المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 823 - بتاريخ: 11 - 04 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 823

- بتاريخ: 11 - 04 - 1949

ص: -1

‌أيها المنطق. . . لقد خبرناك!

أذاعت شركة روتر للأنباء الشرقية منذ أيام نبأ خطيراً اهتزت له قلوب هنا وقلوب هناك، وبعض الاهتزاز يثيره العجب حيناً ويثيره الإعجاب حيناً آخر. . . العجب من تناقض الأقوال والأفعال، والإعجاب بهذه القدرة القادرة على التحول من الشمال إلى اليمين ومن اليمين إلى الشمال. ولا بأس من التحول والتناقض ما دام منطق التبرير يفسر التناقض على ضوء المصلحة الفردية، ويصور التحول على هدى التلاعب بالألفاظ والعبارات!

وإليك هذا النبأ الخطير: (كانت بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي رفضت اليوم أن تؤيد مساعدة مؤسسة اللاجئين للمهاجرين اليهود إلى إسرائيل، قبل أن يتفق على حل لمشكلة اللاجئين للمهاجرين العرب. أما الأعضاء الخمسة عشر في المجلس العام لهذه المؤسسة، فقد أعطوا أصواتهم في صالح مساعدة هؤلاء المهاجرين بمبلغ تسعة ملايين دولار، تصرف لهم خلال السنة التي تنتهي في يونيو المقبل. وقد قال مستر إدموند مندوب بريطانيا في المجلس: إن من غير اللائق إطلاقاً أن تمنح هذه المؤسسة مساعدات لهجرة اليهود إلى فلسطين، في الوقت الذي تبقى فيه مشكلة اللاجئين العرب معلقة بدون حل)!

وهكذا تجد أن بريطانيا تقف دائماً في صف العرب. . . تقف باللفظ المنمق والقول الملفق والشعور المصنوع! لقد وقفت وحدها لترفع الصوت عالياً ينقل إلى أقطار العروبة عطفها البالغ على مشكلة اللاجئين العرب؛ هذا العطف الذي يتمثل في قبض يدها عن مساعدة مؤسسة اللاجئين الدولية للمهاجرين اليهود! إنك تستطيع أن تقف طويلاً لتزن كلمات المندوب البريطاني بميزان القيمة اللفظية التي ترتكز على دعائمها كل نتيجة عملية. . . تستطيع أن تقف عند هذا التعبير الذي يمكن أن يبرز بوادر الانحراف في الغد القريب، وهو أن بريطانيا ترى (من غير اللائق) إطلاقاً أن تؤيد مؤسسة المهاجرين اليهود قبل الاتفاق على حل لمشكلة اللاجئين العرب! إننا واثقون على أن بريطانيا لا تعني ما تقول، وأنها ستؤيد غداً ما تنكرت له اليوم، وأنها ستمد لليهود يد العون كما مدتها لهم من قبل، ولا اعتراض بعد ذلك ولا عتاب. . . وأي اعتراض هذا الذي يمكن أن يوجه إلى المنطق البريطاني حين يواجه القضايا الدولية بأمثال تلك الكلمات التي تنساب من كفتي الميزان كما تنساب قطرات الزئبق دون أن تلحظها عيون؟! إن المنطق البريطاني يعد لكل موقف يحتمل التحول ما يلائمه من صيغ وعبارات. ولن تجد في قاموس البلاغة الدبلوماسية

ص: 1

أعمق ولا أبرع ولا أروع من هذا التعبير: (إن من غير اللائق) أن يحدث هذا الأمر؛ و (إن من غير اللائق) أن يقع ذاك! هذا الوضع لائق، وهذا الوضع لا يليق. . . ولا بأس بهذه التعبيرات الزئبقية التي يطالعنا بها المنطق البريطاني اليوم كما طالعنا بها بالأمس، حين وقف مستر بفين ليعلن على رؤوس الأشهاد في مجلس العموم أن بريطانيا ترى (من غير اللائق) أن تعترف بحكومة إسرائيل، لأن هذه الحكومة لم تتوفر لها الأسباب القانونية التي تبرر قيام دولة مستقرة الجوانب مكتملة الكيان. . . ومع ذلك فقد رأت بريطانيا أن تعترف بحكومة إسرائيل، لأن (من غير اللائق) أن تسبقها أمريكا إلى هذه المكرمة، والعهد بالشرف البريطاني أنه السباق دائماً إلى المكرمات!

أيها المنطق: حنانيك. . . لقد عرفناك، ودرسناك، وخبرناك!

(ا. م)

ص: 2

‌من خصائص الأدب المسرحي

للدكتور محمد القصاص

مما يؤثر عن رتشار فانجر قوله: (إن المسرح في أتم أشكاله هو المكان المقدس الذي تلتقي فيه جميع الفنون وتتزاوج ويذوب بعضها في بعض. وتلك هي فكرة الفن المسرحي كما تصوره كبار التراجيديين الإغريق قبل الميلاد بقرون. والواقع أن المسرح، والمسرح وحده، هو الذي يستطيع أن يقدم للناظر الحد الأعلى من نشاط فني يتضافر فيه الفن المرئي والموسيقى والشعر، بأنصبة متساوية متناسقة، على أن تسحر بصره وسمعه وقلبه في آن واحد. ولكن أيصدق هذا الحكم في عصرنا الحالي على المسرح الغنائي وحده الأيرا البحتة) وهو الذي عناه فاجنر بلا ريب في جملته السالفة الذكر دون أن يصدق على الدرامة الأدبية، الدرامة التي تتكلم لا التي تغني؟ نحن لا نظن ذلك بأية حال لأن كل تأليف مسرحي مهما كان حظه من الروح الأدبي ومن التجريد العقلي لا يمكنه أن يستغني عن مشاركة الفنون الأخرى في تكوينه دون أن يختل توازنه ويفقد مقومات العمل المسرحي الأساسية. إذ لا سبيل له إلى القلب ولا إلى النفس دون العين والأذن. فالتمثيلية لا تفرض على مؤلفها أن يعنى بالكتابة وأن يراعى القيم الأدبية فحسب، هذا العمل الذي يتفق فيه مع كاتب المقالة والقصة والقصيدة، بل لا بد وأن يوجه اهتمامه نحو الموسيقى يصبها في كلماته ونحو الفن الجسماني من صور وحركات يحمل بها عباراته كأنه يرى أبطاله فوق خشبة المسرح. وأما هذا الإدراك السقيم الذي يسيطر على غالبية كتاب التمثيليات عندنا من بين رجال الأدب، فيجعلهم ينظرون إلى التأليف المسرحي على أنه عمل كتابي محض، فهو الذي يضرب على آثارهم بالبوار ويحرم المسرح المصري مشاركة أدباء العربية في الأخذ بيده وترقيته. بل في يقيننا أن هذا الإدراك الخاطئ قد أصاب المسرح المصري بشيء من العقم لما باعد بين الأدباء وبين المسرح.

ذلك أن الأدب المسرحي، إذا سلمنا أنه من فنون الأدب يتميز عما هو عداه بأنه يفيض عما هو مكتوب، فهو وحده من بين سائر الفنون الأدبية - ومعه الخطابة إلى حد ما - الذي يتوفر له وجودان: وجود داخل الكتاب، ووجود خارج الكتاب. وإذا أمكنه أن يستغني عن وجوده في الكتاب فلن يتأتى له أن يستغني عن الوجود خارجه، وإذا أتيح له أن لا يكون

ص: 3

أدبياً فلن يجوز أن لا يكون مسرحياً.

ذلك أن النص ليس كل شيء، وإن كنا لا ننكر أهميته الكبرى، فهو نواة الدرامة والخلية الأم التي لا يمكن الاستعاضة عنها إذا فقدت. لأن الفكر إذا ما تخلى عن النص، أي عن الألفاظ والعبارات، فقد تخلى عن تحديده لنفسه وبالتالي عن وجوده خارج المفكر. وإكثار التفكير عن المسرح أمر مستحيل الوقوع، لأن المسرح إذا باعدنا بينه وبين الفكر فقد فرغناه من لبه ومن مادته الأساسية. وهذا إزراء به وحط من قدره. ولكن هذا لا ينبغي أن ينسينا أن الدراما لها لغتها، وهي غير لغة القصيدة وغير لغة المقالة والقصة؛ لأن آثار الفن الأدبي غير المسرحي إذا لم تجد قارئها المأمول يوم صدورها أمكن لها أن تنتظر قارئاً بعيداً لم يوجد بعد. يساعدها على ذلك أن كاتبها (وهو الذي نسميه الكاتب البحت) في وسعه أن يودعها كل ما في نفسه أو جله على الأقل لا يحده في ذلك من خارج فنه إلا مقتضيات اللغة العامة من نحو وصرف ومفردات وما هو من هذا القبيل. أما الكاتب المسرحي فإنه إذا أخذ نفسه بالنظر إلى الكلمة نظرة الشاعر والقصاص فراح يمد كتابه بالكلمات الرصينة والصيغ الجميلة والتراكيب المتينة المنتعشة بالحياة، دون مراعاة لما تقتضي به ظروف المسرح الخاصة، فإنه يجعل من مسرحياته أعمالاً تصلح لغير القراءة أو الاحتفاظ بها في أحد المتاحف أو المكاتب العامة لأنها في هذه الحال تكون أعمالاً جامدة في حروفها لا تستطيع الخلاص منها: فعلى كاتب التمثيلية إذن أن يحمل كلماته بتلك القوة المسرحية التي تجعل منها كلمات مسرحية ملفوظة وفاعلة.

نعم إن الكلمة تتحكم في كل شيء (الكتاب والمسرح في ذلك سواء)، فهي مندوب القلب والفكر، مندوب النفس جميعها. غير أنها في المسرح يجب أن تمر من فم الإنسان وأن تبعث الحياة والحركة في كائنات إنسانية من لحم ودم؛ يجب أن تفعل لأنها هي التي تعطي الحياة وتملي الحديث. وهي قبل أن تصيب السامع وتحركه يجب أن تصيب وتحرك جهازاً كاملاً معقداً متناثر التركيب: هو المسرح بأسره بما فيه من أشياء مادية وكائنات إنسانية. والكاتب المسرحي وحده دون المخرج والممثل هو الذي يبعث هذه الصفات في كلماته وعباراته، في القطعة التي يكتبها بجميع مقوماتها. والكاتب المسرحي الذي يستحق هذا اللقب لا يعتبر نفسه قد خلق خلقاً مسرحياً إذا ما تناول قلمه ونشر قرطاسه وراح يسجل

ص: 4

عليه حلماً جميلاً من ابتكاره، غير آبه بظروف المسرح الخاصة، حتى لو كان هذا التسجيل آية في الجمال الأدبي والكمال المنطقي معا. ً أجل لا يصح لهذا الكاتب أن يعتبر نفسه أنه قد خلق عملاً مسرحياً إذا ما ألف نين جماعة تتحاب وتتباغض، تعيش وتموت، تبعاً لهواه وإرادته، دون أن يكون هذا الحلم ممكن التحقيق، ممكن (اللعب)، ممكن الظهور في الخارج وفوق خشبة المسرح. لأنه ليس في مقدور المخرج والممثل أن يخلعا على عمله ولغته من الحياة والحركة ومن الصور والأشارات ما لم يستطع هو أن يقوم به، اللهو إلا عن طريق الافتعال الظاهر، وفي هذه الحال يرى المتفرجون أنفسهم أمام قطعتين تمثلان في آن واحد ويقوم بتمثيلهما نفس الأشخاص: إحداهما ملفوظة من خلق الكاتب، والأخرى (ملعوبه) من خلق المخرج والممثل؛ أو بأن يخلقا عمله خلقاً جديداً يختلف اختلافاً جوهرياً عما أراده، وفي هذه الحال من حق كل شخص أن يتساءل لمن تنسب هذه الرواية، أللكاتب أم للمخرج وفرقته؟

نحن لا نعني بذلك أن يعمد المؤلف إلى رسم هذه الحياة في روايته بكل تفاصيلها ودقائقها حتى لا يدع شيئاً لتصرف الممثل ونزواته: فمثل هذه المبالغة تضرب على الدراما بالجمود، فهي في حاجة إلى حياة أخرى لتتفحصها وتبرزها. وإنما نعني أن يقترح على الممثل، من طريق خفي، مجموعة من الإمكانات ليختار من بينها: على الكاتب أن يشير ويبدأ، وعلى الممثل أن ينفذ ويكمل.

وهذا الذي قدمنا يفترض في المؤلف معرفة عميقة بوسائل المسرح الفنية وأن تكون له به حاسة فطرية - ولن يكون كاتباً مسرحياً دون هذه الحاسة. ويا حبذا لو أتممها في نفسه بالممارسة. فمعظم الكتاب المسرحيين الخالدين كانوا يقومون بإخراج وتمثيل ما يكتبون، مثل شكسبير ومليير. ونحن نعلم أن جان ككتو الكاتب الفرنسي المعروف الذي يقيم الآن بيننا مخرج كبير، وقد رأيته بعيني يقوم بتمثيل الدور الرئيسي لإحدى مسرحياته على مسرح الأمبسادير في باريس. ذلك أن الكاتب لا يكتب روايته للقراءة أصلاً، بل للمسرح ولمسرح خاص، ومن أجل الجمهور، جمهور خاص، ولتمثل دون تأجيل فيتحتم عليه أن يكون على معرفة عميقة بهذا المحيط.

قد يقول معترض إن اعتبار الأثر المسرحي على هذا النحو من شأنه أن يقضي على هذا

ص: 5

أن يكون لاحقاً بعصره الذي ألف فيه، رهناً بالظروف التي أحاطت بكتابته، ما دامت حال المسرح في تغير دائم وهذا حق من جهة وباطل من جهة أخرى. حق لأن الكاتب يجب أن يكتب للعصر الذي يعيش فيه وأن يراعي فيما يكتب ظروف المسرح العابرة وتلك الوسائل التي في متناول يده في اللحظة التي يكتب فيها بما فيها من خير وشر، ولذلك فإنه لا يكاد يبقى من عمله للأجيال المقبلة إلا المجهود الأدبي دون العناصر المسرحية التي لا يمكن إدراكها على حقيقتها إلا للذين عاصروا تحقيق الرواية؛ ونحن نعلم أن الأثر الأدبي ليس كل شيء في المسرحية. وباطل من جهة أخرى لأن التأليف المسرحي لا يمكن أن يتخطى جيله إلى الأجيال المقبلة إلا بهذه الشروط التي أسلفنا الكلام عنها. وإذا لم يبق من عمل الكاتب بعد قرن أو أقل أو أكثر من قرن إلا كلمات، فإن هذه الكلمات تكون في تلك الحال جديرة بالاحتفاظ بشيء من هذه الحركة الفعالة الخاصة بالدرامة، فإن كان صاحبها قد كتبها بعيدة عن فكرة التطبيق كان لها جمالها ولا ريب، ولكنه جمال من نوع آخر. أما إذا أحسسنا حياة عميقة تسري في شرايينها فلا شك أن هذه الحياة إنما جاءتها من أن المؤلف قد تصورها متصلة بعصرها الذي كتبت فيه، وكتبها لتحقق وسط الحياة التي عاشت فيها ومن أنها قد حييها بالفعل وفوق المسرح أناس من لحم ودم. لأن الكلمات المكتوبة إذا كانت قد كتبت حقاً لتمر بأصوات أناس ولتتقمص صورهم وتحرك أعضاءهم وتتشكل بأشكالها فلا بد لها من أن تحتفظ بهذه الذكرى. أما إذا كتب المؤلف مسرحيته دون مراعاة لفكرة التحقيق الحالي فقد فقَدَ كيانه، وما عليه إلا أن يفتش له عن مهنة أخرى.

فالكاتب المسرحي تابع لإمكانيات المسرح، تابع لإمكانيات الممثلين، وبعد أن يصفي حسابه مع الأسلوب ومع قوانين الفن المسرحي (من الحركة، وتسلسل الحوادث، والتتابع المنطقي والفن المرئي. . . الخ) يرى لزاماً أن يلجأ إلى صاحب الملابس والمزخرف والكهربائي والميكانيكي والمخرج، ثم بعد كل هذا بل قبل كل هذا إلى الممثل. ولا شك أن فن الكاتب يصاب بأفدح الخسائر إذا كان التناسق بين هذه الوسائل مفقوداً أو كان ما في المؤلف من نقص مما يتيح للمخرج أو الممثل أن يشتغل لحسابه الخاص.

