المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 824 - بتاريخ: 18 - 04 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 824

- بتاريخ: 18 - 04 - 1949

ص: -1

‌الدولار والشرق العربي

للأستاذ عمر حليق

هناك حقائق خطيرة قل أن تتعرض لمعالجتها ألسنة الرأي العام العربي عندما تتحدث عما يقترحه المعسكر الغربي على الشرق العربي من مساعدة اقتصادية ومحالفة عسكرية. وهذه المغريات التي تنقلها إلى القارئ العربي في غير فطنة مواصلات فكرية هي فريسة بؤر التوجيه الضار في السفارات الأجنبية وفي وكالات الأنباء (العالمية) التي يعيش على محصولها الإخباري قارئ الصحف العربية والمستمع العربي.

ومن أبرز هذه الحقائق تجاهل المعقبين العرب لحقيقة الوضع الاقتصادي القلق الذي تعيش عليه الولايات المتحدة وهي عماد المعسكر الغربي، وحاجة هذا الوضع إلى استثمار الأموال في المناطق التي توفر الربح العاجل المضمون كمنطقة العالم العربي.

فللمشروعات الأمريكية للمساعدة الخارجية كمشروع مارشال أوجه أخرى غير الأوجه السياسية. (الإنسانية) التي يبدو أن معظم ألسنة الرأي في الشرق العربي ميالة إلى التعلق بها وحدها.

وحين نسلم بأن التوسع السوفيتي وذيوله السيئة في شتى نواحي النشاط الإنساني هو أخطر ما يواجه حاضر الشرق الأدنى يجدر بنا كذلك أن لا ننسى مطلقاً ما يستر من الشر في الاستسلام المطلق للتوسع الأنجلو أمريكي. فإن امتداد مشاريع (المساعدة) الأمريكية إلى الشرق العربي هو توسع تستلزمه الأزمات الحاضرة في السياسة والاقتصاد والحرب التي تواجه المعسكر الغربي.

ولعل الوقوف على الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة وعلى برامج التوسع التجاري الذي لا مفر للصناعة البريطانية من تحقيقه إذا حرصت على النهوض الصحيح - هذا الوقوف يلقي ضوءاً هادياً على سياسة الدولار في منطقة الجامعة العربية.

إن الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قلق؛ وليس هذا الجزم مقتبساً من تعقيبات (برافدا) و (ازفستيا) وراديو موسكو؛ بل هو حقيقة لا يستطيع الأمريكان كتمانها عن أنفسهم وإن استطاعوا - بفضل ما لهم من نفوذ قوى في المواصلات الفكرية العالمية - التقليل من خطورتها خصوصاً لدى الشعوب التي ينقصها الوعي الاقتصادي الحساس

ص: 1

كشعوب الشرق الأوسط وأبرز مظاهر هذا القلق الاقتصادي في منطقة الدولار مشكلة التضخم المالي وازدياد التبطل بين العمال الفنيين والصناعيين والتباين في معدل الإنتاج والاستهلاك، وألف وجه ووجه من المشاكل الاقتصادية المعقدة التي تأتي في أعقاب الحروب الكبرى فالنكسات الاقتصادية - والنكسة وصف معتدل لحاضر الاقتصاد الأمريكي - لا تولد بين عشية وضحاها؛ إنما هي وليدة تضخم في الإنفاق وتضخم في الشراء وتضخم في الافتراض. فقد اتسع الإنتاج الصناعي في أمريكا زمن الحرب اتساعا هائلا في طفرة غير اعتيادية، فارتفعت نسبة الإنفاق على النحو الذي خبره العالم بأسره، وزادت نسبته في أمريكا. ومما ساعد على التضخم في الاقتراض طبيعة التعامل النقدي في الحياة الأمريكية (تسهيلات الدفع والتقسيط الخ)؛ فنتج عن ذلك هذه التيارات التي واجهها الكيان الاقتصادي في أمريكا منذ أكثر من عامين، ونجح في تفادي أزمتها الجارفة بالقرض البريطاني أولا، تم بمشروع مارشال وببرنامج التسلح الهائل الذي ينفذ في إسراف يستوعب العمال العاطلين ثانياً. وهو يحاول الآن أن يخطو خطوة إنقاذ أخرى على طريق التوسع الاقتصادي في المناطق (المتأخرة).

إن إنهاض التنمية الاقتصادية ضرورة لاستقرار السلم العالمي - هذه حقيقة مسلم بها، ولكن المهم في هذا العرض هو الوقوف على بعض العوامل الأساسية في مسألة قد تقرر مصير الكيان العربي لأجيال عديدة.

فالمساعدة الاقتصادية المقترحة ليست إحساناً خالصاً لرفع مستوى المعيشة للبائسين في الشرق العربي؛ فالضمير الأمريكي لم ينفعل كثيراً لفاجعة فلسطين بالرغم من أن له اليد الطولى فيه.

والمساعدة الأمريكية ليست سهماً يوجه للشيوعية التي تربض على أبواب الشرق الأدنى - فموقف أمريكا من التطور في الصين، وقصدها من تزويد الأتراك بحاجتهم الماسة ينفيان ذلك - ولكنها مصلحة فيها عنصر أناني وضرورة اقتصادية ملحة تضع في يد الشرق العربي عنصر مساومة فريد.

ذلك لأن هذا الشرق في رأي المستر إميل شرام رئيس بورصة نيويورك الكبرى، من أفضل المناطق لاستثمار رؤوس الأموال الأمريكية لأسباب عددها في عدد يناير من مجلة

ص: 2

عالم الأمم المتحدة وهي:

أولاً - إن الوضع الاقتصادي في الشرق الأدنى سليم جداً. فهو لم يتضرر من الحرب المنصرمة.

ثانياً - أن هذا الشرق لا يواجه وعياً اقتصادياً، ولا نزعة اشتراكية جدية تعرض رؤوس الأموال الأجنبية للتأميم. فالقدمية الاقتصادية في الشرق الأدنى أن تستيقظ بصورة خطيرة إلا بعد أن تعطى رؤوس الأموال المستثمرة أٍُكلا طيبا.

ثالثاً - إن هذا الشرق بحاجة إلى التمويل وأولو الأمر يقدرون ذلك، والتعامل معهم سيكون على أساس اقتصادي سليم.

وطبيعي أن ما يقترحه الأمريكان من مساعدة للشرق الأوسط لا يقتصر على المخصصات الحكومية. وأكبر الظن أن هذه المخصصات ستكون أقل نسبة. والواقع أن برنامج ترومان للمناطق التي تحتاج إلى التنمية الاقتصادية قصد في أساسه إلى تهيئة الفرص لرؤوس الأموال الأمريكية للاستثمار في الخارج وضمانة أرباحها.

وهناك نواح أخرى لابد من الوقوف عليها لأية مساومة قد تدفع دول الجامعة العربية إلى الأخذ بها في هذه التيارات الجارفة.

فكما يستفاد من القليل الذي تنشره الصحف الأمريكية ومن الكثير الذي تنشره الصحف العربية! عن طريقة حكومة أمريكا في مد مشروع مارشال إلى الشرق العربي، فإن المساعدة ستقتصر على ناحيتين:

الأولى: تحسين الدفاع الاستراتيجي من الناحية الحربية الصرف ومن وجهة نظر حلفاء الغرب الصرف كذلك.

والأخرى: تنمية الإنتاج الزراعي كوسيلة لرفع مستوى المعيشة.

والتريث في بحث هاتين الناحيتين يكشف عن شؤون غاية في الخطورة للكيان القومي في كل من الدول العربية، وفي السياسة الإقليمية التي تمثلها الجامعة العربية التي لا مفر - لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، للناطقين بالضاد من السير بموجبها على الرغم مما ألم بها من نكسات.

فمشاريع الإنتاج البترولي وأنابيبه وتأمين سريانه وحماية مواصلاته ستكون لولب

ص: 3

(الإنعاش) المقترح.

وطبيعي أن للشرف العربي حاجة ماسة لتحسين المواصلات؛ ولكن هذا التحسين إذا توخى ما ينتظر منه من فوائد وجب أن لا يتقيد بمصلحة الإنتاج البترولي على حساب النواحي الأكثر أهمية والأشد ضرورة؛ فالناحية الحيوية في مشكلة المواصلات في الشرق العربي أعقد من أن تقتصر على الإنتاج البترولي والمطارات السعودية والليبية القريبة من آبار الزيت الروسية في (باكو) وفي حوض قزوين ومصانع الإنتاج الحربي الروسي فما وراء جبال الأورال.

وللناحية الثانية وهي تحسين الإنتاج الزراعي كوسيلة لرفع مستوى المعيشة أوجه غير هذا الوجه الخلاب الذي قد يغري من لم يدرك حقيقة العلاج للعلل الاقتصادية في الشرق.

فان الإنتاج الزراعي إذا لم يلازمه التصنيع الواسع النطاق الثابت الأركان فأنه لن يستطيع رفع مستوى المعيشة لملايين المصريين مثلاً ولا حل أزمة السكان وضآلة الدخل القومي؛ وهذه الحقيقة تنطبق على العراق وسائر أنحاء المشرق. وأن طبيعة العوامل الاقتصادية التي تدفع أمريكا وبريطانيا لمساعدة الشرق العربي تتطلب أن يظل هذا الشرق مستهلكها لا منتجاً للسلع التي يعيش عليها الكيان الاقتصادي في أمريكا وبريطانيا. ولعل المصلحة البريطانية في هذه الناحية أشد انتفاعاً وأبعد في النتائج العملية. فإذا أشرك الأمريكان البريطانيين في مشاريعهم للشرق الأوسط فإن البريطانيين قد أشركوا من قبل (ركفللر) وأمثاله من أقطاب المال الأمريكان في هذه الإمبراطورية الاقتصادية التي تعمل الآن في صمت في أواسط القارة الأفريقية.

هذه ألوان من الحديث قد تساعد على معرفة بعض مواطن الضعف والقوة فيما يقترحه المعسكر الغربي. ويضاف إلى هذه التلميحات الاقتصادية ذيول والتزامات سياسية خطيرة العواقب. فإن أي مساعدة أو منحة أو قرض يستلزم التعاون مع الكيان اليهودي في فلسطين سيحقق له في الحاضر والمستقبل ما حققته الناحية الخفية من أعمال (مركز تموين الشرق الأوسط) الذي أقامه الحلفاء أبان الحرب العالمية الماضية؛ إذ استطاع الاقتصاد اليهودي بواسطته أن يتركز بعد أن كان مضعضع الكيان مشرفاً على الإفلاس، واستطاع أن يحظى بأنواع من المواد الخام والتصنيع الحربي عن يد مركز تموين الشرق الأوسط، وهذا ما

ص: 4

أثبتت معارك فلسطين مبلغ خطورته. والذي يزيد من حدة الدعوة إلى هذا الحذر من مثل هذا التعاون مع يهود فلسطين - مباشراً كان أم غير مباشر - المناصرة الشديدة التي يلقاها مشروع (مساعدة) الشرق الأوسط في البرلمان الأمريكي من الشيوخ والنواب الذين حملوا منذ سنين لواء العمل للمصلحة الصهيونية.

ليست الخيرات الكامنة في الشرق العربي وحدها هي التي تغري واشنطون بالتودد؛ ففي أمريكا الجنوبية أضعاف الخيرات التي في هذا الشرق. وليس خطر الشيوعية وحده هو الدافع لهذه (المساعدة)، ففي الصين وكوريا وفي أمريكا الجنوبية كذلك - وهي الباب الخلفي للعم سام - ثغرات من الفقر والجهالة أوسع مما في الشرق العربي، ومع ذلك فلا يضعها الأمريكان في طليعة الدول التي لها الأسبقية في (سخاء) الأمريكي. وليس الموقع الاستراتيجي وحده كذلك هو السبب الوحيد.

ولكن هذه الأسباب مجتمعة أوجدت حالة فريدة، تجتمع فيها المصلحة الاقتصادية الاستثمارية مع الحاجة العسكرية، وأخشى أن أقول مع المنفعة الصهيونية. فعلى الذين يتولون التوجيه في هذه الحالة مسؤولية فاصلة في الكيان الأساسي للعالم العربي.

وإذا كان لابد من مساومة فلتكن على أساس من المصلحة القومية تراعى في حرص وفطنة حاضر العرب ومستقبلهم، والتيارات الجارفة التي تحيط بهم.

(نيويورك)

عمر حليق

ص: 5

‌المسرح والجمهور

للدكتور محمد القصاص

ليس الفن المسرحي هو المؤلف وما كتب فحسب، ولا المؤلف ومعه الممثلون وحدهم، بل لابد له من جمهور أيضاً. تلك هي الدعائم الثلاث التي إذا فقد المسرح إحداها انهار.

بالطبع كل من يكتب ويطبع يبتغى أن يقرأ، وإلا لاكتفى بتسجيل خواطره وأفكاره تسجيلا سريعاً دون أن يعمد إلى تنظيمها وتبويبها وطبعها ونشرها. فالفن اجتماعي بطبعه إذا عي بجوهره. ومن ثم فإننا نعجب لكاتب يكتب مالا يفهم القراء ومالا يعنيهم (ولا نتكلم هنا عن الشعر فقد يكون له موقف خاص) الكاتب الذي يعيش - كما يقال - في برجه العاجي بعيداً عن الحياة وعن الناس.

ولا نقصد من وراء ذلك أن يخر الكاتب راكعاً أمام جمهوره فيتملق عواطفه مهما انحطت، ويتغنى بمواطن الضعف فيه؛ كلا، فإن هذا مفسدة للأدب مفسدة للفن، بل هو إلى التهريج أقرب منه إلى الفن.

ولكن احتقار الجمهور والبعد عنه، ومخاطبته بلغة غير لغته، والاشتغال بنجوم السماء دون الأرض ومن عليها، جرم مرتكب في حق الفن والمجتمع على السواء. ومع ذلك فقد نسلم جدلا، جدلا فقط، أن الرسام يستطيع أن يرسم لوحة يحتفظ بها لنفسه، ولنفسه فقط، وأن الشاعر يستطيع أن يكتب قصيدة يرددها بينه وبين نفسه من طلوع الشمس إلى غروبها، ويكتمها عن جميع من عداه، وأن القصاص قد يكتب قصة ثم يتركها تغط في سباتها العميق سنين وسنين حتى يأتي يومها، حتى يأتي جمهورها بعد زمن يطول أو يقصر. ولمن يضيرها ذلك في شيء فهي قد وجدت بالفعل منذ انتهى صاحبها من كتابتها، ولن يزيدها وجوداً أن تظفر بعشرة آلاف قارئ أو بمائة ألف قارئ. ولن يكون لقارئها أي تأثير عليها، بل هو الذي سيتأثر بها تأثراً سطحياً أو عميقاً، عاجلا أو آجلا.

ومن جهة أخرى إذا كانت أفكاره عسرة الهضم، أو كان ملتوي الأسلوب معقد التعبير مقتصداً في المقدمات خفي النتائج، فقد يجوز له أن يترك كلامه على ما هو عليه دون أن يجهد نفسه في أن يرفع عن كتابته غموضاً يستطيع القراء أو غالبية القراء رفعه ولو بشيء من العسر. ذلك لأنه يعلو أن الكتاب يستطاع أن يقرأ وأن تعاد قراءته، وأن كاتبه

ص: 6

يستطيع فتحه أو إغلاقه متى شاء وأنى شاء، وأن يكرر من عباراته كلما عن له أن يفعل حتى يفهم. فإذا لم يكن بعد ذلك أهلا للفهم فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

أما العمل المسرحي فله شأن آخر فهو بمثابة كتاب يقرأ جماعة، ومتى فتح لم يتسن لواحد من القراء أن يغلقه تبعاً لهواه. كتاب تدار صفحاته من تلقاء نفسها من أول صفحة إلى آخر صفحة. إذا قيلت منه كلمة فقد فانت، وليس لسامع أن يرجو من الممثل إعادتها، وإلا أصبحت قاعة المسرح ميداناً لكوميديا أخرى غير كوميديا المؤلف، كوميديا الجمهور لا كوميديا الممثلين، إذا راح المتفرجون - كما تخيل أحد الساخرين - في رواية غامضة يقومون الواحد بعد الواحد، مطالبين بإعادة تلك الجملة أو بتفسير هذه الكلمة، فيتصدى لهم الأذكياء أو من يتظاهرون بالذكاء فيطلبون إليهم أن يتركوهم أن ينصتون في هدوء وألا يقطعوا على الممثلين سلسلة اللعب؛ ويجيبهم الأولون على عنفهم بعنف أشد منه، حتى ينتهي بهم الأمر إلى التقاذف بالشتائم ثم إلى استعمال الأيدي. وهنا ينتقل تمثيل الدراما من فوق المسرح إلى قلب الصالة على كل حال سواء أدفع المتفرج أجر مكانه أم لم يدفعه، فإنه يصر على أن يفهم، وأن يفهم على الفور كلمات المؤلف بمجرد أن يفوه بها الممثل.

