤامرات لا تعد ولا تحصى؟

وإذا لاحظتم كل ذلك اضطررتم إلى التسليم بأن الإمبراطورية الرومانية لم تعش سالمة من الاختلافات، بل إنما عاشت بالرغم من الاختلافات، وأما إخلاف الرومان القدماء، فلا ننس أنهم عاشوا متفرقين متخالفين مدة لا تقل عن خمسة عشر قرناً.

وإذا تركنا السلطنات القديمة جانباً، وانتقلنا إلى الدول المعاصرة لنا، وتتبعنا أحوالها الماضية - طوال القرون الوسطى وخلال النصف الأول من القرون الأخيرة - وصلنا إلى نتائج مماثلة لما ذكرناه آنفاً.

ولنأخذ فرنسا مثلا؛ فقد كان من المعلوم أنها أسبق الدول الأوربية إلى الوحدة السياسية الكاملة، والتماسك القومي المتين، ولكنا إذا استعرضنا أحوالها خلال القرون التي ذكرناها آنفاً وجدناها بعيدة عن الوحدة كل البعد، ومسرحاً لشتى أنواع الخلافات والحروب.

أنا لا أود أن أطيل الحديث في هذا الموضوع، ولذلك أكتفي بنقل كلمة كتبها مؤرخ فرنسا الشهير (أرنست لافيس) لتلخيص تلك الأحوال، قال المؤرخ:

(لقد مضى عهد من التاريخ كانت فيه فرنسا شبيهة بمقدونيا الحالية منقسمة إلى أجزاء كثيرة، متخالفة، متنابذة، متنافسة، متخاصمة. وقد وجب أن تسيل الدماء مدراراً حتى تلتحم

ص: 6

هذه الأقسام المختلفة، فتصل فرنسا إلى وحدتها الحالية. . .).

هذه كانت أحوال فرنسا التي سبقت جميع الدول الأوربية في طريق الاتحاد. وأما إذا أنعمنا النظر في تواريخ الدول الغربية الأخرى، فنجد فيها أيضاً أحوالاً مماثلة لذلك تجلت بمقياس أوسع، وبشدة أعظم، واستمرت مدة أطول.

لابد من أن نتذكر - في هذا الصدد - أن ألمانيا كانت منقسمة إلى أكثر من ثلاثمائة دولة ودويلة حتى أوائل القرن الماضي، وكانت لا تزال منقسمة إلى تسع وثلاثين دولة قبل ثمانين عاماً فقط!

إن اتحاد هذه الدول لم يتم إلا بعد جهود كبيرة وتضحيات عظيمة، وهذه الجهود قد اجتازت مرات عديدة أطوار فشل أليمة

ولهذا كله أستطيع أن أقول بكل تأكيد: إننا كلما توسعنا وتعمقنا في دراسة تاريخ الدول الأوربية ازددنا يقيناً بأن معالم الاختلاف والانقسام فيها لم تكن قط أقل من التي تجلت في تاريخ العرب بوجه عام.

إني أقول هذا بكل تأكيد مع علمي بأني أخالف بذلك آراء الكثرة الساحقة من الكتاب والباحثين.

وقد فكرت ملياً في الأسباب والعوامل التي حملت الرأي العام على التباعد عن طريق الصواب في هذه القضية الهامة، وأعتقد أنني وصلت إلى معرفتها بكل وضوح:

إن مراكز رؤيتنا لتاريخ العرب تختلف - بوجه عام - عن مراكز رؤيتنا لتواريخ الأمم الأخرى.

فنحن ننظر إلى تواريخ الأمم الأخرى عن بعد نظرة إجمالية فندرك خطوطها الأساسية العامة دون أن نتيه في تفاصيلها الفرعية. ولكننا ننظر إلى تاريخ العرب من قرب نظرة تفصيلية فنطلع على كثير من تفاصيله دون أن نحيط علماً بخطوطه الأساسية.

وأستطيع أن أقول: إن موقفنا تجاه التاريخ العام موقف رجل يتفرج على الجبل من السهل البعيد.

وأما موقفنا تجاه تاريخ العرب، فهو موقف رجل يسير في قلب الجبل ويتغلغل في وهاده.

ومن المعلوم أن الجبال تتألف عادة من وهاد ووديان، ومرتفعات ومنخفضات، وهضاب

ص: 7

ومنحدرات، فلا تبدو عالية شامخة، إلا لمن ينظر إليها من بعيد، ويدرك شكلها العام دون إن يتيه بين خطوطها الفرعية المعقدة. . .

إن تواريخ الدول الأوربية تبدو لنا جبالاً مرتفعة شامخة، لأننا ننظر إليها بنظر المؤلفين الأوربيين، ومن الخارج ومن البعد، فلنغير موقفنا منها ونظراتنا إليها، وذلك بالتغلغل فيها، نرى عندئذ أنها مؤلفة من وهاد ووديان بالرغم من منظرها الخارجي العام.

وأما تواريخ الدول العربية، فتبدو لنا مجموعة مرتفعات ومنخفضات مشوشة ومعقدة، لأننا ننظر إليها بنظر الإخباريين القدماء، ومن داخلها؛ فلنغير موقفنا منها، ولننظر إليها من بعد - نظرة تسمو على النزعات - فنرى عندئذ أنها أيضاً مرتفعة شامخة بالرغم مما فيها من وهاد ووديان.

يجب علينا أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا على الدوام، وأن نسعى لتوحيد نظراتنا إلى صحائف التاريخ القومي والتاريخ العام، ولنعدل عن استعمال نظارات مكبرة للعيوب في الأولى، ومصغرة للعيوب في الثانية، كما اعتدنا ذلك إلى الآن.

وعندما نفعل ذلك نفهم حق الفهم أن الأحكام الشائعة بيننا على تاريخ العرب، إنما هي وليدة نظرات خاطئة، ومقارنات قاصرة، ولهذا السبب كانت في حاجة شديدة إلى التصحيح والتقويم بوجه عام.

أبو خلدون ساطع الحصري

ص: 8

‌ضوء علمي على مشكلة اللاجئين العرب

للأستاذ عمر حليق

في سنة 1946 شهد أمام لجنة التحقيق الانجلو - أمريكية أستاذ يهودي هو البرفسور فرانك توتستين رئيس دائرة علم السكان (ديموغرافيا) في جامعة برنستون الأمريكية الشهيرة عن مستقبل الكيان اليهودي في فلسطين من الناحية العلمية الصرف وعلى ضوء مشاكل السكان. وكانت خلاصة تحقيقاته وتحليلاته المعززة بالأرقام والدراسات الإحصائية تفيد أن تزايد السكان العرب في فلسطين هو أكبر خطر يهدد مطالع اليهود فيها وصرح نونستين بما يلي بالحرف الواحد:

(إن من الصعب جداً أن يتصور المرء الظروف التي يستطيع اليهود أن يصبحوا فيها أكثرية في فلسطين. فإن العرب (ونسبة تزايد السكان بينهم بفلسطين أعلى نسبة في العالم على الإطلاق) حائزون لجميع الإمكانيات الطبيعية والاجتماعية لأن يحتفظوا بهذه النسبة المرتفعة. ومهما يكن عدد اليهود المتدفقين على فلسطين كبيراً فإن مقدرة الزراعة والصناعة اليهودية على استيعابهم ستظل محدودة مقيدة بعوامل اقتصادية واجتماعية، منها الرغبة في الاحتفاظ بمستوى للمعيشة مرتفع، ونزعة اليهود الأوربيين لتجديد نسلهم بولد أواثنين، وطبيعة الاشتراكية التي تجعل اليهودي في فلسطين غير ميال إلى بناء عائلي كبير. وهذا عكس ما ينزع إليه العربي

وحتى لو تسنى لليهود أن ينشئوا لهم دولة فإن من المستبعد أن يستطيعوا الاحتفاظ بالسيادة السياسية في كل فلسطين أوفي جزء منها، بسبب هذا التزايد الهائل بين السكان العرب. وحتى لو عززت اليهود دولة أو دول خارجية كبرى فإن هناك عوامل طبيعية واجتماعية ديمغرافية (بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية) تجعل تزايد السكان بين العرب أكبر خطر حقيقي يواجه مطامع اليهود في فلسطين.

وعلى ضوء هذه الحقائق فإن أكبر الظن أن حماسة اليهود ونشاطهم والجهد والمال والتضحية الإجماعية التي بذلوها لبناء الدولة اليهودية، وجعلها دولة حديثة مزدهرة ستذهب سدى.

وسيجد اليهود أنفسهم بحكم هذه العوامل الديمغرافية عاجزين عن تحقيق التفوق العددي

ص: 9

والسيطرة السياسية للاحتفاظ بالسيادة الفعلية في فلسطين).

هذه شهادة عالم يهودي مهما قلبتها وجدت فيها، على ضوء علم السكان، حقائق راهنة تلقي ضوءاً قوياً على مشكلة اللاجئين العرب يساعد على تفهم مصلحتهم ومصلحة الوطن الفلسطيني الذي يحبونه ويتطلعون إلى الاستقرار في ربوعه إلى أن تهب عليهم وعلى إخوانهم في الوطن العربي الأكبر رياح مواتية لإتمام الصراع الفاصل مع اليهودية العالمية في أرض الميعاد.

وهذه اللفتة العلمية تلقي كذلك ضوءاً على هذا الجدل الذي يسود المحافل العربية الآن بصدد مسألة العرب الذين أقصاهم الإرهاب والإجرام اليهودي عن ديارهم، وهي مسألة تستحل مكان البروز من أعمال لجنة التوفيق التي بعثت بها هيئة الأمم إلى فلسطين والتي تتناقل الصحف الآن أنباء نشاطها.

فهناك رأيان بصدد مشكلة اللاجئين العرب: رأي يدعو إلى العودة واستعادة الأموال والممتلكات حتى ولو لم تسو المسألة الفلسطينية تسوية نهائية. والرأي الآخر يتناول مسألة العودة هذه من ناحية عملية، فيقول إن طبيعة السلوك اليهودي في منطقة نفوذه في فلسطين لا تدعو مطلقاً إلى استئمانه على حياة نصف مليون من العرب.

والواقع أن عملية اليهود في إجلاء السكان العرب بواسطة الإرهاب اليهودي عملية مستمدة من الحقائق البينة التي أكدتها شهادة نوتستين هذا وغيره من خبراء مشاكل السكان. والقيادة الصهيونية الدولية أمهر من أن لا تشعر بخطورة هذه الحقائق وأن لا تحتال للتغلب عليها بواسطة مذابح (دير ياسين) وحيفا وترستجا وألف حادثة وحادثة من أعمال الإجرام اليهودي المنظم

ولو أخذنا تحليلات نوتستين هذا من ناحيتها العلمية لاستطاع الداعون إلى عودة اللاجئين العرب إلى منازلهم وديارهم وحقولهم ومرابعهم في فلسطين استنباط حجج قوية قد تكون قاسية تتطلب روحاً جبارة وأعصاباً حديدية وتنظيماً قوياً ووعياً سياسياً حساساً، ولاستطاع هؤلاء الداعون إجابة مخالفيهم في الرأي على أساس (الأمر الواقع) كذلك.

فإن إقامة أقلية عربية كبيرة في منطقة احتلال اليهود، له ذيول عملية بعيدة الخطورة والخطر على مستقبل الكيان اليهودي إذا تحققت لهذه الأقلية العربية حقوقها الثقافية التامة

ص: 10

وضمانات سياسية واقتصادية. وتوفير هذه الشروط مستطاع عملياً وقانونياً ودولياً. وستكون هذه الأقلية العربية مكونة من ستمائة ألف شخص على الأقل وهو عدد السكان العرب بموجب خارطة الأمم المتحدة للتقسيم. ولن يستطيع اليهود حين يعود العرب إلى ديارهم جلب أكثر من 100 ألف إلى 150 ألف يهودي من الخارج خلال الأعوام الخمسة القادمة، وذلك بسبب المقدرة الاقتصادية اليهودية على الاستيعاب، وهي مقدرة ستحددها تحديداً سيئاً إغلاق الأسواق العربية في وجه الإنتاج اليهودي ومنع الجوالى اليهودية في الشرق العربي من أن تعود إلى فتح المبادلة التجارية مع يهود فلسطين وتعزيز اقتصادياتهم كما فعلت في السنين السابقة عن طريق إيطاليا واليونان وغيرها. وسبب آخر هو طبيعة المجتمعات اليهودية في الخارج. فإن يهود أمريكا لمن يتركوا بحبوحة الرخاء في العالم الجديد لاختيار تجربة الصهيونية الشيوعية في فلسطين، وكذلك حال يهود غربي أوربا.

وقد تكاثرت مؤخراً الأنباء بأن النظم الشيوعية القائمة في شرقي أوربا، ونسبة أولى الأمر من اليهود فيها كبيرة، قد بدأت تحول بين هجرة ما تبقى من اليهود في منطقة النفوذ الشيوعي لتحتفظ بسند لها أمام سخط الأكثرية من غير اليهود.

والقيادة الصهيونية تتطلع إلى أن تسد هذا العجز في سياسة تهويد فلسطين ومشكلة التعدد في برنامج الهجرة الطامة - تتطلع إلى جلب الـ 800 ألف يهودي الذين يستوطنون مختلف أقطار الشرق العربي وشمالي أفريقيا. وهذه ناحية لا يبدو أن صناع السياسة في العالم العربي يعطونها ما تستحقه من مراقبة واهتمام

ولقد كان عدد العرب في فلسطين في مستهل الغزوة اليهودية (1919) حوالي 650 ألفاً فأصبحوا بعض مضى 25 عاماً مليوناً ونصف المليون تقريباً، وذلك بسبب هذه العوامل الديمغرافية الفريدة التي ذكرها الخبير نوتستاين وغيره من الباحثين في مشاكل السكان. فنستنتج من ذلك أن بقاء 600 ألف عربي بين ظهراني 900 ألف يهودي الآن سيقلب أوضاع هذه الكثرية اليهودية رأساً على عقب في بضعة عشر عاما. وهذه طريقة عملية على غاية من الأهمية في تقرير مصير المطامع الصهيونية في فلسطين والشرق العربي.

كل ذلك بالإضافة إلى العواقب السياسية الخطيرة في العالم العربي إجمالا وهي التي تستلزمها رعاية مصالح السكان العرب في منطقة النفوذ اليهودي، وما سيترتب على ذلك

ص: 11

من استعداد نفساني وعسكري يضمن دوام اتجاهات العرب نحو القضية الفلسطينية كلما ارتفعت شكاوى العرب المقيمين بين ظهرانى اليهود في فلسطين.

وإذا كان الداعون لتفادى عودة اللاجئين العرب إلى ديارهم في المنطقة اليهودية يبنون دعوتهم على نظرة عملية واقعية فإن الداعين إلى العودة يبنون دعوتهم على أسس واقعية صرفة مستمدة من طبيعة التزايد الهائل بين السكان العرب، وطبيعة مستقبل الصراع بين اليهودية العالمية والوحدة العربية.