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس

ص: 6

‌أساليب التفكير

التفكير الفلسفي

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

(تتمة لما نشر في العدد الماضي)

الفلسفة والشعر

بل إن أطول الفلاسفة باعاً في ميدان التأمل ليس بمنجاة من شطحات الخيال، ونزوات الشعر، وضغط القصائد المكبوتة - تعصف ببنائهم الفلسفي بين حين وآخر حتى لتكاد من قوتها لدى البعض من تسلكهم في عداد الشعراء المتفلسفين، أو الفلاسفة الشاعرين. فذاك أفلاطون: برغم عبقريته الفلسفية، وتناسق مذهبه، وتكامل آرائه، تعصف به في رحلة الفكر أنواء الخيال، وتهب عليه في جفاف البحث العقلي نسمات شاعرية تتبدى في نظرية المثل وما يورد لها من تشبيهات، كقصة الكهف المشهورة التي ترى الحياة الدنيا أناساً يحيون في كهف مظلم، مقيدين حتى ليقضون العمر مولين ظهورهم لباب الكهف لا يستطيعون حراكاً، وموكب الحياة والأحياء ماض في سبيله أمام باب الكهف لا يرون منه غير أشباح وأخيلة ترسلها شمس قوية من خارج جدار الكهف. فهم لطول العهد بتلك الأشباح ولحرمانهم من معرفة الأصول التي تنبعث عنها يظنون لجهلهم ومحدود أفكارهم أنها الحقائق. كذلك شأننا في الحياة الدنيا، طال مقامنا فيها، وكبلتنا أغلال الحس وسلاسل البدن، فتوهمنا الكائنات المادية حقائق واقية، في حين أنها صور زائلة لحقائق باقية، مسوخ مشوهة لمثل كاملة؛ ثم يمضي أفلاطون الحالم بعالم كامل تتحقق فيه المثل العليا التي يطمح إليها، مثل الحق والخير والجمال، ليتمثل عالماً آخر غير عالمنا يجد فيه ملاذا من نقائص عالمنا، ثم يدعو الناس أن يحلموا معه في قول شاعري حلو يورده في محاورته (المأدبة):

(إن ما يعطي قيمة لهذه الحياة إنما هي مشاهدة الجمال السرمدي نقياً لا تشوبه شائبة، بسيطاً لا تغطيه أشكال وألوان مصيرها إلى الفناء. هذي مراحل الحب يقطعها في البحث عن ضالته، وشفاء لغليله، فهو واسطة ومساعد يحفز النفس إلى الكمال، ويبهج الذكرى القديمة: ذكرى المثل والحياة السماوية الأولى، ذكرى الفردوس المفقود تحن إليه بكل

ص: 8

جوارحها. فالحب الحقيقي الكامل هو الفيلسوف يزدري الجمال الزائل الذي يملأ النفس جنوناً ليتعلق بالجمال الدائم)

وبعد فذلك تأمل أفلاطون، فلسفة تمتزج بالوجدان: فيها تطلع إلى الجمال، فيها حنين إلى عوالم مبتغاة، فيها ذكريات وحب وأمل نبيل. ولا عجب فقد زاول أفلاطون الشعر في شبابه ثم صرفه عنه أستاذه سقراط.

وهذا برجسون في العصر الحديث يتميز أسلوبه بطابع رقة وروح فنية تتبدى في منهجه الفلسفي الذي يسلكه في الوصول إلى الحقيقة، مقابلاً به منهج الاستدلال العقلي الذي يشوه الواقع ولا يزودنا منه إلا بوجهة نظر سطحية تجريدية؛ ذلك هو منهج الحدس أو الذوق كما يحلو للبعض أن يسميه. ويعرفه برجسون بأنه نوع من التعاطف العقلي يتعمق المرء بواسطته كنه الأمور وجوهرها.

وابن سينا - الشيخ الرئيس - يصوغ نظريته في النفس وخلودها وسبق وجودها على الجسد في قصيدته العينية المشهورة التي يبين فيها كيف هبطت النفس إلى الجسد من عالم آخر على الرغم منها، وكيف سجنت في ذلك الجسد وكيف تسعى إلى التحرر منه، والعودة ثانية إلى العالم النائي، عالم الروح الخالد.

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تمنع وترفع

محجوبة عن كل مقلة ناظر

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما

كرهت فراقك وهي ذات توجع

إن كان أهبطها الإله لحكمة

طويت من الفذ اللبيب الأروع

فهبوطها لاشك ضربة لازب

لتكون سامعة لما لم تسمع

وتعود عالمة بكل خفية

في العالمين فخرقها لم يرقع

ذلك شعر وخيال، ومع ذلك فقد كان الشيخ الرئيس فيلسوفاً لأنه يأبى إلا أن يبرهن على روحانية النفس وجوهريتها وخلودها برهنة منطقية.

أما محي الدين بن عربي، زعيم التصوف المذهبي في الإسلام فيتصوغ جل مذهبه قصائد شعرية، زاخر بحر الوجدان مشبوب العاطفة، يعبر عن نظرية وحدة الوجود التي ترى الكون والله كائناً واحداً لا وجودين منفصلين، وترى كل موجود مظهراً من مظاهر الله أو

ص: 9

مجلى يتجلى به الله لعباده حتى ليستوي في نظره كل موجود ويتحد كل دين، يقول:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

وبعد فلست أريد أن أقحم نفسي في الأدب فأتمثل بشعر أبي العلاء المعري أو رباعيات عمر الخيام أو أناشيد طاغور الصوفية لأبين بغض ما تنطوي عليه من فلسفة عميقة تكسب شعر هؤلاء رصانة وتزيده رونقاً وبهاء. إنما أريد أن أخلص إلى أن النشاط الفكري تيار معقد متشابك متعدد الاتجاهات، وهو مع ذلك تيار دائب الحركة مستديم الفوران. فالعقل منذ نشأته، يحاول معرفة الواقع كما هو. وإرجاع المعلول إلى علته أو كشف الستر عن غايته. فإن كان الإنسان طفلاً في بداوة الفكر وطراوة الذهن فالخيال مزود إياه بتفسيرات لا أساس لها من الصحة، والإيمان مثبت لتلك التفسيرات لا لشيء إلا لأنها تصادف هوى في نفسه، فلا يصبح - وقد آمن - في حاجة إلى البحث عن دليل أو برهان. وما الداعي إليهما وقد اطمأن قلبه إلى ما وصل إليه من تفسير. ألا ترى إلى المصري القديم مطمئناً كل الاطمئنان إلى خلوده؟ لا خلود روحه فحسب، بل خلود جسده أيضاً؟ واثقاً من البعث حيث يلقى جزاء ما كسب وحساب ما اكتسب؟ حيث يستمتع بما استمتع به في هذه الحياة من نعيم، بل حيث يرى العوض عما حرم منه فيها من سراء؟!

ما سر يقينه ذلك الذي لا يقبل الشك؟! رغبة في الخلود قابعة في كل نفس، وسعي خفي إلى اللذة الكبرى التي تقصر عنها حياة الأرض القصيرة الغاصة بالمتاعب والآلام. رغبة محتدمة، وهوى مستبد، وطموح متطلع إلى المجهول، تسخر جميعها المطية الذلول، الخيال، ليفسر الكون ويكشف عن سر الوجود. بيد أنه عندما تكثر المعارف الواقعية وتبدو الحقائق الخافية، ويكتشف الإنسان وهمه فضلاً عن جهله، لا يجد مناصاً من مواجهة الواقع، والسعي إلى رد المعلولات إلى العلل، ونسبة المسببات إلى السبب؛ تارة في تحرر نهائي من الأهواء وتنحية للخيال، وتارة في تحرر جزئي منها دون تملك تام لناصية الأمور. إن فعل المرء ذلك قيل أنه عالم أو فيلسوف: عالم إن اكتفى بتقرير الواقع وإرجاع

ص: 10

الظواهر المحسة إلى أسبابها، وسعى إلى اكتشاف قوانين العالم الطبيعي دون غيره باستخدام منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المحض؛ وفيلسوف إن أوغل في التفسير متعدياً حدود العالم الطبيعي، متجاوزاً البحث في الجزئيات إلى البحث فيما هو أعم وأرحب، مستخدماً منهج البرهان المنطقي والاستدلال العقلي. أميز هنا بين الفلسفة والعلم برغم أن العصور القديمة بل والحديثة حتى مستهل القرن السابع عشر الميلادي لم تألف هذا التمييز فكانت جماع المعارف النظرية الحرة من الأسطورة تنضوي تحت كلمة فلسفة أو حكمة؛ ولم يميز العقل الإنساني ذلك التمييز الحاسم بين شطري النشاط الفكري المتكامل، إلا في مطلع القرن السابع عشر، أي في أعقاب عصر النهضة بما خلق من نهضة علمية تجريدية قامت على أنقاض الاتجاهات الفلسفية التقليدية.

عبد المنعم المليجي

المدرس بمدارس حلوان الثانوية

ص: 11

‌فزان بين يدي الأتراك والطليان

للأستاذ أحمد رمزي بك

- 3 -

انسحاب الطليان من فزان في عام 1914:

24 -

يفسر كتاب إيطاليا أن ظروف التعبئة العامة في إيطاليا أملت سياسة إخلاء المستعمرة من حامياتها في الداخل والاكتفاء باحتلال الساحل ويعدون هذا الانسحاب بمثابة نكبة كبرى على الدولة الاستعمارية، فقد كان هروباً سريع أمام الخطى قوات السنوسيين الذين توغلوا في كل جهة.

كانت برقة مهد السنوسية ولما اشتد ساعدها امتدت حركتها إلى نواحي المستعمرة الأخرى فكان الجزء الجنوبي الممتدشمالي فزان من نصيب السيد محمد العابد ابن الشريف محمد ابن علي السنوني الحسني الأدريسي الخطابي الذي بدأ الدعوة إلى الجهاد في تلك الجهات. وقد وجد السيد العابد أنصاراً له عديدين نفذوا أوامره وقاموا بنشر دعوته خير قيام منهم محمد مهدي السني ابن محمد ابن عبد الله السناري وهو من مواليد السودان.

25 -

وقد انتشرت دعوته حتى وصلت إلى قبائل الطوارق وانضم إليها كثير من زعماء الجنوب الذين بدءوا يهاجمون المواقع الحصينة التي كان يحتلها الفرنسيون والإيطاليون على السواء وكان أن تألفت حكومة بدوية تحت زعامة دينية حكمت هاتيك البقاع وبقيت تحتل فزان وأجزاء من الأراضي الفرنسية طول مدة الحرب الماضية حتى تقلص ظلها بسرعة غريبة حينما أرسل نوري باشا القائد التركي ثلاثة من الضباط المغامرين الذين نجحوا في استخلاص فزان والجهات المجاورة واستعملوا أساليب السياسة والدهاء في المفاجأة في تنفيذ أغراضهم.

26 -

وكانت أول غارة للثوار ضد حصن سبها الإيطالي في ليلة 27 نوفمبر 1914 إذ حصل الهجوم على الحامية ليلاً حينما علا المجاهدون أسوار القلعة وسلطوا نيرانهم وأعملوا السلاح فاضطرت القوة للتسليم إلا من تمكن من الهرب تحت الظلام منسحباً إلى سخناً في الشمال. جاء في وصف هذه المعركة أن رصاص المهاجمين كان ينهمل على

ص: 12

عساكر إريتريا فنسمع أزيز المصابين كما نسمع أصوات الفيران التي أخذت في المصيدة.

ويقول الطليان أن السيد العابد هو المسؤول عن مجزرة سبها إذ انتقل سراً من الكفرة إلى واحة واو الكبيرة واتخذها مركزاً للدعاية وبعث منها بداعيته مهدي السني الذي دخل وادي الزلاف وهناك دعا الناس إليه وحرض المقاتلين على مهاجمة الحصن حتى إذا نجحوا كان على رأس الغنائم وإذا فشلوا عاد إلى سيده بواو. ولما دخلوا الحصن واستولوا عليه فأصبح طريق فزان مفتوحاً أمامهم.

27 -

وما كاد يصل خبر الكارثة إلى السلطات الإيطالية حتى تيقنت بحلول الخطر على حاميتها الموزعة في فزان، فبعثت بسيارات وصلت إلى مرزوق في ليل ديسمبر سنة 1914 حملت الضباط والجنود الأوربيين وتركت الحمايات المكونة من عساكر المستعمرات تتلقى بصدورها رصاص الثوار وهي التي تولى قيادتها جاويش عربي من متطوعي الفرق اليمنية اسمه محمد بن عبد الله من قبيلة بني حبيش.

ولا شك في أن تصرف السلطات العسكرية الإيطالية على هذا النحو كان مدعاة لسقوط هيبة إيطالية في الصحراء مدة من الزمن ولم تسترجعها إلا بعد مضي سنوات طويلة.

28 -

ولا بد أن نذكر شيئاً عن هذا اليمني المتطوع في صفوف الإيطاليين فهو قد بدأ خدمته في الصومال الإيطالي ضمن الجنود الذين اعتادت الحكومة الإيطالية تجنيدهم من عرب اليمن رغم أن هذا الجزء من أملاك الدولة العثمانية. وقد أظهر هذا اليمني تفانياً في خدمة إيطاليا إذ توجه في يوم 7 ديسمبر سنة 1914 إلى منزل الضباط بمدينة مرزوق فوجده خالياً فجزم بانسحابهم فقرر في نفسه أن يأخذ مكانهم، وعاد إلى القلعة وأعلم الحامية بأن الطليان قد ذهبوا إلى الشمال في صدد تلقي أوامر جديدة صادرة إليهم بمداومة القتال وسيعودون ومعهم الإمدادات. وهكذا صمد هذا اليمني على رأس القوة المحاصرة بالقلعة مدة 16 يوماً أمام الثوار المحيطين به حتى اتصل بعض هؤلاء برجال الحامية وقرروا التسليم. وتذهب الرواية الإيطالية إلى أنه أخذ العلم الإيطالي الذي كان يرفرف على القلعة وعاد به إلى منزله حيث أحرقه أمام زوجته.

29 -

ولما وقع أسيراً أراد السنوسيون أن يستفيدوا من خبرته في تدريب المقاتلين وتهيئتهم للحرب على طريقة الجيوش الإيطالية فأبى: وعُدّ إباؤه من مفاخره.

ص: 13

وإنما نسوق هذه الحادثة بالذات لأن المؤلفين الطليان اتخذوا منها دليلاً على صلاحية التدريب الإيطالي وتأثيره في بعض النفوس من السكان الوطنيين والوصول بها إلى درجة التضحية في خدمة الحكومة وتهمنا هذه الناحية بالذات، فإن الفرنسيين برعوا في تجنيد العناصر الملونة الأفريقية، وتقدموا في أساليبهم إلى درجة تقرب إلى الكمال فقد رأينا كيف يتعلم السنغالي القواعد الأولى بهوادة وصبر بحيث لا يتعد التعليم ساعة من النهار موزعة على دقائق معدودة تسمح لهذا المجند أن يستوعب دقائق الأسلحة بطريقة تغلب عليها قواعد علم النفس بحيث يخرج بعد أشهر وهو متحمس إلى الفرقة وللعلم ولفرنسا.

فإلى الذين يتولون تدريب النشء على القواعد العسكرية نسوق هذه الأمثلة للتدليل على أن تجارب علم النفس هي التي يجب أن تسير على هديها للتغلب على المصاعب التي تواجهنا في تهيأة منظمات الشباب وتدريب الجنود: إذ يصعب على النفس أن تقرر نجاح المستعمر الغاصب وقصور الأمم الفتية الناهضة.

30 -

هذه الناحية من حياة فزان طوال عام 1915 و1916 تحت الحكم السنوسي تكلم عنها ضابط إيطالي وقع في أسر السنوسية وأعتقل في معسكري واو الكبير وواو الناموس وطبيعي أن معلوماته التي دونها في يومياته مستقاة مما كان يصل إلى علمه عن طريق الثوار الذين عاش بينهم.

أما الفترة العثمانية التي تولى فيها الضباط الأتراك حكم الولاية فستأتي في القسم التالي وقد تخللها هجوم من المتطوعين وعمليات حربية داخل الأراضي الفرنسية في الصحراء الكبرى وأراضي الجزائر والجزء الجنوبي من تونس وهي خارجة عن نطاق فزان وأشير على المهتمين بجهاد الأمم المظلومة والمغرمين بالتاريخ الحربي أن يقرءوا كتاب الكولونيل عن:

،

استيلاء الأتراك على فزان وانتزاعهم الجزء الجنوبي من مستعمرة ليبيا من أيدي حلفائهم السنوسيين.

31 -

ظهر في أفق أفريقيا في أواخر عام 1916 نوري باشا شقيق المرحوم أنور باشا إذ وصل إلى السلوم وتوجه منها إلى إجدابية ثم غادر بزقة في غواصة أوصلته إلى مسراطة

ص: 14

التي اتخذها مع من معه من الضباط الألمان والأتراك مركزاً لحركاتهم العسكرية ضد الإيطاليين وهي عمليات لا شك أنها خارجة عن موضوع فزان.