ومن ثم وجب أن تكون التمثيلية مثلا أعلى في قوة الإفهام ووضوحه. فالمسرح إذاً معبد الوضوح، يجب أن تسمى فيه الأشياء بأسمائها. وويل للمؤلف الذي يحاول أن يمثل قطعة باللغة الصينية على مسرح من مسارح القاهرة لا يفهم زائروه غير العربية. تلك هي إحدى الحقائق الكبرى التي على كاتب المسرحية أن يراعيها، مهما كلفه ذلك من جهد ومن تضحية: أعني أن يستعمل لغة مشتركة بين الجميع، مفهومة من الجميع، مهما كانت منتقاة طافحة بالصور والأخيلة موغلة في الروج الأدبي.

وإليكم حقيقة أخرى ليست أقل من صاحبتها في الأهمية. وهي أمر يتعدى الكلمات والعبارات إلى الموضوع الذي تعبر عنه، إلى الأفكار التي هي لباس لها. فما جدوى الكلمة الواضحة المعنى والعبارة الصحيحة المبنى اليسيرة الفهم الجميلة الصورة، إذا كانت الفكرة التي تعبر عنها أو العاطفة التي تصفها أو تستثيرها لا تمت بشيء إلى ما في ذهن الجمهور وقلبه، إذا كانت لا توقظ فيه صدى ولو خافتاً لهذه العاطفة أو تلك الفكرة؟ وأسوأ من ذلك إذا أثارت فيه عاطفة مضادة لمل أراد الكاتب، أو إذا أثارت عاطفة ما عند بعض

ص: 7

المتفرجين فجعلتهم يبكون وأخرى مناقضة لها عند البعض الآخر فجعلتهم يضحكون.

فعلى الكاتب المسرحي أن يخاطب عواطف وأفكاراً مشتركة بين جميع أو معظم أفراد جمهوره، ولو كانت موزعة بينهم بأنصبة مختلفة.

قد يعترض علينا معترض فيقول: أواثق أنت من أنه قد يوجد شخصان فقط يؤخذان من بين الشعب دون اختيار فيرى بعد الاختيار أنهما يتفقان في إحدى الفكر اتفاقاً كاملاً؟ ونحن نجيب على هذا بأن الاتفاق في التفاصيل أمر عسير. ولكن من الطبيعي أن يتفق أفراد مجتمع من المجتمعات التي يصح أن يطلق عليها هذا الاسم في طائفة من القيم العقلية والأخلاقية: كالحق والباطل، والخير والشر (ولا نقول الجميل والقبيح، فإن تلك قيم جمالية تخضع لاختلافات كثيرة لا محل لذكرها هنا). فالاتفاق على الخير والاتفاق على الشر، ذلك هو الحد الأدنى الذي على المؤلف أن يسعى في تحقيقه حتى يتفق التناسب بين عمله وجمهوره. ذلك هو الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوفر في التمثيلية لتثير انفعال الجمهور ولتجتذبه إلى ما يريد المؤلف أن يجتذبه إليه. فالقطعة التمثيلية لا تكون حقاً ولن تحيا حقاً إلا إذا حييت في نفوس الجمهور كما حييت في نفس الكاتب والممثل، وفي نفس اللحظة التي يشاهدها فيها. هذا ما جعل جاك كوبو من أعلام المسرح الفرنسي يقول (لن يكون هنالك مسرح بمعنى الكلمة إلا يوم نجد رجل الصالة يتمم بنفس الكلمات التي بقوة بها رجل المسرح في نفس الوقت وبنفس القلب.) نعم لا يمكن أن يكون ذلك إلا يوم يصير رجل الصالة ورجل المسرح والمؤلف وكأنهم شخص واحد؛ ولابد لهم من ميدان معنوي مشترك. هذا الميدان يستطاع العثور عليه بسهولة في مجتمع سليم التكوين، فيه شيء كثير من التجانس، يجتمع على الاعتراف ببعض الخير لأنه خير، وببعض الشر على أنه شر، وببعض الحق على أنه حق. أما إذا كان المجتمع مهلهلاً لا تجانس فيه فإن مهمة المؤلف تعتبر من أشق الأمور. ففي هذه الحال يتعسر على المشاعر أن تتفق ويصعب على الكاتب أن يخاطب جمهوره بلغة يفهمها الجميع. ولكنه حتى في هذه الحال لن يعدم أن يجد بذوراً طفيفة لآمال ومخاوف مشتركة. وحينئذ فعليه أن يتخذ منها نقطة ارتكاز يصدر عنها في مسرحيته، وأن يتخذ من مسرحيته ومن نشاطه في الأدب المسرحي وسيلة لتقريب ما تنافر من عقلية أبناء وطنه. وهنا يبدو لنا بعض ما يستطيع المسرح أن يقدم للوطن وللمدينة من

ص: 8

خدمات. فمن الخطأ إذاً أن ننظر إلى المسرح (على نحو ما يفعله البعض) كما ننظر إلى حجرة مغلقة تدور بها بعض الأحداث ثم رفع منها أحد حوائطها فأصبح ما يجري بداخلها على مرأى من المارة، ولكنهم يشاهدونه مبهوتين دون أن يستطيعوا المشاركة فيه بعقولهم وقلوبهم، بل دون أن يفهموا شيئاً منه؛ وإنما يجب أن ننظر إليه كمنصة منصوبة في ميدان عام تمثل عليها أحداث، وتتصارع فوقها أفكار وميول وعواطف تتصل بنفوس المشاهدين جميعاً. فهو لذلك مكان التبادل النفسي بمعناه الصحيح. وعلى الكاتب المسرحي أن يدرس في الحياة نفسها شروط هذا التبادل وأن يستخرج قوانينه حتى يضمن تحققه في عمله، وحتى لا يكلم الجمهور بلغة غير لغته.

فالفن المسرحي يقتضي وجود عادات ووجود مجتمع ووجود شعب بأنبل معاني الكلمة.

فالفن المسرحي ليس فناً مغلقاً، ولا مما يؤجل تحقيقه خارج الكتاب الذي كتب فيه، بل فن مفتوح، فن الساعة التي يكتب فيها.

محمد القصاص

دكتوراه في الآداب من جامعة باريس

ص: 9

‌أمام أبي الهول

للأستاذ راجي الراعي

يا إله الصمت، ويا ملتقى الأسرار، ويا عقدة الألسنة، ويا مثال المتأملين!

أيها الأسد الرائع المتحفز منذ القدم للوثوب على فريسته التي لم يجدها بعد. . . يا ربيب الفراعنة، ويا رفيق (الأهرام)، ويا عجيبة المصريين. . . أيها المتكبر الجبار الذي لم يخفض رأسه لأحد في الدنيا، وقد مرت كلها من أمامه. . . يا مصيبة الثرثارين ويا محتج الحائرين. . . أيها الضاحك الباكي، السعيد البائس، الحائر المهتدي، الثمل الصاحي، القوي بأهرامه، الضعيف برماله، الجريء بصدره، الحكيم بلسانه. . . أيها البحر الذي تلاطمت فيه أمواج الأسرار ولم تنفث زبدها. . . أيها الناسك الذي لم يؤمن بالعالم فأقام في صومعة الرمال وأنقطع إلى ربه ونفسه، الناسك الأكبر، زعيم الناسكين، تدق له نواقيس الذكرى في أودية التاريخ التي تعاقبت عليه، ومن يستطيع أن يحصيها؟.

أيها الثمل بالذكريات غمرته بخمورها فلم يقو على العربدة، وكيف يعربد الغريق؟ وطوقته بجمالها وقبحها فجمد كالمجنون وتكأكأت عليه الخلائق. . .

أيها البطل الضائع الذي ازدحمت في بطولته مشاهد القرون على مختلف ضروبها وألوانها فضاق بها ذرعاً ولبث مكانه لا يبدي حراكاً. . .

أيها المبرد بوسادته الحجرية لظى المغرمين، المخجل برباطة جأشه المذعورين الفارين، المحطم بصخرة حيرته وشكه سفينة المهتدين، المخرس بفصاحة عينيه زمرة المعربدين، الهازئ بالعابرات والعابرين، الضاحك على الأذلاء الخانعين، الباكي على الضاحكين!.

يا أبا الهول الذي هالته نفسه فلم يعرف أين يضعها وكيف يعبر عنها، ويا فتنة النيل ورب الوادي. . . أيها الأمين الأكبر الذي يحمل مفاتيح التاريخ ولم يخن واجب الأمانة، أيها المبرم مع المجهول عهداً يحسده عليه المعلوم، أيها الغارق في لجج اللانهاية ولم يبلل ثوبه. . . أيها المبسوط في حجره المنكمش في تصلبه، أيها الطليق بعينيه السجين بين ألغازه، أيها الناظر إلينا نظرته الغريبة بين صممه وبكمه كأنه يفتش بين السماء والأرض عمن جاءه بالصمم وعقل لسانه ليصعقه ويضمه إلى قلب رماله. . .

أيها الواقف بين الماضي والمستقبل كأنه الصلة المفقودة التي نفتش عنها! أيها الرجل

ص: 10

العجيب الذي لم يتحرك بعد في هذا الجيل، والكهرباء تشع في وجهه، والطائرة تحلق فوق رأسه! أيها الصابر صبراً دهشت له الأرض التي تصبر على موتاها، ودهش له البحر الذي يصبر على غرقاه. . .

أيها المتمرد الأكبر، أيها الحاكي الذي يردد أصداء الإنسانية، أيها العداد الذي يحصى فضائل الخليقة وعيوبها وساعات نعيمها وبؤسها. . .

يا أبا الهول!

أتيتك بعد تلك القرون التي توالت على رأسك. . أتيتك في القرن العشرين متأخراً، وتفرست فيك، فخطرت لي النعوت والأسماء التي كسوتك بها. . . رأيتك بعيني ولا أدري بأي عين رآك أسلافي، وحرت فيك كما حاروا من قبلي، ورمتني الحيرة بين أمواج الخيال فتخبطت في أسرارك، وغرقت في أوصافك!.

ما هي حقيقتك يا سيدي وأين هي؟ وهل أنت تجهلني كما أجهلك؟ من أنا؟ أنظر إليَّ جيداً. . . أقوي أنا أم ضعيف؟ أسعيد أنا أم بائس؟ أنا كاتب يعرض في القراطيس رسوم النفس والحياة. . . فهل قلمي، وهل رأيت رسومي؟ هل أنت شاعر بي، أم أنت تنظر إليَّ وترى نفسك؟!

قل لي أبا الهول: ألأمسي أنا أم لغدي؟ وأين هو رقمي في جدول الإنسانية؟ وهل في جبيني السطر الذي تفتش عنه منذ القدم؟ أمصيب أنا في عقيدتي أم مخطيء؟ وهل الشعراء في نظرك هم الناس، وهل في صدرك القاسي فؤاد رحيم؟

أتيتك أسألك عن حقيقتك وحقيقتي، فهل من جواب يخرج من فمك ويريحني؟ أما تاقت نفسك يا صاحبي إلى الكلام ولو مرة واحدة، ألم تسأم الصمت؟؟

حدثني. . وأن كنت معقود اللسان، ففي عينيك الجاحظتين ألف بيان دفين. . . لا تخش أن تبوح لي بسرك، فقد هجرك الناس وجئتك وحدي، وفي هذا الدليل على حبي وإخلاصي. . .

إن في رأسك حلماً كبيراً قديماً حار فيه لسانك، وسقط تحت أثقاله صدرك، فجثمت مكانك صابراً صبر الأسياد لا صبر العبيد. . . لقد أقعدك حلمك عن السير، وملأ نفسك فلهوت به عن الناس. . .

ص: 11

حدثني أبا الهول: ما هذا الحلم الذي تنسج خيوطه على مهل؟ أما حان لك أن تستريح؟ لقد طال حلمك وطال صبري!

بماذا تفكر؟ أبالله وسمواته وكواكبه ونجومه، أم بالقرون التي مرت بك، أم بهذا العالم الفاني، أم بي؟؟

حدثني. . ولكن لا، ابق صامتاً، فإنني أخاف إذا تكلمت أن لا يقال بعد ذلك: هذا (أبو الهول). . . إن صمتك حديث الناس، وقد لا يكون حديثك حديثهم، فما يدريك أن تكون الكلمة الأولى التي تنطق بها وبالا عليك، ودليلاً على أنك لم تكن إلا حجراً. . ابق صامتاً. . . إن قوتك في صمتك. . . أنت ملك الصمت، فلا تخلع عرشك بيدك!

ولعلك فقهت معنى الحياة، فرأيت أن الصمت خير ما فيها، أنت صخرة اقتطعتها السماوات من جبال عظمتها وأمجادها، فكبرت نفسك حتى أنفت أن يكون اللسان بوقها وترجمانها ورسولها، وهل يصلح اللسان، هذا الثرثار الضعيف المزعج ليعبر عن أسرار النفس والطبيعة؟ هل يقوى على الثبات في ساحة النفس الكبيرة إذا ثار بركانها؟

انظر إلى الفيلسوف كيف يخرس ساعة يصطدم بالمجهول، وإلى الجندي كيف يُعقل لسانه ساعة يصطدم بالخطر ويصافح الموت، وإلى الفنان كيف يصمت صمته العميق ساعة يسحره الجمال، وتحتل الشاعرية أعماق قلبه. . . وانظر إلى الفقير الذي شرب ثمالات الكؤوس كيف يعجز عن النطق وفي فمه كل دموعه، وإلى المؤمن الناسك كيف يقطع لسانه ليتصل بالخالق، وإلى النسور والأسود كيف تأوي إلى عزلتها وصمتها وتترفع عن الخلائق. . .

أبق صامتاً، أبا الهول، فقد يكون في صدرك كثير من الحسد والضغينة والرياء والضعف والكبرياء والطمع واللؤم. . . وأنا لست بحاجة إلى نفث سمومها، فيكفيني ما ينساب في طريقي من الأفاعي. . . يكفيني هذا الإنسان الذي يوزع لسانه الشقاء في العالم ويكشف ما انطوى عليه صدره!

ابق صامتاً، فلا أدري ما وراء صمتك. . . إن كنت إنساناً فزميلك يكفيني، وإن كنت من جماعة (الأولب) فابق بين آلهتك. . .

ابق صامتاً، فالصمت أرحب من الكلام وأبلغ لأنه يحويه!

ص: 12

راجي الراعي

ص: 13

‌مشكلة الشر في ضوء وحدة الوجود

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

إن اعتناق طاغور عقيدة وحدة الوجود لم يضف جديداً للفكر الهندي، بل هو أخذ من القديم، وترديد لنفحات حكماء السابقين. وأن تدعيمه هذه العقيدة بتوضيح ما يكتنفها من إبهام، وما يشيع فيها من إشكال، أو بعثه لها في قالب شعبي يجدد من حيويتها، ويذيعها بين العام قبل الخاص، ولئن كان فيه شئ من الجدة فأنها لا تظهر طاغور إلا بمظهر المدافع عن تراث ديني عتيق. وإنما الذي يفصح عن ابتكاره الفكري، هو استعانته بهذه العقيدة في تدعيم المبادئ الأخلاقية، وتفسير ما يشوب الحياة الإنسانية من شر، وما ينتابها من سوء.

