الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 82
- بتاريخ: 28 - 01 - 1935
الثقافة المذبذبة
كتب إلي صديقي الأستاذ م. ف. ا. يقول:
(أنا معلم كما تعلم؛ ولكني معلم لا أعتقد فيما يعتقده فيه الكثرة من المعلمين سواي! وذلك أنني لا أومن كثيراً بأوربا، ولا بما جاء من أوربا، إلا أن يكون ذلك شيئاً نجنيه من نفع مادي أو كشف علمي. أما فيما يتعلق بالآراء والنفس، وفيما يتصل بالعقل والقلب، فأنا شرقي ولا أحب إلا الشرق، ومصري ولا أحب إلا مصر. ولقد كان مما يؤلمني دائماً أن أرى الابن الناشئ قد عاد من إنجلترا أو من فرنسا، فلا يكاد يظهر للأعين إلا في هيئة نابية يزعم أنها دليل المدنية التي اكتسبها من الغرب، فيمتدح فرنسا أو إنجلترا وما فيها من مناهج ومناظر ومعاهد، وهو في الحق إنما يريد أن يقول إنه أثر من آثار تلك المدنية السامية التي يمتدحها، فهو يصل إلى الزهو من طريق غير مباشر، ولا يقصد إلا إلى الفخر والإعجاب بالنفس. دع ذلك، فلو كان هذا وحده هو الأثر لهان الأمر، أما أن يتعدى الأمر ما وراء ذلك فهو البلية والنكبة، ذلك بأن هؤلاء الأبناء قد وصلوا بتلك النعرة الجوفاء إلى أن يخدعوا بعض الشيوخ، أو بعض الجُوف من الشيوخ، بأنهم دعاة العلم والمدنية، فألقيت إليهم مقاليد الأمور في بعض النواحي، وكان من سوء حظ مصر أن بلغ هذا الخداع حده في مسائل التعليم. وإليك مثلاً من ذلك: إن برامج التعليم الأدبية - وهي أداة الثقافة والقومية - لا نرى فيها أثراً للشخصية المصرية: فواضع برامج التاريخ هو بعض الجُوف ممن تعلموا تاريخ أوربا، فنقلوا من هذا ما ظنوه خيراً وجعلوه منهاجاً لتلاميذ المدارس الثانوية المصرية، فكانت النتيجة أنك إذا في برامج القسم الأدبي في التاريخ خيل إليك أنك تنظر في بعض برامج فرنسا أو إنجلترا. أو خليطاً من هذا وذاك، وأما مصر فلا شأن لها في ذلك وا حسرتاه! وكذلك الحال في سائر المواد الأدبية، حتى لقد حسبت وأنا معلم أننا إنما نسعى لأعداد أبنائنا ليكونوا أجانب في عواطفهم وعقليتهم وثقافتهم
أليس هذا من العبث يا سيدي الأستاذ؟ أرجو أن تتناول هذا المعنى بقلمك القوي، ولك من أبناء البلاد الثناء الجميل)
وصديقي الأستاذ بخبرته الطويلة وعقيدته النبيلة أولى بمعالجة هذا الموضوع، ولكنه اختار له هذا الأسلوب الصحافي لتتناوله الأقلام المختلفة بالبحث والجدل، فيكون الرأي أجمع، والحكم أقطع، والبلاغ أعم
شكاة الأستاذ شكاة الشرق الإسلامي كله، فانه منذ غفا غفوته الثقيلة الطويلة فانقطع عن صدر الزمن لم يرد أن يبصر بعينه، ويسير على قدميه، ويعلم أن له تاريخاً ممتازاً، ووجوداً مستقلاً، وطابعاً خاصاً، ووحدة كاملة، ومدنية أصيلة؛ وإنما ذهب يتحسس من طريقه على نداء الصائد، ويتوكأ في سيره على عمود الشَّرَك، ويطمس على شخصه بالفناء في الغرب، كأن أهله لم يكفهم أن يكونوا عبيداً لأوربا بالجسم عن قوةٍ وقهر، فرضوا أن يكونوا عبيداً لها بالروح عن رضا وطواعية، فهم يتكلمون بلغتها، ويتأدبون بأدبها، ويتسمون بسمتها، ويتخلقون بخلقها، ويطبعون أذواقهم بالكره على غرار ذوقها، ويغالطون طباعهم في أصل الفطرة فيزعمون لعقولهم أن النفس المتمدنة لا يلائمها إلا ما يلائم الأوربي من أدبه ورقصه وغنائه وموسيقاه، كأن المسافة بين الشرق والغرب لا تحدث فرقاً، ولا تغير خَلْقاً، ولا تبدل طبيعة!
إن الاستعباد المادي دهمنا أمس على يد الآباء، والاستعباد الأدبي يدهمنا اليوم على يد الأبناء، وشتان بين استعباد كان عن إجبر وجهل، واستعباد يكون عن اختيار وعلم؛ والعبودية العقلية أشد خطراً وأسوأ أثراً من العبودية الجسمية، لأن هذه لا تعدى الأجسام والحطام والعَرض، ومثلها مثل الجسم يرجى شفاؤه متى عرف داؤه؛ أما تلك فحكها حكم العقل إذا ذهب، والروح إذا زهق، وهل يرجى لمخبول شفاء، أو ينتظر لمقتول رجعة؟
إن أكثر نَشْئِناَ الذين وردوا مناهل الثقافة العالية في أوربا إنما ذهبوا إليها وشخصياتهم هلاهل من تمزق الأسرة وتفكك البيئة وفساد التعليم وضعف التربية، فكونوا عقولهم على منطق الاعجاب، وميولهم على هوى التبعية، ثم عادوا وفي حوافظهم تاريخ غير تاريخ مصر، وعلى ألسنتهم أدب غير أدب العرب، وفوق غرائزهم خلق غير خلق الشرق، فتصرفوا تصرف المقلد، وتعسفوا تعسف الحائر، فلم يستطيعوا أن يكونوا غربيين لعصيان الطبيعة، وإباء الفطرة، ولم يريدوا أن يعودوا شرقيين لقوة الفتنة وضعف الإرادة
إن العلم لا وطن له، لأنه يتعلق باستخدام القوى واستثمار المادة في العالم كله لخير الناس كله؛ أما الآداب والفنون والأذواق والأخلاق والتقاليد فهي قِوَام الأمم، ولا تنزل أمة عنها ألا إذا نزلت عن ذاتها وزلت عن مستواها؛ فخضوع الثقافة القومية للإنجليزية في مصر وفلسطين، وللفرنسية في سورية والمغرب، وللأمريكية في العراق والمهجر، بلاء على هذه
الأمم لا تسلم عليه وحدة، ولا يستقل معه وطن
أما عبث هذه الثقافة المذبذبة بالبرامج فَعِلته أن التعليم عندنا ليست له سياسة مرسومة ولا غاية معينة. قل لواضع البرنامج مهما يكن: أريد أن أصل بالتعليم إلى هذه الغاية، تجد الغاية نفسها هي التي تعيِّن السبيل وتحدد الوجهة؛ أما إذا كانت سياستنا في التعليم أن ننشئ المدارس ونهيئ المدرسين ونقيم الامتحانات، فان جماع الأمر في المعارف إذن أن تكون حقولاً للتجارب فيها لكل سياسة أثر، وكل ثقافة ثمر، ولكل أمة غير أمتها نصيب
أحمد حسن الزيات
بنتُه الصغيرة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
فرغ أبو يحيى مالكُ بنُ دينار، زاهدُ البَصْرة وعالمها، من كتابة المُصْحَف؛ وكان يكتبُ المصاحف للناس ويعيشُ مما يأخذ من أجرة كتابته، تعففاً أن يَطْعَم إلا كَسْب يده، ثم خرج داره وَجْهُهُ المسجدُ، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائماً، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافِلَتَه، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى اسطوانته التي يستند إليها، وتحلق الناسُ حوله جموعاً خلْف جموعٍ، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجدُ على رحبة. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقهً طويلة، والناسُ كأن عليهم الطير مَما سكنوا لهيبته، ومما عَجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطلع على أرواحهم فجرٌ رطْبٌ من سِحْر ذلك الندى
وبَدَرَ شابٌ حدَثٌ فسأله: ما بكاءُ الشيخ؟ وكان قريباً يجلس من الإمام في سَمْتِ بصره، فتأمله الشيخ طويلاً يقلب فيه الطرْفَ كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِدَ لسانهُ أو أخذته عن نفسه حالٌ، فما يثبتُ شيئاً مما يرى
وازداد الناس عجباً؛ فما جَرّبوا على الشيخ من قبلها حصراً ولا عِيا، ولا قطعه سؤالٌ قَط، ولا تخلف قطُّ عن جواب؛ وقالوا إن له لشأنا وما بُدٌ أن تكون من وراء حُبْسَته شعابٌ في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج، فما أسرع ما يلتقي السيلُ، فيجتمعُ، فيصوبُ إلى مجراه، فيتقاذف
وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيتُ رؤيا فتبسمتُ لها؛ أما الذكرى، فهل تعملون أن هذا المسجد الذي يفهق بهذا الحشْد العظيم، وتقع فيه الدينية المدينة لكل أّذَانٍ وتطير - هل تعلمون أنه خلا قط من الناس وقد وَجَبَت الفريضة؟ قالوا: ما نَعْلمه. قال: فقد كان ذلك لعشرين سنةً خَلَتْ، في مَوْت الحسن، فقد مات عَشيةَ الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهلُ البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقم صلاةُ العصر بهذا المسجد، وما تُركتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعةُ موته من عُمرْ من شَهدَها، فذلك يومٌ عجيب قد لف
نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيتْ في نفس رجلٍ ولا امرأة شهوةٌ إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطلة كما يفرغ من أيقن أنْ ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموتُ في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناءُ في موت آبائهم وامهاتهم، ولا الآباء والأمهاتُ في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيزُ على أهل بيت فيكون الموتُ واحداً وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موتُ الحسن موتاً بعَدَدِ أهل البصرة!
ذاك يومٌ اشتد فيه الموتُ وكبر، وانكمشت فيه الحياةُ وصغرتْ، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يُلقى فيها الملوكُ والصعاليكُ، والأخلاطُ بين هؤلاء وأولئك، لا يَصغر عنها الصغير، ولا يكبرُ عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك حتى رجعت الدنيا على قدر جيفة حيوانِ بالعراء، تنكشف للأبصار عن شوهاء نجسةٍ قد ارمت لا تُطاقُ على النظر ولا الشم ولا على اللمس؛ وما تتفجر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض
تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى فأبصرتني حين كنتُ مثله يافعاُ مترعرعاً داخلاً في عصر شبابي، فكأنما انتبهتْ عيني من هذه النفس على فاتكٍ خبيثٍ كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلاً ثم بُعث!
إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فارْعُوه أسماعم، واحضروه إفهامكم، واستجمعوا له، فانه كان غيب شيخكم، وأنا محدثكم به كيلا ييأسَ الضعيف ولا يقنط يائس، فإن رحمة الله قريبٌ من المحسنين
لقد كنتُ في صدر أيامي شرطياً، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتى وأنشطر، وكنت قوياً معصوباً في مثل جبلة الجبل من غلط وشدة، وكنت قاسياً كأن في أضلاعي جندلةً لا قلباً، فلا أتذمم ولا أتأثم؛ وكنتُ مُدمِناً على الخمر، لأنها روحانية من عجز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهيةُ يزورها الشيطانُ - لعنهُ الله - فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويُثيبها ثواب ساعةٍ ليست في الزمن بل في خيال شاربها. وكأن جَهْلَ العقلِ نَفْسَه في بعض ساعات الحياة هو - في علم الشيطان وتعليمه - معرفةُ العقل نفسه في الحياة!
فبينا أنا ذاتَ يوم أجول في السوق، والناسُ يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أرقب السارق وأُعد للجاني، وأتهيأ للنزاع - إذ رأيت اثنين يتلاحيان وقد لبّب أحدهما الآخر؛ فأخذت
إليهما، فسمعت المظلوم يقول للظالم: لقد سلبتني فرح بنياتي، فسيدعون الله عليك فلا تصيب من بعدها خيراً، فأني ما خرجت إلا اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من خرج إلى سوق من أسواق المسلمين، فاشترى شيئاً، فحمله إلى بيته، فخص به الإناث دون الذكور - نظر الله إليه.)
قال الشيخ: وكنت عزباً لا زوجة لي، ولكن الآدمية انتبهت في، وطمعت في دعوة صالحة من البنيات المسكينات، إذا أنا فرحتهن، ودخلتني لهن رقة شديدة، فأخذت للرجل من غريمة حتى رضي، وأضعفت له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته، وقلت له وهو ينصرف: عهدٌ يحاسبك الله عليه ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيت فرحهن بما تحمل إليهم، وقل لهن: مالك بن دينار
وبت ليلتي أتقلب مفكراً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعانيه الكثيرة، وحثه على إكرام البنات، وأن من أكرم بناته كَرُمَ على الله، وحرصه أن ينشأن كريمات فرحات؛ وحدثني هذا الحديثُ ليلتي تلك إلى الصبح؛ وفكرت حينئذ في الزواج، وعلمت أن الناس لا يزوجونني من طيباتهم ما دمت من الخبيثين؛ فلما أصبحت غدوت إلى سوق الجواري، فاشتريتُ جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، وولدت لي بنتاً فشغفتُ بها، وظهرتْ لي فيها الإنسانيةُ الكبيرة التي ليست في، فرأيت بعدما ما بيني وبين صورتي الأولى؛ ورأيتها سماوية لا تملك شيئاً وتملك أباها وأمها، وليس لها من الدنيا إلا شبع بطنها وما أيسره، ثم لها بعد ذلك سرور نفسها كاملاً تشب عليه أكثر مما تشب على الرضاع؛ فعلمت من ذلك أن الذي تكتنفه رحمة الله، يملك بها دنيا نفسه، فما عليه بعد ذلك أن تفوته دنيا غيره، وأن الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه، وتكون نفسه دائماً جديدة على الدنيا؛ وأن الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة؛ والذي لا يبالي الهم لا يبالي الهم به؛ وأن زينة الدنيا ومتاعها وغرورها وما تجلب من الهم - كل ذلك من صغر العقل في الأيمان حين يكبر العقل في العلم!
كانت البنيةُ بدء حياةٍ في بيتي وبدء حياة في نفسي، فلما دبت على الأرض ازددت لها حباً، وألفتني وألفتها، فرزقت روحي منها أطهر صداقة في صديق، تتجدد للقلب كل يوم، بل كل ساعة، ولا تكون إلا لمحض سرور القلب دون مطامعه، فتمده بالحياة نفسها لا بأشياء الحياة، فلا تزيد الأشياء في المحبة ولا تقص منها، على خلاف ما يكون في الأصدقاء
بعضهم من بعض واختلافهم على المضرة والمنفعة
قال الشيخ: وجهدتُ أن أترك الخمر، فلم يأت لي ولم أستطعه؛ إذ كنت منهمكاً على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته فيها الشريعة، فكرهتها كرهاً شديداً، وأصبحت كالمكره عليها، ولم تعد فيها نشوتها ولا ريها؛ وكانت الصغيرةُ في تمزيق أخيلتها أبرعَ من الشيطان في حَوِْك هذه الأخيلة، وكأنما جرتني يدها جراً حتى أبعدتني عن المنزلة الخمرية التي كان الشيطان وضعني فيها، فانتقت من الاستهتار والمكابرة وعدم المبالاة، إلى الندم والتحوب والتأثم، وكنت من بعدها كلما وضعت المسكرِ وهمت به، دبت ابنتي إلى مجلسي؛ فأنظر إليها وتنتشر عليها نفسي من رقة ورحمة، فأرقب ما تصنع، فتجيء فتجاذبني الكأس حتى تُهْرِقها على ثوبي، وأراني لا أغضب، إذ كان هذا يسرها ويضحكها، فأسر لها وأضحك
ودام هذا مني ومنها، فأصبحت في المنزلة بين المنزلتين؛ أشرب مرةً واترك مراراً، وجعلتُ أستقيم على ذلك، إذ كانت النشوة بابنتي أكبر من النشوة بالزجاجة، وإذ كنتُ كلما رجعتُ إلى نفسي وتدبرت أمري، أستعيذ بالله أن تَعقِل ابنتي معنى الخمر يوماً فأكون قد نجستُ أيامها، ثم أتقدم إلى الله وعليَّ ذنوبها فوق ذنوبي، ويترحم الناسُ على آبائهم وتلعنني إذ لم أكن لها كالآباء، فأكون قد وُجدتُ في الدنيا مرةً واحدة وهلكتُ مرتين
ومضيتُ على ذلك وأنا أصْلُح بها شيئاً فشيئاً وكلما كبرت كبرت فضيلتي، فلما تمَّ لها سنتان ماتت!
قال الراوي: وسكت الشيخ فعَلِقَتْ به الأبصار، ووقفت أنفاسُ الناس على شفاههم، وكأنما ماتت لحظاتٌ من الزمن لذكر موت الطفلة، وخامر المجلسَ مثلُ السكْر بهذه الكأس المُذهلة، ولكن الطفلة دبت من عالم الغيب كما كانت تصنع، وجذبت الكأس واهرقتها، فانتبه الناس وصاحوا: ماتت فكان ماذا. قال الشيخ: فأكمدني الحزن عليها، ووهن جأشي، ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسى به، فضاعفَ الجهلُ أحزاني، وجعلَ مصيبتي مصائب. والإيمانُ وحده هو أكبر علوم الحياة، يُبصرُك إن عميتَ في الحادثة، ويهديك إن ضَلِلت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكونُ وإياها على المصيبة، لا عدوها تكون المصيبة وإياها عليك؛ وإذا أخرجتِ الليالي من الأحزان والهموم عسكرَ ظلامِها لقتال نفسٍ
أو محاصرتها فما يدفع المالُ ولا تردُّ القوةُ ولا يمنع السلطان، ولا يكون شيء حينئذ أضعف من قوة القوي، ولا أضيعَ من حيلةِ المحتال، ولا أفقرَ من غِنى الغنيَّ، ولا أجهلَ من علم العالم، ويبقى الجهدُ والحيلةُ والقوة والعلمُ والغِنى والسلطانُ - للإيمان وحده، فهو يكسر الحادث ويقلل من شأنه، ويؤيد النفس ويضاعفُ من قوتها، ويَرُدُّ قَدرَ الله إلى حكمةِ الله، فلا يلبثُ ما جاء أن يرجع، وتعود النفس من الرضى بالقَدرَ والإيمان به؛ كأنما تشهد ما يقع أمامها لا ما يقع فيها
قال الشيخ: ورجعتُ بجهلي إلى شرٍ مما كنتُ فيه، وكانت أحزاني أفراحَ الشيطان؛ وأراد - أخزاه الله - أن يَفْتَن في أساليب فرحه، فلما كانت ليلةُ النصف من شعبان، وكانت ليلة جمعة، وكانت كأول نور الفجر من أنوار رمضان - سوّل لي الشيطان أن أسكر سكْرةً ما مثلُها؛ فبتُّ كالميت مما ثملت، وقذفتني أحلامٌ إلى أحلام، ثم رأيت القيامة والحشر، وقد وَلدت القبورُ من فيها، وسيق الناسُ وأنا معهم وليس وراء ما بي من الكرب غاية؛ وسمعت خلفي زفيراً كفحيح الأفعى، فالتفت فإذا بتنينٍ عظيم ما يكون أعظم منه؛ طويلً كالنخلة السحوق، أسود أزرق، يُرسل الموت من عينيه الحمراوين كالدم، وفي فمه مثلُ الرماح من أنيابه، ولَجوْفهِ حرٌّ شديدٌ لو زِفَر به على الأرض ما نبتتْ في الأرض خضراء، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعاً يريد أن يلتقمني، فمررتُ بين يديه هارباً فزعاً، فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفاً، فَعُذْتُ به وقلت أجرني أغثني. فقال: أن ضعيفٌ كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن مر واسرع، فلعل الله أن يسبب لك أسباباً للنجاة. فوليتُ هارباً وأشرفتُ على النار وهي الهول الأكبر، فرجعتُ اشتد هرباً والتنين على أثري، ولقيتُ ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرتُ به فبكى من الرحمة لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يحدث أمراً. فنظرتُ فإذا جبل كالدار العظيمة، له كوى عليها ستور، وهو يَبْرُقُ كشعاع الجوهر؛ فأسرعت إليه والتنين من ورائي، فلما شارفت الجبل فتحت الكوى ورفعت الستور، وأشرفتْ على وجوهُ أطفال كالأقمار، وقرب التنينُ مني، وصرتُ في هواء جوْفه وهو يتضرّم علي، ولم يبق إلا أن يأخذني، فتصايح الأطفال جميعاً: يا فاطمة! يا فاطمة!
قال الشيخ: فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت عليّ، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكتْ، ثم
وثبتْ كَرَمْية السهم، فجاءت بين يديّ، ومدت إلي شِمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هارباً. وأجلستْني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدَتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبت (أَلَمْ يَأنِ للذينَ آمنوا أن تَخْشَعَ قٌلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟)
فبكيتُ وقلتُ: يابُنيّة، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي. قالت ذاك عملُك السوء الخبيث، أنت موتيه حتى بلغ هذاالهول الهائل والأعمال ترجعُ هنا أجساماً كما رأيت. قلت: فذاك الشيخُ الضعيف الذي استجرْتً به ولم يُجرْني؟
قالت: يا أبتِ، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفْتَه فضَعُفَ حتى لم يكن له طاقة أن يغيثَك من عملك السيئ، ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن أتبعت قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فَرّحَ بناته المسكينات الضعيفات - لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها، ويمينٌ تَطْرد عنك
قال الشيخ: وانتبهتُ من نومي فزِعاً ألعن ما أنا فيه، ولا أراني أستقر، كأني طريدةُ عملي السيئ كلما هَرَبتُ منه هَرَبت به؛ وأين المَهْرَبُ من الندم الذي كان نائماً في القلب واستيقظ للقلب؟
وأملتُ في رحمة الله أن أربح من رأس مالٍ خاسر، وقلت في نفسي: إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عُمْرٌ ما ينبغي أن يستهان به؛ وصححت النية على التوبة، لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمنَ عظامه، حتى إذا استجرْتُ به أجارني ولم يقل (أنا ضعيف كما ترى!)