32 -

وكان نوري باشا في إيجابية حينما عرضت عليه فكرة من تلك الأفكار التي لا يتركها تمر أمامه رجل مثله بدون أن ينفذها. وتتلخص هذه الفكرة في أن مهمته في طرابلس الغرب لن يلازمها للتوفيق إذا لم يدعم جهاده بعمل حاسم في الجنوب يرى إلى احتلال مقاطعة فزان وتحريرها من السنوسيين حتى يتمكن من تهديد المستعمرات الأفريقية للحلفاء أي فرنسا وبريطانيا. باتجاه الصحراء الكبرى وشمال السودان المصري.

لذلك أرسل بعثيين إلى الجنوب الأولى وجهتها الفكرة والثانية وجهتها فزان.

33 -

كانت بعثة فزان مكونة من ثلاثة ضباط: (إحسان ثاقب) و (سنوسي شوكت) و (محمد الأرناؤطي) أما الأول فكان يوزباشياً من أهالي طرابلس وتخرج من المدارس العسكرية العثمانية وامتاز بقوة إرادة هائلة وكان الثاني من أهالي برقة تعلم في مدرسة المدفعية وحصل على رتبة الملازم. أما الثالث فكان من الضباط المغامرين الذين لا يقف أمامهم عائق وهو من كريد.

34 -

فلنتصور قوة صغيرة تغادر إجدابية وتتجه إلى الجنوب وتمر بالمراده وبير نعيم وزيلة وتكاد تهجم من قطاع الطرق ونظراً لضعفها، تضل إلى انتزاع إقليم مثل فزان وتهدد منه المستعمرات الأوربية الأخرى.

فعلى الطريق الواقع بين أوجله ومرزوق افترق الثلاثة أبطال. أما أولهم فاتجه رأساً إلى عاصمة فزان حيث دخلها وأقام حكومة باسم السلطان بانضمام قوات السنويين إلى لوائه. أما الآخران فكانت وجهتهما وأو الكبير حيث استقبلهما السيد العابد السنوسي بحفاوة زائدة وأطلقت المدافع ترحيباً بهما وقدماً إليه هدايا سلطان تركيا وفرماناً بمنحه رتبة الباشوية كما وزع النقود الذهبية على الجنود والأتباع.

وكان القصد من هذه الحركة الأخيرة اشتغال السيد العابد حتى لا تتجه أنظاره إلى فزان وما يقوم به الضابط الثالث.

35 -

ولم يكد الضابطان يغادرا واو الكبير متجهين جنوباً حتى وصلت الأنباء بالحركة التي قام بها ثاقب في مرزوق ولذلك وجه السيد العابد قوة من رجاله تحت قيادة صهره

ص: 15

السيد العاشب زحفت على مرزوق وأجلت الأتراك عنها واستعملت كل وسائل العنف والتشريد مع الأهالي. ثم اتجهت شمالاً إلى الأبيض حيث التقت بالقوة التي جمعها الضباط العثمانيين وهناك دارت معركة فاصلة انتهت بهزيمة السيد العابد وأسر صهره العاشب الذي حوكم على النهب والقتل الذي ارتكب في مرزوق فأعدم شنقاً في سبها ولما وصلت هذه الأنباء إلى السيد العابد غادر واو الكبير منسحباً إلى الكفرة.

36 -

إن هؤلاء الضباط من أهل طرابلس الذين تلقوا تدريباً عسكرياً في مدارس الأتراك قاموا بعمل من أعظم الأعمال فهم كان اعتمادهم على الجنود الوطنيين الذين جندتهم الدولة العثمانية في السابق ثم على الجنود خدموا في الجيوش الإيطالية وأخيراً حينما توطد شأنهم عرفوا كيف يضمون الجنود الوطنيين من المغاربة والطوارق والسنغال إلى صفوفهم.

37 -

إن هذه الصفحة خطيرة وهي تكاد تقنعنا بمخاوف الدول الاستعمارية في أفريقية بأكملها إذا قدر لها أن تواجه في المستقبل رجالاً من هذا النوع فيهم التصميم والإرادة ومواجهة الأخطار ومن هذا نفهم جيداً مركز فزان في القارة الأفريقية. لأن الذي يسيطر عليها بوسعه أن يملأ السودان والصحراء بالدعوة والدعاية التي يريدها. ويهز الاستعمار الأوربي.

وقد جاء في كتاب الكولونيل لارشيه الذي أشرت إليه ذكر بعض عمليات ترتب عليها تسليم مراكز عسكرية فرنسية بعتادها في الحرب العالمية الأولى.

38 -

ويشير صاحب كتاب طرابلس

أن الحكومة التي أنشأت بفزان استطاعت أن تربط مرزوق بخط تلغرافي مع مسراطه باستعمال زجاجات المياه المعدنية لحمل الأسلاك وذكر أنه لجأ إليهم ولقى لأول مرة معاملة مدنية ورأى بعينه حركة القوافل والاتصال بين الشمال والجنوب وإلى رجالها يرجع الفضل في ترحيله إلى مسراطه حيث ضم إلى معسكر الأسرى الإيطاليين فاتصل بالعالم لأول مرة وعرف أهله بوجوده حياً يرزق بعد أن كانوا قطعوا الأمل من حياته.

وقد بقيت فزان تدار بمعرفة هؤلاء ما دامت حكومة مسراطه قائمة حتى أمضيت الهدنة 1918 فانسحب الألمان والأتراك ثم رأس الحكومة (رمضان الشتوي) ثم ساد فزان عهد من الفوضى نتيجة للنزاع الداخلي.

ص: 16

31 -

وفي سنة 1921 جاء (فولبي) حاكماً للمستعمرة فاتجه إلى احتلال مسراطه ثم أقرت الحكومة الفاشستية سياسة القمع والفتح والتشريد فأخذت 11 عاماً بين 1918 و1929 للوصول إلى فزان.

ومن دروس هذه الحقبة وتجاربها أخذت الدولة المستعمرة بمجرد استعادتها لهذه الأراضي تنفذ برنامجاً واسعاً لرصف الطرق، وأنشأت حصونها على أحدث طراز منها الذي يعد أقوى الحصون الدائمة في المنطقة وهو في مدينة سبها. وسنرى في القسم التالي مشاكل إيطاليا وقوادها مع فزان وأهلها.

أحمد رمزي

(يتبع)

ص: 17

‌عبد الله بن مسعود

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

(وعاء ملئ علماً) عمر بن الخطاب

الرحمن علم القرآن:

تلك قريش في جبروتها متربصة بمن يجيب داعي الله ويشهد لمحمد بالرسالة. فما يلم به من آمن إلا في خفاء، ولا يتلو أحد مازال الله إلا همساً أو من وراء جدر. وإن قريشاً لتبالغ في الإيذاء وتمعن في العقاب، يخشى ألسنتها من له قوم عديدون، ويتوقى إذا من حرم الكثرة والأتباع، فكيف بمن لا أهل له ولا عشيرة. وأولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تسللوا إلى حيث يجتمعون وبينهم فتى يوشك أن يبلغ الحلم، ذلكم هو عبد الله ابن مسعود. قال أصحاب الرسول: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟ قال ابن مسعود: أنا ذلك الذي يجهر لهم فقالوا وهم يرون جسمه الذي تقتحمه العين لفتى ما له في مكة من ركن شديد: إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إذا أرادوه فقال: دعوني فإن الله سيمنعني.

وما راع قريشاً في أنديتها ضحى ذلك اليوم إلا صوت يتردد في جوانب البيت ينبعث من عند مقام إبراهيم: (بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان. . .) واستقبل السورة يرتلها فاستقبلوا صاحب الصوت فإذا هو عبد الله ابن مسعود، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ما يقول ابن أم عبد؟ فأجاب منهم مجيب: إنه يتلو ما جاء به محمد، فاندفعوا إليه يضربون وجهه، ولكنه ما يكف بل جعل يقرأ وهم يضربون حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثرت بوجهه ضربات القوم ولطماتهم ولعل أشدها كانت لطمة عدو الله أبي جهل. قال له أصحاب الرسول وقد رثوا لحاله: هذا الذي خشينا عليك فقال: ما كان أعداء الله قط أهون علي قط منهم الآن ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.

إنك غلام معلم

كان أبوه مسعود وأمه أم عبد قد تركا قومهما هذيل الذين يسكنون جبل السراة قريبا من

ص: 18

الطائف وأقاما بمكة حيث حالف مسعود عبد الله بن الحارث بن زهرة خال زوجه أم عبد والدة عبد الله بن مسعود، ولما صار غلاماً يافعاً اشتغل برعي الغنم لعقبة ابن أبي معيط من سادات قريش، وبينما هو قائم كعادته أقبل رسول الله ومعه أبو بكر فقال يا غلام هل معك من لبن؟ قال: نعم ولكني مؤتمن، فقال له ائتني بشاة لم تحمل ولم تلد، فأتاه بواحدة فجعل الرسول يمسح ضرعها ويدعو الله حتى درت فأتاه أبو بكر بإناء فاحتلب فيه ثم قال لأبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم بعده، ثم قال للضرع: أقلص فقلص فعاد كما كان. هذا وعبد الله يشهد ويسمع فقال: يا رسول الله علمني من هذا الكلام فمسح رأسه وقال: إنك غلام معلم.

لقد أسلم عبد الله فكان من السابقين وترك غنم عقبة فأخذه الرسول وجعله في رعايته، فلقد كان أبوه حليف أخوال الرسول وإن جدته لتمت بصلة القرابة إلى أخوال الرسول، وعقبة من رؤوس الشرك ولن يبقى عليه بعد أن أصبح من أتباع محمد فكان يخدم رسول الله: يلبسه نعله، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام. حدث أبو موسى الأشعري قال: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن، وما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. وتمر الأيام ويشتد أذى قريش للمسلمين فيهاجر جماعة منهم إلى الحبشة وفيهم عبد الله ثم يهاجرون إلى المدينة ومعهم عبد الله.

هذه رأس أبي جهل:

نحن في العام الثاني من هجرة الرسول في غزوة بدر الكبرى وهذا أبو جهل ملقى بين الجرحى وقد أمر الرسول أن يلتمس في القتلى فوجده عبد الله بن مسعود بآخر رمق فوضع رجله على عنقه قال أبو جهل قد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً أخبرني لمن الدائرة فقال لله ولرسوله وإني قاتلك، قال أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي فقتله وحمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال الرسول: الله الذي لا إله غيره؟ ورددها ثلاثاً، قال نعم، ثم ألقى رأسه بين يدي الرسول فحمد الله تعالى وسجد شكراً له.

لقد عاش عبد الله حياة الرسول مقرباً منه أثيراً عنده قال له مرة: اقرأ علي سورة النساء، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عبد الله حتى

ص: 19

بلغ: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم

وأمره مرة أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها فنظر أصحاب الرسول إلى حموشة ساقيه - أي دقتهما - فضحكوا، فقال النبي: ما يضحككم؟ لَرجْلا عبد الله في الميزان أثقل من أحد

في أيام الخلفاء:

كان عبد الله في حياة أبي بكر مع الجيوش التي سارت إلى الشام، وكان موكلاً بأمر الغنائم وشهد موقعة اليرموك، ثم رجع إلى المدينة فكان مقرباً إلى عمر، قال زيد بن وهب: إني لجالس مع عمر إذ جاءه بن مسعود، يكاد الجلوس يوارونه من قصره، فضحك عمر حين رآه فجعل يكلم عمر ويضاحكه وهو قائم ثم ولى فأتبعه عمر بصره حتى توارى، فقال:(وعاء ملئ علماً) ولما أنشأت الكوفة، كتب عمر بن الخطاب إلى أهلها:(إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي).

ظل عبد الله بالكوفة حياة عمر، وزمناً من أيام عثمان، فلما كادت فتنة القراءات تقع بين المسلمين، كلف عثمان جماعة من الصحابة وعلى رأسهم زيد بن ثابت أن ينسخوا المصحف الذي جمع أيام أبي بكر، وأرسل عثمان إلى مكة والكوفة والبصرة ودمشق ما نسخ بعد أن أبقى مصحفاً بالمدينة سمي المصحف الإمام وعين زيد بن ثابت أن يقرأ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وأمر أن يحرق ما عدا هذه الخمسة المصاحف إذ كان فيما عداها بعض الاختلاف اللفظي الذي كان مأذوناً فيه من قبل توسعة على المسلمين. حينئذ تأثر عبد الله بن مسعود لأنه كان يرى نفسه أولى من زيد بن ثابت بالإشراف على نسخ المصاحف، ولعله كان يرى أن يستمر جواز ما كان مأذوناً فيه؛ يضاف إلى هذا أن له مصحفاً بعض الاختلاف، ويتناوله الأمر بالإحراق، هذا إلى أن كثيراً من التابعين من أهل الكوفة تلقوا عنه فقال: لقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله

ص: 20

وما أنا بخيرهم ولو أني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته. وقال: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة - وفي رواية سبعاً وسبعين - وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان) لكن خشية الفتنة التي أطلت برأسها وخوف أن يدخل في القرآن ما ليس منه والحرص على وحدة المسلمين جعل سيدنا عثمان ومن حوله من كبار الصحابة لا يعبئون بأي اعتراض، ولقد سبق أن كلف أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن في مصحف واحد مما كان مكتوباً، وشهد شاهدان أن هذا المكتوب هو عين ما سمعه كاتبه من فم الرسول فلم يبد عبد الله بن مسعود اعتراضاً، لأن ذلك كان جمعاً للقرآن خوفاً عليه من الضياع بوفاة حفاظه، ولم يأمر أبو بكر بالاقتصار بما جمع وحرق ما عداه مما كتبه آخرون أو حفظوه، أما سيدنا عثمان فقد ألزم الناس - وهو محق - بالاقتصار عليه وعبد الله يعلم أن جامعه هو زيد بن ثابت ويرى أنه أولى منه لسبقه في الإسلام ويعلم أن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى والصحابة يقرأ كل منهم كما علم لهذا كان منه ما قال. قال ابن شهاب الزهري: بلغني أن رجلاً من أفاضل الصحابة كرهوا مقالة عبد الله بن مسعود. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري: والعذر لعثمان في ذلك أنه فعل بالمدينة وعبد الله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر وأيضاً فإن عثمان إنما أراد نسخ التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفاً واحداً، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كان كاتب الوحي فكانت له أولية ليست لغيره)

ولقد بلغ سيدنا عثمان ما قاله عبد الله، فأرسل إليه يأمره بالقدوم عليه بالمدينة ولعله خشي أن يظل في العراق يلقن مصحفه الذي يدخل تحت إباحة (أنزل القرآن على سبعة أحرف. . .) فاجتمع الناس على عبد الله بالكوفة فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه فقال عبد الله: إنه على حق الطاعة ولا أحب أن أكون أول من يفتح باب الفتنة) وتوجه إلى المدينة واستغنى عما كان مفروضاً له من العطاء.

دخل عليه عثمان مرة يعوده في مرضه فقال له ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك

ص: 21

بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً) فلما توفي رضي الله عنه سنة 32هـ دفع عثمان مجموع ما كان مفروضاً له وامتنع عنه إلى ورثته. وقال أبو الدرداء حينما بلغه موت عبد الله: ما ترك بعده مثله.

من مصحفه وبعض قراءته:

أجمع الأئمة على أن ترتيب الآيات توقيفي فقد كان بأمر الرسول جاء به جبريل من الله العزيز الحكيم أما ترتيب السور فالصحيح أنه ليس توقيفياً، ولهذا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيبها فمصحف علي كان مرتباً حسب نزول السور يبدأ بالمكي ثم المدني وأكتفي بذكر ترتيب السور العشرة الأولى من كل مصحف، ولمن شاء المزيد أن يرجع إلى الإتقان وكتاب المصاحف.

المصحف المشهور مصحف أبي مصحف ابن مسعود مصحف علي

1 -

أم الكتابأم الكتابالبقرةاقرأ

2 -

البقرةالبقرة النساءن

3 -

آل عمران النساء آل عمران المزمل

4 -

النساءآل عمرانالأعراف المدثر

5 -

المائدةالأنعام الأنعاماللهب

6 -

الأنعامالأعرافالمائدةوالشمس

7 -

الأعرافالمائدة يونسالأعلى

8 -

الأنفاليونس براءةوالليل

9 -

براءةالأنفال النحلوالفجر

10 -

يونسبراءة هودوالضحى

وهذه مقارنة بين بعض ما روي من قراءة عبد الله والقراءات الصحيحة السند المشهورة:

القراءة الصحيحة السند ما روي من قراءة أبن مسعود

1 -

اهدنا الصراط المستقيمأرشدنا الصراط المستقيم

ص: 22

2 -

صراط الذين أنعمت عليهمصراط من أنعمت عليهم

3 -

فأزلهما الشيطان عنهافوسوس لهما الشيطان عنها

4 -

إن البقر تشابه عليناإن البقر متشابه علينا

5 -

وإثمهما أكبر من نفعهماوإثمهما أكثر من نفعهما

6 -

إنما وليكم الله ورسولهإنما مولاكم الله ورسوله

7 -

والمتردية والنطيحةوالمتردية والمنطوحة

8 -

لا يظلم مثقال ذرة لا يظلم مثقال نملة

9 -

إن كانت إلا صيحة إن كانت إلا زقبة

10 -

كالعهن المنفوش كالصوف المنفوش

تلاميذه وأثره

لعبد الله أثر في قراءة الكوفة سواء كانوا من السبعة أو من العشرة، أم من الأربعة عشر فقد تلقى عنه عاصم ابن ضمرة والحارث بن عبد الله وزر بن حبيش وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو عمرو سعد الشيباني وعبيدة بن عمرو والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع وزيد بن وهب وعلقمة بن قيس وعبيد ابن نضلة وأبو الأسود الدؤلي. وإلى هؤلاء - الذين انفرد بعضهم بالأخذ عنه، وبعضهم جمع إليه الأخذ عن غيره من الصحابة والتابعين - تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي من السبعة وخلف من العشرة والأعمش من الأربعة عشر هذا إلى جانب ما تلقوه من رواة آخرين عن صحابة مختلفين.