والرياح الدولية لا بد أن تهب مواتية للسفينة العربية عاجلاً أو آجلاً، وإن الحرب الفلسطينية قد أخذت تتمخض عن نزعة عسكرية صادقة واتجاه عملي إلى الإصلاح في الجهاز الإداري والنظم السياسية والاقتصادية والوعي الاجتماعي.

هذه تعليلات ولفتات قد تفيد عند البت في مستقبل اللاجئين العرب. ومسألة البت أكبر من أن تعالج في بحوث عارضة وهي تتطلب دراسات شاملة لا يصلح أن تكون العاطفة أساسها الوحيد. فهذا الاتجاه العاطفي إذا تجرد من المعرفة الصائبة قد يولد عكس ما يتوخاه العاطفون، ويسبب ارتجالا في السلوك على النحو الذي صبغ تاريخ القضية الفلسطينية بطابع النكبات المتلاحقة.

نيويورك

عمر حليق

معهد الشؤون العربية الأمريكية

ص: 12

‌على رسلك يا صديقي

بيني وبين الشاعر الزين

للأستاذ محمد الأسمر

كتب صديقي أديبنا الفاضل الأستاذ عباس خضر كلمة عنوانها (الأسمر يسطو على شعر الزين) ذكر فيها أنني سطوت على صديقي الشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد الزين فسرقت أبياتاً، أدخلتها في قصيدتي التي رثيت بها المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا. والقصيدة المذكورة أكثر من خمسين بيتاً، أبياتها الأولى ما يأتي:

أفي كل يوم دمعة خلف غائب

وفي كل يوم لوعة بعد غارب

رجال كأمثال النجوم، فثاقب

مضى وهو لمَّاع على إثر ثاقب

لأوشك دمعي أن تجف شؤونه

على كل ماض ليس يوماً بآئب

إذا ما انتهينا من رثاء لذاهب

بدأنا رثاء بعد ذاك لذاهب

أما يستريح الشعر في كل ساعة

رثاء لحر، أو رثاء لصاحب؟!

ثُريا رجالات تهاوتْ نجومها

وكانت على الوادي ثريا الكواكب

وقال صديقنا الفاضل إن أبيات الزين التي أخذنا منها أبياتنا ما يأتي:

أفي كل حين وقفة إثر ذاهب

وصوب دم أقضي به حق صاحب

أودع صحبي واحداً بعد واحدٍ

فأفقد قلبي جانباً بعد جانب

تساقط نفسيكليومفبعضها

بجوف الثرى، والبعضرهنالنوائب

فيا دهر دع لي من فؤادي بقية

لوصل ودود، أو تذكر غائب

ودع لي من ماء الجفون صبابةً

أجيب بها في البين صيحة ناعب

والقارئ لأبيات الزين رحمه الله، لا يجد كل هذا التهويل الذي أثاره الناقد الفاضل، وإيضاحاً لذلك أقول: إن قصيدة الزين رحمه الله لا علم لي بها، فهي ليست من محفوظاتي التي حفظتها في صباي، وليست من القصائد التي قرأها الزين لي أوسمعتها منه، ولا هي من المتداول المعروف بين الناس، ومن الاتفاقات التي ليست بالعجيبة أن يحزن الزين لفقد أصدقائه، وأحزن أنا لفقد أصدقاء لي، أو فقد رجالات من رجالات مصر، فيقول كلانا قصيدته من بحر وروي واحد، فيجيء بعد ذلك تشابه في بعض الألفاظ في بيت أو بيتين

ص: 13

أوفي بعض المعاني المطروقة للجميع، وقد قلنا في مثل ذلك ندفع تهمة السرقة عن العقاد حينما كتب إلينا أديب ناشئ يقول إن العقاد سرق حينما قال:

فقبلتكفيه وقبلت ثغره

وقبلت خدَّيه وما زلت صاديا

فقد زعم الأديب الناشئ أن العقاد سرق هذا المعنى من قول القائل:

أعانقه والنفس بعد مشوقة

إليه وهل بعد العناق تدان؟

وألثم فاهكي تزول حرارتي

فيشتد ما ألقى من الهيمان

كأنَّ فؤادي ليس يشفى غليله

سوى أن يرى الروحين يمتزجان

نقول إننا قلنا لهذا الأديب الناشئ إنه لما كانت العواطف تتشابه فقد يجيء الشعر متشابهاً لأن الألفاظ وهي أداة التعبير عن العاطفة مِلكٌ لكل شاعر، فإذا كانت العواطف المتشابهة يتفق فيها الكثير من الشعراء، وإذا كانت الألفاظ التي هي أداة التعبير مِلكاً لجميع الشعراء، فإنه والحالة هذه يجدر بالناقد أن يتريث في حكمه على فلان أنه سرق من فلان.

هذا كلام قلناه قبل أن يموت دولة النقراشي باشا، وقبل أن يرثيه الراثون، ندفع به تهمة وجهت إلى شاعر، ونُبَصِّر الناشئين بالنقد السليم وصراطه المستقيم.

يقول ناقدنا الفاضل متحدثاً عني ما يأتي: (على أنني عجبت للأسمر وما هو بالعاجز عن النظم أن يكون أخذه من شعر الزين هكذا ظاهراً مكشوفاً) وأنا أقول لصديقنا الناقد إذا كنت تعلم أنني لست عاجزاً عن النظم فهلا درأت الحدود بالشبهات؟! وإذا كنت تعلم أنني لست عاجزاً النظم فهلاَّ ترفعت يا صديقي عن أن تجعل من الحبة قبة؟ وهلاَّ أرحت بالك من أن تشغله بأنني سرقت ألفاظاً هي مُلك للجميع، أو أغرت على معنى ليس من مبتكرات المعاني وإبداعاتها، قال الجرجاني:

(ولستَ تُعدُّ من جهابذة الكلام ولا من نقاد الشعر حتى تميز بين أصنافه وأقسامه وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه، والمبتذل الذي واحد أحق به الآخر وبين المختص الذي حازه المبتدى فملكه) وقالوا (إن السرقة في البديع المخترع لا في المعاني المشتركة) وقالوا (إن صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر فتلك المواردة).

وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال الشعر جادة وربما وقع الحافر على موضع الحفر!!

ألم يمرَّ صديقي الأستاذ عباس على ذلك وأمثال ذلك قبل أن يجلس على منصة حكمه بمجلة

ص: 14

الرسالة الغراء، ثم يقول (الأسمر يسطو على شعر الزين) خصوصاً إذا كان صديقنا يقول إن الأسمر ليس بعاجز عن نظم الشعر.

ألم يقل امرؤ القيس (يقولون لا تهلك أسًى وتجمل) وقال طرفةُ (يقولون لا تهلك أسًى وتجَلّدِ) ألم يقل امرؤ القيس:

وشمائلي ما قد علمتِ وما

نبحتْ كلابك طارقاً مثلي

وقال عنترة:

وإذا صحوتُ فما أقصرُ عن ندًى

وكلما علمتِ شمائلي وتكرمي

ثم ألم يقل عنترة:

وخيْلٍ قد دلفتُ لها بخيْلٍ

عليها الأسد تهتصرُ اهتصارا

وقال عمرو بن معد يكرب:

وخيٍْل قد دلفتُ لها بخيٍْل

تحيةُ بينهم ضرب وجيع

وقالت الخنساء ترثى أخاها صخراً:

وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ

فدارت بين كبشها رحاها

ثم ألم يقل أبو تمام:

بمحمد؛ ومُسوَّد، ومُحسَّدٍ

ومُكرم، ومُمدَّح، ومُنعزَّلِ

وقال البحتري:

ذاك المحمدُ والمسوَّ

دُ والمكرَّمُوالمحسد

هذا قليل من كثير تفيض به كتب الأدب والأمثلة على ذلك كثيرة من شعر المتقدمين والمحدثين، ولولا خوف الإطالة ذكرنا ما جاء في الكتب، وذكرنا ما لحظناه نحن ولم تذكره الكتب، ونحب أن نذكر هنا مما لم تثبته الكتب قليلاً من الأمثلة:

قال امرؤ القيس متحدثاً عن نفسه في مرضه:

(ولكنها نفس تساقط أنفساً)

قال الزين رحمه الله في الأبيات التي ذكرها صديقنا وصديقه الأستاذ عباس:

تساقطنفسيكلَّيوم فبعضها

بجوف الثرى والبعض رهنُ النوائب

وكذلك قال عبد الله بن الخياط الأندلسي يصف الليل:

ص: 15

كأنه راهب في المسح ملتحفٌ

شدَّ المجرُّ له وسطاً بزّنار

وقال البارودي في قصيدة عينية يصف فيها الليل بيتاً لا أذكر جميعه الآن جاء في آخره قوله: (كالراهب المتلفِّع). . . ورثى شوقي رحمه الله صديقه المغفور له إسماعيل باشا صبري بقصيدته التي قال في أولها:

أجل وإن طال الزمان مواف

أخلي يديك من الخيل الوافي

وهي قصيدة معروفة لدى خاصة الأدباء وعامتهم، ثم جاء الجارم رحمه الله فرثى دولة النقراشي باشا من بحر هذه القصيدة ورويِّها فوقع في موافقات لفظية كثيرة استرعت أنظار الأدباء لمعرفة خاصتهم وعامتهم قصيدة شوقي ولكنها لم تسترع نظر ناقدنا الفاضل. . . ولو أردنا سرد ما نعلمه من هذه الأمثلة، ضاقت به صفحات مجلة الرسالة:

وبعد: فهذا ما رأينا أن نعلق به على بعض ما جاء بكلمة صديقنا، أما بقية النقد من هذه الألفاظ التي تخيرها لنا الصديق فليست لدينا أخواتها لنتحف بها صديقنا كما أتحفنا، ولوأنها كانت لدينا أمسكناها عنه، فقد رُضْنَا أنفسنا على أن لا نتحف بها صديقاً كالأستاذ عباس، مهما أَلحَّ وألحف وتابع ولاحق؟! ولا يفوتني أن أشكر له هذه العناية المتلاحقة بكل ما نقوله في بعض المناسبات، فتعليقه على ما نقول أياً كان لون هذا التعليق تخليد من لدنه لنا، وهوعناية على كل حال! ويا حبذا لو تفضلت الرسالة الغراء وهي سجلٌّ أدبي فنشرت قصيدة الأستاذ الزين كاملة، ثم تفضلت فنشرت قصيدتي معها. . .

رحم الله الأموات، وغفر الله للأحياء.

محمد الأسمر

ص: 16

‌نصير الدين الطوسي

حامي الثقافة الإسلامية وتراث العرب الفكري إبان الغزو

والمغولي

للأستاذ ضياء الدخلي

أما ياقوت الحموي فإنه قد توفي عام (616 هـ) أي قبل وفاة الطوسي بـ (46) عاماً، هذا العهد لم يكن الطوسي قد اتصل بهولاكو، إذ أنه خرج من سجن قلعة الموت واصطحبه هولاكو في عام 654 هـ وإذن فالمدارس والحياة العلمية التي يصفها ياقوت كانت في مراغة قبل مجيء الطوسي إليها، ولربما كان الطوسي وقت وفاة الحموي مؤلف معجم البلدان - في طوس حيث كان يطلب العلم.

والغرض أن المراغة كانت مدينة علم وأدب فاختارها الطوسي مقراً لمدرسته. ويقول جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم: (إن حسن مناخها وصلاح جوها للأرصاد الفلكية بصورة ممتازة - شجع الطوسي على بناء مرصده فيها) وقد التف حول الطوسي فيها جمهور من العلماء وطلاب العلم حتى أنه عندما رحل منها إلى بغداد في عام (1274 م) ارتحل في جيش جرار منهم. قال ابن شاكر (المتوفى عام 764 هـ) في فوات الوفيات (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه كثير من تلامذته وأصحابه فأقام بها مدة أشهر ومات).

فالطوسي في جمعه رجال العلم حوله حفظ سلسلة الثقافة الإسلامية في الشرق موصولة الحلق متصلة الأسباب وأبقى منار العلوم مضيئاً لم تطفئه هجمات الأمم الابتدائية؛ وإذن فأي خدمة عظيمة توازي ما قام به الطوسي رحمه الله؟

نعم لقد ألب عليه بعض المتعصبين من جهلاء المتقشفين الذين أمسكوا بقشور الدين وخسروا لبابه - لقد أثار عليه حفيظة هؤلاء تشيعه، ولا ريب أن هذا العامل الذي لا أهمية له في الأوساط المثقفة العصرية - كان في العصور الوسطى ذا أثر في توجيه نقد الناقدين وتسديد حملاتهم الزائفة. ولا يهم مؤرخ الحضارة اليوم ما كان يعتنقه الشخص من عقيدة دينية بقدر ما يهمه من آثاره العلمية والأدبية وما أنتجته عبقريته؛ فإذا وزنا قيمة النصير

ص: 17

بهذا الميزان رجحت كفته، فقد رأيت في تتبعاتي الخاصة مدى اهتمام الغربيين بهذا الفيلسوف الرياضي العظيم. ففي الوقت الذي ترى فيه الرجعيين الجامدين من المتزمتين يكيلون السباب جزاءاً لهذا الفيلسوف العظيم تجد كبار مؤرخي الحضارة الإسلامية يسجدون لعظمة العبقرية النادرة في شخص نصير الدين الطوسي وينسبون إليه المعجزات في الرياضيات ويسجلون له الابتكارات والاكتشافات والاختراعات الرائعة فتسخر من هؤلاء الجهلاء الذين تحاملوا على كرامة الطوسي، وأساؤا إلى سمعة المسلمين في جهلهم بقيم رجال العلم وانصياعهم لداعي التعصب الذميم. لقد كان أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ) يخبط خبط عشواء رحمه الله وعفى عنه)، إذ قال في ص 297 من الجزء الثاني من كتابه (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان).

(وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه (المصارعة) أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفى علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد (يقصد نصير الدين الطوسي رحمه الله وقعد، ونقضه بكتاب سماه (مصارعة المصارعة) ووقفنا على الكتابين - نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه لا يعلم شيئاً وأنه لا يفعل شيئاً بقدرته واختياره ولا يبعث من في القبور. وبالجملة فكان هذا الملحد (أي نصير الدين) هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر). ومن قرأ كتب الطوسي في علم الكلام آمن أن ابن قيم الجوزية مفتر على الرجل، وأن كتب الطوسي في الإيمان والعقائد وصلت إلى برلين، ولم يصل أسمها إلى مؤلف إغاثة اللهفان إلى الباطل والبهتان. وقد شرح كتاب الطوسي تجريد العقائد جماعة من العلماء والمتكلمين الأفاضل وفي مقدمتهم المولى على القوشجي الشافعي من سمرقند والعلامة الحلى من العراق. ثم يستمر ابن الجوزية في هذيانه فيقول:(والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه (أي عن الطوسي) وعن إمامه ابن سينا. وبعضها عن أبي نصر الفارابي وشيء منها من كلام أرسطو وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه كثير التطويل لا فائدة فيه. وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه. .) ولا أدري كيف حكم بركاكة ألفاظ أرسطو في لغته اليونانية التي أعتقد أنه يجهلها!

