المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 820 - بتاريخ: 21 - 03 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 820

- بتاريخ: 21 - 03 - 1949

ص: -1

‌هل الشقاق طبع في العرب؟

جواب عن سؤال

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وأما ما ذكرتموه عن رأي ابن خلدون في هذه القضية، فهو أيضاً في حاجة إلى إنعام النظر.

فقد نقلتم الفقرات التالية، من مقدمة هذا المفكر العظيم:

(والعرب أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة؛ فقلما تجتمع أهواؤهم من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر من الدين على الجملة).

أنا أعرف أن ابن خلدون أبدى هذا الرأي في مقدمته المشهورة، ولكني أرى من الضروري أن نفطن جيداً إلى ما يقصده من كلمة العرب الواردة في هذه الفقرات؛ ثم نبحث عن نصيب رأيه هذا من الصحة والصواب.

من الأمور التي يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام - حين نقرأ مقدمة ابن خلدون ونستشهد بها - أن مؤلفها كان يقصد من كلمة (العرب) العربان بوجه خاص وفقاً لما هو متعارف بين العوام -؛ ولم يقصد قط أفراد الأمة العربية بوجه عام كما نفهمها ونتصورها نحن الآن.

إنني سردت الأدلة الكثيرة التي تبرهن على ذلك برهنة قاطعة في عدة مقالات نشرتها في بيروت وبغداد وفي فصل خاص من الدراسات التي كتبتها عن مقدمة ابن خلدون، ولا أرى لزوماً إلى إعادة تلك البراهين والأبحاث في هذا المقام. ولما كانت الدراسات المبحوث عنها قد نفذت، رأينا أن ننقل هنا نموذجين من البراهين المسرودة فيها، وقد انتخبنا أحدها من القسم الأول من المقدمة، والثاني من القسم الأخير منها، قلت:

(فلنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون (إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب) ولننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل رأيه هذا:

ص: 1

(فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لتصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني فيخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد لبيوتهم فيخربون السقف عليه. . .)(ص 149).

ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام. ولا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال (لا يحتاجون إلى الحجر إلا لوضع القدور، ولا إلى الخشب إلا لتصب الخيام) لم يفكر قط في أهل دمشق أو القاهرة، ولا بسكنه تونس أو فاس. إنما قصد أعراب البادية وحدهم. وقال:

(وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها. وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها)(ص 544).

يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة العرب مرتين مقابلاً لكلمة الحضر، بشكل لا يترك مجالاً للشك في أنه يقصد منها البدو على وجه التخصيص ويخرج من نطاق شمولها الحضر على الإطلاق. غير أني أرى من الضروري أن ألفت الأنظار إلى موضع الفقرات الآنفة الذكر من أبحاث المقدمة: إن تلك الفقرات مستخرجة من الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني؛ وعنوان الباب المذكور هو: (العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال). وذلك أيضاً يدل على أن ما جاء في هذه الفقرات ينصب على الذين يعيشون في حالة البداوة، ولا يشمل الذين يعيشون في المدن. ومن المعلوم أن أحوال المدن تكون موضوعات البابين الثالث والرابع من المقدمة. والفقرة الآنفة الذكر لا تدخل في نطاق البابين المذكورين.

وبناء على كل ما تقدم يحق لنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذه القضية - وفق أسلوب كلامنا الحالي - بالعبارات التالية: (إن العرب - عندما كانوا في حالة الفطرة والبداوة - لم يستطيعوا أن يؤلفوا دولة ويؤسسوا ملكاً، إلا عندما تأثروا بدين أو ولاية تزيل عنهم التحاسد والتنافس، وتحملهم على الانقياد والاجتماع).

ومن الغريب أن كلمات ابن خلدون في هذا المضمار - عندما تفرغ في هذا القالب - تصبح موافقة تمام الموافقة للنظرية التي توصل إليها علماء الاجتماع في العصر الحاضر

ص: 2

عن منشأ الملك بوجه عام: لأن أصحاب هذه النظرية يقولون إن الممالك لم تتكون في بادئ الأمر إلا بفضل المعتقدات الدينية.

إن الأبحاث التي قام بها عدد كبير من العلماء والمفكرين - مستندين إلى المعلومات التي جمعوها عن أحوال الأقوام البدائية من جهة، وعن تواريخ الدول القديمة من جهة أخرى - قد أوصلتهم إلى هذه النظرية. فقالوا: إن تكون الجماعات السياسية الكبيرة والممالك العظيمة، في القرون القديمة، لا يمكن أن يفسر إلا بتأثير الاعتقادات الدينية، على اختلاف أنواعها وأطوارها. فالاعتقاد بقوى خارقة للعادة - من الاعتقاد بالقوى السحرية إلى الإيمان بالقوة الإلهية - هو الذي مهد السبل إلى تكون الجماعات الكبيرة واستقرار الحياة السياسية. . . في أطوار البداوة والهمجية.

وقد كتب الباحث الإنكليزي المشهور (فرايزر) كتاباً ضخماً ضمنه أمثلة وبراهين كثيرة، تدل على أن الملكية نشأت من الاعتقادات السحرية: كان الناس يخضعون للملك، لاعتقادهم بأنه يتمتع بقوة سحرية، وكانوا يرون من الطبيعي أن يخلفه ابنه، لاعتقادهم بأن هذه القوة السحرية تنتقل منه إليه

وقد برهن المؤرخ الفرنسي المشهور (فوستل دو كولانثر) - في كتابه (المدينة القديمة) - أن الحياة السياسية عند اليونان والرومان أيضاً قامت على بعض الاعتقادات والعبادات.

وقد لاحظ جميع المؤرخين أن الاعتقادات الدينية تلعب دوراً هاماً في سياسة دول القرون الأولى. والاعتقادات الدينية السياسية اجتازت مراحل عديدة ومتنوعة: الملك إله. . . الملك ابن الإله. . . الملك من نسل الآلهة. . . الإله يتقمص جسد الملك. . . الإله ينفخ في الملك شيئاً من روحه. . . الإله يمد الملك بالهاماته. . . هذه أشكال مختلفة - وأطوار متتالية - من الاعتقادات التي كانت تربط الملكية بالدين، وتساعد على جمع طوائف كبيرة من الناس تحت إدارة واحدة في تلك القرون القديمة.

أنا لا أرى هنا مجالاً لذكر الأمثلة والبراهين والنصوص التي تؤيد هذه النظرية. ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى كتاب (تيارات التاريخ العالمي العظيمة) الذي نشره أخيراً (جاك بترن) أستاذ التاريخ في جامعة بروكسل. تصفحوا المجلد الأول من هذا الكتاب القيم، (وهو المجلد الذي يلخص التطورات التاريخية التي حدثت في العالم منذ القدم حتى ظهور

ص: 3

الإسلام)، تجدوا في فصل من فصوله تقريباً بعض الأبحاث التي تنم عن الترابط المتين الذي كان قائماً في تلك العصور القديمة بين تطور الحوادث السياسية وبين تقلب المعتقدات الدينية.

لا شك في أن الحروب كانت تلعب دوراً أساسياً في توسع الممالك وتكون الامبراطوريات: فإن ملك قطر من الأقطار يستولي على مدن وأقطار أخرى بقوة السلاح، ويوسع حدود ملكه عن طريق الفتوح العسكرية. غير أن نتائج هذه الفتوح ما كانت تدوم وتستقر، إلا إذا دعهما شيء من التفاعل والتزاوج والتلاقح بين معتقدات البلاد الفاتحة وبين معتقدات البلاد المفتوحة، وهذا التفاعل كان يأخذ أشكالاً مختلفة: تارة كان الاعتقاد ينتشر بأن آلهات جميع تلك البلاد لا يختلف بعضهم عن بعض إلا بالأسماء؛ فكان يصبح الملك ممثلاً لآلهة البلاد الفاتحة والمفتوحة على حد سواء. وطوراً كان بتولد الاعتقاد بأن إله الملك الفاتح هو الإله الأكبر. وأما آلهة البلاد المفتوحة فهي من أتباع ذلك الإله الأعظم. . . وعلى كل حال كانت هذه المعتقدات - وأمثالها من المعتقدات المتنوعة - تساعد إلى حد كبير على خضوع أهالي البلاد المفتوحة للحكم الجديد خضوعاً نفسياً، فكانت تقلل أو تزيل الحاجة إلى استعمال القوة والقسوة لإدامة ذلك الخضوع.

ولا أراني في حاجة إلى القول بأن أمثال هذه المعتقدات الدينية السياسية، ما كان يمكن أن تدوم بعد انقضاء عهود الوثنية القديمة، ومع هذا أرى من الضروري أن أشير إلى نظرية (سياسية دينية) سادت على الأذهان في أوروبا - في عهد تكوين الممالك - حتى القرن الثامن عشر: وهي نظرية القائلة (بأن الملوك يحكمون بتفويض من الله). ومما لا مجال للشك فيه أن هذه النظرية كانت بمثابة (الأصداء الأخيرة) لتلك المعتقدات القديمة التي شرحناها آنفاً.

وخلاصة القول أن الأبحاث التاريخية والاجتماعية تدل دلالة قاطعة على أن خضوع الناس إلى أحكام السلطات، لم يتيسر في بادئ الأمر - إلا بفضل المعتقدات الدينية.

ويظهر من ذلك - بكل وضوح - أن ما قاله ابن خلدون في مقدمته المشهورة، عن العرب في طور البداوة، لا يختلف عما يقوله العلماء والمفكرون والمعاصرون عن الأمم القديمة بوجه عام.

ص: 4

فنستطيع أن نقول - بكل تأكيد - أن تاريخ العرب لا يشذ عن تواريخ سائر الأمم، من هذه الوجهة أيضاً.

بعد هذه النظرات الانتقادية التي وجهناها إلى المقدمات التاريخية، يجدر بنا أن نرجع إلى السؤال الأصلي، لنرى: هل الشقاق طبع في العرب؟

إن المقارنات التي قمنا بها آنفاً بين تاريخ الأمة العربية وبين تواريخ الأمم الأخرى من وجهة الشقاق، تسهل علينا الإجابة عن هذا السؤال إجابة مبنية على قياس صحيح واستقراء تام.

إن الشقاق وليد الأنانية، والأنانية طبع غريزي في الإنسان، وجماح هذه الأنانية لا يكبحها إلا التربية الاجتماعية المتينة، والتشكيلات الحكومية القوية، والنزعة المثالية الفعالة، والإيمان الديني أو القومي أو الوطني العميق.

ففي كل أمة من أمم الأرض، وفي كل دور من أدوار التاريخ يظهر أناس تتغلب في نفوسهم الأنانية على العوامل التي ذكرناها آنفاً، ولكن الرأي العام من جهة، والقوانين الموضوعة من جهة أخرى، تعاقب هؤلاء وتعزلهم عن المجتمع بصور شتى ووسائط متنوعة، وتجعلهم عبرة للآخرين، فتحول بذلك دون استفحال هذه الأنانية وانتشارها بين الناس.

غير أنه يأتي أحياناً في كل أمة من أمم الأرض بعض الأدوار من التاريخ تضعف فيه هذه القوى الوازعة فتتفلت الأنانيات عقالها، ويتضاءل تأثيرات الرأي العام فيها، فتقل سلطة الحكومات عليها، وكل ذلك يؤدي إلى ازدياد الشقاق وانتشار الخلاف بين الناس.

هذا ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث في كل أمة من الأمم، وفي جميع أدوار التاريخ.

وليس في طباع العرب ما يجعلها شاذة عن سائر الأمم في هذا المضمار.

هذا هو جوابي، يا صديقي الأستاذ، عن السؤال الذي وجهتموه إلي.

لا يوجد في طباع الأمة العربية ما يجعلها شاذة عن سائر الأمم في أمر الاتفاق والانشقاق.

يجب علينا أن نعرف ذلك حق المعرفة، كما يجب علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً بأن طبائع الأمم لا تبقى على وتيرة واحدة على مر العصور. وقد صدق من قال: (إن من يتوهم الاستقرار في طبائع الأمم كمن ينشد البقاء في الموجات التي تحدث على سطح الماء عندما

ص: 5

ترمي حجراً فيها).

فإن الماضي لا يقيد الحال تقييداً مطلقاً. وتحقق الوحدة والاتفاق في الماضي لا يكفي لدرء أخطار التفرقة والشقاق في الحال كما أن، حدوث التفرقة والشقاق في الماضي لا يمنع الاتحاد في المستقبل.

فيجب علينا أن نتخلص من نزعة الانشغال بالماضي كثيراً، وأن نقلع عن الالتفات إلى الوراء دائماً. فلا يجوز أن نحاول تبرير مساوئنا الحالية بنقائض أسلافنا الأقدمين، ولا أن نسعى لإلقاء مسئولية نكباتنا على عاتق تاريخنا القديم، ولا يسوغ لنا - على وجه خاص - أن نستسلم إلى دواعي الخور والكسل، وأن نتقاعس عن الكفاح والعمل، بحجة أن الحالة الحاضرة نتيجة حتمية لطبائع الأمة ولمجرى تاريخها العام.

إننا لم نستجمع قوانا المادية والمعنوية، ونحشدها لتحقيق هدفنا الأسمى بل إنما علمنا بتراخ وتردد بدون عزم قوى وتنظيم متين وإيمان عميق فأضعنا بذلك فرصاً كثيرة،

ومهما يكن الأمر، يجب علينا أن لا نقطع الأمل في النجاح في المستقبل، وأن لا نتأخر عن إعادة الكرة بإيمان أعظم، إذ يجب علينا أن لا ننسى أنه ما من أمة وصلت إلى الكمال الذي تنشده إلا بعد أن اجتازت عقبات كثيرة، وذاقت مرارة الفشل مرات عديدة، واضطرت إلى تضحيات كبيرة.

إن الأمم الحية الوثابة تتعظ بالنكبات فتندفع إلى العمل وتواصل الكفاح بحرارة أشد وعزم أمتن، كما أنها تغضب من الفشل وتستفيد من دروسه فتعيد الكرة لتضمن النجاح ولو بعد حين.

وأستطيع أن أقول: إن االايمان المتواصل القوي العميق بإمكانيات أمتنا، والعمل المتواصل لتحقيق غايتنا، والاستعداد التام للكفاح مصحوبا بروح التضحية الحقيقية، ومدعوماً بالأمل الذي لا يقهر!

، وكأني أسمع سلسلة أسئلة اعتراضيه تقابل ما قلته آنفاً:؟ ألا تلاحظ فظاعة الاختلافات التي تهز كيان جامعة الدول العربية هزاً عنيفاُ؟ ألا تشعر بالأخطار التي صارت تهدد مستقبلنا في عقر دارنا؟

بلى، إني أدرك واشعر وألاحظ كل ذلك إدراكاً تاماً وشعوراً عميقاً وملاحظة دقيقة، وأتألم

ص: 6

من كل ذلك ألماً شديداً.

وهل كان فشل مؤتمر فرنكفورت في ألماني - قبل قرن واحد من يومنا هذا - أقل خطراً من فشل مجلس جامعة الدول العربية هذه السنة؟ ألم يقل بعض الساسة - عقب انحلال المؤتمر المذكور - (أن الألمان فقدوا حتى قابلية الدفاع عن أنفسهم؟) ألم يتساءل بعض الكتاب عندئذ قائلين: (أين هي ألمانيا؟ هل لها وجود في غير مخيلة بعش الشعراء وأحلام بعض رجال السياسة)؟ ومع ذلك، ألم تتحقق وحدة ألمانيا في حياة الكثيرين من حضروا مؤتمر في نكفورن الفاشل؟

وبناء على هذه الملاحظات أقول بلا تردد: لا يجوز لنا أن نترك مجالاً لتسرب الخور والقنوط إلى أنفسنا ويجب علينا أن نعلم علم اليقين: أن النكبة لا تصل إلى حدها الأقصى إلا عندما تثبط العزائم، كما أن الفشل لا يصبح تاماً إلا عندما يؤدي إلى التقاعس عن مواصلة العمل والكفاح. . .

فعلينا أن نحذر كل الحذر من العمل على زيادة النكبة وإتمام الفشل. . بالاستسلام إلى القنوط والخور. . .

أبو خلدون ساطع الحصري

ص: 7

‌روسيا والسلم

للأستاذ عمر حليق

هناك تعليلان في رأي (ماكس بيلوف) للأسباب التي دعت موسكو مؤخراً لأن تحمل غصن الزيتون وتواجه خصومها حلفاء الغرب أمام الرأي العام العالمي بأنها دعاة حرب لا يرضون الدخول في مفاوضات مباشرة لتدعيم السِّلْم في هذا الجو الذي ازداد توتراً.