وسألتُ فدُللْتُ على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيدِ البقية من التابعين؛ وقيل لي: أنه جمع كل عِلم وفن إلى الزهد والورع والعبادة، وإن لسانه السحر، وإن شخصه المغناطيس، وإنه ينطق بالحكمة كان في صدره إنجيلاً لم ينَزل، وأن أمه كانت مولاة لأم سَلمَة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت ربما غابت أمه في حاجة فيبكي، فترضعه أم سلمةُ تعلله بثديها فيدِرّ عليه، فكانت بينه وبين بَركة النبوة صلة
وعدوتُ إلى المسجد والحسَن في حلْقته يقص ويتكلم، فجلست حيث انتهى بي المجلس، وما كان غيرَ بعيد حتى عَرتني نَفْضةٌ كنفضة الحمى، إذ قرأ الشيخ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ للذين
آمنوا أن تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذكْر الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)
فلو لفظتني الأرضُ من بطنها، وانشقّ عني القبرُ بعد الموْت - ما رأيت الدنيا أعجب مما طالعتني في تلك الساعة؛ وأخذ الشيخ يفسرُ الآية، فصنع بي كلامه ما لو بُعث نبيٌّ من أجلي خاصةً لما صَنَع أكثر منه
وكلامُ الحسن غيرُ كلام الناس وغيرُ كلام العلماء؛ فانه يتكلم من قلبه ومن روحه، ومن وجهه ولسانه؛ وناهيكم من رجل خاشعُ متصدعٍ من خشية الله لم يكن يُرَى مْقبلاً إلا وكأنه أقبل من دفن حميم قد أنزله في قبره بيده، ولا يُرى جالساً إلا وكأنه أسيرٌ أمروا بضرب عنقه، وإذا ذُكِرَتْ النار فكأنها لم تخلق إلا له وحده؛ رجلٌ كان في الحياة لتتكلم الحياةُ بلسانه أصدق كلماتها
فصاح صائح: يا أبا يحيى، التفسيرَ التفسير! وصاح المؤذنُ: الله أكبر. فقطع الشيخ وقال: التفسير إن شاء الله في المجلس الآتي
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
1 - الغزو الياباني الاقتصادي لأسواق العالم
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يشعر العالم المتمدن اليوم بأن قوة جديدة خطيرة قد نزلت إلى الميدان الصناعي والتجاري، وهذه القوة تندفع إلى الإمام بسرعة مدهشة، وتجرف أمامها كل حاجز وكل مقاومة، وتضطرب لها جميع أسواق العالم شرقية وغربية: تلك هي قوة الغزو التجاري الياباني الذي تهتز أمامه اليوم معظم الأمم الصناعية والتجارية، وترقب تفاقمه في خوف وهلع. ولقد كان هذا الغزو منذ عامين أو ثلاثة شديد الوطأة على بعض الأسواق الكبرى، ولا سيما أسواق الإمبراطورية البريطانية، ولكنه اليوم يغدو مشكلة عالمية. فمن آسيا إلى أفريقية وأوربا وأمريكا الجنوبية يجتاح هذا الغزو المدهش جميع الأسواق القديمة، ويلقي الذعر في دوائر الصناعة والتجارة العليا، ويثير أينما حل كثيراً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ولقد حاولت الدول الصناعية والتجارية الكبرى أن تحد من أخطار هذا الغزو بجميع الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها الحماية الجمركية، ولكنها لم توفق حتى اليوم إلى صده بطريقة ناجعة، لأنه يعتمد في قوته واندفاعه على أسس اقتصادية محكمة، ويتفوق بمزاياه المدهشة على كل منافسة ومقاومة، ويتحدى كل إجراء لرده لا يستمد من نفس الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها
وقد ظهرت طوالع هذا الغزو الياباني في المشرق بقوة: في الصين والهند وأفغانستان وفارس والبلاد العربية ومصر؛ واجتاح الأسواق القديمة في الحبشة، وفي شمال أفريقية وفي جنوبها؛ ثم اجتاح أسواق أمريكا الجنوبية؛ كل ذلك بسرعة مدهشة لم تترك مجالاً للقيام بأية مقاومة منظمة؛ ولم يكتف بمنافسة الصناعة الأوربية المؤثلة في أسواقها القديمة فيما وراء البحار، ولمنه نفذ إليها في نفس مواطنها ومر معظم الأمم الأوربية ذاتها، وأصبحت البضائع والمنتجات اليابانية تتدفق عليها كالسيل، وتنافس البضائع والمنتجات المحلية منافسة الحياة والموت. ولما كانت قوة الأمم الغربية ورفاهتها وسلطانها السياسي والاقتصادي في أفريقية وآسيا تقوم على صناعتها وتجارتها قبل كل شيء فأنا نستطيع أن نتصور ما يثيره هذا الغزو الياباني الخطر في معظم الأمم والحكومات الأوربية من عوامل الخوف والجزع
ونحن في مصر نشعر منذ حين بآثار هذا الغزو تنمو وتتسع بسرعة، وتبدو واضحة فيما ينهمر على سوقنا المصرية من صنوف البضائع والسلع اليابانية الرخيصة المغرية مع ذلك. وتشمل هذه المنتجات اليابانية معظم الحاجات الشخصية والمنزلية؛ من ثياب وأقمشة وحرائر وأحذية وخردوات وساعات وأدوات وآلات كهربائية وآلات حديدية وقاطعة، وأنواع الآنية، والأدوات الكتابية واللعب وغيرها مما لا يقع تحت حصر؛ وقد ظهر أثر هذه المنافسة في بعض صناعاتنا الفتية مثل صناعة الغزل إذ أخذت الأقمشة اليابانية القطنية والحريرية الرخيصة في منافسة منتجاتنا منافسة قوية، وكذلك صناعة الأحذية فقد أخذت الأحذية اليابانية تتدفق على السوق المصرية بأثمان غير معقولة. على أن أثر الغزو الياباني لا يقف في مصر عند هذا الحد؛ وإذا كانت مصر لا تتمتع بصناعة واسعة يخشى عليها مباشرة من هذا الغزو، فأنها يجب أن تخشى منه بحق على مستقبل محصولها الرئيسي وهو القطن الذي تستهلكه الصناعة الأجنبية وتحتاج إليه أشد الحاجة؛ ومن الواضح أن مستقبل القطن المصري يتوقف على رخاء الصناعات التي تقوم عليه وتستمد حاجتها منه؛ ولما كان الغزو الصناعي الياباني قد أخذ يهدد صناعة القطن في لانكشير، وهي أعظم عميل للقطن المصري، ويهدد الأسواق التي تعتمد عليها لانكشير في تصريف منتجاتها، فانه يحق لنا في مصر أن نرقب سير هذا الغزو الياباني بمنتهى الاهتمام، وأن نفكر فيما عسى أن يترتب على هذا الصراع الاقتصادي الخطير بين الصناعات الأوربية القديمة وبين اليابان في حياتنا الاقتصادية من الآثار
وسنحاول في هذا المقال عرض الموضوع من الناحية العامة، ودرس العوامل والأسباب التي مكنت اليابان من تنظيم غزوتها الاقتصادية المدهشة، ومن النجاح في مغالبة الصناعات الأوربية الراسخة، على حداثة عهدها بالنهضة الصناعية الحديثة
إن وثبة اليابان الحديثة ترجع إلى فاتحة هذا القرن فقط، أعني إلى انتصارها الباهر في الحرب التي خاضت غمارها مع روسيا سنة 1905؛ فقد كان أول نصر حاسم أحرزته في العصر الحديث دولة أسيوية على دولة أوربية عظمى؛ وكانت أوربا القديمة تعتقد قبل ذلك في مناعتها، وتوقن أن العصر الذي تستطيع فيه دولة شرقية أن تهزم دولة غربية قد انتهى إلى الأبد، فجاء انتصار اليابان على روسيا مبدداً لهذا الحلم؛ وشعرت اليابان بقوتها
ومنعتها، وازدادت ثقة بمستقبلها وحقها في تبوأ مكانتها الحقة بين الدول العظمى؛ ومن ذلك الحين تسير اليابان في ميدان التقدم الحديث بخطى مدهشة، وقد كان هذا التقدم في المبدأ محصوراً في أسيا، أو بعبارة أخرى في الشرق الأقصى؛ ولكن اليابان أخذت منذ نهاية الحرب الكبرى تتجه نحو الغرب بخطى سريعة؛ وكان الصراع بين اليابان والغرب يدور أولاً حول الغزو السياسي والاقتصادي للصين؛ فلما شعرت الأمم الغربية بأن نفوذها الاستعماري القديم في الصين أخذ يهتز ويضطرب أمام التقدم الياباني أرسلت صيحتها ونذيرها بالخطر الأصفر، وحاولت أن تصبغ المعركة الاستعمارية الاقتصادية بصبغة جنسية؛ ولكن هذه المعركة التي تضطرم حول اقتسام الصين واستعمارها انتهت أخيراً بانتصار اليابان على الدول الغربية؛ واستطاعت اليابان إلى جانب كوريا التي تملكها منذ بعيد، ن تغزو منشوريا وأن تستولي عليها، وبذا أصبحت تملك في الصين إمبراطورية استعمارية شاسعة غنية بمواردها. ولم تقف اليابان عند هذا الحد، بل أعلنت رداً على صيحة الخطر الأصفر، ما يشبه مبدأ مونرو الأمريكي، وهو أنها تعتبر نفسها صاحبة الحق الأول في استعمار الصين، وأنها ستقاوم منذ الآن فصاعداً أية محاولة من جانب الدول الغربية لتوسيع نفوذها السياسي والاستعماري في الصين
ولما حققت اليابان برنامجها الأول في الشرق الأقصى، ضاعفت جهودها في الاتجاه نحو الغرب ومنافسته في ميادينه الصناعية والتجارية، واستطاعت أن تنظم هذا الغزو الاقتصادي الجارف. ونستطيع أن نجمل أهم العوامل التي تعتمد عليها اليابان في تنظيمه في أمرين: الأول وفرة اليد العاملة، والثاني رخص العمل والأجور بنسب مدهشة. وقد نما الشعب الياباني في العصر الأخير نمواً سريعاً، وأضحى يبلغ اليوم خمسة وستين مليوناً في جزائر اليابان وحدها، هذا عدا كوريا وسكانها عشرة ملايين.
ويزيد الشعب الياباني في العام مليوناً، وهي نسبة مدهشة، ويرجع احتشاد الشعب الياباني في جزائره على هذا النحو إلى كثرة النسل التي لم تتأثر بنظريات المدنية الحديثة ووسائلها في ضبط النسل، وعدم إقبال اليابانيين على الهجرة، ووضع الأمم الغربية الحواجز في سبيل هجرتهم. وتدل الإحصاءات الأخيرة على أن عدد اليابانيين المهاجرين لا يزيد عددهم على أكثر من سبعمائة ألف في جميع أنحاء العالم. والياباني ميال بالطبيعة إلى البقاء في
وطنه؛ ومما يذكي هذه الرغبة في نفسه نظام الملكية الصغيرة التي تسمّره في أرضه. وقد كان هذا الاحتشاد الهائل في تلك الجزر الصغيرة وتعذر سبل الهجرة من أكبر العوامل في دفع اليابان إلى اعتناق الفكرة الصناعية، والعمل على تحويل اليابان إلى بسيط شاسع من الصناعات الكبيرة التي تستطيع أن تستغرق هذه الملايين العديدة وان تمدها بالقوت. وقد نجحت هذه السياسة نجاحاً عظيما، حتى كان عدد المصانع يزداد في العصر الأخير بمعدل مائة إلى ثلاثمائة في العام الواحد. وكان عدد هذه المصانع سنة 1917 يزيد قليلاً عن ألفين، فوصل في سنة 1929 إلى 59887 مصنعاً! ثم زاد في الأعوام الأخيرة زيادة كبيرة
ومن الغريب أن اليابان استطاعت أن تقوم بهذه المعجزة الصناعية رغم كونها ليست غنية في الموارد والمواد الأولية؛ فهي في الواقع تستورد كثيراً من المواد الأولية من الخارج. ولكن اليابان غنية في بعض المواد الحيوية كالفحم، فهي تملك منه مقادير وافرة، وتصدر منه أحياناً؛ وتملك أيضاً مقادير وافرة من البترول والحديد، ولكنها لا تفي بحاجتها. أما في المواد الأولية الزراعية فاليابان فقيرة جداً، وهي تستورد معظم ما تحتاج إليه من القطن والصوف والجلد وغيرها، على أن هذا النقص لا يمنع صناعتها من التقدم بخطى جبارة؛ فقد استطاعت كما سنفصل بعد أن تأخذ المحل الثالث في الصناعات القطنية بعد إنكلترا والولايات المتحدة رغم كونها تستورد القطن من الخارج
ومن الطبيعي أن يؤدي احتشاد السكان ووفرة الأيدي العاملة إلى رخص الأجور. ومسألة الأجور هذه إحدى معجزات الصناعة اليابانية ونعمها السابغة، وهي معقدة متنوعة النواحي؛ وتنخفض الأجور في اليابان إلى حدود غير معقولة؛ وللعامل الياباني (معيار للمعيشة) في منتهى التواضع، وليست له طلبات خاصة، فهو قنوع جد القناعة لا يطمح إلى أكثر مما يحقق ضرورات العيش، ولا يفكر في شيء من ألوان المتعة والترف التي يطمح إليها العامل الأوربي. وهو صبور لا يحسب في العمل حساباً للقوت، وليس له تشريع عملي يحميه، ولم يعرف بعد شيئاً من تلك النزعة العدائية التي تجعل العمل ورأس المال في الغرب خصمين دائمين، والتي تحفز الكتلة العاملة إلى الجهاد المستمر في سبيل حقوقها المادية والمعنوية. ومن الصعب أن نقدم بياناً رقمياً عن الأجور في اليابان يمثل حقيقة ما يكسبه العامل، لأن الأجور النقدية تدعم أحياناً بأنواع من المعاونات الخاصة، كالتعويض
عن العمل الزائد، والمكافآت، ثم الأجور النوعية كتقديم الطعام أو المسكن أو الثياب. ولكن يستدل من المباحث التي أجراها مكتب العمل الدولي أن متوسط أجرة العامل الياباني تبلغ في اليوم:(1) في الصناعات الفنية 2. 20 ين (11 فرنا - أو نحو 15 قرشاً) (2) وفي المناجم 1. 80 ين (9 فرنكات أو نحو 11 قرشاً) ويبلغ متوسط ما تأخذ المرأة 1. 03 ين (نحو خمسة فرنكات أو سبعة قروش). وهذه النسبة تعتبر مرتفعة بالنسبة لبعض الصناعات الخفيفة مثل صناعة الغزل حيث يبلغ معدل الأجور أقل من ين أو نحو أربعة أو خمسة قروش. وفي كثير من الصناعات لا يزيد مستوى الأجور على مستوى الأجور الزراعية العادية
وفي الصناعات الصغيرة يوجد نظام مشترك في العمل والحياة يشبه نظام الأسرة، ومما تجدر ملاحظته إن كثيراً من أصحاب المصانع في اليابان لم يتأثروا بعد بنظريات الرأسمالية الغربية في استغلال الفرد، وما زالت تسود لديهم الفكرة العائلية القديمة في اعتبار صاحب العمل والعمال الذين معه، أسرة واحدة ترتبط برباط الأخوة والمصلحة المشتركة، وفي كثير من المعامل الصغيرة يتناول العمال طعامهم في المصنع ويقيمون في مساكن يعدها لهم صاحب العمل؛ ويقوم صاحب العمل بقسطه من العمل كباقي العمال، ويتناول طعامه معهم، ويعيش مثلهم في نفس المسكن، ولا يشعر العمال في هذا الجو إلا أنهم مع سيدهم زملاء وأخوة؛ وهذا النظام العائلي يعاون على الإنتاج في ظروف وتكاليف يسيرة لا تمكن منافستها على الإطلاق
ويرتبط بالعمل والأجور مسألة ساعات العمل، وهي من العناصر الهامة في تكاليف الإنتاج. ومن المعروف أن الكتلة العاملة في الأمم الغربية استطاعت أن تصل في تخفيض ساعات العمل وفي تقرير أيام العطلة والإجازات الدورية إلى نتائج مرضية جداً؛ فالأسبوع الصناعي في معظم الدول الغربية لا يتجاوز اليوم 42 ساعة، ولا يتجاوز اليوم الصناعي ست ساعات أو سبعاً، وللعامل يوم عطلة أسبوعي مقرر هو يوم الأحد، وله فوق ذلك حق في إجازة سنوية أو دورية معينة تختلف باختلاف الظروف؛ وهذه الحقوق كلها مقررة بالتشريع؛ أما في اليابان فلا توجد فكرة التحديد في الزمن، وتدل المباحث الأخيرة على أن معدل اليوم الصناعي في معظم الصناعات اليابانية لا يقل عن عشر ساعات، على أنه لا
توجد لذلك حدود أو قيود قانونية إلا فيما يتعلق بالنساء والأحداث، فاليوم العملي لهؤلاء يجب ألا يزيد على إحدى عشرة ساعة، والقانون يقضي بأن يمنحوا راحة مقدارها ساعة إذا زاد يوم العمل على عشر ساعات، ولا توجد في اليابان راحة أسبوعية للعمال كما في أوربا، لأن يوم الأحد هو عطلة نصرانية لا تقرها التقاليد اليابانية؛ ولا تعرف هذه التقاليد من جهة أخرى يوماً معيناً تخصصه للعطلة الأسبوعية، وقد كان في مشروع اتفاق واشنطون، في المادة الخاصة باليابان أن يمنح جميع العمال على اختلاف طوائفهم عطلة أسبوعية قدرها أربع وعشرون ساعة، ولكن اليابان لم تقر هذا الاتفاق. على أن المعامل الكبيرة اعتادت أن تمنح عمالها عطلة مقدارها يومان في الشهر، يوم في منتصف الشهر ويوم في نهايته؛ على أنه لا توجد لذلك كما قدمنا قواعد ثابتة، والعمال اليابانيون أنفسهم ينفرون من فكرة الراحة الدورية خوفاً من أن تنقص أجورهم تبعاً لتقريرها
ومما تقدم نرى أن الصناعة اليابانية تعمل في ظروف مدهشة تستطيع معها غزو كل سوق وسحق كل منافسة، وقد لخص كاتب اقتصادي وثبة اليابان الصناعية في هذه الكلمات:(إن الأجور الصناعية في اليابان سويت بالأجور الزراعية، وغدت ثلث ما كانت عليه سنة 1929؛ وأسبوع العمل ستون ساعة؛ وقد يبلغ طبقاً لبعض الإحصاءات في صناعة القطن مائة وعشرين ساعة، وفي اليابان شعب يزيد في العام مليوناً، والعنصر البشري يعني به أكثر مما يعني بالآلات. . . وتلك في الواقع مدنية صناعية جديدة بين النظم الفنية الأمريكية ورخص العمل الشرقي، فمدير المصنع الياباني يتناول مرتباً قدره (1700 ليرة)(نحو 30 جنيهاً) وهو خمس ما يتناوله زميله الأمريكي. وأثمان المنتجات اليابانية أقل بنحو خمسة وثلاثين في المائة من أثمان منتجات أي سوق أوربية أو أمريكية). وأشار السنيور موسوليني في إحدى خطبه أمام مجلس النقابات الصناعي إلى نهضة اليابان الصناعية بقوله: (هنالك فيما وراء الاطلانطيق تفتحت مشاريع صناعية ورأسمالية هائلة؛ ولكن ثمة في الشرق الأقصى توجد اليابان وهي منذ أن اتصلت بأوربا في حرب سنة 1905، تتقدم نحو الغرب بخطى شاسعة)
ويجب أن نذكر ما لنشاط اليابان البحري من أثر في تنظيم هذا الغزو، فلليابان أسطول تجاري ضخم يربطها بأوربا وأمريكا وجميع أنحاء العالم؛ ويعمل هذا الأسطول لحمل
التجارة اليابانية إلى ما وراء البحار في ظروف مشجعة جداً، ويصطبغ عمله بلون التعاون القومي لأنه يعتبر أداة قوية لنشر التجارة اليابانية تسخر كل قواها ونشاطها لتحقيق هذه الغاية
وسنحاول أن نبحث في فصل آخر ما لهذا الغزو الاقتصادي الياباني من أثر في السوق المصرية وفي الاقتصادي المصري
محمد عبد الله عنان المحامي
التاريخ الإسلامي
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه حياة فخمة. . . . ليست حياة واحد، ولكنها حياة أمة، أمة حملت مصباح النور، حين عمّ الكون الظلام، وأرشدت العالم التائه في عُباب الجهل، إلى شاطئ العلم، وكانت حضارتها المدرسة الثانوية التي خرجت العقل البشري وثقفته، كما خرجته المدرسة الابتدائية اليونانية من قبلُ وثقفته. . . فكان لها الفضل على كل إنسان!
حياة أبي بكر هي الصفحة الأولى من التاريخ الإسلامي، الذي بهر كل تاريخ وبذّه، والذي لم تحو تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف، والمجد والإخلاص.
ذلك لأنه تاريخ الكمال الإنساني على وجه الأرض. . . . تاريخ المعجزة التي ظهرت في بطن مكة على يد رجل واحد؛ فلم تلبث حتى عمَّت مكة، ثم امتدت حتى شملت الجزيرة، ثم امتدت حتى بلغت أقصى الأرض. . . فكانت أكبر من الأرض، فامتدت في الزمان. . . . وستبلى الأرض، ويفني الزمان، والمعجزة باقية:
(كلُّ مِنْ عَلَيْهاَ فَانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاِلِ وَألإِكْرَامِ) - (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذكْرَ وإِنِّأ لَهُ لَحَافِظُونَ)
ذلك لأنه تاريخ الإسلام، الذي بدا سره في هذه الأمة البادية الجاهلة المتفرقة، فجعل منها أمة لم يكن ولن يكون لها نظير. . . . امتزجت روح الإسلام بأرواح المسلمين وغلبت عليها، ثم استأصلت منها حب الدنيا، وانتزعت منها الطمع والحسد، والغش والكذب، وأنشأت من أصحابها قوماً هم خلاصة البشر، وغاية ما يبلغه السمو الإنساني. . .
أنشأت من أصحابها قوماً يغضبون لله، ويرضون لله، ويصمتون لله، وينطقون لله، قد ماتت في نفوسهم الأهواء، وبادت منها الشهوات، ولم يبق إلا دين يهدي، وعقل يستهدي قوم كان دليلهم الدين، وقانونهم هدى سيد المرسلين، وشعارهم شعار المساكين، وعيشهم عيش الزاهدين، ثم كانت فتوحهم فتوح الملوك الجبارين، وكانوا سادة العالمين؛ لم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا أبطال الحروب وسادة الدنيا، ولم يفتنهم ما نالوا من مجد، وما بلغوا من جاه، عن دينهم وتقواهم
قوم ينصب لهم أميرهم قاضياً، فيلبث سنة لا يختصم إليه اثنان! ولم يكونوا ليختصموا
وبين أيديهم القرآن، وكل واحد منهم يعرف ما يحق له، فلا يطلب أكثر منه، ويعرف ما يجب عليه فلا يقصر في القيام به، ويحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويسعى ليسلم الناس من لسانه ويده: إذا مرض المسلم عاده المسلمون، وإذا افتقر أعانوه، وإذا أحسن شكروه، وإذا ظُلُم نصروه، وإذا ظَلَم ردعوه، دينهم نصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟
أما إنهم لا يختصمون إلا على مكرمة وإحسان، ولقد كان عمر يتعاهد عجوزاً عمياء، في بعض حواشي المدينة، فكان يجيئها سحراً، فيجد امرأً قد سبقه إليها فبرها وأحسن اليها، واستسقى لها وأصلح من أمرها، فيعجب منه ويزيد في البكور، فلا يسبقهُ فرصده مرة من أول الليل، حتى جاء فإذا هو. . . . . أبو بكر الصديق، وهو يومئذ خليفة
أو بكر وعمر يستبقان إلى بر عجوز عمياء، في بعض حواشي المدينة. . . الله أكبرّ عقمت أم التاريخ أن تلد مثل هذا التاريخ الذي يأتي بسيد الأمة، في ثوب خادم الأمة، حتى يفتش في الليل عن عجوز عمياء، أو رجل مقعد، أو أسرة محتاجة، أو مظلوم ضعيف، أو ظالم عاتٍ - ليخدم العجوز، ويحمل المقعد، ويساعد المحتاج، وينصر المظلوم، ويأخذ على يد الظالم، لا يبتغي على ذلك جزاء ولا شكوراً، لأنه يعمل لله، ولا يرجو الثوب من غير الله. . .