ص: 18

ولنعد إلى حديث المستشرق العلامة الفرنسي سديو في كتابه تاريخ العرب العام.

قال (ص 269 من تعريب عادل زعيتر) دخل المغول بغداد عنوة فانتهبوها في سبعة أيام فحرقوا بعض المخطوطات الثمينة التي وجدوها في المكتبات والمدارس وألقوا بعضها الآخر في نهر دجلة فأصبحت مياهه من مدادها على حسب رواية مؤرخ عربي مبالغ فيها.

نهب المغول ما اشتملت عليه مدينة المنصور بغداد من الكنوز العجيبة مع أنهم سلبوا بخارى وسمرقند ومرو ونيسابور وأصفهان فيما مضى، وخنق المستعصم بأمر هولاكو فجرت جثته الدامية تحت أسوار بغداد التي كانت شاهدة على عظمة العباسيين وانحطاط هؤلاء وذلهم.

وأمحى العرب بين تلك الثورات (الداخلية) المتصلة - أمام برابرة الشمال والترك والمغول ولم يبق لهم كيان سياسي خارج جزيرة العرب أي تواروا من مسرح تاريخ أمم الشرق؛ بيد أن الأثر العظيم الذي طبعوا به الحضارة لا يزال ظاهراً، ولم يؤد ما وقع في آسيا من الانقلابات إلى غير تأييده بأسطع بيان؛ فقد رأينا أن ملكشاه السلجوقي اقتبس من مدرسة بغداد إصلاح التقويم الفارسي، وأن محموداً الغزونوى اتخذ مشاوراً له ذا التأثير العظيم في عصره العبقري العالمي البيروني.

ولما ظهر هولاكو المغولي الذي لا يعرف كيف يصون من اللهب الآثار الرائعة التي جمعت بفضل ذوي البصائر أذعن لنفوذ نصير الدين الطوسي فأذن لهذا الرياضي الشهير في إقامة مرصد فخم بمراغة.

ولما أصبح أخوه (كوبلاي) عاهل الصين نقل إلى مملكة ابن السماء معارف العرب. ولما مضى قرنان قامت على أنقاض الدولة المغولية دولة تيمورلنك الذي اعتقد وهو على رأس الترك الشرقيين أنه مرسل من الله ليملك آسيا بأسرها فخلفه ابنه شاهرخ وحفيده (ألوغ بك) فعد هذان الأميران ممثلي المدرسة العربية الأخيرين، ثم كان للهندوستان التي أنارها علم البيروني منذ عهد أصحاب غزنة بابن الأخ الصغير لأولوغ بك والمؤسس لدولة المغول في الهند (بابر - كان للهندوستان حافز مثمر إلى ثقافة العرب (في عهد بابر) انتهت شهادة المستشرق سيديو للعرب.

ولنصغ إلى شهادة مستشرق آخر هو السنيور كرلونلينو الذي كان أستاذاً بالجامعة المصرية

ص: 19

وبجامعة بلرم بإيطاليا (قديماً) فقد جاء في كتابه (علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى) وهو ملخص المحاضرات التي ألقاها بالجامعة المصرية، وقد طبع الكتاب بمدينة روما سنة 1911 م.

قال نلينو: (أما كتب العرب الفلكية فيجوز تقسيمها إلى أربعة أنواع؛ الأول، الكتب الابتدائية على صفة مدخل إلى علم الهيئة الموضح فيها مبادئ العلم بالأجمال، ودون البراهين الهندسية كالجاري في أيامنا في كتب السموغرافيا - ومن هذا النوع كتاب التذكرة لنصير الدين الطوسي وكتابه غير مطبوع، ومنها الملخص في الهيئة للجغميني المتوفى سنة 745 هـ (الموافق 1344 م) طبع في إيران مع شرح قاضي زادة الرومي المتوفى في نحو منتصف القرن التاسع.

النوع الثاني، الكتب المطولة المستقصى فيها كل العلم المثبتة لجميع ما جاء فيها بالبراهين الهندسية المتضمنة أيضاً لكافة الجداول العددية التي لا غنى عنها في الأعمال الفلكية وهذه الكتب على منوال كتاب المجسطي لبطليمومن فمنها تحرير المجسطي لنصير الدين الطوسي ونهاية الإدراك في دراية الأفلاك لقطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي (وهو تلميذ نصير الدين).

قال نلينو و (النوع الثالث) الكتب المعدة لأعمال الحساب والرصد فقط المسماة أزياجاً أوزيجات أوزيجة، ولفظ زيج أصله من اللغة البهلوية التي كان الفرس يستخدمونها في زمن الملوك الساسانيين يقول نلينو في هذه اللغة زيك معناه السدى الذي ينسج فيه لحمة النسيج، ثم أطلق الفرس هذا الاسم على الجداول العديدة التي يبنى عليها كل حساب فلكي مع إضافة قوانين عملها واستعمالها مجردة في الأغلب عن البراهين الهندسية. ومنها الزيج الصابي لمحمد جابر البناني المطبوع بروما في ثلاثة أجزاء، وكتب أخرى عديدة (أقول ومنها الزيحالايلخاني للطوسي).

وقد ذكر نلينو نصير الدين في عدة مواضع من كتابه فقال ص 198 إن أحد علماء القرن السابع للميلاد أعنى سلمسيوس الفرنسي عثر على اسم أحد علماء الفلك البابليين في شرح نصير الدين الطوسي على كتاب الثمرة لبطليموس فزعم الطوسي أنه منجم بابلي صاحب كتاب يوناني ذائع الصيت وموضوعه صور الوجوه، ألفه في النصف الثاني من القرن

ص: 20

الأول للمسيح.

وأثنى نلينو على الطوسي ص 236 فقال إن المستعمل الآن في أيامنا تسمية الضلع المقابل للزاوية القائمة (وتراً) وهذا الاستعمال قد سبقنا إليه الطوسي في كتابه تحرير أصول اقليدس في الهندسة. وقال نلينوص 244 ومما يستحقى الذكر أن العرب توصلوا في النصف الثاني من القرن الرابع إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، بل وضعوا هذه القاعدة أساساً للطريقة التي سموها (الشكل المغنى) في حل المثلثات الكروية. قال نصير الدين الطوسي في كتاب الشكل القطاع المطبوع في القسطنطينية سنة 1309) الخ وليس هنا مقام بيان ما خلد الطوسي من آثار رائعة في الهندسة وعلم المثلثات وباقي الرياضيات فقد أفردت لذلك مقالا مستقلا. إنما نقتصر في حديثنا اليوم على جهود الطوسي في مرصد مراغة وفي علم الفلك والهيئة - فقد كانت حديث المستشرقين ومؤرخي الحضارة الإسلامية العربية ولم نجد من ضرب صفحاً عن ذكره أو ولغ في ذمه إلا من أعماه التعصب الذميم.

الحق أن الطوسي رحمه الله من مفاخر الثقافة العربية ومن العقول الجبارة التي غمرت الأوساط العلمية بنتاجها الخصب، فازدهر تاريخ الشرق الأوسط. وقد أنقذ الطوسي منار العلوم بعد أن هددته عاصفة المغول وكادت تنطمس أنواره وتنمحي آثاره؛ فهو الذي منع شر المغول عن الفلاسفة ورجال العلم وأنفق واردات الأوقاف الإسلامية في بناء حياة علمية جبارة في مراغة بقيت آثارها في المكتبة العربية وكم من نفس أحياها باستنقاذها من سيوف التتار، وكم من قلب أحياه بالعلم.

ولنصغ إلى الأستاذ فيليب حتى يحدثنا في كتابه (تاريخ العرب) ص 377 - 378.

وإن هولاكو بعد تخريب بغداد بسنة شرع عام 1259 بشيد بقرب بحيرة بورمية مرصد مراغة العظيم، وقد كان أول مدير له نصير الدين الطوسي الشهير (نقلاً عن ابن العبري ص 500، وعن جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله).

وفي هذا المرصد نظم جداول فلكية جديدة سماها (الزيج الايلخاني) إذ ألفه على شرف هولاكو أوخانات المغول (أي ملوكهم) وقد ذاعت الجداول وأصبحت مألوفة في جميع آسيا حتى في الصين، وأن أثار هذا المرصد القصير العمر لا تزال قائمة حتى الآن (1937 م)

ص: 21

وبالقرب منها مكتبة أسسها هولاكو أيضاً، وقد قيل إنها كانت تحتوي 400000 مجلد، وأكثر هذه الكتب كان قد نهبه جيوش المغول في سورية والعراق وإيران.

وقال فيليب حتى ص 683: لقد حافظ العرب بعد منتصف القرن الثالث عشر على قيادتهم للعلم من الفلك والرياضيات. حاوية المثلثات، ومن الطب خاصة علم أمراض العيون، ويقول فيليب حتى وكان الإقبال على التأليف - من العلماء الفرس الذين يكتبون باللغة العربية (والحق أن كثيراً من المؤلفين كانوا عرباً أفحاحاً) وكان مركز نشاطهم مرصد الخان (هولاكو) ومكتبته في مراغة المؤسستين اللتين كانتا تحت إشراف نصير الدين الشهير (1201 - 1264 م) يقول فيليب حتى ومن الجميل أن تقرأ كتاب الكاثوليكي اليعقوبي السوري أبى الفرج ابن العبري (مختصر تاريخ الدول) وقد أرجعنا فيليب إليه لأنه كان معاصراً للطوسي وكان في مراغة كما تقدم.

ويظهر أن فيليب حتى لم يطلع على كتاب ابن الفوطي الذي كان أميناً لمكتبة مراغة وكاتباً لنصير الدين، وقد طبع في بغداد بإشراف الدكتور مصطفى جواد، وعلى كل فإن من الغريب أن ينسى فيليب حتى المؤلفين من العرب في ذلك العهد وهم كثيرون ومنهم من أخذه هولاكو إلى مرصد مراغة كمؤيد الدين العرضي الدمشقي، وابن الفوطي ومحي الدين المغربي وآخرين في مصر والشام والأندلس وبغداد وعلى الأخص في الحلة قرب بابل التاريخية على الفرات.

ومن أولئك العلامة الحلي تلميذ الطوسي وقد شرح كتابه التجريد في الكلام وقرأ عليه الإلهيات بالشفاء لأبى علي بن سينا وبعض التذكرة في الهيئة من تصنيفه. وأما ابن الفوطي فقد نقل ابن العماد الحنبلي أنه في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف فلازمه وأخذ عنه علوم الأوائل وبرع في الفلسفة وغيرها وأمده بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم. ومن معاصري الطوسي - السيد علي بن طاوس الحلي والشيخ ميثم بن علي البحراني. ومن مشايخه معين الدين سالم ابن بدران المصريوآخرون رحمهم الله جميعاً.

ضياء الدخيلي

ص: 22

‌القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب

‌الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

- 6 -

وكان الجندي يمضي إلى القتال لابساً درعه، وعلى رأسه المبيضة أو المغفر، وفي يده ترسه أو درقته، ويتسلح بالسيف أو الرمح أو الحربة أو الدبوس، وهو عصا من خشب أوحديد، مضلعة ملبسة بالكيمخت الأحمر والأسود ذات رأس مدورة مضرسة، أو اللت وهو كالدبوس ولكنه ذو رأس مستطيل، أو المستوفيات وهي عمد من حديد طولها ذراعان مربعات الأشكال لها مقابض مدورة، أو الخنجر أو القسى والسهام والنبال والنشاب.

ويسير الجيش إلى الحرب وأهم ما معه من آلات القتال والحصار المجانيق، ومنها الكبار تحملها مائة عجلة، ومنها دون ذلك، ومن أنواعه ما يشد بلوالب وأقواس، أو يدار كالمفلاع. ويستخدم المنجنيق غالباً لهدم الحصون بالحجارة مضخمة أو لرمي الأعداء بالنبال أو العقارب ونحوها من آلات الأذى، أو لإحراق أماكن العدو بالنقط وغيره. فأن كانت المقذوفات خفيفة ثقلوها بالرصاص، وإن كانت من الشواعل كالنفط ونحوه صنعوا لها كفة علقوها بسلاسل.

والعرادات وترمى بالحجارة المرمى البعيد أيضاً، وهي أصغر من المجانيق.

ويتخذون الدبابات لتسلق أسوار العدو، وهي آلات من الخشب السميك. وقد تكون طباقاً، وتغلف بالجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستدير يدفعها الرجال ويصعد الجند في أعلاها ويستعلون على السور، وينزلون فوقه أو يحاربون المحاصرين من أعلى السور. وقد يستخدمون الدبابات لهدم الأسوار فيسيرونها ويحتمون بجدرانها، ويجعلون رأسها محدداً يصدمون به الأسوار حتى تهدم، أو يتخذون لهدم الأسوار الكباش، وهي كالدبابات ولكن رأسها في المقدمة مثل رأس الكبش، وهو متصل في داخل الدبابة بعمود غليظ معلق بحبال تجري على بكر معلقة بسقف الدبابة لسهولة جره، فيتحصن الرجال في الداخل، ويتعاونون من داخل الدبابة على ضرب السور حتى يمزقوهأو يتخذون الزحافات يدقون بها الحصون والأسوار. وبها أبراج للجند مجهزة بالقسى.

ص: 23

ويلقي الجند على أعدائهم بندقاً من الحديد يزن عشرة أرطال إلى مائة رطل، ورماة هذا النوع من أدوات القتال يسمون الجوخية، أو يقذفونهم بقوارير النفط والقطران يرمون بها الحصون والقلاع للإحراق، ويسمى القاذفون بالرازقين؛ لأنهم يستخدمون لذلك أنابيب تعرف بالرزاقات.

ومن أشد ما استخدمه المصريون للفتك بأعدائهم النار اليونانية، وقد كتب عنها الأستاذ عبد الله عنان في كتابه:(مواقف حاسمة) حديثاً طويلاً عن نشأتها وتطورها، فذكر في (ص102) أنها كانت تركب من زيت النفط والكبريت والجير والقار. فينتج من ذلك السائل الملتهب. وكانت تستعمل في حروب البر والبحر معاً، في أثناء التحام الصفوف، وفي أثناء الحصار. فتقذف من فوق الأبراج أو الأسوار في آنية كبيرة، أو تطلق في كرات مشتعلة من الحديد والحجارة، أوفي سهام ملتوية قد لفت بالقنب والوبر والشعر مشبعة بالسائل الملتهب. وأما في المعارك البحرية فكانت تحمل في سفن النار: الحراقات. وتطلق من أنابيب طويلة من النحاس ركبت على مضخات ضاغطة توضع في مقدمة السفينة، وتجعل على هيئة وحوش فاغرة أفواهها تقذف وابلاً من النيران السائلة المضطرمة) ويذكر الأستاذ ما كان لهذه النار من أثر في نفوس الفرنج في معركة المنصورة، وينقل لذلك قول مؤرخ شاهد عيان في تلك المعركة من الفرنج هو (دي جوانفيل) الذي يصف هذه النار بأنها تثب مستقيمة كأنها أسطوانة كبيرة، ولها ذيل من اللهب قدر الحربة، ودوياً يشبه الرعد، وكأنها جارح يشق الهواء، ولها نور ساطع جداً من جراء عظم انتشار اللهب الذي يحدث الضوء حتى إنك ترى كل ما في المعسكر، كما ترى في ضوء النهار، ويصف هذا المؤرخ ما أحدثته هذه النار من تدمير في معسكرهم ورعب في قلوبهم، ولم يستطع الصليبيون في ذلك الحين معرفة سر تركيب هذه النيران.

