المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 821 - بتاريخ: 28 - 03 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 821

- بتاريخ: 28 - 03 - 1949

ص: -1

‌تعليق على جواب

صديقي الأستاذ أبا خلدون:

سألتك: هل الشقاق طبع في العرب، فأجبتني أن الشقاق طبع في جميع الناس. وكما سقت إليك في سؤالي شهادة التاريخ على شقاق العرب في الجاهلية والإسلام، وفي البداوة والحضارة، وفي الدين والسياسة، وفي الشدة والرخاء، سقت إلىَّ في جوابك شهادته على شقاق اليونان والرومان والفرنسيين والألمان في كل أولئك! وقصر الشقاق على العرب، والخلاف على المسلمين، لم يخطر ببالي حين وجهت إليك سؤالي؛ فإن من يَقصر الخلاف في حياة الناس على بعض دون بعض، كمن يَقصر التقلب في حال الطبيعة على أرض دون أرض. والله العليم بكل سر والشهيد على كل أمر يقول:(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)؛ إنما قصدت بسؤالي أن أواضعك الرأي في طبيعة الشقاق العربي الذي لم يحسمه الدين ولم تخففه التجارب: أيصدر عن علة تزول، أم يصدر عن جِبلَّة تبقى؟ والذي رابني من هذا الشقاق ما أراه اليوم من تَمرده على الميثاق الجامع، وخروجه على الرأي الجميع، وتحديه للخطر المشترك، لشهوة تستبد ببعض النفوس، أو لنزوة تعصف ببعض الرءوس، لا لفلسفة تبرر سياسة الفرقة كما كان عند الإغريق، ولا لاجتهاد يتوخى سلامة الجماعة كما كان عند الرومان.

أما قولك يا صديقي إن العرب ليسوا بدْعاً من الأمم في الشقاق والانشقاق، فإني كنت أرفعهم في نفسي وفي رأيي فوق ذلك؛ لأن الأمة العربية إحدى أمتين اختارهما الله لإعلان دينه وإعلاء حقه، فبعث آخر رسله من بينها، وأنزل دستور شرعه بلسانها، ووضع ميزان عدله في يدها؛ فإذا هي أصاخت كغيرها إلى صوت الغريزة، واستجابت لدعاء الهوى، لم تكن حرية بقول الله فيها:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). ولا بقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس).

وأما تفسيرك العرب بالبدو في قول صديقك أبن خلدون، فلا يؤخر في التهَمة ولا يقدم في الدفاع، لأنك تعلم أن الموج من العُباب، وأن العرب من الأعراب، وأن العصا من العُصَيّة. والطباع قلما تتغير بانتقال صاحبها من سكني الوبر إلى سكني الحجر، ومن رعاية الإبل

ص: 1

إلى رعاية الناس.

وأما تعليلك هذه الصد عات التي أصابت العروبة فمزقت الكلمة وفرقت الدين، بسرعة الفتح، واتساع الرقعة، ومؤونة الانتقال، وصعوبة الاتصال، فيضعفه علمك بأن الصدعة الصغرى كانت في (السقيفة) بعد أن قُبض الرسول، وإن الصدعة الكبرى كانت في (الدار) بعد أن قُتل عثمان!

لا يا صديقي، إن الفردية هي علتنا الأصيلة، وإن العصبية هي داؤنا الموروث. وإن هاتين الرذيلتين هما جماع الآفات التي مُني بها العرب، وعُني بعلاجها الإسلام. وقد فصَّلت ذلك في مقالتين نشرا في (وحي الرسالة). والدليل قائم اليوم يا صديقي على أن الفردية والعصبية لا تزالان توهنان البناء، وتحللان العقدة، وتفرقان الجماعة. ولولا أن بيني وبينك ثالثاً يمحو ويثبت، لبينت الأسباب، وعينت الحوادث، وسميت الأشخاص؛ ولكني كضفدع الشاعر التي يقول فيها:

قالت الضفدع قولا

ردَّدته الحكماء

في فمي ماء، وهل ين

طق مَن في فيه ماء؟

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الذرة والسياسة والحرب

للأستاذ عمر حليق

في المعسكر الغربي جدل حول خطورة القنبلة الذرية كسلاح فاصل وعن الدور السياسي والحربي الذي ستلعبه في مستقبل العالم.

فهناك من يعتقد بأن القنابل الذرية التي يملكها وينتجها حلفاء الغرب كافية لأن تقضي على الكيان السوفيتي وآلة حربية في فترة من الصراع المسلح قصيرة الأمد؛ وأنه لا يمكن أن توجد أسلحة دفاعية ضد هذا السلاح الجهنمي.

ويستند أصحاب هذا الاتجاه إلى اختبار اليابان؛ فهذا النوع من التدمير الجهنمي الذي محا مدينتي هيروشيما وينجاساكي شاهد حي على تحليلاتهم وتعليلاتهم وهي تتعرض إلى النواحي الفنية في مفعول القنبلة الذرية وإنتاجها. وعلى رأس أنصار هذا الرأي العالم المعروف البرت إنشتين.

وأصحاب الرأي الثاني متحفظون في نظرتهم إلى سياسة القنبلة الذرية؛ فهم لا يرون في مفعولها هذا الهول العظيم الذي يتصوره الرأي العام العالمي. ومن أبرز أصحاب هذا الرأي العالم البريطاني الشهير البروفيسور بلاكيت. ، ، وهو متخصص في شؤون الذرة، وقد نال مؤخراً جائزة نوبل للعلوم الطبيعية، كما أنه أصدر مؤخراً كتاباً ضمنه آراءه بصدد سياسة القنبلة الذرية، فأثار ضجة في المملكة المتحدة في الأوساط العالمية إجمالا، وضرب بذلك مثلا على مكانة العلم وحرية الرأي في ظل الديمقراطية، إذ أن استنتاجاته وتحليلاته تخالف الرأي الرسمي للحكومة البريطانية ولكنها مع ذلك لم تعترض سبيله ولم تنفر من الاستفادة بخبرته العلمية.

ولنعد إلى عرض فحوى هذا التعليل الذي لا يميل إلى تعليق أمل كبير على القنبلة الذرية كسلاح سريع الفصل في حرب المستقبل. فهو يقرر أول ما يقرر أن نقطة الضعف الرئيسية في القنبلة الذرية كونها لا تختلف عن القنابل الجوية الأخرى إلا بتدميرها عدداً كبيراً من المنشئات والأنفس، وأنها لا تستدعي تغييراً جوهرياً في الخطط العسكرية التقليدية من حرب المشاة والأساطيل والطائرات، وأن حرب المستقبل لا مفر لها من اعتبار هذه الخطط العسكرية للنصر العسكري، فقد بلغ ما ألقته أساطيل الحلفاء الجوية

ص: 3

على ألمانيا في الحرب المنصرمة مليوناً وثلث المليون من أطنان المتفجرات، ومع ذلك فإن تقرير وزارة الحربية الأمريكية يقول بأن إنتاج ألمانيا الصناعي كان في سنة 1944 (بعد أربع سنوات من ابتداء الحرب) أكثر منه في مطلعها سنة 1939. وهذا التقرير الأمريكي الرسمي يعترف صراحة بأن خسران ألمانيا واليابان للحرب كان بسبب فقدان المؤونة من الأغذية والمواد الخام لا بسبب التدمير الجوي - فإن مصانع الحرب في هيروشيما وينجساكي لم تدمرها القنابل الذرية لأنها كانت في الضواحي، وأنه لو تسنى لليابانيين استعمال ملاجئ واقية حصينة لكانت إصاباتهم في الأنفس أخف. فقد كان العالم يجهل آنئذ مفعول القنبلة الذرية فلم يحتط لها بملاجئ واستعداد وقائي يتناسب وخطورتها. ويقول أصحاب هذا التعليل استناداً إلى معرفة فنية بإنتاج القنابل الذرية أن هذا الإنتاج في الدول التي تملك شر صنعه محدود، وأنها لا تستطيع توفير قنابل كافية لتدمير جميع المدن ومراكز الإنتاج الصناعي المعادي قبل مضي سنوات عديدة.

والناقدون لهذا التعليل يشيرون إلى أن خبراء القنابل الذرية لدى حلفاء الغرب يعتمدون على ضربة خاطفة على عصب الإنتاج لدى العدو بشكل لا يستطيع معه استرداد رباطة جأشه وترميم الخراب والحرب دائرة. وهناك من خبراء الذرة من يعتقد بأن الأنجلوسكسون لا يستطيعون في ظروف السلم إنتاج أكثر من 1000 قنبلة في السنة، وهم يقدرون كذلك - ولا يفهم عن مصادر هذا التقدير إلا أنها تستند إلى معرفة تكنولوجية - إن روسيا لن تستطيع إنتاج أول قنبلة ذرية قبل عام 1953. وهذا القصور في السباق يهيئ لحلفاء الغرب ذخيرة 4000 قنبلة، وهذا التفوق في الإنتاج يمهد للدعوة في بعض أوساط الحلفاء لإنهاء الكيان السوفيتي في أقرب فرصة، وللخلاف على مراقبة الإنتاج الذري بين الدول الكبرى عدا تعليلات أخرى سياسية واقتصادية فالبروفيسور بلاكيت المذكور مثلا يعتقد - ويردد بذلك ما يشتكي منه السوفيت - بأن عناد الولايات المتحدة في وضع معلوماتها عن الإنتاج الذري للخدمة الاجتماعية العالمية يعود إلى أنانية محضة من جانب الأمريكان، فإن الكيان الصناعي والعمراني في بلاد العم سام مثبت على أساس الوقود البترولي والكهربائي؛ فإذا عم استعمال الطاقة الذرية، فان ملوك البترول والتوليد الكهربائي وألف نوع ونوع من المنتجات الصناعية المتفرعة منهما سيتضررون ضرراً خطيراً يقلب بعض

ص: 4

أوجه النظام الاقتصادي رأساً على عقب؛ فلا غرابة أن تجاهد واشنطون ومن ورائها ملوك البترول والكهرباء في سبيل الاحتفاظ بالإنتاج الذري ضمن نطاق مقيد يراعى فيه مصلحة النظام الاقتصادي الحالي في أمريكا.

وفوق ذلك فإن في اطلاع روسيا على سر الإنتاج الذري وتوفير المواد الخام والمساعدة الفنية لهو خطر على تفوق أمريكا الصناعي الفريد. فإن الاقتصاد الموجه وسيطرة الدولة على الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي قد يحقق تعمم الطاقة الذرية في أقصر وقت على النحو الذي يخشاه ملوك الصناعة والمال في الولايات المتحدة، إذ أن ذلك يحقق في الاتحاد السوفيتي تطور الحياة الصناعية والاقتصادية على نوع هائل وخطير يضع الولايات المتحدة في مرتبة ثانوية في الحضارة المعاصرة والسيادة العالمية.

ويقول أصحاب هذا التعليل الاقتصادي - السياسي: إن مشروع الولايات المتحدة لمراقبة الطاقة الذرية المعروض على هيئة الأمم المتحدة لا يتوخى صادقاً إشراك الدول الأخرى في سر الإنتاج الذري، ولكنه يرمي إلى التعرف على مراكز التجارب الذرية في الاتحاد السوفيتي متخطياً بذلك الستار الروسي الحديدي عن طريق لجنة مراقبة الأمم المتحدة.

هذه هي وجهة النظر الروسية بصدد مراقبة الذرة.

ويجيب خصوم هذا الرأي مشيرين إلى أن روسيا غنية بالمواد الخام من الفحم والبترول، وأن قوتها الكهربائية الموَّلدة أضخم قوة في العالم على الإطلاق، وأنها لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنتج الطاقة الذرية على نطاق واسع قبل مضي ربع قرن على أقل تقدير؛ ولذلك كان خيراً لها أن تنشط لاستغلال خيراتها بغير الطاقة الذرية.

والقول بأن أمريكا تتحكم متعمدة ومخادعة في الإنتاج الذري لتحفظ كيانها وتدفقها الصناعي من الانقلاب الثوري الذري الخطير العواقب قول خاطئ. فإن الطاقة الذرية قد ولدت وهي الآن - لأسباب فنية - قيد الإنتاج البطيء، ولكنها ستعمم إن آجلاً أو عاجلاً فليس من المنطق أن تتهم الولايات المتحدة بالأنانية والوقوف في وجه التقدم الحضري فإن طبيعة العقلية الأمريكية واتجاهاتها وخصائصها تتوخى تنمية التقدم الآلي كما تشهد بذلك الحضارة الأمريكية الحالية.

وإذا تركنا هذه التعليلات ورجعنا إلى المسلك الرسمي الذي سلكه حلفاء الغرب في لجنة

ص: 5

الطاقة الذرية التابعة لهيئة الأمم والتي تجتمع الآن في لايك سكسس للمرة السابعة عشرة وجدناه يتأرجح بين ثلاثة حلول:

واحد منها سلبي، فالمشروع الأمريكي إذا لم يؤخذ بحذافيره فأنه يمنع المعلومات الحيوية منعاً باتاً عن الدول الأخرى.

والثاني إيجابي إلى حد ما رضيت بواسطته الولايات المتحدة مساعدة أعضاء هيئة الأمم في توفير الإنتاج الذري بالقدر الذي تحتاج إليه هذه الدول في صناعتها السلمية. فبذلك تظل واشنطون السيدة الأولى في مجال التفوق الذري.

والثالث بريطاني تسوده مسحة المخرج اللبق الذي عرفت به الدبلوماسية البريطانية. فهو يقول إن الخلاف في جوهره خلاف على الثقة به، وهو يقر المشروع الأمريكي في أصوله، ولكنه يطلب تقرر الثقة المتبادلة في العلاقات الدولية قبل التقيد بالالتزامات الخطيرة.

هذه الأزمة في الثقة هي عقدة العقد في الخلافات الدولية، لأنها تستند إلى تباين في الميادين والأهداف والسبل. وجميع الحلول التي قدمت ليست سوى محاولات دبلوماسية اللغة مبطنة المقاصد تحاول أن تخرج من المأزق فتنفق الوقت والجهد في الجدل العقيم، تذر به الرماد في عيون الرأي العام العالمي وتستر به استعداداتها للمعركة الفاصلة.

(نيويورك)

عمر حليق

ص: 6

‌صور من الحياة:

الشيخ علي

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا لقسوة الحياة حين تستلب الطائر الغريد من حريته فترغمه على أن يعيش سجيناً يضطرب في قفص، يدف بجناحيه بين السياج فلا يستطيع أن ينشرهما. يرى الهواء والماء والشجر من وراء القضبان ولا يجد لذتها، ويحاول - في وحدته - أن يترنم بإلحان الغابة الشجية فلا تنبعث منه إلا صيحات الأسى والألم، ثم ينطوي على نفسه في يأس يستشعر الحزن والكمد، فالباب مغلق من دونه وماله طلقة بأن يظهره. ولكنه - وهو في سجنه - لا ينسى أن يسرِّي عن نفسه بعض ما يضنيها فيعبث بها ويعبث منها.

مازلت - يا صاحبي - أذكر يوم أن حدثني أبي حديث سفري إلى القاهرة لألتحق بالأزهر. فلقد كان لكلماته - إذ ذاك - نغم حلو يبعث في نفسي اللذة والطرب، ويشيع في قلبي السعادة والنشوة، ويملأ جوانحي مرحاً وسروراً وطافت برأسي أخيلة جميلة جذابة فتراءيت في عين نفسي شيخاً فيه المهابة والوقار، وفيه الهدوء والرزانة، على وجهه سيما العفة والطهر، يدخل الأزهر في صمت ويجلس إلى شيخه في خشوع، يتأنق في جبته، ويختال في عمامته فابتسمتُ. . . ابتسمت حين أحسست بالسمو والعظمة، فما في صاحبي من رأي القاهرة أو دخل الأزهر ولا مَن لبِس العمامة أو جلس إلى شيخ. ولكن أين أنا الآن مما كان في خيالي؟ لقد كان حلماً جميلاً يوشك الآن أن ينطفئألقه، فأنا أشعر كأنني أعيش وحدي في ناحية من الأرض لا أعرف عنها شيئاً لا أتفاعل معها ولا تجذبني هي إليها. وأنا أحس الضيق والملل حين أجدني بعيداًعن داري وأهلي لا أرى أبي ولا المس عطف أمي ولا استمتع بالحديث إلى رفاقي في القرية

ومرت الأيام وأنا في القاهرة أعيش مثلما يعيش الطائر الغريد سُجن في قفص، فلا أجد لذة الحياة ولا متعة المدينة ولا رفاهة العيش، أذوق لذع الغربة وغضاضة الحرمان، ولا أرى من دنيا القاهرة سوى الأزهر والحجرة وما بينهما فحسب. أعدو إلى الأزهر أستمع إلى شيخي فلا أفهم عنه شيئاً، وأحفظ كلماته فلا تطرب لها نفسي، وأستظهر عباراته فلا يهتز لها قلبي. ثم أروح إلى الحجرة التي أسكن لأندفع مع رفاقي في ثرثرة وهذر ما ينتهيان.