أما التعليل الأول فيقول بأن روسيا جادة في حملتها السليمة الأخيرة، وأن التحطيم الذي أصاب المدن والعساكر الروسية في الحرب المنصرمة هو تحطيم طاحن لا يزال هوله يسيطر على مخيلة الشعب الروسي فهو يخشى الحرب حقاً ويبغي السلم، وأن حالته النفسانية هي كحالة معظم سكان أوربا الذين نالتهم المجزرة الأخيرة بوبلاتها. ولذلك فإن هذا التعليل يجد من يؤمن به من الأوربيين خصوصاً أتباع الأحزاب اليسارية التي تميل إلى مسايرة السوفيات. ويقول أنصار هذا التعليل كذلك أن العقلية الروسية ليست عقلية عسكرية كعقلية الشعوب الجرمانية، وذلك فإن حرباً طاحنة كالحرب المنصرمة كانت كافية لأن تزيل غشاوة العنف والغطرسة العسكرية عن أعين الروس فتجعل رغبتهم في السلم حقيقية.

أما التعليل الثاني فيقول إن مراكز التوجيه في قيادة روسيا السوفيتية اليوم في يد جماعة من المتهوسين وهم مسؤولون عن مسلك موسكو الحالي في العلاقات الدولية، وأن ستالين هو أسير هذه الجماعة التي منها مولوتوف وزير الخارجية وكبار قادة الجيش السوفيتي. وأنه لو تسنى لأحد أن يخترق هذا الحصار المضروب على ستالين - كما فعل عدد من الصحفيين الأجانب في موسكو مؤخراً - لوجد أن لديه استعداداً حقيقياً للسلم. ويبدو لي أن المستر ترومان ومتشاوريه الخصوصيين في البيت الأبيضمن أنصار هذا الرأي. فهم يعتقدون خطأ أو صواباً بأن ستالين رجل (طيب القلب) على حد تعبير ترومان يرغب في السلم لو تخلص من أسر (البوليت بيرو) المكتب السياسي الأعلى للاتحاد السوفيتي.

هذان هما التعليلان اللذان يقومان لتفسير حملة السلم التي صدرت عن القيادة الشيوعية الدولية في الأسابيع الأخيرة. ولنا أن نتساءل أولاً: هل الروس راغبون في السلم حقاً؟ وإذا اقتنع حلفاء الغرب بهذه الرغبة، فلماذا لا يمدون يدهم للروس لتدعيم السلام في نية

ص: 8

صادقة؟

والجواب على هذا التساؤل صعب. فإن تاريخ السوفيات في روسيا يشير إلى سرعة التقلب في سياسة روسيا الخارجية عندما تتطلب منها الظروف ذلك. وخير مثل على ذلك اتفاق روسيا وألمانيا النازية في مطلع الحرب العالمية الثانية بالرغم مما في المذهبين (الشيوعي والنازي) من التناقض والمعاداة والتنافس. ومن أبرز الأمثلة على التقلب موقف الشيوعية السوفيتية من الصهيونية التي وصفها ستالين في كتاب (الماركسية ومشاكل الأقليات والاستعمار) الذي صدر سنة 1920 بأنها (حركة رجعية انتهازية، وأنها وليدة الاستعمار الغربي). وقد كانت الصهيونية محرمة في روسيا ومضطهدة إلى ما قبل بضع سنوات (عام 1943)، وكانت تحارب في السر والعلانية. قارن هذا الموقف الروسي بحاضر العلاقات بين موسكو ويهود فلسطين والتحالف السوفيتي الصهيوني تر عنصر هذا التقليد الانتهازي في سياسة السوفيات الخارجية. وهو في الواقع تقلب لا تخلو الدبلوماسية الدولية إجمالاً منه وإن كان يبدو عادياً في سلك السوفيات.

فقد تكون إذن حملة السلام الروسية الجديدة خطوة انتهازية جديدة يتطلبها الموقف الدولي، دفع إليها حمل الشعوب في المعسكر الغربي على الحد من برامج التسلح الهائلة التي تندفع الآن دول الحلف الغربي في تنفيذها. والضرب على وتر السلام الحساس في البلدان الديمقراطية خصوصاً في الولايات المتحدة يجد صداه في مجتمع يشكو من ارتفاع الضرائب التي تتطلبها هذه الالتزامات الضخمة التي تفرضها مشاريع مارشال وشريعة ترومان والبرنامج الجديد لتوسيع هذا النوع من الحرب الاقتصادية في بلدان الشرق والقارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية.

هذا بالإضافة إلى أن حدة الموقف الدولي تفرض تعاوناً وثيقاً بين بريطانيا وأمريكا، فإذا خفت هذه الحدة وشاعت الرغبة في السلام التي تذكيها حملات ماهرة كحملات الشيوعية الدولية فإن هذا التعاون الإنجلوسكسوني سيفتر بينما تمضي روسيا قدماً في برامجها المنظمة التي تتقيد - في ظل الاقتصاد الماركسي الموجه - بتحالف ثنائي في مجال الاقتصاد والاستعداد العسكري في القارة الروسية على الأقل.

فمن خبراء الشؤون الروسية إذن من يقول بأن هذه الخطوة الروسية السليمة ليست إلا

ص: 9

تكتيكاً لا يستر حقيقة المقاصد والغايات. ويؤكدون بأن رسوخ النظام السوفيتي في روسيا اليوم ورسوخ العقيدة الماركسية في أدمغة حملتها تجعل التقلب في التصريحات والمسلك الخارجي أمراً سهلاً يستطيع الروس اللجوء إليه دون أن يبدلوا حقيقة سياستهم من خصومهم من برامجهم الواقعية لبلشفة العالم. ولنا في الصهيونية مثل على هذه الحقيقة. فكلنا يعلم كيف أن الأحزاب والجماعات اليهودية في فلسطين والعالم إجمالاً كانت ولا تزال تتوفى هدفاً واحداً هو السيطرة على نقطة التركز في الشرق الأوسط، وأن السياسة الصهيونية كانت ولا تزال تتقلب تبع الظروف الطارئة، فمرة وطن قومي، ومرة حكم ثنائي، ومرة تقسيم محدود بدون شرقي الأردن، وبعد ذلك - حين تواتي الظروف - أرض الميعاد بحدودها الطبيعية وهي تشمل أجزاء من مصر وسوريا والعراق ولبنان. فوابزمان كستالين كان ولا يزال يتلاعب بتصريحات تتلاءم مع الظروف الحالية. والمتتبعون لتطور المسلك الصهيوني يدركون ذلك تمام الإدراك.

فالتقلب في سياسة روسيا الخارجية، يعود إلى ثقة صناع السياسة في الاتحاد السوفيتي من رسوخ النظام الذي يسومونه خصوصاً وأن وسائل المواصلات الفكرية بين الشعب الروسي والعالم الخارجي خاضعة لمراقبة توجيهية دقيقة يتولاها خبراء مهرة مما يجعل للتصريحات الروسية الرسمية طابعين: طابعاً للاستهلاك الخارجي، وآخر للداخلي. وليس من الضروري أن يتناسق الطابعان. وهذا في الواقع مسلك تقليدي في الدبلوماسية الدولية، ولكنه لا يتخذ طابع الاتقان الذي يتخذه في ظل الحكم السوفياتي المطلق.

وعلى أساس هذا الاستقرار في النظام الشيوعي في روسيا كان خبراء الانجلوسكسون يعتقدون بأن برامج (البوليت بيرو)(والكومنفورم) الشيوعية الدولية لبلشفة العالم كهدف أساسي جوهري لتدعيم الشيوعية في روسيا والدول الشيوعية الأخرى - هذا البرنامج لا يزال موضوع العمل عند السوفيات، وعلى هذا الأساس، فلا صحة لادعاء الماركسيين الأخير بأن الشيوعية والرأسمالية والنظم الأخرى تستطيع أن تعيش بسلام في عالم واحد.

والحقيقة التي يشير إليها هؤلاء الخبراء (ومنهم بوهلن مستشار وزارة الخارجية الأمريكية) هي أن جوهر الفلسفة الماركسية يصر على أن لا حياة للدول والشعوب الشيوعية المبدأ والنظام في عالم فيه شعوب ودول لا تدين بهذا المبدأ. وهذا الإصرار الماركسي يستند إلى

ص: 10

نظريات في الاقتصاد وعلم الاجتماع تحللها العقيدة الماركسية على طريقتها الدياليكتكية الجدلية، وليس المجال هنا لبحثها.

إذن فإن دعوة للسلم تأتي من جانب السوفيات هي في الواقع اكتساب للوقت، وعرقلة برامج التسلح، وإثارة الوقيعة بين خصوم حلفاء الغرب وهذه جميعها - ككل خطوة من خطوات السوفيات - تستند إلى تحليلات علمية - علمية لأنها مستمدة من السياسة الروسية المنظمة - وهي كالاقتصاد الموجه ومشاريع الخمس سنوات الاقتصادية تلتزم الدقة وتؤمن بالنتائج على أساس هذه الدقة.

وعلى أسس هذه السياسة الموجهة فإن السوفيات يعتقدون بأن، كل مجتمع لا يدين بالشيوعية ولا يسير بموجب الاقتصاد الماركسي الموجه مآله إلى التفكك، فهناك مشاكل التضخم المالي وبلبة التوزان التجاري وصراع العمال وأصحاب العمل مما يخلق مشاكل اقتصادية واجتماعية تؤدي إلى الثورة العمالية وتطرح بالنظم الرأسمالية في المراحل النهائية.

ولما كانت روسيا غير مستعدة الآن للحرب استعداد خصومها فمن الخير إطالة مدة الاستعداد وإيهام الدول الرأسمالية والرأي العام الدولي بالرغبة الصادقة في السلم، وفي ذلك مكسب مزدوج؛ فهو يحقق النبوءة الماركسية في تفكك المجتمع الرأسمالي - كما تشير علانية إلى ذلك الدراسات السوفيتية للاقتصاد الأمريكي المعاصر - وهو يعطي روسيا متسعاً من الوقت للاستعداد.

والماركسية فوق ذلك تعتقد بأن، طبيعة التجمعات الرأسمالية متنافسة تسعى لالتهام بعضها البعض - وهذا التنافس أصيل مبعثه طبيعة النظم الاقتصادية على ظل الرأسمالية (والاشتراكية الغربية كبريطانيا ليست ماركسية حقة عند السوفيات) ولذلك فإذا نجحت روسيا في تخفيف حدة الموقف الدولي استطاعت أن تسبب فتوراً في شدة التحالف الأمريكي البريطاني وتترك النظم الرأسمالية تكتسب طبيعتها المتنافسية فيقوض بعضها البعض بدل الاتحاد. على تفويض الروس بأي ثمن.

ويستنتج من هذا كله - والاستنتاج نظري في أكثره - أن روسيا تعلم بأنها عاجزة الآن عن الكفاح المسلح لتعميم المذهب الشيوعي في كل مكان على أنقاض النظم والمجتمعات

ص: 11

التي لا تؤمن بالماركسية - وهذا العجز قصور عن مجاراة المستوى الصناعي والقوة والدعامة المالية المتوفرة في المعسكر الغربي في الآونة الحالية على الأقل - وأنها تنهج سياسة عاجلة مؤقتة لتحقيق الحدة في معسكر الخصم عن طريق التلويح بغضن الزيتون.

وفوق ذلك فقد تكون تجربة المارشال تيتو في يوغسلافيا حيث مازج بين القومية المحلية الضيقة وبين النظام الماركسي، وما يشاع من أن الشيوعيين الصينيين ينوون الاقتداء بتيتو - هذه التجربة جعلت موسكو ترى أن المجتمعات الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي قد لا تقبل الرضوخ مباشرة للكومنفورم والبوليت بيرو وإن كانتا تشبهاتها في الاتحاد الفكري والأهداف. فإن النظام السوفيتي في روسيا قد جعلت من القيصرية الروسية الصارمة مجتمعاً روسياً يستسلم بسهولة للحكم المركزي المطلق. وهذه حالة فريدة قد لا تنطبق على كثير من المجتمعات الأخرى خصوصاً في أواسط أوروبا وشرقيها حيث تكثر الأقليات العنصرية والطائفية وعداؤها للحكم المركزي تقليدي. والواقع أن لينين وستالين قد أوليا مشكلة الأقليات دراسة وافية.

وهذه - كما نرى - حالات تصعب معالجتها على يد موسكو في جو دولي متوتر، ولذلك فإن مراكز التوجيه في معسكر حلفاء الغرب تنظر إلى غصن الزيتون الذي حملته موسكو في الآونة الأخيرة على أنه مناورة بارعة في الصراع الدولي لا يلاقي رد فعل إيجابي لدى حلفاء الغرب.

وهذا يعني أن مشاكل السلم الحقيقية لا تزال على ما هي عليه من الخطورة السريعة الانفجار.

(نيويورك)

عمر حليق

معهد الشؤون العربية الأمريكية في نيويورك

ص: 12

‌صور من الحياة:

فتى من الريف

للأستاذ كامل محمود حبيب

قال صاحبي: جئت إلى القاهرة - أول ما جئت - لألتحق بالأزهر، وكانت أمي قد نذرتني للقرآن، ونذرني أبي للعلم؛ فأنا وحيدهما، وأنا أمنيتهما على الله حين أحسا بالوحدة وقد خلت الدار من الحياة والحركة لأنها خلت من مرح الطفولة وجمالها، وحين شعرا بأن تاريخهما على الأرض يوشك أن ينبت فما لهما ولد، وحين عاشا زماناً يجدان لذع القحط والجفاف، جئت إلى القاهرة وأنا فتى ريفي لا أعرف المدينة إلا معنى يقع على أوتار أذني موقع النغم الموسيقي العذب، فينجذب له قلبي وتنبسط أساريري، ثم رأيتها فإذا هي نور يخطف البصر، وحركّة يتفزَّع لها القلب، وثورة يحار لها الفؤاد، وحياة دائمة مضطربة لا تنام ولا تخبو. وبدت عليَّ سمات الحيرة والارتباك، فإنه ليزعجني أن أسير في الشارع خفية المدنيّ أن يمكر بي وله أفانين شيطانية تسخر من بساطة الريفي وسذاجته، وخيفة السيارة أن تصفعني ومالي عهد بأساليب الحيطة والحذر، وخشية الترام أن يحطمني وبه نهم دائم إلى لحم البشر يتأرَّث ولا يشبع. ليتني كنت أستطيع أن أغدو وأروح في شوارع القاهرة أتهادى في مشيتي، وأختال في جبتي، وأفخر بعمامتي، وتحت إبطي محفظة بها وريقات صفر لا أعي مما فيها حرفاً!

وكان أبي رحمه الله قروياً، نشأ وتربى في الريف لا يبرحه إلا لماماً، أتسم بسماته وانطبع بطابعه، والريف ينفث في بنيه روح الكسل والتواكل، فهو يقضي ساعات الشتاء يستمتع بالدفء والفراغ، ويطوي عمر الصيف يستروح النسمات الهينة اللطيفة في ظل شجرة، يجلس إلى رفاقه على المصطبة يتجاذبون أخبار القرية، أو يتربعون على الثرى يلعبون السيجة، أو يعقدون المجالس الصاخبة يشربون الشاي الأسود. ولا همَّ له - من بعد - إلا أن ينظر - بين الفينة والفينة - إلى النبت وهو ينسرب من بين الثرى لينمو رويداً رويداً، وإلا أن يرقب البهائم وهي ترعى البرسيم في هدوء وعلى مهل. وسكن أبي إلى هذه الحياة وهي تنطوي على نسق واحد، فأصبح لا يطيق صخب المدينة ولا يصبر على ضجتها. ولكنه ما يستطيع أن يقذف بي إلى القاهرة وحيداً، وهو لا يطمئن إلى واحد من

ص: 13

شباب القرية وطلابها ممن تزخر بهم المدينة لأن فيهم الغفلة والطيش، ومرت الأيام وأبي لا يستقر على رأي.

ثم عهد بي أبي - بعد لأي - إلى الشيخ فهمي وهو شيخ كبير من شيوخ القرية، نيف على الخمسين ولما يبرح طالباً في الأزهر، يأتي إلى الجامع بين الحين والحين، يجلس إلى أستاذه ساعة أو بعض ساعة، ثم ينفلت إلى القرية في غير تمهل ولا تلبث. وهو حريص على أن يظل طالباً في الأزهر على رغم أنه لا يطمئن إلى حلقة الدرس، ولا يُعني بالقراءة والمطالعة، ولا يأخذ نفسه بالمذكراة والحفظ، وهو ضنين بمسكنه في القاهرة، وهو حجرة ضيقة قذرة، لا تتنسم هبّات الهواء النقي، ولا تغتسل بأشعة الشمس الدافئة، ولا ينفتح جفناها على نور، ولا ينتفض عن جنباتها الغبار، عُطَلُ من الأثاث إلا من حصيرة بالية لا تكاد تستر أرض الحجرة، وإلا من مخدة ولحاف مشت عليهما أحداث الزمن فتركتهما مزقاً لا تتماسك، وإلا من صندوق ضم أشتاتاً من حاجات الطالب العزب، مبعثرة متناثرة في غير عناية ولا ترتيب: ففيه الخبز والغموس، وفيه اللباس والمنشفة، وفيه الكوز والإبريق، وفيه. . . وفيه الكتاب والحذاء، وإلا من زير مهجور في ضاحية وإلى جانبه موقد. . . وعاش هذا الشيخ بين القرية والقاهرة، وانطوت السنون فما أفاد علماً ولا أصاب عقلاً ولا بلغ غاية، غير أنه عرف مسارب القاهرة ومنعطفاتها.