وكان المسلمون يتقون مقذوفات عدوهم بسنائر توضع على الأسوار والسفن لتستر المقاتلين، ويكافحون نيران عدوهم التي تقذف على مراكبهم بأن يعلقوا حول سفنهم الحربية من الخارج جلوداً مبلولة بالخل والماء والشب والنطرون لدفع أذى النفط، وكذلك كان يستعمل الأعداء في تحصين آلاتهم الحربية، ولكن بعض العرب قد اخترع من النيران ما لا يقف الخل في سبيله: صنع العدو في حصار عكا ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها

ص: 24

الجلود المسقاة بالخل، بحيث لا تنفذ فيها النيران، وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال عالية على سور البلد، ومركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر، ويتسع سطحها، لأن ينصب عليه منجنيق، وقد ملأ ذلك نفوس المسلمين خوفاً ورعباً، ويئس المحاصرون في المدينة، ورأوها وقد تم عملها ولم يبق إلا جرها قرب السور وأعمل صلاح الدين فكرة في إحراقها، وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وحثهم على الاجتهاد في إخراقها، ووعدهم على ذلك بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة، ولكن ضاقت حيلهم عن ذلك. وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه أن له صناعة في إحرانها وأنه إن مكن من الدخول إلى عكا، وحصلت الأدوية التي يعرفها أحرقها؛ فحصل له جميع ما طلبه، ودخل إلى عكا وطبخ الأدوية مع النفط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ثم ضرب واحداً بقدر، فلم يكن إلا أن وقعت فيه، فاشتعل من ساعته ووقته، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستغاث المسلمون بالتهليل، وعلاهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب. وبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج الثاني بالقدر الثانية، فما كان إلا وصلت إليه واشتعل كالذي قبله فاشتد ضجيج الفئتين، وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالتهب وغشي الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوي الأحلام.

وهكذا تفوق المسلمين الحربى في تلك العصور.

واستخدم المسلمون في سفنهم الكلاليب يلقونها على مراكب أعدائهم. فيقفونها، ويشدونها إليهم، ثم يصنعون جسوراً من الألواح تصلهم بها، فيدخلون إليها ويقاتلون أصحابها.

ولخلق جو من الحماسة في صدور الجند استخدموا، والمعركة دائرة، دق الكئوس ونفير الأبواق، كما تصنع الآن الفرق الموسيقية.

هذا وكانت آلات القتال تصنع في مصر والشام وتباع فيهما في سوق السيوفيين وسوق السلاح.

وعنى في ذلك الحين بإنشاء القلاع في المدن، والأسوار حولها وكان صلاح الدين يتفقه في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق وأحب أن يجعل لنفسه معقلاً بمصر كمعاقل الشام، فأمر بإنشاء قلعة بالقاهرة وسور يحيط بها وبالقلعة ومصر وأقام على عمارة ذلك بهاء الدين

ص: 25

قراقوش الأسدي، فبدأ في بناء ذلك سنة 572 وهدم ما هنالك من المساجد، وأزال القبور، وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة، وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة وتم قسم كبير من القلعة. وكان صلاح الدين يقيم بها أياماً، كما سكنها الملك العزيز عثمان، في أيام أبيه، ولكن السلطان مات قبل أن يتم العمل في السور والقلعة فأهمل العمل إلى أن كانت أيام الملك الكامل محمد، فإنه أتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية ودواوين الدولة، وسكنها حتى مات، وظلت من بعده دار مملكة مصر إلى أن كان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فإنه أنشأ قلعة بالروضة شرع في حفر أساسها يوم الأربعاء 5 شعبان سنة 638. وهدم لها ما كان في هذه الجزيرة من دور ومساجد وكنائس، وقطع ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، وأنفق في عمارة قلعته أموالاً جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجاً، وبنى بها جامعاً وغرس فيها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصوان من البرابي وعمد الرخام وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والزاد والأقوات خشية محاصرة الفرنج، وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة. وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل حتى بلغت حداً يدهش؛ لكثرة زخرفها وحسن سقوفها وبديع رخامها. ولما كملت تحول إليها بأهله وحرمه واتخذها دار ملك، وأسكن فيها معه مماليكه البحرية، ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولة بني أيوب. فلما ملك المعز أيبك أمر بهدمها، وعمر منها مدرسة، وطمع في القلعة من له جاه، فأخذ ما يروقه من سقوفها، وأخشابها، وشبابيكها حتى بنى بعضهم منازل منها، فلما جاء بيبرس اهتم بعمارة قلعة الروضة، وأراد إعادتها كما كانت، فأصلح بعض ما تهدم فيها، ولكن هيئتها لم تدم فإن قلاوون لم يكد يشرع في بناء البيمارستان والقبة والمدرسة المنصورية، حتى أخذ من قلعة الروضة ما يحتاج إليه منها، كما أخذ الناصر محمد منها ما احتاج إليه في بناء أبواب بقلعة الجبل وجامع له. وهكذا ذهبت القلعة كأن لم تكن.

أما بلاد الشام فكانت مليئة بالقلاع والحصون كقلعة حلب وقلعة دمشق وحصن الكرك وكوكب، وشقيف أرنون وبصرى وهوتين وتينين وتل باشر وقلعة حماة وحمص وعكا والشوبك وصرخد وكثير غير ذلك. ومعظمها يناطح السحاب بعلوه ويشبه الجبال بمتانته

ص: 26

وعنى بهذه القلاع والحصون؛ لأن المدينة إذا خلت من حصن يسهل على العدوأن يجتاحها كل حين. وأحياناً كان المسلمون يضطرون إلى هدم أسوار المدن وقلاعها، حتى لا يتحصن بها الأعداء إذا سقطت في أيديهم، وقد شاهدنا أمثلة لذلك فيما مضى.

ومما عنى به في ذلك الحين برجا دمياط، فقد كانت دمياط هدفاً للصليبيين في ذلك العصر، هاجموها في عصر الدولة الفاطمية والأيوبية. والمؤرخون مختلفون في وصف هذين البرجين، فأبو شامة يجعل البرج واحداً في وسط النيل، ودمياط بحذائه من شرقيه، والجزيرة بحذائه من غربيه، وفي ناحيتيه سلسلتان تمتد إحداهما على النيل إلى دمياط، والأخرى على النيل إلى الجزيرة، تمنعان عبور المراكب من البحر المالح، فهو قفل الديار المصرية إذا أوثقت السلسلتان امتنع على المراكب العبور إليها، ومتى لم تكونا عبرت المراكب، وبلغت إلى القاهرة ومصر وإلى قوص وأسوار.

والمقريزي في السلوك (ج2ص72وص188) والخطط (ج1ص347) يقول: (وكان إذ ذاك على النيل برج منيع في غاية القوة والامتناع فيه سلاسل من حديد عظام القدر والغلظ تمتنع في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله، ويعرف اليوم مكانهما في دمياط بين البرجين). وأبو شامة قد وصف ما رآه والظاهر أن البرج الثاني القريب من شاطئ دمياط لم تكن له أهمية حربية، كالبرج القريب من الشاطئ الثاني. ويرجع إنشاء هذا البرج غالباً إلى أيام المتوكل سنة237. فإن دمياط منذ العصور الأولى للإسلام كانت محط أنظار الغزاة.

وعنى صلاح الدين بهذين البرجين، فرتب المقاتلة عليهما، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين وشدت إليها مراكب ليقاتل عليها ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورم شعث سور المدينة، وسدت ثلمه، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار.

وهاجم الفرنج دمياط سنة 615 في آخر أيام العادل، وعملوا آلات ومرمات وأبراجاً متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكنوا من المدينة، وألحوا في مقاتلة أهل البرج، فلم يظفروا منه بشيء مدة أربعة أشهر، ثم احتال الفرنج فأقاموا برجاً من الصواري على بطسة كبيرة وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه، وقاتلوا من به حتى أخذوه. وكان ذلك ممهداً لأخذهم دمياط على ما ذكرنا. ولما علم العادل بأخذ الفرنج

ص: 27

برج السلسلة تأوه تأوهاً شديداً، ودق بيده على صدره أسفاً وحزناً ومرض من ساعته، واشتد مرضه حتى مات. قال أبوشامة: وأذكر وأنا بدمشق حين بلغ الناس أخذ الفرنج برج السلسلة وقد شق ذلك على من يعرفه مشقة شديدة، ومنهم شيخنا أبو الحسن السخاوي، ورأيته يضرب يداً على يد ويعظم أمر ذلك. وسمعت الفقيه عز الدين بن عبد السلام يسأله عنه، فقال: هو قفل الديار المصرية، وصدق. ويظهر أن الفرنج خربوا هذا البرج كي لا يكون عقبة في سبيلهم ولا قوة في أيدي المصريين كرة أخرى، فأنا لم نسمع شيئاً عنه عندما غزا الفرنج دمياط في عهد الصالح نجم الدين أيوب، ثم عمره قطز، وهو البرج الذي اعتقل فيه أسرة المعز أيبك.

(النهاية في العدد القادم)

أحمد أحمد بدوي

ص: 28

‌ليتني أدري!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

ليتني أدري!

ما الذي يغري

يا حبيب الروح

بالهوى البكرِ

قلبي المجروح؟

روحك الهيمان؟

جسمك الريان؟

حرت في أمري

ليتني أدري!

ليتني أدري!

ما الذي يجري

خلف هذا الباب؟

والهوى يسري

في دمي المنساب!

آهة حرَّى

تحمل السرَّا!

حرت في أمري

ليتني أدري!

ليتني أدري!

والدجى مسحورْ

حول أيامكْ!

هل يذيع النور

سر أحلامك؟

إنها الأشباح

أشعلي المصباح!

في يد الفجر

علني أدري!

ليتني أدري!

كيف لا يظهر

سرك المستور؟

نورك الأحمر

كيف يخشى النور؟

بينما سري

ذاع في شعري!

آه من أمري!

ليتني أدري!

ليتني أدري!

حين تنسابْ

موجة الإحساس!

ترقص الأهداب

تسرع الأنفاس!

ص: 29

يخفق القلبُ

هل هو الحبُّ؟

حرت في أمري

ليتني أدري!

ص: 30

‌وفاء وحنان.

. .

للآنسة (ن. ظ. ع)

(من وحي قصة سينمائية غربية شاهدتها على الشاشة تمثل أروع صورة للحنان الإنساني يضفيه رجل على أسرته وزوجته المريضة، مما يهز أرق المشاعر، ويثير أنبل الخواطر).

إلهي. . . أفي الغرب هذا الوفاء؟

أتحظى النساء بهذا الحنانْ؟

وفي الشرق يظلمهُنَّ الرجال

ويقسو عليهن صرْف الزمان!

أَتُظْلَمُ حواء روح الحنان

ويُجزى الوفاء بهذا العقوق؟

أتظلم بالشرق مهد الهداةِ

وأرض الشداة بنيْل الحقوق؟

أرى حكمة الله في شرعه

ترد الفساد وتهدي الظلال

ففيم التلاعب بالدين. . . ربي

وباسم الشريعة يطغى الرجال!

يُريدونهنَّ متاعاً لهم

تعدَّدنَ مثنى به أو رُباع

أهذا هو الشرع. . . يا ويحهم

لقد صيَّرُوه سبيلَ الخداع

أخذتم من الغرب تلك القشور

وحب المظاهر دون الُّلباب

وأنتم لعمريَ لا تبتغون

سوى الجسم مثل جِياع الذئاب

وأنكرتم الروح. . . يا ويحكم

وأين هو الرفق! أين الحنان؟

ونبل النفوس؟ وصدق الوفاء؟

وأين النبيل بهذا الزمان!

ويا لهفَ من ضَلّلتها المعاني

وحثَّت خطاها ابتغاء الكمال

فطاح الخيال بعذب الأماني

ولم تدر أين تحطُّ الرحال!

ظَنَنتُ بأحلامها أن تُسامَ

صَغار الجُسوم وثِقْل الأنام

أتهوى إلى الطين بعد التسامي

كما يسقط النجم فوق الرَّغام؟

ص: 31

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

أدعياء الأدب في الصحافة اليومية:

يأخذ على بعض القراء هذا العنف الذي ألقى به الحياة الأدبية فيما أكتب من تعقيبات؛ والواقع أنني لا ألجأ إلى هذا الاتجاه حباً فيه ولا ميلاً إليه، ولكن الحياة الأدبية هي التي تدفعني دفعاً إلى أن أسلك هذا الطريق وترغمني إرغاماً على أن أسير فيه! وما ذنبي إذا كنت أقع على أشياء تجافي الحق والذوق، وتصدم الخيال والواقع، وتخالف منطق الحياة والأحياء؟! وما ذنبي إذا مددت عيني إلى صحيفة من الصحف أو مجلة من المجلات فرأيت ناقداً يكتب في غير مجاله، أو أديباً يطمس الحقائق بسخف خياله، أو شاعراً يفرض شعره على الناس وهو محروم من نعمة الشعور؟!. . .

يا من تأخذون على العنف في معالجة القضايا الأدبية، تعالوا واقرءوا معي هذه الكلمات؛ إنها من مقال كتبه في (المصري) الأستاذ عبد الرحمن الخميسي تحت عنوان (لعنة القلم). . اقرءوها معي لتعلموا إلى أي حد تثيرني بعض الأقلام حين تتناول مشكلات الأدب والفن هذا التناول الذي يبعث على الضحك والعجب والإشفاق! يقول الأستاذ الخميسي:

(ألم تبدل موسيقى فاجنر الألماني اتجاه الحياة في ألمانيا تبديلاً عظيماً؟ إن فاجنر الفرد الواحد، الذي تغلغلت موسيقاه في نفوس الألمان والذي طبعت أنغامه بوحشيتها وقوتها روح الشعب الألماني، والذي حفزت ألحانه الناس إلى الاستعلاء وإلى التحليق، هذا الفرد الواحد كان يكتب بقلمه موسيقاه حروفاً صماء على الورق، ثم يشعل بهذه الحروف حين يعزفها الأوركسترا أرواح الملايين ويبهرها، ويجلوها، ويرتفع بها إلى عليين!. . كانت موسيقى فاجنر الأفق المجيد الذي استنزل منه نيتشة الشاعر الفيلسوف أروع قصائده وأبسل أغانيه، وكانت هي الأفق المجيد الذي استلهمه فاجنر صورة الإنسان الأعلى. وهكذا ترى أن موسيقى فاجنر هي التي فتقت أكمام العبقرية في نيتشة، وهي التي مهدت الطريق للمذهب النازي. . الخ)!