ص: 7

وضقت بالحياة هنا في القاهرة، وضاقت هي بي، فذهبت أتلمس لنفسي متنفستا ً بين صحابي في الأزهر، وبين رفاقي في الحجرة، فتفجرت حياتي عن لذاذات فيها البهجة والسرور. فنحن - أنا ورفاقي، حين نغدو إلى الأزهر لا نهفو إلى الشيخ ولا نسعى إلى الدرس، كدأب الطالب المنتسب لا يلصق بشيخ ولا يوثق إلى ميعاد ولا يقيد بدرس، ولكن ننطلق إلى حماقات الصبي وسفاهات الشباب، ولكثير من شباب الأزهر حماقات شيطانية تبدو عندما تهب أول نسمة من نسمات الصبححين يوشك الأزهر أن ينفض عنه سنات النوم، ومن بعد الظهيرة حين يثقل الكرى أجفان الطلبة من فرط الشبع والامتلاء، ومن بعد صلاة العشاء حين تنهد الأجسام من أثر الكلال والتعب. فما نبرح في هزل ومزاح حتى يضج صحن الأزهر، وحتى يضيق بنا من يتكلف الرزانة، وحتى يثور من يريد أن يفرغ إلى الدرس أو من يطمع في أن يهدأ إلى الفراش. فلا نخرج من هناك إلا حين ترتفع في وجوهنا عضا المشد أو توشك أن تصفعنا نعال الطلبة.

ونحن حين نروح إلى الحجرة نتحّلق حلقة واحدة نتفكه بما يفعل أساتذتنا ونتندر بما يقولون ونتهكم عليهم في عبث وإقذاع. وإن أعجزتنا فنون الحديث أخذ شاعرنا يقرأ طرفاً من قصص أبي زيد الهلالي أو الزناتي خليفة أودياب، يقرأ في غير تعثر وينطلق في غير توقف، وهو يترنم بما يقرأ في صوت رقيق جذاب يأخذ اللب ويأسر القلب. وقد نجلس إلى رجال ممن نزحوا عن قريتنا منذ زمان يبتغون سعة من الرزق هنا في القاهرة فنستمتع معاً بشرب الشاي الأسود، ويستمتعون هم بوقت جميل فيه المرح واللذة، ونستمتع نحن بما نسمع من أغانيهم الريفية وألحانهم الشجية، فتمتلئ الحجرة ضجيجاً تهتز له أرجاء المكان. فلا تهدأ العاصفة إلا حين يدخل الشيخ علي في وقاره المصنوع وهو ينادي بصوت أجش (الله، الله! هذا هو العلم يا مشايخ!) فينقض السامر في صمت. أما أنا فأنطلق إلى لحافي أتلفف فيه، أواري ابتسامة السخرية وقد تطلْق بها وجهي.

ولطالما أحسست السعادة بين صحابي في الأزهر ورفاقي في الحجرة فما يزعجني إلا هذا الشيخ القزم المعروق، وهو يثير في نفسي الكآبة والحزن، وإن حديثه ليبعث فيّ الملل والضيق، وإن حركاته لتحملني على النفور والبغض، وإن طباعه لتبذر فيّ غراس الكراهية له والاشمئزاز منه.

ص: 8

والشيخ علي فتى ضئيل مهزول تقتحمه العين وتزدريه النفس، يتعالى حين يحس الصغار، ويترفع حين يحس الضعة، ويتكبر حين يحس الذلة، في وجهه عبوس، وفي كلامه خشونة، يتصنع الرقة ويتكلف الظرف. وفي طبعه الشراهة والأنانية فهو يحرمني مال أبي، فما يحبوني بقرش أشبع به بعض رغبات نفسي، وإنها لتدفعني إلى أشياء أراها في الشارع، أهفو نحوها ولا أجد السبيل إليها. وهو يحرمني حاجات القرية، فأبي يرسل إلي الدجاج والأرز والفطير والعسل والسمن و. . . فأراه وأشتهيه ولكن يدي لا تستطيع أن تبلغه؛ وإن كبريائي لتترفع عن أن تتحدث بهذا لواحد من الناس. وهو فظ لا يَجلس إلى واحد منا ولا يتبسط معنا في الحديث، ولا يلقي إلينا بالتحية، صلفاً منه وتيهاً، فهو - في رأي نفسه - شيح يوشك أن يكون عالماً. ثم هو يتأنق في لباسه الرخيص ويحرص على أن يلبس نفسه - دائماً - ثوب الطاووس.

اشدّ ما غاظني ما أرى من طباع هذا الشيخ وفيها اللؤم والضعة، ولشد ما ضايقني أن أراه يحاول أم يضعني منه موضع الخادم وأنا شموس صعب، ولشد ما حزّ في نفسي أن يزعم لنفسه الرئاسة فيريد أن يبسط علينا سلطانه، وما هو في القرية بشيء.

وثارت شيطانيتي - ذات يوم - ودفعتني إلى أن أعبث بالشيخ فرحتُ أنشئ كلاماً موزوناً مقفى فيه الهجاء المقذع والتهكم المر، والسخرية اللاذعة، أخاطب به هذا الشيخ القميء، وأخذت اردده بين رفاقي كل مساء في الحجرة، وفي وقت الظهيرة في صحن الجامع الأزهر، فما تلبث رفاقي أن حفظوه وراحوا يترنمون به وجاءني الشيخ علي يفور غضباً ويتوثب غيظاً، يتكلف الوقار والهدوء ثم صاح في وجهي (أأنت قلت هذا الكلام؟) فقلت (نعم، وويلك إن أنت رفعت يدك أو حركت لسانك!) وذهل الشيخ لحديثي حين رأى فيه الجرأة والغلظة، فقام عني ليكتب إلى أبي يشكوني.

وجاء أبي ليسمع ويرى، فأغلظ لي في القول وعنف في الحديث، ولكنه حين أراد أن يعود إلى القرية أعطاني عشرة قروش. . . عشرة قروش كاملة! ورأت طفولتي في نظرات أبي وفي قروشه معاني خفيت على الشيخ نفسه. وسافر أبي إلى القرية ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحق الشيخ في كل مكان ويترنم بها كل لسان.

وضاق صاحبنا بهذا الهجاء فانطلق إلى شيخي ينشر أمامه سفاهتي وقلة أدبي، وشيخي

ص: 9

رجل فظ غليظ جافي اليد واللسان. وأراد شيخي أن يبطش بي ولكنه وجدني لين العود لين العظم ضئيل الجسم فنخشى إن هو ضربني أن أتحطم تحت يده أو تحت عصاه، فنهرني في شدة ثم جذبني من أذني جذبة خِلتُ معها أن رأسي قد انشطر لها شطرين. ورضي الشيخ علي ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحقه في كل مكان ويترنم بها كل لسان.

ورضيت نفسي بما فعلتُ. ومرت الأيام والشيخ علي يزداد كراهية لي ومقتاً، وأنا أتمادى في إغاظته وإثارته، وهو لا يستطيع أن يثأر مني خشية لساني وجرأتي، وإبقاءً على ما يرسله أبي من مال وطعام.

وجاء ابن عمي من القرية - ذات مساء - يحمل معه الطعام والنقود، وأسررت له أمراً ووافق هو، فلم تمض ساعة حتى كنت أنا وابن عمي والطعام والنقود جميعاً في حجرة الشيخ حسن.

لقد انفلت الطائر الغرِّيد من قفصه ليذر صاحب القفص - الشيخ علي - يندب صحبتي حين فقد أطايب الطعام وهي تهطل عليّ من القرية فأتنسم ريحها ولا أتذوقها، وحين فقد مال أبي وهو كان يستمتع به وأنا أقاسي مرارة الحرمان.

فوداعاً، وداعاً، أيها الشيخ ألقمي، فما في شراهتك وأنانيتك وبخلك ما يدفعني إلى أن أقول لك: إلى اللقاء. . .

كامل محمود حبيب

ص: 10

‌فزان بين يدي الأتراك والطليان

للأستاذ أحمد رمزي بك

المقدمة:

1 -

أعبر عن شكري لهيئة مجلس الإدارة الممثل لرابطة خريجي جامعات فرنسا وسويسرا وبلجيكا إذ أتاح لي الفرصة مرة ثانية لكي أتحدث إليكم، وسيكون حديثي عاماً عن مقاطعة (فزان) وهي الجزء الجنوبي من ليبيا.

وهو حديث كما ستسمعونه سهل غير متكلف يعبر عن شعور المتكلم أكثر من أن يكون محاضرة بالمعنى الصحيح، إذ أنني لا اقصد من هذا تقديم بحث علمي أو تاريخي، وإنما أتقدم بمعلومات متفرقة ونظرات أوحاها إلىَّ ما كان ينطبع في مخيلتي عند مرور هذا الاسم عليَّ في أوقات مختلفة ومناسبات عدة.

2 -

ولقد اخترت التحدث عن هذا الموضوع لأنني رأيت أسم (فزّان) بارزاً في الأسابيع الأخيرة، فهي موضع نزاع قائم بين أهل ليبيا وبرقة الذين يطلبون الوحدة لبلادهم أي لا يفرقون بين الجزء الغربي المسمى ليبيا، والجزء الشرقي المسمى برقة، ولا يسلمون بانتزاع الجزء الجنوبي المسمى (فزان) ومع دعاة التقسيم وتوزيع الأسلاب.

3 -

ولا شك أنكم قرأتم في الصحف أن فرنسا تحتل هذا القسم المسمى (فزّان) وأن السلطات العسكرية المحتلة منعت ممثلي الشعب الليبي ورجال الصحافة العربية من دخول مقاطعة (فزّان) أو الاقتراب من حدودها. فحالت بينهم وبين الاتصال بالسكان. وأترك لحضراتكم تفسير وقع هذا المنع وأثره في الضغط على حريات الشعوب المظلومة.

4 -

إن الوحدة الإقليمية التي ينادي بها أهل البلاد هي وحدة قائمة منذ العهد العثماني، واستمرت طول الحكم الإيطالي إذ كان يطلق على هذا الإقليم اسم ولاية أو إيالة طرابلس الغرب حتى جاءت إيطاليا واعتدت عليها فأصدر ملكها في أوائل سنة 1912 أمراً ملكياً، جعل الولاية قسمين: قسم ليبيا وقسم برقة وألحقت قائمقامية فزان بالقسم الليبي، وبقي الحاكم الإيطالي يسيطر على الأقسام جميعها.

5 -

ويجعل الطليان امتداد فزان 900 كيلو متراً من الشرق إلى الغرب و 700 كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب، ويجعلون مساحتها أكثر من 300 ألف كيلو متراً وهي كما ترون

ص: 11

تتوسط تقريباً الصحراء الكبرى بين وادي النيل وشواطئ المحيط الأطلسي وتكون هضبة يبلغ مستوى ارتفاعها 500 متراً فوق مستوى البحر وإن كان يتخللها وديان ومنخفضات تهبط أحياناً إلى 150 متراً تحت سطح البحر.

6 -

فهي تتمتع بمركز ممتاز جعل منها لعدة قرون مضت ممراً للطريق البرية، وأصبحت عاصمتها (مرزوق) في وقت ما مركز تجمع القوافل التي كانت تسير من بلاد المغرب ومن مصر وطرابلس وبرقة في اتجاهها إلى بلاد السودان وأواسط أفريقيا.

7 -

فالطريق من مصر كان يمر بالجغبوب وجالو وزيلا إلى مرزوق ومنها يتجه جنوباً إلى الأقاليم السودانية، وأحياناً يتجه إلى حوض النيجر وتمبو كتو.

والمطلع على كتب التاريخ القديمة يذكر الجاليات السودانية التي كانت تأتي من دكرور وتقطن وادي النيل ويحيطها كثير من ملوك مصر وسلاطينها بعطفهم أيام دولتي المماليك، ثم أتى وقت كانت فيه كل من غات ومرزوق منزلين مهمين من منازل الحجاج المسلمين في طريقهم من غرب أفريقيا. وأخيراً فقد المدينتان هذه الأهمية بعد أن أتخذ الحجاج طرق البحر، وبعد أن أضاعت الإمارات الإسلامية استقلالها في أفريقيا وخرجت الجهات والواحات التي كانت يوماً ما آهلة بالسكان، عامرة بالمزارع.

ومع هذا فليس ببعيد أن تسترد هذه المناطق منزلة قد تفوق منزلتها الأولى، إذ أن النصف الثاني من القرن العشرين يخبئ لنا الكثير من المفاجآت وأهمها العودة إلى الطرق العتيقة التي كان أسلافنا يقطعونها في أيام فإذا بالسيارات تقطعها في ساعات.

ثلاثة تواريخ هامة يجب أن نضعها أمام حضراتكم حينمانتحدث عن فزان:

من مارس سنة 1914 احتلت إيطاليا مرزوق وخرجت منها في ديسمبر من نفس السنة.

في عام 1917 استردها الأتراك ثم تركوها لأهلها سنة 1918 حتى استعادها الطليان سنة 1929

في 12 يناير سنة 1943 دخلتها قوات فرنسا الحرة ولا تزال تحتلها إلى اليوم.

وقد أعلن هذا الفتح في بلاغات ثلاثة عسكرية:

الأول: يصف العمليات الحربية الأخيرة في الشمال ويعين الجنرال دلانج حاكماً عسكرياً.

الثاني: يعلن سقوط مدينتي سبها ومرزوق معاً.

ص: 12

الثالث: يعدد الأسرى والمغانم ويشيد بعمل الفرق السنغالية التي اشتركت في المعركة.

9 -

وفي 17 يناير سنة 1943 أصدر الجنرال ديجول بياناً للسكان جاء فيه:

إلى أهالي فزان الشجعان الكرماء:

أحييكم باسم فرنسا التي حررت بأسلحتها أراضيكم، وستأخذ من الآن فصاعداً على عاتقها حمايتكم.

إن فرنسا ستبقي في فزان وفي غيرها الصديقة المخلصة لرعاياها المسلمين.

لقد ترتب على هزيمة العدو المشترك أن أصبحت مقاطعتكم تتمتع بالأمن والرفاهية تحت سيطرة فرنسا.

10 -

ومن ذلك اليوم، ظهرت نوايا فرنسا في أن تنتدب على فزان وجاهرت بأنها جزء متمم للمستعمرات الفرنسية أقرب إلى الجزائر وتونس منها إلى ليبيا وبرقة.

بل جاهر رجال فرنسا بأنها المحطة الرئيسية للطريق الجوي بين مدغشقر وفرنسا.

وقيل أن بريطانيا وأمريكا سوف لا تعارضان في الضم إذا قبلت فرنسا بعض الاشتراطات.

11 -

فما هي فزّان حتى تصبح ذات أهمية وموضوع خاص؟ جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي:

هي ولاية واسعة بين الفيوم وطرابلس الغرب تقع في الإقليم الأول، بها نخل كثير، ومدينتها زويلة السودان والغالب على ألوان أهلها السواد.

وقد ذكرهم جرير في شعر له فقال:

قفراً تشابه آجال النعام به

عيداً تلاقت به فزان والنوب

مما يشعر أن فزان كان اسماً يطلق على جنس أو قبيل من الناس، والمسألة تحتاج إلى تحقيق.

12 -

ولن أترك هذا القسم من الحديث دون أن أشير إلى باب مشهور من أبواب القاهرة هو باب زويله المعروف باسم باب المتولي، فقد أطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى جنود الدولة الفاطمية الذين كانوا من هذه المنطقة من أقاليم الصحراء الكبرى.

13 -

من السهل التعرض إلى وصف الإقليم الفزّاني ومظاهر الطبيعة وتضاريسها من

ص: 13

وديان وجبال، والكلام على طرق المواصلات، فيها وفي داخلها، كما أنه من المفيد الإشارة إلى توزيع السكان وأصولهم من عرب وبربر، وعوائدهم وما يسود هذه الجماعات من معتقدات قديمة وأساليب معاشيهم؛ ولكن هذه المعلومات موجودة في المراجع المختلفة ويمكن الاطلاع عليها، ومجرد ذكرها لا يعد من المواضيع الجديدة التي يصح أن أعرضها في حديث فرضت من المبدأ أن يكون الغرض منه تنيبه الأفكار للنواحي التاريخية الغامضة من حياة فزان الحديثة والتي تصلح كدروس لنا وتجارب للمستقبل.

14 -

وهذه النواحي لا يمكن فصلها عن حياة ليبيا وبرقة، فلنبدأ بإعطاء صورة من اعتداء إيطاليا على هذا الركن من العالم، ثم ننقل إلى تقسيم العمليات الحربية التي كانت فزان مسرحاً لها حتى دخلت قوات فرنسا المحاربة هذه المنطقة وحررتها كما تقول.

(يتبع)

أحمد رمزي

ص: 14

‌القبائل والقراءات

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

- 7 -

من المستحسن بعد أن قدمت في المقال السابق نبذة عن أربع قبائل أن أستقصي خصائص كل قبيلة على حدة مشيراً إلى ما تشارك فيه غيرها أو أحقق ما ينسب إليها وهو بغيرها أحق.