وتنازعتني عاطفتان متناقضتان نحو هذا الشيخ - رائدي - فأنا أطمئن إليه لأنه يكشف أمامي الطريق، وينير لي متاهات القاهرة ومضلاتها، وغداً يفتح أمامي باب الأزهر فأدخله لأول مرة وعلى شفتي ابتسامة وعلى هامتي كبرياء، أدخله طفلا يستشعر الرجولة الباكرة والشباب المتوثب والرزانة المتكلفة، وغداً يريني شيخي وهو في رأي عيني لا يبذني بشيء سوى لحيته البيضاء المرسلة التي تبعث في من حواليه المهابة والاحترام والخوف، وأنا - إلى ذلك - أمقته لأنني أحس فيه معنى من معاني جهلي، وعلامة من علامات ضعفي، فأنا لا أستطيع أن أتبين طريقي إلا حين يسير إلى جانبي. وأنا أحتقر عقله، فكيف يبلغ هذه السن وهو ما يزال طالباً لم يظفر بالشهادة ولا بلغ مبلغ العلماء! واكره رجولته وهي قد تضاءلت في ناظري حين دخلت الحجرة التي يسكن فوجدتها على تفاهتها وقذارتها تضطرب في غير نظام، وتموج بدو يبات الأرض. وأبغضه حين يتكلف العطف ويتصنع

ص: 14

الحنان، وهو لا يحس شيئاً من هذه العاطفة، فهو رجل قفر ممحل، عزب لم يشهد معنى الأبوة، ولا ذاق لذة الابن!

وأراد رائدي أن يغريني بأن أتخذ من حجرته مسكناً فما رضيت، وكيف أفعل وأنا قد رأيت (السام الأبرص) يدرج على جدرانها فسرت الرعدة في مفاصلي، وإني لأخاف هذه الحشرة وأبغضها وأتفزَّع لرؤيتها. هذه الحجرة قد بعثت في الانقباض والضيق، واستشعرت لدى بابها أن خواطري الجميلة قد انهارت كلها، خواطري التي حاكها خيالي منذ أن غادرت القرية، ومنذ أن هبطت القاهرة لأرى الحياة والحركة والنور. أين النور المتدفق وهو يغمر الشوارع والمنعطفات ويسيل من المنافذ والأبواب؟ أين ضجة الحياة وهي تصاعد صيحات تهتز لها أرجاء السماء؟ أين النشاط والحركة؟ أين المرح والسعادة؟ لقد توارى كل أولئك خلف جدران هذه الحجرة. يا عجباً! كيف يعيش الظلام إلى جانب النور، ويطمئن الهدوء إلى جانب الضجة، ويحيا الصمت إلى جانب الضجيج، وتستقر الذلة إلى جانب الكبرياء؟ ويهدأ الصغار إلى جانب السمو، ويلصق الشقاء إلى جانب السعادة؟ وسيطرت علي الدهشة فسلبتني من خواطري اللذيذة، وتبين لي - لأول مرة - كيف يجتمع النقيضان في صعيد واحد!

وأصر رائدي وأصررت أنا، فما استطاع أن يثنيني عن عزمي، ولا رضي بأن أبيت في المنزل، وإن المنزل ليستنفذ من مالنا في ليلة واحدة ما يكفينا أياماً، وهو حريص على المال شحيح به، حتى علي أنا وهو مال أبي. ثم استحر النقاش بيني وبينه، فقلت:(أبيت في حجرة الشيخ علي)، ووافق هذا الرأي هوى في نفس رائدي، ولكن غاظه أن أفضل تلك على هذه!

والشيخ علي فتى من طلاب الأزهر قميء نحيف ضعيف يكاد يتهاوى من هزال، ويوشك أن ينقض من وهن، يخيل إلى من يراه - بادي الرأي - أنه بقية من إنسان أو أنه نفاية رجل. وإنه ليحس مكانه من الناس وقد تخلف عنهم، فهو ما يبرح يتهادى في مشيته، ويتأنق في حديثه، ويشمخ بأنفه، ويتطاول على رفاقه، ولكنه لا يبلغ أن يكون رجلا!

وهو يعيش بين خمسة من ذوي قرابته في حجرة واحدة، وهو رئيسهم، لأنه يكبرهم جميعاً في السن، ولأنه أعرفهم بالقاهرة، ولأنه ألصقهم بالأستاذة، يتقسمون أجر المسكن على

ص: 15

سواء، يتعاونون على نفقات العيش، ويتآزرون على حوادث الحياة، يتكاتفون على قسوة الغربة، ويتظاهرون على مشقة الدرس

ودخلت حجرة الشيخ علي مثلما دخلت حجرة الشيخ فهمي من قبل، فهما على نمط واحد، لا تبذ واحدة واحدة. ولكن نفسي اطمأنت إلى هذه حين لمست فيها الإيناس بقدر ما نفرت عن تلك حين وجدت فيها الوحشة. أنست إلى هذه لأنني ألفيت هنا الصاحب والرفيق، ولأنني وجدت ومهرباً من الشيخ فهمي، فما لي به حاجة من بعد، وهو رجل ضيق العقل، راكد الذهن، شحيح النفس، جامد الكف؛ وهؤلاء رفاقي: نغدو معاً إلى الأزهر، ونروح سوياً إلى الدار. وهدأت هواجسي، فأنا الآن أستطيع أن أعبث مع صحابي كيف أشاء، وأستطيع أن أمكر بالشيخ علي حين تسوّل لي شيطانيتي أن أفعل، وهو الآن وليّ أمري وقائدي!

وصرفتني روح المرح واللعب والعبث - بادئ ذي بدئ - عن أن ألمس ما أعاني من شظف وشدة، وعن أن أحس ما أقاسي من حرمان وضيق. والشيخ علي ممسك لئيم مخادع، يراوغ الواحد منا عن قروشه، ويداوره عن مصروفه، وهو فظ لا يستشعر قلبه الحنان ولا الرحمة، ولا يبض كفه بدرهم أتنسم به روح الحياة الناعمة في القاهرة، فمشت زماناً لا أتذوق إلا الخبز والجبن والمالح، ثم جف حلقي وما لي طاقة بذلك!

وضاقت نفسي بما أجد فانطلقت إلى الشيخ في ثورة جامحة أسأله حقي، فرتب لي مليماً كل يوم لأشتري به متعة الحياة ولذة العيش!.

وادخرت - بعد أيام - مليمات، وإن نفسي لتهفو نحو الفاكهة وقد حرمتها منذ زمان وأنا أرى دكان الفاكهي في غدوي ورواحي فيجذبني إليه في شدة وعنف ولكني لا أجد الجرأة على أن أقف ببابه أساومه. ثم دفعني شيطاني إليه - بعد حين - فاشتريت ربع أقة عنب دفعت ثمنها ستة مليمات. ولكن حرارة القيظ تركت العنب يتلهب كأنما أوقد عليه بنار جهنم، ثم دفعني شيطاني مرة أخرى فاشتريت ثلجاً بمليم واحد. وهكذا أنفقت في واحدة كل ما أملك: سبعة مليمات ادخرتها في أيام وأيام.

وتسللت إلى حجرتنا في حذر وأنا أوقن بأنها خاوية، وأن أصحابي جميعاً في الأزهر ولن يحضروا إلا بعد ساعة؛ ودلفت إليها على مهل، ثم وضعت أمامي العنب وسويت عليه الثلج، وطفقت أنظر إليه في شوق وأتأمله في شغف، وأتناول الحبة إثر الحبة، أتذوقها في

ص: 16

لذة وسعادة وطمأنينة.

وعلى حين فجأة انفتح الباب ودخل الشيخ عليَّ، واعتراني الارتباك والخجل، ونظر هو إلى الطبق أمامي وقد ملأَته الدهشة وسيطر على العجب واندفع يلومني:(عنب وثلج! عنب وثلج! هذه هي متعة الحياة ولذتها!) ثم انصرف وعلى وجهه سمات الغيظ والحرمان في وقت معاً.

وعجبت أنا لحديث الشيخ، ثم انطويت على نفسي أحدثها:(ما أتفه الحياة وولذ ائذها إن كانت تشتري بسبعة مليمات!)

ثم انطوت الأيام لتعلمني أن متع الحياة ولذ ائذها غالية غالية تكلف المرء الدم والعمر والمال جميعاً. . .

كامل محمود حبيب

ص: 17

‌في ذكرى أديب العربية:

يرحمك الله أبا عبيده!

للأستاذ محمد سليم الرشدان

يا لله ما أعجب! هذا هو الدهر تنقضي أيامه وتنطوي لياليه، فيجتاز بذلك حولاً من العمر، يطل من ورائه أبو عبيده، أديب العربية الأكبر، العلامة الجليل محمد إسعاف النشاشيبي. فإذا هو ذكرى في ثنايا التاريخ، وإذا هو حنين تنبض به القلوب، ثم إذا هو طيف تجتليه الخواطر، وتفتقده النواظر.

ويح هذه الآمال المديدة، لطالما زينت له مخوف السيل، وهونت عليه وعر المسالك. فعبر كؤودها، واعرورى متونها، ومضى قدُماً لا تقعده المخاطر، ولا تكبح جماحه لأرزاء. فكلما أدرك غاية، برزت له من ورائها غايات.

بل ويح هذا الطموح مازال به يستحث خطوه الجامح، فهو لا يستقر إلى آمال، وهو ما يفتأ يشد الرحال ولكنه أخيراً مضى بعد أن خاض شتى المجاهل في دنيا (العربية)، وتجاوز في ارتيادها بعيد الآفاق. فلم تفته منها صغيرة، ولم تقف بين يديه كبيرة. فقد ألم بهذه وسبر أغوار تلك، وأحاط من ذلك كله بما لم يحط به إلا قليل، فكان شأنه في هذا السبيل، شأن المجاهد المستبسل، لا تقعده جراحات الغدر، ولا ترده أحابيل العدو المخاتل. فخاض غمرة الكفاح، ولا أيد ولا وَزَر، إلا ما اشتمل عليه من مضاء العزيمة، فأدرك النصر الباهر في كل ميدان، ومضى في قافلة العمر تزامله العزة والأنفة والإباء، لا يضير هذه القافلة أن تعترض سبيلها (الثعالب) حيناً، ثم لا تلبث أن تحول أو تزول.

أرأيت - يا أخي القارئ - بركاناً يتضرم أواراً، ويستعر لهيباً، ويغلي في جوفه شواظ وحمم، فهو إذا ما فار وما زفر زفرة أسكت بها من حوله كل باغم؟ كذلك عهدت النشاشيبي المتقد حيال أعداء العربية، وأجراء ذوي الأغراض. ومالك لا تستيقن ذلك حين تسمعه يردد ساخطاً:

(وأن نجم ذئب فصاح. (إن لكل عصر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً على القول، فكيف تنادينا إلى لغة يقول العصر - إن استمعها - ليست هذه بلغتي! فنحن نشنأ ما تنادينا إليه، ولا نحب أن نقتل أنفسنا منكبين على القول القديم العتيق، الذي شرب الدهر عليه وأكل،

ص: 18

ولا نهوى إلا لغتنا العصرية السهلة الواضحة، التي يفهمها كل إنسان حتى راعي البقر. . .) أن نجم لنا مثل ذلك الذئب وعوى عواءه، ألقمناه حجراً وحجرين، وعصوناه ثم قلنا له: أجل أيها المدجل المحاوت إن لكل دهر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً. . . غير أن (لغتك العصرية) هذه لغة معتلة، فنحن ندعوك إلى مداواتها وتقويتها بتلاوة القول القديم، لكيلا تُسَلْ أو يدود لحمها ثم تموت. . .).

بمثل هذا القول كان يصمت أولئك الذين طالما دعوا - من حوله - إلى نبذ لغة (القرآن)، والاستعاضة عنها برطانة غوغاء السوقة، وترك ما أفنى أئمة العربية شباة أقلامهم وشباب أعمارهم، بجمعه واستنباطه من قواعدها وأصولها، واستبداله بما خيلته طبيعتهم الأعجمية، من كلام مهمل سقيم. . . يا للكفر الصراح، ويا للعقوق الآثم! لم لا يعد هذه (الثلة كالثلة)؟ ولم لا يعد من كان في مثل هؤلاء (ذنيماً أفاكاً)! بل هل عسيتك - لو كنت حيث كان - إلا معترضاً بمثل قوله:

(كلا! إن هذا الزنيم قد جهل وجار عن الحق، واحتقد على لغة العرب فكدح في محقها (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، يأبى الله أولا يتم نوره. . .).

لكأني بك تقول ذلك (أو من مثله) ما دمت تغضب لهذا الإرث الجليل الخالد، الذي لو كان حصاد عام، بل لو كان حصاد جيل لتأسى فاقده. ولكنه - يا فتى - حصاد المئين من السنين! فأنى لك العزاء (آنذاك)؟ والخطب - لو حصل - جليل، والمصاب - لا كان - مفزع مهول! فما لأبي عبيده لا يفزع؟ بل ماله لا يستنفر الإنس والجن والسموات والأرض والجبال. فيخرج من (صومعته) هائجاً، وهو يردد متسائلاً:

(وكيف يسول الخبث والعجز والجهل ولؤم الضريبة، كيف يسول كل ذلك للفتى أن يأتي بالكفر براحاً وبالشر صراحاً، ولا يحسب لكفره بالحقيقة حساباً، ولا يخشى لشرارته عذاباً، ولا يخاف عقباها؟ وكيف يهون له احتقاب كل موبقة. أن يؤتى إلى اللغة العربية. . . فيجز شعرها، ويخدش ذلك الخد الأسيل. . . ويخمش ذلك الوجه الجميل ويفحم! وتصبح (ابنة عوف) مضرب المثل في القبح، وهي المثل المضروب في الحسن والجمال!!. . .).

أرأيت كيف كان أبو عبيده (طيب الله ثراه) يغضب للعربية وأهلها، فلا تأخذه في سبيلها لومة لائم، ولا يبالي أن يخاصم القريب والبعيد مادام قد أنحرف عن الجادة، وجانب

ص: 19

السراط السوي. وإذا كان المرء يناضل في ميدان واحد لا يعدوه، فقد كان هو يناضل (في آن واحد) في ميادين شتى. ومن ذلك أن يتصدى (موجهاً أو مجيباً أو معترضاً أو متحدياً) في أقطار مختلفة، وفي صحف متعددة، وقد تنكر خلال ذلك في أزياء، وادرع لكل ميدان بلبوس. فهو (أزهري المنصورة) حيناً، وهو (السهمي) حيناً آخر. ثم هو إن بالغ في التواضع (التواضع خلة لا تعدوه) أرسل ما يكتبه غفلاً من أية سمة، فيشاركه صاحب المجلة تكتمه معرفاً كلامه الذي ينم عليه بقوله:(لأستاذ جليل) أو بما هو من على شاكلة هذا التعريف. ثم هو جريء لا يهاب. إذا تعرض لأمر تخشى عواقبه نحى حجاز التواضع جانباً، وتبدى للخصوم باسمه وكنيته، شأن البطل المقدام لا يبالي أن يعرفه الخصم استهانة بخطره، وغلواً في الحفاظ والنجدة. فليرحمك الله أبا عبيده، لقد كنت أمة في رجل، وكنت رجلاً (نسيج وحده).

ليتك تعلم - يا قارئي الكريم - مبلغ اعتزاز ذلك الأديب الفذ بكتاب الله لطالما أجابني على كثير مما كنت أسأله عنه بآيات بينات منه. وهو يردف مفتخراً: (أرأيت أي كنز يحوي بين دفتيه هذا الكتاب؟ أو رأيت شبيهاً له فيما عبر بك من لغات (آشور وسريان وعبران)؟ هيهات! ولئن تحريت فما أنت بواجد! (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

كان رحمه الله كثيراً ما ينظر إلى هذا الكتاب العظيم نظرة المشفق المحب ولسان حاله يستعيد قوله فيه: (يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك قدرك، ويعطيك من خدمتك حقك. لقد هلك من كنت تتلو علهم آياتك فيدهشون، ويخرون سجداً وبكياً. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البليغة، إلا عربي قح صليب، لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة، ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة واهنة!! فسقياً لمثل هذا سقياً، وتعساً ونكساً وترباً وجندلاً لمن يبغي أن نضل، فنستحب اللغة المرذولة، على لغتك البارعة العذبة المضرية. . .).