لكن هؤلاء الذين رووا لنا قراءة ابن مسعود وغيره اقتصروا على ما وافق الرسم العثماني وتركوا ما خالف ذلك تبعاً لأمر الخليفة واتباعاً لإجماع المسلمين فأصبح ما يروى مخالفاً للرسم العثماني من قراءته وقراءة غيره كأبي بن كعب وعلي وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وغيرهم يستدل به في التفسير ويستعان به في التشريع ولا يعول عليه في الصلاة والعبادات مع العلم أن هؤلاء السابقين وغيرهم وافقوا عثمان وأقروه ولزموا ما وافق رسم المصحف الإمام والواقع أن ما يروى عنهم مخالفاً له لا تتفق في ضبطه الروايات ما ذلك إلا لهجران الأئمة الثقاة تحمل روايته وتكلف حفظه والعناية بتحقيقه فأصبح سنده منقطعاً. وشرط صحة التعبد بالقرآن أن يكون صحيح السند إلى جانب ما اشترطوه من موافقة رسم

ص: 23

أحد المصاحف العثمانية ولو احتملا وموافقة العربية ولو بوجه من الوجوه، أما اختلاف القراءات السبع وغيرها من القراءات الصحيحة فيرجع السبب فيها إلى أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف التي أمر بنسخها سيدنا عثمان كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، فلما أمر بحرق ما عدا تلك المصاحف وأن يسيروا على رسم واحد ثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً من الصحابة بشرط موافقة الرسم العثماني ولو احتملا وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن؛ فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين برسم وخط واحد.

عبد الستار أحمد فراج

المحرر بالمجمع اللغوي

ص: 24

‌عود على بدء:

من الأعماق

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 2 -

كتبت في العدد 819 من (الرسالة) الغراء قصة (من الأعماق)، وتركتها - كما هي الحياة - بدون خاتمة، وانتظرت رأي عقل القارئ العزيز لعله ينير السبيل لقلبين، فانثالت علي الرسائل من كل ناحية، فاجتمع لي منها آراء اعرض بعضها على صفحات (الرسالة). وأنا - إذ أفعل - أدير الكلام على طريقتي وأسلوبي، لي الأسلوب والأداء، ولأصحاب الرسائل الرأي والفكرة:

جاء في رسالة الأديب عيسى الأشعري بأسيوط - بعد كلام طويل - ما يأتي:

سيدي - يا حضرة الضابط الفاضل - أنت تؤمن بأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت. فدعني أجثو أمامك في خشوع وأنحني لك في احترام، أنشق عبير روحك الوثابة وأقبل ثرى وطئته قدمك الطاهرة، وأستمتع ساعة باستجلاء طلعتك الصارمة، أحي فيك الشجاعة، والشهامة والرجولة. وحين رجعت إلى أرض الوطن الغالي - عائداً من الميدان - رأيتك يا قلب مصر النابض، وأملها البسام، وعلمها الخفاق، فخفق لك قلبي واهتزت مشاعري، لأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت. آه لو استطعت فاقتحمت هذا الجمع الزاخر وهو يفوز ويضطرب لأقف بين يديك أقدم لك نبضات قلبي ووثبات فؤادي وصلوات روحي!

تلك هديتي إليك، فقلبي قد تفتح عن تقدير لك وإجلال، وفؤادي قد انتشى بعطر إيمانك الزكي، وروحي قد هفت نحو زهرات شبابك النظير المتألق. فأنت بعثت فينا - من أطواء الزمن - روح العزة والكبرياء.

لقد قلت لي - إذ ذاك - (إنني أنا القنبلة التي يقذف بها عاهل البلاد العظيم في وجه العدو فتتفجر هدامة مدمرة، وأنا المدفع يطلقه القائد الأعلى على صفوف الطغاة فلا يخطئ ولا يخيب، وأنا السيل العرم الذي يتدفق فيجرف في تياره الجناة وإن عتوا وتجبروا).

هذه الشجاعة، وهذه العقيدة، وهذا الأيمان، كل أولئك - يا سيدي - أشرقت نوراً يتلألأ

ص: 25

على جبين الوطن فينعكس على صفحات التأريخ فخراً تنحني له هامة الزمن، وتخضع أعناق الجبابرة. . .

وحين سللت سيفك زها وأشرق تاريخ الوطن، وثارت حميته، وتأججت كبرياؤه، وتألقت فيه روح الحرية. وحين قذفت في الميدان بالحديد والنار، ارتد العدو على أدبارهم خاسرين، وانهزموا أمام عزمك صاغرين، وفزع كل ذي طمع، وذعر كل ذي مأرب. وحين أصررت وتقدمت في الشجاعة، وصبرت في إيمان - حينذاك - انطوى العالم بين جناحيك في ذلة وصغار، وصمتت السن كانت لولاك سليطة بالباطل، جريئة على الحق. فدعني - يا سيدس - أجثو أمامك في خشوع، وأنحني لك في احترام، لأنك رجل حرب لا تعرف إلا الفوز في المعركة أو الموت!

هذا أنت - يا سيدي - في نفسي، أما هذه المعركة القلبية، فأنت إن ظفرت بها خسرت هدوء قلبك وراحة نفسك. غداً يجذبك عملك الشريف عن دارك فتذر زوجك وحدها، فتذهب وما في خيالك سوى خاطرة واحدة، فأنت ما تبرح ترى بعيني قلبك شبحاً يضطرب حول دارك يوشك أن يلجها في غيبتك. سيثور بك الشك، وتلتهمك الريبة، وتصفعك الغيرة، فتعيش في غيرة قاتلة تصرفك عن الواجب المقدس. فدع الفتاة تنطلق إلى فتاها، في الأرض مراغم كثيرة وسعة.

ستقول: هذه فتاة عاقلة متعلمة تقضي حق الزوج وترعى واجبها، وهي من بيت راسخ الأرومة طيب الجرثومة، يتدفق في عروقه دم الشرف والأباء منذ الجد الأول. ولكن هل لها غير قلب امرأة وعاطفة الأنثى وروح الإنسان؟ ستخلو حيناً إلى نفسها تحدثها حديثاً طويلاً لو اطلعت عليه لوجدت مس الفزع والرعب في نفسك. . . فدع الفتاة تنطلق إلى فتاها. . .

وإذا انكشفت القصة كلها أمام الأب فرأى نوازع قلب ابنته سافرة واضحة، فإن تجاربه ستدفعه حتماً إلى أن يتلمس لها السعادة التي تريد، وسيضن لها أن تقضي عمرها في مضطرب من الأفكار يعصف بها اليأس ويقصمها الأسى!

وفي رسالة الأستاذ محمد أحمد شكم المدرس بمدرسة سعيد الأول بالإسكندرية رأى يشبه رأي الأديب الأشعري.

ص: 26

وإن في رأي صديقي الأستاذ عباس خضر المنشور في العدد 820 من (الرسالة) حلاً سايكلوجياً عجيباً، فهو يرى (أن يبتعد عادل قليلاً ويترك المعركة تدور بين كرامة جلال - ولا بد أن يستشعرها مع الزمن والتكرار - وبين فتور إلهام وإعراضها عنه، ويبعث عادل بالمدد إلى قلبها من بعيد، وسترى الأم سوء حال أبنتها فتشفق عليها وتتحول إلى جانب عادل فتكون عاملاً مهماً في إنهاء الموقف، بحيث يرى الضابط ضرورة فوز كرامته في المعركة بالانسحاب. . .)

هذا رأي العاطفة والقلب، أما أصحاب الرأي الثاني، رأي العقل والمنطق، ففي مقدمتهم الأديبة الآنسة سلوى الحوماني، ففي رسالتها يتحدث عقل المرأة وقلبها في وقت معاً، فكلاهما ثائر هادئ، يطعن في هوادة ويصفع في رفق، وهي قد استهلت رسالتها بقولها: وإني أشكر كاتب قصة (من الأعماق)، لأنه أتاح لي فرصة أخوض بها غمار هذا الموضوع وهو من صميم الحياة. إن الفتاة لتجد حرجاً كبيراً في أن تتحدث - علانية وفي صراحة - في مثل هذا الموضوع، لأنها تشعر في قرارها بالرجعية العقلية تدفعها عن هذا المضمار؛ وهي حين تتنحى عن إبداء الرأي ترتكب خطأين: الأول، أنها تذر الموضوع يفقد نصف الحياة حين يفقد نصف الرأي. والثاني، أنها تفر من ميدان الحياة وهو ميدانها.

ثم تتدفق بعد ذلك تقول:. . . ويجب أن ينسحب عادل من هذا الميدان، فهو يغالط نفسه حينما يزعم أنه يحب الفتاة حب قلب وعاطفة وتضحية، وهو لو صدق لما انقطع عن زيارتها سنة كاملة، لأن (أباها نهاها عن أن تدخل حجرة فيها الأستاذ عادل، إلا أن يؤذن لها).

هذا - ولا ريب - سبب تافه ضئيل لا يستطيع أن ينهض عذراً لمن يحب فينطوي سنة كاملة عن من أحب. لقد أراد أن يثأر لكرامة خدشت - كزعمه - فهل عجز عن أن يلقى فتاته خفية وفي مأمن من الرقيب، أو قعد عن أن يرسل إليها رسولاً يحدثها حديث قلبه وينشر عليها ذات نفسه، وهو رجل ذو حيلة ورأي؟ لقد كان يستطيع أن يفعل لو أراد، فإذا ضاقت به الحيلة أو خانه الرأي، انطلق إلى أبيها في غير وناء ولا تريث يكشف أمامه رغبة قلبه وأمل حياته، أو طار إلى أبيه هو يخبره الخبر كله، ولكنه لم يفعل شيئاً، بل وقف على حيد الطريق ينظر إلى الركب وهو يسير، ثم يزعم - بعد ذلك - أنه يحب فتاته

ص: 27

حب قلب وعاطفة وتضحية.

والفتاة أيضاً كاذبة فيما تزعم، فهي تتصنع لفتاها وما بها إلا التصنع، ولو أنها أحست له حباً صادقاً لما وافقت - بادئ الرأي - على أن تتزوج من جلال، ولاستطاعت أن تجد التعلات والأسباب لترفض أو تؤجل، ولما قالت لعادل تعتذر:(وخفت أن أطرد خطيبي فأتخلف عن الركب، وإن شبح ابنة عمي ليضطرب في ناظري كلما ذكرت الخطبة والزواج، فهي قد تأبت حيناً على الزوج أنفة منها وصلفاً. وهي الآن قد أشرفت على الأربعين ولما تجده، لقد فاتها الركب، وتخلفت عن القافلة).

هذا حديث خلو من الروحانية القلبية، لا يحمل عاطفة، ولا ينبض بإحساس.

هذا النوع من الحب فيه فورة الشباب وجموح العاطفة فحسب، والحب في أي صورة من صورة لا يصح أن يكون أساساً للسعادة الزوجية، لأنه ضعف عقلي يسيطر على الفتى والفتاة في سن الطيش والاندفاع، فيتمثل لهما صوراً أخاذة وأضواء خلابة تخطف البصر وتخلب اللب.

ولا عجب، فإن بناء أساسه هذا الضعيف يوشك أن ينهار!

وأخيراً، إن فتاة في الثامنة عشرة من سني حياتها لا تستطيع أن تختار فتاها اختياراً فيه الرأي والعقل والتجربة.

لقد اختار أبوها، اختار برأيه وتجاربه وأبوته، وهي ألقت السلم لرأي أبيها - بادئ ذي بدئ - فلو أن عادلاً ظل منزوياً لأصبحت إلهام زوجاً لجلال لا تلقي بالاً إلى من زعمت إنها تحبه.

والآن، كيف يخول عادل لنفسه أن يقتحم باب الفتاة ليغريها بأمر، وكيف تطاوعه هي، وهي توشك أن تكون زوجاً وربة دار، فليستشعر عادل رجولته وإنسانيته، ويذر العش ترفرف عليه أجنحة السعادة والطمأنينة. . .

وكتب الأديب صبري علوان بجامعة فؤاد ما يأتي:

إن القصة التي ذكرت - يا سيدي - هي قصة صديق لي هو في نفسي أخ، وفي قلبي حبيب. وهو رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه القوة والفتوة، فيه العلم والأدب، وفيه الرقة والظرف، وهو موظف حكومي لا يملك غير راتبه، وموظف الحكومة الآن رجل فقير لا

ص: 28

ترمقه عين، ولا يغبط على حال.

أما هي ففتاة في مستهل الحياة، مشرقة كالضحى، ندية كالفجر، رشيقة كالغصن، نضيرة كالزهرة، تتأرج عطراً وحياة وجمالاً. . . جمعهما الحب وتعاقد قلبهما على أمر. ثم جاء الفتى الثاني يخطب الفتاة إلى أبيها وبين يديه الثراء والشباب والجاه، فوافق الأب، واستسلمت هي. . . وترامى الخبر إلى صاحبي، فتوارى إلى الأبد عن عيني فتاته حين أحس أنها ستجد السعادة والرفاهية في دار خطيبها. . . توارى وفي قلبه الأسى والكمد، وضحى بقلبه في سبيل من أحب. . . فهل يستطيع عادل أن ينسج على هذا المنوال؟

وقال (فتى الأندلس) في رسالة افتتحها بتحية حارة مشكورة إلى كاتب (من الأعماق):

. . وإلهام فتاة عاقلة حصيفة تفحص الأمور بعقلها فحسب، ودليلي على ذلك قولها:(وحين وافقت على رأي أبي كنت قد خشيت أن تكون قد طردتني من نفسك لأنك نأيت عني). . . فهي إذن قد هفت نحو جلال، واستشعرت ميلاً له، ونسيت عادلا. أما العاطفة التي بدت لعادل منذ أن كان وكانت. فلم يكن حباً عميقاً يسمو على النوازع المادية، ويعلو على الخواطر الأرضية، بل كانت ألفة عقلية استشعراها لأنهما عاشا صديقين حيناً من الزمن. لهذا أرى أن ينسحب عادل ليذر الحياة تنطلق بالخطيبين إلى غايتها.

هذه آراء بعض صحابي من قراء (الرسالة)، وللباقين - ممن تنطوي آراؤهم تحت هذه المعاني - تحيتي وشكري، ثم عذري عن أن أذكر حديثهم.

أما رأي الحياة في هذه المشكلة، فسأقصه في العدد القادم - إن شاء الله - ولطالما امتدت يد الحياة إلى مشاكلنا لتحلها بطريقة عجيبة تسخر من المنطق البشري. . .

كامل محمود حبيب

ص: 29

‌إيوان كسرى

للأديب كاظم المظفر

ازدهرت الدولة الفارسية في عهدين من عهودها التاريخية المهمة: العهد الأول، أيام سابور المعروف بـ (ذي الأكتاف)؛ والعهد الثاني، أيام الملك العادل كسرى انوشروان. فقد تنازع هذا مع ملك روما الذي كان العدو الأول للفرس وأول منافس لكسرى. وقد حاربه وتغلب عليه في عدة مواضع بعد أن واصل هل زحف جيشه إلى مجاهيل أفريقيا واليابان والصين والروس فأصبحت إمبراطوريتهم من أعظم إمبراطوريات العالم.

وكانت عاصمة ملكهم (طيسبون). وذلك أيام الملوك الساسانية وكثير ممن سلف من ملوك فارس الأولين. وتقع هذه المدينة في الجانب العربي للمدائن من أرض العراق، ولكن سابور بن هرمز حول العاصمة إلى الجانب الشرقي من المدائن، وسكن هناك بعد أن بنى الإيوان المعروف بـ (إيوان كسرى) لهذه الغاية. . . وإنما سمي الإيوان باسم كسرى دون أن يسمى باسم بانيه سابور لما أدخل عليه الثاني من محسنات كثيرة في هيكلة كالزخرف والنقش وإقامة التماثيل بعد أن أتم الأماكن الناقصة من بناء هذا الإيوان، إذ لم تتسن لسابور إتمام بنائه قبل موته.