الله أكبرّ ضل قوم زعموا أن الإسلام إنما أنتشر بالسيف، لا والله! إنما انتشر بمثل هذه الأخلاق السماوية، إنما فتح المسلمون ثلاثة أرباع العالم المتمدن، بهذا الإيمان الذي ملأ قلوبهم، وهذا النور الذي اشرق على نفوسهم، وهذه القوة التي عادت بها عليهم عقيدة التوحيد.
علموا أن الله هو الفعال لما يريد، وانه المتصرف في جميع الأكوان، وأن كل شيء بقضاء منه وقدر، وأنهم إن غُيِّب عنهم القدر، وخفي عليهم علمه، فقد أنزل عليهم القرآن، ووضح لهم سبيله فاتبعوه القرآن، ووقفوا عن أمره ونهيه، فكتبوا في سجل القدر من السعداء
والمؤمن الذي يعلم أن الله هو الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه لا يجير عليه من نبي ولا رسول، ولا يشفع عنده ألا بأذنه، وليس بينه وبين العبد واسطة ولا نسب، ويعلم أن الله ينصر من ينصره، وأنه لا يضع أجر من أحسن
عملاً، لا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يبالي بشيء إذا كان مع الله، ولا يطمع في جوار أحد إذا كان جاراً الله، ولا يحفل بالدنيا وما فيها إذا باع نفيه من الله راضياً مختاراً، بأن له الجنة. . . .
كانت هذه العقيدة أصل كل خير ناله المسلمون الأولون، وكان وهنها في النفوس اصل كل شر نال المسلمين المتأخرين الذين أفسدوا عقيدة التوحيد بما شرعوا لأنفسهم من البدع والعقائد، فتفرقوا أيدي سبا، وذلوا في أرضهم، وهوجموا في عقر دارهم، وحفظ المسلمون الأولون على هذه العقيدة صفاءها وجمالها. ففتحوا ما فتحوا، وكان فتحهم أعجوبة التاريخ، يقف أمامها العقل خاشعاً للعظمة والجلال، حائراً للغموض والخفاء.
أمة بدوية على غاية ما تكون عليه الأمم البادية من الخلاف والجهل، لا دين يوحد قبائلها ويهذب من نفوسها، ولا جامعة تجمعها، ولا حكومة تدير أمورها، اللهم إلا حكومة في العراق تخضع لملوك العجم، وحكومة في الشام تطيع ملوك الروم وتلبث على ذلك عصوراً. . . . ثم تنهض نهضة الأسد، تحمل في يمناها نور القرآن، تضيء به للشعوب طريق المجد في الدنيا، والسعادة في الآخرة. وفي يسراها السيف تردُّ به الضالين المعاندين، المصرّين على الضلال، إلى سبيل الحق والهدى
ويبدو فيها سر الإسلام بيّناً جلياً، فإذا هذا التفرق وهذه الجاهلية، أخوة في الإسلام، وتمسك بالفضائل، وإذا هذا الضعف قوة لا تعدلها قوة، وإذا هذه الحمية الجاهلية تواضع لله، ورضا بأحكامه، ونزول عند أوامره ونواهيه، وإذا بدوي من بني وهيب يكون بسر الإسلام - قائداً من أعظم قواد الدنيا - يهدُّ أقوى صرح للظلم، ويدك أكبر بنيان للجور على وجه الأرض، ويغرس في (القادسية) مكان الجبروت الفارسي بذور الحضارة الإسلامية التي نمت وازدهرت حتى أظلت الدنيا
وإذا بدوي قاسٍ غليظ من بني عدي يكون بسر الإسلام عظيماً من عظماء التاريخ، يبرز في العلم والسياسية والبلاغة، ويكون له القدح المعلى، في فنون الفكر، وفنون الحرب، وفنون القول، ويسوس وحده الجزيرة وسورية والعراق ومصر وإفريقية فلا يعرف التاريخ أعدلَ ولا أقوم ولا أفضل منه - حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار
وإذا تاجر من تجار مكة يكون بسر الإسلام، أعظم العظماء، بعد الأنبياء
هذه أعجوبة التاريخ، وهذا هو الفتح الأعظم!
أجل! إن الفتح الإسلامي لهو الفتح الأعظم، الذي لم يعرف التاريخ فتحاً مثله. وكثيرٌ هم الفاتحون، الذين فتحوا بلاداً واسعة بسيوفهم، وأخضعوها بجندهم، وحكموها بقوتهم وسطوتهم، ولكن ليس فيهم مثل المسلمين، الذي فتحوا البلاد بإيمانهم، وفتحوا القلوب بعد لهم، وفتحوا العقول بعلمهم، فكانوا أصحاب السلطان، وكانوا دعاة الإيمان، وكانوا بُناة المجد والحضارة والعمران
طبقوا في القرن السابع قواعد الحرب الإنسانية - التي علمت بها أوربة في القرن التاسع عشر وسعت إلى تطبيقها في القرن العشرين، فلما لم تفلح وغلبت طباعها الذئبية على إنسانيتها المصطنعة، اكتفت منها بتسطيرها في كتب الحقوق الدولية واخذ المجددون من الشرقيين. . . . . ببريقها ولمعانها!
لقد فتحنا ثلاثة أرباع العالم المتمدن، ولكنا كنا نحمل العلم والهدى، والعدل والغنى، إلى البلاد التي نفتحها، وكنا لا نعمد إلى الحرب إلا إذا اختار أعداؤنا الحرب، وأبوا أن يلبوا داعي الله - ثم لا نخون ولا نغدر، ولا نغل ولا نمثل، ولا نقتل رسولاً ولا نهدم منزلاً، ولا ننازل عُزلاً، ولا نهيج معتزلاً، ولا نمس عابداً متبتلاً.
ثم إذا صالحنا أعداؤنا، ودخلوا في ذمتنا، حميناهم مما نحمي منه أولادنا وأهلينا، وإذا أسلموا كانوا إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لا يفرق بين المسلمين عرق ولا لغة، ولا جاه ولا نسب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى
فأين هذه الفتوح من فتوح الاستعمار التي أثارتها أوربا؟ فتحنا البلاد فتركنا أهلها أحراراً في دينهم ومعابدهم، أحراراً في قضائهم ونظمهم، أحراراً في أموالهم وأولادهم، فملكنا بالعدل قلوب الناس وأسعدناهم بالعلم، وبسطنا عليهم ظلال الأمن، ونشرنا فوقهم لواء الحضارة، حتى لقد صار أهل البلاد يستصرخون المسلمين على حكوماتهم، ويبذلون لهم عونهم على ملوكهم لا بغضاً لملوكهم ولا عداء لأوطانهم، ولكن حباً في العدل، ورغبة في السلام، وشوقاً إلى العلم والحضارة والعمران
فتحنا الحيرة فأهدى أهلها طائعين مختارين هدية إلى أبي بكر فقلبها وعدها من الجزية عدلاً منه وتعففاً، وخشية أن يظلم أهل ذمته، أو أن يكلفهم شططاً، وتفتحون البلاد فَتَبْتزون
أموالها ابتزازاً، وتمتصون دماءها امتصاصاً، وتمدون أيديكم إلى كل خير فيها
هكذا كانت فتوحنا وهذه فتوحكم:
مَلكْناَ فكانَ العْدَلُ مِنَّا سَجِيَّةً
…
فلمَّا مَلَكْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أَبْطَحُ
وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الأسُارى وَطالَما
…
غَدَوْنَا عَلَى الأَسْرى نَمُنُّ وَنَصفَح
فَحَسْبُكُم هذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا
…
فَكُلُّ إِنَاءٍ بالَّذِيِ فِيهِ يَنْضَحُ
ولم يظهر سر الإسلام في الفتوح، وفي الخلفاء والأمراء فقط، بل لقد ظهر في المسلمين جميعاً، فجعل من نفوس النساء والعجائز والأطفال مناراً يهتدي به الناس، ومثلاً أعلى للنفوس الكبيرة، حتى أن أبا بكر ليقسم مالاً بين النساء، ويبعث إلى عجوز من بني النجار بقسمها من هذا المال، مع زيد بن ثابت فتقول:
- ما هذا؟ - فيقول: مال قسمه أبو بكر بين النساء
- فتقول: أترشونني عن ديني - فيقول: لا
- فتقول: أتخافون أن أدع ما أنا عليه؟ - فيقول: لا
- فتقول: والله لا آخذ منه شيئاً
لا تأخذ منه شيئاً، لأنها لم تسلم رغبة ولا رهبة، ولكنها أسلمت لله، فهي تبتغي ما عند الله
لا تأخذ منه شيئاً، لأنها لا تحب أن يدخل بينها وبين ربها فيشغلها عن الإخلاص لدينها، ويطمعها المال في المال، فتزيد في العبادة، وتبالغ في التدين، فتكون كأنما تعبدت للمال، وعقيدة التوحيد، التي استقرت في نفس هذه العجوز، كما استقرت في كبار الصحابة وعلمائهم، تدفعها إلى أن تعمل لله وحده، وتسأل الله وحده، وتؤمن بالله وحده
وتجتمع فئة من المسلين معارضة تريد أن تستأثر بالحكم، لأنها ترى لها فيه حقاً، ولا تقبل في ذلك هوادة، ثم يأتيها ثلاثة رجال من الفئة التي تعارضها، وتجتمع لتناوئها، فترجع عما اعتزمته بكلمة واحدة تبصر فيها ضياء الحق
قال عمر للأنصار يوم السقيفة:
- ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟
- قالوا بلى
- قال: فآيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
- قالوا: لا أحد!
- ثم قاموا يبتدرون البيعة
فأين هذا من منازعات الأحزاب على الحكم في الدولة الراقية في القرن العشرين؟ وأين ديمقراطية أوربة ودعواها الخلاص من الحكم الفردي من ديمقراطية المسلمين الأولين؟
أما إن استبداد لويس الرابع عشر، هو استبداد روبسبير، وهو هو استبداد هلتر، لم تنج أوربة من الاستبداد في الحكم يوماً واحداً، ولم يحقق النظام البرلماني شيئاً من أمانيها الديمقراطية ومبادئها البراقة التي تخدع بها الأطفال الكبار من الشرقيين
أما نظام الحكم في الإسلام، فهو النظام الديمقراطي الصحيح، الذي لا يجعل من أمير المؤمنين أكثر من منفذ للقانون الإلهي الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو أبعد شيء عن النظام الملكي الوراثي. وكان المسلمون الأولون يفهمون هذا النظام أصح فهم وأجودّه، وكأن العامل من عمالهم يعلم أنه إنما يسأل عن عمله بين يدي الله، وإنما يقوم به لمصلحة المسلمين لا لرضاء أمير المؤمنين، وقد يبالغون في ذلك حتى أن مُعاذ بن أيمن يقدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له أبو بكر: ارفع حسابك. فيقول: أحسابان: حساب من الله وحساب منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً
ويطلب أمير المؤمنين عثمان من خازنه مالاً، فيأباه عليه.
فيقول: (إنما أنت خازن لنا، إذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت)
فيقول الخازن لأمير المؤمنين: (ما أنا لك بخازن، ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين: ثم يجيء يوم الجمعة وأمير المؤمنين يخطب فيقول (أيها الناس: زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم) ويرمي بها. . .
هذا هو تاريخ المعجزة التي جاء بها سيد العالمين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تاريخ الإنسانية الكاملة، تاريخ المسلمين الأولين، خلاصة البشرية. فطالعوه يا شبان المسلمين، وتدارسوه، واسعوا لتكتبوا هذا التاريخ مرة ثانية على صفحة الحياة. . . وتقولوا للعالم بأفعالكم لا بأقوالكم: نحن أبناء أولئك الآباء. . . .
على طنطاوي
كيف صرف الله عني السوء؟
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اشتهيتُ أن أقول الشعر في الأسبوع الماضي، بعد أن فطمتُ قلبي سنوات وسنوات، فدخلت مكتبتي - أعني غرفتها لا رفوف الكتب فيها - وأغلقت الباب، وقلت لنفسي (الآن، أمنت أن يزعجني هؤلاء الأطفال الملاعين ويُطيروا عقلي - أو ما بقي لي منه، وهو قليل - بضجاتهم وكراتهم وزماراتهم وأسئلتهم التي لاتنتهي، ومشاكلهم العويصة التي لا تحل، واستبدادهم الذي لا يطاق. إنهم أطفال جديدون وأنا رجل قد شيخت، وهم حركة دائمة، وأنا فتور يزداد على الأيام، وسينتهي - عاجلاً أو آجلاً، بل آجلا إن شاء الله - إلى الركود. وهم استعداد مطلق، وأنا نطاق محدود. وكيف بالله أطيق أن أظل ألاعبهم الكرة، أو أجاريهم في الزمر والوثب والصياح؟؟
وما صبري على هذه الأسئلة التي ليس لها عندي جواب؟؟
سألني أحدهم - أصغرهم - (بابا)
قلت: (نعم)
قال: (هل أنت بابا؟)
قلت: (نعم، وأمري إلى الله يا بني)
قال: (صحيح؟)
قلت: (أو يخامرك شك يا ملعون؟؟ أم لا يعجبك أبوك؟؟)
فجعل يردد كلمة (بابا) مستغرباً ثم سأل (يعني آيه؟)
فلم أجد عندي جواباً حاضراً لسؤاله، وعالجته، وحاورته داورته حتى انصرف عن هذا الموضوع، ولكنه لم ينسه، فهو يكر علي به كل بضعة أيام. فمن كان يعرف لسؤاله هذا جواباً مقبولاً فليسعفني به، وله الثواب من الله
وسألني مرة، ونحن على السفينة الذاهبة بنا إلى بيروت:
(هذا هو البحر؟)
قلت: (هو بعينه - أعني بموجه)
قال: (هل للبحر حنفية؟)
قلت: (لا)
قال: (لماذا؟)
فهربت من الجواب لأنه طويل، وكان بي كسل في تلك الساعة، فعاد يسأل:
(ماذا يحدث إذا وقعتُ فيه؟)
قلت: (تغرق فتموت)
قال: (يعني أكون كالسمك الذي فيه؟)
قلن: (كلا. إن السم الذي فيه حي، أما أنت وأنا فأنا نموت إذا وقعنا فيه، لأنا لا نعرف السباحة، ولم نخلق لنعيش في الماء كالسمك)
قال: (نموت كيف؟)
قلت: (نموت ي أخي! سبحان الله العظيم!)
قال: (ولكني أريد أن أعرف)
قلت: (أنا لم أمت، فكيف أعرف؟)
قال: (بابا)
قلت: (يا ساتر استر. نعم يا سيدي!)
قال: (أريد منك شيئاً)
قلت: (على العين والرأس يا حبيبي، قل يا سيدي. تفضل يا روحي!)
قال: (لماذا تتكلم هكذا؟)
قلت: (لأني أعرف أنك ملعون خبيث)
قال: (لا. . . .) وضحك (إنما أريد أن أراك)
قلت: (وهل عميتَ؟ ألستً تراني أمامك؟)
قال بسرعة: (لا لا لا. . . . إنما أريد أن أراك، في. . . . . في الماء!)
قلت: (تعال إلى الحمام، فان فيه حوضاً عظيماً)
قال: (لا) ممطوطة، بازدراء، (في البحر. . .)
قلت: (يعني تريد أن أغرق، وأموت؟)
قال: (آه! لأجل خاطري. ألست تحبني؟)
فلولا أدركتني أمه، لوجب علي أن أغرق تحت عينه.
وهكذا إلى أخر ذلك إن كان لما يتقاضاني آخر يعرف
فقالت لي نفسي: (اسمع يا مازني. انك قليل العقل، ما في هذا شك)
قلت: (أشكرك. فهل تسمحين أن تبيني السبب؟)
قالت: (نعم. هذا أنت تخلو بي، لتنظم شعراً، فبدلاً من أن تتناول القلم وتكتب، تذهب تتمثل ما يدور بينك وبين أولادك، فتضيع الوقت في غير طائل ولا تصنع شيئاً. فإذا لم تكن هذه قلة عقل فانه يسرني أن أعرف ماذا هي؟)
قلت وأنا مغيظ: (استدراك! إني لا أخلو بك لأقول الشعر، أعني أنك - ولا مؤاخذة - ليت الباعث على قول الشعر)
قالت: (لا تكن قليل الذوق أيضاَ!)
قلت: (إنها الصراحة والحق، لا قلة الذوق. ثم إنك مخطئة. فأني لم أدخل هذه الغرفة لأنظم شعراً، بل إني اشتهيت هذا، فأنا أريد أن اهتدي إلى الوسيلة التي تعينني عليه)
قالت: (الوسيلة؟ أية وسيلة؟ تناول القلم واكتب!)
قلت: (يا سلام؟ ما اذكاك! لو كان هذا كل ما يتطلبه قول الشعر لما عجز أحد عنه)
قلت: (أذن ماذا تبتغي؟)
قلت: (اسمعي أقل لك. . . إني اصفيتُ، أو على الأصح انقطعت عن النظم لأنك خلية، فأنا أريد الآن أن أشجوك، أعني أن أملأك)
قالت: (كيف؟ فإني غير فاهمة؟)
قلت: (لك العذر، فقد صرت كالصحراء، التي نسيت الماء من طول ما انحبس عنها)
قالت: (ألا تقول وتوجز؟)
قلت: (إذن أقول إني أريد أن يعمر قلبي الخرب، وبعبارة أخرى أقرب إلى فهمك الكليل، أريد أن أحب)
قالت: (تريد؟ هه؟)
قلت: (أه أريد! وأي غرابة في ذلك؟)
قالت: (لا فائدة من الخلاف فانك مكابر، وماذا تنوي أن تصنع؟)
قلت: (أنوي؟ ليس أسهل من ذلكّ أدور بعيني حتى تقع على واحدة تستحق أن أحبها - هذا ما أنوي أن أصنع) فمطّت شفتها - مجازاً - وأشاحت عني بوجهها، فقلت في سري، والله لأغيظها! وخرجت ألتمس الحب، وأدور بقلبي على النساء، وأفتحه لمن شاءت أن تقع منهن فيه، وكنتُ مستعداً - لأكيد لنفسي - أن أحب عشرين امرأة دفعة واحدة، ولم لا؟ إن كل ما يعينني، وما أبغيه، هو الحب، لا المرأة، وأثره لا وسيلته وأداته، فكلما كانت النار أقوى، واللهب أعلى كان ذلك خيراً لي، ثم إني أريد أن أجرب كل حب، أعني الحب من كل صنف، ولون، حتى الذي يعقب الخبل ويورث الجنون، والذي يحرق الثياب، ويترك القلب عارياً
وصرت كلما رأيت سرباً من الفتيات، أقول لهن
(ادخلن يا فتيات!)
فيقلن: (أين؟)
فأقول: هنا في قلبي. . إنه عظيم! شيء مهول جداً. يسعكن جميعاً ويسع مائة من أمثالكن. البدار البدار، فانها فرصة لا تعوض فيتضاحكن ويمضين عني - لا أدري لماذا. كأنما لهن طلبة في الحياة غير الحب، أو سبيل إلى طلبتهن غيره؟
ألاقي غيرهن. فأدق الناقوس، وأستوقفهن وأسألهن:(ما قولكن؟)
فيقلن: (في أي شيء؟)
فأقول: (في أن أحبكن جملة؟)
فيقلن: (مجنون؟)
فأقول: (أطعنني، فأني أعرف ما لا تعرفن! هذا قلبي قد فتحته لكُنَّ، على آخره، فادخلن فيه، أنتن ومن تخترن غيركن من صواحباتكن، فلن يضيق بكن، فانه أعمق وأرحب من البحر الأعظم. . أزخرنه لي، وغصن في أعماقه، وأمددن لي أيديكن بالدر المكنون الذي لا تبلغه يداي)
فيمضين عني ولا يعبأن بي، فيهبط قلبي، وتفتر دقاته، وتهي نبضاته، وألمح النفس تبتسم ابتسامة الشماتة، فيستفزني ذلك، فأكر إلى البحث
ولا أطيل. . . . . لقيتُ أخر الأمر فتاة قالت لي:
(هل تريد أن أحبك؟)
قلت: (لا. . . إنما أريد أن أحبك أنا)
قالت: (وماذا يمنعك؟)
قلت: (صحيح! أما والله إني لمغفلّ وماذا منعني أن أحب نساء الدنيا كلهن؟؟ أم تراني كنت أحسب أن الأمر يحتاج إلى استئذانهن؟)
فقالت وهي تضحك: (أنت تحبني - هذا حسن. . .)
فقاطعتها قائلاً: (لا تغلطي يا فتاتي، إني (أريد أن أحبك)
قالت: (لا بأس. أنت تريد أن تحبني، هذا حسن، وأنا ماذا أصنع بنفسي؟)
قلت: (لا شيء. أو إذا شئت، فان في وسعك أنت أيضاً أن تحبينني)
فضحكت وقالت: (أهو شيء بالإرادة؟)
قلت: (إنك سخيفة كنفسي، ولا مؤاخذة!)
فقالت: (ولماذا تريد أن تحب؟)
قلت: (لأني أريد أن أقول شعراً، وعلى أن هذا شيء لا يعنيك، فدعيني وما أريد، والباقي عليّ، فلن يكلفك شيئاً)
فتركتني لرأيي، وجعلت وكدي بعد ذلك أن أحبها، وذهبت أقنع قلبي بأنه قد اصبح عامراً ولكن نفسي - قبحها الله، أو زادها قبحاً - كانت تخرج لي لسانها هازئة، فيهيجني هذا منها، يسخطني عليها، فأغافلها أحياناً وأتحسس قلبي بيدي لأستوثق، وأضع راحتي على بطني لعلي أشعر بالنار التي يجب أن تكون مضطرمة فيها، فلا أحس أن النبض أسرع أو أقوى، ولا ترتد راحتي إلا باردة كما كانت. فأقول لفتاتي:
(أسمعي. هاتي أذنك، فأني أخشى أن تسمعني نفسي فتشمت بي)
وأسر إليها أني لا أحس شيئاً من مظاهر الحب، وعلاماته، فأنا آكل كالمنهوم، وأنام كأني حقنت بالمورفين، ولا أراني أفكر في شيء غير ما يتفق أن أكون فيه،. . . لا خفقان في القلب، ولا اضطراب في الصدر، ولا شوق، ولا شيء ما يصفه المحبون غيري، بل أنا أنسى اسمك، واسميك كل يوم، كما تعرفين، اسماً جديداً، فأي حب هذا؟ خبريني!