ولن أنسى يوماً قدمت فيه إليه، فأقبل علي يحدثني بقلبه ولسانه عن دنيا العربية والإسلام. وينطلق شأن المؤمن المتفائل، يؤكد لي اندحار هذه العجمة في يوم (قرب ابانه)، وانطلاق لغة الضاد من عقالها لتنهض بأعباء الإنسانية، تؤدي رسالة الحضارة. وما فتئ يكرر بين حين وحين: (ولم لا يكون ذلك واللغة هي اللغة، والآباء هم الآباء، والابن مهما كان جاحداً

ص: 20

عقوقاً فلا بد أن تجذبه أصالة المحتد وكرم النجار. . .) ويحين موعد انصرافي فأستشيره في فقرات من قوله أعرضها نمطاً من أسلوبه وأنا أتحدث عنه في طليعة الأدباء أثناء بحثي عن (الأدب في فلسطين) في المجلة المحببة إلى قلبه (الرسالة الزاهرة)، فلا يكون منه إلا أن يتناول كتاباً يضع سبابته على سطر فيه وهو يقول:(أكتب من هنا، ولن تنطقني بقول تنتزعه من سويداء نفسي، وتستخلصه من قرارة يقيني إلا أن يكون هذا!!). ثم أجدني أقرأ (هناك) كلاماً لا يختلف عما كنت أسمعه منذ هنيهة إلا بالفاظه، وجعلت أعجب حين رأيتني حيال كلام قاله عام (1972) جاء فيه:

(اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة. وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. . . واللغة ميراث أورثه الآباء والأبناء، وأحزم الوارث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع. وإنا أمم اللسان الضادي لعرب، وإن لغتنا هي العربية، وهي الإرث الذي ورثناه. وإنا لحقيقون - والآباء هم الآباء، واللغة هي اللغة - بأن نقي عربية الجنس، وعربية اللغة.

ولو كان المورثون صغاراً، ولو كان الميراث حقيراً لوجب علينا إكبارهم وأعظامه، فكيف والتاريخ يقول: إن الآباء كانوا كراماً، وإن الآباء عظاماً. . . والزمان يقول: إن العربية خير ما صنعت يداي. (وأن الدهر لصنع)، وأنها لخير طرفة أطرفها الناس، والزمان بالخير وإن جاد شحيح، فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية الدرة اليتيمة، أو كنز الزمان، ضن به ثم سخا. . .).

يا أخي القارئ: هذه عبرة ناطقة، أذرفها بين يديك في ذكرى هذا النابغة العبقري فإن أنت عرفته من آثاره ولم تره، فليس الخبر كالخبر! وإن كان خبره جديداً عليك (وما أخاله يكون)، فاعلم أننا في فقده حيال مجاهد كان سيفه القلم، وميدانه القراطيس، وجلاده عنيف قاصم، لا هوادة فيه مع أخصامه، (وأخصامه أخصام العربية):

ولطالما حاز النصر باهراً، والظفر مؤزراً. فرفع من شأن هذه اللغة الكريمة، ما أعلى منارها وسهل من عسيرها حتى حببها إلى غلف القلوب. وفي سبيلها لم يجاوز ميداناً إلا صال فيه ولا خصماً إلا ثبت في وجهه ثبات (أحد) و (أبي قبيس)

وأخيراً، أثخنته جراحات الدهر، فسكن الفؤاد النابض بحب العربية وأهلها، وصمت اللسان

ص: 21

الذليق، وما كان ليصمت لولا أن أصمته الدهر. . .

ففي رحمة الله أبا عبيده.

محمد سليم الرشداق

ماجستير في الآداب واللغات السامية

ص: 22

‌شعراء معاصرون:

العاطفة الدينية في شعر محرم

للشيخ محمد رجب البيومي

(بقية ما نشر في العدد 818)

- 3 -

أما شعر محرم الاجتماعي فقد كان مضمخاً بعبير عاطر من التوجيه الديني والإرشاد الخلقي، فقد نظر الشاعر نظرات صائبة إلى الأوبئة الحلقية التي تفتك بالأمم الشرقية فتحصد المروءة، وتطيح بالشرف، حيث انسابت الأفاعي البشرية في ظلام الاحتلال تنفث سمومها في الأجسام الصحيحة، فإذا الإنسان الطاهر العف يتحول مارداً فاجراً يعب الخمر في نهم، وبريق الدم المصون في تهتك، ويلطخ وجه بآثام فاحشة يندى لها الجبين، وقد قام محرم بدور الطبيب الحكيم، ففحص الداء فحصاً دقيقاً ثم أخذ يشخص الدواء الناجع، وكان القرآن الكريم قبلته ووجهته، فنادى بالرجوع إلى آدابه، وشهر بمن يجترحون السيئات ويقترفون الفواحش، وقد اتخذ من الجرائم الخلقية التي يرتكبها الإباحيون، وتنشرها الجرائد اليومية مادة دسمة لإنتاجه. وفي الجزء الأول من ديوانه أقاصيص شعرية تجلي هذه الفضائح، وقد أحاطها الشاعر بسياج من النصح الأدبي، والتوجيه الخلقي. وأنك لتلمس لهفة محرم وأسفه حين يتحدث عن شرذمة غاوية ائتلفت على البغي فهوت إلى حمأة الرذيلة تلغ في أرجاسها الشائنة غافلة عن عتاب الله نابذة وراءها عهود محمد وزواجر التنزيل فهو يقول:

أسيت لمسرفين أعان كلاّ

على إدمان لذته أبوه

إذا ما عاقر الفحشاء منهم

أخو النشوات غناه أخوه

لهم فتكات أطلس ما يواري

دم الهلاك مخلبه وفوه

عليهم من خزاياهم سمات

وما أنفوا الفجار فيجحدوه

إذا ما عن في الظلماء صيْد

تداعوا حوله فتصيدوه

تردي بينهم فتعاور وه

إلى أن قال قائلهم دعوه

ص: 23

قفا السمار واد لجوا إليه

وأكبر همهم أن يبلغوه

أيأمرهم بتقوى الله قوم

وما عرفوا الآله فيتقوه

شباب العار ما تركوا رجاء

لنا في مصر إلا خيبوه

أناس ريعتِ الغبراء منهم

وضج العرش مما أحدثوه

أنى التنزيل بالمثلات تترى

وبالحق المبين فكذبوه

فوا أسفي لعهد الله فيهم

وعهد محمد إذ ضيعوه!!

وفي ديوان الشاعر من هذا الطراز جذ وات مشبوبة تتقد باللوعة فليتْها وجدت من يسمع أو يجب!!

ومع أن محرما قد نادى في صيحاته الاجتماعية بضرورة التعليم كدعامة راسخة يرتكز عليها بناء النهضة، فقد وجد من الناس من ظن به رغبة عن تعليم الفتاة والنهوض بها إلى ذروة الرقي، رغم ما امتلأ به ديوانه - في الجزء الثاني خاصة - من حث على ثقافة المرأة وإيضاح لمركزها الدقيق الذي تحتله في المجتمع. ولعل هذا الظن الخاطئ قد أتى من مهاجمة الشاعر لدعوة التحرير التي رفع لواءها قاسم أمين، ونحن إذا نظرنا لهذه الدعوة نجد صاحبها يحث على تعليم المرأة وتهذيبها عن طريق السفور والتملل من الحجاب! والشاعر وإن كان من المنادين بضرورة تثقيف الفتاة لا يوافق على السفور مهما تكاثرت المبررات فاندفع إلى مهاجمة قاسم متأثراً بعاطفته الدينية التي تحرم التبرج تحريماً قاطعاً، وما كان له أن يحيد عن ذلك وهو يضع كتاب الله نصب عينه. ولعله كان ينظر من وراء الغيب إلى ما سيجره السفور من فتن فشدد عليه النكير. فمحرم إذن يكتفي بضرورة تعليم الفتاة دون ما عداه، فليس لها أن ترتع في الأسواق، وتزاحم الرجال فيما لم تهيأ له من الأعمال، واستمع حجته في ذلك إذ يقول:

هممنا بربات الحجال نريدها

أقاطيع ترعي العيش وهي سوائم

وإن امرأ يلقي بليل نعاجه

إلى حيث تستن الذئاب لظالم

وكل حياة تثلم العرض سبة

ولا كحياة جللتها المآثم

أتأتي الثنايا الغر والطرر العلا

بما عجزت عنه اللحى والعمائم

فلا ارتفعت سفن الجواء بصاعد

إذا حلقت فوق النسور الحمائم

ص: 24

سلام على الأخلاق في الشرق كله

إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم

أقاسم لا تقذف بنفسك تبتغي

لقومك والإسلام ما الله عالم

ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها

لما قام للأخلاق في مصر قائم

نبذت إلينا بالكتاب كأنما

صحائفه مما حملن ملاحمُ

أحاطت بنا الأسد المغيرة جهرة

ودبت إلينا في الظلام الأراقم

ألا إن بالإسلام داء مخامرا

وإن كتاب الله للداء حاسم

ولنقرن هذه الصيحة الناقمة على دعاة السفور بإحدى صيحات محرم في ضرورة تعليم الفتاة، لنعلم أن الشاعر لم يحارب تعليم المرأة في يوم من الأيام، وإنما احتاط لدينه ومروءته، وتمسك بكتاب ربه وهدى نبيه. وحسب الإسلام منه أن يذود عن مبادئه في قوة، ويتمسك بحدوده في إيمان، قال محرم:

ما أبعد الخير والمعروف عن أمم

تعيش فوضى وترضى بالحياة سدى

وجاهل ظن أن العلم مفسدة

للبنت فانتقص التعليم وانتقدا

مهلا قرب فتاة أهلكت أسرا

بجهلها وعجوز أفسدت بلدا

الأم للشعب إما رحمة وهدى

أو نكبة ما لها من دافع أبدا

لا يذهب الشعب في أخلاقه صببا

والأم تذهب في أخلاقه صعدا

لا تيأسوا وأعدوا الأم صالحة

في السبيل إلى إصلاح ما فسدا

على أن الشاعر لم يهاجم قاسماً وحده، بل كان يهاجم من المسلمين من يرى منه نزوعاً عن الشريعة، وكان يتأدب في هجومه بتوجيه الإسلام، ويسترشد بتعاليمه، فلا يميل إلى الإسفاف والمهاترة، أو يعمد إلى التشهير والتنديد، بل إن قصائده في أعداء الإسلام (كهانوتو وكروم) كانت تخضع إلى المنطق المعتدل وتتحاشى ما ينفر منه الأدب والذوق. ولله محرم، فطالما جادل بالتي هي أحسن، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، مع أن الشعراء يبيحون لأنفسهم من الإقذاع في الهجو ما ينأي عنه ذو الخلق الكامل والنبل الأصل!!

بقى أن نتحدث عن الناحية التاريخية في شعر محرم، وهي ناحية هامة شغلت جانباً كبيراً من اهتمامه، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من إشارة إلى موقف تاريخي طواه الزمن،

ص: 25

فخلده الشاعر ولا جرم فقد كانت ثقافته تاريخية إسلامية، حيث استوعب ما قدر عليه من الصحائف المجيدة التي تجلو عظمة الفتح الإسلامي ويتحدث عن أبطاله المعلمين، فكان له من هذا الاستعياب مادة دسمة أكسبت انتاجه قوة ذاخرة، وأمدت سعره بأسباب متينة من الروعة والتفوق!! وإذا كان الشاعر قوي الإيمان بعظمة القادة المبرزين من أعلام الإسلام، فقد فتحت له عاطفته الدينية أبواب القول فصال وجال في ميدان التاريخ حتى لينفرد وحده بين شعراء العربية بتصوير البطولة الإسلامية تصويراً لا يتعلق بغباره متعلق، مهما حاول التقليد.

لقد نظر محرم إلى أعظم أبطال الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم فبهرته عظمته الفائقة، وأخذته روعته الخارقة، فنظم إلياذة كبيرة تقع في عدة آلاف من الأبيات المختارة المنتقاة، يسجل بها تاريخ الرسول الأعظم من ميلاده إلى أن جاءه اليقين. وقد قرأتُ ما وقع لي من شعر الإلياذة فكدت أستظهره في نهم، وتأكدت أن بلاغة محمد قد نضحت عليه من بيانها الرائع، فتطامن له المعنى الجموح، ووقف يده على النادر اليتيم من الأساليب، وقد راعى أحمد منازع حديثه، فهو في بدر وأحد يجلجل ويهدر حتى ليسمعك الصليل والصهيل، وقد يعمد إلى القافية الشموس في موقفه الحماسي. فيخضعها لبيانه المشرق. وللقارئ أن يطالع قصيدته الفائية في فتح مكة فهي وحدها الحجة والدليل.

وكنت أقع في دهشة عجيبة حين أجد الشاعر يتكلم في الموضوع الواحد مرات متعددة، وهو في كل فريدة من فرائدة يطالعك بمعان لم يجش بها خاطره قبل ذلك، وقد فرض على نفسه أن يحي رسول الله في كل عام بقصيدتين في مناسبتي الهجرة الشريفة والمولد السعيد. أضف إلى ذلك ما يعرض من المواسم الأخرى كذكرى غزوة بدر، وذكرى الفتح! ثم هو بعد هذا كله يشعر بأنه لم يقل شيئاً بجانب ما يليق بعظمة محمد فيقول في مخاطبته:

ما في النوابغ من لبيب حاذق

إلا وأنت ألب منه وأحذق

والقول مستلب المحاسن عاطل

حتى يقول العبقري المفلق

أنت المجال الرحب تعتصر القوى

فيه وتمتحن الجياد السبق

حسان منبهر وكعب عاجز

والنابغ الجمدي عان موثق

أطمعهّم فتجاوزوا فيك المدى

وأبيت فانصرفوا وكل مخفق

ص: 26

لي عذرهم ما أنت من عدة المنى

إلا وراء مخيلة ما تصدق

والحق أنه رحمه الله كان يجد في الذكريات الدينية ظلاً وارفاً يتفيأه في هجير الحياة، فهي تتيح له الموازنة بين الحاضر والماضي مما تكلمنا عنه قبل ذلك، كما تمكنه من إسداء النصائح الصادقة لأبناء الدعوة المحمدية في مختلف البقاع وتلك رسالة الشاعر العامل، إذ يحمل بيده المشعل المضئ فينير السبيل.

وكنت أود أن أتكلم عن الإلياذة كوحدة مستقلة فأعرض لها ببعض التحليل والتسريح، ولكن القدر قد كتب لها أن تظل في مهملات وزارة المعارف مجفوة منسية في عصر مجحف ظالم رسبت الدرر الغالية في قاعة، وطفت الجيف المنتنة فوق سطحه، فطبعت دواوين المتشاعرين من الهتافين والمصفقين، وأهملت ملاحم النوابغ الملهمين. ولولا ما قرأته في المجالات الأدبية والعلمية كالرسالة والثقافة والأزهر من قصائد متناثرة تنتمي إلى إلياذة محرم لظنّها خرافة مختلق مريب!!.

وإذا تعدينا تاريخ محمد إلى غيره من المرسلين فإننا نجد محرماً قد اندفع أيضاً وراء عاطفته الدينية فنظم في قصص الأنبياء معلقة طويلة ألقاها في موسم الشعر وقد ابتدأها بقصة آدم وحواء، وخروجها من الجنة، ثم دلف إلى الأنبياء الذين ذكرهم القرآن فروى قصصهم الماضية مبيناً جهود كل نبي في دعوته، وما قابله به قومه من العناد والاستخفاف، ثم ما كان في النهاية من ظهور الحق وخذلان الباطل، وإن كان هناك فرق شاسع بين حديث الشاعر عن الأنبياء في ملحمته الجيدة، وحديثه عن محمد في إلياذته العامرة، حيث كان في الأولى مؤرخاً يسجل الحوادث كما حكاها القرآن، وتناقلها الرواة والمفسرون دون أن تقوم شاعريته بتوليد بارع أو ابتكار رائع؛ ولكنه في الإلياذة قد جمع بين التاريخ والفن، فهو يبدع في الفكرة والعرض معاً كما يرسم صورة للزمان والمكان. وقد يهتم بالجزئيات الصغيرة فيصوغها في لباقة تحمد للنائر المترسل فما ظنك بالمقيد بقافية ووزن!! ذلك توفيق كبير.

رحم الله محرماً فقد أسدى إلى العروبة والإسلام يداً بيضاء لم يسلفها شاعر عربي قبله، ومع ذلك فقد عاش حياته الطويلة في دمنهور كادحاً متعباً لا يجد الناشر الذي يظهر له ديوانه الرائع في ثوب لائق بمركزه المرموق، ثم وافاه الأجل المحتوم فسكت الأدباء عنه

ص: 27

في قسوة، غافلين عن أدبه الحي وفنه الرفيع، وكأني له في حنادس القبر يردد متأوهاً نائحاً بيته الحزين.

ظمئت وفي فمي الأدب المصفى

وضعت وفي يدي الكنز الثمين

(جزيرة الروضة)

محمد رجب البيومي

ص: 28

‌إلى الخير.

. .

للأستاذ ثروت أباظة

. . . نعم يا سيدي، لقد رأيتني أهيم في الحوالك من الظلمات، شارداً أضرب في الحياة وتضرب بي ولا تصير. . . أقطع الطريق أو أقف دونه لا يشجعني على السير صديق أو يحثني دون الوقوف رفيق وأنا مع الحياة لا أبالي أيان يلقي بي موجها، فكل أفق لي قِبلة، فليس لي في أي أفق من الآفاق أمل مرتقب، وحولي الناس كلهم لاهٍ عن غير إلى نفسه، فلهوت عنهم؛ ولم يكن لي نفس لأثوب إليها أو أطمح بها، فكنت أشرئب إلى السماء مرات خمساً بين الصباحين فاسأله في عليائه أن يفسح بيني وبين أحد عباده على الأرض طريقاً. . . فإذا طال بي السؤال دون الإجابة ابتهلت إليه أن يضمني إلى سمائه أرى الرحمة الكبرى من ورائها تلف التقي في سيبها والمعاصيا.