وإن كان في تصور تجلي الله في مكونات الوجود في صورة قانونها العام شئ من البراعة الفكرية، فإن تصور حلول الله في الإنسان على صورة القانون الأخلاقي، ينم عن مهارة روحية فائقة، تظهر قدرة طاغور الملائكية في كيفية إحكام ربط الإنسان بالله، إذ جعل أفضل ما في الإنسان متمدا من الله، واتخذ من أنبل ما يحتويه كيانه من قيم روحية سبيلا لتحقيق اتحاده بخالقه اللانهائي. وإن كان هناك كثير من البشر يعصي أوامر القانون الأخلاقي، الذي ليس إلا قبسا من نور الله فاض به على الإنسان، فظهر فيه في قالب قطرته الخيرة، التي تحارب الغرائز البهيمية والشهوات المنحطة، وتقاوم سحر ملاذ الدنيا، وتدفع إغراء متعها المادية، كما تطهر النفس من كل ما يمكن أن يتسرب إليها من دنس، وتخضع حياة الإنسان للقيم الفاضلة؛ فإن هؤلاء الذين يعصون هذا القانون الخلقي، ولا يؤمنون بسيادته على النفس، يعتقدون أن منفعتهم الخاصة يجب أن تكون قانون حياتهم الوحيد، ويفضلوا أن يتمردوا على قطرتهم الخيرة على أن يستسلموا لها إذا تعارضت مع فائدتهم، ويقبلون أن يتبعوا أهواءهم الخبيثة ما دامت ترضي رغباتهم الجشعة. وبذلك يفسحون المجال لهذه الرغبات لأن تعيث فسادا في النفس، وتملأها بأنانية بشعة طاغية، تحبسها في سجن رهيب من المصالح الخاصة، لا تسمح لها بأن تخرج من دائرة الذات الضيقة إلى ساحة المجتمع الإنساني، بل تبذر فيها بذور الطمع، وتلقنها فنون اقتراف الخطايا، فتغرق في بحر من الآثام، وتقع في وهدة الشر، فتغيب عنها معرفة الله الكامن في أغوارها على صورة ذلك القانون الذي أبت أن تخضع له، وتتقيد به.

ص: 14

وبذلك يحجب الإثم والشر عن النفس إدراك قانونها العام، ويسلبها حب الذات القدرة على تحطيم أغلال الأنانية، فتحيد عن طريق وحدة الوجود، وتعجز عن معرفة أن جوهرها يتضمن أكثر من وجودها الفردي، وتخفق في الإحساس بالله الذي أودع ذاته في طياتها، وبالتالي تفشل في الكشف عن اتحاد الله بسائر الأشياء، وتخيب في تحقيق كمالها الروحي، ولا تتمتع بالحياة في كنف حقيقة الحياة الأولى ألا وهي حقيقة (وحدة الوجود).

وخروج الإنسان عن طاعة قانونه الخلقي مرده إلى أن الله وإن قيد الإنسان بضرورة الخضوع لهذا القانون، ترك له حرية تامة في طاعتها أو عصيانه، كما منحه إرادة حرة لها التصرف في الشئون الدنيوية، ولم يلزمه يفعل الخير أو تجنب الشر، لأن قطرته تسمح له بأن يميز بين الخير والشر، وتمكنه من أن يسلك طائعاً مختاراً الطريق السوي. لأن في النفس الإنسانية نوعين من الرغبات: أحدهما خاص والآخر عام. والرغبات الخاصة تجري وراء المطالب الذاتية، وتقف عند حد الفوائد الشخصية، بينما الرغبات العامة مطالبها تتعدى كل ما هو ذاتي، وتنشد خير كل ما هو كلي مثل الأسرة أو الوطن أو الإنسانية. وإرادة الإنسان يمكنها أن تسير تحت ضغط أي من النوعين من الرغبات، وتملك القدرة على تغليب سيطرة الرغبات العامة على الرغبات الخاصة.

فإن خضع الإنسان لقيادة القوانين الأخلاقية، وتحكم في أهوائه ونزعاته سار في طريق الخير، وإن أتخذ من الإيثار والتضحية سبلا لسعادة الغير، فهو لاشك مساهم في خدمة أهله، ومشارك في إصلاح وطنه، ومجاهد في سبيل ترقية الحياة الإنسانية عامة. وإن بذل نفسه رخيصة من أجل عشيرته أو بلاده ولم يكترث بما يعانيه من حرمان، فقد عرف كيف يذيب الأنانية، ويقضي على حب الذات في نفسه، وإن أصر على تحقيق خير البشرية ولم يحل دون ذلك ما يقف أمامه من صعوبات، فإنه يعد لنفسه طريق الاندماج في الله. وعلى يد هؤلاء الذين فازوا بسرور غير محدود ينبع من الحياة في حقيقة وحدة الوجود ينال البشر سعادتهم، ويتخلصون من كل ما ينغص عليهم حياتهم من شر، وينتشر بينهم الخير.

أما الذي يأبى أن يخضع للقوانين الأخلاقية، ويركب رأسه ويريد على الدوام أن يستولي على ربح خاص لا يشاركه فيه أحد، أو يحظى بمزايا لا ينافسه فيها إنسان، فإنه فضلاً عن أنه لن يهتدي إلى حقيقة وحدة الوجود، ولابد أن يصطدم برغبات الجماعة، ويدخل في

ص: 15

حرب مع كل نفع عام عندما يعرقل نفعه الخاص. وذلك يشيع التفرق والتنابذ بين أفراد المجتمع الإنساني، وينشر بينهم التكالب على المصالح الذاتية، بل يحطم ما يربطهم من علاقات محبة وتعاون، فتنحل أواصر الأسرة، ويتفكك كيان الوطن، وينعدم الأمل في تآلف دول العالم، ويتقلب النظام الطبيعي في الحياة إلى فوضى، فيضع القوي قوانين جائزة يدعى أنه وضعها لتنظيم المجتمع، بينما هي تستمد أصول تشريعها من أشرار الأنانية، وتعتمد على القوة والوحشية في تنفيذها، وتبتدع أساليب جديدة في إذلال الإنسان الوديع واستقلال الشعوب المتأخرة.

ولكن إذا أمعن غيه، وصمم على أن لا يحيد عن طريق حب فائدته، واستكبر أن يطيع أوامر القانون الخلقي، سيلبث في صراع عنيف مستمر مع صلح الكل، يستفحل أمره شيئاً فشيئاً إلى أن يقضى عليه آخر الأمر. وهذا مصير كل فرد يقف في وجه الجماعة، ولذلك يجب على الإنسان أن يكبح جماح غرائزه وشهواته التي تلح في طلب المنافع الخاصة، وتوهمه بأن هذه المنافع هي غاية حياته، وتحرضه على أن لا يسلم أمرة النفس للقيم الروحية التي تطلب منه أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه، وأن يضحي برغباته الشخصية إذا تعارضت مع سعادة النفس الكبرى التي تشمل حياة الإنسانية بأجمعها. والإنسان العاقل هو من يوفق بين الرغبات التي ترضي النفس القروية وبين رغبة إسعاد المجتمع الإنساني، لأن كل من يحاول أن يقف وحده في وجه قوى المجتمع، ويرغب في أن يحصرها في نطاق فائدته مصيره إلى الدمار. إن سجل التاريخ الإنساني لحافل بالثورات العظمى، التي تشهد بأن الجزء حينما يحتقر الكل، وينشد لنفسه منافع خاصة من دون الجماعة، ويسير في طريق منفصل عن طريقهم، لا بد أن تثور ضده القوى الكلية، وتشن عليه حرباً لا هوادة فيها حتى ترغمه على أن يسلك طريقها العام صاغراً.

يتضح مما تقدم أن نار الشر تندلع من شرر عصيان الأوامر الأخلاقية التي تنذر بأن الأنانية ستسود حياة الفرد، وأن الإرادة ستسكن لِسيطرة الشهوات والغرائز، التي تفسد الناحية الخيرة في النفس، وتتلف مقوماتها الروحية وتدفعها في طريق الخطايا والآثام، وتوهمها بأن ذاتها هي غايتها الوحيدة في الحياة، وأن لا عمل لها إلا الجري وراء غنمها الشصي. ومثل هذه الأهواء الشريرة تخيم على البصيرة فتحجب عن الروح إدراك الله

ص: 16

المستقر في قرارة النفس على صورة القانون الخلقي، فيضل الإنسان في غياهب الشر، ويبعد عن طريق وحدة الوجود. كما تلائم هذه الأهواء الفردية الحياة العامة وتعرقل تقدم المجتمع الإنساني، وتسوق المتأثر بها إلى خوض غمار حرب مع قوة العواطف الخيرة، أو يصطدم بالمصالح العامة، لأنها تؤذي أغلبية القوم وتضر بمنافعهم، وتوقع عليهم ظلماً وجوراً لا تصبر عليه النفوس طويلاً، وسريعاً ما تتآلب عليه وتحطمه، وتضع الحق في نصابه، وتسلب من الظالم أداة ظلمه، وترده إلى طريق الصواب، وتجبره على أن يفعل الخير للجميع.

فرغبة الشر رغبة ذاتية عرضية، لا تدوم إلا بدوام سيادة الأنانية على النفس، وتزول عند مثول رغبة الخير التي تنسجم مع القانون الأخلاقي. أما الشر في حد ذاته فحقيقته سلبية غير ثابتة، ولا ينفك يتحول في مظهره إلى أن يصبر على آخر الأمر خيراً يعم الجميع، لصراعه الذي لا ينقطع مع قوى الحق التي تنشد حقيقة وحدة وجود. ومثل الشر في تغيره هذا مثل الفلسفة الفكرية التي يأخذ العلم في تنقيحها وتصحيحها شيئاً فشيئاً إلى أن تصبر حقيقة ثابتة.

بينما رغبة الخير يقويها في النفس الإيمان العميق بأن الله أودع ذاته الإنسان على صورة القانون الخلقي، الذي يجب أن نتمسك به كل عاقل، ويرضى رضاء تاماً أن يخضع لتعليماته وإشاراته. والخير قبس من لدن الله ينير سبيل الروح نحو وحدة النفس الإنسانية، ويهديها إلى الكشف عن أوجه الله المختلفة في أعماق الكون، فمن رغب الخير سار في طريق وحدة الوجود وأتبع هدى رغبة كلية إيجابية تتمشى مع أغراض الحياة العامة وتدفعه دفعاً حثيثاً نحو الرقي والسعادة، وتحصن بقوة لا ترهب نيران الشر المفترسة، وتسحق الأنانية في النفس. إن تطور الحضارات، ودأب الإنسان المتواصل في الوصول إلى أرفع درجات الكمال، لأوضح دليل على أن الخير يتغلب على الشر، وأن الغيرية تنازع الأنانية، وأن الوحدة الإنسانية تبتلع كل وحدة فردية، وأن العالم في طريقه نحو وحدة الوجود.

فليس هناك ما يدعو للاعتقاد في أن الحياة شر في شر، أو تسير من الشر إلى الشر، ولا خير فيها على الإطلاق، ولن ينجو فيها أحد من سوء. لأن الشر فوق أنه حقيقة سلبية متغيرة غير ثابتة على الحال ومالها للزوال، لا يمكنه أن يعوق تدفق تيار الحياة أو يعرقل

ص: 17

تحقيق مثلها العليا في الخير، أو يفتت من عزم الإنسانية الوطيد على الفوز بحقيقة وحدة الوجود عن طريق التمسك بالقانون الخلفي الذي هو إحدى آيات الله التي تكمن في شتى الموجودات. وأن ما بلغه الإنسان من تمدن ليشهد على أن الشر ليس له من القوة الإيجابية ما للخير، ولا يقدر أن ينضب ينابيع الخير التي خاض بها الله على الحياة الإنسانية، بل إن ما في الوجود من شر يلاحظ أنه يتلاشى تدريجيا مع تقدم الحياة المستمر، بينما ما يتحقق من خير تبقى أصوله ثابتة في أعماق الحياة، ويبدو أثرها في مختلف نواحي النشاط الإنساني. فالحياة تتحرك دائماً نحو الخير متخذة منه وسيلة لتثبيت أركان الوحدة الإنسانية، التي عن طريقها تسير البشرية خطوات نحو وحدة الوجود.

أما ذلك الشر الذي ينتشر في الكون، ويقاسي منه البشر كافة أصناف الآلام، ليس دليلا على أن الحياة في أصلها تجلب الشر، وإنما هو علامة على أن الحياة الإنسانية لم تبلغ بعد كمالها الأقصى الذي يجب أن تبلغه، وأنه مازال أمامها مراحل شاقة من التضحية والإيثار عليها أن تبذلها، حتى تصير حقيقة وحدة الوجود حية في القلوب، فينعم الجميع بالراحة والسعادة والأمن وينجون من ظلام الشر الذي يثير القلق، والخوف والحزن في النفوس.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية

ص: 18

‌من الأعماق

للأستاذ كامل محمود حبيب

. . . وظل الشابان في تردد وحيرة، والفتاة في الدار لا تجد الخيرة من أمرها، وهي قد وافقت منذ حين على أن تتزوج من جلال. . .

وأصر جلال على رأيه في تشبث وعناد، لأنه خطب الفتاة إلى أبيها فوجد منه الرضا والقبول، ووجد من أمها العطف والحنان، وألفى في أهلها الصاحب والرفيق. وأهله يتأهبون - منذ حين - ليوم الزفاف وهو قريب. على حين قد أخذ هو يستعد لما بعد هذا اليوم - لشهر العسل - في سرور واستبشار.

ماذا يضير الفتى بعد، وإنه ليدخل إلى دار الفتاة فيجد من يستقبله في حفاوة وإيثار، ومن يتحدث إليه في رقة وحنان، ومن يبذل له العطف والمحبة، ومن يحرص على راحته وهدوئه، وأخيراً يجد من يودعه في حرارة وشغف.

وأحس فكري أن في شباب جلال وقوته ما يبعث في الدار الحياة والحركة، وما يرسل في قلبه الهدوء والطمأنينة، واستشعرت الأم في الفتى النور والبشرى. لقد أنبثق هذا الشعور في قلبيهما قوياً عميقاُ، لأنهما عاشا عمراً يلتمسان الابن (الذكر) فلا يجدانه، والرجل ذو ثراء وذو حاجات، يقعده عن أن يشرف على كثير منها ما يحس من وهن وضعف من أثر الشيخوخة التي تدب في مفاصله رويداً رويداً. وهذا أخوه الفلاح يسيطر على رغباته ويغتال ماله في عنف، وهو يقوم على حاجات العزبة، ويدير أمورها، ويستبد بشئونها، ثم لا يرسل إلى سعادة البك إلا فضلة ما يبقي من غلات أرضه، والبك لا يستطيع أن ينزع الأطيان من بين يدي أخيه فتضطرب شئونها ويختل أمرها وماله عهد بإرادتها، ولا أن ينال حقه بقوة القانون فتلوكه الألسن، ويتندر به الفلاحون في مجالسهم.

والآن جاء جلال - بعد لأي - ليكون ابناً في الدار لتنبض بالحياة والنشاط، وسيداً في العزبة ليزيح عنها هذا الكابوس الجاثم على خيراتها ومغانمها.

كل أولئك غشى على عيني الفتى فلم يلق باله إلى هذا الشحوب البادي على وجه الفتاة فيعصف بنضارتها ورونقها، ولا إلى هذا الفتور الذي يستلبها من إرادتها حين تلقاه. ولم يزعجه هذا النفور الذي يلمسه دائماً، فهي لا تأنس إليه إلا ريثما تنفلت من لدنه. ولم

ص: 19

يضايقه أن لا تبتسم له إلا ابتسامة جافة عابرة ينبجس من أضعافها معنى الألم والحسرة. فهو لا يحس أنها تنطوي على بغض له ما تستطيع أن تبوح به خشية أن تجتاحها ثورة الأب ونقمة الأم. إنه لفي شغل عن ما يختلج في أطواء الفتاة، لأنه سعيد في هذه الدار، سعيد بالضجة التي تكتنفه هنا وهنالك، سعيد بالزواج من هذه الفتاة الجميلة الزكية. غير أن خاطرة كانت تحوم حول عقله توشك أن تلجه فيدفعها عنه في شدة وعنف، خاطرة نبت غرامها في قلبه منذ أن تحدث إلى عادل حديثه وحديث الفتاة، فوجد منه الإصرار والعناد، لقد استطاع أن يوهم نفسه بأن الفتاة تلقاه في سهوم وصمت من أثر الحياء والخفر، وأنها تنزوي عنه حين تريد أن تتصنع الدلال ولتمنع، وهو حين يسيطر عليه الشك يتخيل بأن خلجات نفس الفتاة نزوة طائشة من نزوات الشباب لا تلبث أن تهدأ وتستقر.

