المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 822 - بتاريخ: 04 - 04 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 822

- بتاريخ: 04 - 04 - 1949

ص: -1

‌رؤيا مزعجة

لم أكد آوي إلى فراشي البارحة حتى انثالت على خاطري صور

أشتات من جملة ما سمعت وقرأت عن حال المشردين من عرب

فلسطين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وجردوا من مالهم بغير

رحمة، وقضي في مصيرهم بغير عدل. وكان مبعث هذه الصور

حديث سمعته عصر الأمس من صديق عاد من فلسطين بعد ما رأى

بعينيه افظع مناظر البؤس، وسمع بأذنيه أروع مآسي الحياة. وكنت

وهو يتحدث أتمثل من خلال وصفه طرائد صهيون من ورَّاث المجد

وربائب النعيم يلوذون بمغاور الجبال وكهوف الأودية، ويتبلغون بيابس

النبت وآسن الماء، ويتسترون بأخلاق الثياب ومِِزق الخيش، وأطفالهم

دفاق الأشباح فوق ظهورهم أو بين أيديهم يتضاغون من الجوع

ويتطرحون من الكلال؛ ونسائهم الشواحب العجاف يجررن أرجلهن

الدامية على الحصى جراً فلا تكاد تتبعهن من فرط اللغوب. فإذا ذكرن

ما صنع بهن علوج إسرائيل ذرفن ما بقي في المآقي، ثم تطلعن لها في

إلى صلاح الدين الهاشمي يستصرخنه للمجد المغلوب، والتراث

المغصوب، والعرض المسلوب، فتهب وا أسفاه ريح (غريبة) تعدل

بصرختهن عن القصر إلى الفقر، فلا يسمعهن وريث الرشيد، ولا

ينجدهن سليل المعتصم!

أمست هذه الصور المروعة تتمثل في ناظري، أو تتراءى في خاطري، وصوارف العمل أو شواغل الناس تخفيها الساعة بعد الساعة، حتى خلوت إليها على وسادي القلق، فتوالت في ظلام الغرفة مسرعة على عيني، كما تتوالى صور الفلم متلاحقة على عين المشاهد،

ص: 1

فرأيت في أطراف فلسطين وعلى حدود جاراتها المضيافة ثلاثة أرباع المليون من كرام العرب يعيشون في الخرائب والملاجئ عيش الحرمان، يقتاتون السوف، ويكابدون الجوع والخوف، وينظرون إلى رياضهم الجنية تعيث فيها الذئاب، وإلى حياضهم الروية تلغ فيها الكلاب، فلا يملكون لأنفسهم إلا عبرات تتحدر وزفرات تتصعد، ومجلس الأمن ووسيط هيئة الأمم ولجنة التوفيق ودول الديمقراطية يستطعمون الواغل لصاحب المأدبة فلا يطعم، ويستعطفون الدخيل على مالك الدار فلا يعطف!

وثقل الأسى على أعصابي المضطربة فغلبني النوم. ولا أدري بعد كم دقيقة أو ساعة من رقادي دخل علي في مكتبي صديقي المغفور له إسعاف النشاشيبي في هيئة مبذوءة وثياب رثة: بذلة من الصوف المهلهل لا لون لها من البلى ولا معالم، وطربوش كلبدة الفلاح دارت عليه لفافة من بقايا قميص ممزق، وحذاء غليظ من أحذية الجيش لا رباط له ولا جورب. . . فقلت له وأنا لا أصدق عينيَّ ولا أملكهما: ماذا صنع الدهر بالثريِّ السخي المترف المتنطس يا إسعاف؟! فقال في تسليم واستكانة: هو ما ترى! رأيت بعيني حي (الشيخ جراح) يٌستباح ويجتاح، وداري العربية تحتلها كتيبة يهودية، ومكتبتي الحبيبة تنتقل إلى الجامعة العبرية، وضياعي الخصيبة في يافا يحول ريعها إلى تل أبيب! فلما رأيتني أصبحت لا دار ولا أهل ولا ملك ولا مال، هاجرت مع المهاجرين، ولجأت إلى مصر مع اللاجئين. وقد كنت تقول لي وأنا أوثر (الرسالة) بجهدي الضئيل: لولا غناك لأعطيناك. وهاأنذا اليوم أصبحت فارغ الكف والقلب من المال والأمل، لا في الجيب ولا في الغيب! ثم بكى فبكيت؛ وسمع نشيجي بعض أهلي فأيقظوني، فاستيقظت وأنا احمد الله أن مات، قبل أن يقاسم وطنه وقومه هذه النكبات!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الجديد في القضية الأندنوسية

للأستاذ عمر حليق

الحالة في أندنوسيا بناء على التقارير الواردة إلى لايك سكس مقر هيئة الأمم المتحدة تشير إلى أن سياسة (الأمر الواقع) التي أتبعتها الحكومة الهولندية للقضاء على الجمهورية الأندنوسية سياسة مصيرها الفشل، وأن نجاح الحملة الهولندية العسكرية كان نجاحاً مؤقتاً لعبت فيه الدعاية دوراً موفقاً بادئ الأمر، إلا أن حقيقة الأوضاع العسكرية والسياسية تظهر بوضوح تعقد الحالة مما يتطلب تغييراً جوهرياً في موقف الهولنديين من الجمهورية الأندنوسية، ومن عنادهم تجاه مقررات مجلس الأمن الدولي، ومن الصوت الأسيوي الذي ناصر الأندنوسيين من مؤتمر نيو دلهي.

والتقارير عن الحالة في أندنوسيا ترد عن ثلاثة مصادر:

(ا) لجنة التوفيق الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة التي تعمل الآن في اندنوسيا. (ب) ممثلي الجمهورية الأندنوسية.

(ح) الحكومة الهولندية.

وفيما يلي بإيجاز أهم ما بعثت به هذه المصادر الثلاثة من معلومات تلقي ضوءاً على مستقبل الصراع بين الحرية والاستعمار في ذلك الجزء المهم من العالم الإسلامي:

فلجنة التوفيق الدولية (وهي المعروفة سابقاً بلجنة المساعي الحسنة) تؤكد بأن الوضع العسكري وحالة الأمن في أندنوسيا هما الآن ابعد ما يكونان عن الاستقرار، فلقد احتلت القوات الهولندية في ضربات خاطفة، وبعد استعداد شهور طويلة، بعض المدن الأندنوسية الكبرى، ولكنها عجزت عن السيطرة على أكثرية المناطق الريفية كما عجزت عن تامين المواصلات بين مناطق احتلالها وعن حفظ الأمن حتى في المدن التي ترابط بها الجيوش الهولندية. ويقول مراقبو هيئة الأمم المتحدة إن حرب العصابات قد أخذت تشتد، وإن فلول قوات الجمهورية الأندنوسية قد أعادت تنظيم صفوفها وتركيز قيادتها، وإنها تسيطر على أجزاء شاسعة من البلاد، وأنها أخذت تشن حملات هجومية موفقة على الهولنديين في معاقلهم في المدن الكبرى، وتتعمد قطع المؤونة عن القوات الهولندية في المناطق البعيدة عن الموانئ ومراكز التموين، وتتعمد قطع المواصلات بين هذه القوات حتى ولو أدت إلى

ص: 3

إحراق الزرع وتخريب المنشآت العمومية. لعل في هذا النشاط حافزاً للذين يضعون مستقبل الصراع في فلسطين!

ويقول هؤلاء المراقبون كذلك أن معظم السكان الاندنوسيين ينهجون منهجاً سلبياً في مناطق الاحتلال الهولندي فيتعمدون المقاطعة وعرقلة الأعمال التي تعود على الهولنديين بالنفع.

وتلخص تقارير اللجنة الدولية هذا الوضع العسكري السيئ فتقول إنه ليس للحكومة الهولندية قوات عسكرية كافية لحفظ النظام في منطقة الجمهوريين، وإن الإدارة المدنية الهولندية هناك لا تحظى بثقة الشعب وتعاونه، وان على الهولنديين والحالة هذه أن يكفوا عن المواربة وان يعيدوا نظام الحكم الجمهوري، وأن يجعلوا قرارات مجلس الأمن القاضية بتأليف اتحاد الولايات الأندنوسية في نطاق الحكم الذاتي الذي يتدرج بالبلاد في فترة شهور قصيرة إلى الاستقلال التام، بعيداً عن السيطرة الهولندية.

وترد الحكومة الهولندية على تقارير اللجنة الدولية هذه فتقول إن تحليل الوضع العسكري والسياسي في البلاد هو رأي خاص تبديه اللجنة، وإنه لا يستند إلى المعلومات الوافية الصحيحة.

ولكن الهولنديين يعترفون مع ذلك بان الوضع في أندنوسيا ليس مرضياً، ولذلك فإنهم تواقون إلى التعاون مع الزعماء الجمهوريين الوطنيين في إيجاد حل وسط - حكومة اتحادية تشمل المناطق الرئيسية الثلاث في الجزر الأندنوسية تكون مرتبطة في العاصمة الهولندية لاهاي ارتباطاً من شأنه أن يحفظ المصالح الهولندية التي يعيش عليها الجزء الأكبر من الاقتصاد الهولندي لا في أندنوسيا فحسب، بل في هولندا نفسها.

وجواب ممثلي الشعب الأندنوسي من الوطنين الجمهوريين على هذه المقترحات الهولندية يؤكد بأن طبيعة التعاون الذي تنشده هولندا يقضي على بعض الحقوق الأساسية للقوميين الأندنوسيين. فيشير الدكتور محمد رويم رئيس الوفد الأندنوسي الملحق بلجنة التوفيق الدولية في مذكرة بعث بها إلى مجلس الأمن مؤخراً إلى أن طريقة التسوية التي تدعو إليها هولندا تخالف اتفاقية سابقة عقدتها هولندا مع الحكومة الجمهورية الأندونيسية المعروفة باتفاقية رنفيل كما تخالف قرارات مجلس الأمن فضلاً عن تجاهلها بعض النواحي الهامة من حقوق الأندوسيين الشرعية.

ص: 4

ويقول الدكتور رويم: إن الجمهورية الأندنوسية كانت وليدة الصراع الدامي الذي حمل لواءه الأندنوسيون ضد الاحتلال الياباني إبان سيطرته على الجزر الهولندية خلال الحرب العالمية المنصرمة، وأن هولنده عجزت عن حماية الأندنوسيين من العدوان الياباني، وتركتهم لمصير قاتم عندما تراجعت القوات الهولندية في جبن أمام جحافل اليابانيين. ولقد بذل الوطنيون الأندنوسيين أرواحاً غالية ثمن الاستقلال الذي عملوا له في وجه التعسف الياباني، وأعلنوه عندما واتتهم الفرصة السانحة في أعقاب هزيمة اليابان.

فأي حق لهولندا أن تطالب بان تكون شريكة في تقرير مصير أندنونسيا أو أن تطالب بحقوق وامتيازات؟

ثم أن هناك نقطة قانونية تصر على أهميتها مذكرة الدكتور محمد رويم؛ وهي أن النزاع بين الجمهورية الأندنوسية وهولندا هو نزاع دولي وليس نزاعاً محلياً كما يدعي الهولنديون؛ فقد اعتدت دولة هولندا على دولة أخرى (هي الجمهورية الأندنوسية) ذات سيادة اكتسبتها بالدم والنار ولها من العمر ثلاث سنوات معترف بها من دول عديدة في طليعتها الجامعة العربية. وقد اعترف بها مجلس الأمن الدولي كذلك، ووصف الهولنديين بأنهم خصم للجمهورية الأندنوسية، إذن فدعوة الحكومة الهولندية دعوة غير قانونية، والمشروع الهولندي الذي تحاول هولندا بواسطته أن تسوي النزاع مشروع باطل لا يستند إلى قانون فوق كونه يتضمن في خبث القضاء على حرية الشعب الأندنوسي وسيادته. فهو يرمي إلى تقسيم البلاد ثلاث مناطق، كل منطقة لها حكم ذاتي خاص، ولكنها تشترك في إدارة مركزية تكون سيطرة الهولنديين عليها قوية في معظم الشؤون الداخلية، وفي السياسة الخارجية.

وهذه المناطق الثلاث التي يقترحها الاستعمار الهولندي للبلاد الأندنوسية مقسمة تقسيماً مشوهاً يخدم مصالح الهولنديين ويعبث بالوحدة الاقتصادية والثقافية للبلاد. وفوق ذلك فإن القسم الذي تمكن فيه نفوذ الجمهورية الأندنوسية هو أكبر الأقسام فهو يضم الأكثرية الكبرى من السكان (60 من 75 مليوناً) والقسمين الآخرين (جزيرة يورنيو وجزر شرقي اندنوسيا) لا يضم من السكان سوى 15 مليوناً يخضعون قسراً لإدارة صورية لا تنال ثقة الشعب بها، ومع ذلك فإن الحكومة الهولندية بموجب مشروعها المذكور تنوي إعطاء هاتين

ص: 5

المنطقتين الأخيرتين صوتين مقابل صوت واحد لمنطقة الجمهورية الأندنوسية التي تشكل 90 بالمائة من السكان. وتؤكد مذكرة الدكتور رويم بأن الإدارات الصورية التي أقامها الهولنديين في مناطق سيطرتهم لها أن تعيش ساعة واحدة إذا سمح للشعب الذي تسيطر عليه أن يعبر عن رغبته الصادقة باستفتاء محايد أو انتخابات ديمقراطية.

ويضيف ممثلو الجمهورية الأندنوسية في تفنيدهم لما استتر من شر في المشروع الهولندي مشيرين إلى أن فترة انتقال الحكم من الهولنديين إلى الوطنيين جٌعلت بطريقة تجعل السيادة الوطنية في المستقبل حين تتحقق، سيادة قلقة ضعيفة لا تلبث أن ترتمي في أحضان الاستعمار الهولندي. إذ أن القوة الحقيقية في فترة الانتقال هذه ستظل في أيدي الهولنديين وسيمنع الجمهوريون في فترة الانتقال هذه ممارسة الإدارة، والحكم في مراكز التوجيه وسيمنعون حتى من إنشاء قوات بوليسية وعسكرية لحماية البلاد وصيانة الأمن ويترك ذلك كله في يد الجيش الهولندي، ولن يكون للاندنوسيين تمثيل سياسي خارجي ولا اتصال مباشر بالعالم الخارجي.

وقد بحث مجلس الأمن مؤخراً هذه الشكاوى والادعاءات والتقارير الواردة من المصادر الثلاثة: اللجنة الدولية، وممثلي الجمهورية الاندنوسية، ومن الهولنديين، فقرر أن تظل قراراته السابقة بصدد النزاع في أندونيسيا أساساً لتسوية الحالة. وهذه القرارات في جملتها في صالح الوطنيين الأندنوسيين وهم يريدونها أن تكون أساساً للحكم على مستقبل السيادة في ذلك الجزء الغني من القارة الأسيوية.

وقد ندد مجلس الأمن بموقف الحكومة الهولندية بعد سماعه شكاوى لجنة التوفيق الدولية من أن الحكومة الهولندية تعمل متعمدة على عرقلة أعمال اللجنة فتماطل في التعاون، وتحاول أن تتفادى قرارات مجلس الأمن وان تقوض النظام الجمهوري في اندنوسيا.

وتلاقي القضية الاندنوسية عطفاً منقطع النظير في الأوساط الدولية الغربية إذا قورنت بقضايا التحرر الأخرى والإسلامية منها على الأخص. ولعل السبب في ذلك مغريات الجزر الأندنوسية والسعي لاكتساب صداقة الأندنوسين الذين سيفوزون عاجلا أو آجلا بسيادتهم التامة على بلادهم.

وكان موقف مندوب الحكومة الهولندية في جلسات مجلس الأمن الأخيرة الخاصة بالقضية

ص: 6

الأندنوسية أميل إلى التسليم. وهذا ما يبعث المتتبعين للقضية الأندنوسية على الاعتقاد بأن الجمهوريين سينالون في المراحل النهائية سيادتهم.

(نيويورك)

عمر حليق

ص: 7

(وقعة صفين)

للدكتور جواد علي

واقعة صفين الوقائع الهامة التي يجب دراستها بعناية، لأن لها ولسائر الوقائع الأخرى التي وقعت في صدر الإسلام أثراً كبيراً في التاريخ العربي. وقد عنى جماعة من الرواة بأخبارها وألفوا في ذلك كتباً، تعد في نظر المؤرخ المراجع الأولى التي يجب الرجوع إليها لمعرفة العوامل السياسية والظروف التي لعبت دوراً جسيما في إثارة تلك الأحداث التي أثرت في مستقبل العرب والإسلام.

وتلك المصنفات التي ذهب الدهر بأكثرها عامة جداً لأنها المراجع الأولى التي يجب أن يعتمد عليها المؤرخ في تدوين التاريخ وليس لكتب اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن مسكوية، وابن الأثير وغيرهم تلك القيمة - على جلالتها وأهميتها - التي يضعها الناقد الحديث للأصول. ثم إن هذه الكتب نفسها قد رجع إليها واغترف منها. وقد أخذت أكثر أخبارها من شهود عيان. وليس الخبر كالعيان.