ولم يكن بي عصيان لأوامره، غير أنني أحسست على الناس النقمة، وكرهت أن أرى السميد منهم، فأنصرفت إلى دار الكتب حيث يباح التثقيف بغير أجر، فظلت أقرأ وأقرأ، وكنت كلما ازددت قراءة قلت في نفسي: لو لم تكن هذه الكتب من عمل الإنسان لكانت أعظم مما هي عليه. . . وكنت أعجب كيف يستطيع الإنسان الكنود أن يخرج مثل هذا الصفاء. . . كتاب لا يَملك، فإذا مللته أنت لم يغضب، بل يقيم أيان تضعه منتظراً منك العودة؛ فإذا عدت لاقاك مفتوح الصدر، صريح العبارة، لا يخفى عنك شيئاً؛ وإذا قصر يوماً عن ابلاغك مرادك اعتذر إليك وقدم زميلاً له يشرح ما غمض فيه. . . هكذا يا سيدي عرفت صديقاً على الأرض، وهكذا كنت أفكر في شأنه، فما خانني ولا خنته، بل زادني تجربة وعلماً. . . وهكذا يا سيدي خلت أن الله قد أجاب به الدعاء وحقق لي الأمل فرحت أكتب إلى الجرائد أستعين بما ترسله من مال زهيد على مأكل يأبى الوصول إلىّ، أو مسكن ينفر - على رئاسته - أن يضمني بين حشراته، أما الناس يا سيدي فقد يئست من وجودهم منذ أزمان بعيدة.

ولم يكن اليأس مريحاً - كما يقولون - فقد ضنيت به برغم صداقة صاحبي، الكتاب. . . كذلك ياسيدي كنت حين شاء لك ذوقك الأدبي الرفيع أن تختارني لأعمل لديك على سبيل الدوام فقصدت إليك يائساً من الصداقة والشهرة، أملاً في الكسب، ولاقيتني يا سيدي

ص: 29

فأحببت في خلقاً وسلوكاً، وأحببت فيك كل ما فيك، ولم أجرؤ أن أبين عن هذا الحب خشية أن يتمادى بي ثم تنقطع بيننا الأسباب. . . خشيت على نفسي يا سيدي، ولكن خلقا فيك كريماً أبى أن يشجمني فأجبتك وأحببت الناس فيك ولك. . ووجدت نفسي قد خلقت خلقاً آخر فلا حقد ولا بأس ولا قنوط؛ وما زلت بي يا سيدي تمد لي من عطفك فأمد لك من حبي حتى وجدتني أقول لك من غير داع (إنه لو جاء يوم أغبر قطعني هنك فإنني والله لن تقوم لي قائمة بعده). . . ولست أنساك يومئذ يا سيدي وأنت تضحك لي في حب كبير. . . (إنها أوهام. . . طالما يتخيل الإنسان أموراً ثم يجسمها فلا تلبث أن يذيبها مرور الأيام) وقلت لك يا سيدي:(إنه لن يكون هناك أيام لتذيبها فسوف أذوب أنا قبل أن تمر هاته الأيام) هكذا يا سيدي بلغ بي الحب فعشت أرصد حياتي لك ولخدمتك حتى نلت لديك ما نلت. وكنت أنت حياتي بعد أن تقلصت بي أسباب الحياة.

وهاأنت ذا يا سيدي اليوم تقصيني عن موارد حبك فأخرج إلى الكتاب مرة أخرى وألاقيه فيلاقيني مفتوح الذراعين حانياً، وكنت أقسمت يا سيدي وأنا أعمل بجريدتك ألآ أكتب في غيرها أبداً؛ ومازلت يا سيدي باراً بهذا القسم؛ بيد أنني تذكرت اليوم فقط أمراً لم يخطر لي ببال، تذكرت يا سيدي أنك مرهف الحس، دقيق الشعور، وخشيت يا سيدي إذا أنا حطمت حياتي أن تشعر بما جنيته علي، ولا أريدك يا سيدي أن ترجع إلي وأنا حطام لتعينني على حياة أكرهها ما دمت أنا بعيداً عنها. فقلت في نفسي: لأعمل حتى لا يشعر بما جناه، وحتى يطمئن إلي أنني مازلت أقاوم الحياة. وإنني يا سيدي حتى اليوم كلما سألني سائل عن سبب القطيعة خلقت في نفسي عيوباً لا أظنها تجرؤ أن تنتسب إلي وأنا من أحببته أنت حيناً من الدهر، ولكني كنت أجور على نفسي حتى لا يجور القوم عليك. . . فأنا مازلت أحبك شأني دائما، أما ما قام بنفسك من شك في وفي حبي لك فأنت وحدك الذي ستمحوه حين تستبين حقيقة نفسي ما دمت لم تستبينها حتى اليوم، وما دمت يا سيدي تعتقد - رغم كل ما أبنت لك - أنني كنت أداهنك وأداجيك. ولعمري أي فائدة تعود علي من المداهنة والمداجاة وأنا لم أطلب منك يوماً مطلباً لنفسي؟. . أي فائدة وقد أغريت لتركك بالمال فكنت أسب كل من يجرؤ على هذا أي فائدة!. . اللهم إلا إذا كنت تظنني أمثل لمجرد التمثيل؛ وحينئذ يا سيدي أسمح لي أن أرى في هذا التفكير انحطاطاً عما عرفته فيك من ذكاء لماح. . . ولكن

ص: 30

دعني يا سيدي أقل الحقيقة. . . إنك عجبت أن يكون في العالم إخلاص كإخلاصي، واستبعدت أن يحب شخص شخصاً مثلما أحببتك، وخشيت أن أكون كاذبا فقلت في ضميرك: لأرح نفسي من عناء البحث والاستقصاء والتحليل، ولأقطع بين وبينه الصلات قبل أن يفجعني بالخيانة. ولو أنك نظرت إلى ماضي وأنت تعرفه لعلمت أن مكانك من نفسي ليس بالغريب. . . لقد كنت يا سيدي بمثابة الواحة التي يجد بها التائه ماء وظلا وعيشاً، فهو قائم بها لا يريم. . . كنت يا سيدي كذلك في حياتي وما تزال يا سيدي كذلك ولن تزال.

لعلك تعجب لم أكتب إليك كل هذا الكلام. . . كتبت لأبين لك عما ينتفض به حسي، ولأطمئنك على قلبي من الأيام فلا يملكن عليك العطف شعورك، ولتهدأ بالا ولتثق يا سيدي أنني لن أصادق بعدك أحداً حتى لا أفجع فيه مرة أخرى، ولكنني سأعيش، وسأعيش بما أتحته لي من شهرة، فأنالك أيان تلقي بي الأيام رحلها، ولكنني أستحلفك يا سيدي إلا تعامل غيري بمثل ما عاملتني. . . على أنه لن يتاح لك أن تفعل، فأن أحداً لن يحبك أو يخلص لك كما أحببتك وأخلصت لك. . . لأن أحداً لم يلق في حياته إجداباً كما لاقيت. والسلام عليك ورحمة الله.

قرأ صاحبي الخطاب وأنا أتابعه مأخوذاً بأسلوبه المترسل عاجباً من إخلاصه المكين؛ وما أنتهى الصديق من القراءة حتى صحوت إليه أقول:

- فمن الكاتب؟

- لقد عرفت شخصيته وما أظنك بحاجة إلى معرفة اسمه.

- ولم أقصيته عن موارد حبك بعد أن أتحتها له؟!

- لقد أجاب هو عن هذا السؤال خير إجابة.

- أو ما يزال مقصيا!!

- أو تظنني إلى هذا الحد من الجمود! لقد ذهبت إليه أستغفره فنفر. . . إن كل ما أرجو أن يبلغ إخلاصي له مبلغ إخلاصه لي. . . أرج الله معي.

- والله إن لم تخلص له فأنت أكبر جحود رأيته، وأعيذك أن تكون ولن تكون. . . فبالله عليك لا تسر به إلا إلى الخير.

ص: 31

- إلى الخير دائماً إن شاء الله. . . إلى الخير.

ثروت أباظه

ص: 32

‌القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب

‌الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

(تتمة)

واقتضت الضرورات الحربية هدم بعض المدن التي يخشى أن تكون خطراً في يد العدو إذا سقطت في يده، وقد رأينا أمثلة لذلك في فصل الحروب السياسية.

ومن تلك المدن التي هدمت مدينة تنيس التي أمر الملك الكامل سنة 614 بتخريبها، فخربت وظلت خراباً إلى اليوم، ومدينة دمياط، ففي عهد الممز أيبك اتفق المماليك على تخريبها خوفاً من مسير الفرنج إليها مرة أخرى، فوقع الهدم في أسوارها سنة 648، وخربت كلها، ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع، وصار في قبليها أخصاص على النيل، سكنها ضعاف الناس وسموها المنشية، وهي أساس مدينة دمياط الحالية. وفي عهد بيبرس أخرج عدة من الحجارين سنة 659 لردم فم بحر دمياط حتى لا تستطيع سفن الأعداء دخوله، فمضوا وألقوا فيه من كبار الحجارة ما ضيقه، حتى أصبح من العسير دخول مراكب البحر الكبار منه، ولا يزال على ذلك إلى الآن.

وإذا كانت الضرورة الحربية قد قضت بهدم بعض المدن، فقد أنشأت الحرب بعضاً آخر، كمدينة المنصورة التي أنشأها الملك الكامل سنة 616، بعد أن ملك الفرنج مدينة دمياط، فإنه نزل بموضع هذه البلدة، وخيم به، وبنى قصراً لسكناه، وأمر من معه من الأمراء والجند بالبناء، فبنيت هناك عدة دور، ونصبت الأسواق، وأدار عليها سوراً مما يلي البحر، وستره بالآلات الحربية والستائر، ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط، وأخذت تنمو من يومئذ حتى صارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق، وفي هذه المدينة نزل الصالح أيوب عندما هاجم الفرنج دمياط، فأصلح سورها وجعل الستائر عليه، وشرع الجند في تجديد الأبنية هناك، وبعد موت الصالح بها، دارت المعركة التي انهزم فيها الصليبيون هزيمة نكراء.

وأنشأ الصالح أيوب مدينة في أول الرمل للذاهب إلى الشام من مصر، سميت الصالحية،

ص: 33

وكان ذلك سنة 644، وجعل فيها سوقاً جامعة ومسجداً، وقد أنشأها لتكون مركز العساكر عند خروجهم من الرمل، ومنذ ذلك الحين اتخذها الجند مركزاً لهم إذا خرجوا للغزو، أو عادوا إلى مصر.

وكان لمصر في ذلك العصر علم يميزها، كان لونه في عصر الدولة الفاطمية أبيض، مكتوباً عليه بلون لعله أصفر قوله تعالى: نصر من الله وفتح قريب. وتختلف أحجام الأعلام، إلا أن أكثرها استعمالاً كان كوله ذراعين في عرض ذراع ونصف. وكان إلى جانب هذا العلم الرسمي علمان خاصان بالخلفية، يعرفان بلواءي الحمد، وهما رمحان طويلان، ملبسان بأنابيب من ذهب إلى حد أسنتهما، وبأعلاهما رايتان من الحرير الأبيض المرقوم بالذهب، ملفوفتان على الرمحين غير منشورتين.

فلما جاء صلاح الدين اتخذ راية ذات لون أصفر، وكأن في ذلك إشارة إلى أن مصر وإن كانت قد عادت إلى أحضان الدولة العباسية - مستقلة ذات كيان خاص بها، ولست أدري إن كان هذا اللون الأصفر لون أعلام نور الدين أو هو لون انفرد به صلاح الدين، لأننا نجهل لون راية نور الدين، ولعلها كانت سوداء كرايات العباسيين.

ولا نعلم بوجه التحقيق السر في اختيار صلاح الدين هذا اللون. أما سر اختيار الفاطميين للون الأبيض، فهو مخالفتهم المخالفة التامة للعباسيين، الذين اختاروا اللون الأسود شعاراً لهم فعلى الضد منهم اختار الفاطميون لون أعلامهم.

وظل العلم الأصفر علم الأيوبيين والمماليك لمن بعدهم، وكان من الرايات عندهم عدة أنواع: فمنها راية عظيمة من حرير أصفر، مطرزة بالذهب عليها ألقاب السلطان واسمه، وتسمى العصابة، وراية عظيمة في رأسها خصلة من الشعر تسمى الجاليش، ورايات صغر صغار تسمى السناجق، وصار للمتولي أمر الأعلام السلطانية في عهد المماليك وظيفة أمير علم، أما العلم دار فهو لقب الذي يحمل العلم مع السلطان في المواكب.

ولم أعرف زي الجند في العصر الفاطمي سوى أنهم كانوا يلبسون السراويل والبرانس أما بعد ذلك فقد أدخل سلاطين الأيوبيين لبس الكلوتة بمصر فكانوا يلبسون الكوتات الجوخ الصفر على رءوسهم بغير عمائم، وذوائب شعورهم مرخاة تحتها، وكذلك كان يفعل أمراؤهم وجندهم ومماليكم. ولم يزل السلاطين والجند يلبسون الكلوتات الصفراء بلا عمامة

ص: 34

إلى عصر المنصور قلاوون فإنه أضاف لبس الشاش على الكلوتة، وقد صارت تصنع من الصوف الملطي الأحمر، وفي عهد ابنه الأشرف خليل رسم لجميع الأمراء أن يركبوا بين مماليكهم بالكلوتات المزركشة، حتى يميز الأمير بلبسه عن غيره، وتركت الكلوتات الجوخ الصفر لمن دونهم. على أنها ظلت تلبس فوق ذوائب الشعر المرخاة، على ما كان عليه الأمر أولا. وفي عهد الناصر محمد بن قلاوون استجد العمائم الناصرية وهي صغار، وحلق رأسه، وحلق الأمراء رءوسهم، وتركت ذوائب الشعر.

وفي عهد المماليك كان الجند يشدون أوساطهم ببنود من قطن بعلبكي مصبوغ، وعليهم أقبية بيضاء أو مشجرة حمراء أو زرقاء، وهي ضيقة الأكمام، وفوق القباء كمران بحلق وأبزيم وصولق، والصولق جراب أو كيس من جلد، وفيه منديل طوله ثلاثة أذرع، فلما جاء قلاوون صاروا يلبسون الأقبية التترية، وفوقها القباء الإسلامي، وعليه تشد المنطقة والسيف. ويتميز الأمراء والمقدمون وأعيان الجند بلبس أقبية فوق ذلك قصيرة الأكمام.

وكان العادة في الأسرى أن ينزلوا في معسكر خاص بهم، تضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى ويمضي بالنساء والأطفال إلى قصر الملكي بعد أن يعطي الوزير طائفة منهم ويفرق ما بقى من النساء على الجهات والأقارب فيستخدمونهن ويربونهن حتى يتقن الصناعات، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الأستاذين فيربونهم ويتعلمون الكتابة والرماية، ويقال لهم (الترابي) وفيهم من صار أميراً من صبيان خاص الخليفة ومن كان يستراب به من الأسرى ضربت عنقه، ولم يعرف قط في الدولة الفاطمية أنها فادت أسيراً من الفرنج بمال ولا بأسير مثله، أما في الدولة الأيوبية فكانت المفاداة تحدث من الجانبين.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول

ص: 35

‌موكب الأبطال

للأستاذ علي محمود طه

(هذا هو النص الكامل لقصيدة الأستاذ الشاعر التي يحي فيها

أبطال الفلوجة بعد أن استلهم موكبهم الظافر بعض المعاني

والخواطر)

أقدم فداك حديدها ولهيبها

واغنم مجادتها فأنت ربيبها

مجدُ الفتوح الغرِّ أنت وريثه

والحربُ أنت على المدى موهوبها

ما الحرب إلا ما شرعتَ، وما رأت

أممٌ تذود عن الحقوق شعوبها

نادت فهبَّ على الدماء ضريحها

يمشي، ويقتحم السعير خضيبها

شرفُ المحارب أن يعف سلاُحه

إن جارت الهيجاء وهو حريبها

ليجبر شعباً أو يحرر أمةً

لا تستباح ولا يضام نجيبها

النصرُ أن نلقى الطغاةَ بضربة

شعواء لم يُصبِ الطغاةَ ضريبها

فخذ العدو المستخفُّ بطعنةٍ

إن لم تمته، غدا تمِتْهُ ندوبها

والمجد أن تحمي وراءك قريةُ

ضاعت مسالكها وضاق رحيبها

جُن الحديدُ بأرضها وسمائها

فجرى وطار، تصيبه ويُصيبها

شدت يدُ الفولاذ حول نطاقها

حلقا تصيح النارُ: كيف أذيبها؟!