بجرة قلم فتقت موسيقى فاجنر أكمام العبقرية في نيتشة. . . من أين جاء الكاتب بهذا الرأي الذي يذوب خجلاً أمام الحقيقة؟ لا أدري ولا المنجم يدري كما يقول المازني! يبدو أن

ص: 32

موجة الإعجاب بسحر هذا التعبير (فتقت أكمام العبقرية) هي التي طغت برنينها العذب على جوهر الواقع فشوهته في غفلة من أعين الرقباء!

إن المثقفين في كل مكان يعلمون أن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشة أعنف وأبشع ما لقيته موسيقى فنان من قلم فيلسوف!. من يصدق أن فاجنر قد فتق أكمام العبقرية في نيتشة، نيتشة الذي رمى موسيقاه بكل نقيصة، وأذاق فنه من ألوان الهدم والسخرية ما أذاق، ورفع في وجهه معول التدمير يهوي به في ضربات قاسية لا تعرف ليناً ولا هوادة؟!

فاجنر في رأي نيتشة مثال فذ للشخصية المنحلة، وموسيقى فاجنر في ذوق نيتشة نموذج صادق للموسيقى المريضة، وفن فاجنر في ميزان نيتشة همجية تختلط فيها الشعوذة بالجنون!. . إن فاجنر كما يقول نيتشة:(لا يستطيع أن يهز بموسيقاه إلا أعصاب النساء، وهكذا تفعل الموسيقى المريضة! إن فنه يستند إلى دعائم زائفة لا يمكن أن يرضى عنها إلا كل منهوك القوى منحل الشخصية محطم الأعصاب. . إن الفيلسوف الرابض بين جوانحي ليثور على كل ما هو مريض ومنحل! إن القدرة على خلق فن منحط أهون بكثير من القدرة على خلق فن رفيع؛ ومن هنا استطاع فاجنر إن يرضي الأذواق الفاسدة، الأذواق (الفاجنرية) المنحرفة!. . إن هذا العصر الذي نعيش فيه ليدين بشروره وآثامه إلى شخصية فاجنر، هذا المتلف الهدام)!

هذه هي الموسيقى التي قال فيها نيتشة ما قال، وقال عنها عبد الرحمن الخميسي إنها كانت الأفق المجيد الذي استنزل منه نيتشة أروع قصائده وأبسل أغانيه!. . . إنني أنصح قراء (الرسالة) إن يصدقوا نيتشة، أما قراء (المصري) فلا بأس من أن يصدقوا عبد الرحمن الخميسي إذا قال لهم إن موسيقى فاجنر هي التي خلقت عقلية هتلر وفون مولتكه وبسمارك. . . وفريدريك الأكبر!!

ترجمة تحتاج إلى تصحيح:

تحدث الدكتور عبد الرحمن بدوي في عدد (شباط) من مجلة الأديب اللبنانية عن مسرحية الأيدي القذرة للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. . ولقد استوقفني ما جاء بمقاله من ترجمة خاطئة لبعض كلمات رأيت أن أصححها، حتى لا تبعد الشقة بين أصلها في الفرنسية وبين ما يقابلها في العربية:

ص: 33

ترجم الدكتور بدوي هذه الكلمات وهي عنوان مسرحية لسارتر (بالعاهر المهيبة)؛ وهنا يبدو شيء من الانحراف في الترجمة لا يستقيم معه المعنى سواء أكان منسوباً إلى عنوان المسرحية أم كان منسوباً إلى الفكرة التي بنيت عليها!. . . إن المهابة كما يدل عليها موضوع المسرحية وكلمة لا تنسب إلى (العاهر) وإنما تنسب إلى المحيطين بها عشاق الجسد، أولئك الذين كانت ترحب بهم وتحتفي بمقدمهم؛ وإذن تكون الترجمة الصحيحة هي (العاهر الحفية). أما (العاهر المهيبة) فلا يقابلها في الفرنسية غي هذه الكلمات:

وترجم الدكتور بدوي عنوان مسرحية أخرى لسارتر ترجمة خاطئة أيضاً وهي مسرحية حيث قابلها بكلمة (القرف) مع أن ترجمتها الدقيقة هي (الغثيان). . والفارق بين الترجمتين بعيد!

أما قوله بان (الأيدي القذرة) هي خير ما أنتج سارتر إحكام صنعة فنية وبراعة حوار وإبداع تسلسل، فلا أجد في الرد عليه خيراً من رأي الدكتور طه حسين بك في هذه المسرحية، وهي أنها أقل أعمال سارتر الأدبية توفيقاً في مجال العمل الفني الذي يقوم عليه بناء التمثيلية الحديثة، وهو رأي جهر به الدكتور طه - كما قال لي - في وجه مديرة المسرح الفرنسي الذي مثلت عليه مسرحية سارتر، يوم أن سعت إليه السيدة تسأله عن رأيه في (الأيدي القذرة). . ومما هو جدير بالذكر أن المحيطين بالدكتور قد حاولوا في شيء من اللباقة أن يخففوا من وقع رأيه على شعور السيدة الفرنسية، ولكن صراحته المعهودة أبت إلا أن تؤكد للمرة الثانية ما سبق أن أفضي به، وهو أن هذه المسرحية عمل فني يعوزه التوفيق!

بين طه حسين وتوفيق الحكيم:

لم يسعدني الحظ بالاستماع للمحاضرة القيمة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك عن (قصة أوديب في الآداب المختلفة)، والتي تناول فيها بالنقد والتحليل بعض الأعمال الفنية التي أعقبت أوديب سوفوكل. . ولقد حدث أن خرج بعض المستمعين لمحاضرة الدكتور وقد وقع في ضنهم أن الأستاذ توفيق الحكيم قد ناله رشاش من التهكم حين جاء ذكر مسرحيته في سياق الحديث! هذا ما فهمته من بعض الذين لقيتهم عقب المحاضرة ومما أورده صديقي الأستاذ عباس خضر حين عرض لها في الأسبوع الماضي بالتلخيص والتعقيب.

ص: 34

ومن العجيب أنه قد وقع في الظن أيضاً أن علاقات الود والصداقة بين الدكتور والأستاذ الحكيم تجتاز مرحلة من الفتور، ليس أدل عليها من هذا الذي قيل وتعرض فيه صاحب (أوديب الملك) لشيء من السخرية!

أود أن أؤكد هنا أن كل ما تبادر إلى الأذهان من ظنون لا يستند إلى دعامة واحدة من دعائم الحقيقة، فعلاقات الود والصداقة لا تزال تربط بين الرجلين بأقوى رباط. . وإذا كان الدكتور طه قد لجأ في حديثه إلى شيء من العنف أو إلى شيء من القسوة، فمرجع ذلك إلى صراحته المعهودة التي لا تجامل صديقاً على حساب القيم الفنية والموازين النقدية، وتلك ناحية أكدها لي الدكتور حين فاتحته في هذا الأمر منذ أيام. ومما يؤيد هذا القول تلك القصة الطريفة التي أتيت على ذكرها في الكلمة السابقة، والتي تمثل بوضوح صراحته السافرة عندما سألته مديرة المسرح الفرنسي عن رأيه في مسرحية (الأيدي القذرة) ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يتهم الدكتور طه بأنه كان يسخر من فن سارتر أو يتهكم عليه. . وإذا كان الأستاذ الحكيم قد تعرض في ثنايا المحاضرة لشيء من العنف فقد تعرض فولتير لهذه العبارة القاسية، وهي أنه في تناوله لقصة سوفوكل قد أمعن في سخف لا يطاق!

لا أدري لم يعد الناس هنا قسوة النقد تهكماً وصراحة الناقد سخرية، ولم يميلون في مثل تلك المواقف إلى الظن بأن بين الناقد والمنقود أسباباً من الجفاء يفسرها الوهم بالتحامل ويردها الخيال إلى محاولة النيل من الأقدار؟! ألا يجدر بنا أن ننظر إلى الأمور من خلال منظار آخر يهيئ لنا رؤية الحقائق في جولا يكتنفه هذا الضباب؟ إنني أود أن تتحقق هذه الأمنية في يوم من الأيام!

درس آخر في أدب القصة:

يبدو أنني لن أفرغ من هذه الدروس التي تلقى علي من حين إلى آخر في أدب القصة؛ فبعد أن عقب أحد الأدباء على ما كتبت حول مسابقة المصور للقصة القصيرة، وبعد أن رددت عليه بكلمات أعتقد أنها وضعت كل شيء في مكانه، بعد هذا كله هب (أستاذ) آخر ليمدني بنصائحه ويزودني بمعلوماته وهو الأستاذ نصري عطا الله!

إنني أرحب بأن أكون (تلميذاً) مخلصاً على شرط أن يكون (أساتذتي) على شيء من العمق والإحاطة. . . وأشهد أنني لا أضيق بالتوجيه والإرشاد ولو صدر من أديب لم أسمع به من

ص: 35

قبل على شرط أن يكون في توجيهه وإرشاده ما يهديني إلى أشياء تدق على فهمي المتواضع؛ ولكن الذي أضيق به، هو أن يتحدث الأستاذ عطا الله عن فن القصة القصيرة بهذه اللهجة التي تذكرني بخالدي الذكر (تين وسانت بيف وأرنولد)، ثم لا أخرج من كلمته بشيء يمكن أن يدفع بي إلى الصف الأول من صفوف تلاميذه!

ينكر الأستاذ عطا الله أن مجال العمل الفني في القصة القصيرة مجال محدود، فهل يأذن لي بأن أقدم إليه هذا التعقيب الطريف الذي أدلى به الأستاذ توفيق الحكيم في حديث دار بينه وبيني يوم أن قطعت بهذا الرأي؟ لقد قال الأستاذ الحكيم: (أنا معك في أن العمل الفني في القصة القصيرة لا يمكن أن يقاس إلى نظيره في القصة الطويلة، إلا إذا أمكن أن يقاس سباق القطط إلى سباق الخيل؟!

ومن العجيب أن الأستاذ عطا الله يحرم على القارئ الشرقي أن يحكم على شخصيتي موباسان وتشيكوف لأن ما نقل من أدبهما إلى العربية أقل من القليل، ومع ذلك فقد أباح لنفسه أن يتحدث عن موباسان وتشيكوف بلهجة تذكرني أيضاً بخالد الذكر بندتوكروتشه. . ألم أقل لك إن ما يباح للأساتذة يحرم على التلاميذ؟!

هذا هو كل ما يستحق التعقيب في مقال الأستاذ عطا الله. . . ومعذرة يا (أستاذي) فقد علمت من آخر صفحة في عدد (الرسالة) الماضي أنك قد فزت بجائزة من جوائز الدرجة الثانية في مباراة القصة القصيرة التي أقامتها وزارة المعارف؛ ومعنى هذا أن هيئة التحكيم التي لم تقدر فنك كانت أجدر مني بهذا الدرس القيم في أدب القصة!

أين العلوم في الرسالة؟:

يسألني الأديب الفاضل الأستاذ عبد المنعم العزيزي في رسالة بعث بها إليَّ عن مكان العلوم في (الرسالة) مع أنها تحمل هذا الشعار: (مجلة أسبوعية للآداب والعلوم والفنون). . . ثم يعقب على سؤاله بقوله إن المهتمين بالبحوث العلمية يجب أن يخصص لهم في (الرسالة) بعض الصفحات، أسوة بعشاق النقد والقصة والفلسفة والسياسة والاجتماع ممن تقدم إليهم مجلتنا الرفيعة من أسبوع إلى آخر فنوناً من هذه المعارف المختلفة. . . ثم يقول في ختام كلمته إنه يود أن تستجيب (الرسالة) لهذا الرجاء حتى تكتمل لها رسالتها المثلى في خدمة الأدب والعلم والفن، وبخاصة في هذه الأيام التي يقوم فيها العلم بأخطر أدواره في توجيه

ص: 36

حياة البشر ورسم الطريق أمام مستقبل الإنسانية!

الواقع أنه لو كان الأمر بيدي لاستجبت لرجاء الأديب الفاضل لأنني أوافقه على هذه الآراء الناضجة. . . وكم كنت أود أن يكون لي في رحاب العلم قطرة من فيض العالم الجليل الأستاذ نقولا الحداد، إذاً لكفيته مؤونة السؤال والرجاء، ولعلَّ الأستاذ الحداد يحقق يوماً هذه الأمنية، فيعطر صفحات (الرسالة) بغزير علمه، بعد أن عطرها بوخز (المخلوقات الخبيثة) بسنان قلمه!

أنور المعداوي

ص: 37

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

النقد الأدبي في القرن العشرين:

ألقى الدكتور محمد مندور يوم السبت الماضي محاضرة عنوانها (النقد الأدبي في القرن العشرين) في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية. وقد بدأ بتعريف النقد الأدبي بأنه فن تمييز الأساليب قائلاً بأن الأسلوب ليس هو طريقة الأداء اللغوي فحسب بل هو كذلك طريقة إدراك الكاتب للعالم الخارجي ثم مدى قدرته على اصطياد المعاني والأحاسيس وإسكانها اللفظ الملائم. ثم قال إن النقد فن لا علم، ولكنه لا يقوم على الجهل، فأول ما يطلب في الناقد الاستنارة، وإن الناقد يلزمه أن يحصل كثيراً من المعارف ولكن يجب عليه أن ينساها في الأدب، فثقافة الإنسان هي ما يتبقى في نفسه بعد أن ينسى ما حصله. والثقافة التي تنبغي للناقد متعددة الجوانب، وأولها الأدب ذاته الإنشائي والنقدي، ومن ذلك معرفة المعنى الدقيق للكلمات والاصطلاحات، فإن كثيرين يرددون كلمات مثل (الواقعية) و (الرمزية) وهم يفهمون خطأ غير معناها، فيفهمون الواقعية مثلاً على أنها تصوير لواقع الحياة كما هو، ويتبادر ذلك إلى أذهانهم من المعنى اللغوي للكلمة. غير عالمين بالملابسات التاريخية لهذا المذهب الذي يقوم على النظرة إلى الجانب الحالك من الحياة والإيمان بعدم وجود الخير فيها. ومن ذلك مذهب (الفن للفن) فليس هو كما يفهمه الكثيرون من أنه يقتضي الخروج على مواضعات المجتمع والأخلاق، وإنما هو يدعو إلى أن تكون غاية الفن صور جميلة لذاتها، وأن الفن غاية في ذاته وليس وسيلة للتعبير عن مشاعر خاصة.