وانطوت الأيام تدفع المشكلة إلى نهايتها.

أما عادل فكان يرى الحوادث حواليه تضطرب وتندفع إلى غايتها، وما له يد يدفع بها هذه العاصفة وهي توشك أن تلفه في غير رحمة ولا شفقة. لقد كان يلقى فتاته بين الحين والحين لا يستطيع أن يزع نفسه عنها، ويجلس إلى جوارها ويتحدث إليها، وإن قلبه المكلوم ليئن أنيناً يسمع ويرى، وهو يواري زفراته الحرَّى، ويداري عبراته الساخنة خلف ستار من الرجولة والكرامة.

ولكن عين الفتاة كانت تنفذ إلى ما وراء الحجاب فلا ينطلي عليها هذا التصنع وهي ترى فتاها ينهد من حزن عميق، ويتضعضع من أثر الصدمة. وهو يرى فتاته تذوى وتذبل لأنها تنقاد إلى أمر.

آه، ليت هذا الفتى المرح الطروب ينطلق على سجيته فلا يدع الأوهام الكاذبة تكبَّل روحه الوثابة.!

وضاق عادل بما يجد، فأنطلق إلى أبيه في القرية يطب لروحه وترقق الأب الشيخ بابنه الشاب وهو يحدثه: (يا بني، وماذا عسى أن أفعل والفتاة قد سميت على فتى آخر؟ أفتراني أستطيع أن أطلب إلى فكري بك أن يطرد خطيب ابنته في غير ذنب لتستقر أنت مكانه؟ إنني - وقد عركتني الحياة - لا أومن بالحب، وهو خرافة قلبية خلقها الشباب ليبرر بها نزوات الطيش وبدوات النزق، والحياة الزوجية - في رأي العاقل - دار وزوجة وأولاد.

ص: 20

وغداً تطم حاجات الدار على ثورات القلب، وتمسح تكاليف الحياة على نوازع النفس، وتبدو الحياة أمامك طفلاً يدرج في فناء الدار، ثم صبياً يتقلب في المدرسة، فإذا هو شاب تنمحي حاجاتك أنت لتفسح الطريق لما يطلب هو، فتبذل له المال والنفس والروح جميعاً. . . ولكن ألا تعلم شيئاً عن الفتى الذي تزعمه غريماً لك؟) قال عادل:(أنا لا أعلم من أمره شيئاً، ولم أجلس إليه إلا مرة واحدة في مقهى على النيل من مقاهي الجيزة. لقد جاء ليحدثني حديثه، ويطلب إليَّ أن أنسحب من هذا الميدان كي لا أخلق المشكلة التي يعضل حلها. إنه فتى وسيم الطلعة، عليه سيما القوة والجد، وعلامة النعمة والثراء، وهو هادئ الطبع، لين الحديث في غير ضعف. . . هو جلال بن عزت بك)!

وبدت الدهشة على وجه الأب حين سمع هذا الإسم، ونظر إلى ابنه نظرة صارمة، ثم راح يقول:(الأميرالاي عزت بك! إنه رفيق الصبا، وترب المدرسة والملعب، وصديق الشباب، وإنه مني بالمكان الذي أحرص فيه على رضاه لأيادٍ كثيرة له عندي. هذا أمر لم تكن تعرفه من قبل. وهكذا ترى أنني لا أستطيع أن أزحمه في أمر اختاره لابنه وسبقني إليه. ولا ريب في أن رجولتك وعقلك وحقي عليك ستدفعك حتما إلى أن تبقى عليَّ وتنزل عند رأيي، فدع عنك هذا الأمر، دعه وأنا أختار لك من تشاء لتكون زوجاً لك، وأبذل لك الجهد والمال لترضي!)

وخرج الفتى من لدن أبيه يتعثر في خيبته، وإن قلبه ورجولته ليتجاذبانه، فما يدري ماذا يفعل، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً. الآن - وقد سدت الأبواب جميعاً في وجهه - لم يبق أمامه إلا أن يتوارى عن عيني الفتاة إلى الأبد. ولكن رجولته أبت عليه أن ينسل خفية كما يفر الجبان الرعديد من الميدان تحت سترين من الظلام والسكون.

لقد عقد العزم على أن ينسحب مثلما يرتد الجندي العاتي الجبار حين يرتد في وضح النهار ووجهه دائماً قبالة العدو، لا يطأطأ رأسه ولا تذل هامته، فذهب إلى الفتاة يعلن أمامها رأيه في قوة وصراحة.

وجلسا معاً في ناحية من حديقة الدار. لقد جاء يعلن لها رأيه ورأي أبيه. ولكنه تخاذل أمام جمالها الآسر وهو إلى جواره يشع حياة ونوراً، وتداعى أمام حبها المتأجج وهو يتألق في روحه بهجة وروعة، فأمسك عن الحديث. أفكان يطمع في أن يمد في عمر سعادته قبل أن

ص: 21

يفترقا إلى الأبد، أم كان يشعر بأن في كلماته صفعات عنيفة فهو حيناً بعد حين رحمة بقلبين؟ ولكن صوت أبيه الشيخ رن في أذنيه ينادي:(ولا ريب في أن رجولتك وعقلك وحقي عليك ستدفعك حتماً إلى أن تبقى عليَّ وتنزل عند رأيي). فهمَّ مندفعاً يعلن رأيه، وانطلقت كلماته هينة رقيقة ولكنها وقعت على قلب الفتاة المسكينة في مثل قوة العاصفة العاتية فأجهشت للبكاء، وانطلق صوب الباب يريد أن يهرب من ضعفه.

لقد انطلق عادل ليهرب من ضعفه، ولكنه ما كاد يقترب من الباب حتى ارتطم بشاب يزحمه الطريق: هو جلال. لقد رأى جلال بعينيه. . رأى الفتى والفتاة في ركن تحت شجرة من أشجار الحديقة يستمتعان بالخلوة في منأى عن الرقيب، فوقف ينظر في ذهول وغيظ وحديثهما لا يكاد يبلغ مسمعيه. وحين انطلق عادل صوب الباب أخذ جلال عليه الطريق، ولكن عادلا لم يعبأ به وانطلق في طريقه دون أن يلتفت إليه، يريد أن يهرب من ضعفه.

وحز في نفس جلال ما رأى، فانطلق إلى الفتاة يرَّبت على كتفها ويقول في غيظ وكمد:(لا تحزني يا فتاتي، لقد رأيت وسمعت. والآن أتنحى أنا لتجدي السعادة والرفاهية إلى جانب الحبيب). ثم أندفع إلى أمها في ثورة تفور وتغلي يقذف في وجهها بخاتم الخطوبة.

لقد خسرت الفتاة الحبيب والزوج في وقت معاً، وجلست في زاوية، وإن شبح ابنة عمها ليضطرب في ناظريها كلما ذكرت الخطبة والزواج، ابنة عمها التي أشرفت على الأربعين ولما تجد الزوج.

كامل محمود حبيب

ص: 22

‌فزان بين يدي الأتراك والطليان

للأستاذ أحمد رمزي بك

إيطاليا تسترد فزان:

حينما يتكلم جراتزياني تنصت السماوات العلا ويفتح الناس آذانهم، إلا أهل فرنسا فهم لا يتركونه من غير أن يناله رذاذ من نقدهم: أنظر إليه يقول: (لا توجد على الأرض دولة بوسعها إن تفخر أنها ختمت حملة استعمارية بالنصر الذي ختمنا به حملتنا على الكفرة وفزان: ليس بوسع الفرنسيين أن يدَّعوا شيئاً من ذلك، بل نؤكد أمام العالم تفوفقنا عليهم رغم الانتقادات التي توجه إلينا من سكان ما وراء الألب (يقصد فرنسا) أو سكان ما وراء المانش (يقصد بريطانيا).

ثم انظر إلى ردهم بعد فتحهم فزان في سنة 1943 فيما نشره الفرنسيون بسخريتهم المعروفة:

، ' ،

أنصت إليه في مؤلفه:

يحدثنا عن نفسه:

(ها قد أعطيت الكلمة لتحكيم السيف وإنها لكلمة مقدسة حينما نريد أن نفرض إرادتنا على خصم عنيد؛ إنها مقدسة ولمائة مرة حينما نقذف في وجه الأهالي الوطنيين الذين صمت آذانهم عن سماع أي منطق إلا ما توحيه إليهم عقولهم الهمجية، أولئك لا يقنعهم شيء سوى استعمال القوة تصحبها العدالة).

أرأيتم مثل هذا إلا في عهد قيصر!!!

فهو إذن يشيد بعمل الحكومة الفاشية التي قررت فرض إرادتها باستعمال السلاح يقول أن سياستها تتلخص في جملة واحدة (أصبح من المحتم الخروج من الحالة المبهمة السائدة في المستعمرة وأن تفرض إرادة الحكومة على كل جهة، وأن يكون فرض التسليم والخضوع شرطاً لكل عمل سياسي مع الأهالي، فعلى كل من يباشر أي سلطة حكومية أن يواجه أهل البلاد بهذه الحقيقة التسليم بلا قيد وشرط أو الحرب بلا هوادة).

ص: 23

وكانت هذه هي السياسة التي نادى بها فولى والذي وقف من أول الأمر ينادي (بأن حق إيطاليا من الناحية الدولية في امتلاك المستعمرة حق ثابت لا نزاع فيه، وأن عناد الأهالي ما هو إلا ثورة يحركها بعض الرجال المتعطشين للسلطة تقودهم أطماعهم الذاتية فليس هناك روح قومية أو حركة وطنية تحركها عواطف عالية أو روح جماعية، وإنما هناك أطماع وأغراض وأهواء: فلنضرب ضرباً قاسياً (وهل وجد المستعمرون في مدغشقر وفي إندونيسيا غير هذا المنطق؟

وجاء جراتزياني ينفذ خطته لاحتلال فزان على طريقته الخاصة وإلا فانظر إلى تعليماته للوحدات التي يقودها: فهي تعبر عن نفسية يجدر بنا تتبعها:

1 -

توزع قوات الاحتياطي على أنحاء الجبهة بطريقة تمكن من الاستفادة منها بغير إضاعة وقت ولكي يسهل تجمعها واستعمالها إذا احتاج الأمر إليها لضرب العدو ضربات قاصمة.

2 -

تقسم الجبهة إلى أقسام، وأن يتولى كل في دائرته مطاردة العدو بواسطة أفواج تبدأ عملها من نقط ارتكاز مختلفة ومتباعد ولكنها متجهة في سيرها إلى غرض واحد - أو تظهر أنها متجهة لأغراض متعددة في وقت واحد مع تلاقيها عند هدف واحد، وبذلك تتوزع قوات العدو المتجمعة أو تتفرق أو تثبت في أماكنها.

3 -

يراعى أن تستعمل الوحدات على أساس العمل على جبهة واسعة الأطراف، أي تعمل كل واحدة على أنها مستقلة تماماً في تحركها إلى أبعد مدى وتترك كل قواعد وأساليب التعبئة القديمة، وتعتمد الوحدات على مرونتها في الحركة والتقدم والعودة بدون أن تلجأ إلى طلب مساعدة الوحدات الأخرى: يفهم من هذا أنه اتبع نظام دوريات دائمة متحركة بانتظام.

وقد تبين من كتابته رأيه في المقاتلين العرب، فهو لا ترهبه كثرتهم العددية بل يقرن النصر بالقرار الحازم والتقدم للهجوم، فالمهم لديه اكتشاف أماكن تجمع الثوار ومهاجمتها بغير تردد ويوصي بأنه عند التلاقي يجب أشغال العدو وقبول المعركة، فإذا حاول العرب الانسحاب لا تتركهم قوات الجيش ولا تمكنهم من الراحة واستعادة شجاعتهم، بل يجب مع انسحابهم إصابتهم مادياً والفتك بهم حتى تفنى قوة المقاومة لدى العدو ولا يستطيع استعادتها.

ص: 24

ثم عاد فقرر (أنه لا يصح احتقار شأن الثوار، بل يحسن إعطاؤهم ما يستحقونه وليذكر الطليان أن عزيمة العرب وإن بدا مظهرها قوياً في المبدأ إلا أنها لا تستند على قوة دافعة مستديمة، ولذلك تضعف وتهبط في النهاية فالمقاتلة من الثوار لا يسعهم أن يصمدوا في المعركة طويلاً أمام قوات نظامية مدربة تدريباً أوربياً)

ويهمنا أن نتعرف إلى جميع آرائه فينا فهو يتكلم بصراحة وبوسعنا أن نصلح أخطاءنا دائماً إذا اطلعنا على ما يكتبه عنا أمثال هؤلاء ويقرر (أن حاجات العرب في الميدان محدودة. ولذلك لديهم مقدرة فائقة على جمع وسوق قوات كبيرة واستعمالها في ميادين مختلفة والعربي مقاتل بغريزته وطبعه فهو لا يهاب المواجهة ولا يخشى التصادم، ويعتمد على عاملين: مقدرته على التضليل ليصل إلى توزيع القوة التي أمامه وتفرقها حتى لا تعمل كموحدة متكاتفة وقوية ثم يعتمد على المؤثرات الأفريقية التي تصيب الجيوش الأوربية وتسبب لجنودها التعب والإعياء حينئذ يضرب ضربته).

ثم يعقب هذا بقوله: (إنه في كل مرة من تلجئهم الظروف إلى مواجهة حالة قتال تقرب من أساليبنا الأوربية، ويتحتم عليهم قبول المعركة يدب الخلل في صفوفهم ثم يسهل لنا التفوق عليهم لعدم تمكنهم من الوسائل الفنية العديدة التي بين أيدينا (على ضوء هذه التعليمات الصريحة قاد جراتزياني جنوده في العمليات التي سبقت فتح فزان وهي عمليات بوليسية على حد تعبير إخواننا الهولنديين حينما يتحدثون عن جهاد الشعوب

وفي هذه الأثناء جاء بادوليو إلى ليبيا وتولى سلطتي الحاكم العام والقائد الأعلى (وكان هذا في نظر جراتزياني فتحاً جديداً عبر قوله (بعد عشرين عاماً من التلكؤ والتردد والهزائم تسلم الأمور ليد عسكرية ونضع لأول مرة برنامج منسجم جامع روعي تطبيقه بإرادة قوية).

وبهذا انتقلت السلطات العليا ليد العسكريين، فأمر بأن تكتب هذه العبارة وتعلق على بابه (ليس لدى هذه القيادة خزينة لدفع مرتبات). وذلك لاعتياد الحكومة الإيطالية على توزيع مرتبات نقدية وهدايا وأسلحة وذخيرة وقال إنه رفض من المبدأ الدخول في مفاوضات أو إعطاء مواثيق أو وعود، وصرح في كل مناسبة أن الحكومة تريد أن تعرف من هم أصدقاؤها ومن هم أعداؤها وأخذ يترنم بمقطوعة من شعر فرجيل الشاعر الروماني.

ص: 25

وتعريبه (تذكر أيها الشعب الروماني أنك ستدعى إلى حكم الشعوب فاعف عمن يلين لك واخضع الأقوياء لسلطانك).

وهكذا نرى أن فزان فتحت لنا آفاقاً بعيدة نطل فيها على حوادث متعددة ونتعرف على نفسية القواد وغرورهم ورأيهم فينا:

فلنقف قليلاً لنحدد أثر الحوادث وتسلسلها التاريخي في فاصل قبل الدخول إلى المقاطعة وحروبها الحديثة.

فنحن نعلم أن فزان كانت مستقلة تحت حكام من أمراء بني خطاب من قبائل الهوارة كما حكمها ملوك من السودان ولا تزال بقايا قصورهم وقبورهم قائمة. ونحن نذكر نقلا عن صاحب تاريخ طرابلس الغرب المسمى التذكار (حوادث عن أمراء فزان) في ولاية سليمان داي التركي وحروب صاحبها المنصور بن الناصر ابن المنتصر ورفضه دفع الإنارة وعراكه مع الوالي ثم حروبه وعودته وشكوى أهل فزان للسلطان أحمد بن السلطان محمد ابن مراد بن سليم بن سليمان فهذه حوادث تتكرر في كل عصر حتى عصر عبد الحميد. وكان أن أصبحت فزان منفى لرجال الأحرار من الأتراك في عهده والغريب أن يلجأ حكام روما الفاشيون إلى فزان والكفرة لفرض الإقامة الجبرية على فريق من أعداء العهد الفاشي، فإذا جنود فرنسا حرر بعضهم وكان قد مضى عليهم سنوات وهم مبعدون من أوطانهم.