من أجل هذا ومن أجل رغبتنا في تدوين تاريخ نقي للعرب صاف يعيد إلى ذهننا صفاء الإسلام وصفاء تلك العقيدة التي حاربت الحمية الجاهلية والتفكير الجاهلي والعصبية القَبلية، ومن أجل أن يكون لنا تاريخ مكتوب وفق الأساليب العلمية الحديثة مستمد من المصادر الأولى وجب علينا التفتيش قدر الطاقة عن أقدم النصوص لدراستها دراسة علمية حديثة، ولا سيما تلك النصوص التي دونت في البيئات المحايدة التي لم تنجرف مع التيارات السياسية ومن أشخاص عرفوا بالعلم والإطلاع، في الأماكن التي حدثت فيها تلك الأحداث أو كانت قريبة منها. ويؤسفني أن أقول إن أكثرها قد فقد وأتلف عمداً أو سهواً، فنحن لا نملك من الكتب التي وضعت في الصدر الأول شيئاً، ولا نملك من المؤلفات الأصول غير مؤلف أو مؤلفين.

فالعالم العربي والعالم الإسلامي بل والعالم الغربي في حاجة إلى هذا التاريخ، إلى تاريخ علمي منظم دقيق يكتب بروح حيادية على نمط الكتب المؤلفة في الغرب، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بالاعتماد على الأصول، وعلى تحسين فهم الأصول عقول، ولأجل هذا لا يمكن الاعتماد بعد اليوم على مؤلفات المستشرقين لأن ما فيها إما أن يكون غير حيادي

ص: 8

وإما أن يكون ناقصاً لا يعبر عن نفسيه هذا الشعب. لأنهم لا يستطيعون التعبير عن نفسيته ولا فهم عواطفه. ثم إن من العار على أمة تريد النهوض ومجاراة الأمم الأخرى الاعتماد على المستشرقين وفيهم الغالبية من الصهاينة أعداء العرب والإسلام. من أجل هذا كان سروري عظيماً بكتاب (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 213 للهجرة؛ لأنه أصل من تلك الأصول التي أبحث عنها والتي كتبت عن وقعة واحدة وجمعت مختلف الروايات التي قيلت عنها. وأرجو أن نوفق إلى روايات أخرى تمثل وجهة نظر أهل الشام مثل روايات عوانة الكلبي الذي كان يعرفها بحكم اتصاله بكلب التي كان لها نفوذ هناك، كما أتمنى العثور على كتب أخرى عن هذه الوقعات وعن الحوادث المهمة التي وقعت في صدر الإسلام.

ولنصر بن مزاحم مؤلفات قيمة تناولت الأحداث التي وقعت في العراق، وهو ثقة فيها وقد نقل عن مؤلفاته جماعة من المؤرخين فأعتمد على كتابه (كتاب الجمل) الذي تناول أحداث وقعة الجمل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 للهجرة.

أخذ ذلك عن علي بن أحمد بن الحسن العجلي عن الحسين ابن نصر العطار وهو ابن نصر ابن مزاحم المنقري. ووضع رواياته هذه مع الروايات الأخرى التي أخذها عن السرى عن شعيب عن سيف بن عمر الأسدي الكوفي المؤرخ الشهير وصاحب الكتب المعروفة في الفتوح والردة والجمل وغير ذلك، والذي هو موضع ثقة الطبري فيها حتى أنه رجحه على الواقدي، وهو سند نصر بن مزاحم بنفس الوقت.

وقد ألف غير واحد من المؤرخين في وقعة صفين، منهم ابو مخنف لوط بن يحيى المتوفى سنة 158 للهجرة. وهو من أنشط الرجال الذين عنوا بتاريخ العراق؛ وهو من مشائخ نصر أبن مزاحم بنفس الوقت. وقد اعتمد عليه الطبري في وقعة صفين والتاريخ الأموي والأحداث التي وقعت قبل صفين وأورد من كتب أبى مخنف قطعاً طويلة تعطينا فكرة مهمة عن الأسلوب المشرق الذي أتبعه في تدوين التاريخ وفي الإنشاء العربي وفي ذلك العهد وهو مرجع لأكثر المؤرخين. ويمكن جمع أقواله المشتتة في كتب الواقدي والبلاذري والمسعودي وغيرها وتكوين فكرة عامة عن هذا المؤرخ القديم.

وألف أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي المتوفي سنة 207 هـ وهو مؤرخ شهير ومرجع

ص: 9

لا يحتاج إلى تعريف في وقعة صفين وقد أشار إليه والى أبي مخنف الأستاذ عبد السلام محمد هارون في مقدمته لكتاب صفين. وألف غيرهما ممن لم يشر إليهم الأستاذ مثل إسحاق بن محمد بن عبد الله بن سالم أبو حذيفة البخاري المتوفي سنة 206 للهجرة فهو من معاصري نصر بن مزاحم، وكان مثله صاحب مؤلفات في الأحداث الإسلامية. فله كتاب الفتوح وكتاب الردة وكتاب الجمل وكتاب الألوية وكتاب صفين وكتاب حفر زمزم وكتاب المبتدأ وهو في مبدأ الخلق، ومثل إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفي سنة 283 للهجرة وهو مؤلف صنف في هذه المواضيع كتباً مثل كتاب الجمل وكتاب صفين وكتاب الحكمين وكتاب أخبار عمر إلى غير ذلك من الكتب التي ذكرها أصحاب التراجم. ومثل الغلابي أبو عبد الله محمد بن زكريا بن دينار أحد الرواة للسير والأحداث والمغازي وله من الكتب كتاب مقتل الحسين بن علي وكتاب وقعة صفين وكتاب الجمل وكتاب الحرة وكتاب مقتل أمير المؤمنين فهو من المؤلفين في تواريخ أحداث العراق.

ولقد عنى الكوفيون عناية خاصة بتدوين الأحداث الإسلامية التي وقعت في العراق وبأمر الفتوحات، وهم يتفوقون في ذلك على أهل الشام وعلى أهل المدينة الذين عنوا بالسيرة والمغازي وأحداث الحجاز وبالدولة بقدر ما للدولة من علاقة بالمدينة. فلم يهتم رواتهم بما كان يقع في العراق أو الشام أو ما إلى ذلك. ويشبه أهل الكوفة في ذلك رواة أهل اليمن الذين حافظوا على الرواية التاريخية وأحيوا القصص الشعبي وخلقوا لليمن قصصاً اصطبغ الصبغة المحلية وبالعصبية القبلية. ولوجود عدد كبير من الرواة الذين يرجعون أنسابهم إلى اليمن في مدينة الكوفة دخل ولا شك في تقدم فن التاريخ في هذا المكان.

ونصر بن مزاحم راوية من رواة أهل الكوفة من الطبقة الممتازة وقد فقدت اكثر مؤلفاته مع الأسف، وإن كانت لا تزال بعض قطع منها محفوظة في بطون الكتب التي اقتبست منها. وقد كان ولده (الحسين) من الرواة وقد سجل له أبو الفرج الأصبهاني شيئاً من الأقوال في كتابه (الأغاني). وفي كتاب صفين قطع أخذت من كتب الفت في أيامه أو في أيام مضت قبله. فحفظ نصر لنا بذلك نماذج من النثر ترينا كيف كان المؤرخون يكتبون.

وقد عرف كتاب صفين بين الناس واقتبس منه، قديماً وحديثاً. وممن نقل منه عز الدين أبو حامد عبد الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد شارح كتاب (نهج البلاغة) وقد أدخل في

ص: 10

كتابه (وقعة صفين) لنصر وجزأه إلى أقسام جعل كل قسم في الموضع الذي يليق به من الخطبة أو الإشارة. وقد أدخل في كتابه في الواقع كتباً أخرى من الكتب التي ألفت قبله ولا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

وقد دفعني البحث الذي أقوم به الوقت الحاضر عن المصادر التي أخذ منها الطبري في تاريخه المعروف لمجلة المجمع العلمي العراقي على مراجعة كتاب (وقعة صفين) في جملة كتب كثيرة رجعت إليها فكان تحقيق الأستاذ السيد عبد السلام محمد هارون محقق هذا الكتاب الذي طبع عام 1365 للهجرة في القاهرة هو الحافز لي على الكتابة في هذا الموضوع.

والحق أن الأستاذ قد أجهد نفسه وبذل عناية تستحق التقدير في إخراج هذا المؤلف الثمين، وقد وضع لرجال السند ولأشخاص الرواة تراجم مختصرة تناسب المقام وزينه بفهارس أحيت الكتاب، وهو عمل متعب لا يعرف مشقته إلا المساكين الذين دفعهم القدر إلى الاشتغال بالتحقيق في بلاد تقيم للتحقيق العلمي وزناً ولا تضع له أية قيمة.

وقد حملني إعجابي بالإخراج على إبداء بعض الملاحظات البسيطة التي جاءت في المقدمة. من ذلك قول المحقق (طبع هذا الكتاب لأول مرة على الحجر في إيران سنة 1301 وهذه الطبعة نادرة الوجود عزيزة المنال حتى أنها لم تدخل خزائن دار الكتب المصرية إلا منذ عهد قريب، وهي نسخة مروية تقع في ثمانية أجزاء في صدر كل منها سند الرواية التي تنتهي إلى نصر بن مزاحم وهذه لأجزاء الثمانية في 305 صفحة. . . الخ. . .).

وقد تحدث السيد عبد السلام محمد هارون عن حالة الكتاب في مصر؛ أما في العراق فهو موجود يباع عند الوراقين بثمن زهيد وكنت أود أن يشير إلى ما ذكره المستشرق (بروكلمن) عنه في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) فعندي أنه يستحسن من كل محقق أو مؤرخ الإطلاع على ما جاء عن الكتب وأصحابها وان كان البحث لا يخلو من أوهام في بعض الأوقات. فقد أشار (بروكلمن) إليه وذكر أنه طبع سنة 1301 (1884) بمدينة طهران طبعه (فرج الله الكاشاني). وكنت أود أن يشير إلى ذلك اعترافاً بخدمة من سبقنا من الباحثين. والظاهر أن الأستاذ لم يراجع كتاب هذا المستشرق وإلا كان في مقدمة من

ص: 11

أشار إليهم.

والواقع أن الأستاذ لو قرأ الصفحة الأولى من كتاب (وقعة صفين) المطبوع بإيران لوجد أسم الناشر إذ جاء فيها: (يقول الراجي عفو ربه الغني فرج الله بن هاشم العلوي الفاطمي الحسيني ان كتاب الصفين في شرح غزاة أمير المؤمنين. . . الخ) وجاء في آخر الكتاب اسم الخطاط الذي طبع الكتاب على الحجر واسمه محمد حسن في سنة 1300 هـ لا سنة 1301 كما ذكر ذلك بروكلن والأستاذ عبد السلام محمد هارون.

وجاء في مقدمة السيد هارون (وهناك نسخة ثالثة كانت في ضمير الغيب وأمكنني أن أكشفها شيئاُ فشيئاً بمطالعتي في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد الذي جرت عادته على أن يضمن تأليفه جملة من الكتب ينثرها في تضاعيف كتبه. . .)

وكنت أود أن يطلع الأستاذ على كتاب بروكلمن فقد أشار فيه إلى أخذ أبن أبي الحديد لكتاب صفين ونثره في تضاعيف كتابه كما أشار إلى النسخة التي أشار إليها السيد عبد السلام محمد هارون وهي المطبوعة في بيروت عام 1340 بعد حذف الأسانيد منها وكنت أود ألا يكتفي الأستاذ بقراءة النص المطبوع بإيران، بل كنت اطمع أن يقرأ الصفحة الأولى منه وهي مقدمة أشار فيها إلى كتاب آخر حوى وقعة صفين وهو كتاب شهير جداًُ يقال له (بحار الأنوار) وقد قرأ (بروكلمن) الصفحة الأولى من طبعة (وقعة صفين) التي أعتمد عليها السيد عبد السلام محمد هارون فأشار إلى هذا الكتاب.

وكتاب (بحار الأنوار) دائرة معارف في العلوم الشرعية والتاريخ وهو من مؤلفات محمد باقر بن محمد تقي المجلسي الأصفهاني المتوفي سنة 1110 للهجرة (1700م) ويقع في 26 مجلداً بديء بطبعه طبعاُ حجرياُ سنة 1303 وانتهى منه سنة 1315، وقد حوى المجلد الثامن منه وهو المجلد الخاص بالإمام علي بن أبى طالب على وقعة صفين، فأدخل المجلسي كتاب وقعة صفين في هذا المجلد وشغل حيزاً واسعاً منه من صفحة 484 حتى صفحة 621. ولو طالع الأستاذ هذا الكتاب الذي أشار إليه (بروكلمن) وقبله ناشر كتاب وقعة صفين الأولى منه لوجد الكتاب كاملا ولوجد له نصاً ثانياُ يساعده كثيراً على التحقيق. والظاهر أنه لم يعثر عليه في دار الكتب المصرية وفي مكتبات مصر.

وقد أشار المجلسي في كتابه إلى وجود زيادات في كتاب صفين لم ترد في كتاب شرح نهج

ص: 12

البلاغة لابن أبي الحديد. وقد استفاد المجلسي وهو عالم محقق واسع الاطلاع من نسخة قديمة لكتاب وقعة صفين. كما استعان بكتب أخرى عن هذه الوقعة مثل (كتاب صفين) لإبراهيم بن ديزبل الهمذاني الذي من رواته (حبة العرفي) وهو من رواة نصر بن مزاحم. وكذلك سيف ابن عمر الصنيعي الكوفي المتوفي سنة 180 للهجرة الراوية الشهير صاحب الكتب في الردة والفتوح والجمل ومسير عائشة وعلي. وقد نقل عن الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة الكوفي. ومثل كتاب شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني وغير ذلك.

وقد سبق لعالم آخر أن أعتمد على كتاب (سفين) فأخذ منه شيئاً حذفت منه الأسانيد هو الشيخ السيد محسن الأمين من علماء الشام أدخله قي كتابه (أعيان الشيعة) في الجزء الخاص بالإمام علي المطبوع سنة 1354 للهجرة والظاهر أن الأستاذ لم يقف عليه.

هذه ملاحظات بسيطة دفعني على تدوينها موضوعي الذي أشتغل فيه في الوقت الحاضر عن (مصادر تاريخ الطبري) لا تغض من قيمة الكتاب سجلتها رغبة مني في التعقيب لأن العلم بحر لا يحاط به مهما أوتي الإنسان من علم. أرجو من القارئ ألا يسيء ظنه في قيمة التحقيق والإخراج.

(بغداد)

جواد علي

ص: 13

‌أساليب التفكير:

التفكير الفلسفي

الأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

فوضى التعريف:

عودتنا كتب الفلسفة التي تقدم لعامة القراء أن تطالعنا في السطور الأولى بمعنى كلمة فلسفة فتردد إنها كلمة من أصل يوناني مركبة من (فيلو) أي محب و (سوفيا) أي الحكمة، وتنتهي من ذلك إلى أن الفلسفة معناها (محبة الحكمة). ثم تمضي لتؤكد في جرأة أن أول من أستعمل الكلمة للدلالة على علوم الفلسفة عالم يوناني من أعلام الرياضة والفلك والموسيقى، فيثاغورس الذي توفي في القرن الخامس قبل الميلاد؛ إذ قال:(لست حكيماً، فالحكمة لا يتصف بها غير الآلهة وما أنا إلا محب للحكمة). تردد الكتب ذلك القول مع أنه لم يثبت بالدليل التاريخي البات أن فيثاغورس أول من أستعمل كلمة فلسفة بمعنى اصطلاحي، فالمؤرخ (هيرودوت) يذكر أن (كريزوس) قال (لصولون) إنه سمع أن صولون قد جاب كثيراً من الأقطار يتقلسف، وأن الذي دفعه إلى ذلك رغبته في المعرفة.

ولذلك يحق لنا أن نرجح أن هيرودوت أول من استعملها للدلالة على علم من العلوم، أو - على الأقل - أن نشك في نسبتها إلى فيثاغورس.

وعودنا جمهور المثقفين أن يتساءل عن معنى الفلسفة، ويتطلب تعريفاً جامعاً مانعاً لها في كلمات قلائل، ولما كان موضوع الفلسفة غير واضح المعالم، غير محدود الأفق، ولما كانت المعرفة الفلسفية متشعبة الأطراف، متنوعة الاتجاهات حتى ليستحيل أن تقضي إلى نتائج ثابتة نهائية شأن العلوم المختلفة، لما كان الأمر كذلك تعذر تعريف الفلسفة على اعتبار أنها لون من ألوان التفكير البشري، أو فرع من فروع المعرفة الإنسانية.

وإذا كان الفلاسفة قد تصدوا لتعريفها فإن تعريفاً واحداً من تعريفاتهم لم ينج من النقد فضلا عن التقريع، حتى ليتعذر علينا أن نجد فيلسوفين يتفقان على تعريف واحد. سر ذلك أن كل فيلسوف إذ يتصدى للتعريف إنما يكون واقعاً تحت تأثير فلسفته الخاصة فيكون التعريف الذي ينتهي إليه مجرد عبارة قصيرة توجز فلسفته، وتركز مذهبه.