فقالت: (لا أدري - هو حبك، على طريقتك إذا كان صحيحاً أنك تحب)
فأسألها: (ولكن هل تظنين أني أحب؟)
فتقول: (وكيف أعرف أنا؟)
فأسألها مستغرباً: (ألم يقولوا إن بين القلب والقلب رسولاً، فكيف ضل الرسول يا ترى؟)
فتول: (لم يأن أن تحب يا صاحبي. ولست بفتاتك على ما أرى؟)
فأقول: (ولكنك الفتاة الوحيدة التي وافقتني على ما اقترحت؟)
فقالت: - وأدهشتني - (نعم. وافقت ورضيت، بأن تحبني إذا شئتَ، فبقيت أنت لا تحب، ووقعتُ أنا)
فصحت بها: (ايه؟ ماذا تقولين؟)
قالت - بهدوء -: (لقد سمعت. . . .)
قلت: (أعيديه على مسمعي. . .)
قالت: (كلا. . . هكذا أحلى!)
فكاد الفرح يذهب بلبي، فما عرفت أن أحداً أحبني في هذه الدنيا مذ جئت إليها، ولا ذق في حياتي هذه اللذة، ولم يكن ذنبي أني حرمتها، ولا ذنب النساء أيضاً، وأحسب أن عيونهن تتخطاني - لقصري - فلا يرينني، ولو رأينني لأحبني بلا شك - كما فعلت هذه الفتاة الكريمة، بعد أن جلست!
وعدت إلى بيتي، وخلوت بنفسي في المكتبة، وقلت لها وأنا أكاد أرقص (والآن يا نفسي، يمكنك أن تطقي من الغيظ وتنفلقي من الكمد) وأحسست بالشعر يجيش في صدري، وشعرت كأنه ليس علي إلا أن أدهور لساني في شدقي، أو أن أرفع سن القلم على الورقة، فإذا به يجري وحده بالكلام المونق المعجب
وجئت بورقة، وبريت القلم، ووضعت تلك على رجلي، وهذا ما بين أصابعي، وتوكلت على الله، وأقمت القلم على الورقة، وإذا بنقر على الباب، فكدت أجن، ونهضت ففتحته بكرهي فدخل صاحب لي فلما رأي تجهم وجهي قال:
(هل أنت مشغول؟)
قلت: (تسأل البحر هل فيه ماء؟)
قال: (معذرة. على كل حال لن آخذ من وقتك إلا دقائق، إنك تعرف. . .)
وذكر اسم الفتاة - فتاتي التي تحبني بارك الله فيها - فصحت به (آيه؟)
فقال: (إني أتكلم بلغة عربية فيما أظن؟)
قلت: (ألا توجز؟ ما لها؟)
قال: (حسن. سأوجز. إني سعيد)
قلت: (وأنا مالي!)
قال: (هنئني!)
قلت: (بماذا؟)
قال: (لقد قابلتها - للمرة الثالثة - ولم أخبرك لأنه لم يكن هناك ما يستحق أن يقال. ولكنها اليوم قابلتني - أعني استقبلتني بعد أن خرجت أنت من عندها، فكان مما قالته لي (إنك شاب، وأنا شابة، وأنا أصبو إليك كما تصبو إليّ، صحيح أني أقول لبعض معارفي من الكهول إني أحبهم، ولكني مضطرة إلى هذا لأحتفظ بودهم، أما أنت فشيء آخر - أنت شاب مثلي!)
فما قولك في هذا؟
قلت: (قولي؟ أنا؟)
قال: (نعم؟ ما رأيك؟)
قلت: (صدقها!)
فسألني: (هل كذبت عليك يا ترى كما كذبت على غيرك؟)
قلت: (علي أنا؟ لا! وهل يستطيع أن يخدعني أحد؟ والآن أذهب. . . . . .)
قال: (بسرعة؟ هكذا!)
قلت: (نعم فأني أريد أن أمزق دواوين الشعراء التي عندي)
قال: ألا يكفيك أن تكف أنت عن الشعر؟)
قلت: (كلا. . . . وسأحرقها أيضاً بعد تمزيقها؟ الشعر! يا للسخافة!. . . . .)
قال: (أعطنيها ولا تمزقها)
قلت: (كلا. . . إنك شاب. وحرام علي أن أسيء إليك وأن أضلك. . . . اخرج. . . اخرج. . . مع السلامة. . .)
إبراهيم عبد القادر المازني
بيت الإبرة
للأستاذ قدري حافظ طوقان
هي آلة عجيبة ذات مبدأ ثابت لا تحيد عنه، ولا تعرف غير الاتجاه نحوه، فهي دائماً وأبداً تتجه نحو الشمال والجنوب. هذه الآلة العجيبة المغناطيسية تستعمل في السفن البحرية لإدارة سيرها ولها تاريخ عجيب أوقع العلماء في حيرة وارتباك، إذ لم يستطع أحد منهم البت في نسبة اختراعها، بل لم يستطع الوصول إلى جواب شافٍ مرضٍ عن السؤالين الآتين: ممنْ اخترع هذه الآلة؟ لمن الفضل في إيجادها واستعمالها والاستفادة منها؟ يدعى الصينيون أنهم أول من اخترعها، ويدعى ذلك أيضاً العرب واليونان والاترسكيين والفنلنديين والطليان. تدعى كل هذه الشعوب السبق في اختراعها وفي استعمالها، وكل منها يقول إنه هو السابق في الانتفاع من هذا الاختراع، وكل منها يقول إن الآخرين كانوا عالة عليه في استعمال بيت الإبرة وفي الاستفادة منها، وكل منها يقول أيضاً إن الفضل في تقدم صناعة البوصلات البحرية رجع إلى علمائه ومشاهير بحارته
بحث الباحثون في أصل الإبرة واختراعها، وأخذ البحث معهم وقتاً طويلاً وسبب لهم عناء عظيماً، وبرغم كل ذلك لم يقفوا على الحقية، ولم يتمكن عالم من معرفة تاريخ تطور صناعة البوصلات البحرية معرفة تؤدي إلى نتائج جلية واضحة، معرفة تزيل سحب الشك والغموض المحاط بها أصل اختراع الآلة المذكورة، فهي حقاً آلة عجيبة ولها تاريخ أعجب، واختلاف الأمم على ذلك مما يثير الدهشة والاستغراب
لقد اطلعنا على أكثر ما قيل في هذا الصدد وعلى بعض ما كتبه العلماء في المجلات ودوائر المعارف في هذا الموضوع، واستطعنا من كل ذلك تكوين فكرة عن أصل الإبرة وتاريخ اختراعها واستعمالها وكيفية الانتفاع منها في الأسفار البحرية، وسنعطي رأياً في ذلك على ضوء معلومات وبحوث الذين سبقونا في ولوج هذا الباب
وقبل الخوض في البحث يجدر بنا أن نذكر شيئاً عن المغناطيس وعن رأي الأقدمين فيه فهذا مما يسهل علينا الدخول في موضوع المقال
عرف اليونان شيئاً عن المغناطيس، وكلمة مغناطيس مأخوذة من لغتهم، وقالوا بان فيه خاصية الجذب قبل غيرهم، قال أرسوط (حجر المغناطيس. . أنه حجريجتذب الحديد،
وأجود أصنافه ما كان أسود مشوباً بالحمرة ومعدنه ساحل بحر الهند، وهو قريب من بلادها. . .) هذه الخاصية أثارت استغراب كثير من الأمم، فكانت مثار دهشتهم. وقد كثرت الأقوال الغريبة فيه (في المغناطيس)، ومن هذه الأقوال. أنه إذا أصاب المغناطيس رائحة الثوم أو البصل بطل تأثيره وذهبت خاصية الجذب، وإذا غسل بالخل عاد التأثير ورجعت إليه الخاصية المذكورة. وقال بعض الأقدمين بأن له خواص علاجية وصحية منها: أنه إذا علق إنسان المغناطيس على إنسان آخر نفع الأخير من وجع المفاصل، وإن لمسته المرأة التي تعسرت ولادتها وضعت في الحال، وأن الذي يعلقه في عنقه فقد استفاد كثيراً، إذ يكبر عقله وتقوى فيه ملكة الحافظة، وأن له سلطاناً على أمراض الطحال، واستعمله ابقراط علاجاً للعقم، وقال بليناس بأنه نافع ومفيد في أمراض العين، وقال ابن سينا إن درهماً منه يضاد التسمم بالحديد الذي كان يظن أنه سام. وجاء في بعض الكتب بأن المغناطيس كثيراً ما استعمله الأقدمون للجروح، وقال علماء العرب إنه ينفع في النقرس والحصا. ولقد علق الفرنجة على هذه الأقوال وفندوها، ولا يتسع المجال لذكر شيء من ذلك لا سيما والبحث فيها يخرجنا من موضوع مقالنا
وللمغناطيس عدا خاصية الجذب، خاصية أخرى هي من الأهمية بمكان عظيم، وهذه هي خاصية الاتجاه، وقد عرفها الصينيون وكانوا أول من قال بذلك. قال الكلمة التي يستعملها الصينيون لتدل على بيت الإبرة هي - ومعناه الإبرة التي تتجه نحو الجنوب، ويقول أيضاً: ويظهر أنهم استعملوا هذه الخاصية في الأسفار البحرية، وقد عملوا الآت لذلك ليس فيها شيء من الصنعة أو الإتقان. وقال ديفس إن الطرق التي كان يستعملها البحارة الصينيون في عمل الإبرة تدل على أنهم لم يستعينوا بغيرهم من بحارة الأمم، إذ لو استعانوا واطلعوا على الآت غيرهم لاستطاعوا أن يحسنوا صنعها ولما عملوها بالشكل الذي وجدت فيه عندهم، ويقول أيضاً: إن العرب بطريقة غير معروفة اقتبسوا آلة بيت الإبرة عن البحارة الصينيين وأنه عن طريق المسلمين دخل هذا الاختراع أوربا. وجاء في بعض الكتب أن البحارة الصينيين عرفوا خاصية الاتجاه في المغناطيس قبل الميلاد بمئات من السنين، وأنهم ذكروا ذلك في قاموسهم الذي وضع بعد الميلاد بمائة سنة، وقد استعملوه للإرشاد إلى الجهات الأربع في سفر البحر سنة 300م
وأما عن تسمية هذه الآلة فيقول روبرتُسنْ إنه لم يكن في لغات العرب والعجم والترك كلمة تعني وأنهم كانوا يستعملون ذلك كلمة بوصلة، وهي كلمة مأخوذة عن اللغة الإيطالية، ولكن بادجر لا يوافقه على هذا تماماً حيث يقول:(رغم كون البحارة لعرب الموجودين حول البحر الأبيض المتوسط استعملوا كلمة بوصلة لتدل على كلمة إلا أننا نجد أن كلمة (بيت الإبرة) هي الأثر شيوعاً واستعمالاً في الأقطار الموجودة حول البحار الشرقية، والاصطلاح (بيت الإبرة) مستعمل في أكثر الكتب، وهذا ما جعلنا نفضل استعماله على غيره في هذا المقال. قلنا إن اليونان أول من عرف في المغناطيس خاصية الجذب، وأن الصينيين أول من عرف فيه خاصية الاتجاه، ولقد أخذ العرب والمسلمون هاتين الخاصيتين واستعملوهما في أسفارهم البحرية). جاء في كنز التجار: - (ومن خواص المغناطيس أن رؤساء البحر الشامي إذا أظلم عليهم الجو ليلاً ولم يروا من النجوم ما يهتدون به إلى تحديد الجهات الأربع يأخذون إناءً مملوءاً ويحترزون عليه من الريح بأن ينزلوه إلى بطن السفينة. ثم يأخذون إبرة وينفذونها في سمرة أو قشة حتى لتبقى معارضة فيها كالصليب ويلقونها في الماء الذي في الإناء فتطفو على وجهه ثم يأخذون حجراً من المغناطيس كبيراً ملء الكف ويدنونه من وجه الماء ويحركون أيديهم دورة اليمين فعندها تدور الإبرة على صفحة الماء ثم يرفعون أيديهم على غفلة وسرعة فان الإبرة تستقبل بجهتيها جهة الجنوب والشمال. رأيت هذا الفعل منهم عياناً في ركوبنا البحر من طرابلس الشام إلى إسكندرية في سنة أربعين وستمائة. وقيل إن رؤساء مسافري بحر الهند يتعوضون عن الإبرة والسمرة شكل سمكة من حديد رقيق مجوف مستعد عندهم يمكن أنه إذا ألقي في ماء الإناء عام وسامت برأسه وذنبه الجهتين من الجنوب والشمال. .)
وإذا اطلعت على كتاب سارطون القيم في (مقدمته لتاريخ العلوم) تجد أنه يرجح كون اختراع بيت الإبرة هو من نتاج قرائح المسلمين إذ يقول: (إن البحارة المسلمين على الأرجح هم أول من استعمل خاصية الاتجاه في المغناطيس في عمل الإبر في الأسفار البحرية، وكان ذلك في أوار القرن الحادي عشر للميلاد. . .) وبنفي سارطون القول بأن البحارة الصينيين استعملوا خواص المغناطيس وطبقوها في آلات للأسفار البحرية وغيرها. ولدى قراءة تاريخ العرب للعلامة سيديو نجد أنه ينفي كون البحارة الصينيين
استعملوا الإبرة المغناطيسية في الأسفار البحرية ويدعم قوله هذا بما يلي: (. . . . وكيف يظن أنهم (أي أهل الصين) استعملوا بيت الإبرة مع أنهم لم يزالوا إلى سنة 1850م يعتقدون أن القطب الجنوبي من الكرة الأرضية سعير تتلظى. . .) وهو القائل أيضاً بأن العرب استعملوا بيت الإبرة في القرن الحادي عشر للميلاد في الأسفار البحرية والبرية وفي ضبط المحاريب
يظهر مما مر أنه ما من أحد بحث في هذه الآلة وتاريخ استعمالها واستطاع أن يصل إلى نتائج حازمة شافية تزيل شكاً اكتنف هذا الموضوع، وغموضاً استولى عليه. وعلى كل حال يمكننا القول بأن العرب عرفوا شيئاً عن المغناطيس، وأنهم عرفوا فيه خاصتي الجذب والاتجاه، وأنهم على الأرجح أول من استعملها في عمل الإبرة في الأسفار البحرية وأن آلة (بيت الإبرة) واستعمالها في الملاحة دخلاً أوروبا عن طريق البحارة المسلمين
وبينما أنا أهيئ هذا المقال قرأت مصادفة في أحد أعداد مجلة الهلال (مجلد 30 ج7) مقالاً عنوانه (العرب والبحار) بقلم الأستاذ المحقق عبد الله مخلص، وقد وجدت فيه شيئاً عن اختراع بيت الإبرة المغناطيسية فلم أشأ أن أمر على ذلك دون تعليق. جاء في مقال (العرب والبحار) بأن أبن ماجد هو الذي اخترع (الإبرة المغناطيسية) أو أنه هو (مخترع الإبرة المغناطيسية) وهذا النص هو الذي حفزني إلى التعليق. ما لا ريب فيه أن نسبة اختراع بيت الإبرة إلى ابن ماجد (أحد نوابغ المسلمين في الملاحة) خطأ وليس فيها شيء من الصحة. فقد ثبت لدى العلماء والباحثين أن استعمال الإبرة المغناطيسية كان معروفاً في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد بينما ابن ماجد وجُد في القرن التاسع للهجرة أو القرن الخامس عشر للميلاد، فالقول بأنه هو مخترع الإبرة المغناطيسية غلط، ولا يرتكز على منطق عدا كونه خلاف الواقع. وقد تكون هذه النسبة آتية عن مهارته في تسيير السفن وعن براعته في فن الملاحة، وعن وقوفه على أصول الإبرة المغناطيسية، وكيفية استعمالها وفهمه المبادئ المنطوي عليها عملها. وعلى ذكر ابن ماجد أقول: قليلون جداً الذين يعرفون أن ابن ماجد من نوابغ المسلمين في الملاحة وأنه كان يلقب بأسد البحر الهائج، وأنه (هو الربان العربي الذي سير الأسطول البرتغالي بقيادة فاسكودي غاما في طوافه حول الأرض من مالندي وهي جزر في المحيط الهندي على ساحل أفريقيا الشمالية
إلى كلكتا في الهند. . .) ويقال إن أباه ومن قبله جده كانا من رجال الملاحة المشهود لهم بالمهارة والبراعة وقد وضعا نظريات جديدة ومفيدة في علم البحر، ثم جاء من بعدها ولدهما ابن ماجد فألف كتباً قيمة في علم الملاحة وقد بناها على المشاهدة والتجربة منها: كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، وكتاب علم الملاحة ويشتمل على تاريخ الملاحة وعلاقتها بالنجوم في خليج العجم والبحر والهندي وشواطئ جزيرة العرب وسومطرة وسيلان وزنجبار وغيرها، وكتاب حاوية الاختصار في أصول البحار، وله أيضاً أرجوزة في علم الملاحة، وله قصائد أخرى في وصف شواطئ جزيرة العرب. وكان ابن ماجد يلقب نفس بشاعر القبلتين ويعرف بسليل الأسود. ولقد بقيت القواعد التي وضعها ابن ماجد معتمد البحارة المسلمين في مالندي إلى أواسط القرن التاسع عشر للميلاد. وقال برتن الإنكليزي إن بحارة عدن في سنة 1271هـ (1854م) كانوا قبل السفر يقرءون الفاتحة لروح الشيخ ماجد. ولا ريب إن المقصود بالشيخ ماجد هو ابن ماجد
نابلس
قدري حافظ طوقان
10 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
تساءل سيبيس: فيم قولك إن الإنسان لا ينبغي أن يستل حياته، وأنه يجب على الفيلسوف أن يُعدَّ نفسه ليلحق بالموتى؟
فأجاب سقراط: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس فهلا سمعتماه قط يتحدث عن هذا؟
إني يا سقراط لم أفهم قوله أبداً
ليست كلماتي كذلك إلا صدى، ولكني شديد الرغبة في أن اروي ما سمعته، فالحق أني مادمت مرتحلاً إلى غير هذا المكان فيجب ألا يُشْغَلَ الفكرُ ويدور الحديث إلا حول هذا الرجل الذي أوشك أن أقوم به، وماذا عساي أن أفعل خيراً من هذا منذ الآن إلى أن تغرب الشمس؟
إذن فحدثني يا سقراط، لماذا استقر الرأي على ألا يكون الانتحار حقاً مشروعاً؟ لقد سمعت فيلولاوس يقيناً يؤكد ذلك عندما كان يمكث بيننا في طيبة؛ وثم أناس آخرون يقولون مثل هذا القول، ولو أن أحداً منهم لم يستطع قط أن يفهمني ما يقول
فأجاب سقراط. ولكنك يجب أن تحاول الفهم ما استطعت، ولابد أن يأتي اليوم الذي تفهم فيه، أحسبك تعجب لماذا تشذ هذه الحالة وحدها، ومعظم الشرور قد تجيء بالخير عرضاً (لأنه أليس من الجائز أن يكون الموت كذلك أفضل من الحياة في بعض الظروف؟) وإذا كان خيراً للإنسان أن يموت، فما الذي يمنع أن يقدم لنفسه الخير بنفسه؛ ألزامٌ عليه أن ينتظر من غيره يد الإحسان؟
فقال سيبيس ضاحكاً في لغته الدُّورية القومية: أي وحق جوبتر!