والإيوان ينبئنا عما وصلت إليه الحضارة الفارسية من تقدم ورقي وازدهار. وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي في وصف المدائن: (لم تزل المدائن دار مملكة الأكاسرة ولهم بها آثار عظيمة وأبنية قديمة منها الإيوان العجيب الشأن. لم أر في معناه أحسن منه صنعة ولا أعجب منه عملاً) وقيل إنما سميت هذه المدينة بالمدائن لكثرة ما بنى بها الملوك والأكاسرة وما أبقوا فيها من الآثار وهي على جانبي دجلة شرقاً وغرباً ودجلة تشق بينهما.

ومن أهم الأسباب التي دعت ملوك فارس إلى جعل عاصمتهم في المدائن موقعها الجغرافي الحسن وهواؤها الطيب النقي وتربتها الصالحة وماؤها العذب. ويقال - في هذا الصدد - إن الإسكندر المقدوني نزل المدائن وسكنها بعد أن جال في ربوع الأرض وبعد أن وطئ السهل والجبل فلم يختر منزلا من منازل العالم التي رآها وفتحها سوى المدائن. وقد بنى بها مدينة عظيمة وجعل عليها سوراً أثره واضح حتى وقتنا هذا. إلى أن توفي فيها وحمل تابوته إلى الإسكندرية؛ لأن أمه كانت مقيمة هناك ودفن عندها.

ص: 30

ولما فتح المسلمون بلاد الفرس واستولوا على المدائن تحت قيادة سعد بن أبي وقاص في صفر سنة 16هـ وهي السنة الرابعة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرب المسلمون ما خربوا من قصورها وانتهبوا ما انتهبوا من رياشها وأثاثها، ووصل عمل التخريب إلى إحراق ستر باب الإيوان فأخرجوا منه ألف ألف (مليون) مثقال من الذهب. فبيع المثقال بعشرة دراهم وبلغ ذلك عشرة آلاف ألف (10 ملايين) درهم. وقد جعل سعد بن أبي وقاص الإيوان محطاً لرحله وصلى فيه صلاة النصر بثماني ركعات.

وأنشئت في الدور الإسلامي الأول مدينة البصرة والكوفة فانتقل الناس إليهما. وما كاد المنصور يختط مدينة بغداد ويبنيها حتى تهافت الناس عليها وهجروا المدائن شيئاً فشيئاً حتى أصبحت أكثر العمارات خاوية والبنايات والقصور قفراً.

ولقد أراد الرشيد أن يهدم الإيوان وشاور في ذلك يحيى بن خالد البرمكي حين كان معتقلاً عنده إثر الفاجعة المعروفة فأشار عليه بأن لا يفعل، ولكن الرشيد أصر على رأيه في هدم الإيوان، وشرع في تخريبه. ثم نظر فإذا يلزمه في هدمه أموال طائلة لا طاقة له بها، فأمسك عن ذلك وكتب إلى يحيى يعلمه الخبر فأجابه أن ينفق في هدمه مهما بلغ من الأموال ويحرضه على فعله. فعجب الرشيد من تناقض كلامه وبعث إليه يسأله عن هذا. فقال: أما ما أشرت عليك به في الأول فلأني أردت بقاء الذكر لأمة الإسلام وبعد الصيت، وأن يكون من يرد في الإعصار ويطرأ من الأمم في الأزمان يرى مثل هذا البنيان العظيم فيقول إن أمة قهرت أمة هذا بنيانها لأمة عظيمة شديدة منيعة. وأما جوابي الثاني فأردت به نفي العجز عن أمة الإسلام كي لا يقول من يأتي في الإعصار الآتية إن هذه الأمة عجزت عن هدم ما بنت فارس. . . فلما بلغ الرشيد ذلك قال: قاتله الله فما سمعته قال شيئاً قط إلا صدق فيه ثم أعرض عن هدم الإيوان.

أما الآن، فلم يبق من ذلك البناء الشامخ إلا طاقه وجناحاه. وقد ورد أن هذا الإيوان من أعظم أبنية العالم، وهو مبني بالآجر على مرتفع من الأرض طوله (150) ذراعاً، في عرض مثلها، وأمامه ميدان طوله (80) ذراعاً في عرض (25). وقيل سعة الإيوان من ركنه إلى ركنه (90) ذراعاً وارتفاعه (80) ذراعاً. وقد تهدم هذا الإيوان ولم يبق منه في القرن السابع الهجري على ما ذكر ياقوت. إلا طاق يعرف بطاق كسرى، وهو طاق عظيم

ص: 31

بني بالآجر طول كل آجر نحو ذراع في عرض أقل من شبر. وكان فيه من التماثيل والصور شيء كثير: منها صورة كسرى أنوشروان وقيصر ملك إنطاكية وهو يحاصرها ويحارب أهلها.

وأما المدائن فقد أصبحت شبه قرية في الجنب الغربي من دجلة أهلها فلاحون، شيعة أمامية. ومن عاداتهم أن نساءهم لا يخرجن نهاراً أصلاً. وفي الجانب الشرقي منها مشهد الصحابي المعروف سلمان الفارسي رضوان الله عليه، وله موسم يذهب الناس إليه لزيارته والتبرك به ويكون ذلك في منتصف شعبان من كل سنة. وكان على مقربة من الإيوان قبران محترمان يرقد فيهما الصحابيان: عبد الله الأنصاري، وحذيفة ابن اليمان فأشرفا على الغرق لأن يه دجلة كانت - ولا تزال - تنال من الشاطئ، فنقلت الحكومة بقايا رفاتيهما إلى جامع سلمان الفارسي في عام 1350 هـ بمهرجان عسكري فخم.

وقد شاهدت الإيوان منذ سنة تقريباً فرأيته لم يبق من عظمته غير الطاق المرتفع الذي يطاول السحاب بعلوه. أما ما وصفه (البحتري) من تلك الصور المنقوشة على الإيوان كصورة كسرى وجنوده وقواده وهم يتقدمون إلى جيوش أعدائهم الرومان. وصورته والجارية الحسناء تقدم له كأس الشراب وقد أحدقت به المغنيات والراقصات. كل تلكم الصور وأمثالها لا وجود لها الآن في الإيوان فقد انطمست أعلامها وانمحت آثارها. والفرق واضح بين ما كان عليه الإيوان في عصر الدولة العباسية وبينه في عصرنا الحاضر.

وكان من ولع شعراء العرب بوصف ما يرونه من آثار الطبيعة وما فيها من جمال وسحر، أو تجهم وعبوس، أن تطرقوا إلى عظمة هذا الإيوان، وذلك حين كانوا يقفون على أطلال المدائن الخاوية فيتصورون أن أهلها أحياء يسيرون في الأزقة والشوارع بدعة واطمئنان وأن الملوك في وسط قصورهم مع بلاطهم وحاشيتهم وما عليهم من ثياب مزركشة وحلل زاهية فتستفز هذه الأخيلة قريحة أولئك الشعراء وتحرك هذه المناظر قيثارتهم الشعرية، فيروحون ينشدون قصائدهم التي تفيض بعواطفهم المكبوتة إزاء ذلك الملك الذاهب فيأتون بالشعر والسحر الحلال. وكان من بين الذين شاهدوا عظمة الإيوان وما فيه الشاعر الأرجاني الذي رأى التماثيل الموجودة في الإيوان فنظم قصيدته الرائعة التي لم تدعه إلى

ص: 32

نظمها عصبية الفرس - كما يدعي البعض - وإنما كان استجابة لطبع الشاعر وتلبية لسجيته المطلقة التي دعته إلى وصف بعض الصور الجميلة التي شاهدها. وكان من هذه القصيدة قوله:

رأيت عجيباً والزمان عجيب

رجالاً ولكن ما لهن قلوب

تماثيل في صخر فحيت كأنها

بنو زمن لم يلف فيه أريب

نزلنا وفوداً في حماها ولم يكن

لنا من قراها في الوفود نصيب

فنحن لدى كسرى إبرويز غدية

نزول ولكن الفناء جديب

بظاهر قرميسين والركب محدق

حواليه فيهم جيئة وذهوب

لدى ملك من آل ساسان ماجد

وقور عليه التاج وهو مهيب

مكان المناجى من خليليه واقفاً

وإن عز منهم سامع ومجيب

يرينك من تحت الحوادث أوجهاً

بها من تصاريف الزمان شحوب

وقاموا على الأقدام لا يعتريهم

مدى الدهر من طول القيام لغوب

وقصيدة شاعر الدولة العباسية أبو عبادة البحتري التي وصف بها الإيوان فكانت آية من آيات التصوير الشعري بعد أن سارت مسير المثل لما فيها من وصف بديع بعد أن ذكر جميع ما رأى من النقوش والتماثيل التي ارتسمت على جدران الإيوان وما أحيط به من العظمة والجلال. . . وهاهو يقول في أولها يمتدح نفسه:

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن جدي كل جبس

وتماسكت حين زعزع عني الد

هر التماساً منه لتعسي ونكسي

إلى أن يقول في وصف الإيوان مشيراً إلى ما فيه من زخرف وتصاوير:

لو تراه علمت أن الليالي

جعلت منه مأتما بعد عرس

فإذا ما رأيت صورة أنطا

كية ارتعت بين روم وفرس

والمنايا موائل وأنوشر

وأن يزجى الصفوف تحت الدرفس

وعراك الرجال بين يديه

في خفوت منه وإغماض جرس

وكأن الإيوان من عجب الصد

عة جوب في جنب أرعن جلس

مشمخر تعلو له شرفات

رفعت في رؤوس رضوى وقدس

ص: 33

ليس يدري أصنع إنس لجن

سكنوه أم صنع جن لإنس

غير أني أراه يشهد أن لم

يك بانيه في الملوك بنكس

وقال ابن الحاجب في وصف الإيوان ويخاطب بانيه ويذكره بتقلب الدهر وعثرات الزمن:

يا من بناه بشاهق البنيان

أنسيت صنع الدهر بالإيوان

كتب الليالي في ذراها أسطراً

بيد البلى وأنامل الحدثان

إن الحوادث والخطوب إذا سطت

أودت بكل موثق الأركان

ولشاعر قريش السيد الشريف الرضي يفتخر بالإسلام وقوته على الفرس وذلك في ذي الحجة 397هـ وقد اجتاز بالمدائن ونظر الإيوان فبهره منظره وأنشد في ذلك:

قربوهن ليبعدن المغارا

ويبدلن بدار الهون دارا

إلى أن يقول:

قد نزلنا دار كسرى بعده

أربعاً ما كن للذل ظوارا

وإذا لم تدر ما قوم مضوا

فسل الآثار واستنب الديارا

آل ساسان حدا الخطب بهم

واسترد الدهر منهم ما أعارا

كل ملموم القرى صعب الذرى

يزلق العقبان منه والنسارا

جعجعوا الإيوان في مبركة

مبرك البازل قد فض السفارا

مطرقاً إطراق مأمون الشذا

غمر النادي حلماً ووقارا

أو مليك وقع الدهر به

فأماط الطوق عنه والسوارا

ويحكي أن الملك جلال الدولة البويهي اجتاز بالإيوان فكتب عليه.

يا أيها المغرور بالدنيا اعتبر

بديار كسرى فهي معتبر الورى

غنيت زماناً بالملوك وأصبحت

من بعد حادثة الزمان كما ترى

وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مر على المدائن عند ذهابه إلى حرب الخوارج في النهروان. . . فلما رأى آثار كسرى وقرب خراجها قال رجل ممن معه:

جرت الرياح على رسوم ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

وإذا النعيم وكل ما يلهى به

يوماً يصير إلى بلى ونفاد

فقال علي: أفلا قلتم كما قال الله عز وجل: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام

ص: 34

كريم، ونعمة كانوا بها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منتظرين).

وكان ممن زار المدائن وشاهد القصر الأبيض - الإيوان - الإمامان الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب (ع) وذلك حين قتل أبوهما وقد توجها إلى المدائن فلحقهما الناس بساباط فحمل على الحسن رجل من أهل الكوفة فطعنه في فخذه، وسبقهم الإمام حتى دخل قصر المدائن فأقام فيه نحواً من أربعين ليلة ثم توجه إلى معاوية بن أبي سفيان وصالحه.

ومن العلماء الذين وقفوا على أطلال الإيوان علم الهدى السيد المرتضى الذي استثارت المناظر قريحته وطفق ينشد من قصيدة معروفة منها:

يا زميلي أنخ بشرقي سابا

ط مناخاً على الركائب دحضا

قد رأينا الإيوان إيوان كسرى

فرأينا كالطود طولاً وعرضا

وترى العين منه أبهة الملك

وعيشاً لأهله كان خفضا

حيث كانت ضلوع من ولج الأ

يوان ينفض بالمخافة نفضا

ولعل أحسن من وصف الإيوان من المعاصرين شاعر النجف السيد محمود الحبوبي في قصيدته العامرة (وقفة على طاق كسرى) يقول في أولها:

قفا واسألا أعجوبة الزمن الكبرى

عن الأعصر الأولى وعن ربه كسرى

لقد شاهد الأجيال والدهر يافع

وشاهدها والدهر محدودب ظهرا

هنا كان كسرى أم هنا لست دارياً

سلا هذه الجدران فهي به أدرى

وأنشد في الإيوان أيضاً الشاعر النجفي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي قصيدة عامرة أولها:

قف في المدائن واستنطق بها العبرا

عن ألف جيل وجيل فوقها عبرا

واستعرض الدهر أشكالاً منوعة

فيها لتعرف من أحوالها صورا

واستخبر الرسم عنها حين تقرؤه

فسوف يعطيك عن تاريخها خبرا

والعين إن تك قد فاتتك رؤيتها

فلا يفوتك منها أن ترى الأثرا

ويقول فيها مخاطباً الإيوان:

أنشودة أنت للأجيال خالدة

لذاك أضحى فم الدنيا لها وترا

وآية طأطأ الدهر الخطير لها

لما تسامت على عليائه خطرا

ص: 35

وفكرة في دماغ الفن زاولها

قرناً فقرناً ليبديها فما اقتدرا

حتى إذا نضجت أفكاره ولدت

نتيجة ترهب الأجيال والعصرا

كاظم المظفر

(النجف - العراق)

ص: 36

‌في تكريم أبطال الفلوجة

للأستاذ العوضي الوكيل

دارت رحاها، واستمر مريرها

وظغت زمازمها، ولج قتيرها

حميت على الأسد الغضاب دروعها

فانداح في لجج الفضاء زئيرها

من كل أروع تطيبه شهوة

للنصر. . . يفلح جانبيه سعيرها

يمضي إلى غاياته، وكأنه

قدر يبيد خصومة، ويبيرها

في كفه كأس المنون روية

وعلى العدا الباغين راح يديرها

هل في صوارمه، وفي آماله

إلا أماثيل يرام نشورها

أخت تضام فكيف ينكل دونها

إن لم يجرها فالفناء مجيرها

وشقيقة أخنت عليها عصبة

أمصارها أسلابهم وثغورها

هتفت إلى أين النصير، فإن ينم

عنها. فأين على الزمان مجيرها؟

يمضي لها شاكي السلاح مقذف

خفاق ألوية العلا، منشورها

أرأيت للأبطال في (فلوجة)

قصصاً تألق في العيون سطورها

إن أغطشت دنيا الكفاح، تألقت

فأضاء آفاق الكنانة نورها

فصل من التاريخ ترنو نحوه

حقب الزمان وتشرئب عصورها

حرب العزائم تلك. خاب عجولها

وتطاحن الأرواح، فاز صبورها

وجزيرة في لبيد تصخب حولها ال

لجج الهوادر ما يخف هديرها

إن يندفع موج إلى شطآنها الش

ماء ردته هناك صخورها

ما كان من سور هناك فإنما

جلد الرجال على المكاره سورها

العسكر المحصور في أرباضها

جن تثور فلا يطاق ثؤورها

حلفت بمصر فصدقت أيمانها

مهج يفيض على الرمال طهورها

ما راعها قصف الحديد وفتكه

كلا، ولا نار يفور زفيرها

راح الكفيف بها يسدد رميه

فيصيب أبعد ما يصيب بصيرها

يد خالق الأكوان ترمي دونه

فيقيم من تقديره تقديرها

وإذا التقى الإيمان في قلب امرئ

بالعزم أيسر في الحياة عسيرها

ص: 37

أبطال مصر هفت لكم أنسامها

وشدت بكم فوق الغصون طيورها

في كل منعطف، وكل ثنية

دنيا يفيض حبورها وسرورها

في حيث سرتم يغتدي ريحانها

بسطاً. وتنتظم الطريق زهورها

حتى السماء. رمت عليكم طلها

بشراً. ووذ على الحشود مطيرها

وتلفت الملك الهمام لجيشه

في نظرة لا يختفي تفسيرها

عاش المليك لمصر قائد نهضة

سارت، وفي نعماه كان مسيرها

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

توفيق الحكيم في كتاب عن الأدب المعاصر:

سيدي الأستاذ

قرأت لك كل ما سطره قلمك منذ أن تناولت قلمك لتكتب. تتبعت فصولك النقدية في (العالم العربي) ثم تتبعت بعد ذلك مقالاتك وتعقيباتك في (الرسالة)، وكما تبدي رأيك في الغير فلا بأس أن أبدي رأي فيك. إن ملكتك الناقدة هي خير ملكاتك جميعاً، بل هي خير ملكة إذا ما وضعت ملكات النقاد المعاصرين في الميزان!. . . بالله لا تتعرض لهذه الكلمات بالحذف إذا ما نشرت هذه الرسالة وعقبت عليها، إنها رأي حر يبديه فيك إنسان قرأ أكثر ما أخرجته المطبعة في الشرق والغرب من دراسات نقدية، إنسان يزن أقدار الناس ويؤمن بما يقول. . . ولولا إيمانه برأيه لما لجأ إليك يسألك بعض العون في فصل من فصول كتاب يضعه منذ شهور عن الأدباء المعاصرين!