1 -

إذا أضيف الاسم المقصور إلى ياء المتكلم ظل على حاله من بقاء الألف كما هي فيقال فتاي وعصاي، أما إذا كان قبل ياء المتكلم ألف من حروف الجر (إلى وعلى) أو من الظرف (لدى) فإن الألف تدغم في ياء المتكلم فيقال إلىَّ وعلىَّ ولدىَّ. هذا هو الشائع المستعمل في القبائل العربية ماعدا هذيلاً فإنها تستعمل الجميع استعمالاً واحداً وهو بالإدغام فيقولون فتىَّ وعصىَّ مثل: إلىَّ وعلىَّ. قال شاعرهم:

سبقوا هوىَّ وأعنقوا لهواهمو

فتحزموا ولكل جنب مصرع

وقد قرأ عبد الله بن أبي إسحق وعاصم الجحدري (قال هي عصي أَتوكأ عليها) كما قرآهما وعيسى بن عمر (فمن تبع هدىَّ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وما شابه ذلك من المقصور المضاف إلى ياء المتكلم قرء به على لغة هذيل، اما قراءة الجمهور فهي على اللغة المشهورة.

2 -

(لمَّا) يدل في المشهور على الحين أو الشرط إذا كان قبل الفعل الماضي كقوله تعالى: (ولمَّا فتحوا متاعهم وجدُوا بضاعتهم رُدَّت إليهم) أو يدل على النفي مع الجزم للمضارع إذا سبقه كقوله تعالى: (كلا لما يقض ما أمرَه) أما لغة هذيل فيستعمل فيها بمعنى إلا الاستثنائية تقول أقسمت عليك لمَّا فعلت كذا أي إلا فعلت كذا. وقد قرأ عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر (إن كل نفس لمَّا عليها حافظ) بتشديد الميم بمعنى إلا (وإن) في هذه الآية على قراءتهم نافية أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. كما جاءت لمَّا بمعنى إلا في قراءات صحيحة في سور أخرى.

3 -

ما كان اسماً على وزن فَعْلَة مفتوح الفاء وبعده واو ساكنة أو ياء ساكنة فإنه في اللغة المشهورة يجمع جمع مؤنث سالماً على فَعْلات بإسكان العين بعد الفاء المفتوحة يقال في

ص: 15

جمع بيضة وعورة (بيضات وعوْرات) لكن هذيلاً تحرك حرف العلة بالفتح تبعاً لفاء الكلمة يقولون بيضات وعوَرات بفتح الياء والواو. وذكر في تفسير البحر أن الأعمش قرأ (ثلاث عوَرات لكم. . . أو الطفل الذين لم يظروا على عوَرات النساء) بفتح الواو على لغة هذيل. أما الجمهور فقرءوا بالإسكان لكن صاحب البحر نقل نسبة هذا الفتح إلى هذيل وبني تميم. . ونحن نعلم أن تميماً مبدؤها الغالب إسكان الوسط المتحرك تخفيفاً كما أنه ليس هناك علاقة مجاورة بين القبيلتين حتى تشتركا في ظاهرة قوية كهذه، ويرجع هذا الخلط إلى أن ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات قال: إن بني تميم يقولون روَضات وجوَزات وعوَرات بتحريك الواو بالفتح وسائر العرب بالإسكان. لكن المشهور في كتب النحو والصرف أن تحريك الواو والياء في مثل جوزات وبيضات هو لغة هذيل بن مدركة وهو ما أرجح صحته لما سبق أن قدمته، والفراء نسبة إلى هذيل فحسب وقد روى عليه:

أبو بيَضات رائج متاوب

رفيق بمسح المنكبين سبوح

4 -

الفعل أو الاسم المنتهي آخره بياء مكسور ما قبلها تشبع حركته وهي الكسرة في وصل الكلام ووقفه تقول يقضي والقاضي. . . الخ أما هذيل فإنها في وصل الكلام تجتزئ بالكسرة عن الياء ولهذا عند الوقف يسكن ما قبل الياء فتضيع وقد أنشد على لغتهم:

كفاك كف ما تُليق درهما

جوداً وأخرى (تعط) بالسيف الدما

وجاء في قراءة سبعية كثيرة. . . ذلك ما كنا نبِغ. . . (يوم تاتِ. . . والليل إذا يسر. . . وهو الكبير المتعال. . . الذين جابوا الصخر بالواد) فبعض القراء يسير على طريقة الهذليين في الوصل والوقف فيسكن ما قبل الياء ويجتزئ بالكسرة وصلا وبعضهم يسير على اللغة المشهورة فيقرءون المتعالي ويسري والوادي. . . الخ في الوقف والوصل.

5 -

ذكرت في مقالي سابق أن تميماً وقيساً وأسداً وربيعة يكسرون حرف المضارعة إذا كان الهمزة أو التاء أو النون أما قبيلة هذيل فإنها تكسر حرف المضارعة إذا كان ثاني فعله الماضي مكسوراً للإشارة إلى أنه في ماضيه مسكور وأن بعض قبيلة كلب من قضاعة يكسرون جميع أحرف المضارعة أما بهراء وهي من قضاعة فإنها تكسر ما كان أوله تاء فحسب ومع ذلك فإن بهراء هي التي سمي باسمها هذا الكسر فقيل (تلتلة بهراء) فأصبح كثير من الكتاب يخطئون فيحسبون كسر حرف المضارعة على إطلاقه من لهجة بهراء

ص: 16

تأثراً بما اشتهر عن ذلك بأنه تلتلتها وبعضهم يخطئ فينسب بهراء إلى تميم وقد رأينا أن بهراء لا تكسر حرف المضارعة إلا إذا كان تاء وعلى العموم فإن القبائل الشمالية وبخاصة النجدية هي التي اشتهرت بكسر حرف المضارعة على التفصيل السابق ولم يشركهم في بعض هذا إلا هذيل التي تعتبر في دائرة الحجازيين فيما كان ثاني ماضيه مكسوراً.

وقد رويت أبيات كثيرة في كتب النحو والمعاجم وفيها كسر حرف المضارعة من ذلك قول الشاعر:

لو قلت ما في قومها - لم تِيثم -

يفضلها في حسب وميسم

أراد لو قلت: ليس في قومها أحد يفضلها في الحسب والميسم لم تكن آثماً.

وهذا البيت ينطق في بهراء وتميم وقيس وأسد وربيعة وكلب وهذيل بكسر حرف مضارعه لأن ثاني ماضيه مكسور (أثم). ولأن أول مضارعه التاء ومثل هذا البيت قول لآخر:

قلت لبواب لديه دارها

تِيذن؟ فإني حمؤها وجارها

أراد: أتأذن؟ فحذف همزة الاستفهام وقد تقدم بعض ما قرء به في مقال سابق.

6 -

نسب صاحب البحر إلى هذيل أنها تبدل الواو المكسورة المصدرة همزة وذلك عند تفسير قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه) حيث قال (قرأ أبن جبير من إعاء أخيه بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا إشاح وإسادة في وشاح ووسادة وذلك مطرد في لغة هذيل يبدلون الواو المكسورة الواقعة أولا همزة) وقال الصبان في حاشيته على الأشموني: وقرأ أبي ابن كعب وابن جبير الثقفي من إعاء أخيه. . .

ونقل عن المرادي: قوله (رأيت في بعض الكتب أنه لغة هذيل) اهـ ولعل بعض الكتب هو تفسير أبي حيان. أما لسان العرب فقد نسب ذلك إلى قبيلة تميم حيث يقول: إقاط ووقاط جمع وقيط. ولغة تميم في جمعه إقاط مثل إشاح يصيرون كل واو تجيء على هذا المثال ألفاً (ولعله أراد بهذا المثال) ما كان على وزن فِعال أو فِعالة حيث ورد وشاح وإشاح ووقاط وإقاط ووكاف وإكاف ووعاء وإعاء ووسادة وإسادة ووراثة وإراثة ووفادة وإفادة ووقاء وإقاء) وقد يكون أراد بهذا المثال ما كان واواً مكسورة في أول الكلمة وهو الأظهر فقد ورد (ورب وإرب وورث وإرث ووصر وإصر) حيث يوافق الصبان على الأشموني

ص: 17

في إطلاقه على ما كان واواً مكسورة مصدرة.

وقد نقل شارح القاموس أيضاً ما ذكره صاحب اللسان. ويختلف اللغويون في جواز هذا الإبدال واطراده والقياس عليه أو أنه قاصر على السماع! فأبو عثمان المازني يرى أنه مقيس مطرد وغيره يقصره على السماع.

ونحن حين نناقش هذا الإبدال ونريد الترجيح بين نسبته إلى القبيلتين وفي هذه الكتب نجد أنه بتميم ألصق وإليها أقرب وأن ما ذكره أبو حيان وما عزى إلى المرادي في حاشية الصبان سهو منهما أو خطأ فقد بينت في المقال الثاني أن هذيلا كالحجازيين لا ينبرون. فإذا كانوا في المهموز يخففون همزته فكيف يهمزون ما ليس كذلك! وبينت أيضاً أن قبيلة تميم أحرص العرب على النبر كما أنها قد تلجأ في إبانة الحرف إلى ما هو أقوى منه وأوضح حتى تنتقل بالهمزة إلى العنعنة وبعضها ينتقل بالياء إلى الجيم في العجعجة. أما القياس وعدمه فيحتاج إلى قرار يصدره المجمع اللغوي في جواز ذلك أو قصره على السماع.

وهناك إبدال في الواو المضمونة المصدرة ولكن لم ينسب إلى قبيلة بعينها أو جهة بخصوصها وقد نقل صاحب لسان العرب عن المازني قوله: كل واو مضمومة في أول الكلمة فأنت بالخيار إن شئت تركتها على حالها وإن شئت قلبتها همزة فقلت وُعِد وأُعد ووُجوه وأجوه ووُورى وأُورى. . .) وورد (وُقتت وأقتت) وذكر أبو حيان في تفسيره (قرأ الجمهور أقتت بالهمز وشد القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى بن عمر وأبو عمرو بالواو وشد القاف قال عيسى وهي لغة سفلى مضر) اهـ. وسفلى مضر هي القبائل التي تقارب النجديين أو هي النجديون أما عليا مضر فهي التي تقارب المدينة وما حولها ودنا منها فإما أن (وقتت) بخصوصها هي التي ينطقها سفلى مضر وإما أن يراد بسفلى مضر القبائل القريبة جداً من أهل الحجاز الذين لا ينبرون وهم بعض قيس المجاورون للحجازيين حيث إن الهمزة من خصائص النجديين وقلب الواو همزة وهي مضمومة بهم ألصق وبلهجتهم أنسب، وبخاصة التميميون وقد قيل تميم بن أد وأصله ود. كما ورد في الواو المصدرة المفتوحة هذا الإبدال بقلة: ورخ وأرخ ووبخ وأبخ.

ومما يؤيد كون قلب الواو المسكورة من خصائص تميم أن المزهر نسب الإكاف بالهمزة

ص: 18

إلى تميم والوكاف بالواو إلى الحجازين وهذيل تجاورهم أشد المجاورة.

7 -

(متى) اسم يدل على الاستفهام أو الشرط يفيد معنى الزمن في كليهما فمن الاستفهام قوله تعالى متى نصر الله ومن الشرط قول الشاعر:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

أما لغة هذيل في (متى) فهي استعمالها حرفاً بمعنى (من) الجارة فتعمل عملها وبمعناها سمع من قولهم (أخرجها متى كمه) أي من كمه وروى:

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

أراد من لجج فخرجت في لغتهم عن الأسمية والاستفهام والشرطية. والقرآن الكريم لم تقع (متى) فيه إلا استفهامية.

8 -

(الأم) تنطقها القبائل بضم الهمزة ماعدا هذيلاً وهوازن فإنهما يكسران همزتها إذا سبقتها الياء أو الكسرة وقد قرأ بكسر الهمزة (فلإمه الثلث) حمزة والكسائي وقرأ الباقون بضمها.

9 -

تقول هذيل أرجعته وغيرها يقول رجعته، وجمهور القراء قرءوا ما ورد في القرآن من الثلاثي: فإن رجعك الله. فرجعناك إلى أمك. ترجعونها. يرجع بعضهم إلى بعض القول وحكي أبو زيد الأنصاري أن المفضل الضبي قرأ: أفلا يرون أن لا يُرجع إليهم قولا. وقال رب أرجعون) من الرباعي على لغة هذيل.

10 -

هذيل وعقيل وطئ يبنون اسم الموصول الدال على الجمع في حالة الرفع على الواو وفي حالة النصب والجر على الياء وقد جاء على لغتهم:

نحن اللذون صبحوا الصباحا=يوم النخيل غارة ملحاحا

11 -

اشتهر عن هذيل ما يسمى الفحفحة ويعرفونها بأنها قلب الحاء عيناً يقولون في حتى عتى، وذكر السيوطي في كتاب الاقتراح في أصول النحو أن فحفحة هذيل هي أن يجعلوا الهاء عيناً فيقولون في هل عل. ولست أدري من أين جاء بهذا الذي لم يقل به أحد، بل إن الحاء وإبدالها عيناً لم يذكروا لها إلا عتى في حتى مما يدل على أن قلبها إنما هو في هذه الكلمة بخصوصها ويؤيد ذلك ما يروى أن عبد الله بن مسعود قرأ: عتى حين، فلو كان الإبدال مطرداُ لقرأ: عتى عين. والذي يبدو لي أن الهذليين يجهرون بالحاء إلى أن تقارب

ص: 19

العين وظهر ذلك في (حتى) بوضوح فجلعها إلى العين اقرب ثم طال بها العهد فصارت في استعمالهم بخصوصها عتى.

12 -

كذلك اشتهر عن هذيل والأزد وقيس وسعد بن بكر من قيس والأنصار ما يسمونه الاستنطاء وهو أن يجعلوا العين الساكنة قبل طاء نوناً يقولون أنطى في أعطى. . والحقيقة أن ما ورد من هذا الاستنطاء هو في أعطى وتصريفها فحسب، وهي التي استعملها الرسول قي بعض كتبه حيث قال وأنطوا الثبجة وقرء عليها إنا أنطيناك الكوثر، وروى الحديث لا منطي لما منعت ولا مانع لما أنطيت. ولم يرد إلينا أنهم قالوا في أعطف وأعطب وأعطر وما شابه ذلك: أنطف وأنطب وانطر. ويخيل إلي أيضاً أن العين في أعطى دخلها ما يشبه الغنة والإدغام فحولها الأنف إلى ما يشبه النون وبمضي الزمن ورثت على أنها نون وصارت لفظة أنطى مرادفة لأعطى كما أصبحت عتى مرادفة لحتى وليس كل عين ساكنة قبل طاء ينطقونها نوناً ولا كل حاء يبدلونها عيناً، أما الفحفحة التي ذكرها السيوطي في الاقتراح فلم أجد من ذكرها غيره وقد تكون الهاء فيها نالت من التقوية عند البدء بها ما جعلها تشبه العين. ولم يرد غير: ألا لغة في هلا وأل لغة في هل ولم يقل أحد علا ولا عل.

13 -

ذكر ابن الجزري في غاية النهاية أن هذيلا تكسر أول الماضي المبني للمجهول إذا كان مضعفاً فيقولون في رُدّ بالضم رِدَّ بالكسر، وأن عاصما قرأ:(ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) بكسر الراء. ويروي أبو حيان أن هذا الكسر لغة بني ضبة، وهم بنو عمومة تميم حيث يقول:(قرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش) وجدوا بضاعتهم رِدت إليهم (بكسر الراء وهو لغة بني ضبة). أما إتحاف البشر فقد نسب قراءة الكسر إلى الحسن فحسب، واكتفى بأن قال إنها لغة ولم ينسبها إلى قبيلة. ولعل الكسر تشترك فيه القبيلتان.

14 -

نِعمَ إذا اقترنت بها (ما) تنطقها هذيل بكسرتين في أولها. أما غيرهم فبإسكان العين أو اختلاس الحركة وقرئ بذلك جميعاً. وهذا وما ينسب إليهم أنهم يقولون المِرء بكسر الميم يقوي اشتراكهم مع ضبة.

15 -

من ألفاظهم: السرحان والسَّيد بكسر السين معناهما الأسد. الجمسة: النار. انتعص الرجل: وتر فلم يطلب ثأره. الجعسوس والجمعوس: النخل. التكريم: التكثير. الحساب:

ص: 20

الجمع الكثير من الناس. العنج: الرجل. الشبج: الباب العالي البناء رجل عوَّق: جبان. الهكع: السعال. لدَّه عن الأمر: حبسه. الفعفعاني: الجزار. السنائع: الطرق في الجبال واحدتها سنيعة. الخلوج من السحاب: المتفرق. المعصوب: الجائع الذي كادت أمعاؤه تيبس جوعاً. العبر: جماعة القوم. ويقولون: البوع وغيرهم الباع. ويقولون: السميج وغيرهم السمج. ويقولون صلوته: أصبت صلاة أي ظهره وغيرهم: صليته. وهم وبنو ضمرة يقولون اليازع وغيرهم الوازع. وهم ومن والاهم من أزد السراة يقولون الخزومة ومعناها البقرة. وهم يقولون في نجد: الساكن الوسط نجد بضمتين. ويقولون: استراب به. وغيرهم: رابه. ويشاركون الحجازيين في أنهم لا ينبرون. ويشاركون النجديين في أنهم يقولون الحج بكسر الحاء. وتقول هذيل الضحضاح بمعنى الكثير. واعثقت الأرض: أخصبت. والليث معناه اللسن البليغ.