لنذكر بعد ذلك أن إيطاليا جمعت أواخر سنة 1913 حملة قوامها1200 جندياً إيطالياً ووطنياً تحت قيادة الكولونيل ميامي ووجهتها من طرابلس إلى الجنوب واحتلت المراكز الهامة حتى وصلت إلى مرزوق ولكن هذا الاحتلال لم يدم طويلا كما ذكرنا ففي نهاية عام 1914 انسل الطليان منسحبين إلى الشمال تاركين الجنود الوطنيين وحدهم فدخل فزان السنوسيون مع حلفائهم من الطوارق وأقاموا بها حكما لم يدم طويلا لأن الأتراك أعدوا الكرة فزحزحوا السنوسيين عنها وعينوا إحسان ثاقب متصرفاً للإقليم وجعلوا المدعو خليفة زاوية في وظيفة محاسبجي للمتصرفية حدث هذا في سنة 1917 ثم تولى الأخير السلطة في نهاية سنة1918 ولما غادر الضباط الأتراك بعد عقد الهدنة - ثم ساد عهد الفوضى

ص: 26

والتنازع بين الأخير وجماعة سيف النصر وشيخ يدعى عبد النبي انتهى باستيلاء الأخيرين على مرزوق وطرد خليفة من المقاطعة فلجأ الأخير إلى الطليان وهو بحالة يرثى لها فأعطاه جراتزياني منزلا وخادماً ووعده بأن يستخدمه في فتح فزان.

وضعت خطة الفتح بناء على إرشادات المارشال بادليو وروعيت فيها منتهى الدقة بحيث لم تتجاوز اعتمادات الصرف 21 مليون ليرة إيطالية أيما يقرب 200 ألف من الجنيهات المصرية يدخل تكاليف تعبيد الطريق لغاية سبها وإصلاح الطريق من سبها إلى مرزوق ثم منها إلى غات على الحدود الفرنسية.

ثم كل هذا ابتداء من النصف الأول لسنة 1929 وتحدد شهر ديسمبر لابتداء العمليات الحربية التي وضعتها القيادة العامة في طرابلس من ناحية تعبئة القوات المكلفة بالفتح وتهيئتها وإمدادها بعربات النقل وكل ما يتعلق بمراكز التموين والتجمع ونظام سوق الجيش وتركت على عاتق جراتزياني الناحية الفنية ناحية اختيار الضباط وتدريب القوة المكلفة بالزحف.

فحصر همه في اختيار أعوانه ووضع لذلك شروطاً ألزم نفسه باتباعها فاشترط.

1 -

أن يكون الضابط على خلق قيم وجرأة وإرادة.

2 -

أن يكون من المتحمسين للأمور الاستعمارية.

3 -

أن يكون من الذين يتحملون المشاق ويرضون بالتخشن في العيش.

ولما عرف كيف ينتقي ضباطه فرض هذه الشروط على ضباط الصف ثم أخذ يختبر معلومات ومقدرة رجاله ففرض على القوة القيام بتمرينات متعددة على خاصيات حرب الصحراء واهتم بوسائل الارتباط والمخابرة مع الطائرات حتى يسهل الاتصال بين الوحدات وبعضها وبينها وبين القيادة وطبع كتاباً مختصراً عن فزان وأحوالها ووزعه على الجنود وضباط الصف وأخذ في تحضير خريطة مفصلة على أحدث ما وصل إليه علم السلطات عن طبيعة الأرض والمناطق وأسماء البلاد والمسافات التي تفصلها.

ولم ينسى خليفة زاوية الذي انضم مع الطليان على رأس مفرزة من الوطنيين ومعه مهدي موسى للانتقام من أعدائهما في مرزوق وتحركت. القوتان في نهاية شهر أغسطس وقاتلت جماعة من المجاهدين تحت قيادة سيف النصر واحتلت واحة براق الواقعة على طريق

ص: 27

سبها.

ولما وصل خبر احتلالها إلى طرابلس أصدر بادوليو أمره بالتقدم إلى مرزوق وأن تكون المقدمة من فوج من السيارات المدرعة ومعه كتيبة من جنود إرتريا تحملها السيارات وتتبع كل هذا قافلة تحمل ما يكفي لمدة شهر من المؤن والذخائر ولما وصلت الحملة إلى براق وجدت أن سبها قد سقطت في يد خليفة وبهذا أصبح الطريق مفتوحاً إلى مرزوق.

يقف الطليان هنا موقفاً خاصاً يشيرون فيه إلى أخطائهم الماضية فهم يدرسون عمليات سنة 1913 ويقررون أن أسلافهم لم يفكروا في حماية مواصلاتهم وكان تقدمهم لاحتلال مراكز العدو دون التفكير فيما تتعرض جنودهم إذا تركوا جيوباً للعدو يشن الغارة منها عليهم وكان أن سقطت حامياتهم وعزلت واحدة تلو الأخر ويكشف جراتزياني عن فكره بقوله (إن هذه الأخطاء لن تتكرر مرة أخرى) ولذلك ترك الزعماء الوطنيين يتقاتلون في فزان. حربهم الداخلية الفانية التي تحضر للرق رؤوسهم وأخذ يستعد لحملة واسعة النطاق وكان ذلك في الشهور بين أغسطس و25 نوفمبر سنة 1929 حيث وصل فجأة إلى سبها وأصدر تعليماته التي تتلخص في

1 -

إتمام تطهير الجزء الشمالي بأكمله واحتلال براق وسبها بالقوات النظامية.

2 -

السير مرة واحدة إلى واو الكبير على طريق مرزوق - الكفرة ومنها كانت الحملة التي وجهها العابد إلى سبها سنة 1914.

3 -

الهدف الأخير احتلال مرزوق - أوبارى - غات لحدود الصحراء الفرنسية.

إن القصد النهائي هو أن تتطور المعركة على شكل ديناميكي وينتهي للوصول إلى احتلال نهاية الحدود السياسية وإخضاع أبعد المناطق مما لا يتصور العرب أن في وسع الحكومة الإيطالية الوصول إليها1.

وقد نفذت هذه الخطة التي كان الكتمان رائدها بحذافيرها تامة فاستولت إيطاليا على واو الكبير ومرزوق وفي 35 فبراير سقطت غات التي غادرها الثوار منسحبين إلى داخل الأراضي الفرنسية وفي 30 مارس تركت مفرزة من قوات البادية مراكزها في فزان متجهة جنوبا فاحتلت جبال طمو في 2 إبريل أي على بعد1500 كيلو متر من الساحل وأتمت حركتها بأن عادت إلى مراكزها عن طريق بئر الوعر وبقيت إيطاليا تسيطر على

ص: 28

فزان حتى قامت الحرب الأخيرة. أليس في ذكر هذا ما يحرك في النفس أشياء؟ نعم لقد انتهى عهد إيطاليا وانتهى جراتزياني وسلمت جيوشه في صحراء مصر ولكن الدروس التي ألقاها علينا في زحفه إلى فزان تستحق العناية أو تنبهنا إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها أسلافنا أو وقعنا نحن فيها ألم يكن من الأوفق لنا أن نعرف أساليب الخصم العاتي وأن الاستعمار مجموعة تحارب والحروب سلسلة من الدروس القاسية والفرص تأتي ولا تعود.

والآن انتقل إلى الحلقة الأخيرة لفزان وهو احتلال فرنسا لهذا الإقليم:

(النهاية في العدد القادم)

أحمد رمزي

ص: 29

‌حول مشكلة السكان في مصر

للأديب محمد محمد علي

إن دراسة السكان على جانب كبير من الأهمية للباحث الاجتماعي، وذلك لوجود علاقة متبادلة بين تكوين وحجم المجتمع من جهة، وبين النظم الاجتماعية والمظاهر الحضارية من جهة أخرى. وعلى ضوء هذه الدراسة توضع خطط إصلاح المجتمع. والسكان في العالم موزعون توزيعاً غير صحيح، لأن هناك عوامل كثيرة تؤثر في هذا التوزيع، وأهمها المظاهر الجغرافية والموارد الطبيعية والتحسينات البشرية.

وفي مصر يتجمع السكان (تسعة وتسعون في المائة منهم) في جزء صغير لا تتجاوز مساحته خمسة وثلاثين كيلو متراً مربعاً، فتبلغ كثافة السكان 750 نسمة في الكيلو متر المربع على اعتبار أن عدد السكان قد وصل تسعة عشر مليونا. وتختلف هذه الكثافة في جهات القطر المختلفة، وتبلغ أقصاها في المنوفية: أشد المديريات إزدحاماً، إذ تزيد الكثافة على ثمانمائة نسمة. ولا عجب في هذا الازدحام فإن اعتماد الأهالي على الزراعة.

ومن مقارنة التعدادات المتتالية يتبين لنا أن عدد السكان في مصر قد تضاعف في نصف القرن الأخير إذ زاد من تسعة ملايين وسبعمائة نسمة في عام 1897 إلى تسعة عشر مليوناً. في عام 1947 حيث بلغ متوسط الزيادة 2 % في السنة. وهذه زيادة كبيرة لا تتناسب وزيادة الموارد الطبيعية: وذلك هو أصل الداء رأس المشكلة. فإن المساحة المنزعة لم تزد في هذه الفترة إلا حوالي ثمانمائة ألف فدان إذ بلغت في عام 1945 خمسة ملايين وسبعمائة ألف. وليس من شك في أن هذه الزيادة الكبيرة في السكان تؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة، لكنها زيادة في طبقات معينة ألا وهي الطبقات الدنيا، لأنها لا تزال تعتقد أن في زيادة السكان خيراً وبركة، اعتماداً على قول الرسول الكريم (ص)(تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) ثم لطبيعة الفلاحين في حب النسل الكثير. ومن جهة أخرى أن نجد أن الطبقات المثقفة والعليا تستخدم وسائل ضبط النسل بنجاح كبير لدوافع اقتصادية وصحية وثقافية. إذن فالطبقات الدنيا هي التي ينخفض مستواها من هذه الزيادة، وهم سكان الريف المهمل في شتى الخدمات الاجتماعية.

وتعتبر الملكية العقارية عماد النظام الاقتصادي الزراعي في مصر. فقد بلغ عدد الملاك في

ص: 30

عام 1945: 2 ، 600 ، 000 أي 15 % من السكان. فإذا فرضنا أن كل مالك يعتبر ربا لأسرة قوامها خمسة أفراد، فإن عدد من يعتمد على الزراعة من سكان القطر كمورد يبلغ نحو خمسة وسبعين في المائة من جملة السكان. ومن هؤلاء الملاك سبعون في المائة يقل ما يملكه الواحد منهم عن فدان! ولا جدال في أن الفقر يؤدي إلى سوء الصحة، بالإضافة إلى الجهل الضارب إطنابه نرى أن ثمانين في المائة من سكان مصر الحديثة يعيشون عيشة ضنكا! وهذا أمر عجيب في بلد ذي مناخ معتدل وموقع ممتاز، وهو يعد مهد أقدام حضارة أضاءت بنورها ظلمات العالم. وهنا نتساءل: هل يؤدي ازدياد السكان إلى انخفاض مستوى المعيشة؟ ولكل سؤال جواب كما يقول جميل لصاحبته. فما ينبغي أن نتشاءم كما تشاءم ملثس (1766 - 1834) في انجلترا، فقد حذر مواطنيه من كثرة التناسل وحثهم على تأخير الزواج مع حياة العفة. وحينما تغيرت الأحوال ونهضت الصناعة في القرن التاسع عشر، زاد عدد السكان زيادة فائقة استجابة لزيادة الموارد، ولم يصحب ذلك انخفاض في مستوى المعيشة.

قد يقال إن أمام المصريين أرض الله واسعة فليهاجروا إليها، ولكنما المصري قد تعود التعلق بأرضه منذ القدم، ثم أن الهجرة ليست بالأمر الهين السهل، لأسباب مختلفة وظروف متباينة. وقد يقال إن ضبط النسل هو الحل الصحيح، ولكنه غير ممكن من الناحية العملية إذ أن وسائل ضبط النسل قلماً تلاقي نجاحاً عند الطبقات الدنيا كما أشرنا من قبل، مع أن المجتمع لا يرغب في زيادتهم الكبيرة، وذلك بعكس الحال عند الطبقات المثقفة والعليا التي توسعت في استخدام ضبط النسل مع أن كثرة نسلهم ليس منها ضرر، إذ أن في إمكان هذه الطبقات أن تربي الأطفال مهما كثروا تربية حسنة. إذن فعلاج الحال نجده في الموارد الطبيعية.

ففي الناحية الزراعية يمكن زيادة الأراضي المنزرعة وذلك بإصلاح الأراضي البور وبواسطة مشروعات الري مثل مشروع وادي الريان وغيره والاهتمام بطرق الزراعة والعناية بأنواع النباتات وتحسينها، مع ملاحظة قانون الغلة المتناقصة وهو أن للأرض حداً في الإنتاج لا تتعداه مهما أجرى من وسائل التحسين والإصلاح، وكل زيادة في الإنتاج يحصل عليها بأكثر من زيادة متناسبة في الأيدي العامة.

ص: 31

ويرى سعادة حافظ عفيفي باشا أن هناك أربع وسائل لرفع مستوى المعيشة في مصر2:

1 -

قيام الشركات المساهمة.

2 -

رفع الرسوم الجمركية على الموارد الأولية والآلات.

3 -

العناية بأجور العمال وتحسينها.

4 -

تشجيع التصدير إلى الخارج.

وهناك غير ذلك من وسائل رفع المستوى الاقتصادي للشعب مثل الضرائب التصاعدية وتأميم المشروعات والتصنيع الريفي والتوجيه المهني للنشء. . . ومن وسائل رفع المستوى الصحي مثل العناية بمياه الشرب والمساكن الصحية وإنشاء المستشفيات والتأمين الصحي للسكان وتشجيع الجمعيات الخيرية. والاهتمام بالتعليم ونشر الثقافة الشعبية ومحو الأمية لرفع المستوى الثقافي. هذا مع العلم بأن هناك ارتباطاً بين النواحي الاقتصادية والصحية والثقافية؛ فلا صحة للقول الشائع بأن نبدأ في القضاء على الأعداء الثلاثة الفقر والمرض والجهل واحداً فواحداً، مع أن المشكلة واحدة وينبغي علاجها من كافة الوجوه.

ولا بد لنا من أن نسجل بالفخر في هذا المقام ما قامت به حكومة الفاروق أعزه الله من جهود في سبيل رفع مستوى الشعب بمختلف الوسائل.

والخلاصة أن ازدياد السكان لا يؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة ما دامت هناك إمكانيات لزيادة موارد الغذاء، إلا أن هناك ضرورات تستوجب استخدام وسائل ضبط النسل مثل عدم ملائمة الحالة الصحية أو اشتغال المرأة بالأعمال المختلفة وغير ذلك. وينبغي أن نتذكر دائماً فرنسا التي ما زالت تعاني خطر قلة عدد سكانها، إذ استخدم ضبط النسل في أول الأمر كعلاج للمشكلة عندهم، ثم بمضي الزمن أصبح ضبط النسل من تقاليد السكان الذين لم يستطيعوا التخلص منه رغم إغراءات الحكومة المختلفة لزيادة النسل. مع أن المقصود بضبط النسل فيما نرى هو مراعاة مقتضى الحال في الزيادة والنقصان.