ص: 14

أفلاطون، مثلا، يصف الفيلسوف بأنه شخص غايته معرفة الأمور الأزلية، أو الوصول إلى حقائق الأشياء، أو الارتقاء من العلم بشئون حياتنا الوهمية إلى إدراك مسائل الحياة الأزلية. وهو يصدر في ذلك عن نظرية عرف بها، نظرية المعاني أو المثل، التي ترى العالم المحسوس الذي نحيا فيه حياتنا الراهنة عالم أشباح زائلة، لحقائق أزلية أبدية لا تحس وإن لم يكن من المستحيل إدراكها إن اصطنعنا التأمل العقلي الخالص من أوهام الحس والبدن. فيصبح العلم بأمور هذا العالم تافهاً، في حين يصبح العالم الحق هو الإحاطة بعالم الحقائق الأزلية الروحية، وما ذلك العلم غير الفلسفة. بل نراه يقول:(الفيلسوف الحق هو ذلك الذي يسعى إلى انتزاع الروح من الجسد) ألا يلخص ذلك القول نظريته في العلاقة بين الروح والجسد التي ترى الإنسان لا مركباً من روح وجسم، بل تراه روحاً حلت عرضاً في جسد هو سجن لها ينبغي أن تتحرر منه؟

وشيشيرون، الخطيب الروماني، ينافح عن الفلسفة الرواقية التي تدين بالفضيلة غاية للحياة، وترى السعادة في الخضوع لمحتوم القضاء، والإذعان للقدر، والابتسام للخطوب، والرضا بواقع الأمور. ذلك أن الأمور ليست فوضى إنما هي وفق إرادة عليا خيرة عاقلة، ثم هي فضلا عن ذلك منبثة في أرجاء الكون، حالة في جنباته. حتى لتصبح السعادة شأناً من شئون النفس لا يتوقف على الظروف الخارجية، ولا يرتهن باعتدال الأمور أو تقلب الأحوال، إنما هي طوع أمرك إن ارتضيت حكم الإرادة الكلية، وازدريت اللذات الجسدية. ينافح شيشيرون عن الفلسفة الرواقية هذه، فهل نعجب حين يذكر في معرض الحديث عن الفلسفة:(أيتها الفلسفة! أنت المدبرة لحياتنا: أنت صديق الفضيلة وعدو الرذيلة، ماذا تكون حياة الإنسان لولاك؟!) أو حين يضع حدود المعرفة الفلسفية بقوله: (إن الفلسفة هي العلم بأفضل الأشياء، والقدرة على الانتفاع به لكل وسيلة ممكنة).

إن شيشيرون بقوله هذا لم يعرف الفلسفة بقدر ما عرفنا وجهة نظره الخاصة.

وأرسطو، المعلم الأول، يقسم الفلسفة إلى فروع عدة جميعها حكمة بيد أن (ما وراء الطبيعة) أحق تلك الفروع باسم الحكمة وهو يسمى علم ما وراء الطبيعة (الفلسفة الأولى) في مقابلة (الفلسفة الثانية) ويعني بها العلم الطبيعي. ويعرف الفلسفة الأولى بأنها العلم الإلهي الذي يبحث في الله، المحرك الأول، مسبب الأسباب وعلة العلل، ذلك أن دراسة الله

ص: 15

عبارة عن دراسة الموجود من حيث هو كذلك، فضلاً عن أن الطبيعة الحقة للوجود تتجلى فيما هو دائم لا فيما هو زائل.

وإليك مثل من الشرق العربي، عالم مسلم مشبوب العاطفة الدينية، ذلك هو الجرجاني، بطل التعريفات، يعرف الفلسفة بأنها (التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية). فيأتي تعريفه خير معبر عن نزعته الفكرية فكيف ننتظر منه أن يكون تعريفاً للفلسفة في ذاتها؟!

وإذا كان معنى الفلسفة يختلف من فرد إلى آخر فهو يختلف كذلك من عصر إلى آخر. كان في القرون الوسطى العلم الذي يصل إليه العقل بطريق النظر الفكري الصرف في مقابلة العلم الإلهي الذي يصل إليه الإنسان بطريق الوحي.

وهكذا صار معنى الفلسفة العلم العقلي المنظم. وفي العصور الحديثة تدل كلمة فلسفة على مجموعة العلوم النظرية التي تستند إلى النظر العقلي الصرف في مقابلة مجموعة العلوم المستندة إلى الملاحظة والتجربة.

ناهيك بشتى التعريفات التي تنكر الفلسفة وتزدري الفلاسفة يطلقها نفر من المتزمتين الحرفيين في تدينهم، يصدرون في تعريفهم لها عن تهيب من العقل وخشية على إيمانهم السطحي من عمق التأمل العقلي؛ أو يتفكه بها قوم من المازحين الجهلاء يصدرون في تعريفهم لها عن العداء لما يجهلون: فمن تعريف لها بالفكر والزندقة، إلى القول بأنها تعقيد البسيط، إلى اتهامها بتهمة الثرثرة والقدرة على الحديث حين ينبغي وحين لا ينبغي، أو قوة الحجة في مجال الحق أو مجال الباطل على حد سواء.

فقد اتضح إذن بعد هذا العرض السريع أن لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الفلسفة من تعريفاتها، كما أنه لا سبيل إلى حقيقة المرء من بطاقته، أو الكتاب من عنوانه. وإن نم التعريف عن أمر ما، فعن اتجاه صاحبه العقلي أو نظريته الفلسفية أو شعوره نحو النهج الفلسفي منكراً كان أو مؤيداً.

المنهج الفلسفي

إن تعريف الفلسفة قد يوهم القاريء أنها مجرد علم من العلوم، ابتدأه أو ابتدعه ذلك النفر من الحكماء، وتعاون على إقامته وتطوره أجيال الفلاسفة؛ في حين أن الحقيقة التي تخفى

ص: 16

على الكثيرين من طلاب الفلسفة المبتدئين، أن الفلسفة أسلوب من أساليب التفكير البشري، وناحية من نواحي النشاط الفكري. فالإنسان المنطوي على طلب المعرفة، المطبوع على تفسير الظواهر، المتلهف على تلمس العلل والأسباب والغايات كما ينهج النهج الخرافي في تفكيره، قادر إذا ما بلغ طوراً من التقدم العقلي أرقى، وإذا ما تهيأت له ظروف مادية خاصة، على أن ينهج نهجاً فلسفياً. بل إن بذور التفكير الفلسفي لتبرز في طفولة المرء وفي طفولة البشرية. وقد انتهيت في مقال سابق من رسالة بعد استعرض أمثلة من الشرق القديم إلى أن الخرافة أو الأسطورة وإن كانت تطبع التفكير الشرقي القديم، فإن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وفي ذلك المحيط من ظلام الفكر حيث تتراقص المردة والأشباح والشياطين التي تراها عين الخيال وتذكيها العاطفة والهوى، كانت تنبثق أحياناً بروق فلسفية ومحاولات لتفسير الأمور تفسيراً عقلياً، فتغالب الأشباح وتبدد الخرافات إلى حين.

وأضيف إلى ذلك أن الفلسفة كثيراً ما كانت تبلغ الأوج دون أن تبدد الأشباح تبديداً تاما. وكثيراً ما ألمت بها نكسات لا يزال التاريخ يذكرها فقد أعقب العصر الذهبي للفلسفة اليونانية إِبان القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد ذبول هو ارتداد إلى الفكر الشرقي القديم من حيث الامتزاج بالدين والاقتصار على مباحث الأخلاق والميل إلى التصوف، وما التصوف في حقيقة الأمر إلا نوع من الإعراض عن العلم العقلي الذي يستند إلى الدليل والبرهان، والاكتفاء باليقين القلبي والإيمان. وفي عام 529 بعد الميلاد أغلق الإمبراطور يوستنيانوس مدارس الفلسفة في أثينا، وكانت قد أقفرت من التلاميذ، وتناقص عدد العلماء فيها وخمد الفكر الفلسفي في اليونان ليذكر في الشرق، في ربوع فارس حيث كسرى أنوشروان، صديق الفلسفة الذي فتح ذراعيه للنازحين من ربوع الاضطهاد الفكري.

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم عبد العزيز المليجي

ص: 17

‌فزان بين يدي الأتراك والطليان

للأستاذ أحمد رمزي بك - 2 -

العدوان الإيطالي

15 -

في أكتوبر عام 1911 روع العالم الإسلامي والعربي بخير اعتداء صارخ قامت به إيطاليا على القطر الطرابلسي بغير إعلان حرب وبدون مسوغ. ولم يكن هناك نزاع أو ما يشبه النزاع، بل كان هناك أمن وسلام. ولم يعلم الناس بأمر مفاوضة انقطعت أو أمر اختلاف على مبدأ أو رأي أو قاعدة مما تختلف عليه الأمم والشعوب فيتخذ ذريعة للحرب، بل لم يسمعوا بشيء أو بعض الشيء مما يحضر الأذهان لمثل هذا العدوان وينبه العقول لمقدمة.

16 -

وإنما سيرت إيطاليا بوارجها وجحافلها واستيقظ أهل المدن طرابلس وبني غازي ودرنة الآمنة، على أصوات المدافع، تقذف عليهم الحمم والموت في عقر دارهم الله من يوم كنا صغاراً لا نعقل من الأمر شيئاً، ولكننا لمسنا الألم والأسى، مرتسمين على وجوه الآباء والأهل والعشيرة والجيران فحزنت قلوبنا لحزنهم وتألمنا لألمهم.

كنا صغاراً نلعب ونلهو - فتركنا اللهو وقاطعنا اللعب وشعر كل منا بأن ساعة فاصلة قد دقت في حياته. نعم كان وقع الاعتداء شاملاً وكان الجرح عميقاً ليس من الجراح التي تبرأ وتلتئم وتنسى مع الزمن.

وسرت بين الناس موجة دافعة، من تلك الموجات التي تملأ النفوس والمشاعر، وتخفق لها القلوب، وارتجت مصر من أقصاها، فمن كتب عليهم القتال من المجاهدين قاتلوا وقتلوا، ومن لم يقدر على تحمله جاد بالمال عن نفسه وبنيه.

وأتى أنور ومعه حفنة ممن باءوا أنفسهم في سبيل الله، وصعد عرب طرابلس وعرب برقة وعلى رأسهم السيد أحمد السنوس ليكتبوا بدمائهم ملحمة من ملاحم الملثمين والموحدين في دفاعهم وجهادهم واستماتتهم عن أرض أندلس فواجهوا الموت وعاينوا الهزيمة، كما لاح لهم الظفر والمجد، وقاتلوا وانتصروا واستشهدوا، وامتلأت أيديهم بالعتاد والسلاح وأسرى العدو.

17 -

وفجأة خفقت أصوات المدافع وعادت السيوف إلى أغمادها وسادت فترة هدوء على

ص: 18

الجبهة. نعم لقد قامت حرب أشد هولاً، هي حرب البلقان واتجهت الأنظار لمعارك في جبهة مقدونيا حيث تعرض ثلاثة ملايين من المسلمين الهجوم والتشتيت وتساءل الناس عن المصير.

أما مقدونيا فرثاها شوقي بقوله:

يا أخت أندلس عليك سلام

هوت الخلافة عنك والإسلام

وأما ليبيا وبرقة فقد استحوذ عليهما الطليان ورتل قائل بشعر قديم فقال:

أحقاً خبا من جورندة نورها

وقد كسفت بعد الشموس بدورها

وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت

منازلها ذات العلا وقصورها

ترى للأسى أعلامها وهي خشع

ومنبرها مستبعد وسريرها

ومأمومها ساهي الحجى وإمامها

وزائرها في مأنم ومزورها

كلا لم تدم المحنة طويلاً إذ قامت الحرب العظمى الأولى سنة 1914 ودخلت إيطاليا الحرب، فارتجت البلاد فعادت إلى الجهاد وبدأت ملحمة جديدة من تلك الملاحم الخالدة في تاريخ العروبة التي تقاتل فيها فئة صغيرة فئة كبيرة - فيأتيها النصر من عند الله.

18 -

لقد فرحت مصر وفرحنا بمعارك درنه وعين زارة وغيرها من التي من الله بها على المجاهدين والمرابطين وذوي البأس في قتال الطليان وكان ذلك في عامي 1911 - 1912. أما ايام الحرب العظمى فقد سار المجاهدون فيها من نصر إلى نصر، بل كان يوم يمر يأتي إليهم نصر جديد من عند الله، ولم تمضي 1915 إلا وقد زحزحوا الطليان عن برقة واستعادوا فزان، واقتحموا خصومهم ومعاقلهم واحد بعد الآخر، واستحوذوا على أسلحتهم وسياراتهم وأسروا كتائبهم المرتزقة من سود وحبش وغيرهم، ساقوهم بأسلحة الطليان لقتال الطليان وتلك والله مقدرة لأهل برقة وليبيا.

وتتبعوا المنهزمين وسدوا عليهم المنافذ والطرق. وفي يوم أصبحت العاصمة تحت أزير رصاصهم وغدا الساحل تحت سيطرتهم فأتتهم المؤن والذخائر من حيث شاءوا.

فهل رأيت دفعة كهذه الدفعة أو قوة من المستضعفين يملأها الإيمان والثقة في النفس والدعوة إلى الحق والقتال في سبيل الله عملت في القرن العشرين عملا يشبه هذا؟ إنها وأيم الله وقفة رائعة.

ص: 19

19 -

وانتهت الحرب العظمى الأولى 1918 وتدخل الإنجليز بين الطليان وأهالي البلاد فاعترفوا بنظام ليبيا ومسراطه وأقروا أمارة برقة ووقعوا المعاهدتين وضمنوا استقلال الداخل وخيل للناس أن عهداً من الطمأنينة والأمن قد أشرق.

وفي يوم من الأيام إذ موسوليني يضرب بمواثيق إيطاليا وضماناتها عرض الحائط وحنث بالإيمان المأخوذة وآثار حرباً ضروساً مهلكة يحاول بأساليبها إبادة شعب بأسره. كانت تعليماته وأوامره وقراراته واضحة لا شبة فيها فليراجعها من يشاء يجدها في كتبهم وما نشره قوادهم.

وكان كبش الفداء شعب ليبيا.

20 -

قابل هذا الشعب، صدمة الخيانة بشجاعة نادرة. رأى الحرب تفرض عليه في دياره، فواجهها كما يواجهها كل مقاتل كريم كتبت عليه التضحية فقدم بنيه وأحفاده. ضيق عليه الخناق بحصار من البر والبحر، فتحمل وصبر. أوذي في حريته ومعاشه وماله ودكت بيوته، ولكن لم ينزل على حكم ظالميه، ولا تراجع عن مبدأ من مبادئه.

واتبعت إيطاليا سياسية العنف والتشريد، فلم ترع شيخاً ولا مقعداً ولا طفلاً ولا رضيعاً وخربت المنازل وأفنت قبائل وحولت بقاعاً عامرة فجعلتها صعيداً جزراً.

21 -

هذا هو الشعب الأبي الكريم الذي حررته الديمقراطية في الحرب الأخيرة واتخذت من اسمه عنواناً ومثلاً لتحرير الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها. والذي جمعت من أفراده ورجاله المتطوعة، وحاربت بهم، وقالت للعالم هاأنذا قد أرجعت الحق لأهله، وأنقذت أول شعب وقع العدوان عليه وأزلت أثر الظلم والطغيان عن عاتقيه.

وترقب أهل البلاد نعمة الخلاص، وباتوا يعللون الآمال، فماذا يراد بهم اليوم؟ إننا لنسمع الكثير من اللغط. فمن قائل بعودة هذه الأرض البائسة إلى سادتها الطليان، وآخر يقول بانتداب الغير عليهم كأن هذه البلاد خلو من السكان!

22 -

أنه ليهمنا نحن معاشر الأمم العربية، شأن برقة وليبيا، ويهمنا شعب هذه البلاد. لماذا؟ لأننا منه وهو منا. إنها لصلات الدم والقربى والثقافة والتاريخ الحي، لا التاريخ المتحجر الجامد، ثم ما يوجبه هذا التاريخ المشترك من ذكريات الجهاد والنصر والهزيمة.

إننا نعبر عن رأيه ونقول، هذا الشعب لا يريد شيئاً مستغرباً أو فوق متناول الإنسان، وأنه

ص: 20

يريد أن ينعم بحدوده وبلاده واستقلاله وحريته. إنه يطلب كياناً تحت الشمس شأنه شأن بقية الشعوب الصغيرة.

فهل تجاب دعوته؟ وهل يجد لتضحياته حسابا، وهل يعترف بجهوده؟ أم ستعرض بلاده للبتر والتقسيم، ويوضع مصيره وحريته ليضارب بها في سوق توزيع مناطق النفوذ؟!

23 -

كان عدد سكان ليبيا وبرقة العرب في مستهل عام 1910 أكثر من مليون نسمة؛ وقد هبط هذا العدد إلى أقل من النصف، على أثر سياسة التشريد التي اتبعتها الحكومة الفاشستية فكأن هذا الشعب قد بذل من الأنفس والأرواح دفاعاً عن كيانه واستقلاله ما لم يبذله الشعب الإيطالي طوال قرن من الزمن ثمناً لتحريره! فهل رأيتم شعباً يضحي بنصف عدده في سبيل مثله العليا؟

هذا هو الشعب العربي في ليبيا وبرقة الذي ينتظر أن يكتب الناس تاريخ جهاده في الفترة بين حربين عالميتين.

والآن أعود بحضراتكم إلى نهاية عام 1914 أي بعد إعلان الحرب الأولى في الأشهر التي كانت فيها إيطاليا على الحياد.

(يتبع)

أحمد رمزي

(ملحوظة): سبق للرسالة أن نشرت مقالاً عن ليبيا بقلم أحمد رمزي وقد استعان به في محاضرته هذه.

ص: 21

‌طرائف:

في الأدب والتاريخ والسياسة

(دار الحقوق إلى فتاها المجتبي)

للأستاذ محمد حسين الفار

أثار بنفسي انتخاب دولة خطيب الثورة الوطنية الأستاذ الزعيم إبراهيم عبد الهادي باشا رئيساً للهيأة السعدية الموقرة على أعقاب استشهاد زعيم النزاهة العفيف العيوف الأبي الشريف النقراشي باشا عليه الرحمة والرضوان.