فأجاب سقراط - إني أُسلّم بأن في هذا تناقضاً ظاهراً، ولكن قد لا يكون هذا التناقض حقيقياً، هناك مذهب جرت به الألسنة في الخفاء بأن الإنسان سجين، وليس له الحق في أن
يفتح باب سجنه ليفر هارباً، إن ذلك إشكال عظيم لست أفهمه فهماً دقيقاً، ولكني أعتقد مع ذلك أن الآلهة هم أولياؤنا وأننا مِلْكٌ لهم، أفلست ترى ذلك؟
قال سيبيس - نعم، إني أوافق على ذلك
فلو أن ثوراً مثلاً مما تملك أنت أو حماراً، شاءت له إرادته أن يحيد بنفسه عن الطريق، على حين أنك لم تُشِرْ له برغبتك في وجوب موته، أفلا تسخط عليه، ثم ألا تعاقبه إن استطعت؟
فأجاب سيبيس - يقينا
وإذن فقد يكون في القول بأن الإنسان يجب أن ينتظر، وألا يُهلك حياته بنفسه، حتى يقضي الله فيه أمراً، كما فعل بي الآن، سندٌ من العقل
قال سيبيس - نعم يا سقراط، إن في ذلك ولا ريب سنداً من العقل، ولكن كيف بعد هذا تستطيع أن توائم بين هذه العقيدة الصحيحة في ظاهرها وهي أن الله مولانا ونحن له عبيد، وبين ما كنا نضيفه إلى الفيلسوف من رغبة في الموت؟ أما أن يرغب من هم أبلغ الناس حكمة، في ترك هذا العمل الذي تحكمهم فيه الآلهة، وهو خير الحاكمين، فلا يسلم به العقل، لأنه يستحيل على صاحب الحكمة أن يظن بنفسه المقدرة، لو أطلقت له حرية العمل على أن يعني بنفسه أكثر مما تُعنى به الآلهة، ربما توهم ذلك المأفون، وقد يحتج بأن خيراً له أن يفر من سيده دون أن يضع في اعتباره بأن واجبه هو أن يثبت حتى النهاية، لا أن يفر من الخير فراراً لا حكمة فيه. أما الرجل الحكيم فلا أخاله إلا راغباً في أن يكون أبداً مع من هو خير منه. أنظر يا سقراط. فهذا يناقض ما قد قيل الساعة تواً، إذ يترتب على هذا الأساس أن يأسف ذو الحكمة لفراق الحياة، وأن يغتبط له الجهول
فصادفت حماسة سيبيس فيما يظهر غبطة من سقراط، فالتفت إلينا وقال: هاكم رجلاً لا يبرح متسائلاً، ولا تكفي لإقناعه الفترة القصيرة، وليست كل حجة ترضيه
فأضاف سمياس - ولكن اعتراضه الآن يبدو لي على شيء من القوة، فأي غناء عسى أن يكون في ذي الحكمة الحق، إذا هو ابتغى أن يلوذ بالفرار، وأن يستخف بترك سيده الذي هو أفضل منه؟ وليت أخال سيبيس إلا مشيراً إليك، فهو يظن أن أنك لا تتردد في تركنا، بل لا تتردد في ترك الآلهة الذين هم كما اعترفت أولى أمرنا الصالحون
فأجاب سقراط - نعم ذاك قول يستقيم مع العقل، ولكن أهو في ظنك دعوى ينبغي أن أجيب عنها كما لو كنت أمام القضاء؟
قال سمياس - ذلك ما كنا نبتغي
إذن فلأحاول أن ألقي في نفوسكم أثراً خيراً ما تركت حين كنت أدافع عن نفسي أمام القضاة، فلست أتردد يا سيبيس وسمياس في الاعتراف بوجوب الأسى من الموت، إذا لم أكن راسخ العقيدة بأني ذاهب إلى طائفة أخرى من الآلهة ذوي الخير والحكمة (وإني لأوقن بهذا يقيني بأي شيء آخر من هذا القبيل) وإلى الراحلين من الرجال (وإن كنت لا أقطع بهذا قطعي بالأولى) وهم يَفْضُلون هؤلاء الذين أخلفُهم ورائي، فلست لهذا أبتئس، كما كان يُنتظر أن أفعل، لأني آمل خيراً، بأن ثمت شيئاً لا يزال مدخراً للموت، وهو كما قد قيل منذ القدم أدنى جداً إلى الخير منه إلى الشر
قال سمياس - ولكن هل تريد أن تستصحب أراءك معك يا سقراط فلا تنقلها إلينا! إنا قد نرجو أيضاً أن نساهم في ذلك النفع، وأنت إذا وفقت بعد ذلك لإقناعنا، كل ذلك منك رداً على ما اتُّهمتَ به
فأجاب سقراط - سأبذل وسعي، ولكن دعوني أستمع أولاً لما يريده كريتون. إنه كان قد هم أن يقول لي شيئاً
فأجاب كريتون - أردت أن أقول يا سقراط أن الخادم الذي أمر بإعطائك السم قد أنبأني، لأبلغك، بأنه يحسن بك ألا تكثر الكلام لأنه يزيد من الحرارة، وهذه تؤثر في فعل السم؛ لقد اضطر أحياناً أولئك الذي أثاروا نفوسهم أن يجرعوا السم مرتين أو ثلاثاً
قال سقراط - إذن فليؤد واجبه، وليتأهب لإعطاء السم مرتين أو ثلاثاُ، إذا لزم الأمر، وحسبنا هذا
فأجاب كريتون - لقد كدت أوقن بأنك ستقول ذلك، ولكني لم أجد محيصاً عن إرضائه
قال سقراط - لا تأبه له
وهانذا الآن أجيبكم - أنتم يا قضاتي - فأبين لكم أن من عاش فيلسوفاً حقاً، معه الحجة في أن ينعم بالاً إذا ما اقترب من الموت، وأنه قد يرجو أن يصيب في العالم الآخر بعد الموت أعظم الخير. سأشرح لكما أي سيبيس وسيماس كيف يمكن أن يكون هذا، فيغلب فيما أرى
أن يسيء الناس الظن بطالب الفلسفة الصحيح، لأنهم لا يدركون أنه أبداً دائب السعي وراء الموت والموتى. وإن صح أنه ما برح راغباً في الموت طوال حياته، ففيم الجزع إذا ما تهيأت له غايته التي كان لا يفتأ ساعياً إليها راغباً فيها
فضحك سمياس وقال - إني وإن كنت لا أسوق القول متندراً هازلاً، لأقسم بأنه لا يسعني إلا أن اضحك إذا ما فكرت فيما سيقوله هذا العالم اللعين، حين يخبَّر بهذا - سيقولون بأن هذا بالغ الحق - ومَنْ في دُورِنا من أهل، سيؤيدونهم، في قولهم بأن الحياة التي يتمناها الفلاسفة هي لا شيء غير الموت، وإنهم قد تبينوهم فإذا هم حقيقيون بالموت الذي يتمنون
وهم على حق يا سمياس في قولهم هذا، إذا استثنيت منه هذه العبارة:(إنهم تبينوهم) لأنهم لم يتبينوا طبيعة هذا الموت الذي يتمناه الفيلسوف الحق، ولا كيف هو حقيق بالموت أو راغب فيه، فلندعهم وليتحدث بعضنا إلى بعض قليلاً: أنحن معتقدون في وجود ما يسمى بالموت؟
فأجاب سمياس - كن من ذلك على يقين
وهل يكون الموت إلا انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت الروح بذاتها مفصولة عن الجسد، وقام الجسد مفصولاً عن الروح - أليس ذلك هو الموت؟
فأجاب - هو كذلك. وليس شيئاً غير هذا
وما قولك يا صديقي في مسألة أخرى، أحب أن تدلي إلي برأيك فيها، وقد تلقى إجابتك عنها ضوءاً على موضوع بحثنا، هل ترى جديراً بالفيلسوف أن يعني بلذائذ الأكل والشرب - إن صح أن تدعى هذه لذائذ؟
فأجاب سيماس - لا، ولا شك
وماذا تقول في لذة الحب، أينبغي له أن يُعنى بها؟
لا ينبغي بحال من الأحوال
وهل يجوز له أن يطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد - كحيازة اللباس الفاخر، والنعال، مثلاً، أو غيرهما من زينات البدن؟ ألا يجدر به بدلاً من أن يعني بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟
يجب أن أقرر بأن الفيلسوف الحق ينبغي أن يزدريها
ألست ترى أن ينصرف بكليته إلى الروح لا إلى البدن؟
إنه يود أن يتخلص من البدن وأن يعود إلى الروح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
ذلك حق
وترى الفلاسفة يلتمسون في مثل هذا الأمر كل سبيل لفصل الروح عن الجسد أكثر مما يفعل سائر الناس جميعاً
ذلك صحيح
بينا يعتقد سائر الناس يا سمياس ان حياة تخلو من لذائذ البدن ولا تأخذ منها بقسط، ليست حقيقة بالبقاء، بل يرون أن إنساناً لا يفكر في مسرات الجسد، يكاد يكون كالأموات
ذلك جد صحيح
وبعد فماذا عسانا أن نقول عن السبل الحقيقية التي تقتضيها المعرفة؟ إن كان ثمت ما يدعو الجسم للمساهمة في تحصيلها، فهل يكون عائقاً لها أم معيناً عليها؟ أعني هل يأتينا البصر والسمع بحقيقة ما؟ أليس هما دليلين خاطئين كما لا يفتأ ينبئنا الشعراء؟
فان كان خاطئين ومبهمين، فماذا عسى أن يقال عن سائر الحواس؟
ولا أحسبكم معارضين في أنهما أضبط الحواس
فأجاب سمياس - يقيناً
وإذن فمتى تدرك الروح الحقيقة؟ - لأنها إن أشركت معها الجسم فيما تحاول أن تبحثه، فهي مخدوعة لا محالة
- نعم، هذا صحيح
- أفلا يجب إذن أن ينكشف لها الوجود بوساطة الفكر، إن كان له أن ينكشف
- نعم
- وأحسن ما يكون الفكر حينما ينحصر في حدود نفسه، حتى لا يشغله شيء من هذه - فلا أصوات ولا مناظر ولا ألم ولا لذة مطلقاً - وذلك إنما يكون عندما يصبح الفكر أقل اتصالاً بالجسد، فلا يصله منه حس ولا شعور، بل يتصرف بتطلعه إلى الكون
- هذا صحيح
(يتبع)
زكي نجيب محمود
8 - بين القاهرة وطوس
المشهد وطوس
للدكتور عبد الوهاب عزام
يرى الوافد على مدينة المشهد قبة عالية مغشاة بالذهب ومنارتين مذهبتين رفيعتين. فهذا أول ما يسر البصر من مسجد الإمام علي الرضا. فإذا ذهب إلى المسجد الذي يسمى الحرم الرضوي أو العتبة المقدسة (آستانة مقدس) رأى أبنية جميلة شامخة واسعة رائعة لا يستطيع المشاهد أن يعرف خططها ويدرك أقسامها إلا بعد تأمل طويل وزيارات كثيرة
إذا دخل القادم المدينة من غربيها فسار في الشارع الكبير تلقاء الشرق انتهى إلى أبواب ضخام رائعات وراءها طريق مبلط ينتهي إلى مدخل الحرم الرضوي فيلجه إلى الصحن القديم (صحن كهنه) وهو فناء واسع تجري في وسطه قناة ماء ويحيط به مساكن لطلاب العلم وغيرهم. وإني أشفق على القارئ من تفصيل الكلام في وصف هذا الحرم العظيم الذي توالت عليه الأيدي بالتشييد والتزيين قروناً كثيرة. فحسبي أن أقول إن في وسط الحرم قبة الإمام الرضا وأروقة متصلة بها ويمتد الصحن القديم شمالي هذه الأبنية، والصحن الجديد شرقيها، ومسجد جوهر شاد جنوبيها. ويحار الطرف في جمال القبة الشريفة وزينتها وفيما في المسجد كله من الكاشاني والبلور والذهب الخالص، والقبة تقوم على قبر الإمام الرضا. وهو في جانب منها، ويُظن أن قبر هرون الرشيد في وسط القبة ولكن لا يرى الزائر منه أثراً
أقدم ما في هذه البناية يرجع إلى سنة 512 وهو بناء السلطان سنجر السلجوقي. وقد توالى الملوك والكبراء من بعده على البناء والتنافس فيه، ومن هؤلاء السلطان ألجايتو، من الملوك الأيلخانية، وشاه رخ بن تيمورلنك وزوُجه جوهر شاد، ومشير علي نوائي وزير السلطان حسين بايقرا، ثم الملوك الصفويون ولا سيما طهماسب وعباس الكبير؛ ومن القاجاريين فتح علي شاه وناصر الدين شاه. كل هؤلاء بذلوا جهدهم في أن يؤثروا في المشهد الرضوي أثراً خالداً يكسف آثار من سبقهم فتركوا هذا البناء الجليل الذي يعجز القلم عن تصويره للقارئ
وقد وعدت في المقال السابق أن أصف مسجد جوهر شاد هذه الأميرة التقية الخيرة، فهو
مسجد يمتد جنوبي لمشهد الرضوي من الشمال إلى الجنوب (95 84 متراً) وأعظم أواوينه الإيوان الجنوبي، وهو عقد هائل ارتفاعه 25 متراً غشى كله بالكاشاني الجميل، وعلى دائرته آيات من القرآن بأحرف كبيرة جميلة كتبها بخطه الأمير بايسنقر بن شاه رخ بن تيمورلنك، وذلك إلى آثار أخرى دليل على عناية أمراء المسلمين بالفنون الجميلة ولاسيما الخط. وفي هذا الإيوان كرسي من الخشب يقال إن المهدي سيجلس عليه أول ما يظهر للناس؛ وفي وسط المسجد مصلى يسمى مسجد ييرزن (مسجد المرأة العجوز) وفيما يلي المشهد الرضوي بنية اسمها دار الحفاظ. وتصل المسجد بالمشهد الرضوي أبواب صغيرة
زرنا المسجد الرضوي صبيحة الجمعة ثالث رجب سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف فرأينا أفواجاُ من الزائرين والزائرات متزاحمين بين مصل ومسبح وداع وباكٍ ومقبل للأعتاب ومطيف بالضريح المقدس، ولهذا الحشر دوي يملأ القلب خشوعاً ورهبة، وسار بنا الدليل إلى بناء في ناحية من الحرم أسمه حجرة التشريفات، فصعدنا إلى حجرة كبيرة بها جماعة من القوام على الحرم فأحسنوا لقاءنا وقدموا إلينا الشاي، وتحدثوا معنا بالعربية والفارسية معلنين سرورهم واغتباطهم، ومتحدثين بالاخوة الإسلامية التي تجمعنا وإياهم؛ ثم انصرفنا شاكرين أملين أن نعود إلى شرف الزيارة مرات حتى تقضي النفس لبانتها من مشاهدة هذا الجمال والجلال
ويوم الأحد التالي زرت المكتبة الرضوية وهي في الصحن الجديد في الطبقة الثانية، وقد اطلعت فيها على مصاحف يحار الإنسان في مرآها ويعجز عن وصفها، وحدثني قيم المكتبة أن بها آلافاً عدة من المصاحف المخطوطة: رأيت قطعة من مصحف بخط كوفي في آخرها: (كتبه علي بن أبي طالب)، ومصحفاً كاملاً بخط كوفي في أخرها:(كتبه الحسن بن علي بن أبي طالب) ورأيت مصحفاً وقفه إبراهيم قطب شاه سنة 970 فيه 339 ورقة، وفي كل صفحة 12 سطراً محلاة بالذهب والمينا، وطول الصفحة 56 قيراطاً وعرضها 37، وفيه من بدائع الصناعة ما يجل عن الوصف، فما يزال الناظر فيه حائر القلب والطرف؛ ومصحف آخر وقفه السيد محمد جعفر خان سنة 1148 فيه 606 ورقات كل ورقة لها نقش خاص يخالف نقش الورقات الأخرى. وفي هذه المصاحف من عجائب النقش والوراقة والتجليد ما لا يدركه إلا ابرائي. وقد قيل لي إن بعض الأوربيين بذل في
جلد مصحف منها مئات الجنيهات فلم يظفر به. ورأبت ورقة واحدة من مصحف في طول قامة الرجل الطوال. وبها سبعة أسطر بخط الأمير بايسُنقر
وقد شهدنا في مدينة المشهد افتتاح مستشفى الشاه رضا وهو مستشفى كبير بأجهزة حديثة، ومعرض صناعات خراسان، ورأينا ألعاباً رياضية كالتي رأيناها في ميدان سلطنت آباد بطهران وقد وصفها آنفاً. وكانت حفلات للغداء والعشاء دعا إليها رئيس الوزراء ومتولي الحرم الرضوي، ألقيت فيها خطب كثيرة. وزرنا مدفن نادر شاه، وهو البطل الكبير الذي رفعته همته من رعي الغنم إلى رعاية الأمم، والذي أخرج الأفغانيين من إيران، ودبر الأمور باسم الصفويين حيناً، ثم استبد بالأمر وتسمى نادر شاه، ثم فتح أفغانستان والبنجاب وغنم كنوزاً لا تحصى من دهلي، واضطر الدولة العثمانية إلى مصالحته على ما أراد لدولته، وتوفي سنة 1160 بعد أن سيطر على إيران عشرين سنة - دخلنا حديقة واسعة في وسطها بناء مرتفع قليلاً يشتمل على حجرات عدة، دخلنا واحدة منه فقيل هنا دفن نادر شاه وسيشاد له قبر هنا
طوس:
على خمسة وعشرين كيلاً إلى الشمال من مشهد، آثار المدينة الكبيرة التي كانت من أعظم مدن خراسان، والتي نشأت جماعة من كبار العلماء والأدباء: مدينة طوس: وطوس اسم إقليم في خراسان كان فيه مدينتان كبيرتان: طابران ونوقان. فأما طابران فقد اتسعت ونبهت حتى سميت طوساً باسم الإقليم كله، وبقي اسم طابران على إحدى محلاتها. وأما نوقان فكان على مقربة منها قرية سناباذ التي دفن فيها الرشيد العباسي والرضا العلوي فنمت حتى صارت مدينة المشهد الحاضرة واتصلت أبنيتها بنوقان ونسخت اسمها
وقد اشتبه أمر طوس ونوقان على بعض الجغرافيين فقالوا إن مدينة طوس مدينتان: طابران ونوقان. قال ياقوت، عن طوس:(وهي مدينة بخراسان بينهما وبين نيسابور عشرة فراسخ تشتمل على بلدتين يقال لإحداهما (طابران)، وللأخرى (نوقان)) والحق أن لإقليم طوس مدينتين كبيرتين هما طابران التي سميت طوس ونوقان التي اندمجت في مشهد كما قدمت. وكان لطوس شأن في التاريخ الإسلامي، وتقلبت بها الغير حتى خربها ميرانشاه ابن تيمورلنك سنة 791هـ
وينسب إلى مدينة طوس الإمام الغزالي، ونصير الدين الطوسي وغيرهما من العلماء. وقد مات الغزالي بها ودفن بالطابران إحدى محلاتها، رابع عشر جمادي الآخرة سنة 505 ورثاه الابيوردي فقال:
بكى على حجة الإسلام حين ثوى
…
من كل حي عظيم القدر أشرفُه
وما لمن يمتري في الله عبرته
…
على أبي حامد لاح يعنفُه
تلك الرزيّة تستهوى قُوى جَلَدِي
…
والطرف تسهره والدمع تنزفه
فماله خلّة في الزهد منكرة
…
ولا له شبه في الخلق نعرفه
مضى، وأعظم مفقود فجعت به
…
من لا نظير له في الخلق يخلفه
وينسب إلى طوس كذلك الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسي صاحب الشاهنامة المتوفى سنة 411. وبها مات ودفن على مقربة من باب رزان أحد أبواب المدينة. في سورها الشمالي الشرقي
وقد زار نظامي العروض قبر الفردوسي سنة 510 وقال: (وكان داخل الباب بستان للفردوسي فدفُن فيه وهو اليوم هناك) وقال هو لتشاه السمرقندي سنة 893 (وقبره في طوس بجانب مزار العباسبة، ومرقده الشريف معروف اليوم، يزوره الناس) ويقول القاضي نور الله في أواخر القرن العاشر الهجري إنه زار قبر الفردوسي
وقد رآه بعض سياحي أوربا، أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وقال خانيكوف سنة 1858 إن البناء الصغير الذي كان يميز قبر القردوسي قد اندثر
وقد اجتهد أدباء إيران حتى عرفوا بالقرائن مكان القبر فشادت الدولة عليه بناء فخماً يرى القارئ صورته تحت هذا:
سرنا إلى طوس عشية يوم الجمعة ثالث شهر رجب (12 أكتوبر سنة 1935 - 20 مهرماه سنة 1313) فبلغناها بعد نصف ساعة فملنا إلى الشرق، واجتزنا نهر كشف في جادة واسعة تفضي إلى حديقة الفردوسي، فرأينا بستاناً كبيراً يتوسطه حوض واسع، وراءه بنية جميلة رائعة. وهي مصطبة واسعة مربعة يتوسطها بناء مربع القاعدة يرتفع زهاء أربعة أمتار، كتب على أربعة أوجهه أبيات من الشاهنامة. وزيد على الوجه الأول كتابة تبين عن عناية جلالة الشاه رضا بهلوي بالفردوسي، وأمره بتشييد البناء في التاريخ المبين
به
وللبناء باب صغير على جانبيه نقوش تمثل حوادث في الشاهنامة. ويفضي الباب إلى حجرة وسطها قبر عليه صفيحة مربعة من المرمر نحت فيها كلمات معناها أن أدلة كثيرة تثبت أن هنا قبر الفردوسي وتاريخ مولد الشاعر ووفاته، وفي الجدار المقابل للباب كوّة. والبناء في جملته جميل رائع
جلسنا في سرادق ضرب هنالك، فلما اقترب مقدم جلالة الشاه، سرنا إلى النصب فوقفنا على سجاجيد فرشت بين الحوض والبناء، وقف الوفود وحدهم، وأعيان الإيرانيين وحدهم. ثم أقبل جلالة الشاه، فسلم على الوافدين واحداً واحداً، يعرفه بهم رئيس الوزراء ووزير المعارف. ثم ارتقى جلالة الشاه النصب، ووقف يقرأ كلمة افتتاح تذكار الفردوسي. ثم قطع بمقراض الشريط المحيط بالنصب ودخل فرأى قبر الشاعر، ثم دُعي الوفود فدخلوا. ثم وقف جلالة الشاه في ناحية من الحديقة يتحدث مع وزراءه، ثم ركب سيارته. وبقينا زمناً نمتع العين بما نرى، ونأخذ بأطراف الحديث
ورأيت على يسار الجادة المفضية إلى حديقة الفردوسي بناء له قبة وقد تهدمت أعاليه، فقال من كان معنا من أهل مشهد إنه قصر بناه الرشيد، وقال بعض المستشرقين إنه قبر الغزالي. وإنه بني على نسق مرقد السلطان سنجر في مرو، وعلى نسقه بني مرقد السلطان الجاينو في السلطانية. وإنما العلم عند الله
رجعنا إلى مشهد فبقينا إلى صبيحة الاثنين. ثم أخذنا طريقنا عوداً إلى طهران
عبد الوهاب عزام
أحمد المتنبي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
1
أحمدٌ كان مثل بحرٍ رحيب
…
موجه فوق لُجِّه كالكثيبِ
شغلَ الناسَ منذ كانَ بشعرٍ
…
قاله معجِزاً لكل أديبِ
إنْ يكن أحمدٌ تنبّأَ في القو
…
م فما إن عليه من تثريبِ
فلقد كان الشعرُ يُوحى إليه
…
سُوَرَاً للاصلاحِ والتهذيبِ
إنما معجزاته في معاني
…
هـ وفي لفظه وفي الأسلوبِ
كم له من معنىً تراه قريباً
…
وهو في نفسِ الأمرِ غير قريبِ
ومن اللفظ ما يكاد من الرق
…
ة يجري إلى صميمِ القلوبِ
2
أحمدٌ كان شاعراً وحكيما
…
وبأسرار النفس كان عليما
أحمدٌ لا يفنى وإن كان في قب
…
رٍ عَفَتْه الأيام عَظْماً رميما
أحمدٌ كان في الزعامة للشع
…
ر وفي العلمِ بالحياةِ عظيما
قد أراد الحُسَّادُ للحُرِّ هضما
…
فأبى الحُرُّ أن يكون هضيما
جعل الشعر كالنهار مضيئاً
…
بعد ان كان الشعرُ ليلاً بهيما
وكأن الديوان في جمعه ما
…
قاله كان للنجوم سديماً
قتلوا الشاعرَ العظيم اغتيالا
…
وفشا قتله فكان أليماً
3
أيها الشاعر الحفىّ القدير
…
باسمك اليوم يهتف الجمهور
أكبر الفضل ما تقّدره الأجيا
…
ل من بعد أهله والدهور
إنما قد أصاب شاكلةَ الأمـ
…
ة لما أصابك المقدور
ذُمَّ دنيا غرّارة ليس تخلو
…
من رزايا يسوء فيها المصير
أفجعُ الحادثات في الغرب والشر
…
ق على النابه الأديب تدور
قاءل الشعر قد يبور مصاباً
…
بُلِمٍّ وشعره لا يبور
حبذا الشعر آتياً من شعور
…
إنما يلمس الشعورَ الشعور
4
يا قتيل الآداب إنك باق
…
وستحيا في أنفسِ العشّاق
كل بيتٍ قد قلته فيك ارثى
…
آهةٌ لي جاءت من الأعماقِ
حَرَم القاتلوك أمتهم من
…
كِلمٍ ملء الدهر والآفاق
ولقد صارعتَ الخطوبَ إلى أن
…
أطفأتْ منك كوكباً ذا ائتلاق
شاعر العقل، شاعر المجد والفخ
…
ر الأثيلين، شاعر الأخلاق
والذي آمنتْ ببعثته النا
…
س على خِلفةٍ من الأذواق
جاءت الخيل وهي تنحط إعيا
…
ء وراء المحجَّل السبّاق
5
إنما أنت للقريب الجديد
…
مثلما أنت للقديم البعيد
لستُ ممن يَقْلُون كل قديم
…
غير أني أحبَ كل جديد
أنت في الدولتين كنتَ رسولا
…
ذا كتاب تدعو إلى التوحيد
ولقد صاغوا الشعرَ قبلك من لف
…
ظٍ ووزنٍ وصُغته من حديد
واحدٌ أنت من عباقرةٍ ما
…
توا على الأرض غيلةً للخلود
أنت من جني القريض عليهم
…
قَتِلَ الشعرُ كم له شهيد!