عبد الستار أحمد فراج

محرر بالمجمع اللغوي

ص: 21

‌حول الفكر العربي:

الغرض من دراسة الفكر العربي

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

- 2 -

إن كانت نهضتنا الثقافية تحتاج إلى تقوية شخصيتنا العربية، عن طريق تجسيم المبادئ الإسلامية في ظروف الحياة العصرية، فإنها تحتاج كذلك إلى أن يضع العرب أيديهم على مواضع عبقريتهم التي لمستها الحضارة الغربية، ومحت معالمها الأصلية التي لن تتضح إلا إذا لجأ العرب إلى دراسة تراثهم الفكري الذي يعتبر الوثيقة الصادقة الوحيدة التي يختبئ في ثناياها سمات النبوغ العربي، وقدراته الفذة، والذي يسوق البحث فيه إلى معرفة اتجاهات هذا الفكر التي إذا أتيح لها فرص القيام بالأعمال التي تلائمها، وتتمشى مع نوازعها، مهرت في أداء كل ما تكلف به، وأظهرت براعة في كل ما يطلبه منها من واجبات سواء أكانت قومية أم دولية. ولذلك يجب على كل من يشتغل بالفكر العربي من العرب أن يراعي هذه الحقيقة، ويضعها نصب عينيه، ولا يقف عند حد تحليل العلوم العربية وفنونها، وإنما يجب أن يتعدى مثل هذه الأبحاث، ويرمي إلى إبراز مؤهلات العقلية العربية وكفاياتها، ويهدف إلى رسم الطرق التي تصمم أسس ثقافات جديدة تتفق مع روح المدينة الحديثة، وتحقق للعرب مآربهم في الحياة، ولا ينبغي لأحد من العرب أن يحاكي المستشرقين في دراستهم للفكر العربي.

لاشك أن المستشرقين هم رواد الباحثين في الفكر العربي، وإن كنا نقدر هذا السبق إلا أنهم لم يوجهوا البحث فيه وجهته الصحيحة، وذلك لأنهم ما أقبلوا على دراسته في أول الأمر إلا بتأثير نوعين من البواعث: أولهما حب الاستطلاع ومعرفة مدى ما وصلت إليه الثقافة العربية من رقي، في وقت كان الغرب يعيش على الفطرة، فبعثت دراستها في نفوس الغربيين الحسد والغيرة من تلك الثقافة التي اعتمدوا عليها في غذائهم الروحي فترة طويلة من الزمن، وأثارت الحقد على حضارة فشلت حملاتهم الصليبية في القضاء عليها، فحاول المستشرقون الحط من قيمة هذه الثقافة بالتشكيك في استعدادات العرب العقلية. والباعث

ص: 22

الآخر لا يخرج عن دوافع استعمارية سعت عن طريق الثقافة، كما سعت عن طريق غيرها من الوسائل: تحطيم روح أمة لم تتهاون في مقاومة المستعمرين؛ وقصدت إخضاع العالم العربي بإضعاف الثقة في مقوماته العقلية وإشعاره بحاجته إلى غيره من الأمم الناهضة، فيضطر إلى أن يخضع ويقبل سيطرة الغرب، ويذعن لسيادته. فلا عجب إذاً من تحامل المستشرقين على العرب، ولا غرابة إذا زعموا أن العقلية العربية عقلية ساميَّة قاصرة عن الخلق، عاجزة عن استنتاج المعاني المجردة، غير قادرة على تجاوز الجزئيات المحسوسة، أو إذا ادعوا أن العرب استمدوا علومهم وفلسفتهم من قدماء اليونانيين الغربيين، ولا فضل لهم فيما عرفوه من فنون وآداب ومدنية، فإن معظمها مأخوذ من الفرس والهنود.

ولكن لما أخذت النزعة الاستعمارية تخف باستمرار مقاومة العرب لقوى الاستعمار، ومناهضة الآراء الاستعمارية، ومحاولتها الدائمة لرفع مستواهم المعنوي والمادي، وإظهار قوة مواهبهم، وقدرتهم على مجاراة المدنية الحديثة، والمساهمة فيها، اختفت تلك الآراء المتطرقة في العقلية العربية، وبدأ المستشرقون ينظرون إلى البحث في الثقافة العربية على أنه ضرب من الهواية العلمية، ينعمون فيها بفهم فكر ليس من نتاج عقول شعوبهم، أو يظهرون قسطاً من البراعة في كشف النقاب عن أسرار إحدى الثقافات القديمة، أي لا يبغون غير متعة روحية أو نزهة علمية، ولا ينشدون الكشف عن خواص العقلية العربية ومميزاتها، ولا يهدفون من وراء ذلك إلى إحياء تراث العرب وبعثه في صورة تناسب روح الحياة الحديثة، وتدفع بالشعوب العربية إلى الأمام.

وهذا ما يجب أن يطلبه كل من يبحث من العرب في آثار ثقافته، ولا يكتفي بدحض مزاعم المستشرقين وادعاءاتهم، أو يرضى باقتفاء أثرهم في مناهج أبحاثهم العلمية الدقيقة التي تتوخى تحليل الواقع تحليلا موضوعياً بدون أن تهتم بالاستفادة منه في ترقية مستوى العرب الثقافي، أي لا تصل هذه الدراسات ماضي العرب بحاضرها، أو تربط حياتهم في عهد الأمويين والعباسيين بحياتهم في العصور الحديثة، ولا تنظر إلى التراث العربي على أنه أحد التجارب الثقافية التي مرت بالشعوب العربية، وأنه يجب أن توجد علاقة وثيقة بين مختلف المراحل الثقافية العربية تبدو في تطورها الدائم، وتدفقها المتواصل نحو الرقي

ص: 23

والتقدم، وأن الحضارات المعاصرة يجب أن تهتدي بالحضارات القديمة، وتتفادى ما وقعت فيه من أخطاء عاقت سيرها الطبيعي. فلو هدف العرب من دراسة فكرهم القديم للكشف عن مقوماتهم العقلية الأصلية لهيئت لهم السبل لتقوية ما يكتنفها من ضعف ونقص، وإبراز ما تشتمل عليه من نبوغ ومهارة في مختلف نواحي النشاط الإنساني، ولتجنبوا كل ما اقترفته سابقاً من أغلاط، وتمثلوا بكل ما أظهرته من براعة.

إن محاولات كثير من الكتاب لإثبات قدرة الفكر العربي على الابتكار والخلق يستهلك جهوداً عظيمة، تصرفهم عن البحث الحق في التراث العربي؛ وتشغلهم بكتابات بيزنطية لا تقدم ولا تؤخر. فبدلاً من أن نتطاحن في سبيل التدليل على قدرة العرب على تأليف العلوم، ووضع المذاهب، وتكوين النظريات، يجب أن نفتش عن الأسباب التي دعت العرب إلى الأخذ من غيرهم، وننعم النظر في الظروف التي نشأت فيها الحضارة العربية، وتطورت. فإن انتقال العرب المفاجئ من بلاد بدوية إلى بلاد ذات مدنية عريقة ومجد ثقافي، أصابهم بنوع من الذهول، شل تفكيرهم، وأفقدهم القدرة على التأمل الحر. ولما حاول العربي أن يندمج في الحياة الجديدة أخذ يحاكي الشعوب الخاضعة له وهي تفوقه حضارة ومدنية، ويردد علومها وفلسفاتها، حتى أصبح كأنه صاحب هذه الحضارات. ولكنه ما كاد يلم بمختلف الثقافات حتى تضاربت في ذهنه، وتشابكت الاتجاهات الشرقية والغربية، فأدى ذلك إلى أزمة روحية ظهرت جلية واضحة في نوبة الشك التي طرأت على نفس الغزالي، فعبرت بقوة وصدق عن مدى اضطراب الحياة الروحية في العالم العربي نتيجة لتصادم المذاهب اليونانية بالأفكار الفارسية والهندسية في العقلية العربية المتشبعة بتعاليم الدين الإسلامي، فانتاب العرب حيرة فكرية بلبلت أذهانهم وشتتّها.

فالبيئة الثقافية التي نشأ فيها الفكر العربي هي التي لم تسمح له بأن يتدرج في مراحل النضوج، مرحلة بعد مرحلة، وإنما ساقته دفعة واحدة من حالة يدوية إلى حالة راقية، لم تمهله لينمو نمواً طبيعياً، وعجلت بنضوجه قبل الأوان فلم تتح له فرص الترقي، أو التمرن على التفكير الذاتي المستقل، لأنها زودته بثقافات تامة التكوين، بهرته، فتعلق بها تعلقاً شديداً لجدتها عليه، فوقع في أسرها، ولم يستطع أن يتخلص منها، ويتعداها، لأن ذلك يحتاج إلى فكر تعود التأمل العميق، ومارس الحياة الثقافية مدة طويلة. وليت تأثير هذه

ص: 24

البيئة الثقافية المعقدة في الفكر العربي وقف عند هذا الحد، بل كما عجلت بنضوجه عجلت بإطفاء جذوته بعد أن أجهدته، لدرجة أنه بذل كل طاقاته في استيعاب شتى الثقافات الشرقية والغربية، فأصابه ضرب من الجمود والركود نتيجة لهذا الإجهاد المفتعل أقعده عن أن ينتج إنتاجاً عربياً خالصاً يتميز به، فأوحى ذلك للمستشرقين بأن العقلية العربية عاجزة عن الإبداع العلمي، ولم ينصفوا العرب ويعلنوا أن هذا العجز خارج عن إرادة عقليتهم ولا يرجع إلى أي نقص فيها، وإنما يعود إلى اضطراب الظروف الثقافية التي نشأت فيها هذه العقلية.

بالرغم من كل هذا بزغ بين العرب أفراد قلائل استطاعت عبقريتهم أن تتغلب على هذه الظروف المضطربة، وتتجاوز ما هو مألوف بينهم من علوم وفنون، وأبرزت قدرة العقلية العربية المجال العلمي، وابتكرت علوماً جديدة لم ينتبه إليها عامة علماء العرب. ولم يساهم واحد منهم في ترقيتها. ومن بين هؤلاء المفكرين الأفذاذ عبد القاهر الجرجاني الذي نجح في وضع نظرية جديدة في الأدب لم يعهدها العرب من قبله، وهي تعتمد على إنعام الذوق في النصوص الأدبية وكشف أوجه البلاغة فيها؛ إلا أن هذا المذهب سريعاً ما ابتلعته النظريات الشائعة التي تستند على المنطق الأرسطي، ولم يجد له من الأنصار الأكفاء من يرعاه من بعده حتى يستكمل تكوينه. وذلك لإيمان العرب الساذج بسحر المنطق وضرورة تطبيقه على كافة العلوم ليأخذ الصبغة العلمية في ذلك الوقت. وكذلك الحال بالنسبة لابن خلدون الذي وفق في تأليف أصول علم جديد أطلق عليه (علم العمران) ويعرف الآن باسم (علم الاجتماع) ابتكرته قريحته التي شغفت بالتاريخ وولعت بملاحظة أحوال مختلف البلدان التي رحل إليها وتجول في ربوعها، واكتسبت ملكات التفكير المنظم من دراسة الفلسفة بفروعها فساعدته هذه الدراسات وغيرها من العلوم والفنون على استخلاص هذا العلم الذي افتقر من بعده لمن يتعهده، حتى نسي ونسب وضعه إلى أوجست كونت الفرنسي الذي ظهر بعده بقرون

فأحسب أنه يبدو أن اضطراب البيئة الثقافية، وتعقدها هو أصل داء الفكر العربي وعلة أخذه من ثقافات الغير بدون أن يضيف إليها شيئاً كثيراً. ولذلك يجب أن نتعظ بما أصاب عقلية أسلافنا من عقم، ونجنب فكرنا الحياة في أي جو ثقافي خانق يعوق انطلاقه في عالم

ص: 25

الخلق، ويعرضه لنفس الاتهام السابق، فتتأكد مزاعم المستشرقين في العقلية العربية. وأول خطوة يجب أن تخطى في هذا السبيل هو أن نهيئ لأنفسنا بيئة علمية تحث عقولنا على أن تسلك سبلها الطبيعة، ولا تنخدع ببريق الثقافات الغربية الحديثة، أو تغتر بما وصل إليه الغرب من مدنية، ونقبل عليها إقبالا أعمى، وتظن أن حشو أذهاننا بكافة العلوم والفنون الغربية يعد دليلاً على التمدن الصادق، ويتخذ مقياساً للتثقيف الكامل، وتغفل عن أن الثقافات الغربية بما بلغته من رفعة وعمق، لا تستطيع أن تنضج العقلية العربية التي تختلف مقوماتها الروحية عن مقومات العقلية الغربية المادية. فلا ينبغي بأي حال أن يقتصر أحد من العرب على التزود بعلوم التربيين وفنونهم، بل يجب عليه أن يعتمد اعتماداً رئيسياً في التثقيف على نتاج عقول أمته، فينهل من معين الثقافات العربية، وما يشابهها من الثقافات الشرقية؛ لأن فكره في كنفها يشعر باطمئنان وحرية وانسياب فيستجيب لها، ويبدع في شتى نواحي النشاط الفكري، ولا يحس بضغط أية ثقافة غريبة عن مزاجه تلزمه أن يطرق طريقها قسراً، أو تجبره على أن يتشكل باتجاهاتها بالرغم منه، فتعرقل تقدمه، وتعدم ابتكاره.

وهذا لا يعني أن العربي لا يجب أن يهتدي بتجارب الغرب الثقافية في تنمية علومه وفنونه، فإن له جهاداً فكرياً عظيم الشأن لا يمكن لأمة تريد أن تنهض علمياً أن تستغني عنه، أو لا تنتفع بما كسبه هذا الفكر للإنسانية من خيرات، كان لها أكبر الأثر فيما نحن فيه من حضارة. إلا أنه لا يجوز أن تترك لهذا الفكر أن يسيطر على عقولنا، أو يتحكم في أهوائنا، حتى لا نقع فيما وقع فيه الغزالي من قلق نفسي وارتياب عقلي، ونعاني شعوراً مؤلماً بالنقص في قدرتنا العقلية من جراء تضارب نزعاتنا الشرقية بالنزعات الغربية، الذي قد يحول دون تقدمنا العلمي، ويجعلنا نحس بحاجتنا الدائمة إلى عون الغرب. فإعداد الجو الثقافي الملائم لطبيعة العقلية العربية يعتبر الدعامة الأساسية التي تربى عليها النوازع الفكرية تربية حرة تساعد على تشييد حضارة جديدة تنافس الحضارة الغربية.

تلك الحضارة التي لم تعرف طريق المجد إلا بعد أن حطمت قيود الكنيسة التي فرضتها على الفكر، وتخلصت من استبدال رجال الدين الذين حبسوا العقلية الغربية داخل نطاق التعاليم المسيحية الروحية التي تحالف اتجاهات الغرب التي تميل للمادية، فكانت حركة

ص: 26

النهضة الأوربية التي استغاثت بكفايات الفكر الغربي القديم، الذي يتمثل في الفكر اليوناني، فقامت النهضة الحديثة على أساس بعث ثقافة اليونان، واستغلال مقوماتها في خلق حضارة جديدة. وفي هذا الجو الثقافي نجح الفكر الغربي في أن ينفض عن نفسه ذلك الخمول الذي نشره طغيان الأفكار المسيحية على الروح الغربية، ووفق في وضع علوم مبتكرة، واختراع صناعات متنوعة وآلات كثيرة.

فلم لا يحاكي العربي الغربيين في هذا العمل، ويكف عن تقليدهم في عاداتهم وأخلاقهم، ويكتفي بما أخذه منهم من ثقافات ويكشف عن مزايا العقلية العربية عن طريق دراسة مخلفات الأفذاذ من العرب أمثال عبد القاهر الجرجاني وابن خلدون وغيرهما دراسة تحليلية، يحاول أن يستشف منها ميول الفكر العربي الأساسية، ثم يسعى في أن يبث هذه الميول في عقول صغارنا، حتى يأتي ذلك اليوم الذي ترى أثرها ظاهراً في كل ناحية من نواحي الحياة العربية.

ننتهي من هذه المقالة والتي قبلها إلى أن تحقيق نهضتنا الحديثة يعوزه تعاون رجال الدين ورجال الفكر في جميع البلدان العربية على خلق وسط حضاري تنبسط فيه العقلية العربية، وتنساب حسب سجيتها، لا يعوقها أي مؤثر خارجي ولا يفسدها أي عيب داخلي، ولذلك يجب أن يساهم كل من هاتين الفئتين من الرجال في تنقية الأخلاق العربية، وتوجيهها أثناء هذه التنقية توجيهاً اجتماعياً صالحاً يتفق مع التعاليم الإسلامية، ويعود على الوطن العربي بالخير، ويكسب العرب شخصية قوية ذات لون خاص يميزها عن غيرها من الشعوب. ويمكن أن يستغلوها في مواجهة المشاكل القومية أو الدولية كما يجب أن يشتركا في التنقيب عن خواص العقلية العربية، حتى يمكن لرجال التربية من وضع الطرق التربوية الصحيحة التي تتسق مع العقلية العربية وتنميها إلى أقصى حد يمكن أن تبلغه من الكمال، ثم استغلالها في خلق ثقافة عربية جديدة، تتصل بالحضارات العربية السابقة وتعبر عن حياة العرب الوجدانية والعقلية في صور تنسجم مع روح المدنية الحديثة.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات

ص: 27

‌بين بدر وأحد:

الشهيدان الصغيران

للأستاذ عمر عودة الخطيب

- 1 -

قال الفتى عمير بن أبي وقاص لصاحبيه أسامة ورافع وكانوا يعلبون في ظاهر المدينة، وقد أشرفوا على بيوتها ومساربها:

- هل تريان ما أرى يا صاحبي؟!