ثم قال الدكتور مندور: إن ثقافة الناقد في القرن العشرين أصبحت ضرورية لتعدد المذاهب واختلاطها، فمثلاً كانت المسرحية إما كوميديا أوتراجيديا، فجاء النقاد في القرن العشرين يقولون أن الحياة ليست كلها مآسي كما أنها ليست فكاهة مغرقة في الضحك، فهي ليست بالسوداء ولا بالبيضاء الخالصة، وإنما هي خليط من الأمرين، فما الذي يمنع من وجود لون رمادي على المسرح، هو الدراما التي تجمع بين المحزن والمضحك؟

ثم تساءل المحاضر: ترى هل يستحق النقد كل ذلك العناء؟ وأجاب بأن النقد ليس تبعياً وإنما هو خلق أدبي، وسيان أن يتحدث جيته عن منظر طبيعي أوإنسان في الحياة وأن

ص: 38

يتحدث عن شخصية روائية أو كاتب زميل، فتحصيل الأدوات للنقد جهد غير ضائع.

وبعد ذلك قال الدكتور مندور: وفي مصر هل نستطيع أن نقول إن النقد الأدبي قد استقر له أصول؟ ترجمت كتب، وكتب نقاد، بحيث نلاحظ أن النقد أخذ يرتفع عن الشخصيات إلى الأفكار، ولكن الملاحظ أن وسائل إذاعة النقد لا تزال محصورة، فأكثر ما ينشر في الصحف والمجلات تعريف لا نقد تغلب عليه المجاملة والرغبة في ترويج الكتاب. وهناك نوع يتمثل في الطعن والقدح لأسباب شخصية أو شعبية. . . وعلى العموم نرى النقد الأدبي الصحيح من حيث التطبيق على مؤلفاتنا - يعاني ضيق مجال النشر.

ثم قال: إننا الآن في مرحلة تتطلب أمرين: الأول أن نكثر من النقل والترجمة عن الغرب، والثاني أن يتجه النقد إلى غرس روح العلم والخلُق الأدبي بجانب نقد الأدب ذاته. وبذلك نستطيع أن ننشئ أدباً أصيلاً وأن نبني على أساس سَليم.

وألاحظ أن نقطة نسيان المعارف كانت تحتاج إلى بيان، وما أحسب الدكتور إلا يشير بذلك إلى الحقيقة النفسية القائلة بأن كل المعلومات تكمن في العقل الباطن الذي يهضمها ويماثل بينها، ثم هي تسعف الإنسان في الفرصة الملائمة دون التفات الواعية الظاهرة، ويكون ذلك أدنى إلى الأصالة من الترديد الببغاوي، بل هوالأصالة نفسها. ولكن هل نقول من أجل هذا بنسيان كل ما نحصله؟ وكيف إذن ندرك ما دعا إليه من معرفة المذاهب الأدبية ودقائق الفروق بينها إذا لم يظل ما نحصله منها عالقاً بالذاكرة؟

شعر البالاليكا:

رأيت في (البلاغ) يوم الاثنين الماضي قطعة تحت صورة امرأة وفوق إمضاء (يوسف جبر) عنوانها (بالاليكا) وهي كلام مكتوب على هيئة النظم، أعني أنه مقسم أجزاء كأجزاء الشعر، ومنه ما يأتي:

قبل شروق السحر

أسمع نجوى وتر

عند خيام الفجر

فعندما يتنفث

بلحنه الحيران

ص: 39

يعود وجدي ويبعث

ما كان من شجن

في بالاليكا

وأنا لم أذهب إلى (بالاليكا) حتى أحكم على ما توحي به من الروائع. . . ولكن أليس لقائل آخر، ما دام الباب مفتوحاً، أن ينشر قطعة قد تكون أروع من هذا العنوان (شرم برم)؟!

مسرحية أوديب:

قدمت جمعية أنصار التمثيل والسينما رواية (أوديب) على مسرح الأوبرا يوم السبت الماضي، وهي مسرحية قديمة مترجمة عن الفرنسية، وقام بدور أوديب فيها الأستاذ جورج أبيض بك الذي قام بنفس الدور وقت أن قدمت فرقته هذه المسرحية سنة 1912.

وقد نقلت الإذاعة تمثيل الرواية إلى مستمعيها، وكان صوت (الملقن) مسموعاً واضحاً كأصوات الممثلين، فالمستمع يسمع كلاماً كالفحيح ثم يسمع نفس الكلام من الممثلين بصوت عال. . . وكانت فرصة لحذلقة المذيع، إذ أخذ يخبط ويخلط قبل أن يرتفع الستار، فقال إن هذه المسرحية مثلت لأول مرة في مصر سنة 1920، ورأى أن يدلنا على واسع علمه فقال: إن هذه المسرحية قام عليها المسرح في كل أمة! وتصور أنت مسرح أمة واحدة يقوم على رواية واحدة. . . ولو أنه قال إن الرواية مثلتها المسارح في مختلف الأمم لكن معقولا.

وقد بدأ أسلوب المسرحية وموسيقاها التي وضعها الشيخ سلامة حجازي، بعيدين عما يستساغ في هذا الوقت، مما جعلها غير مستحقة لإعادة تمثيلها الآن، وليت الذين قدموا الرواية القديمة أتعبوا أنفسهم ببذل جهد جديد، فقاموا بإخراج (أوديب الملك) لتوفيق الحكيم ووضع تلحين لها يناسب الذوق المصري، بدل هذا الاجترار الذي لا طائل وراءه. . .

المسرح بين جيلين:

الجيل الأول يتمثل في الفرق الحاضرة، وأهمها الفرقة المصرية التي تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية، والجيل الثاني هو الجيل الجديد الذي تتطلع إليه الأنظار في المعهد العالي لفن التمثيل التابع لوزارة المعارف.

ص: 40

ولا ينكر أحد ما أسداه الجيل القديم لفن التمثيل، ومقدرة أفراده التي تكونت على مر السنين من المران وتنمية المواهب، ولكن هناك حقيقتين بارزتين، الأولى كسل هؤلاء الممثلين في العمل المسرحي، أوبتعبير أصح انشغالهم عن المسرح بالسينما، فهذه الفرقة المصرية تجتر الروايات القديمة التي حفظ الممثلون أدوارهم فيها فلا تكلفهم عناء في الحفظ ولا في التجارب (البروفات) وقد دعا مديرها العام الأستاذ يوسف وهبي في أول الموسم، الأدباء إلى معاونته بالتأليف، ولكن البرنامج الذي قدمته الفرقة طوال الموسم إلى الآن دل على رغبتها في الراحة من العناء في إنتاج جديد، فقد قدم لها الأستاذ محمود تيمور بك مسرحية جديدة هي (اليوم خمر) كما كتب لها أيضاً الأستاذ توفيق الحكيم مسرحية (اللص) وقد مضت شهور على فراغ الأديبين الكبيرين من هاتين المسرحيتين وتقديمهما ولم يبد ما يدل على أن الفرقة ستقدمها في هذا الموسم. وتسأل الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة عن ذلك، فيقول: وماذا أصنع وأنا لا أجد يوسف وهبي؟ وأين يوسف؟ في (الاستديو) أي أن (مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ المسرح) ليس عنده وقت للمسرح! وهكذا نرى أن الممثلين العريقين يتخذون الفرقة المصرية (محطة) يشربون بها النبيذ المعتق ويأكلون الشطائر المعدة في (جروبي) كما يقول ديوان المحاسبة. . .

الحقيقة الثانية، وهي التي تقضى بها سنة التطور في كل شيء، أن المسرح في حاجة إلى نوع جديد من الممثلين قد يكون أقدر على التقدم بالفن ومسايرة ما جدَّ فيه. وهنا نصل إلى الجيل الجديد المرجو من خريجي معهد التمثيل وطلبته، ولاشك أن هؤلاء يمتازون بأنهم يتلقون دراسات منتظمة في الآداب والفنون وثقافة العصر، وأحرى بهم أن يكونوا - كما قال الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد في كلمته بحفلة توزيع الجوائز على الخريجين في الأوبرا - (حجر الزاوية في حركة جديدة يكون من ورائها إصلاح وتقدم للمسرح المصري يتمان على يد الممثل نفسه وبواسطة الممثل نفسه) وقد قال الأستاذ طليمات أيضاً في تلك الكلمة (لقد جرت الحكومة منذ أكثر من عشرين عاماً، وهي تحاول الارتقاء بالمسرح، على سياسة منح الإعانات المالية للفرق العاملة وإجراء تعديل وتغيير في أنظمتها، ثم الإشراف عليها وتولى توجيهها توجيهاً فعلياً بوساطة اللجان وإصدار القرارات، وقد أفاد هذا إلى الحد الذي ترون فيه (الفرقة المصرية) كما أفاد أيضاً في إبراز كيان اجتماعي للمثل. ولكن

ص: 41

الحكومة اليوم تواصل عملها لتحقيق الارتقاء المنشود، متخذة طريقاً أخرى، استلهمتها ولاشك على ضوء البديهية الاجتماعية المبذولة لكل مفكر، وهي أنه لن يفيد ولن يجدي في شيء أن نحاول إصلاح النظم القائمة بالتغيير والتعديل قبل أن نأخذ بإصلاح الفرد الذي يعمل في هذه النظم، ويتولاها وينهض بكيانها. فالمعهد بحكم هذا مرجوأن يكون معقد الأمل في تحقيق هذا الإصلاح باعتبار أنه المصنع الذي يخرج رؤوساً جديدة تعد أحسن إعداد لاحتضان المسرح في نظامه الديمقراطي).

وقد أشرت منذ أسابيع إلى أن وزارة المعارف تعمل على إنشاء فرقة نموذجية خاصة بطلبة معهد التمثيل، وقد كان معالي السنهوي باشا وزير المعارف السابق وافق على المبلغ المقترح لهذه الفرقة وهو ثمانية آلاف جنيه، وقدم معاليه المشروع إلى اللجنة المالية لمجلس النواب، وقد رفضت اللجنة الموافقة على هذا (الاعتماد) ورؤى إرجاء المشروع إلى العام القادم. وكان من حجة اللجنة المالية في هذا الرفض الاكتفاء بالفرقة المصرية على أن يضم إليها خريجو المعهد. ولكن الفرقة المقترحة شيء آخر غير الفرقة المصرية القائمة، لأن الأولى يرجى منها أن تنهج منهجاً آخر يقوم على استغلال الحماس الفني في إحياء التمثيل المسرحي، وهذا الحماس يخشى عليه أن يخبو وأن يثبط إذا عاشر واصطدم بالجيل القائم المتسلط، كما يقوم المنهج المرجو على الخلاص من الاعتبارات التجارية إذ يكون الاتجاه إلى تقديم مسرحيات من الأدب الرفيع، والفرقة المقترحة بعد كل هذا تؤمل أن تكون أساساً سليماً لبنيان جديد في المسرح المصري بعد أن دلت التجارب الماضية على فساد البنيان القائم.

وإلى معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف الحالي أسوق الحديث، راجياً أن يتم على يديه إنعاش المسرح الراقي، وحبذا أن تحقق وزارة المعارف الغرض المنشود من الفرقة الجديدة بإمداد المعهد بالمال اللازم لإقامة الحفلات التمثيلية العامة من ميزانيتها الخاصة، حتى يستطيع أن يبرز مجهوده ويقدم ثمراته، إلى أن يتيسر إنشاء الفرقة المأمولة.

عباس خضر

ص: 42

‌الكُتُب

ديوان من وحي الريف

تأليف الأستاذ توفيق عوضي

بقلم الأستاذ ثروت أباظة

كثرت في هذه الملاوة مدارس الشعر وتعددت مذاهبه. فترى من الشعراء من يقصد إلى المعنى غير محتفل باللفظ أو الصياغة، وهو في ذلك يسير بالشعر في طريق النثر. وترى منهم بعضاً يعنون بالصياغة واللفظ دون التفات إلى التجديد في المعنى؛ وعذرهم في ذلك أن عنترة شاعر الجاهلية قد قال (هل غادر الشعراء من متردم) فإن كان عنترة منذ ألفي عام قد يئس أن يجد معنى جديداً فهل يبحثون هم عن معنى جديد بعد هذه الحقبة الطويلة من السنين التي مرت فانتهكت القديم وأخلقته، بل وأخلقت أيضاً ما ظهر في غضونها من معان جديدة؟

ومن الشعراء من يقول إن الشعر الصادق إشعاع للعاطفة، والعواطف منذ كانت خالدة على الزمان لا تتغير؛ فواجب الشاعر إزاءها أن يبين عنها في أنصع تعبير. وهنا يختلف القوم مرة أخرى، فمنهم من يرى أن الصياغة يجب أن تكون مشرقة في عربية صريحة لا تيسير فيها، ومن الشعراء من يرى وجوب التحلل من قيود الصياغة العربية؛ ويقف البعض موقفاً وسطاً فتراه يلتزم السهولة في تعبيره مع التزام الصياغة العربية معتقداً أن واجب الشاعر هو الوصول إلى قلب سامعيه من أقرب طريق، وزعيم هذه المدرسة هو الشاعر العربي الأكبر إيليا أبو ماضي. وقد انضوى كل شاعر تحت مدرسته يأبى أن يجيز لأي مدرسة أخرى أن تقول الشعر معتقداً أن الشعر هو ما يكتب وما دونه كلام لا يصح أن يسمى شعراً. . . ولاشك أن هذا التعصب ينساق مع طبيعة الشاعر المتكبرة ولكن واجبه إزاءها ألا ينتقد أبداً. . . ذلك أن نقده على أية حال سوف يكون - رغم أنفه - جائراً. وواجب النقاد إزاء كل هذه المدارس أن يقفوا منها على حياد المتفرج حتى يحكموا على كل شاعر بالنسبة للمدرسة التي يؤمن بها، وبهذا يكون المعيار سليماً لا تحيز به ولا إجحاف. . .

ص: 43

والأستاذ توفيق عوضي من الذين يؤمنون بالسهولة دون الميوعة في الصياغة ولا يقبل أبداً أن يترجم عن إحساس لا ينبعث من صميم قلبه؛ فهو يفهم كلمة العاطفة فهمها الصحيح، فقد ذهب البعض إلى أن العاطفة هي الحب أو البغض بما يستتبع كلا الحالين من مشاعر وأحاسيس، أما توفيق فقد فهمها على أنها انعكاس الصور الخارجية على نفسه الشاعرة ثم عبر عنها على أنها منبعثة من صميمه؛ وعلى هذا تراه دائم النظر إلى ما حوله يحاذر أن تفوته واقعة فلا يسجل أثرها في نفسه شعراً. فتراه يقول حين يستأجر الحمار والغلام بثمن واحد:

يزهدني في النسل أني بأمة

تساوي بها الإنسان والعير في الأجر

وما دام أجر المرء والعير واحدا

فحمداً لمن أغنى عن النجل بالعير

ويذهب ليقضي أمسية عند صديق له فتطيب وتبعثه في الصباح يقول مستبشراً به طروبا:

وصحت ذكاء فغنت الأكو

ان ألحان الصباح

فسكرت من أضوائها

ونعمت بالسكر المباح

ضحكت ثغور وروده

كتضاحك الغيد الملاح

المقبلات كأنهن

منى تتوج بالنجاح

وذكرت لطفك فانتشيت

فكنت ريحاني وراحي

يا صاحبا في صحبة

جمعت أزاهير الصلاح

وعلى اقتراحك قد نزلت

وقد نزلت على اقتراحي

فتمازجت أرواحنا

كالراح والماء القراح

هذه الرقة التي تلمسها وتلك الانطلاقة التي تجري بها الأبيات هي لاشك شعور صادق لا مين فيه. وإنك لتراه مع هذا يحب كما يحب الشعراء ولكنه يعبر عن شعوره في هذه الرقة نفسها. وإنك حين تقرأ له شكواه من الحب لا تملك إلا أن تفزع معه. يقول:

كف الصدود. . كفى. . كفى

عذبت قلبي بالجفا

يكفيك مما شفنى

أن الحسود قد اشتفى

إن ترض لي طول السقام

قضيت عمري مدنفاً

أوترج حتفي إنني

قد صرت منه على شفا

ص: 44

إن توف أولا توف لن

ارتد عن عهد الوفا

تلك الثورة التي يبدأ بها أبياته هي لاشك مجلى ما يعتلج بنفسه من حب وما جره عليه هذا الحب من المرض. . ثورة عارمة ولكنها رقيقة وصلت إلى قلبك دون أن يركب إليه ألفاظاً أنيقة أو صياغة متبرجة. . . إنها مدرسة. . . والأستاذ توفيق لاشك من أنبغ تلاميذها. سوف ترى معي ذلك حين تقرأ الديوان كله كما فعلت أنا فحرت في أي قطعة أختار وأيها أدع ثم انتهيت إلى ما نقلت إليك تاركاً لك الفرصة لتحتار وتختار إذا استطعت أن تختار.