كنتَ حيناً كالليث يزأر للبط
…
ش وحيناً كالبلبل الغِرِّيد
6
أنت بالشعر إذ هززتَ الشعوبا
…
كنت تُرضي النُهى وتُرضي القلوبا
حِكَمٌ للذي أراد صوابا
…
ونسيبٌ لمن أراد النسيبا
تلك نارٌ إذا خَبَت فهي تُبقي
…
من جديد للمصطلين لهيبا
يتعب الدهرُ في التخِّيرِ حتى
…
يهبُ الناسَ شاعراً أو أديبا
قد دعاك العُلا فسرتَ إليه
…
ودعوتَ العُلا فكان مجيبا
إنه وحده الحبيب الذي قد
…
كنتَ منه وكان منك قريبا
ولئن كنتَ للغبيّ بغيضا
…
فلقد كنتَ للذكيّ حبيبا
7
أنت فردٌ يا أحمدُ المتنبي
…
في قريضٍ نظمته، إي وربّي!
ما دعوتَ القوافي الغُرّ إلا
…
وهي عند الدعاء جاءت تلبّي
كثر الناقدو قريضك بالبا
…
طل ستراً لصدقه بالِكْذبِ
رُبَّ بنت للشعر قد وأدوها
…
في ربيع الصبا على غيرِ ذنبِ
غير أن الأيام قد ضربتهم
…
بعد حرب تأججت أيّ ضربِ
شاعرُ أنت للعروبة جمعا_ء
…
برغم الحُسّاد في كل حقبِ
ولقد قالوا ما لأحمدّ قبرٌ
…
كذبوا، إن قبر أحمد قلبي
8
لك في الشعر عزّةٌ قعساء
…
عَجَزَتْ عن بلوغها الشعراء
إنهم ضلوا في ظلام الليالي
…
وهدتك المجرّة البيضاء
إنما قالة القريض كثير
…
وقليلٌ من بينها النبغاء
بين من راضوا الشعر أو قرضوه
…
ليس إلا لاسم الزعيم البقاء
القريض الشريف ممن أهانو
…
هـ بما أسندوا إليه بَراء
ليس من حظ العبقريّ إذا بَرْ
…
رَزَ إلا العِداء والبغضاء
ليس بالشعر ما خلا من شعورٍ
…
وإن احلولى لفظه والبناء
9
فاق شعرٌ به نطقتَ مبينا
…
غُررَ الأولين والآخرينا
كان يحكي اليراعُ منك حساماَ
…
كلما احتل من يديك اليمينا
كنت تسطو فيه فَيُبدي زئيراً
…
ثم تشكو به فيُبدي أنينا
ضحكوا غِرَّةً فأسبلَت دمعا
…
كنتَ تبكي به على الضاحكينا
ضمّ ديوانك الذي هو فِرَدو
…
سٌ من الشعر البِكر حوراً عينا
إنني كلما له جئت أتلو
…
أقرأ الحُسْنَ والهدى واليقينا
ولقد أبصرُ الكماةَ أمامي
…
وأرى قسطلاً فأُغضي العيونا
10
كان ليلٌ يدجو كان صباحُ
…
تتغذّى بضوئه الأرواح
أنت في بحر كنتَ تسبح والبا
…
قون في حوض ماؤه ضحضاح
بك ليلُ القريض بعد ظلام
…
لاح للعين صبحه الوضّاح
ثم زاد المقصرون صناعا
…
تٍ إليها الأديب لا يرتاح
ثم كان الغواة فيه فريقي
…
ن لكلٍّ عتادُه والسلاح
ففريقٌ مٌقلدٌ لسواه
…
وفريقٌ أباح ما لا يُباح
ثم شّبتْ بين الفريقين حربُ
…
كثرت في الغِمار منها الجِراح
11
واحدٌ أنت من ملوك المعاني
…
ما له في سلطانه من ثان
شاعر العقل والعواطف في النف
…
س وما في قرارها من أماني
لا يدانيك ناقدُ قد تحدّى
…
إنه هادمٌ وأنت الباني
ما لهم في البلاغة اليوم أرضٌ
…
ولك المشرقان والمغربان
أنت ما كنت ترسل الشعرَ إلا
…
بعد نضج في العقل أو في الجنان
بعد ألفٍ من السنين تقضّى
…
أكبرتْكَ الأقوامُ في مهرجان
تعتري السامعي قريضك منهم
…
هزةٌ في الأرواح والأبدان
12
إنما جاءت الوفودُ ترامى
…
لتحييك ركُعاً وقياما
إنهم يُكبِرونَ منك زعيما
…
اقعد الناسَ شعرُه وأقاما
أنهم لبّوا دعوةَ الشَعبِ لما
…
قدموا أفواجاً فكانوا كراما
لك يا أحمدٌ الإمامة في المو
…
ت كما كنتَ في الحياة إماما
حبذا أبياتٌ بها كنت تشدو
…
فَجَرَت أمثالاً تزين الكلاما
سكت البلبلُ الذي كان يشدو
…
كلَ صبحٍ فيوقظ النواما
محسنُ للتجديد أحمدُ في البد
…
ء فَمَنْ ذا سيحسن الأتماما؟
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي
فانك مصري
للأستاذ فخري أبو السعود
لمناسبة ما أبداه بعض الإفرنج من إمارات الاستهجان أثناء عرض مناظر المؤتمر الوطني بدور السينما
أَقِمْ صَاغِراً وَأرْغَمْ حياتَكَ وَأشْقَهَا
…
فإِنَّكَ مِصْرِيٌّ وإنكَ مُسْلِمُ!
وإنك شرِقيٌ وَنَسْلُ أَعَارِبٍ
…
يَدِرينُكَ غَرْبِيٌّ وَيَعْلوُكَ أَعْجَمُ
وإنك بين البِيضِ أسمرُ كالِحٌ
…
وحَظكَ في الدنيا كجِلْدِك أَسْحَمُ
وإنك ذيلُ العصرِ والغَيْرُ رأسُهُ
…
تَقَاعَسْتَ عنه محجما حيثُ يُقْدِمُ
ولسْتَ بِفَعَّالٍ ولست بصانعٍ
…
وغيرُك مشهودُ الصناعة مُحْكَم
يجيءُ بآيات الحضارة مُبْدعاً
…
وتَعْجَبُ مما بات يأْتِي وَتَسْهَمُ
وأنتَ إذا قال المُفَاخِرُ عاجزٌ
…
وأنْ نَطَقَتْ بِيضُ الصَّوَاِرِم مُفْحَم
ورأْيُكَ منْبُوذٌ وقولُك ضائعٌ
…
وسيَّانِ منه صارخٌ وَمُكَتَّمُ
وأرضُكَ مَلهى للدخيل وملعبٌ
…
وجِدُّكَ مَلهاةٌ لمن يَتَهَكَّمُ
وحقُّك مبذولٌ وسعيك طائِشٌ
…
وإِرْثُكَ بين الطامعين مُقَسَّمُ
وأنِتَ أَجيرٌ في بلادك خادم
…
وغيرُك يُسْتَجْدي رضاه ويُخْدَم
تَوَلَّى بِأصْفَى دَرِّها ونتاجها
…
ويُرضيك ما يَبْقَي ويكفيك درهم
ولَا تَعْتَبِنْ يوماً عليه إذا انبرى
…
يسبُّك مُفتاتاً علي ويشتم
فمِثْلُكَ مَنْ دَرَاى إذا احْتَدَّ غاضبٌ
…
ومثلُكَ مَنْ يُغضي ويعفو ويَحْلُمُ
وغيرُك مَنْ إِنْ مَسَّهُ الحيفُ عافَهُ
…
وثاَرَ على مُستكبرٍ يَتَهضَّمُ
ولا تَمْدُدَنْ كَفَّا إليه مصافحاً
…
فَتُرْفَضَ وَاصْمُتْ إِنَّ صَمْتَكَ مَغْنَمُ
بذا قضت الأَقدار: شَعبٌ مكاثِرٌ
…
عزيزٌ، وشعبٌ يُسْتَذَلُّ ويُظْلَمُ
ولا تَذْكُرَنْ مجداً لمصرَ وأعْصُراً
…
تَسَامى بها المُلكُ الرفيعُ المعظَّم
ولا تَذْكُرَنْ عهداً به السُّمْرُ وَطَّدُوا
…
بناءً لهم في العالمين ودعَّموا
وعهداً إذا رَجَّى به الناسُ مُنْتَمىً
…
إلى العِزِّ قال العزُّ للعَرَبِ انْتَمُوا!
وعهداً به أمْسَى الزمانُ مسِّبحاً
…
بحمد الالى لله صَلَّوْا وسَلَّموا
ولا تَرْثِيَنْ تلك العهودَ ولا تَنُحْ
…
عليها فما يَثْنِي المشَيَّع مأْتَمُ
وتلك عهودٌ قد تَوَلّتْ وقد تَلَتْ
…
شُعُوبٌ ومَنْ لم يْحكُموا الناسَ ُيحكَموا
فَعِشْ رَاغماً أو فاسْمُ للعز ضارِباً
…
بِعَزْمٍ إذا ما أَحْجَم الجنُّ يَقْحَمُ
وحزمٍ يُصمُّ السَّمْعَ عن هَجْوِ كاشحٍ
…
وجِدٍّ يُجِبُّ الصَّمْتَ لا يَتكلمُ
فخري أبو السعود
من الأدب الفرنسي المعاصر
أندريه جيد
بقلم علي كامل
كثيراً ما تقع أعيينا على صورة نقشها يراع رّسام بارع ليعبر بها عن فكرة من الأفكار فإذا هذه الصورة توافق هوى في نفوسنا لأول نظرة بحث نرى فيها خير ما يمكن التعبير به عن هذه الفكرة. كذلك قد نقرأ جملة قصيرة خطها قصصي أو ناقد يصف بها شخصاً من الأشخاص فإذا هذا الوصف بالنسبة لنا كأنه كان ضالة منشودة وصلنا أليها بعد طول عناء. . . كأن كلا منا كانت تتردد أمام عينه هذه الشخصية يريد وصفها وتحديدها ولكن عبثاُ، حتى جاءت الجملة التي قرأها فنزلت على قلبه وأعصابه المتلهفة القلقة برداً وسلاماً!
كان يجب أن يمر بنفسي هذا الخاطر وأنا أقرأ الدراسة القيمة التي كتبها في الشهر الماضي الناقد الفرنسي بنجامان كْرمُيو عن أندريه جيد. ذلك الكاتب الفذ الذي جاوز الخامسة والستين وهو مع ذلك لا يزال شاب القلب والنفس يتزعم مدرسة (التحرر الأخلاقي) في الأدب الفرنسي الحديث، ويعالج مشاكل الشباب النفسية وخصوصاً الجنسية والنزعات الطائشة المتغلبة التي تلازم الكثير منهم بصراحة جريئة وحرية لا حد لها حتى نفر الشيوخ من ذلك الكاتب الشيخ. واحتفظ الشباب بالولاء له وتمجيده والتهام أدبه
لم أكد أقرأ قول بنجامان كرميو: (لأن أول نظرة إلى أندريه جيد تبين لنا أنه مخلوق مضطرب قلق، معقد، يتركب من عدة شخصيات. ولكنه يمت إلى نوع نادر من البشر) ثم قوله. (وعندئذ لا نلبث أن نعرف أن فنه صورة منه). ولم أكد أقرأ ذلك حتى مرت أمام عيني كشريط سينمائي كل الصور التي رأيتها لأندريه جيد. وتذكرت عدداً من مجلة كان قد نشر - لمناسبة لا أذكرها الآن - بضع صور له في فترات حياته المختلفة: في الشباب والرجولة والكهولة. وتذكرت معه هاتين العينين الحائرتين، والوقفة المضطربة، والشارب المحلوق النادر بين الفرنسيين. الذي ينزل به من سن الستين إلى الثلاثين. فعرفت عندئذ مقدار ما في بنجامان كرميو من الصدق ودقة الملاحظة
نعم إن فن أندريه جيد وفلسفته هما قبل كل شيء صدى لمشكلة نفسه ومأساة حياته. فقد نشأ جيد في أسرة دينية متقشفة من أب بروتستنتي وأم كاثوليكية. وكان أثر بروتستانتية والده
أعمق من أثر كاثوليكية والدته. وربى جيد تربية دينية خالصة، فكانت هذه التربية وتناقضها مع طبيعة جيد أولا ومع الظروف التي صادفت شبابه ثانياً سبباً قاسياً في أن تجعل من حياته مأساة إنسانية كبرى، وأن تجعل شخصيته فريسة لحرب شعراء بين جيد المتدين بولادته وأسرته وتربيته، وجيد المتحرر تحرراً كلياً من سيطرة الدين بعقله وإرادته
عندما بلغ جيد سن الشباب استيقظت نفسه على أشعار الجيل الأول من المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي تحت زعامة فرلين ورامبو وملارمي. وكان عهد ازدهار هذا الجيل قد آذن بالمغيب وخلفه الجيل الثاني الذي من أعضائه فرنسيس جيمز وبول كالوريل، وبول فور. فانضم إليهم أندريه جيد إذ وجد في الشعر الرمزي الحالم السابح في أجواء الخيال، المتحرر حتى من القيود الشعرية نفسها، سبيلاً إلى الانطلاق من عالمه الديني الضيق المخنوق. ولم يكن تأثر جيد بالشعراء الرمزيين قاصراً على فنهم فحسب، بل وجد في حياة الكثير منهم مثل فرلين ورامبو مثلاً أعلى لحياة الفنان الحر الطليق الذي يريد أن يصل إلى فهم الحياة الحق مهما كلفه ذلك من الثورة على كل تقليد، والخروج على كل عرف أخلاقي؛ على أن رمزيه أندريه جيد لم تبلغ في تحكم العاطفة بها ما بلغته رمزية الجيل الأول. فهو أقل حدة في العاطفة وجموحاً في الخيال. وهو أمر سخرية وأعمق تفكيراً واشد رغبة في إدراك حقيقة نفسه، وأعظم انطلاقا وتعلقاً بالحياة المرحة. وفي أول كتبه ' (دفاتر أندريه ولتر)(1891) تراه يعبر عن ذلك بقوله (يجب النظر إلى الحياة بعين شاملة وطبيعة طلقة مع الاحتفاظ بالنفس المتيقظة)
وفي ذلك الوقت أيضاً - وقت شباب جيد - غزت فرنسا أفكارُ الفيلسوف الألماني (نيتشه)، والكاتب الأيرلندي (أوسكار وايلد) فتأثر بهما اندريه جيد تأثراً عظيماً. أخذ عن الأول فكرته عن (السبرمان)، وعن الثاني فكرته عن سيادة الفن وحق الفنان في أن يحيا على هامش العادات الأخلاقية المرعية، والاثنان - جيد ووايلد - يتفقان في إيمانهما بفكرة الجمال عند الأثينيين القدماء
ذلك تأثر جيد بفكرة الكاتب الفرنسي موريس باريس عن (عبادة النفس) وأخذ عنه سخريته العالية
وأخيراً يجيء دور الكاتب الروسي دستوفسكي فكما أن نيتشه وأوسكار وايلد كانا أعظم من
أثر في جيد الشباب، كان دستوفسكي أعظم من أثر في جيد الرجل
من ذلك نرى أن جيد قد تأثر بكل الآراء المتطرفة المعاصرة له، أليس هو القائل:(إن كل ما هو متطرف يؤثر في؟) لقد تأثر بالشعراء الرمزيين الفرنسيين، وبأوسكار وايلد الايرلندي، ونيتشه الألماني، ودستوفسكي الروسي. لذا كان أدبه كلاسيكي النزعة على أن جيد على رغم كلاسيكيته بعيد كل البعد عن العبودية لمن تأثر بهم. فشخصيته القوية المستقلة تنبض بها أعماله كلها بشكل قوي مؤثر، وإن طبيعته الثائرة القلقة وجهده الصارخ في التحرير تجعلانه يجري وراء الثقافة الواسعة التي لا تعرف التمييز بين كاتب وآخر (فأنا - كما يقول - أنتظر دائماً شيئاً أجهله: أنتظر ضروباً جديدة من الفن وأفكاراً جديدة) ولقد بلغت به رغبته الحادة في المعرفة الشاملة إلى دراسة اللغات الأجنبية كي يقرأ أعمال من يعجب بهم بلغاتهم الأصلية
كانت أعمال جيد الأولى (دفاتر أندريه ولتر)(1891) و (1892) و ' (1893) عبارة عن اعترافات تتضمن نزعات جيد الفكرية التي أراد بها التحرر مرة واحدة من حياته الطاهرة المتقشفة. ففي أول أعماله يقول (الحياة الطلقة، تلك هي أسمى حياة، سوف لا أستبدل بها غيرها مطلقاً. لقد ذقت من هذه الحياة الطلقة ضروباً كثيرة. على أن الحياة الحقيقة كانت أقصرها)
وفي هذه الأعمال الثلاثة الأولى يلمح القارئ بين سطورها ميولاً جامحة خفية يحاول جيد أن يحجم عن التصريح بها
على أن هذه الحرية التي يبيحها جيد لنفسه دون قيد لا تلبث أن يطغى عليها أحياناً إحساسه الديني فيقول في نفس الكتاب: (إنني أتمنى وأنا الآن في الحادية والعشرين من عمري، وهي السن التي تنطلق فيها من عقالها الشهوات، أن اقمعها بالعمل المضني اللذيذ. إنني أود في الوقت الذي يجري فيه الآخرون وراء ملذاتهم أن أذوق اللذات الخشنة التي تلازم حياة الصومعة)
وفي (1897) نرى جيد يبلغ انطلاقه الكلي من حيث الدعوة إلى أن المعرفة لا تأتي عن طريق الفكر بل عن طريق الحس. من ذلك قوله: (إنك لا تستطيع أن تقدر المجهود الذي كان لزاماً علينا بذله لكي نحس إحساساً صادقاً بالحياة، والآن وقد تحقق ذلك فهو
كالحال مع كل شيء آخر عن طريق الحس والشهوة) وكقوله أيضاً (لقد تسكعت هنا وهناك كي أستطيع أن ألمس كل من يتسكع - إن قلبي يفيض بالحنان والحنين إلى كل من لا يعرف أين مكان دفته. وأحب حباً مفرطاً كل من يهيم بالتجوال والتصعلك)
ثم انظر كيف لا يستطيع الفرار في هذا الكتاب أيضاً من إحساسه الديني حين يقول:
كنت أقرأ (عقيدة العلم) لفيخت فشعرت بأنني سأعود متديناً من جديد
وفي قصة ' (1902) نرى عبقرية جيد، وتأثره العميق بالفيلسوف نيتشه، قد تعاونا على إظهار فكرة (التحرر الأخلاقي) حيث نرى بطل القصة (ميشيل) - وهو رجل مريض - يتقدم نحو الشفاء كلما حرر نفسه من الأوضاع الأخلاقية
وفي (1909) و (1911) و (1919) نرى جيد - وخصوصاً في القصة الأولى - يعالج شخصيات تخالف تماماً في تفكيرها ونزعتها ما نراه من الأفكار والنزعات في الأعمال الأولى، لأن الأولى استسلام مطلق لنداء الحياة، والثانية استسلام مطلق لنداء العاطفة الدينية.
فبينما نرى (ميشيل) في قصة ' ذلك الثائر على نظام الأسرة، الهاجر لماله وزوجته، المتمرد على الراحة والأستقرار، الراغب في الرحيل إلى أبعد مكان، الواجد في الحرية الجسدية والانطلاق الحسي شفاءه العاجل. نرى أيضاً (أليسا) في قصة تلك الفتاة الوادعة المتقشفة التي تغمرها العاطفة الدينية حتى تدفعها إلى رفض الزواج من أبن عمها (جيروم) الذي تحبه لكي تقصر نفسها على الاستسلام لاحساساتها الدينية، وتقترب من الله الذي تسميه (الأحسن)
ولاشك أن القصي العبقري هو الذي يرسم لنا بين حين وآخر صوراً إنسانية متباينة تختلف كل الاختلاف عن شخصية راسمها الذي تسمو عبقريته كلما استطاع التجرد من كل مؤثر ذاتي. وهذا هو ما نراه في قصتي ، للقصصي العظيم بلزاك، والقصتان تقتربان من حيث تناقض نفسية الشخصيات من قصتي جيد وعلى أن الفرق بين بلزاك وجيد - من هذه الناحية - أن بلزاك في قصتيه يرسم لنا شخصيات خارجة عن نفسه. أما جيد فكل شخصية من شخصيات قصصه عبارة عن فكرة متحركة من أفكاره. ففي قصتيه السابقتين تراه يختفي وراء شخصيتي (ميشيل) و (أليسا)، فشخصة (أليسا) هي صدى حياة جيد
الطفل الذي نشا بين أعطاف الدين فطبع حياته كلها بطابع لم يجد جيد وهو رجل سبيلاً إلى التخلص منه؛ وشخصية (ميشيل) هي شخصية جيد الشاب المفكر الذي نظر حوله فوجد أن حياة الزهد الماضية قد حرمته كل متع الحياة فلم يجد وسيلة إلى التحرر من تراث ماضيه وتعويض ما فقده من العمر في أحضان الزهد والحرمان إلا بإنكار كل قاعدة أخلاقية واستغلال كل دقيقة للتمتع بكل لذة مستطاعة
وقد يلام أندريه جيد ويتهم فنه القصصي بالنقص لأنه اختفى وراء كل شخصياته ولم يرسم لنا صوراً إنسانية خارجة عن نفسه شأن القصصيين العباقرة. والواقع أن جيد ليس له من النبوغ القصصي نصيب عظيم، وإنما عبقريته الحق هي في تلك الدعوة الحارة إلى (سيادة الحياة) وفي ذلك البحث المتواصل قي سبيل فهم نفسه والنفس الإنسانية. وقي ذلك الاحتمال الباسل لهذا الكفاح العنيف داخل نفسه بين تربيته وبين تفكيره بين العاطفة الدينية وبين الإباحية الأخلاقية. ثم أخيراً في محاولته الجريئة للتوفيق بينهما كما سنرى. ذلك كله هو الذي يعطي فن أندريه جيد لوناً تجديدياً وضاء، ويعطي كتبه ذيوعاً قل أن نصادفه في كتب أعاظم الكتاب المعاصرين. أليس هذا الفن - كما يقول الناقد أندريه بير - هو خير تعبير عن اضطراب العصر الذي نعيش فيه؟ إن في كل صفحة من صفحاته تجد النفوس القلقة الجامحة مجالاً لا مثيل له لراحتها لنفسية، فهو يكتب ما يقول (حتى يجد كل مراهق يصبح فيما بعد مماثلاً لي وأنا في السادسة عشرة من عمري - ولكنه يكون اكثر مني حرية وشجاعة وأعظم كمالا - جواباً لسؤاله المرتجف) فما هو هذا الجواب؟ ذلك ما سوف نراه
(البقية في العدد القادم)
علي كامل
القصص
ضحية الوهم
بقلم القصصي الإيطالي المعروف ماسيمو بونتمبلي
عهد إلي (رينيه كلامار) أن أقتل الوقت مع (ميني)، لأنه يريد أن يقضي أمراً يقصيه عنها نحو نصف الساعة. فأخذنا نسير في طريق اللوفر. وعلى حين غرة تركتني ميني مسرعة إلى الناحية الأخرى من الشارع لترى صندوقاً زجاجياً مستطيل الشكل وضع أمام حانوت لبيع أدوات صيد السمك.
وكانت الأسماك الذهبية تسبح في الماء الصافي الذي امتلأ به الإناء. وكأنها من شدة فرحها لا تعرف بحراً خضماً أعظم من هذا الصندوق الزجاجي
وقالت ميني بعد أن صفقت بيديها:
(يا إلهي، ما أجملها!)