- وماذا ترى!

- انظرا. فهاتان رايتان تعلوان وتخفقان وما أحسبها إلا لحرب.

- أجل. واسمع هذا التصايح وهذه الجلبة، وانظر الغبار يجلل الدور ويذهب في السماء. . .

- لئن كانت الحرب فوالله لنذهبن مع القوم، نقاتل في سبيل الله، ونجاهد تحت لواء رسول الله. . .

- لكننا نخشى أن يردنا رسول الله لصغر سننا يا عمر.

- وماذا علينا أن نسير في إثر الجيش، ونتواري عن الأعين، ونختفي وراء الآكام، حتى تبدأ المعركة، وعندها نبرز إلى الميدان ونقاتل المشركين، ونساهم في إعلاء كلمة الله، ونستشهد في سبيل هذا الدين. . .

- إنه الرأي ورب الكعبة!

وانحدروا إلى المدينة مسرعين، وقد ذهب كل إلى داره، يكتم الخبر عن أهله، وبتجهيز للحرب، ويستعد للقتال، وكانوا قد تواعدوا على أن يلتقوا جميعاً أمام المسجد، بعد صلاة الفجر. وأعد كل منهم عدته، وناموا ليلتهم تلك هانئين وادعيم، يحلمون بالجهاد والنصر المبين. . .

- 2 -

هب (عمير) من نومه، طرب الفؤاد، رضي النفس، هانئ البال، ومشى نحو النافذة، يسرح

ص: 29

طرفه في ذلك الأفق البعيد، وكان الليل يتلفت ويسرع في الهروب، وقد ألح عليه الصبح مسرعاً في المسير. . . فاستجلى (عمير) في هذا المنظر الرائع معاني الحق والحرية. . . تطارد الباطل والعبودية. . وراقه أن ينهزم الظلام أمام النور، ويتواري الليل أمام النهار. . . واستبشر بهذا المنظر الساحر. واعتبره فأل خير ويمن وفتح كبير. . . ورفع يديه الصغيرتين نحو السماء، وتتم لسانه بأحلى آيات الدعاء. . . وهبت إذ ذاك نسمة رقيقة عطرة، شرحت صدره، وداعبت وجهه وشعره، وكانت تلك لحظة قدسية مباركة، رق فيها قلبه وصفت نفسه، وغمره شعور ندي بأسمى معاني الإيمان. فذرفت من عينه عبرة غبطة وخشوع، وسبح في بحار من الأخيلة الجميلة والأماني العذاب. . . ولم يوقظه من سبحته تلك إلا صوت أمه تناديه: هلم يا عمير فأسبغ عليك وضوءك، وتهيأ لصلاة الفجر، فقد نادى المؤذن بالصلاة والفلاح. . .

وخف عمير إلى نداء أمه، وتوضأ ثم أخذ سمته نحو المسجد مشيعاً بنظرات عطف وحنان من أمه الرؤوم. ولم يكد يمشي بضع خطوات حتى ترامى إلى سمعه دعاء أمه له، بأن يكلأه الله ويرعاه، فاطمأن لهذا الدعاء وفرح به، وسره أن يكون هذا الدعاء آخر ما يسمعه من أمه، وقبل أن يبتعد عن البيت التفت نحوه وألقى عليه نظرة أودعها كل ما في قلبه من حب وحنان نحو أمه وأبيه. وحدثته نفسه أنه ربما كانت آخر نظرة يلقبها على هذه الديار، وبعدها يفارق هذه الدنيا إلى دار الخلود، فترقرت في عينه عبرة حرَّى، كانت دمعةَ الوداع. وما قارب المسجد حتى التقى بصاحبيه أسامة ورافع، وقد دلفا إلى المسجد، بعد أن التقيا في بعض طرق المدينة، فما إن رآهما حتى افتر ثغره عن ابتسامة جميلة، وصافحهما مسلماً، وكانت الدمعة لا تزال حائرة في عينيه، وحدثهما عن تلك الساعة المباركة في السحر، وعن ذلك المنظر الفاتن الجميل، وعما أثار في قلبه من مشاعر، وأوحى إليه من معان وبشائر. .

وذهبوا جميعاً إلى المسجد يؤدون الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وطدوا العزم وعقدوا النية على أن يخرجوا معه في غزوته، يضربون بأيديهم اللينة، وسواعدهم الرقيقة هامات المشركين، وقد كان يشعر كل واحد منهم أنه بطل كبير وأنه المسؤول وحده عن هذا الدين، ذلك أنهم لم يرضعوا أفاويق الدعة وينشئوا في الحلية والدلالة. . . إنما

ص: 30

تربوا في (مدرسة الصحراء (وتتلمذوا على (بطل الأبطال).

- 3 -

سار (علي بن أبي طالب) رافعاً بيمينه راية (العقاب) السوداء، وبجانبه رجل من الأنصار بحمل الراية الثانية، وسار المسلمون خلفهما يقدمهما قائدهم الأعظم (محمد) قاصدين بدراً، ليقاتلوا المشركين الذين جمعوا جموعهم، واستعدوا للقتال. . . ساروا وكانت الأرض تهتز تحت أقدامهم، والروابي والهضاب تتجاوب مع نشيدهم، وتجلجل السماء بتكبيرهم. . . حتى إذا ما بعدوا عن المدينة ميلا أو بعض ميل، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستعرض الجيش ويتفقد الفرسان، ويلقي على جنوده الأوفياء تعاليم القائد الخبير، ويحثهم على الصبر والشجاعة ويضمن لمن يستشهد في سبيل الله الجنة.

وكان الفتيان الثلاثة قد انتحوا جانباً غير بعيد من مؤخرة الجيش، يشجع بعضهم بعضاً، وقد علا البشر وجوههم، وملأت الغبطة نفوسهم. وكان (عمير بن أبي وقاص) أكثرهم توارياً حتى قال له أخوه:(مالك يا أخي؟!) فقال: (إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة). . . وفيما هما يتحاوران وإذا برسول الله قد أقبل، فرأى هؤلاء الفتيان الصغار وقد تقلد كل واحد منهم سيفاً يلامس الأرض، ووقفوا ينتظروا المسير. فسألهم رسول الله عما جاء بهم من المدينة، فأجابوه بأنهم يريدون الخروج معه لجهاد المشركين، وأنهم تعاهدوا على الشجاعة والإقدام، وبذل الروح في سبيل الإسلام. فضحك صلى الله عليه وسلم إعجاباً بهم، ونظر إلى تلك الأجسام الصغيرة التي خرجت لتكون وقود الحرب، فأخذته الرحمة لها، وأشفق عليها أن تكون طعمة للسيوف، وعز عليه أن يقذف بها إلى الموت، فردهم وأبى أن يخرجهم معه. فعظم ذلك عليهم، وحزنوا من أجله حزناً شديداً، وجلس عمير يبكي وقد أحزنه كثيراً أن يحرم من الجهاد تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف أخوه وصاحباه من حوله يبكون لبكائه ويودون لو سمح له رسول الله بالخروج إلى الجهاد، فرق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم له وأجازه وعقد له حمائل سيفه، فوثب فرحاً نشيطاً، يودع صاحبيه ويبعث معهما إلى أمه بتحية الجندي الباسل، لتكون لها عزاء وسلوى. . . وذهب المسلمون إلى (بدر) وقاتلوا المشركين، وأطاحوا برؤوس الكفر، وزلزلوا كيان

ص: 31

قريش، ورجعوا غانمين ظافرين، قد أمكنهم الله من عدوهم، ونصرهم عليه. بيد أنه كانت في عين كل واحد دمعه حزينة، استنزفها ذلك البطل الصغير (عمير) الذي استبسل في المعركة بسالة رائعة، وخاض غمرات الموت ببطولة نادرة، حتى وقع (شهيد) إيمانه القوي ويقينه الصادق، وإقدامه العظيم. . .

- 4 -

حزن رافع وأسامة وأتراب (عمير) كلهم على مصرعه، وجلسوا يذكرون أيامه، ويتحدثون عن إيمانه وبطولته. .

قال رافع لأسامة:

- أتذكر يا أسامة ليلة أن التقينا به أمام المسجد!

- نعم وحدثنا حديث تلك الساعة المباركة في السحر التي أفاضت على روحه صفاء وجمالاً. . .

- أرأيت إلى ذلك النور الذي كان يلتمع في جبينه تلك الليلة؟ وأحسبك رأيت تلك الدمعة التي كانت تجول في عينيه. . .

- نعم وأحسب ذلك نور الشهادة، فقد كان ينم عما في قلب صاحبه من إيمان وتضحية وإقدام. وأما تلك الدمعة فقد رأيت فيها تلك الليلة معاني الوداع. . . الوداع من هذه الدنيا الصاخبة الحقيرة التي يتنازع فيها الناس على حطام فان، ويظلم بعضهم بعضاً، فيستعبد القوي الضعيف، ويتعالى الغني على الفقير.

- حق ما تقول يا أسامة! وهل نسيت موقفه حين ردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحداثة سننا يوم بدر. . .

- كيف وقد كان رحمه الله يدافع الحياة ويطلب الموت ويبكي حرقة على الجهاد، حتى رق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فأجازه.

رحمه الله وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.

وانصرف الفتيان إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم باستعداد قريش للحرب بعد تلك الهزيمة التي حاقت بهم في بدر، وحثهم على الصبر والشجاعة، وأنبأهم بأنه قد عزم على مناجزة القوم وقتالهم وبأنه واثق بنصر

ص: 32

الله له، وأمرهم بالاستعداد للجهاد. فانصرف المسلمون إلى بيوتهم يتهيئون للحرب، ويعدون السلاح، ودخل رسول الله إلى بيته بعد صلاة العصر ومعه أبو بكر وعمر. فتقلد سيفه وقوسه وعصب بعمامته رأسه وخرج يتفقد المسلمين.

- 5 -

سار النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة من أصحابه حتى بلغوا (أُحُداً) وقبل أن يلتحم الفريقان، وقف القائد الأعظم، يستعرض جنده، ويهيب بهم أن يثبتوا ويصبروا، ويحمسهم ويزكي نفوسهم. . . وبينما رسول الله يستعرض الجيش، إذا به يجد فتى صغيراً أخذ يتطاول على أطراف أصابعه ويعلو بنفسه، فإذا هو (رافع بن خديج) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من عمله، وربت على كتفه، وتقدم منه وسأل عما يحسن من فنون الحرب، فقيل له بأنه رام يجيد ضرب السهام، فسمح له بالخروج. . . وتباع استعراضه حتى وقف على (سمرة بن جندب) وكان فتى حدث السن لدْن العود غض الجسم، فأشفق عليه رسول الله من القتال وأمره بأن يرجع، وطيب نفسه، وأعجب به ودعا له، فحزن الفتى حزناً شديداً وانصرف باكياً دامع العين، حسير الفؤاد على ما فاته من أمر الجهاد. ووقع له أثناء انصرافه خاطر اطمأن إليه وفرح به، فانثنى راجعاً إلى حيث يعسكر المسلمون، وترامى على زوج أمه يبكي وقال:(أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه!!. . .) ثم جلس غير بعيد يتطلع بعينيه الدامعتين إلى هذه الصفوف المؤمنة التي امتلأت قوة وعزماَ، وود لو يسمح له رسول الله بالقتال مع هذا الجيش بينما انصرف زوج أمه إلى الرسول ينقل إليه ما قاله سمرة. . فأعجب رسول الله بهذا الرأي وأكبر هذا الإيمان، وأمر بأن يصارعا أمامه. . . وتشابكت الأيدي. . . وما هو إلا قليل حتى صرع سمرة رافعاً، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياه وسمح له بالقتال. . .

- 6 -

ابتدأت المعركة، وخرج من صفوف المشركين فارس صعب المراس قوي الشكيمة يدعو للبراز، فوثب عليه الزبير وقتله، وكان كلما خرج من صفوف المشركين مبارز قتله فارس من فرسان المسلمين. حتى اختلط الجيشان، وحميت المعركة، وثار النقع، فلم يعد يسمع إلا

ص: 33

صهيل الخيل، وصليل السيوف، وقعقعة الرماح، وصفير السهام. ووقع فيها من الفريقين صرعى كثيرون. وانجلت المعركة بعد أن رد الله كيد الباغين الذين أرادوا بالرسول شراً. وإذا (برافع ابن خديج) الفتى الصغير مخضب بالدماء قد أصابه سهم من سهام المشركين، هد قواه، وأنزف دمه. ورآه المسلمون وقد وضع ذراعه تحت رأسه والدماء منه، وقد استسلم لغيبوبة عميقة. فأيقظوه وضمدوا جرحه ففتح عينيه وسأل عن المسلمين، واطمأن على رسول الله. . . ثم أغمض عينيه وسلم روحه الطاهرة الزكية، وقدمها قرباناً إلى الله، وبرهاناً على الجهاد في سبيله، وطارت روحه إلى السماء. . . إلى الفردوس الأعلى. . . حيث روح صاحبه (عمير) لتنعما هناك بالخلود الدائم. . . ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه استشهد حزن عليه حزناً شديداً، ودمعت عيناه، وقد ذكر بطولته وإيمانه وقال: بعد أن دعا له بالرحمة، وسأل الله له الجنة (أنا أشهد له يوم القيامة. . .

(القاهرة)

عمر عودة الخطيب

ص: 34

‌أشواق ودموع.

. .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

كتبتْ من باريس تقول:

(أيها الطائر العزيز. . . لم أحسد بغداد إلا لأنك تغنيها في غبش الفجر الساحر وعند الأصيل الفاتن، أغنيات الهوى والشباب، وأنا في زحمة الأصداء والأضواء والمباهج لا أحس لهذه كلها صدى في نفسي ولا أثراً في وجداني بل أجهد عيني على أن لا ترى وأذني على أن لا تسمع. . . لأستطيع أن أتخيلك وأنت كما كنت تقرأ لي خلجات قلبك الكبير الحساس، فرجائي يا طائري أن تسمعني غناءك ولو من بعيد. . .)

(من رسائلها إلي)

سألتني لم لا أشدو كما كنت أغني

ولماذا لا يباري الوترَ المسحور فني

قلت يا عذراءَ أحلامي ويا أصداء لحني

أو ما كنت نُشيد الحبِ في ليلِ التنمي

أو ما كنتُ صلاةَ الطيب في الروض الأغن

أو ما ذابَ حنيني فوقَ أوتارِ المغنى

أو تنسَينَ وكنت العطرَ في ثغر الربيع

ونشيداً لم يزلْ هيمانَ في تلك الربوعِ

وابتساماً شعَ في دنيا دماء ودموع

وسلاماً رفَّ فوق الأرضكالروحِ الوديع

كيف تَنسينَ حنيني، كيف تنسينَ ولوعى

أين خلفتِ فؤاداً ضاقَ بالشمل الصديع؟

لم أزل يا فجرَ الهامي ويا ربةَ شعري

روضةً يفضحُ عطرُ الفنِ منها كل عطر

وهزاراً اطربَ الليل فلم يجنحْ لفجرِ

وربيعاً نَظراً بالحبِ محفوفاً بسحر

ص: 35

أين أنتِ الآن من عطري وألحاني وزهري؟

أين أنت الآن من صدري ليطويك كَسري؟

يا (هنائي) كنتِ في صحراء أعوامي زاهرا

يا (هنائي) كنت في ظلمِة أيامي بدرا

أنت نَضَّرتِ شبابي فنفحتُ الكونَ عطرا

ولكم أشرقت في ليلِ صباباتَي فجرا

وسكبت الوحي في روحي فصغت الشعرَ سحرا

وإذا دنياي أحلامٌ وأنغامٌ وبشرى

وإذا بي بعد ما جرعني الحرمانُ صابا

وأحال اليأسُ دنياي طلاماً وضَبابا

والقنوطُ المرُ أفنى - من أماني - العِذابا

وغدتْ جنةُ أحلامي من البلوى يبابا

لحتِ في حالكِ أيامي - من الغيبِ - شهابا

وتفجرتِ كينبوعٍ وما كنت سرابا

أنا من بعدَكِ لو تدرينَ قَيثارٌ جريجٌ

آهةٌ فوق سماءِ (السين) بالنجوى تبوح

وهزازٌ سرمديُ الحزنِ بالشوق ينوح

وخَيالُ خلفَ أطياِفكِ يغدو ويروح

يا عذابي الحلوَ شعري بين كفيك يفوح

فاسأليه فهو أشواقٌ ودمعٌ وجروحُ

(بغداد)

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 36

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

رأي في ترجمة (آلام فرتر):

سيدي:

لقد فرغت من قراءة ترجمتكم العربية الرائعة لقصة آلام فرتر، ومن القيام بمقارنة دقيقة بينها وبين الأصل المقابل في الألمانية. بعد هذا أرجو أن تأذن لي بأن أقدم إليك أصدق التهنئة على هذا العمل الباهر. وإنه ليعد في رأيي خير ما عرفته اللغة العربية في بابه.