إنني أعرف أنك صديق قديم لهذا القصاص العبقري توفيق الحكيم وليس من شك في أنك قد درست شخصيته الفنية من خلال كتبه دراسة ناقد، ودرست شخصيته الإنسانية من خلال معرفته دراسة صديق، أعني أنك تستطيع أن تربط ما بين الشخصيتين لترسم لنا صورة دقيقة لهذه الشخصية المزدوجة التي تبدو لعيني مبهمة ولفكري معقدة. . .!

إن شخصية توفيق الحكيم هي الشخصية الوحيدة التي أقف منها دائماً موقف الشك وعدم الثقة من ناحية وزنها والحكم عليها، حتى هؤلاء الذين اتصلت بهم من معارفه ليحدثوني عن طبيعته النفسية كما هي في واقع الحياة والفن، لم يستطيعوا للأسف أن يمدوني برأي فاصل أطمئن إليه؛ يبدو أنه مبهم حتى على الذين يعرفونه ويتصلون به. . . لست أدري إن كنت سأجد عند قلمك مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة! إنني أرجو إذا تحققت هذه الأمنية ألا تسبب لك هذه الرسالة بعض الحرج إذا ما كشفت عن أشياء قد لا ترضي صديقك. . . مهما يكن من شيء فلا تنس أنك تؤرخ للأدب، وأن النكوص عن ذكر الحقائق في سبيل إرضاء الصداقة من شأنه أن يجرح التاريخ الأدبي والضمير الأدبي، وهذا هو الانحراف الذي أنزه قلمك عن الوقوع فيه!

ص: 39

إنك تعلم ولاشك أن النقد الأدبي الحق هو ما قام على دراسة أدب الكاتب مرتبطاً بشخصيته، لأن الأسلوب من الرجل كما يقول بوفون، وكل دراسة لا يتحقق لها هذا الجانب تفقد عنصراً خطيراً يهدد قيمتها الفنية بالضياع!. . . على هذا الأساس أريد أن تكتب، ولا أطلب منك صفحات فإن سطوراً تقدم لي مفتاح هذه الشخصية تكفيني. ولا أطلب منك تطبيقات فحسبي أن تمدني بالقاعدة العامة وعلي أنا أن ألتمس المثال!

وفي انتظار كلمتك الفاضلة، أرجو أن تتقبل تحيات المقدر لفنك.

محمد عادل المرصفاوي

قسم الدراسات العليا - جامعة فاروق

أشكر للأستاذ الفاضل هذا التقدير الذي يسبب لي كثيراً من الحرج. . . لقد ظن أن الحرج سيتمثل في نقدي لشخصية الأستاذ توفيق الحكيم الفنية، ولكن الحرج كل الحرج يتمثل في هذه الكلمات التي تخصني بثناء لا أستحقه! يا صديقي، آمل ألا يدفعك الإعجاب بكاتب إلى الغلو في تقديره، وبخاصة في هذا الكتاب الذي ستخرجه في القريب عن الأدب المعاصر وتقيم فيه الميزان لأقدار الأدباء. . . إن رسالتك لتنبئ عن عقلية ناضجة حقاً وفهم أصيل لقيم الدراسة النقدية، وفي هذا ما يطمئنني على أن كتابك سيكون له في رحاب النقد الأدبي مكان!

إنه ليسعدني أن أقدم إليك كل ما في حدود الطاقة من عون. . . سأقدم لك رأيي في فن الأستاذ الحكيم مرتبطاً بشخصيته، وهو رأي أقمته على دراسة أعتقد أن عناصرها قد اكتملت على هدي صلتي به وقراءتي له. إنني أوافقك على أن هذه الشخصية تحتاج إلى كثير من التثبت قبل الأقدام على الكتابة عنها والحكم عليها، لأنها من الشخصيات التي لا تتكشف لدارسيها إلا بعد تأمل وعناء!

أرجو أن أضع بين يديك (مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة) في العدد القادم إن شاء الله. وثق أنني سأحدثك عن توفيق الحكيم الصديق بما يرضي الحق وحده والفن وحده، وللأستاذ الفضل تحيتي خالصة.

لحظات أخرى مع جان كوكتو:

ص: 40

الكاتب الفرنسي مشغول. . . مشغول بمقابلاته، ومشغول بمسرحياته، ومشغول بجولاته الفكرية وتهويماته الفنية، ومعنى هذا أن زائره لن يظفر من لقاءه إلا بالرأي الطائر والحديث العابر، وهذان أمران يقنع بهما مندوب صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية لينقل إلى القراء لمحات خاطفة عن جان كوكتو!. . . أما أنا فقد حاولت أن ألقاه لقاء أديب يود أن يجلس إليه ساعات يسأله عن كل شيء ويتحدث معه في كل شيء: في أدب القصة، في أدب المسرحية، في الموسيقى، في التصوير، في النقد الأدبي، في الشعر، في كل تلك الفنون التي يشارك فيها جان كوكتو ويستطيع أن يتحدث عنها حديث خبير. حاولت أن ألقاه هذا اللقاء ولكنه اعتذر بضيق وقته وكثرة شواغله، مما لا يتيح لزائره غير فترة يقضيها معه ويخرج منها بالرأي الطائر والحديث العابر. . . وكما اعتذر إلي عن هذا اللقاء الطويل فقد اعتذرت إليه عن هذا اللقاء القصير، بعد أن قدمت إليه تحيتي وتحية (الرسالة) وبعد أن تلقيت خالص شكره على التحيتين مع رجائه بتلبية رغبتي إذا تهيأت له فسحة من الوقت في مقبل الأيام!

لا بأس إذن أن نقضي مع جان كوكتو لحظات من تلك اللحظات العابرة التي قضاها معه مندوب (المصور) وخرج منها بهذه الآراء العابرة التي تحمل بعض اللمحات والتوجيهات سأله مندوب (المصور) وخرج منها بهذه الآراء العابرة التي تحمل بعض اللمحات والتوجيهات سأله مندوب (المصور): هل شاهدت مسرحيات مصرية؟ ما هي ملاحظاتك عليها؟ ألم توح لك مصر بكتابة شيء عنها؟ ما رأيكم في آثارنا؟ وأجاب الكاتب الفرنسي بأنه لم يشاهد غير قصة سينمائية مصرية واحدة، حفلت بالحشو والتعقيد وكأنها عشرة قصص في قصة! أما الإخراج فيعج بالمبالغات والحركات المفتعلة والانفعالات المتلاحقة المتباينة التي لا تفهم. . . إن الفيلم المصري في رأي كوكتو لا يهدف إلى فكرة، وإن المؤلف الحق هو من يهدف بقصصه إلى الدعاية لفكرة، وكلما بسط هذه الفكرة وأوضحها وفق ونجح في الوصول إلى هدفه، واستطاع أن يخرج بعمله من إطار المحلية في الفن إلى نطاق العالمية! أما مصر فقد قال عنها كوكتو إنها أوحت إليه الكثير. . . لقد انفرد بأبي الهول ساعات في النهار والليل، وصادف من قلبه منزلة حسنة فباح له بسره، أما هذا السر فسيحمله إلى المصريين كتاب يود كوكتو أن يفرغ منه في الشهور المقبلة، كتاب يقبس

ص: 41

أسلوبه السحر من وحي النخيل الباسق على ضفاف النيل! بعد هذا يقول كوكتو إنه زاد دار الآثار العربية ورأى فيها أشياء عظيمة رائعة، ولكن طريقة عرضها خاطئة. . . إنها مكدسة كما لو كانت في مخزن!

هذه الآراء الناضجة يبديها فنان ناضج، يملك من رهافة الذوق وعمق الخبرة وطول المران ما يعنيه على النظر الثاقب، والحكم الصائب، والتقدير الممتاز. . . إن كل ما نطلبه من كتابنا القصصيين، ومخرجينا السينمائيين، والمشرفين على صناعة الفلم المصري، هو أن يتدبروا هذه الكلمات لأن الذي ينطق بها هو جان كوكتو لا الأستاذ يوسف وهبي! وما نطلبه من هؤلاء نطلبه من أولئك الذين يقومون بأمر دار الآثار العربية، وحسبهم أن الذي يوجههم إلى الأصول الفنية في عرض تحفنا وآثارنا هو جان كوكتو أيضاً لا الدكتور زكي محمد حسن!

أما الشيء الذي نطلبه من الكاتب الفرنسي فهو أن يكون صادقاً في إصغائه لكلمات أبي الهول، أميناً في نقل حديثه ونجواه. . . إن أبا الهول لا يمكن أن يتجنى على وطنه، لأنه عاصر تاريخه، وأشرف على حضارته، وبارك منذ خمسة آلاف عام مجده الخالد؛ إننا في انتظار كتاب جان كوكتو لننظر فيما إذا كان قد استمع لكلمات محدثه أم انقاد لنزوات هواه!

جولة في معرض الفن الإيطالي:

هذا المعرض الممتاز إقامته بسراي الخديوي إسماعيل بثكنات قصر النيل جمعية محبي الفنون بالقاهرة، بالاشتراك مع متحف بينالي بمدينة البندقية بإيطاليا. . . ولقد ساهم في إعداده كثير من المتاحف وقاعات العرض العامة بميلانو وفلورنسا والبندقية وبليزانس وتريستا، وأصحاب المجموعات الخاصة؛ أما المدارس الفنية التي يمثلها هذا العدد الكبير من اللوحات التصويرية الرائعة، فموزعة بين النيوكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والذاتية والسريالية.

سأقدم إليك مما شاهدت بعض لوحات ممتازة إذ يضيق النطاق عن التحدث عن كثير. . . اللوحة الأولى (أولاد الأمير والأميرة تروبتسكوي) للفنان الرومانتيكي الملهم دانيال رانزوني. ستلمس في هذه اللوحة عبقرية التلوين والتظليل. . . إن رانزوني ينقلك بظلاله وألوانه إلى آفاق وافنشي وموريللو ويوسان، ولكنه يختلف عنهم في ظاهرة الميل بفنه إلى

ص: 42

الأجواء القاتمة المحجبة، تلك الأجواء التي تخضع لأثر البيئة في مزاج الفنان. . . لقد كان رانزوني من أبناء مقاطعة يغلب فيها الضباب على الإشراق، ومن هنا انعكس الدور الذي عاش فيه بحسه على الفن الذي عاش بروحه، وما الفن كما قلت غير مرة إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!

أما اللوحة الثانية فهي (الحصان الميت) لأبرع فناني إيطاليا في القرن التاسع عشر جيوفاني فاتوري. . . إن فاتوري لا يمكن أن يسمو بظلاله وألوانه إلى مقدرة رانزوني، ولكنه يبزه ويتفوق عليه في مجال الفن التعبيري. إن مزية هذا الفنان تتركز في ريشته التي تنقل إلى الورق أدق ما في الحياة من لمحات؛ نظرة واحدة إلى لوحته الفريدة تنبئك بأن هذا الرجل الواجم المطرق الملتاع، لا يملك من دنياه غير هذا الحصان الملقى تحت قدميه. . . هنا وجه معبر تطلق الريشة من قسماته أعمق معاني اليأس والألم والدموع! هل تعرف دي لا كروا في دقة تعبيره؟ إن فاتوري يذكرك بهذا الفنان!

تعال بعد ذلك لنتأمل هذه اللوحة الثالثة (حنان الأم). . . إن مبدعها ترانكيلو كريمونا يمتاز بالجمع بين موهبتين: التلوين والتعبير. أما التلوين فطريقته فيه تختلف عن طريقة زملائه، ' ن ألوانه على القرب متداخلة، باهتة، تمتزج فيها الأضواء بالظلال ولكنها على البعد شيء آخر. . . إنها تبدو لعينيك متناسقة، مشرقة، متميزة ببراعم التصميم! أما في مجال التعبير فإن هذه اللوحة تذكرك بلوحة أخرى لرفائيل هي (العذراء والطفل). . . إن كريمونا يكاد يقترب من رفائيل في تصويره لأسمى معاني الأمومة في نظرات السيدة العذراء، وفي تعبيره عن أرفع معاني البنوة في نظرات السيد المسيح!

وقف طلايلاً أمام هذه اللوحة الرابعة، إنها (الهجوم على عربة الحشائش) لحامل لواء المذهب الواقعي في إيطاليا فيليبو باليتزي. . . إن هذا الفنان يمتاز بالحساسية المرهفة؛ الحساسية التي تطبع أعماله الفنية بطابع الحركة الجياشة المتدفقة. تمثل هذه اللوحات عدداً من المواعز يهجم في نهم بالع على عربة محملة بالحشائش. . . أنعم النظر في وثبات المواعز وفي تلك النشوة المنبعثة من عيونها وهي مقبلة في ثورة الجوع على غذائها الحبيب، لتلمس كيف يشيع باليتزي الحياة والحركة في لوحته، وكيف يغرقها في جو من الواقعية التي تطبع الفن بطابعها القوي الصادق المتميز. . . إن الحركة في فن باليتزي

ص: 43

تذكرني بمثيلتها في فن رمبرانت!

بقي أن أشير إلى لوحات أخرى تغري بالتأمل وإطالة الوقوف وهي: (الراحة) لأنطونيو فونتانيزي، (وموسيقى المشاة) للويجي نونو، و (رجل يقرأ) لجينوبي أباني، و (الحظيرة) لباليزي صاحب (عربة الحشائش)، و (غروب الشمس في سان مورو) لفونتانيزي أيضاً. . . أما الحجرة التي تقع إلى اليمين وأنت تتخطى الباب الخارجي فلا تحاول أن تدلف إليها حتى لا يفسد ذوقك، إنها حجرة السير ريالزم!!

إيفات على قبر غاندي:

هل تعرف هذا الرجل العظيم هربرت إيفات؟ إنه وزير خارجية أستراليا، والرجل الذي هز أعماق الضمير الإنساني حين وقف أكثر من مرة ليدافع عن حقوق الأمم الصغيرة أمام هيئة الأمم المتحدة! لقد شاهدته فبل أيام في إحدى الصحف اليومية وهو يحج إلى قبر الروح العظيم؛ شاهدته يقف وقفة العابد المتبتل يضم يديه في خشوع إلى صدره، وكأن القبر الذي أمامه قد استحال إلى محراب! ولقد خيل إلي في وقفته تلك أن عينيه تسران إلى القلب حديثاً فيه رؤى ما كان أروعها وأطياف. . . إن هربرت إيفات كان يتحدث في لغة الصمت إلى الرجل الذي وهب قلبه للإنسانية وضحى بحياته من أجل السلام. ترى ماذا كان يقول له وهو في رحاب الأبد وفي ضيافة السماء؟ وأية كلمات تلك التي انطلقت من نظراته الحالمة لترطب الثرى المعطر برفات رجل السلام والوئام والمحبة؟. . . لعله كان حديثاً عن الإنسانية التي مات فتها الضمير يوم أن امتدت إلى غاندي يد لطخها العار فأطفأت الشعلة وعصفت بالضياء، وأي ضياء هذا الذي خبا يوم أن قضى الروح العظيم والقلب الكبير، وترك الحياة من حوله تغيش تحت قبضة الظلام؟. . . ما كفرت بالضمير الإنساني إلا بعد أن قتل غاندي، وما كفرت بالضمير الإنساني إلا بعد أن وقف إيفات ليدافع عن حقوق الضعفاء فضاع صوت الحق وسط ضجيج الباطل وخفت صداه. . . ترى أكان إيفات يتحدث إلى غاندي عن خيبة الأمل وضيعة الرجاء، أم كان يسأله الرأي ويستمد من روحه العون ويقضي حقوق الوفاء؟!