ودنوت أنا منها. ووافقتها على ذلك، وفي صوتي نبرات الجد، قائلاً:
(نعم، إنها جديرة بأن تحوز إعجاب الناس.)
فنظرت إلي ميني نظرة ناقد وقالت:
(ما هذا التعبير: جديرة بأن تحوز إعجاب الناس؟ أنه لا يقال إلا لما يصنعه الإنسان بيده سواء أكان هذا صوراً أم شعراً كالذي يتكلم عنه أصدقاؤك. وكذلك يمكن أن يقال هذا عن الثياب. . . .)
ولكني قاطعتها بقوة من يريد الفصل في الموضوع: (لابد لي أن ألفت نظرت إلى أن رينيه كلامار وأنا وغيرنا - وهنا أخذت تنظر إلي كمن يتفرس في معرفة الأشياء - ذكروا أكثر من مرة أنك جديرة بأن تحوزي إعجاب الناس، ومع ذلك فأنت لست من صنع إنسان)
(وابتسمت ميني شاكرة، ولكنها أجابت في منطق معكوس: (ولكني على أي حال لست سمكة)
فتشبثت برأيي وقلت:
(على أني قلت إن هذه السمكات جديرة بأن تحوز إعجاب الناس، لأنها سمكات غير حقيقية، هي سمكات تقليدية.)
فحدقت ميني فيّ أولاً، ثم في السمك ثانياً، ثم عادت تحدق في، ثم صفقت بيديها وقالت:
(أصحيح هذا؟)
وكانت ميني من أولئك الذين يعيشون وينمون ولا يتعدون دور الطفولة. ومثل هؤلاء يسهل إغراؤهم وقيادتهم، وليس عندهم من الأشياء ما لا يمكن تصديقه والإيمان به إذا ما قيل لهم ذلك. قالت ميني:
- ولكن كف تتحرك هذه الأسماك؟
فقلت لها: (إن الكهرباء مسلط عليها.)
فالتفتت بسرعة إلى الأسماك وانحنت على الصندوق تدقق النظر إليه. وكانت يداها المرتجفتان مثبتتين على موضع قلبها. وقالت
ولكن كيف تيسر لها كل ذلك؟ إنها تفتح فاها. والصغيرة هذه تتحاشى الكبيرة في سيرها نحو سطح الماء. وهناك في الركن الآخر اثنان يتقارضان القبل، كأنهما شقيقان. . . . أي. أي. . . وفي القاع السمكة الكبيرة وقد اهتزت المياه من فوقها كفرس البحر الذي رأيناه في حديقة الحيوان، وكان رينيه معنا)
- (نعم إنه لشيء عجاب. . . ولكن أناشدك الله ألا تمسي هذه المياه فان الكهرباء سارية فيها.)
فاسترجعت ميني إصبعها من فوق سطح الماء وقالت: (وهذه السمكة وجارتها ألم ينظرا إلي الآن بنظرات حادة؟)
وأبصرت صديقي وقلت:
(ها هو ذا رينيه.)
فقالت هي:
(أي رينيه، يجب أن تنظر إلى هذه الأسماك!)
وقلت مخاطباً رينيه:
إن ميني تعتقد أن هذه الأسماك حقيقية.)
وكان رينيه يعرف طبعي جيداً، ومعرفته بميني تكاد تكون نوعاً من اختصاصه. فاندفه يشاطرني هذري
ولم تجد ميني طيلة ذلك اليوم شيئاً آخر تفكر فيه. ثم قالت فجأة:
- (وكيف تكون هذه؟ أصلبه هي أم لينة؟)
- (ماذا تعنين؟)
- (الأسماك الصناعية)
- (هي لينة كالحقيقية)
- (وماذا تصير لو أنها أُخرجت من الماء؟)
- تصير كالأسماك الحقيقية بالضبط، إذ تبغي استنشاق الهواء وترتجف بضع مرات ثم تجمد ولا تتحرك كأنها ميتة.)
- (ثم بعد ذلك؟)
- (ثم بعد ذلك. . . تنتن وتفسد)
- (وإذا ما دفعها إنسان إلى هر؟)
- (يلتهمها كأنها سمكة حقيقية)
وفي المساء التالي جلست وإياي في البهو تنتظر رينيه، فقد ذهب لشراء بعض لفافات من التبغ
- (ميني، ما دامت هذه الأشياء تشغل بلك فسأفصح لك عن سر عظيم. بعد أن اخترعت الأسماك الصغيرة، حاول العلماء خلق أحياء أخرى فاخترعوا العصافير مثلاً. عصافير صغيرة تحفظ الغناء)
- حقاً، إنني شاهدتها وهي من صنع (نورمبرج) من أعمال ألمانيا، ويجب أن تملأ الزنبرك إذا ما أردنا سماع غنائها. وبرغم أنها تحرك المنقار والرأس فأنها لا تطير، وهي صلبة كالمعادن.)
- كل ذلك صحيح يا ميني. ولكن العصافير الأولى كانت كالعصافير الحقيقية تماماً. كانت كالأسماك التي شاهدناه في طريق اللوفر. والآن أفضي إليك السر العظيم، ولقد أردت أن أدلي به إليك من قبل ولكن الفرصة لم تسنح لي. قلت لك خلق العلماء أحياء أخرى ثم. . . ولكن يجب أن تقسمي ألا تذكري ذلك لأحد)
- (حسن، أقسم على ذلك)
- (ثم. . . ثم خلقوا آدميين)
- (يا إله السماء. . . .!)
- (خلقوا اثني عشر شخصاً: ست رجال وست نساء)
- (يا إلهي. . . وكيف كان هؤلاء؟)
- (هم كتلك الأسماك. هم مثلي ومثلك)
- (ولكن أين هم الآن؟)
- (هذا ما لا يعرفه أحد. وبهذا حفظ السر. فبعد أن خلقوا خرجوا من المعامل. وأخذ الناس يبحثون عنهم دون جدوى. ولا يعرف غير الله موضعهم)
- (ولكنهم تدثروا بالملابس؟)
- (طبعاً!)
- (ومتى كان ذلك؟)
- (منذ أكثر من سنة)
- (وأين ساروا؟)
- (هنا، هنا في باريس. وكانوا كاملين في كل شيء، ولا يمكن تمييزهم من الآدميين الحقيقيين. تصوري يا ميني أننا قد نكون تقابلنا مع أحدهم دون أن نعلم)
- (لا، لا. إنني أشعر بالشيب يدب في رأسي، لقد اعتزمت إلا أخرج من المنزل، ويجب على الناس أن يبحثوا عنهم. ولماذا لا يعثرون عليهم؟ وواجب هؤلاء أن يقولوا بأنهم ليسوا آدميين حقيقيين
- (ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن ذلك كله. إنهم يعتقدون أنهم من لحم ودم كبقية خلق الله)
واختل تفكير ميني، ولم أفلح أنا ورينيه في تشتيت تلك الأفكار الخبيثة عنها. وقد أقسمنا لها بكل عظيم (أننا لم نبغ إلا الهذر من كل تلك الأمور)
- (هذا تذكرانه لي الآن حتى أهدأ بعض الهدوء، ولكني أعرف وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن كل ما ذكر لي قد وقع، ومن يدري؟ ربما كان ذلك الرجل القادم. . . . . لا، لا. . . لنرجع ثانية إلى المنزل
وكانت كلما مرت برجل في طريقنا ظنته صناعياً. وفجأة تأوهت، وأحجمت عن السير.
ورأت في بيتها ملجأها الوحيد، ولتبق هي في غرفة منه نابية، أو في ركن منه مظلم. ولم تتزحزح هذه الأفكار عن مخيلتها، وقد تراكمت فكانت أثقل من جبل، وفي الليل كانت تنزعج وتصرخ في منامها. فكنت أنا ورينيه نوقظها. وكنا نقسم لها أغلظ الأيمان من جديد. غير أنها كانت تعتبر كلامنا غير أهل للإجابة عليه، وبدأ الشك والسوداء يستوليان عليها. وأخيراً قال لها رينيه:
- (ماذا يحزنك يا ميني؟)
- ماذا يحزنني. . .؟ لا يعرف أحد إذا كان الذي ينظر إلي أو الذي يكلمني هذا من لحم ودم. لا، لا، أولى لي أن أموت! ثم أدارت رأسها في حركة ميكانيكية وقال:
- (وأنتما لا تعرفان. . .)
ولم يكن في مقدرة أحد أن يغريها بترك باريس. ولماذا؟ قد يكونون متفرقين في بقية العالم
وكانت لا تود رؤية أحد حتى خادمتها الصغيرة لم تطق رؤيتها في المنزل. ثم لزمت الفراش لا تفارقه
وكنا أنا ورينيه نتناوب السهر عليها، ونقدم لها الطعام فلا تأكل منه إلا يسيراً. وكانت حياة ملؤها وخز الضمير. وعند ما كانت تغفو كنا نستدعي الأطباء سراً، ليشيروا بعلاج يرجع لها رشدها. ولكن تلك الفكرة التي لازمتها كانت توغل في الصميم، فتركزت أفكارها حول نقطة واحدة. . .
(ربما كان أحدهم من رأيته أو حادثته. . .)
وكانت حياة كلها نكد، يزيد في ظلماتها الذنب المشترك. وكنت أنا ورينيه نمضي الساعات دون أن ننبس بكلمة أو ينظر أحدنا إلى صاحبهُ
وفي ذات يوم تولانا الرعب من فكرة طارئة. ماذا يكون الحال يا ترى لو خيل إلى ميني أن أحدنا أو كلينا من أولئك الرجال المصنوعين، الذين يفزع منهم الشياطين لمجرد ذكرهم أو تخيلهم. ألم نكن نحن أول من قال لها عن هذا الاختراع السخيف؟.
ولكن هذه الفكرة لم تستول عليها، بل اكتسحت مخيلتها فكرة أشد خطراً وأبعد غوراً
كانت ليلة من ليالي الربيع. وقد غرقت ميني في النوم الهادئ ففرحنا. وفتحنا النافذة، وأطللت أنا ورينيه على الطريق نتسلى برؤية النجوم مرة وبإمعان النظر في الظلام المخيم
على جوانب الشارع مرة، وتارة كانت تستلفت أنظارنا الأنوار الحمراء التي تضيء أسماء الحوانيت، وتارة أخرى تسترعي أبصارنا الإعلانات الوضاءة. . .
وعلى حين سمعنا صوتاً جهورياً مرتجفاً. ولما نظرنا خلفنا وجدنا ميني واقفة فوق سريرها باسطة ذراعيها، وتكاد تنخلع من الرعدة. فأسرعنا إليها ولكنها فزعت منا. وقذفت بنفسها من السرير فارتطمت بالمرآة. وحدقت أولاً في قميص نومها ثم في قبضة يدها. ثم دفعت وجهها ليلتصق بالمرآة. ونظرت إلى صورتها وحدقت فيها كأنما تريد اكتشاف كنه ما بها
- (أي نعم، إن الأمر لهو كذلك. إنني أراه جلياً واضحاً. نعم، إنني أنا هو. إنني لست من لحم ودم. كلا، كلا. إنني أنا ذلك الإنسان الصناعي وما كنت أدري ذلك من قبل)
فصاح كل منا:
- (ميني!)
- (لا إنني أفهم الآن كل شيء. إنني متأكدة إنكما لن تعرفا ذلك. . . ولكن ماذا، أنا فاعلة الآن؟ وماذا في وسعي أن أعمله؟ سامحني يا رينيه! الذنب ليس ذنبي)
حاولنا أن نمسك بذراعيها، وهي تحدق في الفضاء. . ولكنها رفعت يدها وأشارت نحو الباب وقالت:
- (ماذا هنالك؟)
- لاشيء، لا أحد يا ميني، هدئي روعك!
- ولكن هنالك. . . . .، هنالك، من هنالك. . .؟ انظروا انظروا من هو؟
وشع ضوء مخيف من عينها كسا وجهها ضياء جافاً، وانطلت علينا الحيلة، وذهبنا إلى الباب لنهدئ من حدتها. وما كدنا نصله حتى التفتنا إلى الخلف دون سبب، ولكن بعد أن فات الأوان، إذ وقفت ميني كعفريت من الجن على حافة النافذة. فلم نتمالك من الصراخ وهرعنا إليها. ولكنها كانت قد قذفت بنفسها إلى الشارع. ولم يبق منها إلا قطعة من قميص نومها معلقة في يد رينيه. وساد السكون ثواني حسبناها ساعات وإذا بجسدها يرتطم بالإسفلت فيقضي على أنفاسها وعلى هواجسها
عربها عن الألمانية: ا. ا. ي
من أقاصيص الجاهلية
حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
- (ما عهدتك تمضي ليلتك في السامر ياجساس، أكان حديث القوم عذباً فألقيت إليه السمع، أم كان لسانك ذرباً فدفعت عن بكر؟).
- (نعم يا خالتاه. لقد دفعت عن بكر بلسان صدق في السامرين، ودفعت هذه القرية التي يسددها كليب لنا في كل مجمع وناد، ولم أنس يا خالتي أن أدفع عنك مقالة السوء التي نالك بها كليب، فقلت للقوم: إنكم تعلمون موضع البسوس من أهلها وتعلمون موضع أهلها من العرب. ومن كانت في هذا الشرف من القوم فما أبعدها عن السعاية والوقيعة. وما نقموا من البسوس يا قوم إلا ما اشتهرت به حماية الجار، وحفظ الذمار؛ وهي بعد ليست ثرة ولا نمة. واندفعت يا خالتاه أقرع حجج كليب حجة بعد حجة: وأورد فرياته فرية بعد فرية، فإذا القوم على كليب ساخطون، وعلى بكر وبني شيبان عاطفون.)
هشت البسوس بنت المنقذ لمقالة جساس ابن أختها، وضمته إلى صدرها وقبلته في مفرقه. واستوت تقص عليه ما سمعت من نساء الحي. ولم يكن للحي من حديث في سامرهم وناديهم ومجمعهم إلا ما بين بكر وتغلب من إحن وحفائظ أخذت البسوس على نفسها عهداً بإذاعتها في القوم وإفشائها في غير قصد ولا أناة. قالت: (هذا كليب بن ربيعة التغلبي قد أخذته العزة بالإثم وبغى على قومه لما دانوا به من الطاعة له والانقياد لسلطانه، حتى بلغ من بغية أن يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تحفز ذمته، ويحمي الوحش في مسارحه فلا يهاج، ولا تورد إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. ولقد أخذت الناس رعدة من قوته وسلطانه. وضربوا الأمثال بعزته وطغيانه، وما مبعث هذا البغي وهذا الطغيان إلا النصر الذي أحرزه يوم خَزَازَى حين قاد معداً ففض جموع اليمن. وما النصر يحرزه القائد إلا الفضل الذي أفاضه عليه الجنود، بالتفافهم حول لوائه واندفاعهم على العدو. فما كان القائد ليحرز نصراً لو تخلى عنه الجنود. ولكن قد يحرز الجند نصراً وقد ولى عنهم القائد. على أنه يا ابن أخت، لو كان فيه ذمامة من حياء، أو بقية من وفاء، لما تعاظم على قوم رفعه، ولا تكاثر على شعب رفده. ولو كان ممن يرعون
العهد ويحفظون الذمار لرعى عهد النسب وحرمة القربى، ولرعي الصلة الوشيجة، والخاصة الوليجة. أليست زوجه جليلة وهي أختك؟ إن أعجب يا جساس فما أعجب إلا لصبر هذه اللكاع عليه، وسكوتها على بغيه، وهي زوجه أولى الناس بتقويمه إذا اعوج، وتليينه إذا صلب، وسياسته إذا شط؛ وهي أولى الناس بالمدافعة عن أخيها وعن خالتها، وما ادخر كليب وسعاً في النيل من أخيها ومن خالتها. لا أبغي يا جساس من قولي أن أنغل بينك وبين أختك ولا بينك وبين كليب. كلا. ولا أن أبذر شقاقاً بين جليلة وزوجها، ولكني أرى من كليب بغياً واستهانة، وأرى منك ضعفاً واستكانة، وأرى من جليلة صمتاً للمذلة وصبراً على الهوان. وكأني بك تقرها على صمتها وترضي عن صبرها. وأنت لا تقل عن كليب في طول النجاد، ورفعة العماد، على يفاعك وحدث سنك.)
قام جساس وقد استحصد، وغلى الدم في رأسه وركبه الشيطان، وأقسم ليقصمن ظهر كليب، ولينصرن عشيرته، ولينضحن عن بني شيبان. ثم احتواه الليل فبات يرعى النجوم، ويستعرض الهموم، حتى انبلج الصبح فإذا هو يسعى إلى البسوس يقص عليها ما جاش به صدره، وما استقر عليه عزمه. قال:(يا خالتاه. لقد قدحت الذهن حتى استعر، وعببت الرأي حتى اختمر، وشاورت النفس فطاب لها الحمام، وغمزت العزم فألفيته شديد العُرام، وأنا اليوم علي أن ألتمس كليباً في غرة فأنتقم لبكر وبني شيبان، وأرفع عنهم المذلة والهوان.)
قالت: (وهل شاورت الحي فيما اعتزمت؟)
قال: (الرأي الخطير كالجمرة المستعرة كلما تادولتها الأيدي فترت حرتها وانطفأت جذوتها. وما يركن ذوو الرأي إلى المشورة إلا حين تعجز هممهم عن النفاذ، وتقعد عن النجاز، فيلتمسون لدى الناس رأياً يتخذونه لقعودهم سبباً، ولعجزهم تعلّة، وأنا إن أصحرت بالتدبير فما آمن أن ينتهي إلى كليب فيعتصم ويتقي.)
وكانت البسوس قد استودعت سراً. . .
وكان ما أفضى به جساس إلى البسوس حديث القوم في سامرهم وناديهم تتناقله يشكر وشيبان، وذهل وقيس، ووائل وبكر، وغير أولئك من القبائل والبطون والأفخاذ
وفي ضحوة من النهار اجتمع عند البسوس: همام بن مرة أخو جسّاس، والفِنْد الزماني سيد
بكر وفارسها وشاعرها، وبسطام بن قيس فارس بني شيبان، وأبو فَيْد عمرو بن الحرث السدوسي، والحرث بن عباد فارس النعامة وفارس ربيعة وشاعرها. وجلس جساس مطرقاً ينكت الأرض يعود في يده والقوم ينظرون إليه وينظر إليهم في حيرة ووجوم
قال بسطام: (ما بالك يا جساس تحبس النفس على الأذى، وأنت فينا تنظر يمنة فلا تجد إلا فارساً مغواراً، أو أسداً كراراً، وتنظر يسرة فلا تجد إلا بصيراً في الرأي، أو نصيراً في الشدة؟)
قال جساس: (أعلم ذلك. وأعلم أنه لا يدفع الهون ولا يرد البلاء إلا سفك الدماء) قال همام بن مرة. (إنه كذلك. .)
قال أبو فيد: (أما الهون فقد لحق بكراً حتى أذلها، وأما البلاء فقد وقع ماله من دافع. وأما الصبر عليه فأمر يرجع إليكم ويعود عليكم، ولست أدري إن كنتم لكليب وتغلب أكفاء في القتال، ولكني أعلم أنكم لا تقلون عنهم في الشرف، ولستم دونهم في المنزلة، فان كنتم على هذا تصبرون، فقد رضيتم من العيش بالدون، وإن أحمسكم الذل وقام رجالكم للحرب يؤرجون فإني بريء مما تفعلون)
فنهض الحرث بن عباد، والفند الزماني مغضبين وقد هم أحدهما بأبي فيد يعصر عنقه وقالا أو قال أحدهما:(ثكلتك أمك يا رسول الوقيعة، تحمس الرجل وتستثيره، وتنغل بينه وبين القوم ثم تقول إني بريء مما تفعلون؟ لشد ما أمعنت في الوقيعة والسعاية، ولعمري ما مؤرج الحرب إن قامت إلا أنت. قم لادر ضرعك)
وفر ابو فيد لا يلوي على شيء
(وأنت يا جساس أصلح من شأنك، وهون عليك بأسك، واستشعر الحكمة، واستلهم الصواب، ولا تبرم الرأي إلا بعد التدبير، ولا تعقد العزم إلا بعد التفكير؛ ولك من رعاية الله خير معين ونصير)
وانفض مجلس القوم، ودخل جساس إلى فناء البسوس واجماً مطرقاً
قالت البسوس: (هون عليك فالخطب أيسر مما ترى، ولعل الخير في الأناة، قم فلقد رثأت لك لبناً يفثأ غضبك)
قال: (ما بي حاجة إلى الشراب) قالت: (هو لبن احتلبته من سراب ناقة سعد وقد
استودعنيها وأحل لي حلبتها.) قال: (لا)، ومضت البسوس إلى شانها، ولبث جساس مطرقاً
وما هي إلا فينة حتى عادت سراب تشخب دماً. واستبانت البسوس ما بها فإذا كليب قد اشتد عليها بسهم فخرم ضرعها؛ فنفرت وهي ترغو وعادت إلى حظيرتها. وما نقم كليب منها إلا أنها تبعت آيلاً له ودخلت وترعى في حماه
صاحب البسوس: وأذلاه! واجاراه!