أثار بنفسي هذا الانتخاب ذكريات كريمة قديمة برغم ما أعانيه الآن من ظروف ملتوية، وأويقات عاتية، إذ عاد بذاكرتي إلى سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، حينما كان الزعيم الجليل المغفور له سعد زغلول باشا في دست الحكم واستصدر عفواً عن الرعيل الأول من المجاهدين الأحرار الذين كانوا باكورة من حكم عليها بالإعدام في سبيل البلاد، واستبدل بعد بالإعدام السجن مدداً متفاوتة، وكان بمكان الرياسة منهم المرحوم المبرور رجل الوطنية الصامتة عبد الرحمن بك فهمي طيب الله ثراه، كما كان أبرزهم مكاناً وأنبههم شأناً خطيب الشباب المتوثب إبراهيم أفندي عبد الهادي الطالب بالسنة الرابعة بمدرسة الحقوق السلطانية إذ ذاك.

خرج هذا الرعيل الأول من السجن على أثر استصدار العفو أطهاراً أبراراً، فاحتفت بهم مصر حكومة وشعباً، واحتشد لهم المصريون زمراً وأفراداً، وأقيمت لهم حفلة تكريم كبرى عرفت بحفلة تكريم المسجونين السياسيين، وألقيت فيها جريدة شوقية خالدة عرج فيها أمير الشعراء أحمد شوقي بك الشاعر الخالد نضر الله نزُله على فتى الحقوق المجتبي إبراهيم أفندي عبد الهادي، فقد اختصه بذكر اسمه في فريدته الشوقية دون سائر المسجونين المكرمين جميعاً.

ذلك أن الفتى الناهض إبراهيم عبد الهادي قد تقدم لترشيح نفسه، كما رشحته جدارته لرآسة لجنة شباب القاهرة والأقاليم التنفيذية العليا، وتقدم منافساً له في تلك الرياسة حسن أفندي يسن النائب السابق والوفدي المعروف. ولكن العامة خطبت ود إبراهيم منذ فتائه، فقد

ص: 22

أكتسح خصمه، ومحا من قائمة انتخاب الرياسة اسمه ورسمه. وكان لمدرسة الحقوق في أمثال تلك المعارك الانتخابية بن الشبيبة المثقفة يد طولى وقِدح مُعلّي، فوقف سوادها الأعظم، وجمهورها الأكرم، خلف إبراهيم خطيب الشباب الموهوب.

فأشاد بذلك أمير الشعراء وشدا، وغرد البلبل الصيداح، فأسر الأفئدة، ونقع الصدى بسلسلة العذب ودرة الفريد الذي يفني الزمان ولا يفني، ويبيد الدهر ولا يبيد.

وذلك في قصيده الرائع الذي توَّج به هامة حفل التكريم، والذي كان مطلعه ذلك الغزل الرقيق الذي بلغ منتهى العذوبة وغاية الطلاوة والرواء:

بأبي وروحي الناعمات الغيدا

الباسمات عن اليتيم نضيدا

الرانيات بكل أحْور فاتر

يذر الحلى من القلوب عميدا

الزاويات من السُّلاف محاجزاً

الناهلات سوالفاً وخدودا

اللاعبات على النسيم غدائراً

الراتعات مع النسيم قدودا

أقبلت في ذهب الأصيل ووشيه

ملء الغلائل لؤلؤاً وفريدا

يحدِجن بالحدق الحواسد دُميةً

كظباء وجرة مقلتين وجيدا

حوت الجمال فلو ذهبت نزيدُها

في الوهم حسناً ما استطعت مزيدا

لو مر بالوُلدان طيف جمالها

في الخلد خروا ركعاً وسجودا

أشهى من العود المرنم منطلقاً

وألذ من أوتاره تغريدا

وهنا انتقل انتقالا رائعاً، وتخلص من الغزل إلى السياسة تخلصاً بارعاً، إذ قال:

لو كنت سعداً مطلق السجناء لم

تطلق لساحر طرفها مصفودا

ما قصر الرؤساء عنه سعى له

سعد فكان موفقاً ورشيدا

وهكذا سار أمير الشعراء كما عهده الناس يتدفق بياناً وسحراً، فنوه فيما ساقه لنا من روائع آياته وخوالد بيناته بفتى الشباب المرتجي في ذلك العهد إبراهيم عبد الهادي مشيراً إلى تبوئه مكان الزعامة من الشبيبة في بيتين من أوابد الشعر وبدائع القريض حافلين بالإشادة والثناء. ذلك إذ قال:

دار الحقوق إلى فتاها المجتبى

ثنت العنان وألقت الإقليدا

عمدت لإبراهيم فانتخبت فتى

ثبت الجنان على الزمان جليدا

ص: 23

هذا ما خلد به أمير الشعراء أحمد شوقي بك زعامة إبراهيم المبكرة التي أهلته لها جدارته، وقفزت به إليها كفاءته.

وبعد، فلست أدري، ولا المنجم يدري - كما يقولون - لِمَ أسقط هذان البيتان من القصيدة الخالدة حين طبع الجزء الأول من ديوان الشوقيات؟!

أللحزبية الصارخة في ذلك العهد يد في هذا؟ أم ماذا؟!

وهل من الأمانة للأدب أن نقبر بعض روائعه في لحود الإهمال وزوايا النسيان لأي غرض مهما يكن؟!

وقصارى الكلام نأمل أن يتدارك هذا البيتان الخالدان لدى الاضطلاع بأول طبعة في المستقبل لهذا الديوان أداء للأمانة وإنصافاً للناس، فهذا شأن كل طاهر العنصر، طيب الأرومة، عريق الأساس. . . والسلام على من أتبع الهدى.

محمد حسين الفار

المدرس بالأزهر الشريف

ص: 24

‌الكتب الموجزة كأداة تعليم وتثقيف

للأستاذ إيليا حليم حنا

ما هي الكتب الموجزة؟

أقصد بالكتب الموجزة الكتب التي تعطينا الفكرة الأساسية المتماسكة المشوقة عن الموضوع بشكل عام دون أن نخوض في دقائقه فتثير رغبتنا في الاستزادة، فنجري وراء التفاصيل في مصادر أخرى فتكون بذلك سلماً ووسيلة تشويق للإلمام بالموضوع وحافزاً لقراءة الكتب المطولة الأصيلة.

وهذه الكتب هي الطريق إلى مدارك العامة وقلوبهم يجدون فيها غذاء لا يتعب الذهن في تلقفه، أنها لا تتناول الاصطلاحات الفنية والتفاصيل العلمية المعقدة. وهي لا تفيد العامة فقط، فإنها ذات فائدة كبيرة للخاصة الذين يشغلهم موضوع واحد قد لا يتسع وقتهم لغيره فتكون لهم في النواحي المختلفة الأخرى أداة تثقيف قيمة في نواحي مغايرة.

ولا يقصد بهذه الكتب تلك الملخصات التي تعطي نتفاً من الموضوع من هنا وهناك دون تماسك وتشويق من باب العلم بالموضوع فقط، فإن هذه ضعيفة الأثر تكاد لا تثير الرغبة في القراءة، لأن مادة هذه الملخصات أشبه بجسم معلق في الهواء لا يرتكز على حامل يحمله. وهذه الكتب التي لا تتناول الموضوع كوحدة متماسكة مشوقة هي العامل الأول الذي لا يجعل المتعلمين يقبلون على القراءة بعد تخرجهم في مدارسهم ومعاهدهم. وطالب العلم في مراحل دراسته المختلفة يركز الفكرة المبتورة على الحافظة والاستنكار، وليس على التفكير السليم والرغبة، فيعاني كثيراً في حفظ ووعي الملخصات المدرسية التي لا ترابط بينها، ويحاول أن يبقيها بالتكرار، ثم لا يلبث أن ينساها، ثم يعود من أجل الامتحان فيستذكرها وهكذا، وتكون النتيجة أخيراً أن ينفر من المواد التي درسها في المدرسة، ولا يحاول أن يقرأ ما يمت إليها بصلة بعد أن ينتهي من مرحلته الدراسية، لأن معلوماته كانت ملخصة تلخيصاً بعيداً عن مبدأ الكلية، أي إدراك الشيء وتذوقه كوحدة حية قبل فحص طريقة تركيبه من أجزاء مختلفة. والشخص منا يرى الزهرة كلها فيجذبه منظرها وشكلها، وإنما لو قدمت له أول مرة يراها فيها مشرحة إلى أجزاء لا تماسك بينها ولا اتساق، فإنه لا يلبث أن يلقي بها الناحية الكلية عند تقديمها تكون أشبه بأشلاء مبعثرة لا ترابط بينها ولا

ص: 25

حياة فيها.

ودراسة الشيء كوحدة بأسلوب مبسط سهل يجعل هذه الوحدة نواة للتثقيف والاتساع في محيط هذا الشيء، وأرى أن نبدأ بصورة كاملة عامة عن المادة بحيث نبرزها بما يشوق فيها في الكتب الملخصة أو الموجزة، وهذا يجعلنا نسعى من تلقاء أنفسنا إلى الاستزادة منها، فمثلاً في بدء دراسة علم الفلك، أو عند وضع كتاب موجز عنه أرى أن نبتعد عن القوانين الطبيعية، ونعالج عجائب الكون معالجة مشوقة في هيئة قصة عن الأفلاك في مسالكها، وموضع بعض النجوم والكواكب التي ترى بالعين المجردة ووقت ظهورها، ثم نذكر شيئاً مشوقاً عن النجم الذي نتأمل صفحة السماء فنراه. وأنا واثق أن هذا سيدفع من يقرأه إلى الاستزادة في كتب أصلية مطولة. وفي التاريخ أيضاً بدلاً من أن نتكلم عن المواقع الحربية وأسبابها ونتائجها يجب أن نبدأ بحياة أحد الملوك كقصة. ونبرز فيها النواحي المثيرة، أو الخصال الحميدة والعادات والتقاليد والأساطير، ونترك النواحي المفصلة من أسباب ونتائج وتواريخ لمن تشوقه المادة ويريد التوسع فيها، لأن هذه الدقائق والحقائق الجافة تنفر القارئ الذي لم يتذوق الموضوع، ولم يعرف عنه شيئاً كلياً مجملاً من قبل.

مزايا الكتب الموجزة

1 -

هذه الكتب بذرة ثقافية تنمو وتكبر وتمهد للدراسات الدقيقة والشرح التحليلي في الكتب الأصلية.

2 -

ترشدنا إلى ما يمكن أن نتذوقه من أنواع المعارف المختلفة، ولا تستغرق منا وقتاً طويلاً نندم على ضياعه إن لم نتذوق ما نقرأه، وبوساطتها نعتمد على أنفسنا في اختيار الغذاء الثقافي الذي نهضمه، لأن مثل هذه الكتب تقرأ للتذوق وللبحث عن الكتب الطويلة الأصلية في الموضوعات الملخصة التي فازت بإعجابنا وأثارت رغبتنا.

3 -

تساعدنا على متابعة التيار الثقافي في النواحي التي لم نخصص لها كل اهتمامنا وجهودنا، والتي لا يلذ لنا أن نخوض في تفاصيلها؛ والحقيقة أنه لولا الالتجاء إلى ملخصات الكتب والمقالات الأصلية، لأصبح من المستحيل أن نلاحق السيل المنهمر من ثمرات المطابع.

ص: 26

4 -

أثبتت التجارب أن متوسط ما يستوعبه الطالب في الدقيقة من المادة الملخصة بالطريقة الكلية ضعفان ونصف ضعف ما يستوعبه من المادة الأصيلة المفصلة.

5 -

تربي الكتب الموجزة في الشخص الميل إلى القراءة، لأنها لا تثقل على طبع السواد الأعظم من جمهرة القراء لبعدها عن التفاصيل الفنية التي لا يهضمها القارئ العادي، كما أنها لا تحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير للتركيز وحصر الذهن والانتباه.

6 -

صغيرة الحجم مريحة في استعمالها يمكن أن تلازم جيب القارئ في أسفاره، كما أنها تحتل مكاناً صغيراً في المكتبة علاوة على رخص ثمنها الذي يجعلها في متناول الجميع.

إيليا حليم حنا

(الأبيض - سودان)

دبلوم عالي في التربية - دبلوم صحافة

مدرس أول اللغة الإنجليزية والآداب بمدرسة النهضة الوسطى

ص: 27

‌رسالة العلم

الأرقام الفلكية

للأستاذ نقولا الحداد

في هذا الزمان متى كان عدد شيء يتجاوز المألوف قيل إنه يعد بالأرقام الفلكية. في حرب روسيا مع اليابان في أوائل هذا القرن كان ربع مليون ياباني مقابل ربع مليون روسي، فقيل هذا عدد من الجيوش لم يسبق له مثيل، حتى إذا زاد عدد الجيوش على هذا القدر قالوا هي أرقام فلكية.

وصار عدد الجيوش في الحرب الأخيرة يعد بالملايين فلا بدع أن يوصف بالأرقام الفلكية. ولما كانت أمريكا تنفق فيها كل يوم 64 مليون ريال، وإنجلترا تنفق 14 مليون جنيه، قالوا هذه أرقام فلكية، وكذلك قيل لما خسرت روسيا في الحرب عشرين مليون جندي ذلك لأن في علم الفلك أرقاماً لا يكاد يتصورها العقل ولا سيما أرقام الأبعاد والمسافات بين النجوم والكوكبات فلم يعودوا يحسبون هذه الأبعاد بالكيلومترات أو بالأميال، بل صاروا يحسبونها بمقدار سرعة النور. فما يقطعه النور في ساعة أو يوم أو سنة صاروا يحسبونه مقياساً على اعتبار أن النور يقطع في الثانية مسافة 300 ألف كيلومتر أو 186 ألف ميل. فالأرض تبعد عن الشمس 8 دقائق بهذا المقياس. فلنر ما هي أبعاد الأجرام الفلكية وكيف تحسب. ولنبتدئ بأقربها للأرض، ثم نتقدم صعداً إلى أن يحار العقل في الأرقام والأبعاد.

القمر أقرب جرم إلى الأرض وهو مولودها، يبعد عنها نحو 239 ألف ميل. ولما كان محيط الأرض نحو 25 ألف ميل كان أنه إذا تدحرجت الأرض نحو القمر فقبل أن تتم العشر قلبات تصل إلى القمر. ولو أمكننا أن نقطع الأرض قطعاً كل قطعة بقدر القمر لأمكننا أن نفصل من الأرض 49 قمراً.

والشمس تبعد عن الأرض 93 مليون مليون، فلو تدحرجت الأرض نحو الشمس لقلبت على نفسها نحو 365 قلبة تقريباً قبل أن تصل إليها. ولكن يجب أن نخرج نحن منها قبل أن تشرع تتدحرج، لأن حرارة الشمس تحرقنا عند أول قلبة تقلبها الأرض.

ومتى وصلت الأرض إلى الشمس صهرتها حرارة الشمس التي تبلغ عند سطحها 6 آلاف درجة بمقياس سنتغراد. وإذا سقطت الأرض المصهورة أو المتبخرة إلى باطن الأرض

ص: 28

حيث الحرارة 40 مليون درجة سنتغراد امتزجت أبخرة الأرض بأبخرة الشمس.

قلنا إن النور يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية فهو كسرعة الصوت مليون مرة. ويمكننا أن نفصل من الشمس مليونا وثلثمائة ألف أرض. ولو وضعت الأرض في مركز الشمس ومعها القمر على بعده المعلوم عن الأرض لبقي القمر يبعد عن سطح الشمس بقدر ما يبعد عن الأرض، لأن نصف قطر الشمس 432000 ميل في حين أن بعد القمر عن الأرض 239000 ميل.

حول الشمس 9 كواكب (سيارات) أقربها إليها عطارد. وهو يبعد عنها نحو 36 مليون ميل، وأبعدها السيار بلوتو هو يبعد عن الشمس نحو 4 ساعات نور ولكن متى بعدنا عن نظامنا الشمسي بسرعة النور فبعد 4 سنين و 65 يوماً نصل إلى أقرب نجم إلينا إذا جعلنا وجهتنا إليه. والنجم المسمى قنطوروس أو والنجوم لا تقرب إلى بعضها أكثر من هذه المسافة.

بعض الأحيان نرى أمام الهلال نجمة كأنه يحتضنها، هي كوكب الزهرة، ولكنها تبعد عنه نحو 26 مليون ميل، وهي أكبر منه بنحو 45 مرة.

ولا يخفى عليك أننا لا نزال في جوار الشمس، وما بعدنا عنها أكثر من 4 سنين وخمس السنة إذا سرنا بسرعة النور. أنظر كم في السماء من نجوم فهي لا تكاد تحصى، ولا نرى منها إلا القليل، اللهم إلا بالمقراب (التلسكوب) وهذه النجوم تتباعد ببعضها عن بعض بمثل بعد قنطوروس عن الشمس تقريباً.

أبعد مسافة استطاع أقوى تلسكوب أن يكتشفها هي مسافة 50 مليون سنة نورية.