ثروت أباظة

ص: 45

‌البَريدُ الأدَبي

الرجل يخطب لا المرأة:

تنشر الصحف كل يوم أنباء الزواج، وربط عقدته والخطبة له في عبارات يأباها فصيح اللغة، وتنفر منها نخوة الرجولة فتقول مثلاً: - (تمت خطبة فلان للآنسة فلانة!)(بحفل بهيج تمت خطبة فلان بكريمة فلان!). (تمت خطبة فلان إلى الآنسة فلانة!) وغير ذلك مما يطول إيراد أمثاله.

ومما أثار عجبي إني قرأت يوماً في جريدة الأهرام هذا النبأ:

(في حفل عائلي تم زفاف الأستاذ أ. ح. ع المحامي وعضو مجلس بلدي. . . إلى الأستاذة ف. ح المحامية فبالرفاء. . .).

وهذا كله وأمثاله من الخطأ الذي لا يصح السكوت عليه، وذلك بأنهم يجعلون الأنثى هي التي تخطب الذكر أو يزف إليها العريس، والذكر هو الذي يُخطب أو يزف إلىالعروس. ولكن اللغة تقضي بأن يكون الذكر هو الذي يخطب أو تزف إليه العروس والأنثى هي التي تُخطب وتزف إلى عريسها.

وفي الأساس: خطب الخطيب خطبة حسنة، وخطب الخاطب خطبة. وكان يقوم الرجل في النادي في الجاهلية فيقول: خِطب. وفي المصباح وخطب المرأة إلى القوم، إذا طلب أن يتزوج منهم، واختطبها، والاسم الخِطبة، فهو خاطب وخطاب مبالغة وقال تعالى:(ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) وفي الحديث المتفق عليه (ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب). وأما القِران فيقال: قرن الشيء بالشيء فاقترن به، وجعلوا من المجاز، هي قرينة فلان لامرأته.

هذا هو حكم اللغة، إلا إذا كانت الأمور قد انقلبت والمدنية قد تحكمت في اللغة كما تحكمت في غيرها فاستنوق الجمل واستتيست الشاة!!

محمود أبو ربه

حول الأدب الشعبي في الكويت:

بعث إليَّ أحد الأصدقاء يستنكر تسميتي للخليج الفارسي (بالخليج العربي_الفارسي سابقاً)

ص: 46

في مقالي عن (الأدب الشعبي في الكويت) الذي نشر في الرسالة الغراء (العدد 813) مدلياً لي بأن جميع الكتب التي ذكر فيها اسم هذا الخليج دعي فيها بالفارسي وليس بالعربي كما أنه فارسي الصبغة. . . الخ.

وأحب أن أنبه هذا الصديق وأمثاله إلى أن هذا الخليج الذي تحده من الشرق بلاد فارس، ومن الغرب الكويت والبحرين والأحساء، ومن الشمال البصرة في العراق، ومن الجنوب عمان والربع الخالي وبلاد الغرب عربي الصبغة تماماً، وإن تسميته بالفارسي تسمية عتيقة بالية ويكفي أن تعلم أن السواحل العربية التي تطل على هذا الخليج أطول من السواحل الفارسية التي تطل عليه، كما لا ننسى أن تلك السواحل الفارسية نفسها التي تطل عليه تدعى (عربستان) فسواحله عربية ومياهه عربية خالصة وإن الأسطول التجاري العربي الكويتي الذي على طوله وعرضه ليدلك الدلالة الواضحة على عروبته كما أن الكويتيين والبحرانيين من أعمالهم الهامة صيد أو قطف اللؤلؤ من مياهه. والعرب الذين يقطنون السواحل العربية منْه كالكويت مثلاً قد اصطلحوا على تسميته بالخليج العربي ويعتزون بذلك، فلئن ذكرته الكتب العتيقة فارسياً فقد آن للجديد منها أن يطلق عليه هذا الاسم الحقيقي الطارف.

أحمد طه السنوسي

أسف واعتذار:

في تعقيبات العدد الماضي من (الرسالة) عند الكلام عن مسرحية (سليمان الحكيم) سقطت إحدى العبارات فاختل معها المعنى الذي كنت أقصد إليه. . ولعل القراء قد فطنوا إلى تلك الفجوة التي فصلت بين شقي التعبير حيث وقعوا على هذه الكلمات: (هناك جواب واحد لهذا السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه شخصيات أبطاله، هناك حيث تجد الصراع بين ذهن وذهن لا بين عاطفة وعاطفة). وصحتها: (هناك جواب واحد لهذا السؤال، وهو أن الأستاذ الحكيم يغلب عليه الطابع الفكري في كثير من قصصه ومسرحياته. إنه يجري وراء المشكلات الفكرية أكثر مما

ص: 47

يجري وراء المشكلات النفسية وهو في ذلك يخضع للجو الذي تسيطر عليه شخصيات أبطاله. . الخ).

لهذا أسجل أسفي، أما الاعتذار فأتقدم به إلى القراء حيث ضاق النطاق عن تناول قصيدة الشاعر إيليا أبو ماضي بالعرض والتحليل كما وعدت. . فإلى العدد القادم إن شاء الله.

أنور المعداوي

بيت قلق:

في العدد (816) من الرسالة الغراء أطلعت على قصيدة للشاعر الأديب سعد دعبس بعنوان (في القاع يا رب) مطلعها:

حطمي الزورق يا ريح فقد طال ظلامي

وجرى الشك ورائي ومشى الوهم أمامي

وهي من الرمل المربع (فاعلاتن أربع مرات). ومنها هذا البيت القلق بالزيادة:

ربما ينعم بالفجر الأفاعي وأنا رهن الظلام

ولا أظن الخطأ من التطبيع فهو زيادة لا النقص، وتمام المعنى بالزيادة الزائدة!.

وبعد: فما - بكلمتي - قصدت التصويب، بل التعقيب بالشكر للشاعر الأديب الذي قام يهدي قصيدته إلى (روح الشاعر البائس (عبد الحميد الديب) وفاء وذكرى، في زمان قل فيه الوفاء والوفيون، ونضب الذكرى من ألسن الذاكرين. رحم الله الأديب، وجزى الله الأديب.

(الزيتون)

عدنان

مآخذ أربعة:

في عدد الرسالة الغراء رقم (813) قصيدة للشاعر الملهم زهير ميرزا بعنوان (شهرزاد) وهي قصيدة منورة ماتعة، وقد ازدانت كالعروس الحسناء برواء بديع لولا هذه المغامز: قال الشاعر:

1 -

(كأسك الفن ومغناك أغاريد العصور). والمغنى مقصوراً واحد المغاني وهي المواضع

ص: 48

التي كان بها أهلوها. وأغنيت عنك (مغنى) فلان و (مغناة) بضم الميم وفتحها فيهما: أي أجزأت عنك مُجزأه.

وما أظن الشاعر قصد كلا المغنيين إذ لا يكون المنزل أغاريد العصور بله أن يجزأ عنه مجزأه. وأظن الشاعر حسب (المغنى) من الغناء كما يقول بيرم التونسي على لسان أم كلثوم. المغنى حياة الروح يسمعها الحبيب تشفيه ولا وجه له.

2 -

(ونداءك عشيق فاتر اللحظ الكسير).

والندامى جمع ندمان. ذكر الشاعر أولئك الندامى ولم يذكر منهم سوى ذلك العشيق، وكان الصواب أن يقول: ونديمك أوندمانك عشيق فاتر اللحظ الكسير أن يأتي بالمفرد دون الجمع.

3 -

(ورواه الدهر فاستلقاه خفاقى وثارا).

واستلقى: على قفاه ولا معنى له هنا، والصواب أن يقول: وتلقَّاه خفاقى وثارا، أي استقبله. ومنه قوله تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم) أي يأخذ بعض عن بعض.

4 -

(يرقبك السمار حيرى والمساء).

والصواب أن يقول: يرقبك السمار حيارى بالضم والفتح جمع حيران. أما حيرى فهي للمفرد المؤنث.

وكنا نود أن نضرب صفحاً ونسبل ستراً على هذه المآخذ اللغوية لولا أن مكانة الشاعر الذي أتحف قراء (الأديب) بروائعه أعلى من هذه الهنات. وللشاعر شكري؛ إذ أن هذه الغميزة لا تحط من قيمة هذه (الشهرزادية الرنان).

يافا - فلسطين: عمان

سامي حسين حبش

ص: 49

‌القَصَصُ

قصة من الحياة:

من الأعماق

(مهداة إلى الأستاذ أنور المعداوي)

للأستاذ كامل محمود حبيب

مضى الليل إلا أقلّه و (إلهام) تضطرب في فراشها لا تستقر، تتلمس الكرى فلا تجده وتنشد الراحة فلا تنالها، وقد اطمأنت إلى الظلام والسكون يعصرها الهم ويضنيها الأسى، تنغمر في خواطرها والساعات تنطوي. و (إلهام) فتاة في الثامنة عشرة من سني حياتها فهي في شبابها الأول تنبض بالحياة وتتفتح عن أمل باسم وتتألق عن جمال رائع فتان، تشع نوراً وسعادة وتتلألأ بهاءً وضياءً. لم تذق الحزن ولا عرفت معنى الكآبة، فهي بين أبيها وأمها وأختها الصغرى في بهجة ما تنقطع أسبابها، فما لها - الآن - تجلس وحدها في ظلام الحجرة وظلام الأخيلة؟ وإن الشيطان ليوسوس لها بين حين وحين فلا ترى الحياة إلا عوداً من ثقاب تشعله في ثيابها، وإلا حبلاً تلفه حول عنقها وتتعلق به فيقضقض عظام رقبتها، وإلا نافذة تنفتح لتقذف بنفسها منها. ولكنه ما يزال فيها بقية من دين وصبابة من أمل.

وتسرب نور الصباح إلى حجرة إلهام يفزعها عن فراشها وعن خواطرها في وقت معاً، واندفعت صوب الشباك تريد أن تسرّي عن نفسها بعض ما أمضّها فما وجدت في نسمات الصباح الندية ما يرفه عنها كربة قلبها، ولا في النور الجميل المتدفق من لدن المشرق ما يمسح على همّ روحها.

يا عجبا! لقد كانت تجد في بسمة الصبح الجمال والحياة والنشاط جميعاً فما بالها الآن تفر منها في ضيق وملل.

وفي عصر يوم من أيام الربيع - منذ أربع سنوات - والرياح تهب رخيةً لينة توقع لحن السعادة والنور على قيثارة الربيع الهادئ الجميل، والطائر الغريد يثب على أفنان الشجر وهو يشدو بأنغام النشوة والمرح، والأزاهير تنفح عبيرها في خيلاء وتتمايل سكرى وقد هزتها اللذة واستخفها الطرب، والشمس تنحدر إلى خدرها رويداً رويداً لتذر هذا العالم

ص: 50

المضطرب ينام في هدوء وراحة وأشعتها تتعابث وتتعانق، يودع بعضها بعضاً قبل أن تتلاشى لدى المغرب.

حينذاك اندفعت إلهام إلى الحديقة في ثوبها الحريري الأبيض الرفاف وهي في عطرها المتأرج وشبابها الفياض تنفث الحياة في هذه الناحية وما فيها سوى البستاني العجوز يفحص الأرض بفأسه الصغيرة، اندفعت إلى الحديقة تحنو على أزهارها وتحبو شجيراتها ببعض عطفها وتتنقل هنا وهناك، فهي زهرة نضيرة بين أزاهير، ولكن فيها هي الحياة الوثابة وفيها الجمال الآسر وفيها الخفة والفتنة وفيها السعادة والبشرى. لقد تفتحت الأزاهير وتكاد أوراقها أن تذبل، أما هي فتوشك أن تتفتح عن أكمامها فتبدو في بهائها ورونقها ملء العين وسحر القلب وإن ربيع الأزاهير لينطوي في غير بطأ ولا تلبث، أما ربيعها هي فيقبل في هدوء وأناة، وغمُر الحديقة نور الفتاة فتراءت كأنما ترقص طرباً وحبوراً.

ودخل (عادل) إلى الحديقة - على حين غفلة - فألفى الفتاة أمامه وجهاً لوجه فرأى فيها معاني قلبه الشاب ولكنه ما يزال في الجامعة وما تزال هي طفلة. وسألها عن أبيها وعن أمها فما وجدهما. لقد خرج معاً ليقضيا شطراً من الليل خارج الدار. وهمَّ الفتى أن يرجع غير أن الفتاة طلبت إليه أن يتلبث قليلاً لتعرض أمامه أزهارها وشجيراتها.

وتحدثت الفتاة في طلاقة واستمع الفتى. وانطلقت وانطلق هو إلى جانبها يحدثها وتحدثه هي حديث الزهر والشجر والربيع والأصيل والعطر. . ورقت كلمات الفتى وتكسرت نبراته. . . ثم خرج ووقفت هي تنظر إليه في صمت، وأحسست الفتاة بالوحدة حين رأت عادلاً يتوارى خلف سور الحديقة فأرادت أن تندفع في إثره لترده إليها، ولكن. .

وعادل فتى سمهري القوام قوي العضل وضاح الجبين يتألق وجهه حياة ونشاطاً، وتنبعث من عينيه أشعة نفاذة قوية علامة الذكاء والفطنة، وتضطرب في محجريه آثار عبرات مكفوفة علامة الإنسانية والرقة، وهو - إذ ذاك - طالب في السنة النهائية من كلية الآداب واسع الأفق حلو الحديث طلي الأسلوب رقيق الحاشية، طيب القلب، عالي الهمة، يعتز بعلمه وأدبه، حريص على كبريائه وكرامته.