بالروح والإيمان أنت قهرتها

بأساً، فلان على يديك صليبها

حتى إذا أعيا العدوَّ جلادُها

ووهتْ جحافله وطاش وثوبها

عضتْ على كّفيه، والتّفت على

ساقيه، وانسدت عليه دروبها

ومشت له منها ضراغمُ غابة

كلُّ الردى أخلابها ونيوبها

قذفت به عنها، وعودر جيشه

بَدداً تعقَّبُه الحتوف وحُوبها

جثثاً تعاف البيدُ شربَ دمائها

ويعفُّ كاسرها ويأنف ذيبها

شرفاً كماةَ النيل أيُّ بطول

راع الكماةَ فنونها وضروبها

مواقف لكمو تُشيد بذكرها

دولٌ وراء النار قام رقيبها

ص: 36

وملاحمُ الأبطال في (فلوجة)

قصص الكفاح غريبها وعجيبها

(هومير) ما غنى بها (طروادة)

ومكثلها ما ألهمتهُ حروبها!

ضربوا الحصارَ على الكماةِ فجاءهم

فطن الشجاعةِ في الحروب أريبها

متمرِّسٌ بطباعها متفرِّسٌ

في روعها، يَقظ الخطى مرهوبها

فادِ أحمُّ كأنما إحترقت به

حربٌ من الميلاد كان نشوبها

فمْا وشبَّ، عليه من يحمومها

أدّمٌ زَهاهُ من السِّماتِ مهيبها

طلعت به إفريقيا وتطلّعتْ

آجاُمها وجبالها وسهوبها

يزري بما نصب الدُّهاةُ لصيده

ويضلُّ أشراكَ الردى ويخيبها

ما زال مصطرعاً يصول ودونه

بيداء يغشاها اللظى ويجوبها

ساق الطغاةُ لها فرائسَ فتنة

حمراء ينفخ في الجحيم ربوبها

عرضت مآثمها بهم وتقدَّمت

أمم تمور على الرمال ذنوبُها

حتى رأته كوي السماء ففتحتْ

وتلألأت بسنى السلام ثقوبها

ومشى الكميُّ أشنَّ بين رجاله

أبطال حرب لا يقر سليبها

لن تُستذلَّ ثرىً عليه دماؤهم

سالتْ. لقد روَّى الحياة صبيبها

يا أيها الأبطالُ مصرُ إليكمو

بالغاز يَستبقُ الشبيبةَ شِيبها

وعقائلٌ خلف الخدور هوائفٌ

كالطير أذَّنَ بالصباح هبوبُها

ينثرن بالريحان فوق رؤوسكم

طاقات ورد ليس يذهب طيبها

وهفت غمائمُ في السماءِ تُظلّكم

ويرفُّ مُصعُدِها لكم ومصيبها

وعلى طريق المجد من (فلوجة)

مُهجٌ حوائم، في التراب وجيها

شهداؤكم ودُّوا هناك لو أنهم

قدموا بألوية يروع خضيبها

طلعوا بنور الفجر فوق مآذن

تدعو، ورحمنُ السماءِ يجيبها

هاتوا حديث الحرب كيف تطامنتْ

لكمو مفازُعما وهان عصيبها

في قرية محصورة كسفينة

في لجةٍ هاجت وماج غضوبها

لم تدرِ فيها الريحُ أين قرارها

والشمس أين شروقُها وغروبها

كم حدَّثوا عنها وقالوا في غدٍ

للقاع تهوى أو يحينُ رسوبها

ص: 37

وبمصر والدنيا عيونُ أحبةٍ

ألسهدُ والألم الممضُّ حبيبها

ترعى النهار، وتتقي غسق الدَّجى

هذا يُطمئنها وذاك يريبها

إيه حُماةَ الشرق كم بجهادكم

تشدو العصورُ بعيدعها وقريبها

هذي ضفافُ وهذه داراتكم

دارتُ شمس لا يحول شيوبها

ترنو لكم وتكاد من أشواقها

تمشي! وكيف حراكها ودبيبها؟

لم لا أغنيكم قوافيَّ التي

غنى بملحمة الحياة طروبها

هي من روائعكم ووحي جديدها

منكم، ومنى في البيان رنينها

بالله إن طُفتم بساحةِ عاهلٍ

ترعاهُ مصرُ عيونُها وقلوبها

فتقدَّموا تحت اللواء وقرِّبوا

هذه السيوف الداميات غروبها

أحيت له ولمصر أيَّ مجادة

هي زُغرُهُ المأثورُ وهو وهوبها

هيهات تُنبتُ تربةٌ غيرَ العلى

ما دام يُسقى بالدماءِ خصيبها

علي محمود طه

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

حول العبقرية والحرمان:

أستاذي. . . . . . . . .

قرأت لكم مقالاً تحت عنوان (العبقرية والحرمان) بأحد أعداد الرسالة الزهراء. وكنت ككل كتاباتك ملهماً مبدعاً حتى أنني قرأت المقال مرات ومرات، واستوقف نظري بين ثناياه كلمات كتبتها عن (بيرون) الشاعر الإنجليزي العظيم عندما تقول:(إن بيرون في الأدب الإنجليزي قد أبدع أعظم آثاره الفنية وهو يتقلب في بحبوحة من العيش لا تتهيأ إلا لمن كان في مثل مركزه الاجتماعي العظيم). . . وفي الوقت نفسه تحاول السيدة أمينة السعيد في كتابها عن شاعرنا هذا، وهو أحد أعداد سلسلة (اقرأ) أن تنقض هذا الرأي وأن تقول إن التاريخ الأدبي لم يخلد (بيرون) وأشعاره إلا يوم أن كان يعيش تحت كآهل الحرمان! وإليك هذه السطور التي كتبتها عنه:(كانت طبيعة بيرون الحقة إذا حزن وتألم فاض بالشعر قلمه في سهولة وقوة وعذوبة، وإذا سعد وهدأت ثورته هدأ الوحي بهدوء نفسه وضعف بضعف ثورته، وظل على هذا الحال طوال حياته، فسجلت أيام الشقاء أروع قصائده وأكثرها خلوداً). إلى هنا ينتهي رأي الكاتبة الأديبة. وهو رأي يحتاج إلى التأمل العميق والحكم بأي الرأيين أصوب. . . إننا نقدس حرية قلمك ونزاهته، ونأمل أن يكون الرد على صفحات الرسالة.

عبد العال حسن إسماعيل

(معهد فؤاد الأول بأسيوط)

أشكر للأديب الفاضل كريم التقدير وأدب الخطاب، وأسجل إعجابي بهؤلاء الشباب المخلصين للأدب والفن من طلاب الأزهر في هذه الأيام؛ وإنها لظاهرة تبشر بالخير في مجال خلق جيل يقرأ ويناقش وينهل من ينابيع المعرفة في شتى فنون الفكر وألوانه. . . من حق هذا الجيل الجديد أن أحييه على صفحات (الرسالة)، لأن الكثرة الغالبة فيما أتلقاه من رسائل ممتازة هي من طلاب الأزهر لا من طلاب الجامعة!

ص: 39

بعد هذا أجيب الأديب الفاضل بأن هذه الكلمات التي جرى بها قلم السيد أمينة السعيد تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنريك هاينى، وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. . . ولقد كنت أرجو أن يكون رأي الأديبة المصرية قائماً على دراسة شعر بيرون مرتبطاً بحياته ومقترناً بطبيعته النفسية والخلقية، ولو أجهدت نفسها في هذه الدراسة لخرجي برأي غير الرأي ونظرة غير النظرة، ولكن كتابها في ميزان أدب التراجم لا يعدو أن يكون قصة طريفة تدور حوادثها حول شخصية بيرون ومغامراته ونزواته ورحلاته! ومعنى هذا أن الدراسة النقدية لشعره لم تحظ من قلمها بنصيب، وكذلك الدراسة النفسية في مجال الكشف عن صلة الفن بالحياة، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل ما يتلقاه من هزات القلب والشعور!

شخصية بيرون الأدبية والإنسانية شخصية جليلة المعالم واضحة السمات. لقد انحدر من صلب أسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن آباء، ولكن بيرون خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة ومواهب الفنان، ولقد خففت هذه من حدة تلك فلم يلق الحياة بالشر المطلق الذي يلغي الإحساس بالألم العارض والهم العابر ووخزات الضمير. . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي يعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الرجل الجميل المدلل الذي لا يمد عينيه أبداً إلى أمام! وفي محيط الشر والإئم كان (الفنان) الذي في دمه يستيقظ من حين إلى حين، ومن هنا كان بيرون يتألم ولكنه الألم العابر كما قلت، يطرق بابه ليرتد عنه بعد لحظات أمام جموح الشباب المترف الذي يحطم في سبيل غايته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! الألم في حياة بيرون لم يكن ألماً بالمعنى المفهوم عند شاعر مثل هاينى، ولكنه كان لوناً من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه. . . حلوة، صافية، عميقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذا رأى الجو صحواً والسماء صافية، فإذا امتلأ الجو بالغيوم وتوارى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تنعى هذا

ص: 40

الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء! من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد. . . يقول بيرون: (لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهوراً بتردد اسمي على كل لسان)، قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى أيدي الناشرين فدفعوا باسمه إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشابلدهارولد)، وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق!. . . لقد جادت قريحته الوثابة بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق أجمل أيامه وأسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به عباب البحر إلى إثينا وأزمير ومالطة واستانبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيراً، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلدهارولد)!

وإذا ما تردى بيرون في هوة الإثم والفسق والفجور سعدت نزواته وسعد فنه وسعد قراؤه. . إنها لحظات الصفاء بالنسبة لرجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الجامحة الشريرة في شخص (أوجاستا) أخته من أبيه. . ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون في (عروس أبيدوس)، وهي القصة الشعرية التي تصور قصة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو قصة الهوى الآثم بين (أوجاستا) و (بيرون) على التحقيق! صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من إثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسيه أنه لم يكن يفرع من الآمه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك. . يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور.

إن العبقريات كما سبق أن قلت معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال. . ومن البعض الأول كان بيرون، ومن البعض الثاني كان هاينى، ومن البعض الثالث كان جوركي، ولعل في هذه العجالة ما يهدي الأيبة المصرية إلى معالم الطريق!

ص: 41

إلى صديقي الفنان المجهول:

رسالتك القوية الروح نقلتني إلى عالمك.: إن عالمك كما بدا لي من خلال كلماتك ترفرف عليه الإنسانية بجناح من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان. لقد ناديتني بهذه الكلمات العميقة: (أخي في الفن، أخي في النقد، أخي في العروبة، أخي في الإسلام، أخي في سماوات الفن الإنساني الرفيع). . وشاء ذوقك المصفى أن تفني على قلمي المتواضع من الثناء الجم ما لا طاقة لي على ذكره!

لماذا آثرت ألآ تذكر لي اسمك؟ إنني أود أن أعرفك أيها (الإنسان). . ويسرني أن تبعث إلي بشيء من إنتاجك لأراك رأي الفكر حين يعز علي أن أراك رأى العين!

تسألني ما هي الأبحاث التي تغلغلت إلى الأعماق وحازت قبولي، وما القصص الذي قدرته وما التراجم والدواوين والأبحاث النقدية التي أرى فيها ومضاً من فكر ونوراً من حس، وإدراكاً للقيم الحقيقية دون التفات إلى البهرج الزائف والغلاف المصنوع؟

معذرة إذا قلت لك إن هذا السؤال يحتاج إلى شيء من التحديد، فأنا لا أدري إذا كنت تريد الجواب عن هذا كله في نطاق الأدب العربي أم في نطاق الأدب الغربي أم في نطاقيهما معاً! إنني في انتظار رسالة منك تحدد لي فيها ما تريد الجواب عنه.

ولك يا صديقي المجهول تحية ملؤها الود الخالص والتقدير العميق

لحظات مع ايليا أبي ماضي:

قلت في عدد مضى من (الرسالة) إن في شعر المهجر شيئاً يثير إعجابي، وأوثره بتقديري، وأشعر نحوه بتجارب الفكر والعاطفة. . . ذلك هو عمق الصلة بين الفن والحياة! الحياة في شعر المهجر نفس عميق، وهمس رفيق ونبع شعور متدفق. ولعل هذه القصيدة التي صدح بها أو ماضي في الحفلة التكريمية التي أقيمت له في دمشق من خير ما قرأت إشراقة لفظ، ورحابة أفقن وأصالة شاعرية. . . عنوان القصيدة (عجباً لقومي)، ومطلعها هذه الأبيات:

حي الشآم مهنداً وكتاباً

والغوطة الخضراء والمحرابا

ليست قبابا ما رأيت وإنما

عزم تمرد فاستطال قبابا

فالثم بروحك أرضها تلثم

عصوراً للعلى سكنت حصى وترابا

ص: 42

هنا وفي كثير من شعر أبي ماضي تلمس الصدق في الفن كما تلمس الصدق في الشعور، وحسب الشاعر المطبوع أن يعبر عن وقع الحياة على وجدانه فيصدق في التعبير، وحسبه أن تمر به التجربة الشعورية فيسجلها في صدق وأمانة، وحسب الناقد أن يقنع بمظهر الصدق الشعوري في تلوين الصورة، وأن ينشد بعد ذلك مظهر الصنعة الفنية في إبراز الإطار! أرأيت إلى التناسب النادر بين ضخامة اللفظ والمعنى والخيال في البيت الثاني، وإلى قوة الوثبات التعبيرية والنقلات الموسيقية في البيت الثالث؟ إن الإيقاع هنا يتعاون مع التعبير فإذا الشعور ينساب مع رنين الكلمات ويهتز تجاوباً مع درجات السلم الموسيقي: فالثم بروحك أرضها - تلثم عصوراً للعلى - سكنت حصى وترابا. . إن التوزيع الإيقاعي هنا أشبه بتوزيع الضوء في يد مهندس فنان!

وانظر إلى هذا التوزيع الممتاز مرة أخرى حين يخاطب (بردي) بهذه الهمسات:

روح أطال في السماء عشية

فرأى الجمال هنا فحن فذابا

وصفا وشف فأوشكت ضفاته

تنساب من وجه به منسابا

بردي ذكرتك للعطاشى فارتووا

وبني الهوى فترشفوك رضابا

مرت بك الأدهار لم تخبث

ولم تفسد وكم خبث الزمان وطابا

وإذا ما انتقل أبو ماضي من مناجاة (بردي) إلى مناجاة (شهيد ميسلون) نقلك معه من أفق إلى أفق. . إن صوته الهامس هناك قد بدأ يعلو هنا في نبرات قوية صاخبة، وكذلك موسيقاه. إنها لم تعد تلك الأنغام الهادئة الوديعة التي تنطلق من ناي أشبه بناي الرعاة، ولكنها تستحيل هنا أنغاماً أخرى تهز مسمعيك منها ضربات موسيقية عاصفة، كتلك التي تطالعك من (صوناته) لبيتهوفن قبل أن تشرف على الانتهاء:

إني لأزهى بالفتى وأحبه

يهوى الحياة مشقة وصعابا

ويضوع عطراً كلما شد الأسى

بيديه يعرك قلبه الوثابا

ويسيل ماء إن حواء فدفد

وإذا طواه الليل شع شهابا

وإذا العواصف حجبت وجه السما

جدل العواصف للسما أسبابا

هنا لون من الغناء، ولكنه الغناء الحماسي الملتهب الذي يتلاءم وشعر الملاحم، وهكذا يكون شعر: همساً في مواضع الهمس، وحرقاً في مواقف الحنين، وارتفاع نبض وجهرة صوت

ص: 43

في لحظات التوهج والتوئب والانطلاق!. . وقف طويلاً أمام هذه الصورة الفنية التي اكتملت لها الأبعاد والزوايا في مجال التسلسل التعبيري: يضوع عطراً إذا ما عرك قلبه الأسى - يسيل ماء إذا ما حواء فدفد - يشع شهابا إذا ما طواه ليل - يجدل العواصف أسباباً للسماء إذا ما حجبت العواصف وجه السماء. . . إن الشاعر هنا لا ينظم فحسب، ولكنه يشرف من قمة الفن على الحركة النفسية في شعره، كما يشرف الجندي البارع من فوق منصته على حركة المرور في ميدان يموج بالعابرين!

بعد هذه المناجاة الحارة لشهيد ميسلون يضرب أبو ماضي بجناحيه القويين في أفق أخر، حين يعرض لموقف العرب المتخاذل من القضية الفلسطينية. . . ومعذرة إذا ما اقتصرت على ترديد أبياته في هذا المجال بيني وبين نفسي لأن قلم الرقيب هناك! حسبي أن أثبت هنا هذه الصرخات:

دنياك يا وطن العروبة غابة

حشدت عليك أراقماً وذئابا

فالبس لها ماء الحديد مطارفاً

واجعل لسانك مخلباً أو نابا

لا شرع في الغابات إلا شرعها

فدع الكلام شكاية وعتابا

هذي هي الدنيا التي أحببتها

وسقيت غيرك حبهاأكوابا

إن وراء هذا الشعر شاعراً جبار الجناحين مكتمل الأداة!