أنور المعداوي

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

شعر المناسبات:

قلت في العدد الأسبق من (الرسالة) بصدد الكلام على قصيدة (موكب الأبطال) للأستاذ علي محمود طه: (وبعد فقد قام شاعرنا الكبير بحق البطولة على الشعر وجاءت قصيدته عملاً ممتازاً ينبغي أن ينظر فيه الشعراء الذين يؤثرون الهرب من المجتمع والانطواء على عواطفهم الشخصية وخيالاتهم البعيدة عن مضطرب الحياة. . .) الخ

قال لي صديق من الشعراء، وقد قرأ ذلك: أتدعو إلى شعر المناسبات؟

شعر المناسبات؟ تلك كانت قضية أثارها بعض الكاتبين منذ زمن، فأزروا بمن يحملون أنفسهم على القول فيمل لا يشعرون به بدافع المجاملة أو الملق أو حب الظهور أو غير ذلك من دوافع النظم الذي يخلو من حرارة التعبير الصادق.

ولكن قل لي بالله أيها الصديق: إذا جاءت مناسبة قومية أو اجتماعية فخالجت نفس المشاعر أو هزت مشاعره واستجابت لها شاعريته، أنقول له: امسك عليك لسانك فهذا شعر مناسبات؟

المسألة ليست شعر مناسبات وغير مناسبات إنما هي شعر صادق وشعر متكلف، وكما يكون كل منهما في شعر المناسبات يكون في غيرها، فكم من شاعر يتملح بالحب والوجد والهيام وهو لا يعرفها غير ألفاظ!

حقاً إن كثيرين من المتهافتين على مائدة الشعر يكثرون من التزييف في المناسبات، ولكن الصيرفي الحاذق يميز الصحيح من الزائف، فلا يرفض النقود كلها لأنه هناك مزيفين كثيرين.

فلم محمد على الكبير:

درست وزارة الشؤون الاجتماعية موضوع إخراج فلم عن حياة محمد علي باشا الكبير يصور مختلف مراحل حياته وأعماله العظيمة وفتوحاته المجيدة، ليكون ضمن مظاهر الاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على وفاته. ويرجى أن يكون هذا الفلم دعاية لمصر لما

ص: 46

سيعرضه من روائع تاريخها في تلك الفترة التي وضع فيها أساس مصر الحديثة، إلى أنه العمل الفني الذي يعتبر الأول من نوعه في مصر التي لو سئلت الآن عن إنتاجها من الأفلام الثقافية لصمتت صمتاً يخرجها منه فلم محمد علي المنتظر.

وقد أرسل معالي وزير الشؤون إلى دولة رئيس الوزراء مذكرة بنتيجة دراسة هذا الموضوع، وهي تتلخص في أن اللجنة المؤلفة لإعداد المشروع قد انتهت من وضع مشروع القصة وقدرت نفقات إنجاز الفلم باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية بمبلغ 80000 جنيه وقد أبدت شركة مصر للتمثيل والسينما استعدادها لتنفيذ هذا المشروع، على أن تعاونها الوزارات التي يحتاج الفلم إلى معاونتها فيه وأن تمنحها الحكومة إعانة مالية قدرها 30000 جنيه، تردها إلى الحكومة إذا بلغ إيراد الفلم مقدار نفقاته.

هذا وقد كتبت بعض الصحف تشير إلى أن يستعان ببعض الأجانب في تأليف قصة الفلم وكتابته (السيناريو). وهو رأي لا أراه على شيء من الصواب، لأنه فلم قومي ولا بد أن يشتمل على نواح قد تصطدم برضاء بعض الدول الاستعمارية التي كانت تناوئ مصر وتعمل على إحباط مساعي محمد علي، كما حدث في حرب المورة وإرسال الأساطيل إلى الإسكندرية.

فإذا قيل أن من نختارهم للعمل في الفلم من الأجانب سيعملون تحت إشرافنا وإنهم لن يستطيعوا أن يشوهوا مفاخرنا، أقول: كيف نحملهم على تزويد الفلم بالحرارة القومية التي لا يشعر بها إلا المصريون؟

إن إعداد الفلم وإخراجه بأيد مصرية يكسب الحياة ويلبسه الروح الوطني المنشود ولو جاء غير مستكمل لأسباب الكمال الفني ثم هي فرصة طيبة لتجربة الجهود المصرية وتدريبها في هذا المجال.

بيان وتعقيب:

التقيت بالأستاذ عبد الرحمن الخميسي على أثر ما كتبته عن قطعتين له هما (فليا يافليا) و (حلم الزواج الساحر) وكان قد اتصل بي بالتلفون قبل اللقاء كما ذكرت في الأسبوع الماضي وتحدثنا بالموضوع فأفضى إلي بوجهة نظره فيه، هي تتلخص في أن تينك القطعتين من (أوبريت الأرملة الطروب) التي قصد بترجمتها إلى العربية نقل فن من

ص: 47

الموسيقى الغربية إلى الأسماع الشرقية لتتعود هذا النغم، عسى أن يؤدي ذلك إلى ترقية الموسيقى العربية، وأنه حين ترجم القطعتين كان في جو تلك الموسيقى العالمية، فكان يساير نغماتها، وينظم مقاطع موافقة لها وإن كانت مخالفة للأوزان العربية، إذ كان غرضه أن يوافق على النغم ويؤلف مقاطع للغناء لا شعراً للقراءة. وقال الأستاذ: إنه لا يعرف من أين جاءت كلمة (الواج) التي لا معنى لها في قوله:

لو أنني في الواج

أغلقت قلبي بالرناج

ولا يذكر لها أصلاً. أما (لو) في قوله:

أواه لو تكن معي

حبيبتي ضياء عيني

فأصلها (إن) وقد حرفت في الطبع

وأنا لا أوافق الأستاذ الخميسي على ما ذهب إليه في إخضاع تأليف الأغنية للنغمات الغربية، وللأستاذ مذهبه وذوقه في الموسيقى الغربية، أما ذوقنا في موسيقى الشعر وغنائه فهو منطبق على الأوزان العربية، ولست ممن يستسيغون ذلك الذي يسميه النغم العالي، ثم هل يصح أن نؤلف كلاماً غير مفهوم لينسجم مع لحن ما؟ إننا إذن نحتاج إلى إعادة النظر في أن (كلامنا لفظ مفيد كاستقم) لنرى هل نستثني بعض الكلمات لغرض موسيقى، من كلامنا المفيد. . .

استقلال مجلس الإذاعة:

يتضمن قانون الإذاعة الجديد الذي تبحثه الجهات المختصة أن تمنح الإذاعة استقلالاً ذاتياً فيما يتصل بالأعمال الفنية. ولكنها تخضع في ميزانيتها العامة لوزارة الشؤون الاجتماعية وألا يكون مدير الإذاعة عضواً في مجلس إدارة الإذاعة وله أن يحضر جلساته بصفة مستمع فحسب، وكذلك المستشار.

وقد كان ذلك القانون مثار جدل وأخذ ورد بين إدارة الإذاعة وبين الجهات التشريعية في الحكومة، وكانت الإذاعة حريصة على المطالبة باستقلالها لتكون بعيدة عن التيارات الحزبية السياسية، وقد نالت هذا الاستقلال في الجانب الفني من أعمالها. ولكن هناك استقلالاً أهم من ذلك وأبعد أثراً في تأثير هذه الناحية الفنية وهو استقلال مجلس إدارة الإذاعة عن موظفيها من المدير والمستشار والمراقب وغيرهم

ص: 48

نرى مجلس الإذاعة يجتمع وينفض، وتنشر الصحف ومجلة الإذاعة أنباء اجتماعية والموضوعات التي نظر فيها والقرارات التي اتخذها، وإذا هي لا تكاد تخرج من علاوات الموظفين وترقياتهم وتحديد أجور الفنانين ومبنى الإذاعة الجديد. وكأنها صيغة معدة أو قطعة محفوظة أو (شريط مسجل) يذاع على إثر كل اجتماع وكأن هذه البرامج التي أجمع الناس على سخفها ليست من اختصاص مجلس الإذاعة.

والواقع أن موظفي الإذاعة (الفنيين) يقدمون من يشاءون ويؤخرون من يشاءون، ويتملقون الكبير ويخطبون النافع حتى أصبحت الأمور في الإذاعة تجري وفق الاعتبارات الشخصية اكثر من الاعتبارات المصلحية. وترفع الأوراق إلى مجلس الإذاعة للموافقة، فيوقع الأعضاء بالموافقة، ثم ينظرون في علاوات الموظفين ومبنى الإذاعة الجديد. . . الخ

وقد تضمن القانون الجديد أيضاً أن يؤلف مجلس الإذاعة من أحد عشر عضواً، ستة من الوزارات وثيقة الاتصال بأعمال الإذاعة، وخمسة من كبار المشتغلين بالأدب والثقافة. وحسن جداً أن لا يكون المدير أو المستشار عضواً في هذا المجلس كما ينص القانون الجديد ليتم للمجلس استقلاله، فيبحث كل شيء، ويناقش كل ما يجري، وليضع خطة وهدفاً يشرف على تنفيذها بحيث لا يحيد عنهما أحد.

وكما تحرص الإذاعة على استقلالها لتكون بمنأى عن الحزبية السياسية، فإن مجلس الإذاعة يجب أن يكون مستقلاً عن الموظفين ليكون هو أيضاً بمنأى عن حزبيات موظفي الإذاعة واعتباراتهم الشخصية.

من طرف الأسبوع:

زرت الأديب الكبير إبراهيم ناجي في مكتبه بمستشفى الخازندارة، والدكتور الأديب هو مدير المستشفى، فبادرني قائلاً: اسمع لما أقول لك. ليس هنا أدب، ولا فن. هنا طب وأطباء فقط. ثم أخذنا في حديث الأدب والشعر! ولم اخرج من عنده حتى اتفقنا على تعريف الأدب (بلغة الطب) بأنه داء لا برء منه.

ومما أطرفني به الدكتور أبيات قالها لصديقه الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير التموين عندما ذهب إلى معاليه في الوزارة ولقى هناك ما لقى من السكرتير، فكتب الأبيات وطلب من السكرتير أن يوصلها إلى معالي الوزير، وانصرف. والأبيات هي:

ص: 49

لم أنس في باب الوزير الذي

لقيت من رَكن ومن لطع

وعسكري قائم دونه

كالسيف في طول وفي قطع

وللأفندي نفخة مرة

ذممتها ما شاء لي وسعي

وكيف أنسى مرة موقفي

عندك بين السيف والنطع

ومن طرف الأسبوع أيضاً أن الآنسة أماني فريد قدمت قصيدة إلى جامعة أدباء العروبة لتلقيها في الحفل الذي أقامته الجامعة للاحتفاء بأبطال الفلوجة، وأول القصيدة:

أأبصرتمو العاصف المرعدا

أأبصرتمو الضبع الأسودا

ولما عرضت القصيدة على معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا، واطلع عليها، وردت على خاطره قصيدة الأستاذ علي محمود طه التي أولها:

أخي جاوز الظالمون المدى

فحق الجهاد وحق الفدا

فقال معاليه: إما أن يأتي الأستاذ علي طه فيلقي بنفسه وإما لا!

عباس خضر

ص: 50

‌البريد الأدبي

حول نيتشة وفجنر:

يقول الأستاذ محمد فهمي في الرد على الأستاذ أنور المعداوي: (أما سبب ذلك الانقلاب - أي انقلاب نيتشة على فجنر - من النقيض إلى النقيض للفيلسوف على صديقه الموسيقار فيعزوه المثقفون وبعضهم على الأقل إلى علاقة غرامية أحس بها الفيلسوف نحو زوجة صديقه الفنان) ولا يمكن أن يكون في هذه الأسباب الصغيرة سر تحول رأي نيتشة في الفنان الكبير؛ وإن نيتشة يعتبر في تاريخ الفلسفة الواحد الفرد الصارم العميق والذاهب إلى الحقيقة كيفما كان ثمنها، والذي ظل يحارب المرض والجنون والفقر سعياً وراء الحقيقة حتى دفع ثمنها آخر قبس من نور عقله العظيم.

والأستاذ (محمد فهمي) لم يصور لنا بأسلوب علمي صريح معنى فكرته؛ فأي شيء يمثله لنا تأثر نيتشة بفجنر؟ هل يعني بذلك أن فجنر تسلط على نيتشة بعصاه السحرية حتى شكله تشكيلاً موضوعياً؟ ومعنى هذا أن فجنر شكل أسلوب تفكير نيتشة ولون ميوله الفنية والفلسفية ووجه نظره نحو الناس والأشياء وأوضاع الكون حتى نراه قد حارب في الميدان الفكري الذي حارب فيه فجنر ومن أجل فكرة فجنر!

هذه الصورة من التأثر هي التي تشغل مكانها في أحكام النقد الفلسفي. فنحن نقول مثلاً: إن (إنجلز) تأثر (بماركس) لأنهما حاربا من أجل فكرة واحدة وغاية واحدة في الحياة، وهذا هو الذي لم يحدث بالنسبة لنيتشة وفجنر، فإن نيتشة قد تأثر بفجنر كصديق وتأثر بشوبنهور كأستاذ، وكانت سنه في ذلك الحين قرابة الخامسة والعشرين، وكانت هذه المرحلة بالنسبة لنيتشة مرحلة تحصيل واستيعاب: مرحلة هام فيها الفيلسوف الشاب وراء الحقيقة تساوره الوساوس والشكوك في قيمة الوجود ومعنى الحياة، وأخيراً وجدها نيتشة قائمة في نفسه، وإذ ذاك وصل إلى نقطة الارتكاز فثار بعقله الجبار على كل الأصنام، ودعا إلى تحطيم ألواح الوصايا والآراء الفلسفية الداعية إلى الحياة السلبية، وقد أيقن في قرارة وجوده الفلسفي أن الإنسان العظيم هو الذي يبدع القيم والاعتبارات ويخلع على الحياة لون تفكيره.

وعندما وصل نيتشة إلى المرحلة الإيجابية من حياته تنكر للصديق والأستاذ تنكراً شريفاً

ص: 51

من أجل رسالته الفلسفية، فاحتفظ بحبهما ولكنه حاربهما في أقدس ما آمنا به من آراء ومعتقدات في قيمة الفن ومعنى الحياة.

ولذلك تعتبر خصومة نيتشة لشوبنهور وفجنر مفتاح شخصيته الحقيقية؛ إذ هي المرحلة التي ابتدأ بعدها يخاطب الحياة كفيلسوف لأن هذه الخصومة لأن هذه الخصومة كانت الأساس الذي بنى عليه أخطر آرائه في القيم والأوضاع والفن. وقد اعتبر نيتشة أن مرحلة الإخلاص للأستاذ والصديق كانت مرحلة نوم عميق وتخدير لطلبات الحياة فبدا كالهادم العابث الذي زال من صدره عامل الرحمة والإشفاق حين راح يحطم أسوار الشرائع أبراج الأخلاق.

يقول نيتشة: (يجب على طالب الحقيقة ألا يحفل بما تجنيه عليه جهوده من انتصار أو اندحار فهذا من شأن الحقيقة، إذ عليه أن يكون خصماً قاسياً لما آمن به من آراء وحقائق؛ فإذا صادفه من الآراء ما يناقض الحقائق التي قال بها فعليه أن يأخذ بها دون تردد) - وهكذا كان رأي نيتشة في كل شيء فهو مخلص للحقيقة حتى ولو كانت ضد آرائه التي قال بها.

يقول نيتشة عن صداقته لفجنر وعن اتجاهه الفلسفي: (كنا صديقين غريبين. . . كلاهما له غايته وله سبيله. . . قد نتلاقى ونرفع أعلام اللقاء كما فعلنا. . . ولكن الضرورة التي لا تدفع قد تقذف بمركبينا قذفة جديدة نحو بحار مختلفة وأنواء متباينة. قد نتراءى ولكن لا نتلاقى. . . كم لوحتنا الشمس والأمواج!! نظل غريبين لأن الشريعة الغالبة تريد ذلك، ولكن صداقتنا تبقى شيئاً قدسياً. . . وهكذا نريد أن نؤمن بصداقتنا في النجوم؛ حتى في العهد الذي يجب أن نكون فيه خصمين على الأرض).

إن هذا وحده يكفي للاستدلال على أن نيتشة يحترم عزيز الذكريات في نفسه لصداقته للفنان؛ ويجحد بعنف رسالة فجنر الفنية لأنها لا تمثل حقيقة الحياة، وفي ذلك اعتراف ضمني على أنه لم يأخذ من فجنر شيئاً ولم يتأثر به. وقد رأينا فيما مر بنا من الأدلة شيئاً من الجزم والوضوح يكفي لهدم ما يدعيه الأستاذ (الخميسي) من أنه (فتق أكمام عبقرية نيتشة):

فما كان لهذا المفكر الجبار أن يتأثر أو يستمد وجوده الفلسفي من أي إنسان مهما تكن

ص: 52

مكانته في الحياة الفنية؛ وهو الذي قال في (زرادشت) لرفاقه وأنصاره: (ماذا بهم (زارا) من جميع المؤمنين به؛ إذ عليكم أن تجحدوني لتجدوا أنفسكم).