النجوم التي نراها بالمرقب (التلسكوب) في أثناء الربع وعشرين ساعة ضمن نطاق درب الدبان الذي يسميه الإفرنج الدرب اللبني تبلغ نحو 300 ألف مليون نجم تقريباً. وهذه المجموعة الهائلة من النجوم تسمى (المجرة). وشمسنا مع كواكبها تقع في الثلث الأول بعد مركز المجرة. وجميع هذه النجوم أو الشموس تدور حول المركز وأسرعها أقربها إليه، وأبطئها أبعدها عنه والشمس تقضي 25 مليون سنة لكي تتم دورتها حوله. وقطر محيط هذه المجرة نحو 150. 000 سنة نور، وسمكها نحو 25000 إلى 4000 سنة نور، وإذا جمعت جميع هذه النجوم معاً كانت كتلتها 16000 مليون مرة ككتلة الشمس. وذلك نحو

ص: 29

52 أمامها 27 صفراً من الأطنان.

هذه النجوم أو الشمس التي تعد بالملايين تختلف في الحجم اختلافاً كبيراً. وشمسنا من الحجم الذي هو دون الوسط. والجوزاء المسماة كبيرة جداً بحيث لو وضعت في مركز الشمس لغطت جميع فلك الأرض، أي لملأت الرحبة التي تدور الأرض فيها حول الشمس وزادت عليها. يعني أن قطرها يزيد على 272 مليون وهي تبعد عنا نحو 30 سنة نورية. وتعد من كوكبة الجبار وهي أسطع الكواكب في السماء

ومعظم النجوم جماعات جماعات، كأنها أسراب متضامنة وتسعى كوكبات. وبعضها مجموعة نجوم وبعضها تعد بعشرات الألوف ومئاتها. وكل كوكبة منظمة قائمة بنفسها وتدور على نفسها. وفي الوقت نفسه تدور مع سائر الكوكبات الأخرى والنجوم حول مركز المجرة العظيمة.

ونحن إلى هنا ما زلنا في نطاق المجرة فإذا خرجنا منها يجب أن نطوف على بعض مليون سنة بسرعة النور من حول مركز المجرة من جميع النواحي، فنشرع نصطدم بمجرات أخرى مثل مجرتنا وهي مبتعدة بعضها عن بعض كبعدها عن مجرتنا، ونظام كل منها كنظام مجرتنا ولكنها تختلف حجماً اختلافاً قليلاً.

وإلى الآن أمكن العلماء أن يكتشفوا نحو 30 مليون مجرة. وقد يمكن أن يكتشفوا غيرها متى نصب مرصد كابسفورنيا العظيم الذي تبلغ قوته أربعة أضعاف قوة مرصد جبل ويلسن الذي هو أعظم مرصد إلى الآن. ولما كان النور الذي يرد من أي نجم إلى الموشور (أي المظياف الذي يحل النور إلى ألوانه السبعة) يدل على أن النجم يبتعد عنا إن كان طيفه يدنو من الأحمر، ويقترب إلينا إن كان يدنو من البنفسجي، فقد رئي أن طيوف المجرات والأجرام تدنو من الأحمر (ماعدا بعضها لأسباب لا محل لتفسيرها هنا) وهو أمر يدل على أن الأجرام تتباعد بعضها عن بعض ومقدار الانحراف أو الابتعاد يدل على مقدار سرعتها.

ومعنى ذلك أن الكرة الكونية الشاملة جميع العوالم تنتفخ وتتسع. والمتطرفة منها تبتعد بأسرع من القريبة للوسط. وعلى بعد 135 مليون سنة نورية تبلغ سرعتها 14. 300 ميل في الثانية ومتى صارت السرعة (على بعد آخر) كسرعة النور أي 300000 ميل فلا

ص: 30

يعود أعظم المراصد يرى ذلك الجرم الذي فاقت سرعته سرعة النور مهما بلغت قوته.

وبحسب رأي ادنغتون أن حجم الكون الأعظم يتضاعف كل 1300 مليون سنة. فإذا صحت نظريته فالكون كان أصغر جداً مما هو الآن. وعلى حسابه فالكون ابتدأ منذ 90000 مليون سنة (قبل الخليقة أي قبل 4004 سنة ميلادية). وماذا كان قبل أن ابتدأ هذا السكون؟؟

وفي رأي تجايمس تجينز. ابتدأ الكون مجموعة فوتونات أي ذرات أيثر كانت مالئة الحيز الكوني. ثم مَدَّ الله تعالى أصبعه فحرك هذا البحر الفوتوني فجعلت الفوتونات تتجمع الكترونات فبرتوتونات فذرات فجزئيات فأجسام فأجرام فعوالم فأكوان. وبعد أن تشع كل ما فيها من حرارة تتقلص وتعود تبتدئ. أن تتمدد من جديد وتعود إلى سيرتها الأولى. وهكذا دواليك من الأزل وإلى الأبد بلا بداية ولا نهاية. واللانهاية واللابداية ملك الله. فلا يمكن الإنسان أن يحصيهما بقاصر عقله.

وفي رأي علماء آخرين أن محيط مجموعة المجرات التي هي كرة الكون الأعظم (وخصوصاً في رأي اينشطين) نحو 6000 مليون سنة نور. وهي ذات قدر محدود أي معين لا يزيد ولا ينقص. فبحسب حساب انشتاين أن الكون مؤلف من إلكترونات تبلغ نحو 6 أمامها 72 صفراً (1072 6) وهي ضمن نطاق 6000 مليون سنة نور كما تقدم.

وبعد هذا النطاق لا توجد أجرام مادية وإلا شعرنا بوجودها بواسطة مراصدنا وعن يد إشعاعاتها إن كانت من طبيعة كوننا الأعظم هذا. أما إذا كان ثمة بعد ذلك عوالم أخرى ليست مادية أو ليست من طبيعة كوننا هذا فليس لنا أن نقول بها ما دام ليس لنا دليل حسي على وجود شيء آخر. وأما أن نفرض فروضاً ونقول قد يمكن أن يوجد عالم آخر يختلف عن عالمنا فليس من منطق يبرر هذا الفرض. وإلا يمكننا أن نفرض ألوف الفروض ويكون الكلام ثمة لغواً.

وقد نسأل: إذا كان هذا الكون نطاق واسع يحده محيط قدره 6000 مليون سنة نور فماذا وراء هذا النطاق؟ هنا يقف العقل حائراً لأنه لا يستطيع أن يتصور المحدود الذي لا وراءه شيء - لا يستطيع أن يتصور النهاية التي لا شيء وراءها كما أنه لا يستطيع أن يتصور اللابداية. هنا يبتدئ جهل الإنسان المطبق مهما تعمَّق في العلوم، وتبحر في الفلسفة،

ص: 31

وتوسع في اكتشاف أسرار الكون. هنا يقف العقل حائراً.

قد يفهم العقل ما بقي من أسرار الكون وهو أكثر جداً مما عرفه ولكنه لا يمكن أن يفهم اللامتناهي واللامحدود. إن هذا العقل البشري الصغير الذي هو ذرة في الكون ولا يقاس بشيء أمام عظمة الكون. لقد أدرك عظمة الكون وشمله كله بعلمه. فهو على حقارته أعظم من هذا الكون إذ استطاع أن يحتويه في عقله. فما أصدق قول أبي العلاء المعري فيه.

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

نقولا حداد

2ش البورصة الجديدة بالقاهرة

ص: 32

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

بين نيتشه وفاجنر أو بين الخيال والواقع:

تطوع الأستاذ الشاعر محمد فهمي لينتصف لصديقه الأستاذ عبد الرحمن الخميسي، وخيل إليه - وما أخصب خيال الشعراء - أنه قد انتصف له!

أول شيء أسجله للأستاذ محمد فهمي أنه رجل طيب، والدليل على أنه رجل طيب هو أن كل دليل استند إليه لا يغير شيئاً من جوهر الحقيقة التي يقررها ميزان النقد؛ النقد الذي يقف من النصوص موقف التأمل والمناقشة، ويقف من التاريخ موقف التمحيص والمراجعة.

لقد قلت إن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشه أعنف وأبشع ما لقيته موسيقى فنان من قلم فيلسوف، وأوردت مما قاله الفيلسوف في الفنان قليلا من كثير، ووافقني الأستاذ فهمي علي ما قلت، ولكنه عاد ليذكرني بأن هذه الموسيقى قد لقيت أيضاً من قلم نيتشه أسمى آيات المديح. . . أنا والله أعلم هذا يا أستاذ ولكن علمي يختلف عن علمك؛ يختلف عنه بقدر ما تختلف عقلية ناقد عن عقلية شاعر!

يا قراء (الرسالة) تعالوا نسلط الضوء على الدليل الفذ الذي أورده الأستاذ فهمي في مجال الانتصاف لصديقه، إنه رسالة. . . من نيتشه إلى فاجنر بمناسبة أول كتاب أخرجه وإهداء إليه، تلك التي يقول له فيها:(لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل، رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه) إلى هنا ونقف قليلاً لنهم الأستاذ فهمي بتشويه الترجمة في سبيل تأييد رأيه! إن الكلمات المقابلة لهذه الترجمة العربية المشوهة هي:

إن التشويه هنا متركز في عبارة: (رداً لجميل عنايتك الفائقة التي أوليتنيها في خلقه) لقد ترجم الأستاذ بكلمة (أوليتنيها) تكلموا يا من تعرفون الإنجليزية. يا من تعرفون فن الترجمة! تكلموا لتقولوا إن المقابلة الصادقة لكلمات نيتشه تتمثل في هذه الترجمة: (لعل هذا العمل (يقصد كتابه الجديد) يكون ولو إلى حد ضئيل، جزاء لما أبديت من اهتمام بالغ

ص: 33

في أثناء إخراجه)!. . . يريد نيشته أن يقول لفاجنر إنك أظهرت نحوي كثيراً من الاهتمام والعطف بمناسبة أول كتاب ألفته، وإني لآمل أن يجزيك إهداؤه إليك أجر ما أظهرت من كريم العاطفة نحو مؤلفه! ولكن الأستاذ فهمي يريد أن (يجبر) نيتشه على القول بأن كتابه مدين بخلقه لفاجنر!

هذه ملاحظة على هامش المشكلة نعود بعدها إلى جوهر المشكلة. . . هل يعلم الأستاذ فهمي في أية سن اتصل نيتشه بفاجنار، وفي أية سن بعث إليه بهذه الرسالة المرفقة بكتابه الذي أهداه إليه؟ لو علم لبحث عن دليل آخر غير هذا الدليل المتهافت الذي أورده في كثير من الزهو والثقة والاعتداد! لقد اتصل نيتشه بفاجنر في سن الخامسة والعشرون، وألف كتابه الأول وأهداه إليه في سن الثامنة والعشرون، وفي هذا الوقت كان فاجنر في سن التاسعة والخمسين من عمره. . . شاب ناشئ يخطو أول خطوة في طريق مجد يتطلع إليه، وشيخ قطع طريق المجد كله حتى بلغ منتهاه. وهنا نرفع معول التدمير لنهوى به في (رفق) على الدليل الفذ الذي يزهي به الأستاذ فهمي ويعتد! شاب ناشئ يتعلق أستاذاً في الموسيقى طبقت شهرته الآفاق ليمهد له طريق الشهرة والظهور، ولابد - شأن كل ناشئ يعيش في رحاب أستاذ كبير - من التملق والمجاملة في سبيل الوصول إلى تحقيق أمانيه. . . هذه هي الحقيقة التي يقررها الواقع ويقررها رومان رولان في كتابه ' (ص 63) ولعل الأستاذ يوافقني على أن كلمات يمليها، التملق في السن المبكرة، غير كلمات يمليها الإيمان والثقة والفكر الناضج في السن المتأخرة! يقول نيتشه لفاجنر في سن الثامنة والعشرين: إنك موسيقي عظيم أشعر بزهو لا يحد حين يقترن اسمي باسمه إلى الأبد، ويقول له في سن الخمسين: إنك رجل منحل، متلف هدام، لا تهز بموسيقاك المريضة إلا أعصاب النساء. . . بأي القولين نثق وبأي القولين نؤمن؟. أيقول الفتى الناشئ المتملق الذي لا تعنيه سنه على وزن الفن بميزان الملكة الناضجة، أم بقول الفيلسوف العبقري الذي نطق بكلماته الأخيرة في وقت كان يطلق عليه فيه سيد المفكرين؟. . . إننا نهمل كلمات المجاملة التي نطق بها الفتى الناشئ ليصل عن طريقها إلى مجد يتطلع إليه؛ نهملها ولا نقيم لها وزناً على الإطلاق، ولا نثق إلا بتلك الكلمات الأخرى التي نطق بها الفيلسوف العظيم في أوج نضجة الفكري واستقامة موازينه وفهمه لحقائق الأمور، نثق بها لأن نيتشه

ص: 34

يقول لنا بصراحة: (إن رأيي الأول في فاجنر قد غيرته السن، أما رأيي الأخير فلن تغيره الأيام) نفس المصدر ' (ص68). . . إن بعض الآيات في القرآن الكريم يا أستاذ قد نسخت أحكامها أحكام آيات أخرى، فلم لا تنسخ أحكام نيتشه الأخيرة أحكامه الأولى، وتلغيها، وتدفع بها إلى زوايا الإهمال والنسيان؟!

من هنا يا أستاذ فهمي أصدرت حكمي على هذا الرأي الذي نادى به صديقك ووافقته أنت عليه، حين يقول إن موسيقى فاجتر قد فتقت أكمام العبقرية في نيتشه! لقد ولد نيتشه يا صديقي وفي دمه بذور عبقرية موهوبة، ولو قدر له ألا يرى فاجتر لما تبخرت من نبغ فكره المحلق قطره واحدة من قطرات عبقريته، وكل من يقول بغير هذا الرأي إنسان لا يحترم عقله. . . متى كان إعجاب رجل بآخر ومديحه له دليلاً على تفتيق أكمام العبقرية فيه؟! إننا نستطيع أن نفرض المستحيل، والمستحيل الذي نفرضه لنمضي مع الأستاذ فهمي إلى نهاية الشوط، هو أن نيتشه قد أعجب بفاجنر وأن هذا الإعجاب قد ترتب عليه خلقه لعبقريته. إذا فرضنا هذا وحلقنا في أفق الشعراء والتقطنا النجوم ونثرناها درراً من الكلام، وخرجنا من هذه الدرر بهذه الحقيقة الفذة، فإننا نستطيع أيضاً بهذا الميزان الذي يقام على أجنحة الخيال أن نقول إن موسيقى بيتهوفن قد فتقت أكمام العبقرية في جتيه! ألم يكن جيته يعجب بموسيقى بيتهوفن، ويقدسها، ويعدل بها موسيقى فنان آخر؟ لا بأس على الإطلاق من أن نعلن على الملأ هذه الحقيقة التي تذوب خجلاً من روعة هذا القياس!

بقي أن نرفع معول التدمير مرة أخرى لنهوى به في (رفق) على آخر دليل أورده الأستاذ فهمي، وهو أن نيتشه قد صب نقمته على فاجنر حين أقصاه هذا عن بيته وقطع صلته الغرامية بزوجته، يصدق الأستاذ فهمي هذا الفرض الذي نقل إليه، فلم لا يصدق هذا الفرض الآخر الذي يمكن أن يقال له، وهو أن نيتشه لم يخلع على فاجنر أثواب المديح والإطراء إلا بفضل علاقته الغرامية السابقة بزوجته؟!. . . ترى أكان نيتشه حين رمي فلسفة شوبنهاور بالزيف والخواء، ترى أكان متصلاً بزوجته أيضاً ثم قطعت هذه الصلة يا أستاذ فهمي؟ حنانيك يا موزاين النقد!

بقي شيء يفرض عليّ الموقف أن أثبته في ختام هذه الكلمة، وهو أنني أشكر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي رحابة صدره في تقبل نقدي له. . . الحق أنه أدهشني بهذه الروح

ص: 35

المثالية حين لقيني منذ أيام في ندوة الرسالة، وحين قال إنه لا يضيق بالنقد مهما عنف ما دام هدفه الأول هو الكشف عن الحقائق ووضع كل شيء في مكانه.

إنني أسجل إعجابي بهذه الروح الطيبة، وأرجو أن أكون قد كشفت عن حقيقة الصلة بين نيتشة وفاجنر، كما يقررها الواقع لا كما يتصورها الخيال!

وللأستاذ الخميسي أطيب تحياتي.

لحظات مع الفنان الفرنسي جان كوكتو:

يزور مصر الآن فنان فرنسي موهوب هوجان كوكتو، ولا أعرف رجلاً من رجال الأدب والفن في عصرنا الحاضر تعدد مواهبه كما تعددت مواهب هذا الرجل. . . إن كوكتو رسام وشاعر وكاتب مسرحي وناقد وأديب، وهو بعد ذلك مخرج مسرحي يشرف بنفسه على إخراج قصصه وقصص غيره في فرقة الممثل الفرنسي النابه جان ماريه، وهي الفرقة التي تعمل منذ أيام على مسرح الأوبرا الملكية.

ولقد استوقف نظري ما جاء بمقال الدكتور طه حسين بك في (الأهرام) عن كوكتو حين قال: (وجان كوكتو أديب فرنسي ممتاز، ولعله أن يكون من أظهر الأدباء الفرنسيين وأشدهم امتيازاً في هذا العصر، وربما كان أظهر الخصال التي تميزه أن نزعاته الأدبية والفنية لا تسلك طريقها إلى الفوز دون أن تلقي من العقاب والمقاومة ما يثير حولها كثيراً من الخصومه والجدال)!