وقام جساس يتبين الخبر، فلما وقف على ما كان قال:(اسكتي يا خالة فلأقتلن غدا جمل هو أعظم عقرا من ناقة جارك)
واعتقل رمحه وخرج إلى الفلاة يتوقع غرة كليب. وتبعه عمرو ابن الحرث بن ذهل على فرسه ومعه رمحه حتى لقيا كليباً في حماه فقال له جساس (يا ابن الماجدة عمدت إلى ناقة جارتي فعقرتها)
قال كليب (أتراك ما نعي أن أذب عن حماي؟) ولم يجبه جساس إلا بطنعة قصم بها صلبه، وثنى عمرو بطعنة من خلفه قطعت بطنه. ووقع كليب وهو يفحص برجله وقال لجساس (أغثني بشربة ماء) قال (تجاوزت شبيثاً والاحصْ)
قال الراوي: وكانت الحرب بين بكر وتغلب، وسميت حرب البسوس، وقيل في ناقتها (أشأم من سراب) ولبثت الحرب أربعين عاماً. وسأقص عليك من أنبائها عجبا
أخرجها: اليوزباشي أحمد الطاهر
البريد الأدبي
عيد (التيمس) المائة والخمسون
احتفلت جريدة (التيمس) أخيراً بمرور مائة وخمسين عاماً على إنشائها وأصدرت بهذه المناسبة عدداً خاصاً هو آية من آيات الصحافة الحديثة في تحريره وفي طبعه؛ وفيه تقص تاريخها منذ إنشائها، وتستعرض المراحل والعصور المختلفة التي مرت بها، والحوادث والأعمال العظيمة التي ساهمت فيها واستطاعت أن تؤثر في مجراها، وعلاقاتها ومواقفها المختلفة إزاء الإمبراطورية البريطانية. وقد تلقت (التيمس) بهذه المناسبة سيلاً من التهاني، من معظم حكومات العالم وملوكه، ومن سفراء الدول المختلفة في لندن ومن أقطاب العلم والأدب في سائر أنحاء العالم
والتيمس فخر الصحافة الإنكليزية، وتاريخها ليس تاريخ صحيفة عظيمة فقط، ولكنه تاريخ لصفحات باهرة من الجهاد السياسي والعلمي والأدبي، ومعرض بديع لتقدم الصحافة الكبرى خلال القرن الماضي. وقد أنشئت (التيمس) في سنة 1785، أنشأها جون والتر (الأول) باسم (السجل اليومي العام) ثم غير الاسم في يناير سنة 1788 إلى اسمها الحالي وهو (التيمس). وكان جون والتر صحفياً بالفطرة، وافر المقدرة والبراعة؛ وكان شعاره أن يخرج صحيفة معتدلة الثمن سباقه إلى الأخبار متنوعة المواد قوية بمواردها وإعلاناتها، وفي سنة 1803 خلفه ولده جون والتر (الثاني) في تحرير الصحيفة وإدارتها؛ وفي عهده دخلت التيمس في عهد جديد من القوة والتقدم، وقامت بدور هام في إذاعة حوادث الحروب النابوليونية وفي الدعاية ضد نابليون، وكثيراً ما كانت تسبق إلى نشر الأخبار قبل أن تعلم بها الحكومة. وفي سنة 1817 تولى تحريرها السياسي كاتب قوي هو توماس بارنس، فسار بها سريعاً في طريق الزعامة السياسية؛ وكان يستخدم لمعاونة أقطاب الأحزاب والحكومة مثل دزرائبلي ولورد بروجهام وسترلنج في الدعوة إلى سياسة مستقلة تميل إلى (المحافظة) وبلغ من نفوذ بارنس أن وصف بأنه (أقوى رجل في إنكلترا) وفي ذلك العهد بلغت (التيمس) في تنظيم الأخبار الداخلية والخارجية والأبواب الصحفية ذروة القوة والطرافة، واشتراك في تحرير أقسامها الأدبية والفنية أعلام العصر وفي مقدمتهم ماكولي وفاكري وتوماس مور؛ وتقدم استعدادها الفني والطباعي تقدماً مدهشاً
ولما توفي بارنس سنة 1841 خلفه في تحرير القسم السياسي تاديوس دلاين. وفي أيام حرب القرم (سنة 1853) بعثت التيمس إلى ميدان القتال بمراسل حربي شهير هو وليم رسل، وذاعت شهرة التيمس يومئذ بما كانت تنشره من الملاحظات الفنية والأخبار الطريفة. واستمر دلاين في إدارة التيمس السياسية أعواماً طويلة، وجعل منها أداة سياسية مستقلة، وكان من معاونيه في تحرير القسم السياسي أعظم ساسة العصر وكتابه. ولما توفي جون والتر الثاني سنة 1847، خلفه ولده جون والتر الثالث في ملكية الجريدة؛ وفي عهده تقدمت من الوجهة الفنية تقدماً عظيماً، وزودت بأحدث الآت العصر، وخلف دلاين توماس شنري فاستمر في توجيه سياسة التيمس حتى وفاته سنة 1884، ثم خلفه (بكل)؛ واشتهرت التيمس في هذا العهد بحملاتها على جلادستون ومعارضته في سياسة (الهوم رول) في أيرلندة، وحملاتها على الزعماء الايرلنديين وما وجهته إليهم من تهم اقتضت تأليف لجنة حكومية للتحقيق، وغرمت التيمس في هذا السبيل مبالغ طائلة، ووقعت على رغم انتشارها وازدهارها في مصاعب مالية. ولما توفي صاحبها جون والتر الثالث في سنة 1894، وضع نظام للفصل بين ملكية الجريدة وآلات الطباعة، وبذلت محاولات عديدة لإنقاذ الصحيفة من متاعبها المالية ولكنها برغم ذلك أشرفت على الإفلاس ووصل أمر الشركة إلى القضاء، فقرر بيعها. وفي سنة 1907 عرضت التيمس بعد مائة واثنين وعشرين عاماً من تأسيسها للبيع، فاشتراها اللورد نور ثكليف وتولى إدارتها موبرلي بل؛ وجددت آلاتها وعُددها الفنية؛ وفي عهده أنشأت التيمس ملحقها الأدبي، وملحقاً للتربية، وملاحق أخرى. ولما توفي سنة 1911 خلفه جوفري داوزون مديرها الحالي. واستمرت التيمس تخفض من ثمنها حتى بيعت ببنس واحد (سنة 1914) وترتب على ذلك مضاعفة انتشارها حتى بلغ ما تبيعه 150 ألفاً. ودخلت الحرب الكبرى بهذا الرقم، وأدت أثناء الحرب خدمات جليلة للجيش والصليب الأحمر، واستطاعت أن تجمع للصليب الأحمر وحده ستة عشر مليوناً. وأصدرت أثناء الحرب تاريخها الشهير عن الحرب ودائرة المعارف للحرب وغيرهما
وفي سنة 1922 توفي لورد نور ثكليف فاشترى ملكية الصحيفة جون والتر (الرابع) وعادت التيمس بذلك إلى ملكية الأسرة التي أنشأتها، واشترك معه الماجور آستور
هذا هو ملخص تاريخ (التيمس) ولا تزال الصحيفة الكبرى إلى اليوم محتفظة بنزعتها
المستقلة مع ميل إلى المحافظة. ومع أنها تقل في الانتشار عن كثير من الصحف الإنكليزية الأخرى، فأنها لا تزال في طليعتها من حيث النفوذ السياسي والمقام الأدبي
مباحث علامة اجتماعي
يقوم العلامة الاجتماعي الروماني الأستاذ جوستي بأبحاث وتجارب طريفة لإثبات نظرياته الاجتماعية وتطبيقها. والأستاذ جوستي من أقطاب علم الاجتماع المعاصرين، وقد ذاع صيته ونظرياته في جميع الأوساط العلمية الغربية؛ وكان الأستاذ مدى حين وزيراً للمعارف الرومانية، وهو الآن أستاذ الاجتماع في جامعة بوخارست ورئيس المعهد الاجتماعي. وقد دعته جامعة باريس أخيراً ليقوم بعرض بحوثه ونظرياته؛ وتلقت جريدة (الجورنال) منه شرحاً لطريقته خلاصته، أنه يقوم بأبحاث جغرافية وجنسية واقتصادية. وفولكورية (ما يتعلق بالأمثال والعادات الشعبية) في القرية ويدرسها كوحدة اجتماعية، وأنه هو وتلاميذه قد اختاروا بعض قرى ترانسلفانيا، وقسموا السكان أصنافاً بحسب السن والحالة والأسرة؛ واختاروا بعض الأسر ووضعوا لها شجرة أنسابها، ووضعوا تاريخاً لملكياتها وتقلب أحوالها، وكذلك وضعوا قوائم خاصة بأحوالها المعيشية وتربيتها وميزانياتها إلى غير ذلك. ويعتمد الأستاذ جوستي على هذا المباحث الدقيقة في وضع نظريات بخصوص الوحدة الاجتماعية الحديثة، وهي القرية، وهو في طريقته هذه يشبه ابن خلدون في اعتبار القبيلة وحدة اجتماعية للبادية وبناء نظرياته على أساس أحوالها وتطوراتها
الثقافة النسوية النازية
تقوم اليوم في ألمانيا ثقافة نسوية خاصة هي إحدى ذيول الحركة الفكرية النازية؛ وقد تناولت إحدى الزعيمات النازيات شرح هذه الثقافة في جريدة (بيرزن تسيتونج) وتحدثت عن مسألة الأزياء وأثرها في تطور نفسية المرأة؛ فقالت إن الثقافة النسوية الجنوبية لا تناسب الشعوب الشمالية؛ ذلك أن الجنوب يجد مثله الأعلى في المرأة في الشباب والجمال الغض، ولكن الشمال يراه في الأمومة، وتتطور الأزياء تبعاً لهذه المثل. وقد كان لاقتباس الأزياء وأسباب التجميل الجنوبية أثر سيئ في المرأة الشمالية، في جسمها وفي أذواقها وفي روحها. ولهذا يدعو النازي إلى الرجوع إلى المثل الشمالية القديمة في رد المرأة إلى
حظيرة الأسرة والأمومة
الذكرى الألفية للمتنبي
استفاض الحديث في جميع الأقطار العربية عن عزم الحكومة العراقية على إقامة مهرجان فخم للشاعر العبقري أبي الطيب أحمد المتنبي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته. وقد تريثنا في نشر هذا الخبر لأنه لم يَعْدُ أن يكون حديثاً من أحاديث المنى لم تَعِد به حكومة ولم تتعهد به جماعة. على أننا ما شككنا قط في أن العراق سيهتبل هذه الفرصة ليجعل من هذا العيد الأدبي مظاهرة عربية تحتشد لها قلوب العرب وأصدقاء العرب ليهتفوا على ضفاف الرافدين لهذا الشاعر الخالد. وكان اليقين أن العراق منبت هذا النبوغ لا يدع السبق إلى هذا العيد لقاهرة كافور أو لحلب سيف الدولة، ولكنا تلقينا من صديقنا الشاعر الجليل الأستاذ الزهاوي كتاباً يذكر فيه أنه كان قد أعد لمهرجان المتنبي قصيدتين صغيرة وكبيرة، فلما رأى قومه انصرفوا عن هذه الفكرة فلم يعودوا يحفلون بها ولا يعملون لها، بعث بهما إلى الرسالة، فنشرنا الصغرى في عدد سابق، ونشرنا الكبرى في هذا العدد. وبقينا نقلب الخبر بين ثقتنا في المخبر، وعلمنا بعصبية العراق، فلا نجد له مساغاً في وجه من الوجوه
وفاة فيلسوف وزعيم صيني
من أنباء الهند الصينية أن الزعيم الفيلسوف (بام بوي شان) قد توفي في مقامه المنعزل على مقربة من (هوي)(الهند الصينية) في نحو السبعين من عمره؛ وكان (بام بوي شان) من تلاميذ المدرسة الصينية القديمة، ومن أقطاب مفكريها؛ بدا حياته بتعليم اللغة الصينية والفلسفة في معاهد سيحون وهتوى، ولكنه جنح إلى السياسة، وأنضم إلى زعماء الحركة التحريرية، واستطاع بنفوذه الفكري والثقافي أن يثير على الحماية الفرنسية دعاية قوية، وانتهت هذه الدعاية بثورة عنيفة انتهت بمقتل الملك (تاي بين دي توان فو). وفي سنة 1913 ألقيت القنابل على حاكم الهند الصينية مسيو البيير سارو في شرفة أحد الفنادق، ولكنه نجا وقتل بعض حاشيته. واتهم (بام بوي شان) في هذه الجناية، وقضي عليه غيابياً بالإعدام؛ ولكنه فر إلى الصين. وغدا (بام بوي شان) عندئذ بطلاً وطنياً وزعيماً روحياً وفكرياً للحركة الوطنية على مثل صن يات صن في الصين وغاندي في الهند.
ولكن قبض عليه في شنغهاي سنة 1925، وقدم للمحاكمة مرة أخرى فحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. وعلى أثر الحكم عليه أضربت الهند الصينية بقلاقل عنيفة فاضطرت السلطات أن تصدر العفو عنه بعد شهرين. وعلى أثر ذلك أذاع الفيلسوف بياناً على مواطنيه قال فيه إنه يعتزل القيادة العنيفة ويدعو منذ الآن إلى سياسة الوفاق. وكان هذا التحول أكبر عامل في ضياع نفوذه السياسي، فعاش منذ ذلك الحين في عزلة، ينقطع إلى تأملاته ونظرياته الفلسفية والروحية التي كانت قبساً جديداً من فلسفة الصين القديمة
من روائع الشرق والغرب
المساء
لشاعر الحب والجمال لامرتين
قال لامرتين: (كنت منذ شهور قد فقدت موضوع الحماسة والحب، فذهبت أقبر نفسي في ظلام العزلة عند أحد أعمامي في قصر (دورسي) لدى تلكالجبال الموحشة الشجراء من أعالي بورجونيا، وهناك نظمت هذه الأبيات في تلكالغاباتالتي تحيط بذلك القصر)
أقبل المساء وهمدت الأصوات، وأنا أجالس على الصخور الجرد أتابع بنظري مركبة
الليل وهي تتقدم في معامي الفضاء
ثم لاحت الزهرة في حاشية الأفق، وأرسل الكوكب العاشق على الأرض ضوءه المخفي،
فشعشع تحت قدمي خضرة الروض
ومن دوحة الزان ذات الورق الفينان واللون الأحوى، أسمع اختلاج الأغصان، كما تسمع
خفقان الأشباح بين أجداث الموتى
وعلى حين فجأة انفصل من كوكب الليل شعاع تسلل إلى جبهتي الساهمة، ومس في لينٍ
عيني الحالمة
أيهذا الانعكاس اللطيف للكرة الملتهبة! أيها الشعاع الباهر ماذا تبتغي مني؟ أجئتتحمل إلى
أحشائي المضطربة قبس النور إلى نفسي وعيني؟
أهبطت من السماء لتفضي إليَّ بسر العالم، وتلقي عليَّ دفائن هذا الكوكب الذي يعيدك
النهار إليه؟
هل أرسلتك عناية خفية إلى البؤساء، لتضيء قلوبهم بنور الرجاء؟
هل هبطت لتبدد الظلام عن وجه الغد لتلك القلوب الكسيرة التي تضرع إليه؟
أيها الشعاع الإلهي أأنت فجر ذلك اليوم الذي لا انقضاء له؟
إن قلبي يشتعل في ضوئك، وشعوري يتملكه مرح مجهول، وفكري منصرف إلى أولئك
الذين ضحا ظلهم في الحياة؛ فهل أنت أيها الضوء اللألاء، أرواح أولئك الأحباء؟
أنا أشعر بأني أقرب ما أكون إليهم! فلعل أرواحهم السعيدة قد لبست صورهم البعيدة، ثم
عادتتطوف بهذه الربوع، وتجوس خلال هذه الغيضة
فإذا كنت أيتها الأشعة أشباح الأحبة، فعودي إليَّ في كل مساء بعيدة عن الغوغاء
والضوضاء، لتمتزجي بأفكاري وأحلامي، وتنيري ظلام لياليَّ وأيامي
أعيدي السلام إلى صدري المضطرب، والحب إلى قلبي الملتهب، واسقطي على كبدي
كما تسقط أنداء الليل على قيظ النهار ولفح الهاجرة
تعالي إليَّ وأقبلي عليَّ. . . ولكن أبخرة محزنة تصاعدت من جنبات الأفق فحجبت ذلك
الشعاع اللطيف، ثم عابت هي وهو في ظلام كثيف!
الزيات
دجلة
للأديب التركي شهاب الدين
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
قطعة منثورة كتبها أديب كبير من أدباء الترك المعاصرين - جناب شهاب الدين الذي أحزن الأدباء نعيه العام الفائت
ولست أرى القطعة تمثل حياة البادية عامة، ولن حياة جماعة على شاطئ دجلة، ومهما يكن فقد أحسن الكاتب تصوير ما رأى حقيقة أو خيالاً، وهي نموذج من الأدب التركي الجديد جديرة بإطلاع قراء الرسالة
تجري دجلة واسعة كذكاء العرب، قوية كروح العرب، تلوح مرة لجة ترابية مائجة، ومرة شريطاً من الحرير سماوي اللون، وحيناً تتمعج كأزقة بغداد، وآخر تسير أقوم من شوارع باريس، وهنا تتحوى مضطربة، وهناك تمتد مطمئنة. . .
هذا النهر المبارك الذي يحمل في أحضانه ربيعاً من البركات يتقصى من الأبنية البشرية عند القُرنة، فينفذ في غابات النخيل فكأنه بلغ بيئته المحبوبة، فموجه أكثر حرية وأشد زخوراً وأعظم وقاراً وجرأة
يعيش النبات في البلاد المعتدلة والشمالية بمساعي الإنسان، وهنا في المناطق الحارة على العكس، يعيش الإنسان في حمي الأشجار والأعشاب، ولا سيما غابات النخيل
يزيدني النظر والتأمل إيماناً بأن سكان هذا الإقليم هي هذه الأشجار المهيبة، وما أبناء نوعنا إلا ضيوف ظلالها. ترى عيناي الآن نخلة فخوراً متفردة، فلله كيف سمقت مزهوة، وكيف نمت وانتشرت عُسُبها وخوصها في أبهة وجلال. هذه النخلة تنادي في كبرياء وعظمة أن هذه التربة لها، وأن غيرها لا يستطيع أن يكون مالكاً طبيعياً لهذه الأرض
إذا ما انتهت غابات النخل بعماراتها الخضراء انطفأت الحياة على شاطئ النهر. فلا شيء يبدل قسوة الصحراء هناك إلا كثبان الرمال الشاحبة التي تبدو في الأفق صغيرة كأنها القبور؛ وإلى الجانبين بحر من الرمل ليس له ساحل. وها نحن أولاء نشق سكوت الصحراء وسكونها. لا حجر ولا شجر، ولا حيوان ولاظل، ولكن ضياء - ضياء مطرد يزيغ البصر من كل جانب. لا حركة ولا شية من حركة إلا ملاعب الضياء. وعلى
الكائنات التي حولنا ركود وصمت، وضياء محيط مسيطر، دائم لا يحول. يحسب الإنسان أن هذين الشاطئين لم يهتزا بالحياة قط، ولا دَّوى عليهما صوت قط، ولا وقع عليهما ظل قط، ولدا من الأزل بغير حياة، وذلك يذهبان إلى الأبد
انبسطت هذه الصحراء الذهبية الخالية من الأنس، والغُفل من الصناعة. ثم انبسطت حتى صارت جمالاً نائماً غير محدود
سأكتفي بتسجيل المشاهد صادقاً كالسينما محرراً من قيود البلاغة. هنا قرية فقيرة تؤلفها عدة من أكداس اللبن جاثمة على الرمل المقفر، مغبرة كالتراب، ميتة كالصحراء، أشد إقفاراً من الخرابة المهجورة، كأنما الرمال اختمرت ثم رّبت فكنت القرية. ولو لم أر نفراً من البُداة جالسين القرفصاء لظننت أن كلاب البحر أنشأت هذه القرية الحزينة. كذلك كانت في فقرها وحقارتها. . . ما أهل البادية إلا نبات بشري غريب، سيئ الجد، لا سعي دائب في الدماغ، ولا عمل عظيم في العضلات، كل قُوى حياتهم مصروفة إلى القعود والنوم والهضم والتناسل، ينمو وأحدهم كجذع نخلة فيكبر فيثمر فيجف. كذلك ترجمة كل أطفال البادية
إنما يشكو البدو أربعة أشياء: الذباب والحر والجوع والجُباة. فأما الذباب فيذبه، وأما الحر فيروحه بسعف النخيل، وأما الجوع فيدفعه بما يلتهم من الأرز الكثير، وأما الجباة فكلما ذكرهم حرق الأرم من تحت شاربيه
تتجلى روح الطفولة في بني الصحراء جميعاً، صغيرهم وكبيرهم؛ فمن كل شيء سرور وضحك، ومن أتفه الحادثات وسيلة إلى القيل والقال، والظل بل العدم ينطقهم ويضحكهم ساعات. وهم ما داموا أيقاظاً يتحدثون ويضحكون، ويضحكون ويتحدثون، والعالم عندهم لعبة كبيرة، وحادثات العالم لعب ولهو. البدوي يعمل قليلاً ، يعمل في غير جد، يعمل لتكرار ما أورثه آباؤه.
لا يحب التغيير، وهو غريب عن دخائل الاشياء، قد نسى الماضي، وتوهم الغد جنيناً لما تحمله أمه. وحساب ربحه وخسارته محدود بأربعة وعشرين ساعة. يسكره السرور ويتيمه اللون والرُّواء؛ مولع بالعطر والسكر، الصباح الذي يأكل فيه العسل سعيد، والمساء الذي يقاسي فيه البصل شقي، فبالعسل والبصل يتحرك ميزان سعادته. وإذا نالت يده رائحة
زكية، ولقمة حلوة، وامرأة مؤنسة، حسب نفسه أسعد ملوك العالم. فراشه الرمل، ولحافه السماء؛ وأجمل أحلامه غصن من الياسمين، وقدح من الجُلاب، وليلى لها عين غزال. قلتُ إنه طفل، طفل طيب. .
كل قرية لها توابع حيوانية جديرة بالتأمل فهذه إبلٌ راغية، هادرة، رازمة، تهزأ رقابها الطويلة بما حولها من الجُدُر والحظائر. وهذا قطيع من المعز ينتف جلد الأرض الهزيل، هذه الأشواك المغبرة. وهنا كلب ينبح السفينة من الساحل، وهناك دجاجات تطير من قمامة إلى أخرى. وفي الهواء عدد من الحمائم. وهذه جاموسة مدت رأسها إلى النهر ترى قرينها المزينين في جبهتها العاطلة من الفكر، وبين الحين والحين تطأطيئ إلى الماء لتشرب جرعة كبيرة من صورة السماء
وفي الفينة بعد الفينة يبرز رأس امرأة من كوة كوخ. ينشق فمها الحائر الأبكم عن ابتسامة ميتة، وجهها كله برقع من جلد متكنع. وكل زينتها وحليتها ولباسها ثوب في لون الطين. تحسب كل واحدة منهم جسداً بغير روح قد التف في كفن أسود. كذلك حُرمنَ الحياة. وينظرن إلينا نظرات مترددات - نظر الظبي إلى صياده. وكل رجل عندهن حاكم ظالم
أطفال البداة يثيرون في القلب أبلغ رحمة: أيديهم عصى ضامرة، وعيونهم يملؤها ابتسام مضطرب. وأبدانهم الراجفة في القُمُص الزرقاء نحيلةٌ شاحبة ضعيفة هامدة؛ يطيرون وراء السفينة ساعات من أجل ثمرة واحدة. أو لقمة من الخبز. صائحين ضاحكين. ينقطون الساحل بأشباحهم السوداء
وا رحمتاه لأطفال البادية البائسين!
مهما يكن العلمَ الخافق فوق الصحراء فان لها حاكماً طبيعياً هو الشمس
الشمس توقد هنا كل موجود، وتُلهب كل شيء: كل الأشياء التي حولنا تسبح من الشروق إلى الغروب في ملاعب نورية مختلفة الألوان. وستتقلب السماء والتلال والأرض والأفق حتى ماء النهر كل يوم من الفجر إلى الشفق، في دقائق من ألوان الورد والبنفسج، والذهب والزمرد، والياقوت والفيروزج. وهنا يولد الضياء كل يوم ويتلون ويتلألأ، ويتحلل ويتجمع، ويذوب ويغيب.
ثم يستأنف الليل حياته في مطر من النجوم يتجلى في قاع النهر
نشهد الآن اجمل الساعات - ساعة أفول الشمس، والنهر والآفاق مغشاة بأشعة العقيق والكهرمان. وينبعث على ظهر السفينة صوت مؤذن ينادي للصلاة - هذا النداء المرتعد في سكون العشى، هذا النداء البلوري، الذي يملؤه الوجد، وتتقسمه السكتات القصيرة، يطير فيعلو، فيصعد إلى العيون، كأنما يبلغ سدة الخالق العظيم. الله أكبر. الله أكبر. . . .