رأي في ترجمة آلام فرتر:

في جلسة جمعت بين نفر من أسرة (الرسالة) وزائري ندوتها الأدبية، دار حديث عابر حول الكلمة التي عقبت بها على رأي الأستاذ سلامه موسى في ترجمة آلام فرتر للشاعر الألماني جيته. . . وكان التعليق الوحيد من الأستاذ صاحب (الرسالة) هو أن مد يده إلى أحذ أدراج مكتبه، ثم أخرج منه رسالة بعث بها إليه المستشرق الألماني الدكتور جولياس جرمانوس حول ترجمته العربية لآلام فرتر. وتناولت الرسالة وقرأتها فإذا هي قطعة من التقدير العميق والإعجاب البالغ، بترجمة يقول عنها الدكتور جرمانوس إنها تستحق منه خالص التهنئة على مطابقتها للأصلين الألماني والفرنسي، مطابقة بلغت الغاية في الأمانة والصدق وبلاغة الأداء!

ولم أجد بداً في سبيل تحديد القيم ووضع كل شيء في مكانه، من أن أطلب إلى الأستاذ

ص: 44

الزيات أن يأذن لي بترجمة هذه الرسالة التي فرض عليه التواضع أن تبقى في مكتبه دون أن يطلع عليها الناس. . . وفي العدد المقبل أقدم الترجمة العربية لرأى المستشرق الألماني في ترجمة صاحب (الرسالة) لآلام فرتر.

من الأعماق ولوعة الذكرى:

لو علم الأستاذ كامل محمود حبيب أي جراح أثارتها في نفسي قصته، لتردد طويلاً قبل أن يتفضل مشكوراً بإهدائها إلي. . . أيها الأديب الصديق، لماذا يبعث بلكلماتك من طوايا حلم دفنته، أشلاء ماض جريح؟ إن هذا الماضي الذي تنهد يوماً في سحيق عظامي، ستجيبك أطيافه في العدد المقبل وتناجيك رؤاه!

ص: 45

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

الأدب والفن في المعرض:

لم يخل المعرض الزراعي الصناعي المقام في الجزيرة، من رائع الفنون وأهمها الرسم والنحت. وأبرز ناحية تجلى فيها الفن بالمعرض (متحف الحضارة) الذي يمثل الحضارة العربية من العصر الحجري القديم إلى العصر الحديث، بالتماثيل والنماذج واللوحات والخرائط. وأول ما يطلع القادم على المتحف تمثال كبير للإنسان الحجري القديم وقف في مدخل كهفه، والمنظر رائع من غير شك، والتمثال موفق التكوين من حيث الدلالة على فكرته، غير أن باب الكهف الحجري محكم منتظم الشكل مما لا يتفق مع العصر الذي يمثله، وفي القرى المصرية الآن أبواب أقل منه إحكاماً وانتظاماً، وما يتصور العقل أن يكون باب الكهف في العصر الحجري القديم أكثر من حجر غير منتظم يسد به المدخل على قد الإمكان البدائي.

ويشتمل المتحف على حجرات خصص كل منها لتمثيل عصر من العصور، وقد احتوت على مجسمات ورسوم وأدوات تصور مظاهر الحياة في العصر. وأنت تحتاج إلى نحو ساعة تطالع فيها تلك المعروضات الفنية، فما تنتهي منها إلا وقد ألمت بالخصائص البارزة في عصور التاريخ بمصر، من العصور البدائية إلى إن ترى الفاروق يرفع العلم المصري على القلعة، ويوزع الإقطاعيات على صغار المزارعين، ويضع الحجر الأساسي لمشروع كهربة خزان أسوان، ولو تأخر الفراغ من إعداد المتحف قليلاً لرأيت به الفاروق يعانق بطل الفلوجة الأمير الاي السيد طه بك في يوم عيد البطولة.

وقد استرعى انتباهي في المتحف ما كتب على كل من المناظر الطبيعية المجسمة وهو (ديوراما (1)) و (ديوراما (2)) الخ. والكلمة تدل على المنظر الطبيعي المجسم. ويقول المشرف على المتحف: لم يضع لنا المجمع اللغوي كلمة عربية بدل (ديوراما) والمتحف كله عربي مصري صنعاً ولغة ما عدا (الديوراما).

وقد انتثرت في المعرض - عدا متحف الحضارة - آثار فنية جميلة، وخاصة في معرض وزارة المعارف الذي صفت به تماثيل فريق من أعلام النهضة المصرية في شتى النواحي:

ص: 46

كعلي مبارك، وقاسم أمين، وسعد زغلول، ومختار المثال وغيرهم. وهناك مكان مخصص لمعروضات دار الكتب المصرية التي تتكون من بعض المخطوطات، وقد وقف جماعة من الطلبة الأزهريين الزائرين إزاء (متن الكافية) يقرؤون بعض عباراته ويتضاحكون ولسان حالهم يقول: هذه الكتب وراءنا وأمامنا!

وفي معرض نقابة الصحفيين رأيت العدد الأول من جريدة (الأهرام) العريقة، وفي صدره مقال بغير عنوان أوله:(كيفما وجه العاقل أفكاره باحثاً عن حركة العالم الإنساني يرى فروع الحوادث راجعة إلى أصل واحد) فقرأت المقال وسرت مع الكاتب وهو يبحث عن حركة العالم الإنساني، حتى انتهيت إلى آخره حيث يقول:

(فنلتزم وقتئذ بعد معاناة البحث أن نرجع هذه الفروع إلى أصل أحد أنتج هذه النتائج وندعوه بالمقال ودليل الحال حب ذات غير مرتب أصدر طمعاً فعل ما ترى) وهذا الحكم المبني على (التأمل في حركة العالم الإنساني) يدل على أن العالم كان في ذلك العهد كما هو الآن: يسوده (حب ذات) وإن كان قد صار (مرتباً) و (فعل ما ترى) لا يزال الطمع (يصدره) فالعالم هو هو لم يتغير غير الشكل وطريقة التعبير. . .

ولا أريد أن أمعن في التأمل والفلسفة كما أمعن كاتبنا القديم فأنتقل إلى (الأخبار البرقية الواردة إلى الإسكندرية) وليس السجع في العنوان فقط، فهذا أيضاً مطلع الأخبار البرقية:(باريز في 30 تموز) ولو أن صحف اليوم تلتزم مثل ذلك النسق لكنا نقرأ فيها مثل (قصر شايو في 30 مايو).

ولعل من مظاهر الفنون الجميلة في المعرض، الرقص. . . رقص الخيل على نغمات الموسيقى البلدية. ويظهر أن فن الرقص أصيل لدى الفرس؛ فإن مشيتها العادية تبدو فيها مخايل الفن والمدربون الذين يرقصونها يتجهون بها إلى (هز الأرداف) ولو أن الفرنسيين التفتوا إلى موهبة الرقص في الخيل لاتجهوا بها إلى (الباليه) ومن يدري؟

وبعد أن ترى تلك المظاهر الفنية في المعرض العام تدلف إلى (حديقة الملاهي) فتشاهد الاعتداء المنكر على جمال الطبيعة في حديقة الجزيرة التي كانت من أجمل منازه القاهرة وأحفلها بالجمال، وطالما كانت مرتاداً للأدباء والفنانين، ومجلى للقرائج، ومراحاً للناشئة

وقد كنا حين نكتب في موضوعات الإنشاء عن (البساط السندسي) نتخيل أرض تلك

ص: 47

الحديقة الخضراء الناضرة، فليس من الهين أن نرى الآن ذلك البساط يطوى لتحل محله الأراجيح و (الأميرة بنورة المسحورة أعجوبة الزمان وتحفة القرن العشرين التي تخرج من زهرية الورد وتتكلم. . .)

وقد تبدل زوار الحديقة خلقاً آخر، فبعد أن كان يغشاها رواد الطبيعة والهدوء أفراداً حالمين، أو مثنى حبيبيْن، أو زرافات مرحين؛ صارت مطلباً للراغبين في لعب الولدان وعبث الطفولة، ومكسباً لذوي الحيلة، في ابتزاز الأموال، من الأجانب.

صور شعرية للشعراء:

أعلنت رابطة الأدباء يوم الأحد الماضي عن حديث في ناديها عنوانه (رأي شاعر في شعر الجيل) يعرضه الأستاذ علي الجمبلاطي، والشاعر المقصود هو الأستاذ أحمد مخيمر، وقد نظم رأيه في خمسة وأربعين شاعراً، أو صنع لكل منهم - كما يراه - صورة شعرية بأبيات أتبع فيها طريقة أبي العلاء المعري في (لزوم مالا يلزم)

وقال الأستاذ الجمبلاطي إنه يقصد عرض لون من الشعر وإثارة الآراء فيه. وقد استمعنا إلى هذه الأشعار، وطربنا لبعض ما تضمنته من دعابات وما بدا في بعضها من ومضات ولكني ألاحظ أن أكثرها تنقصه عناصر الصورة الأساسية وهي ملامح الشخصية الشعرية والقليل ما تبدو فيه هذه الملامح ومن هذا القليل قوله في الدكتور زكي مبارك:

أديب بنى مجداً

وصيتاً ورفعة

وما فتئ المقدار

يهدم ما يبني

فليت الألى، عابوا عليه غرروه

رأوا ما يلاقي من عقوق ومن غبن

وقوله في الأستاذ محمود حسن إسماعيل:

قد ينظم الشعر ولكن يعجمهْ

فشعره أفق توارت أنجمهْ

وراء كل خاطر منجمه؟

فيا ذوي القدرة من يترجمه؟

قد ضاع من بين يديَّ معجمه

ص: 48

ومنه ما قال في الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي، وأوله قوله:

متأنق في شعره ولباسه

فكأنه لقريضه كواء

أما الكثير الذي يفقد ملامح الصورة، فهو إما مدح أو هجاء والهجاء هو الغالب، وقد نال به من شعراء أفاضل. ويحسن مخيمر صنعاً لو أنه طوى هذا النوع من شعره، فنشرهُ يجني على ما يبدع من ألوان أخرى، وحسبه (لزوم ما لا يلزم) في القافية!

بين صديقي الأستاذ الأسمر وبيني:

قرأت ما كتبه صديقي الفاضل الأستاذ محمد الأسمر في العدد الماضي من (الرسالة) رداً على ما كتبته في الصلة بين قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وبين قصيدة الزين في حافظ إبراهيم. والحق أن كرم الأستاذ الصديق في الرد أسرني وكادت محاسنته تمسكني عن معاودة الموضوع، لولا منازعة القلم إلى إزالة الغبار عن الحقائق الأدبية فيما يلي:

1 -

قال صديقي الأستاذ الأسمر: (إن قصيدة الزين رحمه الله لا علم لي بها) وقال: (ولا هي من المتداول المعروف بين الناس) وأنا لا دخل لي في علمه، ولكن أقول إن القصيدة متداولة معروفة بين الأدباء، ومما يدل على ذلك أني لما أردت كتابة الموضوع ورأيت أن أتثبت من نصها، قصدت إلى دار الكتب المصرية، وما إن أبديت رغبتي في الاطلاع على قصيدة الزين حتى بادرني الأستاذ أحمد حسين بالقسم الأدبي في الدار، بأن القصيدة لديه وأنه نسخها بخطه وقت نشرها لإعجابه بها، وفي نفس الوقت أسرع بعض الحاضرين إلى إنشادها.

2 -

نعم ليست المعاني المطروقة ملكاً لشاعر دون آخر، والموافقات اللفظية جائزة الوقوع بين الشعراء، ولكن الأمثلة التي أتى بها الأستاذ الأسمر ذاتها تدل على أن الأمر في ذلك لم يعد العبارة أو الشطرة أو الخاطرة. والذي معنا موافقة ستة أبيات لخمسة في بعض الألفاظ، وفي المعاني باختلاف يسير فيها، مع اتحاد الوزن والقافية؛ فهل يصح أن نسمي اجتماع كل ذلك مواردة؟

3 -

لم أنتبه لأخذ الجارم من قصيدة شوقي في إسماعيل صبري، وليست هذه أول مرة يأخذ فيها الجارم من شوقي. وارتكاب أحد أمراً لا يسوغ أن تأتي مثله.

ص: 49

وللصديق الكريم تحيتي وودادي. . .

من الأعماق:

يسرني أن أكون أول قارئ لصديقي الأستاذ كامل محمود حبيب، يبدي رأيه في ختام قصة (من الأعماق) المنشورة في رسالة الأسبوع الماضي، فأقول إن موقف جلال موقف غريب إذ بصر على الزواج من إلهام بعد أن يعلم أن في حياتها شاباً آخر هو عادل، فمن أبسط الأشياء عند الخطبة أن يتحرى الخاطب عن مثل ذلك حتى لا يعاني شقاء العيش مع زوجته المتوقعة إن كانت تحب رجلاً آخر، ولكنا نرى الحقيقة تسعى إلى جلال، ومع هذا لا يزال يصر! فهو إذ ينسحب من الميدان لا يكون مضحياً بل ناجياً بجلده من الشقاء الذي ينتظره.

ولكن المشكلة - فيما يظهر لي - إنما هي كيف يقتنع جلال بضرورة الانسحاب، أو كيف يحمل على ذلك؟ أرى أن يبتعد عادل قليلاً ويترك المعركة تدور بين كرامة جلال - ولابد أن يستشعرها مع الزمن والتكرار - وبين فتور إلهام وإعراضها عنه، ويبعث عادل بالمدد إلى قلبها من بعيد، وسترى الأم سوء حال ابنتها فتشفق عليها وتتحول إلى جانب عادل فتكون عاملاً مهماً في إنها الموقف، بحيث يرى الضابط ضرورة فوز كرامته في المعركة بالانسحاب. . .

عباس خضر

ص: 50

‌البَريُد الأدَبي

أين العلوم في (الرسالة)؟

يسأل الأستاذ عبد المنعم العزيزي الأستاذ أنور المعداوي: (أين العلوم في مجلة الرسالة) في حين أن هذه المجلة تحمل هذا الشعار: (مجلة أسبوعية للآداب والعلوم والفنون).

لا تلومن الرسالة يا سيدي لأنه إذا كانت كبرى المجلات المخصصة

للعلوم قد انمسخت وخلعت عنها ثوب العلم لكي تكتسي ثوباً فضفاضاً

ملوناً مزخرفاً لا يمت إلى العلم بشيء، فلا غبار على الرسالة إذا

أقتصرت على الأدب لأن فرسان الأدب كثار والأدب أقرب منالاً من

العلم. وإذا كانت المجلة الموسومة بالعلم لم تخصص عُشر صفحاتها

لمقالة علمية واحدة لأن بين قرائها عشرة بالمائة على الأقل يفهمون

العلم ويودونه، فلا بدع أن تحرم الرسالة 10 بالمائة من قرائها من

قطرات العلم مع أن في قرائها 20 و 30 بالمائة من أهل العلم

ويتوقون إلى الاطلاع على ما يستجد من النظريات العلمية؛ فإذا

خصصت الرسالة في كل عدد 4 أو 6 أو 8 أعمدة لبحث علمي تكون

قد أتمت رسالتها وبزت غيرها.

في معظم ما تصدره مطابعنا من دوريات ورسالات وكتب لا تحيد عن الأدب، ومعظمه أدب قديم نلوكه ثم نتقيؤه وقد نتقيؤه زنخاً، وليس في دور العلم إلا المؤلفات التعليمية للمدارس وطلاب العلم.

ما من مدنية قامت على الأدب وحده. وقد يمكن أن تقوم مدنية على العلم وحده. إن مدنية العالم الحديثة قامت على العلومالطبيعية والكيماوية والرياضية والفلكية والطبية الخ. فإذا شئنا نحن أن نبني في شرقنا العربي مدنية خاصة بنا يجب أن نحذو حذو أوربا وأميركا في العناية الأولى بالعلوم، وإلا فنحن وراء وراء وراء. ولا يمكن أن تتقدم إلى الأمام.

ص: 51

اليابانيون في قرن واحد شرعوا ينافسون الغرب؛ لأنهم اقتبسوا العلم من الغرب، حتى إنهم اقتبسوا لغة غربية لكي يتعلموا العلوم بها فأصبحت اللغة الرئيسية لهم. أما أن نقتصر على زخرف الكلام والطباعة في صحافتنا فما هو إلا مرفين يخدر العقول ويطمس الصواب.

يحفزني الأستاذ أنور المعداوي إلى كتابة بعض مقالات علمية في الرسالة لكي تستوفي الرسالة حقها من العلم كما تستوفي حقها من الأدب والفن. فأشكر له حسن ظنه بي وقد ألبي طلبه وإن كنت في العلم دون ما يظن. وله وللعزيزي أطيب تحياتي.

2 ش البورصة الجديدة

نقولا الحداد

أدب القصة وأدب المعقب:

تفضل الأستاذ الكبير محرر (التعقيبات) فتناول مقالي عن أدب القصة القصيرة بتعقيب جاء صورة صادقة لأدبه، فقد توهم أنني عنيته بمقالي، كأن الرسالة مجلة منزلية تنشر وتطبع له وحده، أما القراء فلا حساب لهم، وراح يحاسبني - متهكما - على الوقوف منه موقف الأستاذية وهو ما لم يجر في خاطري أبداً. وما توهمت لحظة واحدة أنني أقرر جديداً في أمر القصة، إنما هي خواطر مرسلة ليس لي فيها إلا فضل الدراسة والتحصيل والاستنتاج، وأقول بكل تواضع أنني واثق تماماً من صحتها.