الواقع أن هذه الكلمات التي نطق بها أديبنا لكبير تقرر الواقع في كثير من الدقة بالنسبة إلى فن جان كوكتو. . . إن الرجل فنان ممتاز ما في ذلك شك، ولكن فنه يثير كثيراً من الجدل واختلاف الرأي بين خصومه وأنصاره، أناس يرفعونه إلى القمة وآخرون يهوون به إلى الحضيض، والزمن وحده كفيل بتقدير فن الرجل ووزنه بميزانه. ولقد تهيأ لي أن أطلع على أربع رسائل تلقاها من باريس أحد أصدقائي من بعض زملاء دراسته في السوربون، وهي تدور كلها حول كوكتو وفنه ورحلته إلى مصر رسالتان تحطان من قدره وتحملان على خلفه، ورسالتان ترفعان فنه وتشيدان بمواهبه، وأنا بين الرسائل الأربع يأخذني العجب من رجل لا يلقي رأياً وسطاً بين المعجبين به والمتحاملين عليه!

مهما يكن من أمر كوكتو وأمر خصومه وأنصاره، فإنني أشارك الدكتور طه دهشته من أن

ص: 36

بيئة ثقافية واحدة في مصر، لم تفكر في إحداث صلة بين هذا الأديب العظيم وبين شبابنا المثقفين. . الواقع أننا نغط في نوم عميق!

ردود قصيرة على رسائل القراء:

أشكر للصديق المجهول الذي كتب إلي من القاهرة جميل تقديره، وأود أن يبعث إلى باسمه وعنوانه لأرد إليه تحيته، أما الصديق الآخر المجهول الذي كتب إلي للمرة الثانية من الإسكندرية فأرجو أن يبعث إلي أيضاً باسمه وعنوانه لأجيبه عن أسئلته التي أشرت إليها من قبل، لأن الإجابة عنها في (الرسالة) ستشغل الصفحات الثلاث المحددة للتعقيبات.

أما الأديب الفاضل صبري حسن علوان الطالب بكلية العلوم بجامعة فؤاد فيعتب على تلك التحية التي وجهتها إلى طلاب الأزهر، ومما جاء في رسالته:(. . وأحب أن تحيي الشباب المخلصين للأدب والفن على أنهم أدباء، لا على أنهم من طلاب الأزهر أو طلاب الجامعة)!. . إن ردي على هذا العتاب هو أنني ما حييت هؤلاء الشباب إلا لأنهم أدباء، ولكن من حقهم علي أن أشير إلى أنهم من الأزهر، ومن حقك علي أيضاً أيها الأديب أن أحييك مشيراً إلى أنك من الجامعة. وهذه رسالة رابعة من بغداد يناقشني فيها الأدب الفاضل محمد روزنامجي الطالب بكلية الحقوق حول ما كتبته عن الأستاذ سلامة موسى. أحب أن أقول لهذا الصديق العراقي الفاضل إنني أرجو أن يتسع وقتي لأرد عليه في رسالة خاصة. ورسالة خامسة من طنطا يقول مرسلها الأديب الفاضل محمود محمد على إنه يؤيد ما أبديت من رأي في شخصية بيرون الأدبية والإنسانية، ويرجو أن أتناول بالنقد والتحليل - كما فعلت عند الحديث عن بيرون - بعض الشخصيات الأدبية في مصر. . . إنني أشكر له خالص ثنائه وقد أستجيب لكريم رغبته.

أما الرسالة السادسة فمن (أبو حمرة - سودان) يقول صاحبها الأديب السوداني الفاضل عبد الحليم الحاج محمد إنه يود ألا أقتصر في (التعقيبات) على التوجيه الأدبي وحده، بل يجب أن أخصص جانباً منها للتوجيه الاجتماعي. . يسعدني أن أحقق هذه الأمنية في القريب. وأقول لصاحب الرسالة السابعة الأديب الفاضل محمد علي مخلوف بمعهد التربية العالي بالإسكندرية إنني سأدفع بقصيدتك إلى الأستاذ الزيات مع تزكيتي، كما أقول لصاحب الرسالة الثامنة الأديب الفاضل علي أحمد الخطيب الطالب معهد الإسكندرية الديني إن

ص: 37

الكتاب الذي رجع إليه لا يعتمد عليه، لأنه يشوه الوقائع الثابتة ويخالف منطق التاريخ. . ولهؤلاء القراء الأصدقاء جميعاً أصدق الود وأخلص التحية.

جولة طويلة في معرض الفن الإيطالي:

لحظات جميلة وممتعة، تلك التي قضيتها منذ أيام في معرض الفن الإيطالي. . كم أود أن يزور المثقفون هذا المعرض الممتاز الذي نظمته جمعية محبي الفنون الجميلة بالقاهرة ومتحف بينالي بمدينة البندقية بإيطاليا، ليحلقوا بأفكارهم كما حلقت قي سماء الفن الرفيع! يؤسفني أن يضيق النطاق عن التحدث عما شاهدت، فإلى العدد المقبل حيث أقدم للقراء عرضاً تحليلياً لبعض اللوحات الممتازة التي وقفت منها موقف التأمل والدراسة والمقارنة.

أنور المعداوي

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الأدب والمجتمع:

قامت مناظرة يوم الخميس الماضي في قاعة علي باشا مبارك بكلية دار العلوم، موضوعها (هل الأدب للأدب أو الأدب في خدمة المجتمع؟) ورأس المناظرة الأستاذ عبد الحميد حسن، وتناظر في الموضوع ستة من الطلبة، فأيد الرأي الأول عبد الخالق الشهاوي وأحمد عبد الله البهنساوي ومحمد محمود عبد النبي، وأيد الرأي الثاني محمد موسى طحان وأحمد غنيم وأحمد الزقم.

وسأعرض هنا بعض ما قاله المتناظرون، وأعلن أولاً أني لست محايداً، وإنما أقول بالرأي الثاني، ولهذا سأجعل من همي أن أفند ما لم يفند من أقوال أصحاب الرأي الأول، وأعرض صفحاً عما لا أراه ينفع من كلام أصحاب الرأي الثاني. . . ولا شك أن للقارئ حريته فيما يرى.

قال الشهاوي: إن الأديب ينتج وهو حالم ولا يتجه في إنتاجه إلا إلى الجمال، وليس من هدفه الحق والمنفعة والخير. وأقول: إن الأديب لا يحلم بالهواء وما هو حين يستسلم للغفوة الأدبية إلا يستوحي ما رسب في أعماقه من شئون الحياة وصور المجتمع؛ أما الجمال فلا تعارض بينه وبين الحق والمنفعة والخير، ولم الفصل بينه وبينها وكثيراً ما يكون داعياً إليها؟ وقال هل تريدون أيضاً أن تكون الأساطير الأدبية في خدمة المجتمع؟ ورد عليه غنيم بأن الخرافية في الأدب ليست مقصودة لذاتها وإنما هي تشيد بالمثل العالية.

وقال البهنساوي: إن الأديب يشعر بما شعر حراً فكيف تحملونه على أن يعبر كما يريد المجتمع؟ وقال: إنه قد يغضب من المجتمع فكيف يعبر عن غضبه بما يرضى المجتمع؟ وقال: إن الإنسانية هي نبع الأدب لا الاجتماعية. ورد غنيم بأن الأديب إنسان ممتاز يشعر بما في الحياة شعوراً ممتازاً ويترجم عنه لصالح المجتمع دون أن يملي عليه شيئاً، وإنه حين يغضب من المجتمع لا يعاديه وإنما يثور عليه لإصلاحه، وقال: إن الأديب لا يكون إنسانياً إلا إذا كان اجتماعياً.

وقال عبد النبي: إن الأخلاق اعتبارية تتغير والأدب خالد يعبر عن الحقائق الثابتة. وأقول:

ص: 39

نحن لا نريد من الأديب أن يكتب في الأخلاق مباشرة، وإنه حين يثور على وضع من الأوضاع الأخلاقية إنما ينشد التطور ورقي المجتمع.

ورد طمان على أن الأدب فن من الفنون الرفيعة لا يقصد إلا إلى الجمال، فقال إنا لا نسلم بأن الفنون قاصر أمرها على الجمال، فأنت تمر بتمثال الحرية مقاماً في أحد الميادين فيوحي إليك معاني الوطنية ومشاعرها، ولم يقل أحد بأنه يجب عليك أن تشعر بجمال التمثال وتمضي دون أن تحس شيئاً من أهدافه القومية والاجتماعية. ومن ظريف ما قاله طمان: إن (الأدب للأدب) كالنحو للنحو. . أي أن الإنسان بناء على هذا يعرف النحو ويلحن كما يشاء، لأنه يعرفه لذاته لا ليقيم به الكلام. . . وتساءل غنيم: هل الأديب حشرة ائتلافية؟

وقال الزقم: إننا إذا نظرنا في الأدباء الخالدين لم نجد إلا من خلدته آثاره في خدمة المجتمع.

وقد أثار المتناظرون موضوع (التابعي وأسمهان) إذ قال أحد الفريق الأول: إن التابعي يكتب في (آخر ساعة) مذكراته عن أسمهان ليعبر عن أحاسيس هذه الفنانة، ولم يعبأ بمن ثاروا عليه. وقد كان ذلك مثار حملات من الفريق الثاني على شغل تلك الصفحات بمثل ذلك الكلام. والحق أن الفريقين ظلموا التابعي، فليست مذكراته عن أسمهان من (الأدب للأدب) وإنما هي تهدف إلى إغراض اجتماعية وسياسية يستشفها القارئ من خلال ما يعرض من حوادث.

وختم المناظرة الأستاذ عبد الحميد مثنيا على المتناظرين وحسن نقاشهم وما بدا فيه من الروح الرياضية قائلاً بأنه إذا كان العمل الرياضي تمريناً للجسد فهذا تمرين للفكر، والثاني أحق بأن تسوده الروح الطيبة. وآثر الأستاذ ألا يجري الاستفتاء بين الحاضرين لأن المقصود ليس انتصار فريق على آخر وإنما هو بحث الموضوع وتبين جوانبه. وأبدى رأيه في الموضوع فقال أنه لا تعارض بين الرأيين، لأن الأدب ينبع من الفرد ومن المجتمع ومدار الأمر فيه على الصدق، والأديب الصادق التعبير يخدم الإنسانية فرداً أو مجتمعاً.

وقد كان أصحاب الرأي الأول يرددون أن الأديب ليس واعظاً ولا مرشداً ولا مقرر

ص: 40

نظريات وعلوم. وكان الفريق الثاني يقول بأن الأديب لابد أن يعالج شؤون المجتمع ويكتب في مشكلاته. وهنا أمر يحسن الالتفات إليه، وهو أن الأديب لا يدعو إلى الأخلاق دعوة مباشرة ولا يعالج مشكلات المجتمع كما يعالجها الباحث الاجتماعي؛ وإنما هو يتناول كل ذلك بطريقته الفنية وصوره الأدبية ومن المسلم به أن تجارب الحياة أجدى من الوعظ إن كان فيه جداء، والأديب يعبر عن تجاربه الشعورية فينقل القارئ إلى عالمه ويؤثر فيه بحيث يجعله مشاركاً له في التجربة، والأديب حين يتجه إلى المسائل الاجتماعية إنما يأتيها من حيث آثارها في صوره وأشخاصه، لا من حيث هي مشاكل يقترح لحلها كذا وكذا.

والأدب الآن يتجه إلى الإنسانية وتحليل النفس، والأديب حين يتغلغل بقلمه إلى إبراز المشاعر الإنسانية وتحليلها إنما يهدف إلى الحق والخير والجمال.

الأدب المصري:

قال الأستاذ بدوي طبانة في كلمة له بالأهرام، إنه لاحظ وهو يحقق كتاب (جريدة القصر وجريدة أهل العصر) للعماد الأصفهاني - أن مصر أنجبت نحو مائة وثلاثين شاعراً في القرن السادس الهجري، جلهم إن لم يكن كلهم مغمورون لم يتناولهم علماؤنا وأدباؤنا بالدراسة كما تناولوا غيرهم من أعلام المشارقة والمغاربة.

وأذكر أن بعض الكتاب قد أثار هذه الموضوع منذ سنين، ونبه على إهمال مصر الأدب المصري مع جدارته بالإحياء والدراسة، وأنشأت الجامعة كرسياً بكلية الآداب للأدب المصري، شغله الأستاذ أمين الخولي، ووضع له منهجاً لم ينفذ، والأستاذ يدرس الآن في الكلية مواد ليس من بينها الأدب المصري وهو لا يزال أستاذ الأدب المصري!

ولا يزال أساتذة تاريخ الأدب في المدارس وكليات الآداب ودار العلوم واللغة العربية يمرون بالأدب المصري عابرين معجلين، وقلما يحظى هذا الأدب بالتفات الأدباء في غير المدارس والكليات.

ولعل من أسباب ذلك أن أكثر مراجع التاريخ والأدب في العصور المصرية المتأخرة مخطوط.

ولا شك أن أول ما يجب عمله في هذا السبيل، هو إحياء هذه الكتب بالتحقيق والطبع لتكون في متناول طلاب الأدب، وعندنا هيئات حكومية وأهلية تعمل في إحياء تراثنا

ص: 41

الثقافي، كالقسم الأدبي بدار الكتب، وإدارة التراث العربي بوزارة المعارف، ودار المعارف، فلا وجهت عنايتها إلى هذه الناحية؟.

في معرض الفن الإيطالي:

هناك على شاطئ النيل في قصر الخديوي إسماعيل، أخذت معروضات الفن الإيطالي مكانها، وفي مدخلنا إلى هذا المعرض استغرقنا السرور بمرأى الجنود المصريين حيث تعودنا أن نور السحن الحمراء التي كانت تحتل هذا القصر، وشارك العلم المصر المرفوع قلوبنا في الخفقان. ألا ليت معرض الفن المقام هناك والذي نقصد إليه، كان مصرياً. . حقاً إن الفن لا وطن له كما يقولون، ولكن ظروف المكان تحتاج إلى استدراك. . .

المعرض فخم، والمكان فخم، تنقل بصرك بين اللوحات المعروضة وبين النقوش على السقوف والجدران، فتحار بين هذه وتلك، ومن الغريب أنهما يتشابهان في الفخامة. وقد جلنا بالمعرض، فاستدعى التفاتنا إتقان الأبعاد والألوان، ولكن قلما وقفنا مشاركين في إحساس وشعور. وطالما وقفت وقفات شاعرة أمام لوحات في معارض مصرية، أما في هذا المعرض الإيطالي فلم أحس بالمشاركة الوجدانية إلا في بضع صور منها صورة الحصان الميت وقد وقف بجانبه صاحبه العجوز البائس وملامحه تنطق بأنه لا يملك سواه، وصورة أم تنظر إلى ابنها نظرات كلها حنان، وفي مقابل هذه الصور صورة أخرى كبيرة بها امرأة تحمل طفلها وبقرة بجانبها رضيعها، والصورة الكبيرة فخمة جيدة التلوين، باهرة المنظر، ولكنها فقيرة في الإحساس والوجدان، ومن الصور التي أعجبتني أيضاً لوحة تهجم فيها عنزات على عربة حشيش، وبالقرب منها راعية تبدو فيها (الراعية) واضحة.

وقد وقفنا أمام صورة هناك فحدقت فيها لأرى ما هي، وأنا أقول لصاحبي: هذه الصورة لا بد أنها من (السريالزم) ثم أردفت: إنها تمثل ديكا، قال صاحبي - وهو الأستاذ أنور المعداوي - بما أننا تبنينا فيها ديكا فلا يمكن أن تكون من (السريالزم)!

نصف مليون جنيه يصدع رأس الدولة:

صرح دولة إبراهيم عبد الهادي باشا للصحفيين في أحد اجتماعاته بهم، بقوله (إن ميزانية وزارة المعارف قد تضاعفت عدة مرات حتى أصبحت الآن حوالي ثمانية عشر مليوناً من

ص: 42

الجنيهات، تضاف إليها ثلاثة ملايين جنيه للتعليم الجامعي، أي أن واحداً وعشرين مليوناً من الجنيهات تنفق في العام الواحد في نشر نور العلم ومحاربة الجهل في مصر. وقد تدهشون إذا عرفتم أن إيرادات المصروفات المدرسية لا تواجه من هذا المبلغ الضخم غير ثمانمائة ألف جنيه. .).

ومعنى ذلك أن الدولة تنفق على التعليم نحو 26 % مثلا لما تحصله من التلاميذ، وأنت قد تريد الذهاب إلى حلوان مثلاً، فيقدم لك العامل في (شباك التذاكر) ورقة تبرع لإحدى الجمعيات الخيرية بقرش، وإذا ناقشته قال لك: من يدفع ستة قروش لا يكثر عليه قرش! فهل نقول للدولة كذلك: إن ثمانمائة ألف جنيه ليست شيئاً إلى جانب واحد وعشرين مليوناً من الجنيهات؟

والأمر أهون من ذلك، فإن وزارة المعارف تبذل جهوداً وتنفق أموالاً بسبب تنظيم المصروفات المدرسية، فهناك بحث حالات المجانية ونصف المجانية ومن لا يستحق المجانية، وتتفرع من ذلك أعمال كثيرة يقوم بها موظفون ينظرون في أعمار التلاميذ ونسب نجاحهم، وفي إحصاء أبناء المدرسين والصحفيين والضباط وفحص حالاتهم لتبين من يستحق نصف المجانية منهم، وفيمن لديه ولدان ينفق عليهما في إحدى المدارس الثانوية وما يعادها فيعفى بقية أولاده، ومن لديه ولد واحد إذا كان مدرساً وفيمن أخنى عليهم الدهر. . . إلى غير ذلك من التحصيل والرصد وكتابة (الاستمارات) وإعداد الميزانية، مما يخصص له موظفون يتناولون مرتبات ويطالبون بتطبيق (الكادرات).