محمد محمد علي

قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد

ص: 32

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

توفيق الحكيم في ميزان الفن والنقد

الرأي الذي كونته لنفسي عن فن توفيق الحكيم قبل أن أعرفه، هو الرأي نفسه الذي انتهيت إليه بعد أن عرفته. كل ما حدث هو أن معرفتي به قد زادتني اقتناعاً بهذا الرأي وإيمانا به. أما هذا الإيمان فقد قام على دراسة بعيدة المدى لفنه أولا ولشخصه ثانياً، وأستطيع أن أقرر وأنا مطمئن أن كل ما أكتبه هنا - في رأيي على الأقل - يتسم بسمة المعرفة، والصدق، والثقة التي تستمد عناصرها ومقوماتها من الواقع الملموس.

أول مزية من مزايا هذه الشخصية الفنية أنها من الشخصيات النادرة التي تتمتع بحظ كبير من القلق النفسي، وهو أول أداة من أدوات كاتب القصة. . . ومن طبيعة الشخصية القلقة أنها تثير دائماً ألواناً من (الصراع الفكري) في ثنايا القصة والمسرحية، وكلتاهما تعتمد أول ما تعتمد على هذه الدعامة الفنية الفذة، وأعني بها (الصراع)! القلق الدفين والشك الملح صفتان تجريان مجرى الدم في طبيعة توفيق الحكيم النفسية؛ ومن هنا تجد شخصيته القلقة منعكسة بوضوح في أكثر ما يكتب، ويستطيع الذين لم يتصلوا بهذا الكاتب، ولم يتهيأ لهم أن يعرفوه معرفة خبرة ودراسة ويقين، أن يلتمسوه هناك في كثير من شخصيات قصصه ومسرحياته. . . إنها شخصيات حائرة، قلقة، مترددة، يندر أن ينتهي بها المطاف إلى استقرار. وهكذا تجد توفيق الحكيم في واقع الحياة؛ يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس: في تأملاته، في سبحاته الروحية؛ وهو لهذا كله يثير في فنه أشتاتاً من المشكلات الفكرية العميقة التي تحفل بالصراع، ولكن أي صراع؟ إن توفيق الحكيم يذهب في مقدمة (أوديب الملك) إلى أنه يقيم الصراع دائماً على دعامتين: الواقع والحقيقة، أي أنه يغرق أبطال قصصه ومسرحياته في خضم من (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)! الذي تتجاذبهم فيه أمواج الواقع من هنا وأمواج الحقيقة من هناك. . هذا ليس كل الحق؛ إن في بعض مسرحياته صراعاً بين الواقع والخيال، وقد يبدو الخيال لبعض الواهمين ضرباً من الحقيقة، كما حدث لبعض شخصيات توفيق الحكيم في (شهرزاد) و (سليمان الحكيم)!

وسواء أكان الصراع بين الواقع والحقيقة، أم كان صراعاً بين الواقع والخيال كما حدث في

ص: 33

(شهرزاد) و (سليمان الحكيم)، سواء أكان هذا أم ذاك فإنك تخرج من هذا (الصراع الفكري) بظاهرة فنية ملموسة، وهي أن شخصيات توفيق الحكيم القصصية تفرمن الواقع هنا وهناك. . . ومرة أخرى تجد هذا الفنان منعكساً بلحمه ودمه على صفحة فنه، لماذا؟ لأن هذه هي طبيعته النفسية والفكرية؛ لقد قدر له أن يلقى الحياة بهذه الطبيعة العجيبة، يلقاها ليفر منها، جرياً وراء الحقيقة أو جرياً وراء الخيال!

(الصراع الفكري) هو السمة الغالبة على آثار توفيق الحكيم الفنية، أما (الصراع النفسي) فلن تجد منه إلا ومضات لا تلبث أن تشع حتى تختفي. . . في هذا التيه من التأملات الفكرية والتهويمات الذهنية، وتستطيع أن تلمس هذا بوضوح في (أوديب الملك)؛ لقد حاول توفيق الحكيم جاهداً أن يتخلص من هذه الظاهرة التي تفرض نفسها على فنه ليبتعد بتمثيلية سوفو كل عن حيز (المسرح الذهني) ولكنه لم يستطع. . . من هنا تنبع شكواي من فن توفيق الحكيم؛ شكواي من انعدام (الصراع النفسي)! إن أول مزية من مزايا هذا الصراع هي أنه حين يرسم لك الخطوط الرئيسية في مشهد من المشاهد أو في شخصية من الشخصيات، يجعلك تعيش بفكرك وشعورك في محيط هذا الجو الذي تمتزج به ويمتزج بك، فإذا أنت متجهم في جو المشهد القاتم والشخصية العابسة، وإذا أنت منطلق الأسارير في جو المشهد الوضيء والشخصية الباسمة. . . لهذا كله لم يهزني (أوديب) في محنته؛ أوديب الذي تحالفت عليه المقادير فقتل أباه وتزوج من أمه. وكذلك لم تهزني (جوكاستا) الشقية البائسة؛ جوكاستا التي تنجاب عن عينيها الغشاوة يوماً فترى أن الزوج هو الابن، وأن الأطفال الأحباء قد خرجوا إلى الحياة، كما خرج أبوهم من قبل. . . خرجوا جميعاً من بطن واحد!

هذا النقص في (الصراع النفسي) تحل محله موهبة أخرى في (الصراع الفكري)، ولولا هذه الموهبة الفذة لما ملئ هذا الفراغ في فن توفيق الحكيم. . . إن طبيعته القلقة قد انعكست على شخصيته الفنية فأكتسبها فيضاً من المزايا التي لا تجتمع كثيراً لغير هذا الفنان: منها هذه الحرارة المتدفقة التي يضفيها على فنه إشعاع ساطع من عنف الصراع ونفاذ التأملات، وتلك الحركة الجياشة التي تشيع في ثنايا المواقف النابضة بالحيوية والانطلاق.

ص: 34

ومع ذلك فأنل أرجو من الذين قرءوا (أوديب الملك) وغيرها من المسرحيات التي يطبعها طابع (الصراع الفكري) أن يرجعوا إلى (سليمان الحكيم). . . إنهم سيلمسون ظاهرة فريدة لا عهد لهم بها في فن توفيق الحكيم. ظاهرة وقفت عندها وأطلت الوقوف، ودرستها في كثير من التأمل وإنعام الفكر. . . (صراع نفسي) وهذا هو العجب، (وقلب إنساني) وهذا هو الأعجب! ترى أكان توفيق يوم كتب (سليمان الحكيم) يعيش نفس التجربة التي صورها بريشته لقلب (بلقيس) حين خاض هذا المعترك الرهيب بين حب (منذر) وجاه (سليمان)؟ أكاد أقطع بصحة هذا الظن، وإلا لما استطاع توفيق الحكيم أن يهزني كل تلك الهزات الشعورية العميقة في هذا العمل الناضج من أعماله الفنية؛ أقول (هزات شعورية) لأن العهد بتوفيق الحكيم أنه في أغلب آثاره لا يهز قارئه إلا (هزات فكرية)!. . .

(سليمان الحكيم) في إنتاجه كله تقف وحدها متفردة باكتمال (الصراع النفسي) وقوة النبضات في القلب الإنساني، وحكم التفرد أمر لا يقاس عليه إذا ما أقمنا الميزان للشخصية الفنية على مدار إنتاجها كله؛ ومعنى هذا أنني أعود فأكرر بأن (الصراع الفكري) هو السمة الغالبة على آثار توفيق الحكيم في واقع الفن وواقع الحياة!.

تعال بعد ذلك أحدثك عن موهبة أخرى في فن توفيق الحكيم هي موهبة الحوار - قد تقول لي إن توفيق الحكيم ينطق شخوص قصصه ومسرحياته في بعض الأحيان بما يبعد عن أن تنطقهم به الحياة. إنني أوافقك على ما تقول، ولكنك لا تستطيع أن تنكر أنه يدير دفة الحوار بمهارة فائقة تنسيك هذا الجانب الذي يلوح منه شبح الاعتراض. ولا تستطيع أن تنكر أيضاً أنه قصاص قادر على الانفعال في تلك المواقف التي تتطلب دفقات هائلة من السرعة والحركة وحرارة التعبير، وتلك مزية تنقص الكثيرين من كتاب القصة!

أما الموهبة الأخيرة التي تهزني في فن توفيق الحكيم فهي أن القصة بين يديه تمتاز با (التصميم الفني). . . إنه يعرف كيف تبدأ القصة، وكيف تسير. وكيف تنتهي، دون أن يكون هناك شذوذ أو اضطراب في هذه المراحل الثلاث؟

هذا هو كل ما يمكنني أن أقدمه إلى الأستاذ محمد عادل المرصفاوي في حدود المجال الذي طلب إلي أن أكتب فيه، وأنني لأرجو أن أكون قد وضعت بين يديه مفتاح هذا الباب الموصد أو مفتاح هذه القلعة المغلقة. . . على حد تعبيره حين كتب إلى مشيراً إلى

ص: 35

شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الأدبية والإنسانية!

كرافتشنكو ينتصر على مجلة (ليتر) الفرنسية:

أخيراً وبعد نضال مرير عاصف عنيف شهدت أدواره جوانب قاعة المحكمة بسراي العدل في العاصمة الفرنسية، أصدر القضاء حكمه في صالح الكاتب الروسي الثائر على نظام الحكم الفاصل بين صاحب (آثرت الحرية) وبين القائمين على أمر مجلة (لي ليتر فرانسيز)، تنهار أدلة الاتهام التي وجهها خصوم الكاتب الروسي إلى حقيقة كتابه وما حوى من وقائع ومعلومات!.

إنها لطمة قاسية من غير شك، تلك التي وجهها القضاء الفرنسي منذ أيام إلى الشيوعية الروسية الفرنسية. . . وأية لطمة أقسى من أن أن يصدر حكم القضاء مؤكداً نسبة الكتاب إلى صاحبه، ومؤيداً لكل ما تضمنه من بيانات أوردها كرافتشنكو ليدلل بها نظم الحكم في بلاده، تلك النظم التي تحد من حرية الرأي والفكر، وتلغي الكرامة الفردية والعقلية وكل ما ينشده الأحرار من مثل في المجتمع الكريم؟!

إن كرافتشنكو يخرج اليوم مرفوع الرأس، بعد أن حكم له القضاء بتعويض قدره خمسون ألف فرنك عن الجزء الأول من الدعوى التي رفعها على المجلة الشيوعية الفرنسية، وبعد أن حكم له بتعويض آخر مماثل للتعويض الأول في مقابل الجزء الثالث من الاتهام. . . أما مسيو كلود مورجان مدير المجلة ومسيو أندرية ورمستر رئيس تحريرها فقد قضت المحكمة بتغريم كل منهما مبلغ خمسة آلاف فرنك؛ ومع إلزامها بنشر هذا الحكم في أول صفحة من صفحات (ليتر فرانسيز). . . مجلتهما الأسبوعية!!

هذا هو ما وافتنا به شركات الأنباء عن آخر مرحلة من مراحل هذه القضية المثيرة، ولكن هيئة الدفاع عن محرري المجلة الفرنسية تعد العدة لاستئناف هذا الحكم في الأيام المقبلة. . . ومعنى أن هناك فصلا أخيراً يهم النظارة أن يشهدوه!.

(كافر) للشاعر السوري زهير ميرزا:

هذه مجموعة شعرية تستحق تحية القلب وتحية القلم. . قال صاحبها وهو يتفضل مشكوراً بإهدائها إليّ: (أقدم إليك هذا الشعر، قال صاحبها وهو يتفضل مشكوراً بإهدائها إليّ: (أقدم

ص: 36

إليك هذا الشعر، صدى لكلمتك (تحية قلبية وأخرى قلمية)، التي لولاها ولولا الرسالة ما تم مثل هذا اللقاء الفكري الذي أرجو أن يكون فاتحة صداقة متسامية، رائدها الكفر بالمفاهيم للأيمان بها)!. . . إهداء فيه تحليق وشعر فيه تحليق، وأنا أحب أن أعيش في أجواء المحلقين من أمثال زهير ميرزا، سواء كانوا كتاباً أم شعراء.

أجمل ما في هذه المجموعة الشعرية أن زهير ميرزا يصب شعره في قالب من الحوار الفني الذي يدور حول فكرة، تنبع من أعماق الشعور لتحلق على أجنحة الخيال. . . ولا أقول إن الفكرة الجديدة، ولكن الجديد فيها هو تلك اللقطات البارعة التي تجيد اختيار الزاوية في مجال الإخراج الفني للصورة النفسية، تلك التي يتسع لها إطار التعبير ولا يزيد!

صورة من النفس يلفها وشاح من ومضة الفكر، وإذا أنت في (الحقيقة الكبرى) مأخوذ بصراع العقل والعاطفة بين (قمر) و (شهرزاد). . . هناك حيث تنفر الروح من هذا (الشيء) المعاد الذي تبلى جدته في عالم الواقع وتحيا في عالم الوهم الطليق! وهكذا يمضي زهير ميرزا في (لقاء) و (وغانية الفكر) و (كافر) و (مصرع المثال). . . أما (لقاء) فتصور هذا النضال النفسي الذي يثيره (نداء الأعماق) في طريق قد خلت من كل شيء إلا فتى وفتاة؛ أمواج من دعاء الوجدان تعترض سير الشراع الحالم ولا تزال به حتى يغيب تحت أطباق العباب! وفي (غانية وفكر) يقبل جسد وتعرض روح. . . وتحتدم المعركة بين اللهب المنبعث من وقدة نار تتأجج، وبين الفراشة التي تحوم حول النور تبغي الضياء ولا تريد أن تحترق؛ إن ريشة زهير قد بلغت الغاية في تلوين هذه اللوحة التي تمثل فورة الصراع بين بائعة جسد وبين راهب الفكر!. . . أما (كافر) فتنقلك إلى ذلك الجو الفكري السابح في أعماق الوجود وحقيقة الحياة؛ هل تذكر قصيدة (الطلاسم) لإيليا أبي ماضي؟ إن جناحي زهير ميرزا يضربان في هذا الأفق ضربات عميقة تهز الخيال المحلق فيما المجهول!

إنني لا أريد أن أقدم للفراء بعض النماذج من هذه المجموعة الشعرية حتى لا يغنيهم القليل عن الكثير، إنني أود أن يرجعوا إلى المجموعة كلها ليقضوا مع الشاعر لحظات جميلة وممتعة كتلك التي قضيتها معه. . . أما أنت يا صديقي زهير فيسعدني أن نكون صديقين،

ص: 37

يلتقيان على الكفر بالمفاهيم للأيمان بها، وليس أحب من هدم يقوم على أنقاضه بناء!!

جوهر النفوس عندنا وعندهم:

نشرت (المصور) في الأسبوع الماضي صورة لصبي أمريكي يجلس بين أكوام من الأوراق المالية، ثم أشارت إليه بهذه الكلمات:(إنه (بوبا) الفتى المقعد الذي ضاق ذرعاً ذات مساء بوحدته والحياة، فقصد دار الإذاعة في ولاية تكساس بأمريكا، حيث ناشد المستمعين أن يمدوه ببعض (الدراهم) التي تعينه على الحياة. . . وما كادت تنقضي بضعة أيام حتى دعي إلى مقر البريد حيث سلمه مديرها الرسائل التي وردت إليه من أنحاء الولاية استجابة لدعوته. وقد وجد الفتى نفسه غارقاً في أكوام من الرسائل تحمل بداخلها ثروة تقدر بعشرين ألف دولار، هبطت إليه من السماء)!

هل تستطيع أن تقف معي لحظات لنزن هذا الخبر الذي يحمل إلينا قليلا من الألفاظ وكثيراً من المعاني؟!. ترى لو كان هذا الصبي المقعد في مصر، وذهب إلى الإذاعة ليذيع نداء الحاجة على ذوي القلوب الرحيمة، ترى ماذا كان يحدث؟ الشيء الذي أتصوره ولا يمكن أن أتصور شيئاً سواه، هو أن يهاجم ذوو القلوب الرحيمة دار الإذاعة هجوماً لا (رحمة) فيه، لأنها سخرت الجهد وأضاعت الوقت في خدمة المقعدين والمتسولين!. . والشيء الذي أتوقعه ولا يمكن أن أتوقع شيئاً سواه، هو أن تضج الصحف بالشكوى من تفاهة هذا (البرنامج) الذي تفتقت عنه أذهان المشرفين على الإذاعة، أولئك الذين لا هم لهم إلا إزعاج المستمعين!

ألا ما أبعد الفارق بيننا وبينهم. . . هناك قلوب من ذهب وهنا قلوب من قصدير!!