قد ترك المعقب كل ما أوردت في مقالي من حقائق - لأنه لا يستطيع هو ولا غيره أن ينقص منها حرفاً واحداً - وأمسك بتلابيي ليحاسبني على ما توهمه ولم أقله مما يثبت جموح النفس وتمكن شهوه التهكم وتجريح الناس من نفسه.

قال الأستاذ الغاضب (. . . ينكر الأستاذ عطا الله أن مجال العمل الفني في القصة القصيرة مجال محدود. . .) في حين أنني لم أقل إلا العبارة التالية: (من السذاجة أن يقول قائل إن الأقصوصة ليست ميداناً لعرض صور الحياة المختلفة بما تحفل به من كثرة وعمق وغنى وتنوع) وقد استنتج هو من عندياته أن عكس ما أقول لابد أن يكون غير صحيح، كأننا بصدد قضية جدلية! كما أنني لم أقارن مطلقاً بين القصة الطويلة والقصة القصيرة، ولم أذهب إلى أن القصة القصيرة تبلع أعلى مراتبها في كل حين، بل ذكرت أمثلة محدودة

ص: 52

وقلت إن الشخصيات الفذة هي التي ترقى بالأقصوصة إلى مرتبة الأدب العالي الشامل العميق، ومن البديهي أن مجال الأقصوصة في أيدي العاديين من الكتاب مجال محدود.

كما أنني لم أنكر مطلقا ً - وليس هذا تراجعاً مني - أن القصة الطويلة أوسع مجالاً من القصة القصيرة أو أنها الميدان الوحيد الذي يتسع لدراسة تطور الشخصيات وتفاعلها مع الحياة دراسة وافية، بل قلت إن الأقصوصة يجب أن تدور حول محور واحد وتعالج أمراً واحداً معالجة خاطفة فكيف استخرج الأستاذ المعقب من مقالي ما ذهب هو إليه؟؟

ولماذا يحب الأستاذ المعقب أن يضع نفسه دائماً في بؤرة الضوء ويلتمس لذلك شتى الحيل فيتوهم أنه المعنى بالحديث، ويقول للناس إن الكتاب يرسلون إليه كتبهم راجين أن ينقدها ويفترض أنه الناقد المثالي الأول فيعلن في زهو وصرامة أنه وجد أكثرها تافهاً لا يستحق العناء؟؟

ويختم الأستاذ كلمته بقوله إنني فزت بجائزة من جوائز الدرجة الثانية في مباراة القصة القصيرة التي أقامتها وزارة المعارف، ومعنى هذا أن هيئة التحكيم لم تقدر فني. . . أليست هذه مغالطة تكشف عن عنصر آخر من عناصر نفسية؟. .

نصريالله

مدمس:

نشرت الأهرام كلمة لأحد الباحثين تحت عنوان (بين العامية والفصحى) ادعى فيها أن (المدمس) أصله (المدمث) بالثاء المثلثة بمعنى اللين؛ وأقول إن هذا ليس بصحيح وإليك الأدلة:

أولا: اشتراك المدمس والمدمث في صفة وهي اللين لا يبرر أنه محرف عنه.

ثانياً: المدمس إدام مصري وطعام محلي بحت وهو غير معروف للعرب.

ثالثاً: جاء في (محيط المحيط) للبستاني ما نصه: المدمس طعام في بلاد مصر يصنعونه من الفول المسلوق والخل والملح والزيت اهـ. ولم يقل أنه محرف عن المدمث مع أنه يعني دائماً بالألفاظ الحديثة والكلمات الدخيلة.

رابعاً: جاء في مادة (دمس) ما نصه: دمسه في الشيء تدميساً دفنه وخبأه وأخفاه وغطاه

ص: 53

وستره اهـ. ومن هذا أخذ المصريون كلمة المدمس وأطلقوها على الفول المطهي بوساطة الحمام أو الفرن أو نحوهما لأنه يوضع في قدر بها ماء ويسد فمها جيداً وتدفن في الرماد الحار حتى تنضج.

خامساً: يمكن اشتقاق كلمة المدمس من (الدمس) بكسر الدال وتسكين الميم وهو ما يتخلف من روث المواشي ويتخذ وقوداً يوضع في الفرن ونحوه فيتخلف عنه رماد حار توضع فيه القدر بالطريقة السالفة.

سادساً: تسمع في الريف كلمة (الدمسة) بكسر الدال وتسين الميم وهي عبارة عن مكان محفور أو غير محفور يوضع فيه الدمس السابق وتشعل فيه النار للتدفئة وغيرها، ويقولون دمس الدمسة دمساً إذا وضع فيها الدمس. ومما يؤيد هذا: الفطير الدماسي، وهو المصنوع على الدمس.

علي حسن هلال

محرر بالمجمع اللغو

بين نقشة وفجز:

أرسل إلينا الأستاذ عبد الرحمن الخميسي يقول إن لديه رداً على ما أخذه عليه الأستاذ المعداوي في (التعقيبات)، ويرجو أن يفرغ منه هذا الأسبوع لينشر في العدد القادم.

فصيح ثعلب والشروح التي عليه:

مجموعة جديدة في فقه اللغة أخرجها الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي المدرس بكلية اللغة ونشرتها مكتبة التوحيد بالجماميز في نحو الخمسمائة صفحة.

وتشمل هذه المجموعة: كتاب فصيح اللغة لثعلب، وكتاب شرح الفصيح للهروي، وكتاب ذيل الفصيح للبغدادي، وكتاب فعلت للزجاج، وكتاب الاشتقاق الكبير لابن دريد. وكلها من أمهات الكتب في اللغة العربية وفقهها.

ومع هذه المجموعة: دراسات وتحقيقات جديدة قيمة في اللغة، وشروح وتعليقات وافية.

ونشر معها لأول مرة في تاريخ الثقافة العربية شواهد الكتاب لسيبويه مرتبة بحسب حروف الهجاء، مع الإشارة إلى مواضع الشواهد من الكتاب لسيبويه.

ص: 54

ونحن في غنى عن التنويه بهذا العمل العلمي، وبقيمته اللغوية وأهميته للدارسين والباحثين.

ويطلب الكتاب من مكتبة التوحيد بالجماميز أمام الخديوية وثمن النسخة خمسة وثلاثون قرشاً.

ص: 55

‌الكتب

وميض الأدب بين غيوم السياسة

لصاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا

بقلم الأستاذ أحمد أحمد العجمي

معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات ورئيس جامعة أدباء العروبة علم من أعلام الشعر والأدب والسياسة، وهو بشخصه العظيم وأدبه الرفيع في غنى عن الإشادة بذكره والتنويه بفضله. وآخر الدلائل على علو منزلته في الشعر والنثر، ورسوخ قدمه في النقد والتحليل، كتابه القيم (وميض الأدب بين غيوم السياسة).

ولعل السبب الأول في نشر هذا الكتاب حب المؤلف للشعر حباً سافراً متوقداً يجعله يقول عن القصائد: (وقد أكبر بعضها فأقرؤها واقفاً عند الوثبات التي تتخلل الشعر. . . والشعر سحر وفتنة، وقد افتتنت به؛ وفيه خيال، وفي الخيال تسلية ولذة؛ وهو موسيقي، وفي الموسيقى طرب وترويح وبهجة؛ وهو مناجاة تتصل بالروح فتستولي على الشعور وتملك الوجدان. وأعتقد أن الذي لا يهتز لجيد الشعر جاهل أو بليد، أما الجاهل فلا شأن لنا به، وأما البليد فله عذره، لأنه لم يخلق نفسه، على ألا يلوم غيره، وويل للشجي من الخلي).

بهذا الكلام الجميل، وبهذا الشعور العميق، وبهذا القلم الصناع تناول المؤلف في كتابه أكثر الشعراء والكتاب المعاصرين، فتحدث عن حافظ إبراهيم في موضعين حديثاً ألم فيه بميلاده ونشأته ونواحي نبوغه وذيوع شعره وما كان بين حافظ وبين (بني أباظة) من ود وإعجاب. ثم كتب عن شوقي فصلاً صور فيه سحره وعبقريته وجمعه بين الثقافتين العربية والغربية، وتوفيقه البارع في نظم رواياته الشعرية خاصة (مجنون ليلى) التي كان المؤلف يحفظها عن ظهر قلب. وسجل لأحمد محرم أكبر نصر ظفر به حين قال عنه: إنه شاعر الإسلام غير منازع في عصرنا هذا، وأشاد بالإلياذة الإسلامية ورجا من معالي وزير المعارف طبعها.

وكتب عن خليل مطران بك شاعر القطرين وأبدى إعجابه بتقدير الناس له وكيف انعقد الإجماع على حبه، ونوه بتجديده وبشعره الرقيق في الغزل وقال: إنني مولع بشعر مطران

ص: 56

كل الولع.

ثم كتب المؤلف مقدمته الخالدة لديوان الدكتور إبراهيم ناجي (ليالي القاهرة) فأفاض في الحديث عن الجديد والقديم، وعن اللفظ والمعنى، وعن طرق تعبير المدرسة الحديثة في الشعر، وكيف قوبلت هذه المدرسة بالحرب العوان، وكيف انتصرت هذه المدرسة التي يمثلها ناجي. وأشار إلى الفروق الدقيقة بين المدرسة القديمة والمدرسة الحديثة في الشعر والتفكير، وإلى شخصية ناجي وطابعه الواضح وعاطفته المتأججة في كل أشعاره الطريفة، وقال عنه: إنني لأحب هذا الشاعر كل الحب، ولا أعتقد أن حبي طغى على تقديري له، فهو شاعر رقيق تصل معانيه إلى قلبك قبل أن تصل إليه ألفاظه في طلاوة وسهولة. وقال: إن ديوانه يمثل نهضة الشعر المعاصر وتطوره. ولعل هذا الفصل أبدع وأروع فصول الكتاب.

ثم أبدى المؤلف إعجابه بالأستاذ محمود غنيم وقال: إن ديوانه (صرخة في واد) صرخة الأدبالرفيع سيرن صداها على مدى الأجيال بين آفاق العروبة. ونوه بخصائص الأستاذ العوضي الوكيل في ديوانه الجميل (أصداء بعيدة) وأظهر خصائصه قدرته على سرعة النظم سرعة تكاد تكون ارتجالاً، وإجادته في الربيعيات خاصة في ديوانه (أغاني الربيع)، ونظم الشعر الرائع في أسرته وأولاده حتى أعد ديواناً كاملاً سماه (عالمي الصغير). وقال المؤلف عن الشاعر: فأنا إذ أقدمه إلى قراء الشعر العربي الحديث أقدم موضوعاً كاملاً من الأدب العالي والفن الرفيع.

وقص علينا كيف لقي الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي في (غزالة) لأول مرة في مقدمته لديوانه (أحلام الفجر) - وسيصدر قريباً - وقال عنه: إنه شاعر تنبض العاطفة الجياشة في كل ما يصادف القارئ من قصائده ومقطوعاته، وشبه ديوانه بالمعرض الفني العظيم، وعلل كيف يراه بحترياً متنبياً في آن، أو شوقيَّ عقاديَّا معاً.

ويمتاز ما كتبه الناقد العبقري صاحب (وميض الأدب) في الشاعرين: العوضي والغزالي بقوة التحليل ودقة التعليل وبراعة التدليل والربط بين الشاعرين وأشعارهما برباط محكم لصلتهما به منذ زمان طويل.

وفي وميض الأدب كلمة عن الأستاذ الصاوي شعلان صدر بها كتابه (حكمة الشرق) وبين

ص: 57

فيها مقدرته على الترجمة ومعرفته كثيراً من اللغات وفي الكتاب نص الكلمة القيمة التي نشرت في صدر الرسالة منذ شهور بعنوان (أدباؤنا المعاصرون) يليها نموذج رائع من شعر الشاعر الكبير دسوقي باشا بعنوان (مصر والصين) وهو شعر جدير بوزير. ولابد من التنويه هنا بأبحاث عظيمة في الكتاب مثل (لماذا حاربنا الصهيونية) و (من مهرجان العروبة) وقصيدة العقاد في تكريم المؤلف، وهي قصيدة قيمة، ومقدمة ضافية للعقاد في صلة الأباظية بالأدب وحبهم له، ومنزلة الدسوقي باشا وفضله على الأدب والأدباء، وفي آخر الكتاب كلمة مناسبة للناشرين.

هذا عرض سريعلفصول الكتاب الذي وفق فيه معالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا ودل على مقدرة بارعة وإحاطة واسعة بوفرة ما تمثل به من أشعار الشعراء، وكان اختياره الحسن دليلا ناطقاً وبرهاناً صادقاً على ذوقه الرفيع.

ولم يخل الكتاب من مناقشات طريفة لبعض آراء كبار الأدباء، كمناقشة المؤلف رأي الأستاذ عباس محمود العقاد في الشاعر المجدد خليل مطران، ومناقشته رأي الدكتور طه حسين بك في مرائي الشاعر الخالد حافظ إبراهيم للأباظيين، ومناقشته رأي أستاذ الجيل لطفي السيد باشا في شوقي وحافظ، والمؤلف يبدي آراءه ويدلي بحجج قوية ناصعة تخالف هؤلاء الأعلام، والرجوع إليها في الكتاب أفضل من تلخيصها في كلمات.

وللمؤلف تعبيرات جديدة محكمة كقوله: لغة الشعر غير لغة القاموس؛ وتعبيرات سديدة حاسمة كقوله: في رأيي أن الشاعر المجدد تعنيه الفكرة ويتصباه الموضوع، وربما أبعده هذا عن جمال الأسلوب وإشراق الديباجة وحلاوة التعبير؛ وتعبيرات لغوية دقيقة كقوله: أمسى اليتيم لطيما (واليتيم من مات أبوه واللطيم من مات أبواه والعجي من ماتت أمه) وتعبيرات ساخرة لاذعةكقوله: فليسمح لي الدكتور طه المعجب بالفيلسوف ديكارت القائل بنظرية الشك أن أشك في إسنادههذا الرأي لأستاذنا الكبير لطفي السيد باشا؛ وتعبيرات لطيفة ظريفة مرحة كقوله في التعليق على قول مطران:

أقسمتُ ما أشركتُ فيكِ ولم يكن

لي في الهوى دينٌ سوى التوحيد

بهذا البيت اعترف المطران بالإسلام دين التوحيد فاشهدوا عليه!!

وتعبيرات أخرى يخفى مدلولها على كثير من القراء كقوله: هل يكون الشاعر الأول - بين

ص: 58

شعراء الشباب - إبراهيم ناجي أم أبا فاشا أم غنيما أم العوضي الوكيل أم أحمد الغزالي أم مخيمرا أم حماما؛ وكتابة الأسماء بهذا الشكل الملفوف فيها ترتيب مقصود إلا في اسم أو اسمين.

وفي الكتاب بعض آراء تقبل المناقشة، ولا خير في كتاب أدب وشعر ونقد ليس فيه آراء تقبل المناقشة، كقول أديبنا الكبير في شوقي:(تستدبر الأجيال ألف عام حتى تعثر على من يقف في صفه ويصح أن يقارن به، شاعر واحد بعد ألف عام لك أن تفاضل بينه وبين شوقي - إنه المتنبي) هذا كلام يمليه حب شديد لشوقي يوشك أن يكون غلواً أو تعصُّباً، والمتنبي يفوق شوقي بقدر ما بينهما من عدد السنوات!!

وقد فضل المؤلف قصيدة خليل مطران على قصيدة حاقظ إبراهيم في رثاء البارودي، وهي القصيدة المشهورة التي مطلعها:

ردوا عليّ بياني بعد محمود

إني عييتُ وأعيا الشرر مجهودى

بسبب بيت واحد في قصيدة مطران هو:

على الشمس أن تهدي المبصرين

وليس على الشمس أن تبصرا!

والبيت رائع جداً ولكن قصيدة حافظ أفضل بالرغم من أنها لاصقة بالشعر القديم، وإن كان مطران أعظم من حافظ مع كراهيتي الشديدة تفضيل شاعر على شاعر فلكل فنان مزاياه.

ويقول المؤلف: محمود غنيم شاعر مرموق المكانة يقف في طليعة الرعيل الأول من شعرائنا المعاصرين وليس في بلاد العرب من لا يعترف له بذلك! ويبدو أنني - بحق وصدق - من بلاد العجم، لأنني لا أعترف بأن (محمود غنيم) في طليعة الرعيل الأول من شعرائنا المعاصرين مع إعجابي بفنه الرفيع.

بقيت كلمة في أسلوب صاحب الكتاب، وقد قدمت منه نماذج كثيرة، وهو أسلوب ناصع اللون، واضح الجرس والرنين، جزل سهل متين النسج، أقرب إلى الطبع من الصنعة، وأدنى إلى السحر من الشعر، وإنه لسحر مبين.

أحمد أحمد العجمي

ص: 59