أنا واثق من أن الجمهور القارئ في مصر، سيجد في ترجمتكم ما ينشد من متعة بعيدة المدى وكسب لا يحد. إن الدقة في هذا الأسلوب التصويري الوثاب، أسلوب جيتة، لتجد أداءها الصادق في لغتكم، هذه اللغة التي تصبح تحت سنان قلمكم مرنة طيعة لمشاعر المؤلف ومعانيه.

ولقد قمت بمقارنة أخرى دقيقة بين المصدر الذي نقلتم عنه وبين النسخة الأصلية التي ظهرت عام 1787، وأستطيع أن أقرر بأن الترجمة الفرنسية التي نقلتم عنها، قد بلغت من الأمانة حداً يتعذر معه أي اختلاف إذا ما ترجمت القصة عن الألمانية. إن كتابكم ليفوح منه أرج الإلهام الذي يعبق في قصة الشاعر الألماني، وإنني لأرجو أن تتاح لي الفرصة للاطلاع على كثير من أعمالكم الأدبية.

مرة أخرى أعبر عن شكري لما لقيت من متعة خالصة في ترجمتكم لآلام فرتر، آملاً أن أظل.

صديقكم المخلص

بروفيسور دكتور جولياس جرمانوس

هذه هي الرسالة التي بعث بها المستشرق الألماني إلى الأستاذ الزيات، والتي شاء تواضعه أن يحتفظ بها أكثر من عشر سنين دون أن يلحقها بأية طبعة من طبعات كتابه أو يشير إليها من قريب أو من بعيد. . . ولولا أنني طلبت إليه أن أقوم بنقلها إلى العربية لبقيت إلى الأبد لا تقع عليها عين ولا تسمع بها أذن!

ص: 37

اقرءوا هذه الكلمات التي تضع الحق في مكانه، ثم وازنوا بينها وبين كلمات أخرى يجترئ صاحبها على الحق حين يعلن أن الزيات قد ألف آلام فرتر. . . إن الفارق بين الرأيين هو الفارق بين دكتور جرمانوس وسلامة موسى!

من الأعماق ولوعة الذكرى:

أيها الأديب الصديق، لماذا بعثت بكلماتك من طوايا حلم دفنته، أشلاء ماض جريج؟. . .

وأنت يا من جرعتني الظمأ من كؤوس حرمانك، ترى هل رفت (من الأعماق) رفيف الزهر في رحابك، وتضوع منها عطر الأسى في ثراك؟ إن الماضي الذي تنهد يوماً في سحيق عظامي، يعود لتناديك أطيافه وتناجيك رؤاه!

أتذكر يوم غمست القلم في دماء القلب وكتبت قصة هواك؟ هواك الذي شيعته بالدمع إلى ظلام القبر، وذقت من بعده غربة الروح في مأتم الأحلام؟ ترى هل ذقت يا شقيق الروح غربة الروح. . هناك حيث ترق الكلمات فتستحيل إلى أنات، تهتك ستار الصبر والجلد، وتترك مكانها من حنايا الضلوع وشغاف القلب، وتخرج إلى الناس تروي لهم فعلت الأيام؟ هناك حيث تعبر النجوى عالم الأسى والأنين، مرتاعه ملتاعة، تنشد الري فلا تجد إلا الظمأ، وتترقب النشوة فلا تحس إلا الألم، ولا تعود من عالمها هذا إلا بأشتات المنى تحتضر؟!

إن فكري ليقطع المدى وثباً ليفرش طريقك بورود حبي. ترى هل يعبق في أفقك أرج فكري؟ إن روحي لترفرف فوق مكانك بجناح طوته على الجراح عوادي الزمن. . ترى هل تسمع رفرفة روحي؟ تعال نهتف في موكب الأيام هتاف الحبيب في كأس فاضت بخمر نواك. تعال نردد في محارب الشجن صلاة تنشج الحسرة فيها ويعول الأنين. تعال. . . تعال من هناك، من وراء الأبد، من وراء الصمت، من وراء الوحشة المطبقة، من وراء السكون العميق. تعال فقد تقطعت من بعدك أوتار النغم فما استمع الحيارى لنشيد. . تعال فقد جف من بعدك أوتار النغم فما سعد الندامى بحبيب!. . تعال وأحمل إلى السماء نفحة من عبقرية الألم في الأرض، وقل لها إننا نعيش من بعدك كما يعيش الشوق الراهب في دير الذكريات!

أقرأ معي هذه الكلمات:

ص: 38

(عندما يستحيل الحلم إلى جنون، ينتصب تمثال أسو داخل الروح، وتبرز فجأة شطئان بلورية تطوف بها جماجم الأحياء، وتمتد تحتها في انحدار عنيف بحار متسعة من الجليد، وتستيقظ العطور والضحكات، وتتفتح الكهوف الخرافية بعدما تكون الكنوز قد ضاعت فتزدحم الغابات بنهود من نحاس، وتتصلب الشفاه وهي تبتسم، وتسمع أصوت الفيل آتية خلال النعاس، ويقف ظل أمام ظل، وتغادر الفلول الميدان، ويسمع في السراديب السحرية قرع الطبول، وتبدأ المعركة بين الأشلاء، من أجل الحصول على ذراع أو ساق!

ويحترق الهمس في الهدير، وتنداح دوائر في المياه، من مكان غير معروف، قاصدة في سفرها المرتعش المعتوه التقاء اللانهاية بالعدم).

هل تستطيع أن تفهم هذه الكلمات؟ إنها لأديب مصري اسمه يوسف الشاروني، دأب على أن يتحف بمثلها في كل شهر زميلتنا مجلة (الأديب) اللبنانية. . ويوسف الشاروني هذا واحد من فئة أعرف بعض أفرادها من لقائي لهم بين الطور والكلمات، هذا اللقاء الذي لا يخرج منه أي إنسان عاقل إلا بما حرجت به زوجة الشاعر الإنجليزي روبرت بروننج، حين قدم إليها الشاعر قصيدة نظمها في وصف البحيرة فقالت له: إنني لا أدري إذا كنت تتحدث في قصيدتك عن بحيرة حقاً أم تتحدث عن كلبنا الصغير!

وأنا والله لا أدري عن أي شيء يتحدث الأستاذ الشاروني. ولا أدري كيف اتسعت صفحات الزميلة اللبنانية لهذه البضاعة التي تصدر إليها من مصر، بعد أن أقفلت في وجهها جميع أسواق الأدب في عاصمة المعز! أباسم الأدب والفن يكتب هذا الكلام؟ إن الأدب والفن ما خلقا إلا لتثقيف الناس وهديهم إلى معاني الحق والخير والجمال، فأين من يدلني على لمحة واحدة من لمحات الأدب والفن في كلمات السيد يوسف الشاروني؟. . قد يقول قائل إنها (سمبولزم)، وقد يقول آخر إنها (سير ريالزم)، أما أنا فأحيي الأستاذ عباس محمود العقاد وأقول معه: إنها (تهجيص)!.

لحظات مع الأستاذ العقاد:

حييته هناك ولا بأس من أن أختلف معه هنا، ومهما اختلفت مع العقاد والناقد في نظرته وموازينه فستبقى حقيقة أعترف بها بيني وبين نفسي وبيني وبين الناس، وهي أنني أحترم

ص: 39

ثقافة هذا الرجل. إنه يقرأ كثيراً؛ يقرأ في كل شيء، يقرأ قراءة فهم وهضم واستيعاب، في بلد فيه عدد المثقفين وغمرت أسواقه أمية المتعلمين!

إن ذوق العقاد لا يرضيني بعض الأحيان، وكذلك موازينه؛ ولكن ثقافته ورحابة أفقه وسعة اطلاعه تدفعني إلى تقديره والإعجاب به. هذه كلمات يمليها عليَّ الضمير الأدبي، وإذا كنت قد هاجمت كثيراً من آرائه فإنني لا أبيح لقلمي أن يهاجم ثقافته!

لو أنك مقدم على رحلة عاجلة، فأي سبعة كتب تصطحب؟ هذا هو السؤال الذي وجهته إلى الأستاذ العقاد مجلة (الاثنين) في عددها الأخير فأجاب عنه بأنه يصطحب معه هذه الكتب السبعة: ديوان ابن الرومي، اللزوميات لأبي العلاء، تهافت الفلاسفة للغزالي، تراجم بلوتارك، مجموعة شكسبير، تاريخ الفلسفة لبرتراند رسل، خوالج الحيوان لداروين. ولقد تحدث الأستاذ العقاد عن هذه الكتب حديث ناقد يزن قيمها الفنية مشفوعة بأسباب التفضيل والإيثار.

أما ابن الرومي فأنا أعلم أن الأستاذ العقاد يتفانى في حبه وتقديره والتعصب له، ولكن حين يبلغ التعصب حد القول بأن ابن الرومي في مجال الشعر الوجداني لا يضارعه شاعر في العالم كله فهذا هو الانحراف الذي أضيق به ترى أيبلغ ابن الرومي في وصف الخوالج النفسية ما بلغه جيته وهابني في الأدب الألماني، وبودلير وفرلين في الأدب الفرنسي؟ لا أظن! لقد كنت أود أن يقتصر الأستاذ العقاد على القول بأن ابن الرومي في مجال الوصف التصويري لا يفوقه شاعر في العالم كله، فهذا ما لا أختلف معه فيه.

ومرة أخرى تتخلى الدقة عن ميزان الأستاذ العقاد حين يقرر أن (بلوتارك) هو سيد كتاب السير والتراجم في جميع العصور. . . أؤكد للأستاذ العقاد أنه لو قرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي جان يول سارتر عن (بودلير) لعدل عن رأيه في بلوتارك؛ إن هذا الكتاب كما سبق أن قلت في (الرسالة) ليعد في رأى الفن خير كتاب أخرج في موضوعه، منذ أن احتل أدب التراجم مكانه إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى!

بعد هذا لا أرى كيف يطيق الأستاذ العقاد أن يصطحب معه اللزوميات في رحلة ينشد فيها المرء متعة الذوق والفكر والخيال؟. . . معذرة يا سيدي إذا قلت لك إِن هذا الاختيار لا يرضيني! إن رحلة تخطر فيها اللزوميات لرحلة تصيب الرأس بالصداع وحركة الذهن

ص: 40

بالجمود. . . لقد كنت أود أن تصطحب بخلاء الجاحظ بدلاً من لزوميات أبي العلاء!

أدب القصة وأدب المعقب:

تحت هذا العنوان قرأت في عدد الرسالة الماضي كلمة خصني بها الأستاذ نصري عطا الله. . . صدقني إنني لم أكن أنتظر أن أن يفقد الأستاذ أعصابه في بداية كلمته ثم يعود في نهايتها ليفقد ذاكرته! وصدقني إنني شعرت نحوه بشيء من العطف الممزوج بالدعاء. . الدعاء له بأن يحفظ الله أعصابه من الأوجاع وذاكرته من الضياع!

لقد رماني الأستاذ عطا الله بجموح النفس وتمكن شهوة التهكم والتجريح من نفسي. . . يبدو أنه قد نسى أن في الحياة الأدبية في مصر أناساً يستحون التهكم ويستأهلون التجريح ويرغمون الناس على الجموح!!

ينكر الأستاذ أنه كان يعنيني بمقاله. . . لمن إذن كان يوجه نصائحه بأنه لا يصح أن يحكم القارئ الشرقي على شخصية موباسان. لأن ما نقل من أدبه إلى العربية أقل من القليل؟ لي بالطبع؛ لأنني أنا الذي كنت أتحدث عن موباسان! ولمن إذن كان يبعث بتوجيهاته حين يقول (. . . وليس هناك (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد من حرية الكاتب)؟ لي بالطبع لأنني أنا الذي كنت أنادي بـ (الحيز المحدود) في القصة القصيرة

ومن العجيب أنه يؤكد لقارئيه بأنه لم يقارن مطلقاً بين القصة الطويلة والقصة القصيرة. . . ترى من الذي كتب في هذه المقارنة اثني عشر سطراً تبدأ بهذه الكلمات: (تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في الكم وحده بل في الكيف أيضاً)؟

بعد هذا خرج الأستاذعن موضوع المناقشة ليذكر أنني أضع نفسي دائماً في بؤرة الضوء، وأقول للناس إن الكتاب يرسلون إلي كتبهم راجين أن انقدها مفترضاً أنني الناقد المثالي الأول، حين أعلن في زهو وصرامة أنني وجدت أكثرها لا يستحق العناء!

أقسم للأستاذ عطا الله أنني ما أهملت هذه الكتب إلا لتفاهتها. . . وكذلك الأمر فيما يتعلق بإهمالي لكلمته الخارجة عن موضع المناقشة!!

أروع ما قرأت عن كذبة أبريل:

لا يصل هذا العدد إلى أيدي القراء إلا ويكون (أول إبريل) قد أوشك أن يحل ضيفاً على

ص: 41

هواة الكذب الطريف. . . الكذب الذي يلجأ إليه الناس رغبة في اللهو البريء، وشغفاً بالدعابة التي تجني في الغالب على الذين لا يعدون العدة لهذا اليوم الخالد في حساب الظرفاء والكذابين!

ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن إحدى الصحف الفرنسية قد كتبت في اليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس سنة 1948 ما يلي: (تقيم الحكومة الفرنسية في صباح الغد معرضاً ممتازاً للحمير بميدان الكونكورد، ومن المنتظر أن يهرع الكثيرون من سكان العاصمة لمشاهدة هذا العرض الذي تقيمه الحكومة لأول مرة، وتحشد فيه نماذج مختلفة من الحمير التي لم يرها الفرنسيون من قبل). ولم يقبل صباح أول إبريل إلا وكان ميدان الكونكورد يموج بالألوف ممن صدقوا خبر الصحيفة ولم يقبل المساء حتى صدرت الصحيفة حاملة إلى قرائها هذا التعليق الرائع: (كان للخبر الذي نشرناه أمس عن معرض الحمير أثره البعيد في نفوس القراء، حتى لقد أقبل الألوف منهم على مشاهدة المعرض. . . ويقول مندوبنا إنه شاهد في ميدان الكونكورد ما لا يقل عن عشرين ألف حمار)!!.

ص: 42

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

موكب الأبطال:

يقول (مدرس أدب في الأزهر الشريف) في مطلع كتاب منه: (ما تزال دولة الشعر بخير، فقد هزتني قصيدة الشاعر علي محمود طه في أبطال الفلوجة التي نشرتها الأهرام في عدد يوم الخميس 10 من مارس، ولا ريب عندي في أنك قد قرأتها، وأنها قد هزتك كما هزتني، وأن مثلها جدير بأن يحظى بإحدى تعقيباتك في الرسالة، سجل الأدب العالي وديوان الفن الرفيع. وإنما حملني على أن أوجه إليك هذه الكلمة، حرصي على أن أسجل إعجابي بهذه القصيدة، وقد مضى لي أن غمزت (أنشودة فلسطين) لصاحبها أيضاً في الرسالة الغراء، حتى لا أكون مثل كاتب الشمال: لا يحصي غير السيئات).

ويقارن الأستاذ (مدرس أدب في الأزهر الشريف) بعد ذلك بين هذه القصيدة وبين قصيدة أخرى لشاعر آخر في نفس الغرض، وفي نفس الجريدة وقد اصطنع أسلوباً لبقاً في استدراجي إلى هذه المقارنة، وكأني به يؤلبني على الشاعر الثاني، إذ يقول في نهاية المقارنة:(أرأيت - يا عباس - كيف يطغي بعض الشعر، فيبدو شيطاناً مريدا، وكيف يتواضع بعض الشعر، فيبدو ملكا كريماً؟!! إني أترك لك الباقي) وهو يقصد بالذي يبدو شيطاناً مريدا، شعر أبي طه. . . كما يعبر في رسالته، وما أخال الشاعر الآخر يسر بأن شعره ملك كريم في هذا المقام! ويظهر أن الشيطان أليق بالشعر من الملك!!

أما الباقي الذي يقول إنه يتركه لي، فهو على غير ما كان يتوقع، فلست أرى داعياً لهذه المقارنة، فلكل شاعر طاقته ومذهبه وأفقه.