لقد دأب عادل - منذ أن التحق بكلية الآداب - على أن يزور (فكري بك) - والد إلهام - كل أسبوع فهو صديق أبيه وهو عونه هنا في القاهرة. وإن عادلاً ليفزع إلى فكري بك

ص: 51

يستعينه على أمره ويستنير برأيه ويطمئن إلى نصيحته، وهو فتى ريفي يشفق على نفسه أن يجرفه تيار المدينة ويتهيب أن يعصف به لهو الحياة، فهو يرى في (البك) الأب والقائد والمثل الأعلى، وفكري بك يرى في عادل الابن والصاحب والصديق. وأنس واحد إلى واحد واطمأن إليه، فعادل ما يبرح يزور (البك) و (البك) ما يبرح يفتقد عادلاً ويطلبه فيلح في الطلب، يقيمه على بعض شأنه ويفتح له بابه وقلبه وذراعيه.

لطالما جاء عادل إلى الدار، ولطالما تحدث إلى إلهام في عطف، ولطالما جلس إليها يعينها على الدرس ولطالما قص لها الأقاصيص وأهدى إليها الكتب ولكنها لم تحس بما يدفعها إليه إلا في هذه المرة. أفكان ذلك من أثر شعورها بأنه أزال عنها الوحدة في الحديقة في عصر يوم من أيام الربيع؟ أم هو شعور بالعطف عليه حين لم يجد أباها فأراد أن يرتد في خذلان؟ أم هو التقدير والإجلال لمن وجدت فيه الحمى والعون؟ لا ريب فهي قد أحست في نفسها شعوراً غامضاً لا تعرف مأتاه ولا تدرك كنهه ولكنه يدفع قلبها صوب هذا الفتى.

وبدأت الفتاة تترقب موعد زيارة عادل في شغف وتنتظر مقدمه في شوق وتتأهب للقياه في زينة. ولكنها في سنها المبكرة ما تزال تجهل ما يضطرب في نفسها.

وانطوت الأيام والفتاة تأنس إلى فتاها، تهفو إلى مجلسه وترنو إلى حديثه وقلبها يزداد تعلقاً به وأخيلتها تحوم حواليه فهي تخلق الأسباب لتسأله فيجيب وتتصنع الجهل ليشرح لها درساً أو يحل لها مسألة، والفتى مطمئن إلى ما تفعل راض بما يجد، يرى فيه راحة قلبه وشفاء نفسه. غير أن الفتاة لم تستطع أن تدرك كنه ما تحس. هذه العاطفة المشبوبة تبعث فيها الحيرة والاضطراب وهي تكتمها فلا تتحدث بها إلى أمها ولا تبوح بها إلى أختها الصغيرة. وكيف تفعل وفي رأيها أن فتاها لا يبادلها عطفاً بعطف ولا إخلاصاً بإخلاص؛ وهي إن فعلت لا تأمن أمها أن تغلظ لها في الحديث أو تتهكم عليها بكلمات قاسية عنيفة. وأختها طفلة لا تفهم لغة القلب ولا تعي حديث الهوى، وهي لا تستطيع أن تحدث صاحبها بذات نفسها خشية أن يكون في شغل عنها فيحتقر خلجات روحها ويمتهن نبضات قلبها. وألقت بها هذه الخواطر في تيهاء مقفرة ثم قنعت بأن تستمتع برؤيته بين الحين والحين، وأن تسعد بحديثه بين الفينة والفينة، تروي ظمأ نفسها وتنقع غلة قلبها، والأيام تنطوي. . .

أما عادل فقد أحس بالهوى الجياش يتدفق إلى قلبه في غير هوادة ولا لين منذ أن رآها تثب

ص: 52

بين النبت والزهر ترفل في ثوبها الحريري الهفهاف تتوثب نشاطاً وحياة وتتألق بهجة ونوراً، وشغف بها حين رآها تستكمل - على الأيام - أنوثتها وجمالها، فهو يتودد إليها في رفق ويسعى إلى رضاها في صمت؛ والحياء يمنعه عن أن يكشف لها عن دخيلة قلبه خشية أن تنفر منه فلا يراها بعدُ وأن تزدري عاطفته فتسخر منه فتتحطم كبرياؤه وتتصدع كرامته.

وحال الخجل بينه وبين أن يحدث أباها بما يكن للفتاة من حب خيفة أن يثور به فيضع بينهما سداً لا يستطيع واحد أن يظهره وإن جهد.

وليست هذه بالسبيل التي يسلكها إلى غايته، فهناك في القرية أبوه وهو رجل ذو عقل وتجربة، يرى الرأي ويوطئ للأمر فينفذ إليه من منافذ يعجز عنها عادل نفسه.

وألقت به هذه الخواطر في تيهاء مقفرة، ثم قنع بأن يستمتع برؤية فتاته بين الحين والحين وأن يسعد بحديثها بين الفينة والفينة يروي ظمأ نفسه وينقع غلة قلبه، والأيام تنطوي.

ورأى الأب بعيني تجاربه أن الفتى يحنو على الفتاة وأن فتاته تعطف على الفتى، وخشي أن تمتد يد إلى يد أو يهفو صدر نحو صدر أو تقترب شفة من شفة، ثم ساورته الريبة واستولى عليه الشك. فماذا يفعل؟ وهولا يريد أن يغلق بابه دون الفتى وهو صديق أبيه، ولا أن يدفعه عن داره وهو يستعينه على بعض شأنه، ولا أن ينشر ظنونه أمام الفتى فيظن هو ويظن أبوه أنه يعرض ابنته كما تعرض السلعة البائرة في السوق الراكدة يبتغي من وراء ذلك أمراً. وتملكته الحيرة.

وجاء عادل - كدأبه - يزور (سعادة البك)، ورأته إلهام وهو يدلف إلى حجرة المكتب فانطلقت إلى هناك كعادتها، ولكن أباها طردها في غلظة، ونهاها عن أن تدخل حجرة فيها (الأستاذ عادل) إلا أن يؤذن لها.

وذهل الفتى حين بدا له أن عين الشيخ يقظة مترقبة، وعجب ألا ينطلي على (البك) ما يتصنعه من رزانة وما يتكلفه من هدوء: الآن وقع ما كان يخشاه وضرب بينه وبينها بحجاب كثيف ما يستطيع واحد أن يظهره وإن جهد. وأطرق الفتى وقد تجهم وجهه وتقبضت أساريره، ثم خرج من لدن الرجل يهيم على وجهه وقلبه يبكي في حرقة وألم ونفسه تتغيظ في أسى ولوعة وثارت كبرياؤه فخاصم الدار وروحه ترف حواليها.

ص: 53

يا لقلبي حين تغشاه غاشية من مصائب الحياة ونكباتها فلا يجد عنها مصرفاً! الآن ذاق قلب الفتى مرارة الحسرة والكمد حين تلفّت فإذا هو وحيد على حيد الطريق، أما الفتاة. . .!

ومضت سنة كاملة والفتى يدافع نفسه عن الدار التي يهفو إليها قلبه. وحين خيل إليه أنه ثأر لكبريائه واقتص لكرامته أحس برغبة ملحّة تجذبه إلى دار فكري بك - مرة ثانية - ليرى هناك روح قلبه ونور عينيه وجمال حياته.

وعجب عادل أنْ رأى الخادم يتقدمه ليفسح أمامه الطريق وليقوده إلى حجرة الجلوس دون حجرة المكتب! ماذا كان؟ لا ريب فقد أصبح غريباً عن هذه الدار فهو يرى الأستار تسدل في وجهه، والأبواب تغلق دونه، ولا يجد السبيل إلا إلى حجرة الجلوس، ولا يلقى إلا (سعادة البك) و (البك) يلقاه كما يلقى رجلاً غريباً عنه ويحدثه حديثاً فيه التكلف والتصنع ويجلس إليه في فتور وملل. وأحس بأن في الدار حركة لم يتألّفها وأن شيئاً يتوارى خلف الأستار المنسدلة. ماذا وراء؟ وهو قد كان - منذ شهور - يدخل إلى الدار في غير إذن فتنفتح الأبواب وترتفع الأستار ويهفو نحوه كل من في الدار في غير تحرج ولا حذر. . .

وذهب عادل يتحسس من الأمر وإنه لذو حيلة ورأي فتناهى إليه أن فتاته قد سُميت على جلال بن عزت بك وهو ضابط في الجيش وهو من أسرة ذات جاه وثراء، وإن الدار تموج منذ أيام بمن يهيئون لليوم السعيد يوم أن تزف إلهام إلى جلال.

ورجع الفتى إلى داره يلفه الهم ويطويه الأسى وفي نفسه ثورة بركان هائج لا يهدأ، فهو يذهب ويجيء ويضطرب في الحجرة مثلما اضطرب وحش كاسر في قفص. آه، يا قيود الإنسانية لو قُيِّض للفتى أن يقذف بك عن عاتقه لزأر زئير سبع غاظته الحياة وعضَّته الأيام! ولكنك أرغمته على أن يكتم الحيوانية الصريحة فيه، فهو يضم جوانحه على أتراحه وقلبه يكاد ينشق من فرط الشجن. وحين آده الجهد والإرهاق جلس إلى نفسه يحدثها:(ماذا كان في غيابي؟ لعلها وجدت فقدي زماناً ثم تسلت، ولعل أمها قد طلبتني ساعة ثم نسيت، ولعل (البك) انتظرني حيناً ثم انصرف! يا لطيشي حين خاصمت هذه الدار وفيها روح قلبي، ونور عيني، وجمال حياتي! هذا ذنبي أحمله وأعاني من وخزاته ما ينوء به ذو الجلد والصبر. ولكن هل أستسلم وأخضع؟ كلاّ! غداً أجد السبيل إليها وأحدثها حديث قلبي، ثم أرى ماذا تفعل وماذا تقول. ولكن كيف أفعل وهي قد سميت على رجل غيري وستصبح -

ص: 54

بعد أيام - زوجة وربة دار. إن قلبي لا يستطيع الصبر ولا السلوان، فغداً أراها وأتحدث إليها). وانطوى الليل كله فما غمضت عينيه ولا هدأت ثائرته، وفي الصباح انطلق إلى هناك يلقى الفتاة!

وجلس إليها في غير رقبة ولا حذر يحدثها ويعتب عليها وينشر أمامها مكنون قلبه وهي تقول له: (أترى يوم أن تلاقينا في الحديقة منذ سنوات أربع، لقد أحسست بقلبي يندفع نحوك، وشعرت بروحي تصفّق حواليك، ووجدت - منذ تلك الساعة - لذة الحياة وسعادة القلب، وخشيت أن أنفض نفسي أمامك، وأنت في شغل عني، فلا أجد منك إلا الاحتقار والامتهان، وأنا أرسف في أغلال التقاليد وقيود البيت، وما كان لي - وأنا فتاة فيَّ الخفر والحياء - أن أتحدث حديث الحب إلى فتى فيه الشباب، لم يسع هوإِليَّ، ولم يكشف لي عن دوافع قلبه ولا خلجات ضميره)! وأطرق الفتى ساعة ثم قال: (وماذا وراء، وأنا أحبك ملء روحي، وأراك نور الحياة وشباب القلب؟) قالت: (. . . وحين وافقت على رأي أبي كنت قد خشيت أن تكون قد طردتني من نفسك لأنك نأيت عني، وخفت أن أطرد خطيبي فأتخلّف عن الركب، وإن شبح ابنة عمي ليضطرب في ناظري كلما ذكرت الخطبة والزواج، فهي قد تأبت حيناً على الزوج أنفة منها وصلفاً. وهي الآن قد أشرفت على الأربعين ولما تجده، لقد فاتها الركب، وتخلفت عن القافلة). فقال: (فماذا ترين وأنا لا أجد الصبر عنك؟ إن عقلي قد ضل فهولا يهتدي إلى رأي)، قالت:(سنرى، وإن في الوقت فسحة).

وخرج الفتى ليذر فتاته وحدها في مضطرب من الأفكار يلتهمها الهم ويفريها الأسى، وهي جالسة في ظلام الحجرة وظلام الأخيلة، وإن الشيطان ليوسوس لها فلا ترى الحياة إلا عوداً من ثقاب تشعله في ثيابها، وإلا حبلاً تلفه فوق عنقها، وإلا نافذة مفتوحة تقذف بنفسها منها. وأصاب الحزن نفسها، وزعزعتها الحيرة، فبدت في عيني أمها ذاوبة ذابلة، وهي تلقى خطيبها في فتور، وتحدثه في ملل، وهي تغدو وتروح في تراخ، وتقضي حاجاتها في كسل. ونظرت إليها أمها بعيني المرأة والأم معاً، فتبين لها أن قلبها قد تحول ناحية أخرى، فراحت تتسلل إلى قلبها في عطف حيناً، وفي مكر حيناً آخر، فما تلبث الفتاة أن كشفت لها عن خطرات قلبها. . .

ص: 55

وراحت الأم تنبه جلالاً إلى أمر ذي خطر، وتوحي إلى ابنتها الصغيرة أن تسر إلى عادل أن يقطع صلته بهذا البيت فلا يزوره أبداً، فهو يخلق بزياراته مشكلة يعضل عليهم حلها.

ووعى الشابان كل ما سمعا. أما عادل فانطلق يتلمس دواءً لقلبه، وأما جلال فراح إلى غريمه يحدثه:(. . . وأنت تعلم - يا صاحبي - أنها سميت عليّ، وأنني أحبها، وأنني رجل حرب لا أومن إلا بأحد أمرين: الفوز في المعركة، أو الموت! فأنت حين تضحي تحفظ عليّ حياتي. . .) فأجابه عادل في هدوء: (وأنت حين تفوز في المعركة تقتلها وتقتلني معها)! قال جلال: (ولكنني قد أعددت كل شيء، وتستطيع أنت أن توهمها بأنك لا تليق صحياً، أو أنك تخشى انتقامي). قال: (وهذا لا أرضاه، وكيف أرضى أن تنهار كبريائي في نظر الفتاة، ولا تنس أن رجلاً ثالثاً سيعيش دائماً بينكما. لقد سبقتُك إلى قلبها، وإن كنت أنت سبقتني إلى خطبتها). قال جلال: (ولكنني أفزع إلى كرمك ورجولتك). فأجابه عادل: (هذا شيء لا أملكه، فنبضات قلبي وقلبها تتفقان معاً، فكيف أستطيع؟) فقال جلال في رجاء: (أرجو أن تفكر في الأمر ملياً قبل أن تهدم بيتاً توشك عمده أن تقام على أساس).

وافترق الشابان ابتغاء أن يقلّب كل واحد منهما الرأي، واتفقا على أن يضحي واحد في سبيل الآخر! وظل الشابان في تردد وحيرة، والفتاة في الدار لا تجد الخيرة من أمرها، وهي قد وافقت منذ حين على أن تتزوج من جلال. فمن عسى أن يضحي يا قارئي العزيز؟

كامل محمود حبيب

ص: 56