ولا بد أن كل ذلك يستنفد بعض ثمانمائة ألف الجنيه؛ وما يبقى بعد ذلك، ولنفرض أنه نصف مليون جنيه، يصدع رأس الدولة بالشكاوي، ويشغل وقت الرؤساء والنواب والشيوخ وغيرهم من ذوي الجاه بالوساطات والشفاعات، ويشغل بال المعوزين من آباء التلاميذ ويربك حياتهم ويتحيف مستوى معيشتهم، وقد يحملهم على بذل ماء الوجوه في التوسل والرجاء، ولا يخفى أن الأولاد تنطبع في أذهانهم صور من ذلك تخل بمعيار النظر الصحيح إلى الأمور.

نصف مليون جنيه. . . استغنوا عنه وضموه إلى الواحد والعشرين. وأريحوا أنفسكم أريحوا الناس. . .

ص: 43

عباس خضر

ص: 44

‌الكتب

على هامش كتابين:

1 -

مع الناس

تأليف الأستاذ محمد علي الحوماني

الأستاذ الحوماني أديب لبناني جمع إلى أدبه الفياض وشعره الرصين وحديثه الطلي، سرعة الخاطر ودقة التعبير وسلامة الأسلوب، وهو عربي يعتز بعروبته ووطنيته. بدأ حياته مجاهداً ضد الاستعمار الفرنسي - وهو ما يزال في مقتبل العمر وفي فجر الحياة، غض الإهاب لين العود - فأحيل إلى المجلس التأديبي، ولكنه لم يستخذ ولم يستسلم، ففر إلى شرق الأردن حيث أخرج ديوان الحوماني (سنة 1926)، وديوان نقد السائس والمسوس (سنة 1928).

ومنذ ذلك الحين اضطربت به نوازع الحياة ودوافع السياسة، فأخذ يتنقل بين وطنه (الشرق العربي كله) وبين المهجرين الأمريكي والأفريقي. وكان في كل بلد يصل حبله بقادة الرأي وزعماء السياسة وأهل الفكر يبادلهم الحديث ويناقشهم الخاطرة، وتفجر الحديث - في هذه المجالس - فنوناً، وتفتق عن أبحاث قيمة ناضجة في الأدب والعالم السياسة والاجتماع والفن. فهو - من ناحية - يتحدث عن الموسيقى حديثاً عبقرياً فيقول:(الموسيقى هي واحد من هذه الأشياء التي لا تستطيع التعبير عنها بأكثر من أنها لغة تخاطب الروح مباشرة دون ما رمز من إشارة أو تصوير. أما الموسيقى، الموسيقى العبقرية، فإن الروح تتناولها من يد العازف على رنة الوتر دون ما جهد أو إعنات، وتعليل هذه الهزة الروحية التي يتأثر بها السامع وهو يصغي إلى توقيع الفنان يكاد يعجز بيان الفكر الحاذق). وهو - من ناحية أخرى - يتحدث عن الدين: (فالعروبة في أي زمن تستهدف للزوال إذا لم يعضدها الدين. . .).

هذه المجالس، وهذه الأحاديث، عمل صحفي جليل لا عجب إن قام به المؤلف، وهو صاحب مجلة (العروبة) اللبنانية. ولقد ضمنها كتاب (مع الناس)، وهو كتاب فيه ألف فكرة لألف رجل، وللمؤلف فكرة واحدة هي إيمانه بقول سيد العرب (ص): (لا يصلح آخر هذه

ص: 45

الأمة إلا بما صلح به أولها). وهو دائرة معارف عربية يستطيع المرء أن يرى من خلالها العقل العربي وهو يضطرم في الشرق والغرب معاً، وأن يعيش حيناً بين أهل الرأي وسادة الفكر من العرب يحس نبضات قلوبهم وخلجات أفكارهم ونوازع أنفسهم، فيلمس - من قريب - آراءهم وخواطرهم، ويشرف على آمالهم وأمانيهم.

وإن القارئ ليجد خواطر المؤلف منبثة بين أضعاف الكتاب في سطور متناثرة هنا وهنالك، يستطيع الأديب المدقق أن يضم أشتاتها بعضاً إلى بعض لتصبح مبدأ يقول بأن الأمة توشك أن تنهار إن هي لم تتمسك جهدها بثلاثة أشياء متساندة مترابطة هي: اللغة والأخلاق والدين. فهو يوقن بأن (اللغة قبل كل شيء، لأنها العنصر الذي يقوم به أمجاد الأمة، فعلينا أن نعلم الولد كرامة أمته ومجدها في الكلمات العربية ليقرأها ويشعر أنه يشرف على مجده وعزته القومية من خلال الحروف والكلمات). وهو يؤمن بأن (الثورة التي تقوم في العالم على أساس الأخلاق، إنما تمهد للإنسانية فتنمو وتصعد إلى مستوى الملكوت. أما الثورة من أجل السياسة، أو العصبية للعنصر أو الوطن، فإنما هي مدعاة للتناحر لا تنفك تفتك في البشرية حتى تصب بها إلى العهد الذي نحن فيه: علم يصعد إلى السماء لينحل قنابل تتفجر أو مدافع تدمر فتعود بنا إلى دور الوحشية الذي تمسنا الحاجة فيه إلى أمثال موسى وعيسى ومحمد. . .) وهو يعتقد بأن (التعصب للدين ليس عقبة تصدم الإنسان في نهوضه إلى الحياة الحرة كما يتوهم من لا يفقه الدين، فإنا نرى اليهود في العالم كله يتعصبون لدينهم، ونراهم محسودين من جميع العالم، والعالم مسخر لهم، وهم بضعة عشر مليوناً. فلو تعصب المسلمون لدينهم تعصب اليهود - ودينهم مدني فوق كل دين - لكانوا المثل الأعلى على هذه الأرض. . .)

وهكذا يرى المؤلف أن اللغة والأخلاق والدين هي العمد الثابتة المتينة التي يجب أن تكون أساساً لرقي الأمة وسموها. . . وحبذا لو أخذنا بهذا الرأي، حبذا. . .

وإن الكاتب ليحس صعوبة شديدة في الكتابة عن هذا السفر لما فيه من آراء متفرقة وأبحاث متشعبة، بقدر ما يلمس القارئ في قراءته من لذة ومتعة. وإني لا أجد ما اقدم به هذا الكتاب إلى قراء العربية سوى أن أقول: إنه دائرة معارف تسمو بقيمتها وروائها.

2 -

اصطلاحات عربية لفن التصوير

ص: 46

تأليف الدكتور بشر فارس

هذا (مبحث ألقي في المجمع العلمي المصري في جلسة علنية في السابع عشر من شهر مايو سنة 1948). وهو معجم يحتوي على اصطلاحات فرنسية في فن التصوير عدتها تسعة وثلاثون ومائة جمعها الدكتور بشر ورتبها على حروف المعجم الإفرنجي وترجمها هو، فصارت مرجعاً فيماً للباحث والكاتب والقارئ، ثم أخذ يوضح مدلولات الألفاظ العربية المقابلة للتعبير الفرنسي (وقصر الكلام هنا على الكلمات التي هي من ثمرة بحثه وعدتها خمس ومائة).

وخشي المؤلف أن يعثر المطلع في معجمه على لفظة خشنة، أو اصطلاح جاف، فاستدرك يقول:(وتراني في أثناء النقل أتقرب ما استطعت من اللغة الجارية عندنا لهذا الزمن، متلفتاً إليها، أو مستشهداً، خشية أن تتسع الفجوة بين الذوق السائد واللفظ المستنبط فيموت وليداً).

ولقد كتب الدكتور بشر تصديراً لهذا البحث جاء فيه: (على أن أحداً لا يشك في أن لغتنا الكريمة وإن زخرت بالألفاظ وعلت بالتعبيرات لتقصر اليوم عن الأداء الإفرنجي في صنوف الفنون والصناعات. وكأني بك ترى اضطراباً واختلافاً في أكثر ما يقع عليه بصرك. لذلك بدا لي أن أهيأ طائفة من الاصطلاحات الدائرة في باب التصوير وما يجري مجراه، عسى أن تستقيم أداة التأليف، وتندفع آلة النقل. . .).

هذا هو رأي الدكتور في اللغة العربية، فهو يراها قاصرة عن الأداء الإفرنجي في صنوف الفنون والصناعات. وأنا لا أوافقه في ما ذهب إليه، فإن لغتنا الكريمة لم تضق يوماً بعلوم اليونان حين بدأت النهضة العلمية الإسلامية، وحين ازدادت نشاطاً وقوة في العصر العباسي، فراح العرب - إذ ذاك - ينقلون علوم الفلسفة والطب والفلك والرياضيات، فنقلوا - في سنوات - مئات من أمهات الكتب في الفنون المختلفة. ولم تعجز عن أن تقتحم باب العلوم الرياضية حين نقل (محمد بن موسى الخوارزمي) أرقام الحساب عن الهنود وأدخلها في العربية، وحين وضع (الصفر الحسابي) فحل بذلك أكبر معضلة رياضية في العالم، وحين وضع جداول اللوغارتيمات وهي ما تزال تحمل اسمه حتى اليوم فهو يعرف عند

ص: 47

الفرنجة باسم ولم تقصر عن أبحاث الميكانيكا والإيدروستاتسكا بين يدي (أبي الريحان البيروني) حين وضع كتابه (الآثار الباقية). ولم تضعف أمام أبحاث (الحسن بن الهيثم) في الضغط الجوي - وهو قد سبق في ذلك البحث تورشيللي بخمسة قرون أو أكثر - ولا في البصريات. وإن أبحاث ابن الهيثم التي استغرقت نيفاً وستين كتاباً كلها في العلوم التعليمية (الطبيعية) ما تزال مرجعاً يهتدي بنوره علماء الغرب للآن.

هذه اللغة التي وسعت كل هذه الأبحاث، وهي أسس النهضة العلمية في أوربا، ووسعت غيرها مما يضيق عن سرده هذا المقام، لا أخالها تقصر عن الأداء الإفرنجي في صنوف والصناعات.

على أنني ما زلت أعجب أن يقول الدكتور بشر بذلك وهو نفسه قد استعان باللغة العربية - في معجمه - في التعبير عن الألفاظ اللاتينية المقابلة. ولو أنها عجزت عن هذا الأداء لما أمدته بهذه المصطلحات.

ومهما يكن من خلاف بين رأي المؤلف ورأيي فإنه لا يسعني إلا لأن أعترف بأنه قد بذل جهداً عظيماً مشكوراً في تصنيف هذا المعجم.

كامل محمود حبيب

ص: 48

‌البريد الأدبي

حوله (مآخذ أربعة):

تفضل الأديب الطلعة سامي حسن حبشي - في العدد 819 من الرسالة الغراء - فشمل قصيدتي (شهرزاد) بثنائه الكريم ونقده الرفيق: ورأى في القصيدة مآخذ أربعة أخذها علي. وردى عليه كما يلي:

1 -

ذهب الأخ الناقد في تفسيره لكلمة (مغنى) الواردة في البيت التالي:

(كأُسِك الفنُّ

ومغناك أغاريدُ العصفوِر)

مذاهب، خرج منها بأنه لا وجه لاستعمالي هذه الكلمة في هذا المقام. أما أنا فأقول بأن كلمة (مغنى) - كما وردت في البيت - إنما قصدت بها المنزل: وليس المنزل مجرداً عرياناً، (أو الموضع الذي كان به أهلوه)، ولكنه المنزل الذي تدل عليه كلمة مغنى نفسها. وأظن أن الأديب الفاضل معي ومع المرحوم أمير البيان الأرسلاني حينما وجه هذه الكلمة - مغنى - توجيهاً خاصاً خرج من إلى أنها (منزل الأنس والطرب والهناء والسمر. أو هي باختصار نزل السامر). وعلى هذا يكون المعنى الذي رميتُ إليه: إن معناها - وهو موطن سمر شهرزاد وأنسها - أصبح أغرودة من أغاريد العصور، تلهم الشعراء والكتاب. إذ لا وجه للقول مطلقاً بأن معنى شهرزاد (بمعنى غناء) قد اصبح غناء العصور. . . إذ يرك المعنى ويسفّ جداً: فما كانت شهرزاد تغني أصلاً: وليس غناؤك هو الذي يدوي في أجواء العصور، وإنما الذي دوي هو سامرها وأصداء ذاك السامر!.

وكنت أرجو من أخي الناقد عدم الاتكاء على الزجال السيد بيرم التونسي؛ فهو الذي يغرف منا ومن مفاهيمنا.

2 -

واعترض الناقد الفاضل على البيت التالي:

(ونداماك عشيق فاترُ اللحظ الكسير)، بقوله: كان الصواب أن يقول: ونديمك عشيق؛ أي أن يأتي بالمفرد دون الجمع!

وواضح هنا شيء من الإبهام لدى الأخ الناقد؛ لأنني عنيت تماماً اتجاهي حينما قلتُ: (ونداماك عشيق. . .): لأن الأبيات السابقة توضح هذا الاتجاه، إذ قلت:

ولياليكِ غرامٌ

بين أحضان الدُّهوِر

ص: 49

كأُسكِ الفنُ

ومغناِك أغاريدُ العصفورِ

ونداماِك عشيقٌ

فاترُ اللحظ الكسير. .)

فتلك الليالي، وتلك الكأس، وذاك السامر، بحاجة إلى ندامي لا إلى نديم. وقد جُمع أولئك الندامي فكانوا ذاك العشق (شهريار) الفاتر اللحظ الكسير! وواضح أن اللغة تقرني على ما ذهبت إليه، تأويلاً ودوت تأويل أيضاً.

3 -

وأخذ علي حضرة الأخ الناقد قولي: (ورواء الدهر فأستلقاه خفاقي وثارا) ذهاباً منه إلى أن (أستلقي) إنما هي من (أستلقي على قفاه) - ولا معنى لها هنا) وأنا معه حقاً إن كانت استلقي بالمعنى الذي ذهب إليه. ولكن اللغة وحدها هي التي تقول بأن الاستفتاح بالسين والتاء إنما للدلالة على الطلب، قياساً على قولنا (رضي واسترضى، بكي واستبكى، غني واستغنى) ومن هذه الزاوية القياسية الصحيحة يتضح أنني كنت على صواب في هذا الاستعمال.

4 -

أما المأخذ الأخير حول (السماء حيرى) فوجهة نظري أن كلٌّ جمع مؤنث، فعاملت الجمع معاملة الفرد والمؤنث.

وإنني في الختام أشكر للأخ الغالي هذه الفرصة التي جمعتني وإياه لتعارف على صفحات (الرسالة) الأم؛ وأنعم به من تعارف وأعظم بها من رسالة تؤديها (الرسالة).

دمشق

زهير مبرزا

سرقة قصة:

لم يستنكف الأستاذ عبد الله عبد الصمد البشير من أن ينقل قصة أمريكية مشهورة لكاتب أمريكي مشهور ثم يدعي أن الله قد وهبه مقدرة على كتابة القصة القصيرة. فلا يشير إلى كاتبها بكلمة واحدة بل وينشر القصة في مجلة الدنيا الجديدة عدد مارس الذي صدر أخيراً تحت عنوان (صانع السم).

أما القصة الأمريكية فهي راشيل وأما كاتبها فهو الكاتب الأمريكي ارسكين كالدويل وقد ظهرت هذه القصة في مجموعة من القصص الأمريكية القصيرة تحت عنوان ونشرت

ص: 50

في كتاب رقمه 112 من سلسلة بنحوين وطبعت بالقاهرة إبان الحرب الماضية.

ولو أننا قرأنا راشيل وهي القصة الأمريكية لوجدنا مثالا رائعاً للقصة القصيرة تدل على أن هناك من الكتاب من يستطيع أن يخرج قصة قصيرة محبوكة مستوفية للشروط الفنية للقصة.

لقد استبدل الأستاذ عبد الله عبد الصمد البشير باسم راشيل في القصة الأمريكية سميحة في قصته المصرية، ثم أختصر القصة الأمريكية. فقصته ترجمة مختصرة للقصة الأمريكية. ولا يخفى هذا على قارئ القصة الأمريكية إذ أن النهاية والبداية في القصتين بل والأفكار فيها واحدة رغم الاختصار في القصة التي زعم المفضال عبد الله عبد الصمد البشير أنه كتبها.

لا ينبغي أن يمغط حق المؤلف فلا يذكر بينما يذكر اسم المترجم. إن حق الترجمة للمجلات والصحف معروف الأهمية، ولكن يجب عند تمصير القصة أو المقال أن تكتب كلمة للتعريف بمن كتبها قبل أن يعرف من مصرها.

شفيق أحمد عبد القادر

جامعة فؤاد الأول

الشهر والأشهار:

نشرت (الأهرام) الغراء كلمة تحت هذا العنوان جاء فيها: لا مانع من استعمال الفعلين (شهر) و (أشهر) على حد سواء استناداً لما ورد في (المنجد) وهو أشهر الأمر أظهره وصيره شهيراً اهـ

وأقول: لم يرد في المعاجم القديمة أشهره متعدياً أصلا، وإنما ورد فيها أشتهر بمعنى شهره.