أما قصيدة (أبي طه) فقد رآها القراء في الأسبوع الماضي كاملة بالرسالة بعد أن أضاف إليها الشاعر ما استلهمه من مشاهدة أبطال الفلوجة يهرع الشعب إلى الاحتفاء بهم وينثر الغيد طاقات الزهر فوق رؤوسهم، ولابد أنها هزتهم كما هزتني وكما هزت الأستاذ الأزهري، وحقاً ما قال في رسالته: (وإذا صح أن في الشعر مواضع للسجود، فإن من هذه المواطن في الصميم:

جن الحديد بأرضها وسمائها

فجرى وطار، تصيبه ويصيبها

ص: 43

شدت يد الفولاذ حول نطاقها

حلقاً تصيح النار: كيف أذيبها؟

وقد تآخت في هذه القصيدة قوة التركيب وقوة الروح، فطابقت بذلك موضوعها الخماسي. ومما يستدعي الالتفات أن بنيانها القوي لم تتخذ لبناته من القوالب المرددة التي يلجأ إليها شعراء الجزالة. وأقول صادقاً، أو أعتقد أنني صادق إذا أقول: إن قصيدة (موكب الأبطال) من القليل في أدبنا المعاصر الذي يجمع بين الديباجة العربية المتينة التي يظهر أثر الشاعر في نسجها وبين نهيج المدرسة الحديثة في الشعر من حيث صدق التعبير والصدور عن الشعور الذاتي دون تقليد أو تزييف. ولعلها أول قصيدة للشاعر نفسه على هذا النحو، فقد كان يؤثر قرب المنال من عامة القراء؟ ولكن الموضوع في هذه المرة حكم عليه أن يخلد البطولة المصرية في الفلوجة بشعر يذهب مذهبها في القوة ومجاوزة المستوى العادي. ولست أريد بذلك أن أفضل القصيدة على غيرها من شعر الأستاذ علي محمود طه، إنما أنعتها بصفاتها، فلا شك أن السهولة والرقة لهما مكانهما في غزلياته وغرامياته.

وبعد فقد قام شاعرنا الكبير بحق البطولة على الشعر، وجاءت قصيدته عملاً ممتازاً، ينبغي أن ينظر فيه الشعراء الذين يؤثرون العزلة والهرب من المجتمع والانطواء على عواطفهم الشخصية وخيالاتهم البعيدة عن مضطرب الحياة. ونحن أمة لم تستكمل ضروراتها من الحرية والحياة الراقية المستقرة، فإذا كان لشعراء أمم أخرى أن يعكفوا على ألوان مترفة من الشعور والتفكير فإن ذلك لا يروج في بلادنا ولا يناسبها ف هذه المرحلة من حياتها، وأقل ما يرجى من الشاعر أن يشارك مواطنيه مشاعرهم ويصدق في التعبير عنها. وما أكثر من يسترون العجز بدعوى (التحليق) الذي لا يأتون من بشيء. . .

فليا يا فليا:

(أطلعت في العدد 809 من الرسالة الغراء على كلمتكم الحكيمة عن شعر (البلالايكا) التي قلتم في نهايتها (أليس لقائل آخر ما دام الباب مفتوحاً أن ينشر قطعة قد تكون أروع من هذه بعنوان (شرم برم)؟ ولقد قرأت في عدد مارس من مجلة الشرق الأدنى للإذاعة اللاسلكية قطعتين من الشعر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي، إما أن أضعهما فوق مستوى تفكيري، وإما أن أضعهما تحت عنوان (شرم برم) والقطعتان مرسلتان إليكم، بعد أن انتزعتهما من المجلة، دفعاً لمظنة التزوير، لتروا رأيكم فيهما).

ص: 44

تلقيت هذه الرسالة من الأستاذ محمد محمود عماد المحامي، ومعها القطعتان المذكورتان، الأولى عنوانها (فليا يا فليا) أولها بيتان موزونان يستطيع الإنسان أن يفهم منهما أن (فليا) لها محب يخفق قلبه بحبها، وأن للحبيبين أسطورة (تعيش مع الغاب) وبقية القطعة:

حكم هوى العذراء

لو عرب سنا الجوزاء

طوقت همسة بالزهور

فليا يا فليا يا حلمي الكبير

رحماك بالقلب فهو كسير

فليا يا فليا اسمعي لي الغناء

يزجي الهوى ما يشاء

استطعت أن أقرأ وأن أفهم الأربعة السطور الأخيرة وآخرها موزون، أما الثلاثة التي قبله فهي كسير كالقلب، غير أن القلب كسير من حب (فليا)، والكلام الذي قبل ذلك لم أعرف أي شيء هو!

والقطعة الثانية عنوانها (حلم الزواح الساحر) أجزاؤها مشردة تائهة بين ثلاثة بحور، وبعضها كالقلب الذي حطمته (فليا)، فمنها:

لو أنني في ألواج

أغلقت قلبي بالرّتاج

الشطر من (مجزوء الكامل) أما الأول فلم أدرك معناه ولا وزنه، لأني لم أعرف معنى كلمة (ألواج) ولا ضبطها.

ومن القطعة أيضاً:

أواه لو تكن معي

حبيبتي ضياء عيني

الشطر الأول من (مجزوء الرجز) والثاني من لا شيء. . وقد استطاعت (لو) بقدرة خارقة أن تجزم (تكن).

يا أستاذ عبد الرحمن الخميسي، لا أريد أن أكون شديداً في مناقشتك، فأنا أهدأ من زميلي الأستاذ أنور المعداوي وأذكر أننا التقينا مرة، فعتبت علي لظنك أني عرضت بك في بعض

ص: 45

ما كتبت، وقلت إنك تحب أن أواجهك بالنقد لتستطيع الرد. وها أنت ذا تراني قد فعلت. فهل تتفضل وتشرح لنا ما لم ندركه أنا والأستاذ عماد، وتبين لنا الحكمة في استعمال (هيئة البحور المتحدة) في القطعة الواحدة، ولم وقف غير الموزون ينظر إلى محطماً كسير القلب؟ ولا تنس (لو) التي منحتها حق الجزم، وقد كان يمكن أن تمنعها من ذلك، فيكون الشطر الأول كالثاني، ولا ضرورة!

والأستاذ محمد محمود عماد ينتظر الرأي، هل القطعتان فوق مستوى تفكيره - وتفكيري أيضاً - أو هما من نوع (شرم برم)؟ وهو على حق في ذلك، فلا ثالث للأمرين. وأنا أوثر أن أضعهما فوق مستوى تفكيرنا، حتى يتفضل الأستاذ الخميسي بالإفادة.

تأبين الجارم:

احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المرحوم علي الجارم بك يوم الأحد الماضي لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته. وقد اختير لذلك المكان الذي فاض روح الفقيد فيه، وهو دار الجمعية الجغرافية، حيث كان يستمع إلى قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا.

وقد قصر التأبين على كلمة للأستاذ أحمد العوامري بك، وقصيدة للأستاذ عباس محمود العقاد. أما كلمة العوامري بك فقد كانت جامعة، عمد فيها الأستاذ إلى السرد التاريخي لحياة الفقيد منذ كان طالباً في دار العلوم، وما تخللها من جهوده في التعليم واللغة والأدب، وفصل ذلك تفصيلاً وافياً في نظر التاريخ وقد بدا هذا التفصيل كأنه ممل، نظراً إلى أن الحاضرين من المثقفين والأدباء الذين لا تخفى عليهم هذه المعلومات.

وقد ألقى الأستاذ شوقي أمين قصيدة الأستاذ العقاد الذي لم يتمكن من الحضور لمرضه - عافاه الله - وقد كان إلقاء الأستاذ شوقي هادئاً معبراً، فأدى الشعر أحسن أداء.

وأول قصيدة الأستاذ العقاد.

فجعت مصر يوم نعى علي

بالأديب الفهامة الألمعي

شاعر لازم القريض إلى أن

كان يوم الفراق حرف روى

وقضى واجبين يوم قضى

وأعظم بالواجب المقضي

واجب الشعر، والوفاء مدى العم

ر فطوبى لشاعر ووفي

ص: 46

إن جهد الرثاء لوعة راث

في مضامين شعره مرئي

الفرابين الغنائية لطاغور:

كتب الأستاذ عبد اللطيف شرارة بالعدد الأخير من مجلة (الأديب) اللبنانية، بعنوان (قربان الأغاني) نبه فيها على تقصير أدباء العرب في دراسة طاغور وترجمة آثاره، وذكر بعض ما ترجم منها إلى العربية ثم قال:(ولكن أحداً من أدباء العرب المعاصرين لم يفكر في نقل ديوانه الأعظم (قربان الأغاني) الذي سما فيه طاغور إلى أعلى ذروة يستطيع أن يبلغها شاعر، إن في الحس المرهف، وإن في الحكمة الصافية، وإن في روعة التعبيرعن أغرب الأجواء الروحية والصوفية. دام الأمر كذلك إلى أن جاء الأب يوحنا قمير - وهو من عني بفلاسفة العرب) ومفكريهم فسد ذلك الفراغ ونقل (قربان الأغاني) إلى لسان العرب

وأذكر أن الأستاذ كامل محمود حبيب نقل ذلك الديوان إلى العربية من نحو اثنتي عشرة سنة، ونشرته (الرسالة) تباعاً ابتداء من العدد (230) الصادر في 29 نوفمبر سنة 1927 بعنوان:(جيتا نجالي) وقدمت له الرسالة بما يلي:

(جيتا نجالي كلمة هندية بنغالية معناها القرابين الغنائية وهي أناشيد صوفية تبلغ 103 نشيد نظمها طاغور في البنغالية ثم نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، وشهرتها في الأدب العالمي كشهرة رباعيات الخيام. وهي تمثل الروح الغالبة على فلسفة طاغور من جهة، والطبيعة المميزة للبوذية من جهة أخرى. وسننشرها كلها مترجمة بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب).

وقد أتاح لي ذلك فرصة سعيدة، إذ رجعت إلى مجموعتي من الرسالة، ونعمت وقتاً بقراءة هذه الأناشيد الروحية العالية، وأقطف للقارئ أولها فيما يلي:

(أنت خلقتني أبدياً، تلك مشيئتك. هذا الحطام الفاني - جسمي - أنت تفرقه مرة ومرة ثم تملؤه بالحياة الغضة. هذا الناي الصغير أنت علوت به وهبطت؛ ثم وقعت عليه أنغاماً سحرية خالدة، وحين لمست يداك قلبي الضعيف لمسة إلهية، شاع فيه السرور وانبعث منه لحت أخاذ، وبين يديّ الضعيفتين استقبلت آلاءك العظيمة، والأعوام تتصرم وأنت ما تزال تحبوني وفي قلبي شوق وطمع).

وقد ترجم الأستاذ كامل لطاغور، غير ذلك، ديوان (البستاني) ونشر تباعاً في المقتطف سنة 1940 ثم جمع في كتاب، وترجم له كذلك (قطف الثمار) ونشر أيضاً في المقتطف سنة

ص: 47

1941.

عباس خضر

ص: 48

‌البرَيدُ الأدَبي

بين نيتشه وفجنر

كتب الأستاذ أنور المعداوي في عدد (الرسالة) رقم 819 في باب (التعقيبات) كلمة تحت عنوان (أدعياء الأدب في الصحافة اليومية) يرد بها على الأستاذ الخميسي فيما كتبه بجريدة المصري عن موسيقى فاجنر وأثرها في الفيلسوف نيتشه خاصة والشعب الألماني عامة. فحمل حملة شعواء على الخميسي لا داعي لنقلها فقد طالعها القراء. . . وإني أقول للأستاذ المعداوي كلمة هادئة. . . ترفق يا صديقي فما هذه بلهجة ناصح مرشد، وإنما هي لهجة مصارع جامح. . . وحتى لو كان الحق في يدك والباطل في يد غيرك فلهجتك تشوه جمال حقك. . . فما بالك إذا لم يكن معك كل الحق، وليس مع غيرك كل الباطل؟!

إن ما قاله الأستاذ الخميسي عن تأثير نيتشه بموسيقى فاجنر حق لا شك فيه، وقوله (إن موسيقى فاجنر فتقت أكمام العبقرية في نتيشه) يدهشني بصدقه ودقته؛ هذا التعبير الذي جعله الأستاذ المعداوي هدفاً لأمرً سخرياته. وإليك الدليل يا أخي (الأستاذ) بقلم نيتشه نفسه من كتاب (رسائل الصداقة بين نيتشه وفاجنر) وهو سفر يقع في حوالي مائتي صفحة من القطع الكبير منه طبعة بدار الكتب بالقاهرة - وهو حافل بآيات الإعجاب والإشادة التي طالما أهداها الفيلسوف إلى صديقه الموسيقار العظيم. ونحن نكتفي منه بمقتطفات من إحدى هذه الرسائل - على سبيل التمثيل لا الحصر - (صفحة 85) كتبها الفيلسوف يهدي معه نسخة من أول كتاب (تفتقت عنه عبقريته) إلى صديقه الموسيقار وقد سماه:(مولد التراجيديا من خلال روح الموسيقى).

وهذا المؤلف بالذات تناوله البروفيسور ليشتنبرجر في أبدع فصوله من مؤلفه القيم عن نيتشه - إنجيل السوبرمان -.

ويفتتح نيتشه خطابه بهذه العبارة الشائعة في خطاباته لفاجنر:

أيها الأستاذ العظيم التبجيل:

لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه

وإذا كنت أعتقد أنني به قد أصبت الحق فليس لذلك سوى معنى واحد هو أنك في فنك علي

ص: 49

حق مدى الزمن والخلود - في كل صفحة من صفحاته تجد شاهداً ناطقاً يشكري على كل ما أوليتنيه؛ ولكن يعروني الجزع لشكي المخيف - إلى أي مدى استطعت أن أظهر نفسي أهلاً لنفحاتك؟! سأكون قادراً على إبداع أعمال أخرى أفضل في مقتبل الأيام وأقصد بمقتبل الأيام ذلك الزمن الذي يكون فيه فن بايروت (يقصد فن فاجنر) قد طار صيته.

وفي نفس الوقت أشعر بالزهو إذ أحس بنفس إذ أحس بنفسي كجمرة تضطرم؛ لأنني من الآن فصاعداً سيقترن اسمي باسمك إلى الأبد.

مدينة يال في 2 يناير 1872 ف. نيتشه

ألا ترى يا أستاذ معداوي أن نيتشه يعترف صراحة بأثر فاجنر وفنه في أول كتاب تفتقت عنه عبقريته؟ فكل صفحة من صفحاته شاهد ناطق بذلك كما يقول الفيلسوف نفسه!! وإن نجاح نيتشه في كتابه ليس إلا برهانا على نجاح تأثير الموسيقار وفنه؟ بل إن الفيلسوف ليؤجحه الشعور بالزهو والفخر إذ شعر باقتران اسمه باسم الموسيقار العظيم إلى الأبد! مسكين أيها الخميسي الدعي! يا من تتناول مشكلات الأدب والفن هذا التناول الذي يبعث على الضحك والعجب والإشفاق!

إن (المثقفين يا أستاذ في كل مكان يعلمون حقاً أن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشه أعنف وأبشع ما قليته موسيقى فنان من قلم فيلسوف) ولكن هؤلاء المثقفين أنفسهم يعلمون أيضاً أن هذه الموسيقى بالذات قد لقيت من قلم نيتشه أسمى آيات المديح. إنها حقيقة ذات وجهين يعرفهما كل مثقف في كل مكان! فهل أظهرت يا أخي أحد الوجهين وأخفيت الآخر متعمداً لترخي لقلمك العنان في سخرياته من الخميسي الدعي الذي يصدم الخيال والواقع ويخالف منطق الحياة والأحياء هو وأمثاله (على حد قولك) حين يكتبون؟! أم أنك كنت بالوجه الثاني لتلك الحقيقة على غير علم؟! إنني أترك لك اختيار إحدى الحالين. . . ولست أغبطك على هذا الموقف. . . الذي لا يبعد كثيراً عن ذلك الذي أراد أن يتمسك من الآية القرآنية بعبارة (لا تقربوا الصلاة. . .) وترك الباقي لغاية في نفسه وإن كنت شخصياً أنزه ناقداً مثلك عن هذه الغايات!

أما سبب ذلك الانقلاب من النقيض إلى النقيض للفيلسوف على صديقه الموسيقار فيعزوه المثقفون أو بعضهم على الأقل إلى علاقة غرامية أحس بها الفيلسوف نحو زوج صديقه

ص: 50

الفنان. . . حين كان يتصل بالزوجين اتصال المعجب ويخالطهما مخالطة الصديق. . . وللحب سلطان فوق كل سلطان يا صديقي - ولما عرف الزوج السر وقعت الجفوة بين الصديقين. . . وإنك لتعرف أيها الأخ أن نيتشه لا يعرف في العواطف أنصاف الحلول. . فإما الصداقة الجارفة وأما العداوة الصارخة، وهو في فلسفته أيضاً كذلك. . . فهو إما هدَّام مدمر كأعنف ما يكون الهدم والتدمير، وإما بان كأضخم ما يكون بناء بنَاء. . . ومن كتبه التي تشهد بذلك - زرادشت - ضد المسيح - شفق الأصنام -. . .

ولقد سبق لينتشة أن رفع شوبنهاور وفلسفته إلى عنان السماء ثم عاد وذمهما أشنع الذم. . ثم حملته العنيفة التي شنها على المسيح والديانة المسيحية. . إن ما قاله مالك في الخمر هو بعض ما قاله نيتشه في المسيح. والعجيب أنه كان يعد أولاً ليكون من رجال الكنيسة. .!! ويقل نيتشة في كتابه - ما وراء الخير الشر - وربما يعلل بهذا القول تقلباته العنيفة - إن المفكر عندما يبلغ الثلاثين يكون مر بجميع الأدوار التي مرت بها الإنسانية في تطورها.