أنور المعداوي

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

العربية تزحف على يد وزير المعارف:

كتب معالي الأستاذ علي أيوب بك وزير المعارف، صفحة جديدة في تاريخ الكرامة المصرية، إذ أعز اللغة القومية ورفع لواءها على مكاتب السفراء ورجال السلك السياسي الأجنبي في الأسبوع الماضي، حينما أمر بكتابة الدعوات التي أرسلت إليهم لحضور حفل المرشدات باللغة العربية، على خلاف ما جرت عليه الوزارة من كتابتها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.

وهي دفعة من الدفعات التاريخية التي قام بها رجال من رجالنا في العصر الحديث لنصرة اللغة العربية والتمسك بها ورفع شأنها باعتبارها لغتنا وأن لا شخصية لنا إلا بسيادتها.

ولا شك أن من حقنا أن نكتب بلغتنا لمن نشاء، ولكن كنا نتسامح ونفرط في هذا الحق ولم يحدث أن تمسكنا به واستطاع أحد أن يصدنا عنه، بل العكس كنا نتطوع بتمكين الأجانب من إهمال لغتنا لأننا نهملها معهم. وهذا هو السفير البريطاني يرد على دعوة وزير المعارف باللغة العربية أيضاً، آسفاً لعدم إمكانه تلبية الدعوة لتغيبه بالإسكندرية يوم الحفل. فأين كنا من زمان؟!

إن اللغة تقوى بقوة أصحابها وتضعف بضعفهم، وليس هناك لغة حية ولغة ميتة، فالأحياء والأموات هم الناس.

مدرسة حديثة في فن القصة:

لا تقر فضل الخير على الشر، ولا تعترف بفارق بين الفضيلة والرذيلة، ولا تميز الحق من الباطل؛ أية نزعة من نزعات الإنسان عندها كأية نزعة أخرى، لا تقول للص يا لص، ولا تقول للبطل يا بطل، لأنه لا جريمة ولا بطولة، فلكل عمل دوافعه ومقدماته، وكل ما يأتيه الإنسان أمر طبيعي لا ينبغي الحكم عليه ولا يجوز أن يستنكر.

هي مدرسة حديثة في فن القصة، ظهرت في مصر، وأعلنت صوتها يوم الأحد الماضي في نادي رابطة الأدباء، على لسان الطالب الأديب صلاح حافظ الذي ألقى محاضرة دعا فيها

ص: 39

دعوة هذه المدرسة وأعلن ميلادها في زهو، وتطأ من فبشر بزعيمها الجالس بجوار المنصة يبعد عن سيماه خجل التواضع.

والزعيم أو الكاتب القصصي الأول في هذه المدرسة الحديثة، هو الأديب محمد يسري أحمد، وأعلام المدرسة وأنصارها والمتحمسون لها، يجتمعون في واحد هو محاضرنا الأديب صلاح حافظ، وهما طالبان بالسنة الثالثة بكلية الطب، إنهما يشرحان الإنسان الحي كما يشرح الإنسان الميت في قصر العيني. هل يأبه الطبيب للقذارات أو يأنف من روائح الجثث؟ كذلك كاتب القصة يحلل الإنسان كما هو ويتغلغل في أعماقه ليصورها كما هي، فإن قلت إن غاية الطبيب المشرح الوصول إلى الحقائق العلمية قالت لك المدرسة الحديثة في فن القصة إنها لا غاية لها، فالكاتب يجب أن يبدأ القصة ويسير فيها مع الطبيعة لا يهدف إلى شيء، فإن قلت إن الطبيعة لا تعتسف طريقها فهذا هو الفارق بين الطبيعة وبين المدرسة الحديثة.

يظهر أنني بمذهب هذه المدرسة في عرض الأشياء كما هي وإبراز الإنسان كما هو، فإني أتحدث عنها كما هي، وإتماماً للخطة أضربت في هذا الموضوع عن استعمال علامات التعجب لأنها تدل على الانفعال وقد تشير إلى الحكم. وأستمر في السير على هذه الخطة فأقول:

حدثنا المحاضر صلاح فقال إن المدرسة الحديثة قد اكتسحت كل ما عداها وأحرزت نصراً مؤزراً في مسابقات القصة المختلفة ففاز يسري بقصة في مهرجان الشباب، وبأخرى في مسابقة الإذاعة، وبثالثة في مسابقة الثقافة العامة، وفاز هو، أي صلاح، بقصة في المسابقة الأخيرة.

وليس هذا هو كل إنتاج المدرسة الحديثة، فقد كان ليسري في مهرجان الشباب قصة غير التي فازت، تحدث فيها عن حادثة غرام بين فنان وأخته وحلل العوامل التي جعلت بطل القصة يفتتن بمحاسن أخته ويستمتع بجسدها ثم يقتلها. ولم يعجب ذلك الاتجاه النفساني في فن القصة شيوخ الأدب المحكمين في المسابقة، فرفضوها وقال إن الأستاذ عبد الله حبيب قرأ هذه القصة، إذ كان يعمل في تنظيم المهرجان، حتى وصل إلى نهايتها وهو لا يشعر أن فيها جريمة ترتكب، وإنه دافع عنها أمام لجنة التحكيم (وقد سمعت أنا أيضاً ذلك من

ص: 40

الأستاذ عبد الله).

وأنا مازلت أتحدث على طريقة المدرسة التجريدية، ولكني وصلت إلى نقطة أراني فيها مضطراً إلى الخروج مع المدرسة نفسها عن طريقتها.

شيوخ الأدب جامدون لا يقدرون الاتجاه النفسي الجديد لأنه يخالف اتجاههم، فالشيوخ يتحدثون عن جمال الربيع ولا يهتمون بالإنسان، فإذا عرجوا عليه لزموا السطوح ولم ينزلوا إلى الأعماق، كما يقضي بذلك علم النفس، وكما تفعل ذلك المدرسة الحديثة. وقرأ المحاضر في هذا المعنى رسالة كتبها يسري إلى الأستاذ فريد أبو حديد بك، ومن فقراتها (لا يا سيدي نحن جيل وأنتم جيل).

ثم أرجع إلى الطريقة التجريدية فأقول: هكذا يقضي الشيوخ بفوز قصص المدرسة الحديثة في المباريات، وتعتز المدرسة بذلك، ثم تهاجم الشيوخ الذين حكموا بفوز قصصها. أقول هكذا فقط ولا أذكر الوفاء ولا الاعتراف بالجميل فليس شيء من هذا في معجم المدرسة الحديثة في فن القصة. أما لماذا قضت لجان التحكيم في المباريات بفوز تلك القصص، فقد قال أحد أعضائها وهو الدكتور إبراهيم ناجي، في تعقيبه على المحاضرة: إن القصص التي فازت، إنما فازت لأن بقية القصص المقدمة تافهة ليس فيها شيء من فن القصة بل هي حكايات و (حواديت).

وجرياً على مذهب تلك المدرسة في العطف على الضعف الإنساني وإن جانب الذوق السليم واندفع مع الحيوانية السائمة - لا أريد أن يتجه القلم إلى القسوة على بطليها، غير أننا نختلف في أن لرفقي بهما غاية.

إنكما يا ابنيَّ تتعجلان. وإني وإن كنت لم أقرأ لكما يبدو لي من الملابسات والقرائن أنكما من ذوي الاستعداد ويمكن أن يجيء منكما، ويدل ما يقول الأستاذ عبد الله حبيب عن قصة عاشق أخته على براعة يسري في السياق والحبكة، ولكن ما أشبه حال الأستاذ وهو يقرأ القصة غير شاعر بأن فيها جريمة ترتكب، بمن (نشلت) حافظة نقوده وهو لا يدري.

إن مناقضتكما للأخلاق الكريمة بهذه الدعوة مناقضة ظاهرة، وأنتما لا تنكران ذلك، وإنما تتمسكان بأهداب الفن وأنا لا أدري كيف يتسق الفن مع مخالفة الذوق السليم وإغفال المثل الإنسانية والانسياق مع الحيوانية البحتة. وما هو الفن الذي يتجرد من العاطفة؟ إن تحليل

ص: 41

الأشخاص وإظهارهم دون انفعال وحكم، عن طريق التصوير الفني، على ما يأتون وما يدعون لا ينتج إلا شيئاً قد يسمى (علم نفس تطبيقياً) أما الفن فلا بد فيه من عاطفة الفنان، فإن تجرد منها فليس فناً. والعاطفة في العمل الفني إما أن تهدف إلى الخير وتتجه نحو الجمال الذي يهفو إليه الذوق السليم، أو تنزل إلى الشر وتتدلى إلى القبح.

أريد أن أفرض في شأن هذين الشابين أحسن الفروض، وهو أنهما يتكلفان الشذوذ على طريقة (خالف تعرف) ولا بأس بأن حققت لهما شيئاً من ذلك، وغاية ما أرجو أن يكون الثمن هدايتهما إلى سواء الأدب القويم.

رسالة من غراب:

تلقيت رسالة كريمة رقيقة من الأستاذ أمين يوسف غراب، على أثر ما ظهر في (كشكول الأسبوع) خاصاً بخطأ لغوي في قصة له بمجلة الأديب، قال الأستاذ في رسالته (أما الخطأ الذي تفضلتم بالإشارة إليه فأنا أعترف به، ولا أريد أن أحمل المطبعة وزره، أو أحيله على غيري كالذي نقل عني هذه القصة مثلا. ولكني لا أعترف بأنه كان يستحق عنايتكم إلى هذا الحد، أو يستهل إشارتكم الكريمة، إن هناك على ما أعتقد من جديات الأمور ما هو أجدر بعنايتكم وأحق بتوجيهاتكم. كنت أفهم مثلا أنكم تتحدثون عن القصة في مجموعها كوحدة فنية. . . الخ)

وأقول إني لم أعرض لنقد القصة حتى أستوعب نواحيها المختلفة، ولم يصرفني هذا الخطأ عن جديات الأمور. إنما هي نظرة من زاوية، صيغت في سطور من (الكشكول) وليس من دأبي تتبع الأخطاء اللغوية، ولا آتي بشيء من ذلك إلا لملابسات أخرى غير مجرد الخطأ، والذي لابس إشارتي إلى قصة الأستاذ غراب هو ما ألاحظه من استهانة بعض الكتاب ذوي المواهب الفنية بسلامة الأسلوب وصحة اللغة.

وقد لمحت فيما قرأت للأستاذ سمات الإجادة الفنية، وقد بدا لي من رسالته أن ما ندَّ من قلمه ليس عن استهانة، وأنا لا أعتبره ممن قلت إنهم ركبوا ظهور الصحف والمجلات في غفلة الزمان، أحسن عملا وأكثر نفعا من أولئك الذين ركبت الصحف والمجلات ظهورهم؟) ولو سألني أي الفريقين أسوأ أثراً وأكثر ضرراً لكان من المحتمل أن أجيب. . .

الخطب المؤذية:

ص: 42

كنت بالأمس في أحد نوادي العاصمة، مع الحاضرين لسماع محاضرة تلقى به، وقام سكرتير النادي ليقدم المحاضر، وأنل للآن لا أعرف اسم هذا السكرتير، أما المحاضر فهو شخصية معروفة، فبالله أيهما أولى بالتعريف. . .؟ وهي عادة متفشية في أنديتنا وجمعياتنا، ينتهز السكرتير أو الوكيل أو الرئيس وقد يكون المراقب أو أمين الصندوق،. . . ينتهز أحد هؤلاء فرصة اجتماع الناس لسماع محاضرة لأحد الإعلام، فيحتل المنصة نحو نصف ساعة بحجة التقديم للمحاضرة وما هو إلا يريد توكيد شخصيته. أعجبني مرة أن رأيت الدكتور طه حسين بك يبرز إلى الجمهور وحده على المنصة بقاعة المحاضرات بالليسية الفرنسية، فلم يقدمه أحد، وما هو بحاجة إلى تقديم.

ذكرني موقف ذلك السكرتير بما قد نشر في إحدى الصحف من المتبع في بعض ولايات أفريقية الجنوبية لحماية الناس من الخطب الطويلة المملة، إذ يوجبون على الخطيب أن يقف على قدم واحدة، فإذا تعب ومست الأرض قدمه الثانية يجب أن يمسك عن الخطابة وإلا منعه السامعون من الاسترسال بقوة! ولو أن في تلك الولايات من يقدم الخطباء كمن هم لدينا في مصر، لقضوا عليهم أن يقفوا على إصبع واحدة من قدم. . .

وكم كان ظريفا ذلك الأعرابي الذي حضر حفل زواج قام فيه خطيب فحمدل وهلل وكبر وأطال في ذلك حتى أمل، فقال له الأعرابي: أيها الخطيب لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء.

عباس خضر

ص: 43

‌البريد الأدبي

كلمة أخيرة في نيتشة وفاجنر:

حين قارب نيتشة الثلاثين كان كما قال في كتابيه زرادشت - وما وراء الخير والشر - قد مر بالمراحل التي مرت بها الإنسانية في تفكيرها، إذ كان قد عب بشراهة ونهم شديدين من الفنون والفلسفات قديمها وحديثها. وكان الفيلسوف في السن التي اتصل فيها بفاجنر أستاذاً في أرقى الجامعات الأوربية؛ فهو في صلته بالفنان رجل له مكانته الفكرية ومركزه الاجتماعي، لا شاب ناشئ كما يريد أن يصوره الأستاذ المعداوي منساقاً مع قول رومان رولان المتعصب لبيتهوفن كل التعصب حيث مجده في كتاب سماه بيتهوفن الخالق - وإن محاضرات الفيلسوف (الناشئ) ودراساته في تلك السن لا زالت أهم المراجع فيما عالجته من موضوعات - وقد كانت الفلسفة الإغريقية وعلى الأخص أفلاطون أهم الينابيع التي استقى منها نيتشة، إذ يصور نفسه في إحدى رسائله3 إلى فاجنر في ذلك الحين جالساً بين عدد من كتب هذا الفيلسوف يكاد يحجبه عن الرائي - ولا أظنه بهذا يتملق الفنان أو يدّعي - أما في الفلسفة الحديثة قد تتلمذ على شوبنهاور حتى رفعه إلى الدرجة العليا التي رفع إليها فاجنر في عالم الفن. (انظر كتابيه - شوبنهاور المعلم - والفاجنرية الكاملة) وكان قد أستوعب أيضاً فلسفة ماركس وله عنها تنبؤات صدقت بشكل يدعو إلى الدهشة - إذ أن نيتشة هو الذي تنبأ في كتابه ما وراء الخير والشر لفلسفة ماركس بالذيوع، وعين بالذات الدولة التي ستحمل مشعلها وهي روسيا في وقت كان لا يتصور هذا أحد؛ لأن روسيا كانت ترزح تحت حكم القياصرة الحديدي - وقد صح ما تنبأ به نيتشة فاحتضنت روسيا الماركسية الألمانية وحملت مشعلها - وقد كان هذا العصر الذي ضم فاجنر وشوبنهاور ونيتشة يموج بأحداث جسام. فقد حدث أن اهتزت أوربا كلها لموجة فكرية عنيفة كان لها ما للقنبلة الذرية في عصرنا من وقع، بل ربما أكثر، فهذه جاءت في عصر ألف فيه الناس العجائب وكانت القنبلة منتظرة منذ سنوات.

أما ذلك الحدث الخطير فقد كان مفاجأة عنيفة. . . وذلك هو نظرية التطور لداروين 1859 التي زلزلت الأفكار في أوروبا بل العالم طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولما أوشك نيتشة أن يكمل الحلقة الرابعة من عمره كانت نفسه تجيش أعظم جيشان عرفته نفس

ص: 44

مفكر. . . إن نفسه التي امتلأت بفلسفة الإرادة عند شوبتها وعالم المُثل عند أفلاطون وألهبتها روائع موسيقى فاجنر أخذت تنتفض انتفاضاً شديداً. . . إنها تتمحض عن مولد فجر جديد قد يغير مجرى التفكير الإنساني كله! وظل فكره في هذا الميلاد قرابة عقده الخامس. لقد بدأ داروين حبل الخليقة من الخلية إلى الإنسان فجاء نيتشة (حين أحس بأنه امتلأ كالنحلة التي ملّت حمل عسلها) وتهيأ للرسالة، فمد يده وتناول الحبل من داروين ليعبر به قنطرة الإنسان الحالي إلى السوبرمان. . . ومن هو السوبرمان؟! إنه الهدف الذي تسعى إليه البشرية في تطورها. . . (وكما صار الفرد بالنسبة إلى الإنسان فسيصير الإنسان بالنسبة إلى سوبرمان. . .)!