وأخشى أن يقال: جاء في مستدرك شرح القاموس: ومن المجاز أشهرت فلاناً استخففت به وفضحته وجعلته شهرة. اهـ فأن هذا النص منقول عن أساس البلاغة، ونص عبارته كما جاء في طبيعته: ومن المجاز أشتهر فلاناً. . . الخ

ولكن جاء في (المغرب) للمطرزي من علماء القرن السادس أو السابع الهجري (538 - 161) ما نصه: واشهره بمعنى شهره غير ثبت اه. وقوله: غير ثبت أي ليس بحجة. وجاء

ص: 51

في المصباح للفيومي من علماء القرن الثامن الهجري: وأما أشهر بالألف فغير منقول اه. ونقل صاحب المعيار هذا النص بدون تعليق. وهذا يدل على أن أشهره كان مستعملاً بمعنى شهره الثلاثي ولكنه مشكوك فيه. ولعلنا نظفر به في المخطوطات اللغوية القديمة فإن هذا الاستعمال المتواتر قد يكون موروثاً عن العرب.

علي حسن هلالي

بالمجمع اللغوي

ص: 52

‌الكهلان

للكاتب الفرنسي الفونس دودبه

- هل هذا كتاب أيها الأب أزان؟

- نعم يا سيدي. أنه آتٍ من باريس.

كان الشيخ الوقور ينظر إلى كل ما هو قادم من باريس في رهبة وإعجاب، ولذلك سلم لي الرسالة بعناية واحترام.

ولما كنت رجلاً لا أسير وراء الخيال، ولا أبالي بسحر العاصمة، فقد ألقيت نظرة على الرسالة القادمة في الصباح المبكر وكأنها نذير بحلول زائر سأبتلي بمقدمة هذا اليوم. ولكني كنت مخطئاً، فقد كانت الرسالة تتضمن الآتي:

(عزيزي دودية - يجب أن تغلق الطاحونة اليوم وتذهب في مهمة لأجلي إلى إيجوير. إنها على بعد عشرة أميال ليس إلا من الطاحونة، نزهة صباحية لشباب مثلك (ولم يذكر نزهة أوبتي!) وعندما تصل، اسأل عن ملجأ الأيتام، فبجواره تقع دار صغيرة ذات نوافذ رمادية، وحديقة خلفية. وستجد الباب دائماً مفتوحاً، فادلف إلى الدار دون أن تطرقه. ثم صح بأعلى صوتك) صباحاً طيباً يا أصدقائي، إني صديق موريس (وعندئذ ستشاهد عجوزين، من الحفريات، قبل عهد الطوفان، غارقين في مقعدين أكثر قدما منهما فعانقهما لأجلي كما لو كانا من أجدادك الطيبين. ثم تحدث معهما فسرعان ما يشتركان معك في حديث واحد لا ينتهي - حديث موضوعه موريس. ولن يكلا مطلقاً من تقريظ كمال منقطع النظير لذلك الأنموذج الكامل الفريد الذي لم يكن ولن يكون. وأرجو ألا تتخلى عني، ولا تتردد في الإجابة عن أسئلتهما. اضحك كما تشاء! ولكنهما جداي، رفيقاي في حياتي الطويلة إلى عشر سنوات مضت. نعم، إنها عشر سنوات منذ أن رحلت عنهما قاصداً باريس.

(إن هذين الثرين الواهنين قد يتناثران في الطريق إذا حاولا القيام برحلة إلى هنا. فأرجو يا صديقي الطحان المحترم أن تقوم بواجبات البنوة بدلاً مني وتقبلهما. لقد انتهيت من رسم صورة لك بالحجم الطبيعي عندهم، ولونت فيها ملامحك باللون الوردي. . .) وسارت الرسالة على هذا النمط حتى نهايتها.

وهكذا شاء حظي العاثر ألا أستمتع بهذا اليوم الفريد، فأظل بالدار غارقاً في بحاراً أحلامي

ص: 53

في ركن تغمره الظلال. وها أنذا مرغم على الابتعاد عشرة أميال، سائر تحت وهج الشمس ومثار الغبار يؤذي عيني. ولكن، كل شيء يهون في سبيل الصديق، وأغلقت الباب، وأدرت المفتاح، ومضيت ومعي متبغي وعصاي.

وصلت إلى إيجوير قبيل الساعة الثانية. كانت القرية تكاد تكون خاوية، كان أهلها يعملون إذ ذاك في الحقول. ولم أجد هناك بالطبع ألا أتانا تتمتع بضوء الشمس، وحماماً يحوم حول نافورة الكنيسة، وجنادب - أكثر نشاطاً من زميلاتها في أوران - تتعالى أصواتها حول شجرة الدردار الأخضر، وقد اغبرت أجسامها ، وهكذا أم أشاهد مخلوقاً يرشدني إلى ملجأ الأيتام. وفجأة لاحت (جنية) طيبة لنجدتي. فقد لمحت عجوزاً هزيلة منطوية على نفسها في مدخل. فسألتها عن الطريق فأشارت بإصبع متخاذلة. وبدا لي الملجأ كأنما ظهر بفعل عصا سحرية. كان بناء شامخاً قديماً قابضاً، يعلوه صليب من الآجر، وقد نقشت على مدخله كتابة لاتينية، وقامت بجواره دار صغيرة، ذات نوافذ رمادية وحديقة خلفية. كانت مقصدي، فدلفت إليها دون أن أقرع بها.

إن مشهد تلك الدار قد نقشت في ذاكرتي إلى الأبد: تلك النظافة التامة، وذلك الهدوء الشامل في الردهة الطويلة، والجدران الوردية، والحديقة بأزهارها تتمايل مع النسيم، وقد بدت خلال النوافذ ذات الألوان الزاهية، وصفائح الجدران المزدانة بصور الزهر، وقد حالت من القدم. وخيل إلى كأني في دار أحد أشراف سيدان. وسمعت خلال باب منفرج نضف انفراجه دقة ساعة، وصوت طفل يقرأ في صوت جهوري، كلمة كلمة، ومقطعاً مقطعاً (ثم - أنا - القديسة - أيربنية - صحت - أنا - دقيق - الإله - ويجب - أن - أطحن - وأنثر - بأنياب - تلك - الوحوش. . .) واقتربت وأنا أمشي على أطراف قدمي وتطلعت.

شاهدت في غلالة من ضوء النهار الساكن، كهلا منفرج الفم، واضعاً يديه على ركبتيه، ومستغرقاً في سبات عميق على مقعد. كانت وجنتاه موردتين، وجلده مجعداً حتى أطراف أصابعه. وجلست تحت قدميه فتاة صغيرة، ترتدي (شالا) طويلا ارزق اللون، وقلنسوة صغيرة زرقاء - لباس الأيتام. وكانت هي التي تقرأ سيرة القدسية إيرنيه من كتاب يكاد يقارب حجمها. وكانت القراءة العجيبة تفعل فعل المخدر في الحجرة الساكتة. فقد كان كل من الكهل في مقعده، والذباب في السقف، والكناري في القفص، في سبات عميق. ولم يعكر

ص: 54

صفو الحجرة سوى دقات ساعة الجد، وقد تدفقت أشعة الشمس خلال النافذة بذراتها الكثيرة المتراقصة. وكانت الطفلة لا تزال تقرأ وسط ذلك النعاس الشامل (وسرعان - ما - اندفع - أسدان - صوبها - وافترساها. . .) ودلفت إلى الحجرة عند هذه المرحلة الخطيرة!

كان من الجلي أن الأسدين الضاربين لم يحدثا أدنى اضطراب لأهل الدار. ولكن، عندما لمحتني الفتاة ذات الرداء الزرق، أسقطت الكتاب وقد ندت عنها صرخة رعب. واستيقظ الكناري والذباب، ودقت الساعة، وقفز الكهل في فزع وذهول. ووقفت بالمدخل حائراً، ولكني تدرعت بالشجاعة وصحت قائلاً (عم صباحاً يا صديقي! أنا صديق موريس).

وفعل موريس فعل الطلسم. هرول الكهل صوبي مفتوح الذراعين، وعصر يدي، ثم جعل يجول في الحجرة ويصيح في ذهول (يا ألهي! يا ألهيَ!).

وأشرقت كل تجعداته، وتحول وجهه قرمزيا من الحماس. ثم تمتم قائلا (أواه يا سيدي! أواه يا سيدي!).

ثم هرول صوب الباب يصيح قائلا - هلم يا (ماماه)، أسرعي يا (ماماه). وفتح باب في الردهة، وسمعت صوت حركة، ثم دلفت (ماماه).

ما أرقه مشهداً عاطفاً مثيراً! كانت السيدة العجوز ترتدي وشاحاً ورداء كرملياً باهتاً، وتحمل في يدها منديلاً مطرزاً. وما اشد الشبه بينهما وياله من شبه عجيب! أن أقل تبديل في الملبس، من قلنسوة أو ما شابه ذلك، وإذا بك تحسب الجد جدة. فلم تكن تختلف عنه إلا في كثرة تجاعيدها. وكانت لهما فتاتان صغيرتان من الأيتام ترعيانهما - الكهولة ترعاها الطفولة! وانحنت الجدة انحناءة منخفضة، كما كان يحدث في عهد الفروسية ولكن لم يطلق الكهل صبراً لذلك، فقطع الاحتفال القصير قائلاً - (ماماه) هذا صديق موريس.

وارتجفت السيدة وكأنها ورقة من شجر الحور، وسال الدمع على وجنتيها، وسقط منديلها، واحمر وجهها أكثر احمراراً من وجه الجد. ومع أن الكهلين لا يحملان في عروقهما سوى قطرة واحدة من الدم، فقد كان أقل انفعال يؤثر عليهما يكسي وجهيهما بقناع قرمزي. وقالت السيدة للفتاة الزرقاء - أسرعي! مقعداً للزائر. وقال الكهل لفتاته - افتحي النوافذ.

ثم أخذ كلاهما بذراعي وسارا في خطى قصيرة إلى النافذة حتى يتفحصا الزائر، واستحضرت المقاعد وإذا بي جالس بينهما، وقد وقفت الطفلتان خلفهما. وأخذت الأسئلة

ص: 55

تترى علي: كيف حاله؟ كيف يقضي وقته؟ لماذا لم يأت لمشاهدتنا؟ هل هو سعيد؟ وهكذا انهالت أسئلتهما قرابة الساعة.

وتحملت ذلك في جلد، وأخبرتهما بكل ما أعرفه، بل اختلقت، بل حتى جاملت. وقلت - ما أرق لون غلاف الحائط يا سيدتي! إنه لا زوردي جميل، مزدان بأفنان الورود.

فقالت - حقاً؟ ثم أضافت وهي تلتفت إلى (باباه) - أليس هو شاباً وسيماً؟ فقال - أجل، أجل. شاب وسيم!

وشاهدت أثناء محنتي، إيماءات من الرأسين المشتعلين شيبا، واشراقات على الوجهين المجعدين، وضحكات صبيانية جزلة ونظرات متبادلة. ثم التفت إلى الكهل قائلا - ارفع صوتك. أنها لا تكاد تسمع. وأخذت (ماما) بثأرها فقالت - أرفع صوتك. إن سمعه ثقيل.

وأطعت، فابتسما ابتسامة شكر، وظلا يبتسمان وهما يسبران غور عيني، ويبحثان فيهما عن شبيه لولدهما. ونظرت في أعينهما، فشاهدت في حلكتها كأنما بدا خلال الضباب المخيم عليها وجه صديق يبتسم. وفجأة صاح الرجل في عجب وهو يهب من مقعده - (ماماه) أتحلمين؟! لعله لم يتناول غداءه بعد.

وخشيت أن تكون أفكارها قد انتقلت بها إلى موريس، فسارعت أؤكد لها أن الصبي العزيز لا يتناول غداءه متأخراً.

وقال الرجل - إني أعني صديق موريس.

فقالت - أوه، عفواً يا سيدي، عفواً كثيراً.

كان جوعي قد زادت حدته، ولذلك لم أراوغ.

وقالت للطفلتين - أسرعا أيتها الصغيرتان الزرقاوان، وضعا غطاء يوم الأحد وسط المائدة واستحضرا أفخر الأواني المنمقة بالزهور. أسرعا، لا تضحكا كالإوز الأبله، هيا.

وفي لمح البصر كان الطعام معداً. وقالت الجدة وهي تقودني إلى المائدة - هذه وجبة بسيطة وأرجو المعذرة لعدم اشتراكنا معك. فقد تناولنا طعام الغداء قبل الظهر.

لقد كان الكهلان كلما حل عليهما ضيف يقولان دائماً أنهما تناولا طعام الغداء قبل الظهر!.

كان الغداء يكونا من قطعتين من بياض البيض، وبعض التمر، وقطعة من الحلوى تدعى (الباركت) تكفي لأن تطعم الجدة وكناريها مدة أسبوع. واتجهت إلي الأنظار أثناء تناولي

ص: 56

الطعام. كانت الصغيرتان الزرقاوان تتخافتان، والكناري يغرد قائلاً - أوه، انظروا إلى النهم الشره الكبير، أنه يلتهم كل (الباركت).

كان ذلك النهم الشره الكبير - في الواقع قد ألتهم كل ما على المائدة من طعام دون أن يشعر بذلك. فقد كنت غارقاً في تأمل الحجرة الهادئة المشرقة، وما يفوح منها من أريج الذكريات.

ووقعت عيناي على فراشين صغيرين، يكادان يشبهان المهد. وتخيلتهما عند الفجر، وما زالت ستائرهما المزركشة الحواشي منسدلة، والساعة تدق ثلاثاً، وقت استيقاظ الكهلين. وسمعتهما يتبادلان الحديث:

- أنائمة أنت يا (ماماه)؟

- كلا يا عزيزي.

- أليس موريس شاباً وسيما؟

- أجل، أنه شاب وسيم، وسيم.

نعم كان مدار حديثهما كله عن موريس. لاشيء غير موريس. من الصباح المبكر إلى المساء الندي!

وبينما كنت غارقاً في تأملاتي، إذ بمأساة تجري فصولها في طرف الحجرة. كان الكهل واقفاً على مقعد، يجاهد جهاد الأبطال ليصل إلى قارورة من الشراب المحفوظ، قائمة على قمة الضوان، لم تمسها يد منذ عشر سنوات، بل ظلت تنتظر عودة موريس. وأخذت زوجه تثنيه عن القيام بهذه المحاولة، ولكن الجد كان قد وطد العزم على الحصول عليها وفتحها تكريماً لضيفه. وكان يجاهد بكل عصب من أعصابه، وعضلة من عضلاته، والصغيران ممسكان بالمقعد، والسيدة الكهلة تنتظر في خوف ورعدة وقد ترددت أنفاسها، وذراعاها ممتدتان لتنقذ البطل عند الضرورة، وأخيراً، وبعد مجهود فائق، نال الكهل مكافأته، ودفع بالقارورة إلى الجدة وقد أشرق وجهها. وهبت رائحة البرغموت الشذية من الملبوسات داخل الضوان.

واستحضروا قدح موريس الفضي وامتلأ بالشراب حتى حافته. نعم، كان موريس يعشق هذا الشراب. وهمس الجد وهو يناولني القدح وقد سال لعابه في تلذذ ابيقوري - أنت

ص: 57

مجدود، فإنك لا تحصل على مثل هذا الشراب في الطاحونة إن جدته تحفظه له. ومها كانت الجدة خبيرة في حفظ الشراب، فإنها فشلت هذه المرة، فقد نسيت أن تحليه بالسكر. على أية حال، يجب أن نتغاضى عن شرود ذهن الكهول. ووقفت لهذه المناسبة، وصررت على أسناني، ثم جرعت الشراب دون أن تطرف عيني. وهمست في انفراد بيني وبين نفسي - سيدتي أن شرابك فظيع!

وعندما قمت أستأذن في الانصراف، ألح علي الكهلان أن أستمر في سرد حقيقة قصة ذلك المثال الكامل، ولكن الوقت كان قد أزف للرحيل بعد أن خبا الضوء، لا سيما وأن الطاحونة (على بعد عشرة أميال ليس إلا!).

وهب الكهل واقفاً وهو يقول - معطفي يا (ماماه) من فضلك. يجب أن أرافقه إلى ما بعد الميدان.

وأشارت (ماماه) إلى برودة نسيم الليل، ولكنها لم تثبط نزوة الكهل. وبينما كانت تساعده على ارتداء معطفه الأسباني المزين بالأزرار الصدفية، وقد انتشرت عليه بقع السعوط، إذ قالت له - والآن يا عزيزي، عدني وعداً مخلصاً، إلا تتأخر طويلا

فأجاب الكهل، منتصراً، في لهجة تدل على أنه لن يأتي الدار قبل الصباح - نعم! كلا! ربما أتأخر، وربما لا أتأخر - لا أعرف! ولا أبالي! - لا تنتظري يا عزيزتي، فمعي المفتاح.

ونظر كل منهما في عيني الآخر، ثم انفجرا ضاحكين حتى سالت دموعهما. وضحكت معهما الصغيرتان الزرقاوان. وشاركهم الكناري يغرد مع مرحهم. وإني أعتقد بيني وبينكم - أن الشراب قد أخذ برأسيهما وجعلها في نشوة.

كان الظلام يخيم رويداً رويداً، عندما غادرت الدار يرافقني الجد. وكان الرجل يسير في زهو واعتداد في ذلك المساء خلال القرية، وقد أشتبك ذراعه بذراع صديق موريس. فكيف يشعر بحارسته الصغيرة الزرقاء وهي تتبعه عن بعد حتى تعود به إلى داره؟ وكانت الجدة واقفة على مدخل الدار تراقبنا، وقد أسرق وجهها، وهي تقول - أترى؟ أن رجلي لا يزال قادراً على المشي!

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 58

، أنو

ص: 59