إبراهيم السيد السروجي

هل من المستحسن استعمال الحروف المنفصلة كتابة وطباعة؟

إن الكتابة بالأحرف منفصلة لا تكون أمراً محدثاً أو شيئاً جديداً فيما إذا جرى عليها الخط العربي؛ إذ لو نظر القارئ الكريم إلى تاريخ الأبجدية العربية لعلم أن هذه الطريقة قد سار عليها الخط العربي في أول نشأته سواء في بلاد اليمن ذات الحضارة القديمة أو في عهد مملكتي: لخم وغسان. كما أنه سارت عليها جل الأبجديات السامية كالفينيقية والآرامية والمسند والسريانية والعبرية والتدمرية وغيرها. ولا زالت بعض هذه الخطوط مستعملة إلى وقتنا الحاضر وعلى نفس الطريقة المذكورة كالأمهرية في الحبشة وغيرها.

وأنا لا أرى بقولي هذا إلى نبذ الطريقة المعتادة (المتصلة الحروف) كلا. . بل مرماي الوحيد استعمال كلتا الطريقتين معاً على حسب ما يقتضيه المقام والذوق والفن.

إن في استعمال الطريقة المشار إليها قد لا تحل من أمور لها أثرها الحسن بل ربما كانت خطوة طيبة في مضمار الخط العربي ومجاراة للتجدد النافع. ومن الأوفق الآن أن اعرض على القارئ الكريم بعض النقط التي قد نستفيدها فيما إذا اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات فأقول:

أولا: يسهل في هذه الطريقة تعليم الأبجدية قراءة وكتابة، وذلك لعدم لزوم تنويع الحرف كتابة في أول الأمر.

ثانياً: سهولة التصفيف بها في الطباعة مع اختصار الوقت والعمل.

ثالثاً: سهولة ضبط الكلمات المطبوعة بها.

رابعاً: بساطة تجسيمها للأطفال (بالورق المقوى) ونحوه مع الحركات وقدرتهم بعد ذلك على تركيب مختلف الكلمات وقراءتها.

خامساً: وضوح الكلمات المكتوبة أو المطبوعة بها، وذلك لبروز وضعها وظهور شكلها ولو مع صغر حجمها.

ص: 53

سادساً: السلامة من الالتباس والغموض والتعقيد في الكلمات المرسومة بها. والتي طالما تعتري بعض الكلمات في الطريقة المعتادة لاندماج حروف هذه الكلمات وتركيبها مع عدم ظهور شكلها ولا سيما في الكتابة الخطية.

سابعاً: عدم إيجاد أي صعوبة في تركيب هذه الطريقة، إذ لا يغرب عن القارئ الكريم أنه ما فتئت هذه الطريقة متبعة في بعض الكلمات في الطريقة الحالية، وذلك فيما إذا كانت الكلمة مركبة من بعض الحروف الستة الآتية: اود ذ ر ز، أو مع حرف متطرف كما في الكلمات: رزق، زرع، أدب، روض، دروس، إدراك الخ. وهذا مما يجعل تطبيق هذه الطريقة طبيعياً.

وقد رأيت من الجميل أن ألفت القارئ إلى أهم الحالات أو المواطن التي يجب أن تتبع فيها الطريقة المذكورة إتماماً للفائدة

كتابة عناوين الكتب والنشرات والمواضيع إذا أريد بروزها.

في رسم أسماء الأعلام المختلفة والكلمات المتشابهة كتابة والمتباينة نطقاً كما في كلمات الدَّرَّة والدِّرَّة والذَّرَّة والذُّرَّة والحِلْم والحُلُم وغيرها، والمراد وضوح شكلها وضبطها.

في كتابة جذور مواد المعاجم ومشتقاتها لإبراز وضعها بالنسبة لشرح المادة ولتنسيق ضبطها بالحركات والسكون.

في كتابة أنواع اللوائح (اللافتات) ونحوها.

في كتابة أو طبع مختلف الإعلانات أو بعض فقراتها طلباً لما يقتضيه الذوق أو الحاجة.

في كتابة الأسماء أو العناوين الشخصية إذا لزم توضيحها.

في سبك الأختام وما شابهها.

في كتابة أو طبع الفقرة أو الفقرات المراد إبرازها للقارئ في صفحات الكتب أو أعمدة الجرائد والرسائل ونحوها.

هذا ما رأيت إثباته على صفحات (الرسالة) الغراء إذ ربما يكون في الأمر ما يلفت القارئ الكريم، آملا أن يجد فيه ذوو الشأن وأرباب المطابع ما يرتاح له ذوقهم ويلائم الواقع والله وحده ولي التوفيق.

(طرابلس المغرب)

ص: 54

عيسى سالم لأسود

ص: 55

‌الكتب

الشروق

ديوان شعر للأستاذ حسن كامل الصيرفي

بقلم الأستاذ مختار الوكيل

علم الله كم سعدت وفرحت حينما أهدى إلي صديقي الكبير الأستاذ حسن كامل الصيرفي ديوانه الجديد الأنيق (الشروق). فرحت لأنه أعاد إلى ذاكرتي تلك الحقبة الطيبة المباركة من مطالع الشباب الغرير الطافر، التي تعارفنا خلالها وتعاونا في ظلال تلك الدوحة الأدبية الفنية الوافرة الظلال (أبولو) التي رعت النهضة الشعرية في هذه البلاد وفي سائر بلاد العروبة، وأحدثت - بفضل نشاط باعثها الدكتور أبي شادي نزيل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم - نهضة وثابة جريئة في دنيا الشعر والأدب؛ فعليها وعلى باعثها ورائدها الأول ألف تحية وسلام!!. . وسعدت لأن الشعر الأصيل الحي لا يزال، في هذه الآونة التي طغت المادية فيها على كل شيء عداها، يجد التأييد والمؤازرة الصادقة من الناشرين المخلصين الذين يأبون إلا أن يطلعوا القارئين على روائع الإنتاج الأدبي، فيسوقون إليهم هذا الشراب الخالد من نبع الشعر الكريم ليكرعوا منه فتطهر نفوسهم ويذهب عنهم ما يرين عليها من صدأ المادية الصماء!!. .

عرفت الصيرفي إذن منذ ستة عشر عاماً شاعراً متصوفاً يميل إلى الرمزية ويجنح إلى الإغراق في التأمل، لا ينظر إلى ظواهر الأشياء والمرئيات وإنما يتعمقها ويغوص إلى باطنها باحثاً عن صميمها وجوهرها، ويعاني التجارب الشخصية ويكابدها ولكنه لا يتحدث عنها، إذ ينظم، حديثاً شخصياً وإنما يصوغها مبلورة في تجارب عامة مما يعانيه جمهور الناس في كل مكان وزمان. أجل وعرفت الصيرفي في ذلك الحين شاعراً رشيق اللفظ موسيقي الجرس، يحسن بموسيقاه الطلية المنغومة التعبير عن نفسه الصافية وروحه النقية الشفافة، كما عرفته شاعراً صادقاً لا يتعب الناقد في التعرف على شخصيته مما ينظم! وبينما كان معظم الشعراء أو الذين عرفوا بأنهم شعراء ينظمون في المناسبات التافهة ويمدحون ويتهالكون على الملق والرياء، ويرثون ويمعنون في تكلف البكاء، كان حسن

ص: 56

كامل الصيرفي من القلة الثائرين على تلك الأوضاع المتكلفة المقيتة، الذين يؤثرون النظم عندما تتحرك عواطفهم وتجيش نفوسهم وتستعد لاستقبال (الوحي) الفني، ولو كان ما ينضمونه في قطعة بكاء أو صخرة جرداء!!. . وعرفت الصيرفي في طليعة المعنيين بمتابعة الحركة الشعرة في مختلف الأقطار العربية، بل وفي بلاد المهجر، فكان يواصل الكتابة ناقداً ومقدماً ومعقباً على النتاج الشعري والأدبي والفني في بلاد المهجر وبلاد العروبة على اختلافها، وتولى في غير من تعريف الأدباء المصريين برصفائهم في المهاجر الأمريكية وفي الأقطار العربية الأخرى، في زمن قلت فيه الصلات والروابط فيما بينها. ولعل شاعرنا قد شغف حباً بأدب المهجر، ولعل نفسه انجذبت إلى تلك الينابيع المتحررة في المهاجر فتاقت إلى انعتاق فني مماثل. .!! ومن هنا تلاقت روحه بأرواح أولئك المجددين عبر الأطلنطي، وامتزجت بها في انسجام رائع أنتج لنا تلك الأشعار (الصيرفية) التأملية الصوفية ذات الموسيقى المنغومة والألفاظ الرقيقة المضيئة!!. .

ذلك هو الصيرفي الشاعر كما عرفته منذ ستة عشر عاماً، وازدادت معرفتي به توثقاً بما كان ينظم وينشر من دواوين حافلة، إلى أن تفضل فأسعدني بديوانه الجديد (الشروق). فهل تغير الصيرفي أو حاد عن الاتجاهات التي جعلها قبلته، أو آمن بشعر المناسبات، أو عزف على أوتار أخرى كانت غريبة عنه في ذلك الشباب الباكر؟ أشهد لقد طالعت ديوان الصيرفي الجديد فمثلت حيالي في كل قصيدة، بل وفي كل بيت من قصيدة، تلك العناصر التي امتاز بها شعره الباكر، وإن كانت الأيام والتجارب قد مكنت لتلك العناصر وأبرزتها في أقوى صورة وأنصع ديباجة.

دافع الشاعر في قصيدته الأولى عن الشعر ووجه الخطاب فيها إلى أولئك الذين يقولون إن الشعر لم يعد من مستلزمات هذا العصر)، ولقد ذكرت، وأنا أطالع هذه القصيدة الرائعة، دفاع الشاعر الإنكليزي ب. ب شيللي عن الشعر، وأشهد أن قصيدة الصيرفي قد هزتني وحركت شجوني؛ وأعتقد أنها قصيدة بارعة رائعة، ولقد أعجبت غاية الإعجاب بقوله:

فيوم نُفارق الدنيا

وتلك قصيدة الله

سنغرق في صداه العذْ

بِ بين ضيائه الزاهي

وهنا يلخص الشاعر الكون كله ويختصره ويعتبر نهايته (القصيدة الكبرى) قصيدة الشاعر

ص: 57

الأكبر المعجز!

ولعل قصيدة (الحرمان) التي أهداها الشاعر إلى صديقه الدكتور أبي شادي، الذي ناضل وجاهد، وأحس بمرارة الحرمان في الشعر العربي الحديث. اسمعه يقول:

أعبد الحسن زها في كوكب

أجتليه صامتاً لم أعرب

وهل لم يشعر بإحساسي وبي. . .!

خاطر من حسنه في موكب

مشرق مَن نوره المنسكب

فائض الكأس شهي المشرب. .!

ولا أستطيع التعليق على هذه اللوحة الفنية البارعة، لأن كل محاولة تبذل في هذا السبيل إنما تشوه من جمالها وتخدش من ملاحتها، واستمع إليه حيث يقول:

كلما جئتُ بمعنى مُعْرب

عن هوى قلب ولوع متعب

فرَّتْ الألفاظ حيرى تختبي

فهي كالشمعة في عين الأبي

وهي كالفكرة في ذهن الصبي. .!

وهي كالفتنة في قلب النبي. .!

والواقع أن الشاعر الذي تفر منه (الألفاظ) وهو يبحث عنها جاهداً ساعة الاحتشاد للنظم هو وحده الذي يستطيع أن يدرك جمال الحيرة وجلال اللوعة الممثلين في هذه الأبيات المعربة غاية الإعراب عن القلق والحرمان.

أما أغنية (القبلة) فهي من أرق المقطوعات الغنائية التي طالعتها أخيراً، وهي جديرة بأن تلحن وتغنى فتطعم أغانينا بطراز راق من الفكر الممتاز والمعنى المستطاب، ويا حبذا قوله منها:

أغرودة في السكون

يطوي بريق العيون

فيها، فتور الجفونْ

لو ردَّدتها الشفاهْ

في لثمها. بادليني!

والصيرفي في قصيدته (اجعلني حُلماً) شاعر متصوف حالم رقيق اللفظ نقي الصور، ويا ما أبرعه حيث يقول:

اجعليني حلماً يطوف ويسرى

من قلوب الورى إلى شفتيك

اجعليني حلماً لذيذاً شهياَ

مثلما يحلم الفقير بملك

ص: 58

اجعليني حلماً كما أنت حلمي

فأريك الحياة من غير إفك

بلبلات الخميل تنقل عني

شعر قلب نقلته أنا عنك

كذلك يبلغ الصيرفي المدى في الإجادة في قصيدته (الأفق) حيث يقول:

أنت كالأفق إذا حاولت أن

أبلغ الغاية منه بعدا

تعبت عيناي في إدراكه

وشكت رجلاي فيه الجددا

أشهد الأسرار فيه تختفي

كالأغاني في تضاعيف الصدى

فإذا حاولت أن أكشفها

صرت سراً طيها قد خلدا

ليتني أفق! فلا أتعب من

يرتجي الأفق وقربت المدى.!

كذلك يبلغ الصيرفي أقصى غايات الإبداع في قصائده العاطفية الصادقة (تنهداتي) و (القائد المدحور) و (وحدة العمر)، وهذه الأخيرة مقطوعة من الشعر التجريبي المشوب بالفلسفة الهادئة الرزينة، على الرغم مما تنطوي عليه من مرارة وسخرية كما في قوله:

تعال فربما جاوزت داري

فتجربني الحياة إلى قراري

فأمشي بين أضواء النهار

إلى ليلى ويهزأ بي انتظاري.!!

وشد ما أعجبت (بنشيد الثورة) الذي نظمه الشاعر في نوفمبر عام 1935 وكم يكون رائعاً ومفيداً لو وجد هذا النشيد عناية من ملحني العصر البارزين، ولا أحب أن أقبس منه هنا، فيحسن الرجوع إليه في جملة الديوان، لأن النقل منه يشوه جماله.

ولقد لاحظت في شعر (الشروق) ظاهرة (جديدة) هي ميل الشاعر إلى الإكثار من الحديث عن (الصمت) و (السكون) ففي قصيدة (إلى المعبد) يقول:

(والصمت) يغمره ويفني ذاته

ولقد يكون (الصمت) خير تعبد

ويقول في القصيدة نفسها:

طال الوقوف به فأعيا (صمته)

هل تنفع النجوى بباب موصد؟

ويقول في قصيدة (ساعة اللقاء):

ساكن الأرض (صامت) في حنين

لنشيد مرجع من سمائك

وفي (خمرة الفن) يقول:

ما أعجب (الصمت) أعياني وأنطقني!

فهل يحرك هذا (الصمت) منشده؟

ص: 59

وفي (تنهداتي) يقول:

قالت: علام تنهداتك في (سكونك) يا حبيبي؟

هل أنت في فردوس حبك حامل عبء

الغريب

وفي (ثورة الجدول) يقول:

(سكنت) إلية (سكون) المصلي

أمام جلالة محرابه

يعانق نور الجلال البعيد

وينسى الرغائب في بابه

وفي (موت فنان) يقول:

أأنت يا (صامتاً) تؤوب

أيامه للمدى البعيد

ويقول:

(أصمتك) الموحش الكئيب

يا هاتف الأمس سخرية

بعالم مغرم يذوب

على ترانيم أغنية؟

ويقول:

قد خفت في (صمتك) المنون

بروحك الحية الصدى!

إلى غير هذه الإشارات والتعبير والصور التي تنوه بالصمت وترسم السكون في لوحات موحشة وأخرى ساخرة أو حزينة أو متفلسفة أو رمزية.

حقاً لقد سعدت بمطالعة ديوان الصيرفي الجديد (الشروق) هذا الديوان الذي أضاف كثيراً إلى ثروة الشعر العصري الأصيل المبتدع الذي نسعى جاهدين لكي يزداد ازدهاراً وإشراقاً، حتى تكون له آخر المطاف على مدرسة الاتباعيين والتقليديين الذين يعيشون على المدائح والمرائي والمجاملات والمناسبات.

فهنيئاً لمدرسة الجديد بهذا الديوان الرشيق الذي سكب فيه شاعرنا الكبير روحه المتأملة، وعاطفته الخالصة، وموسيقاه الرقيقة، وهنيئاً لشاعرنا بهذا الإنتاج القيم الذي نرجوه أن يتصل ويستمر لخير النهضة الشعرية.

مختار الوكيل

ص: 60