كنت أحب أن أنتهز هذه الفرصة لأستطرد في بحث عن نيتشة الفيلسوف العجيب الفذ، ولكني أرجئ هذا إلى فرصة أخرى. وأشكر للأستاذ المعداوي أن أتاح لي إنصاف الحق وأحب أن أقول له مخلصاً. . والله لولا حرمة الحق ما حركت قلمي في هذا الموضوع - وإذا كان الخميسي صديقي فالحق عندي أعز من كل صديق. . وفي النهاية أهمس في أذنه: إنها جولة كسبها منك الخميسي لأنك لم تسد الثغرة حين سددت الضربة. . . وعسى أن توفق في جولة أخرى. . على أن كاتباً مثلك ينتظره مستقبل باهر عليه أن يبذل غاية الجهد ليحفظ قلمه بعيداً عن آفة الهوى. . .

محمد فهمي

(الرسالة) تلقينا رداً آخر للأستاذ الخميسي فاكتفينا برد الأستاذ

فهمي لاقتصاره في النقل ووفائه بالغرض.

كلام الجوهر والدرر:

في ص 1350 من عدد (الرسالة) 804 يقول كاتب المقال: (ترجمة الأوزاعي لابن حجر العقلاني).

ص: 51

عنَ لي أن أحقق هذا فرجعت إلى كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي) الذي نشرته مكتبة القدسي بالقاهرة فوجدته في ص 120 يسرد ما ألف من التواريخ في أفراد مخصوصين، قم يحيل على كتابه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) فرجعت إلى النسخة المصورة في دار الكتب المصرية فعثرت في خاتمته على جريدة حافلة في ذلك، يقول فيها: وسيرة أبي عمرو الأوزاعي جمعها الشهاب أحمد بن محمد بن زيد الدمشقي الحنبلي أحد من أخذت عنه، في جزء سماه (محاسن المساعي في مناقب أبي عمرو الأوزاعي).

وقد ترجم السخاوي لابن زيد هذا في تاريخه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) المطبوع بمصر، وذلك في الجزء الثاني منه وذكر في ثبت مؤلفاته كتابه هذا (محاسن المساعي).

ثم رجعت إلى الباب الخامس من (الجواهر والدرر) المعقود لمؤلفات ابن حجر العسقلاني، وهو في 18 صفحة كبيرة، فلم أجد فيه ذكراً لكتاب في هذا الموضوع للحافظ. ولو كان له مصنف في ذلك لما خفي على تلميذه الأثير شمس الدين السخاوي وترجم له ابن العماد في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في أربع صفحات، وسرد من أسماء مؤلفاته 71 كتاباً، ليس منها هذا الكتاب.

وقصدت أيضاً إلى (الضوء اللامع) فوجدت للحافظ ترجمة فيه، ليس فيها شيء من ذلك أيضاً.

وعلى هذا فالنسخة الموجودة في دار الكتب من (محاسن المساعي) المنسوبة إلى الحافظ ابن حجر هي للشهاب بن زيد قطعاً.

محمد أسامه عليبه

ص: 52

‌الكتب

كتابان وكاتبان

بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي

في الربع الأول من القرن الحالي، كان يقول الأدباء في مجالسهم في أديب كان معروف المكانة الأدبية آنذاك: إنه يؤلف عندما يترجم، ويترجم حينما يؤلف.

تلك المقالة التي كانت تقال همساً في مجالس الأدباء كانت تنطبق على أكثر كتاب وأدباء ذلك الجيل ممن كانوا يردون الأدب من موارد الغرب، ولم يكن يستثنى منهم إلا نفر حرصوا على كرامتهم الأدبية وعلى كرامة الأدب نفسه من الابتذال، فبقيت آثارهم تدل على أمانتهم في الترجمة وفضلهم في النقل.

ما كاد يهل الربيع الثاني من القرن العشرين؛ عصر الآداب والفنون والعلوم، حتى ظهرت بيننا ظاهرة جديدة في الترجمة والنقل استحدثها كاتب شيطان لبق مرن، واسع الاطلاع على الأدبيين العربي واللاتيني، فتوفر دائماً للحركة والعمل، ودأب على الإنتاج وعلى إثارة الضجيج حوله، وما لبثت تلك الظاهرة بدعة الشيطان الدريش، أن انتشرت بين الكتاب لسهولتها وعم اقتباسها واستعمالها عند الكثيرين من الكسالى الذين تستهويهم الشهرة ويجذبهم حب الكسب. وهكذا صار تلخيص الكتب والروايات الغربية ونشر هياكلها بعد مسخ روحها ونسخها هو القاعدة في الترجمة والنقل، ولكن أبى الأمناء من المترجمين، وهم قلة، والحرصاء على النقل الصحيح في آداب الغرب إلا السير في طريقهم القديمة، النهل من الينابيع النقية الصافية، غير آبهين بالترهات والخزعبلات الشيطانية، وقد أنكروا ذواتهم واستهانوا بمنفعّتهم حباً للأدب، ووفاء لأمتهم الناهضة. وهكذا أعدوا للجيل الجديد عوائد فوقها ما فوقها من الشهي المستحب من أدب الغرب النافع.

الترجمة في الأصل فناء شخصية معجبة في شخصية مبدعة. وهي ككل الفنون لا محيد لمتعشفها من موهبة طبيعية. فكما أن المستحيل على غير الموهوب أن يكون موسيقياً أو شاعراً أو رساماً، كذلك يكون من العسير أن يكتسب الكاتب فن الترجمة اكتساباً (وفن الترجمة لا يكفي فيه الجهد المبذول، ولا تحمل العناء؛ ولا بد فيه من التوفيق). ولما كانت خصائص إعجاب المترجم الأمين تتقارب من خصائص المبدع الفني وتضارعها؛ لأن

ص: 53

كليهما يستلهم الوحي من فيض الروح، ولما كانت نهضتنا الأدبية في وقتنا الحاضر قد سبقت النهضات الأخرى غير الأدبية بمراحل، وقد سلكت في سيرها الحي سبيل الجد في الإنشاء والتأليف والترجمة، ولما كانت الأمانة رائد المترجمين الموهوبين وهدفهم، صار لرام بحكم تطورنا أن يتجلى صبح الترجمة وأن يشرق نورها، وقد انجلى ذلك الصبح البهيج في أمور ثلاثة تستوقف النظر وتسترعي الانتباه.

الأول: القدرة على تقمص روح المترجم عنه والاندماج فيه

الثاني: الحرص على جو الزمان والمكان وحسن الاختيار.

الثالث: استيعاب فلسفة أن أتاجأأنالموضوع وإبراز شخصية المترجم.

وقد وضحت هذه الصفات الثلاث وتبدت في كتابين ظهراً حديثاً: الأول (فيرنا) للأستاذ على أدهم الكاتب الغني عن التعريف، والثاني (أقاصيص مأثورة) للأستاذ كامل البهنساوي بك القاضي بالحكمة المختلطة.

في كتاب الأستاذ أدهم خمس عشرة قصة تمثل الأدب الألماني والفرنسي والروسي والإيطالي والبولندي، منها المستمدة من صميم الحياة، ومنها القائمة على الأسطورة. وكذلك في الكتاب الثاني خمس عشرة قصة تمثل الأدب الذي اختاره الأول، منها ثلاث تمثيليات هي (فاوست) و (كارمن) و (البوهيمية) وقصة ملخصة تمثل الأدب البولندي قرأتها كلها بلذة المطالع، ورغبة الناقد، وحب الإفادة والتتبع، وقصد التعريف.

تمنيت لو عمد الأستاذ البهنساوي بك إلى النقل وأهمل التلخيص، ولكني ، ان كنت أرضى بعض الرضى عن تلخيص التمثيليات الغنائية ولكني لا أرضى أبداً عن تلخيص قصة (حارس المنارة) ولا أقبل أي عذر يسوغ حذف صورة واحدة أو اقتضاب جملة واحدة من تلك القصة العظيمة لأنها بجملتها قائمة على التصوير الفني.

يجلس البهنساوي وأدهم على مائدة أدبية واحدة حافلة بأغذية دسمة متنوعة، إلا أن الأول جائع يتلقف لقمته بنهم ويبتلعها على عجلة. والثاني جائع أيضاً ولكنه يتناول طعامه بقدر وتمهل وأناقة بمضع ويزدرد ولا يعف عن المرق والتوابل (يرمرم وينقنق) وطبق على الحلوى والفاكهة، ويعب ويغب. . . ويجتر. وأنت ترى هذه المائدة ممدودة في كتابيهما عليها الكثير من ألوان وأنواع الأدب الشهية ما عدا الأدب السكسوني!!

ص: 54

البهنساوي بك قاض في التحقيق التجاري، والأستاذ أدهم (دعباس) بحكم وظيفته بوزارة المعارف، لا يترك صغيرة أو كبيرة لا يحققها، وكفى به أنه - في أكثر ما يكتب - نباش قلوب العظماء ومستحضر أرواح الخالدين في كتب التاريخ يسألهم عن اللمحة الخاطفة التي غفلت عدسات المؤرخين عن تسجيلها ليردها إلى حقيقتها ويضعها موضعها الصحيح، فكاتبان هذا شأنهما في حياتهما اليومية - أدبية عملية - قد لا ينحرفان في الترجمة عما اكتسباء من ضبط ودقة يوّجبهما حكم العمل، فضلاً عن حكم الفطرة الأصيلة الدقيقة.

إن الذقة في الترجمة والأمانة في النقل، وهما الخلتان اللتان تجمعان بين البهنساوي وأهدم في كتابيهما التوأمين، يفرق بينهما الأسلوب، فأسلوب القاضي إنما هو (تقريري) محض، في حين أن أدب القصة بعيد عن التقرير الفقهي والقانوني، وقد لمس الأستاذ خليل مطران هذا الموضوع لمساً رقيقاً في مقدمة الكتاب حيث قال (توخي ناقل أقاصيص مأثورة إلى لغة الضاد أن يجلوها للمطالعين مصورة بمثل التصوير الشمسي) وقال أيضاً:(ينبغي أن يكون الكلام متحركاً بحركات الحياة في كل حالة من متعدد حالاتها) بيد أن أسلوب أدهم أدبي مجنح، وقد حرص على المعنى وحافظ على جمال المبنى. أما الأستاذ البهنساوي فقد حرص أيضاً على روح الموضوع واحتفظ بجو المكان، وقد لزم كل منهما طبعه الأصيل.

عنى الأستاذ البهنساوي بتقديم قاصي قصصه وتمثيلياته وتعريفهم بترجمة حال وسير موجزة أراد بها أن يستوفي الواقف عليها ما يعينه على إدراك الكنه في تلك الأقاصيص، وتفهُّم الخصائص التي تمتاز بها كل منها في نوعها وفي بيئتها، إلا أنه أوجز كثيراً واكتفى بذكر سنة الولادة والوفاة. وإليك المثال في التعريف (وولوع (بول هيس) مؤلف قصة (الغاضبة) بالرحلات إلى إيطاليا هي التي أوحت إليه فنه). في حين أن الأستاذ أدهم عني ذات العناية، ورمى ذات هدف، ولكنه لم يوجز بل وقف في تعريف القاص الذي ترجم عنه، وفي التمهيد له بفلسفة القصة موقفاً لم يسبقه لمثله سواه من المترجمين.

قال يترجم لكاتب ألماني: (وكتابة جاكوب فاسومان لم تتسم كما يبدو بالإشراق والصفاء والاتزان، وإنما تمتاز بالجدية والصرامة والقوة، فلا يطالعك من صفحاته الروض الناضر، أو الصباح البسام، وإنما تشرف منها على الليل المدلهم والعاصفة العازفة، وهو لا يكشف لك عن حرية الإنسان وقوته، ومجده وعظمته، وإنما يريك مصارعة الإنسان لأحزانه

ص: 55

العميقة، وهمومه الشديدة، ومطاردته لأهوائه العنيفة وشهواته الغلابة. وربما كانت قوة شعوره أعظم من قوة فنه) وقال: في التمهيد لفلسفة قصة (اضطهاد) للكاتب الفرنسي بوتيه: (الحياء علة من علل الإرادة، وآفة من آفاتها الشخصية. وقد عرفه أحد من توفروا على بحث طبيعته، بأنه حاجة ماسة إلى العطف وجدت ما يصدها ويدفعها، أو يغرر بها ويحدها، والحيي إنسان عاطفي يود أن يفتح قلبه وينفض ما في نفسه ولكنه يحجم عن ذلك. . .).

ما كل قصة جديرة بالترجمة حتى وإن كان مؤلفها من كبار القصصيين، وما كبار القصصيين أصحاب الشهرة العالية سوى أناس مثلنا يصيبون ويخطئون، يجيدون ويقصرون في الإجادة. ويكفي للدلالة على ذلك أنه ما من كاتب من الخالدين سلمت تواليفه كلها من النقد خصوصاً بواكيرها أو خواتيمها، وأن شهرتهم ما قامت إلا على القصة التي تحمل من عناصر الحياة الإنسانية ومن خصائص الابتكار والإبداع القني أوقرها، ومن إكسير الخلود ما يجعلها موفورة النضارة والجمال والحيوية لكل جيل وزمان وأمة.

ولا عبرة بما ينشره الناشرون التجار من قصص كتبها العظماء قبل تمام نضوجهم، بل العبرة في الاختيار: لأنه عنصر فني أساسي. وقد أحسن الأستاذان: البهنساوي وأدهم اختيار القصص كلها لأنها تمثل ألواناً من أدب وقسمات من حيوات نحن في أشد الحاجة إليها؛ ولأنها تعين كتاب القصة منا وتسد حاجة الذين لم ييسر لهم أن يعرفوا لغة أجنبية؛ ولأنها ركن من أقوى أركان الثقافة التي تربع مستوى المنتجات الفكرية وخصوصاً في نواحي السياق والاستنباط والتصرف في الفن القصصي.

إني وإن كنت استحسنت ما اختار الأستاذ أدهم من القصص التي ستكون نماذج للذين لم يخرجوا بعد في قصصهم عن نطاق الغرائز ودائرة الشهوات الجنسية. لا أميل إلى الأسطورة، ولا أستسيغها سواء أكان ملفقها تولستوي أو زفائج - وهذا لا يعني أني لا أقدرها قدرها ولا أقيم وزناً لمراميها الإنسانية التي هي فوق مستوى البشر كما في قصة (فيراتا) وإن كانت تدفع بالفكر إلى ما وراء المعقول وبالذهن في أجواء واسعة للتصور والتخيل، بل لأن إدراكنا ما برح يقف عند بدائه الأشياء وأوائل الأمور، ولأنه ما برح يزحف في نطاق ضيق من المادية الملموسة المنظورة، ولمَّا نففه بعد نطاقنا الضيق وحدوده

ص: 56

فما بالك بما هو أبعد من البدائه وأعمق من الأوائل؟

قال الأستاذ البهنساوي في مقدمته (من بين فنون الأدب وطرف البلاغة تفردت القصة بالذيوع، وخصها جمهرة المطالعين بالأولوية، وحبسوا عليها أوقات فراغهم؛ والسر في ذلك هو اتصال الرواية بالحياة، ففيها تأخذ الحوادث بأعناق بعضها زاخرة بالشخصيات، وقد أفرغ عليها الكاتب من فنه المبدع ما يجعلها ماثلة أمامك يجري فيها الدم تهتف بالبقاء للبقاء فتكون متعة للناس، ومطلبهم جيلاً بعد جيل).

وقال الأستاذ أدهم: (والقصة في العصر الحاضر كثيرة الألوان متنوعة الشكول، تكاد تتحدى كل تعريف وتتجاوز كل تحديد، وتختلف صورها لاختلاف العقول وتباين الأمزجة فلا يستطيع الإنسان أن يحدد معالمها، ويحصي سماتها وملامحها) وكما كانت القصة أصدق في تصوير الواقع وترديد صدى الحياة كانت أدخل في الأدب والفن وأدنى إلى البقاء والخلود).

وأعيد هنا ما سبق لي قوله في مقدمة كتابي (شعاب قلب) لا شك في أن القصة قصيرة كانت أم طويلة، هي خير وسيلة للتعبير عن الخلجات الإنسانية، وأرحب مجالاً للذهن الخصب، وأبرع حيلة يحتال بها صاحب الرسالة على عقول ومشاعر لا تؤخذ ولا تستصلح إلا بالحيلة والتشويق).

وددت لو أقف طويلاً حيال قصة من تلك القصص والأقاصيص الممتعة التي دمجها المترجمان الفاضلان في أدبنا العربي، ويسرني أن أقول إنه سيكون لكتابيهما الأثر الفعال في الإعداد لإنشاء القصص، وأنهما سيخلدان ذكراهما كمترجمين أمينين، وأنهما يعينان على النهضة الأدبية وتوسعة آفاقها وتهيئة الأسباب القوية لتبلغ المقام الحق بها بين أوفى اللغات في هذا العصر.

حبيب الزحلاوي

ص: 57