وهكذا خرج زرادشت نبي نيتشة بإنجيل دينه الجديد. دين السوبرمان الذي لا بد أن تصل إليه البشرية (في زعمه) محطمة في طريقها كل شيء يعوق هذا المسير فوجب إذن أن نتسلح بالقوة والعنف - وهكذا تطورت فلسفة الإرادة عند شوبنهاور إلى إرادة القوة عند نيتشة وسقط شوبنهاور المتشائم أمام سوبرمان نيتشة المتفائل وتحطم إ له المسيحية الشفوق الحنون بما فيه من مشابه من أفلاطون (ليست المسيحية إلا الفلسفة الأفلاطونية ختمت بخاتم إلهي) 4 لأن الشفقة والحنان أخطر العوائق في طريق السوبرمان. . . وأصبحت موسيقى فاجنر التي كانت تحلق بنيتشة في سماء الفكر لا تستطيع اللحاق به في آفاق السوبرمان.

وهكذا هوت الآلهة من سمائها في نظر نيتشة تلك الآلهة التي طالما قرب إليها قرابين العبادة وتسابيح العبودية. . ومن أفلاطون الآن؟ ومن شوبنهاور؟ ومن فاجنر؟ بل من هو الشعب الألماني كله الذي رماه نيتشة بأقسى النعوت؟ كل هذا لا شيء ما دام لا يؤمن بالسوبرمان. . . وهل للقرود (الإنسان الحالي) قيمة في نظر السوبرمان؟ هذه قصة تحطيم نيتشة لآلهته الأولى. . . قد يكون هناك بعض الأسباب التي عجلت بعضها قبل الآخر كزوجة فاجنر مثلا إن كان حقاَ لها كل هذا الأثر، ولكن التحطيم كان آتياً لا محالة. فهذا هو حكم التطور في عقلية الفيلسوف الذي بينا خطوطه البارزة بقدر ما تطيقه عجالة في مقالة. . .

ويؤسفني بعد هذا أن أناقش الأستاذ المعداوي في التوافه التي وقف عندها كل الوقوف

ص: 45

وركز فيها هجومه. . . ليس لكلمة في الإنكليزية كلها إلا هذه المعاني:

' '

ولادة - خلق - سفر التكوين - لا الإخراج - (أي خلق العالم) فكيف يصدق أي عقل ترجمتها بلفظ إخراج؟! أما الجملة الأخرى فمنصبة على خلق الكتاب (مولد التراجيديا) أي على القائم بخلقه وكلا الوضعين يؤيد ترجمتي. أما تملق الفيلسوف الشاب للفنان الكبير ليأخذ بيده في طريق المجد، فهذه وصمة لا تليق بالأستاذ المعداوي، فكيف تليق بنيتشة العظيم؟!

تقول (إن العبقري يولد وبذور العبقرية في دمه؟ كيف تعتقد أني لا أقرر هذا؟ لكن هذه البذور ألا تحتاج إلى هواء وإلى شمس وتربة تمد فيها جذورها؟! إنها بغير هذا تظل بلا شك بذرة عبقرية لا عبقرية. . والشمس والماء والهواء لا تحيل البذرة يا سيد (سروحي) إلى شمس أو إلى ماء أو إلى هواء، وإنما هي عوامل مساعدة على التفتيق والإنبات وهكذا كل تأثير في العبقرية يا صديقي. ونقول:(ما كان لهذا المفكر الجبار أن يتأثر أو يستمد وجوده الفلسفي من أي إنسان مهما تكن مكانته في الحياة الفنية). إن هذه الحياة الفنية هنا شأنها شأن أي حياة. ليس العبرة بنوع التأثير بل بوقوعه على أي وجه. ثم أنك تقول إن زارا قال لرفاقه وأنصاره ماذا يهم زارا من جميع المؤمنين به؛ إذ عليكم أن تجحدوني لتجدوا أنفسكم. . . والصواب أن تقول هذا للأستاذ المعداوي الذي ينكر أي إيمان سابق لنيتشة بفاجنر ما دام قد جحده أخيراً، ويرى ذلك كان تملقاً متحدياً كل حقيقة! مع أن نيتشة ظل يمجده فاجنر حتى أواخر عقده الرابع.

أما سؤلك عن تأثير بتهوفن في جوته يا أستاذ معداوي فهو مثل معكوس لأن جوته الفيلسوف كان يكبر بتهوفن بمراحل، بينما نيتشة كان مع فاجنر فتي ناشئاً يخطو أولى خطواته كما تقول. ومع هذا لا نستطيع أن نحكم بعدم تأثير موسيقى بتهوفن في تفتيق عبقرية جوتة عن بعض المعاني. ونيتشة بالذات ذو سليقة موسيقية لأنه شاعر لا ناقد - يا أستاذ معداوي - إذ هو القائل:(إن كتابي زرادشت أنغام موسيقية صدحت في داخلي فأصغيتُ إليها وسجلتها)!

أما استشهادك بالناسخ والمنسوخ في القرآن فإننا نقول بوقوع التأثير في عبقرية نيتشة

ص: 46

والتأثير وقع أيضاً في فترة ما بفضل الآيات المنسوخة قبل نسخها، فمثلا في آيات الخمر قد شرب الخمر بعض الصحابة فعلا بمقتضى إباحة الآيات المنسوخة قبل وقوع النسخ وهذا ما يؤيد لقولنا أيضاً. . . أما كلمة خلق العبقرية التي ذكرتها فلا محل لها مطلقاً في المناقشة؛ وشتان بين الخلق والتفتيق! يا أيها الأستاذ الناقد!

أما ما جاء في مقالك من لغو فنمر عليه كراماً. . .

محمد فهمي

في تفسير الإمام محمد عبدة:

جاء في تفسير جزء (عم) للأستاذ الإمام رحمه الله عند تفسير أول سورة (الليل) ما يأتي:

(والليل إذا يغشى) يبتدئ في هذه السورة بأن يقسم بالليل وهو الظلمة لأنها الأنسب بما به السورة السابقة من الدمدمة وإطباق العذاب. . .

والإمام يعني بالسورة السابقة سورة (الشمس) التي آخرها (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، ولا يخاف عقباها) والمعلوم أن سورة الشمس سابقة لسورة الليل في الترتيب لا في النزول إذ أن سورة الليل نزلت بعد سورة الأعلى - وبذلك يكون لا محل هنا لذكر المناسبة التي ذكرها الإمام.

أما المناسبة؛ فلما كان المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة اشتملت صيغة القسم على أشياء مختلفة لتركيز المعنى المقصود في عقول المخاطبين. . . فقد أقسم بالليل والنهار في قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) وهما مختلفان - كما أقسم بخالق الذكر والأنثى في قوله: (وما خلق الذكر والأنثى) وهما مختلفان أيضاً، كأنه يريد أن يقول لهم: إن اختلاف سعيكم في الحياة مؤكد تأكيد اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى ذلك الاختلاف الذي لا يتطرق إليه أدنى ريب ولا تستطيعون إنكاره.

محمد عبد الله السحاق

مدرس بمدارس الإسلام الكبرى الابتدائية بالجيزة

أبن دفن الاسكندر:

ص: 47

ورد في مقالة الأديب كاظم المظفر عن (إيوان كسرى) أن الاسكندر المقدوني توفي في المدائن وحمل تابوته إلى الإسكندرية لأن أمه كانت تقيم فيها. والتاريخ يقول غير ذلك إذ يقول إن الإسكندر توفي في مدينة بابل وتابوته لا يعرف له مقر حتى الآن وأمه عند وفاة ابنها الإسكندر تقيم في بيللا مسقط رأس الإسكندر.

عزيز خانكي

جمع غيور:

جمع غيور على غيورين صحيح على مذهب الكوفيين لأنهم لا يشترطون في الصفة التي تجمع جمع تذكير ألا يشترك فيها المذكر والمؤنث سواء كانت على وزن فعول أم لا بخلاف البصريين وقس عليه نظائره ولا يخفي أن هذا الجمع المألوف المشهور، أخف وألطف من جمع التكسير (غُير) الغريب المهجور.

علي حسن هلالي

بالمجمع اللغوي

سويا بمعنى معا:

اطلعت على ما كتبه الأستاذ كامل محمود حبيب تحت عنوان (فتى الريف) في عدد الرسالة 820 فأعجبني الأسلوب القوي والتركيب المتين والبلاغة المتدفقة في كلامه ولكن رأيت في ثنايا تعبيره جذبت نظري.

ففي ص 233 يقول على لسان هذا الفتى (وهؤلاء رفقائي نغدو معاً إلى الأزهر ونروح سوياً إلى الدار. . .

واستعمال سوياً في هذا الموضع بمعنى معاً خطأ شائع على الألسنة لأن لفظ سوي بمعنى مستو.

قال في اللسان ورجل سوي والأنثى سوية أي مستو فأرجو التنبيه على فساد هذا الاستعمال في مجلتكم الزاهرة التي تدعو دائماً إلى رفع الثقافة العربية والأساليب البارعة في مختلف الأقطار العربية.

ص: 48

عبد العليم علي محمود

قلم صنع لا صناع:

ورد في المصباح المنير في مادة صنع ما يلي (ورجل صنع (بفتحتين) وصنع اليدين أيضاً أي حاذق دفيق. وامرأة صناع (وزان كلام). . . الخ).

وعليه نقول: قلم صنع؛ لا صناع كما جاء في عرض الأستاذ العجمي لكتاب (وميض الأدب بين غيوم السياسة) في عدد الرسالة (820) إذ قال: وبهذا القلم الصناع تناول. . . الخ).

هدى الله الأقلام، فصيح الكلام.

إسماعيل أبو ضيف

(المنصورة)

تاريخ الأزهر:

(لفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ أبو العيون)

الجانب الذاتي في تناول التاريخ هو الذي يعطر جوه؛ ويشيع الدفء في أنفاسه؛ ويبعث الحياة والنشاط والتأثير في جسمه. وهنا يغدو الجانب الموضوعي وهو الهيكل العظمي مكسوا باللحم والدم. وعمل كاتب التاريخ هو تقديم صورة واضحة لما يعالجه. وهذا ما يحسه القارئ لهذا العمل الذي قام به فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون في التأريخ للأزهر وإلقاء الضوء على تلك البيئة الفاطمية التي ولد بين أحضانها الأزهر. فشهدنا ميلاده ووقفنا على الآمال التي كانت معقودة على هذا الوليد، ثم تطوره حتى صار جامعة إسلامية كبرى. ثم يعطينا فكرة عن مواد الدراسة فيه، ويقدم لنا شيوخه الذين تولوا قيادته، ويقف بنا غير طويل ليعرفنا بأشهر رجاله، ويمرج بنا على نظام الدراسة قبل النظام وبعده؛ ثم بين تلك الأطوار التي مرت عليه حتى استقر به المقام في هذه المرحلة الأخيرة وما يطبعه من سمات فكرية وروحية. وهذا عمل قيم جاء في وقته؛ فتاريخ الأزهر الحافل لم تكن صورته واضحة محددة إلا في أذهان القلة القليلة من المثقفين؛ وما عداهم فهي مهمة

ص: 49

مطموسة وجراحة.

وقد غدت بفضل هذه الدراسة واضحة للعيون مستقرة في الأذهان. ولعل هذه الدراسة الموجزة تكون فاتحة لدراسات مستفيضة دقيقة تتناول كل ناحية من نواحيه. وبعد فلا أظن أن أستاذنا في حاجة إلى تقديم آثاره في نواحي الجهاد السياسي والأدبي والديني لا تزال رائعة خصبة.

محمد عبد الحليم أبو زيد

ص: 50

‌قصص الأطفال الحسابية المصورة:

(تأليف الأستاذ حسن محمد السكري)

هذه سلسلة جديدة من (كتيبات) صغيرة الحجم عظيمة النفع كبيرة الفائدة توفر على تأليفها حسن محمد السكري المدرس بمعاهد المعلمين، وأفرغ فيها الجهد المشكور فجاءت متمشية مع أحدث طرق التربية الحديثة لتعليم مادة الحساب.

ومادة الحساب - لا شك - من المواد الجامدة التي لا يقبل عليها صغار التلاميذ وبخاصة في المراحل الأولى من التعليم، وذلك لخلوها من أدوات التشويق والترغيب وجلب انتباه الصغار.

والأستاذ مؤلف الكتاب وفق كل التوفيق حين جعل مسائله الحسابية قصصا مصورة ملونة مشوقة تدفع الأطفال وترغبهم في قراءتها كموضوع من موضوعات المطالعة، وكمسألة من مسائل الحساب في آن، وفي ذلك يقول في تقديم كتابه (حملتي على وضعها ما ألمسه من شغف الأطفال بمطالعة القصص، وما أراه من خير محقق في الاستفادة بهذا في تدريبهم أثناء المطالعة على بعض العمليات الحسابية حتى تزدوج الفائدتان العربية الحسابية). . .

وبعد: فإننا نزجي أفضل الشكر للأستاذ الملف الذي أخذ على عاتقه القيام بهذا العمل الجليل في خدمة النشيء، ونرجو أن ينتفع الأبناء بالإقبال على مثل هذه المؤلفات التي تتوخى الفائدة، وتستهدف أسمى الأغراض، وأنبل الغايات.

(الزيتون)

عدنان أسعد

ص: 51

‌القصص

قصة من روائع موباسان:

الغريب. . .!

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

أخذنا بأطراف الحديث والعربة تغادر بنا مدينة (كان) زاخرة براكبيها، ولم نكد نتجاوز (بارسكن) حتى صاح أحدنا:

- ها هو ذا المكان الذي كانت تذبح فيه الناس!

فإذا بنا نخوض في أخبار الخرافات، ونتناول سيرة أولئك القتلة الذين كانوا - فيما مضى - يسلبون الناس أرواحهم ويغتصبون أموالهم. فراح كل منا يدلي بما يساوره من قصص، ويطرح ما يراوده من خواطر. . . وطفقت النساء يحملقن مروعات في ذلك الظلام الحالك من خلا النوافذ. . . يتوجسن خيفة أن تقع أبصارهن على رأس آدمي لدى الباب!

وتأهب أحد الأطباء - وكان يشد رحاله إلى الجنوب كل عام إذا ما بدت تباشير الشتاء - ليلقي في أسماعنا واحدة من تلك القصص التي يكتنفها الغموض والغرابة:

(لم يسعدني الحظ يوما لكي أبلو شجاعتي وأهجم جسارتي في أمر من هذا القبيل، إنما كنت على معرفة بسيدة قد طواها الموت وكانت ممن أعالجهن. . . حدث لها أمر من أغرب الأمور وأشدها حزنا في هذا الوجود. .

(كانت روسية تدعى (الكونتس ماريا بارنوا). . . وهي امرأة عظيمة ذات حسن ساحر وفتنة باهرة. . . وأنتم تدركون كم هن جميلات أولئك الروسيات بأنوفهن الرقيقة، وثغورهن الرشوفة، وعيونهن النجل، وقدودهن الفضة. وما يبدين من الصلابة الأباء مع فيض من العذوبة والإغراء. . . فيهن كل ما يخلب لب الرجل الفرنسي ويثير افتتانه!

(وكانت (الكونتس) فريدة بينهن، وقد فطن طبيبها منذ سنوات إلى الداء وهو ينهش في صدرها، فأخلص لها النصح في أن تسعى إلى جنوب فرنسا. . . بيد أنها أبت أن تبارح (سان بطرسبرج)، فانثنى الطبيب - في الخريف الماضي - فانذر زوجها بسوء المصير، فألح هذا على امرأته أن ترحل إلى (منتون) في فرنسا.

ص: 52

(فاستقلت القطار - منطوية على نفسها في عربتها - أما حاشيتها فقد أقامت في ناحية أخرى من القطار.

وران عليها الحزن واحتواها الشجن، وهي جالسة على كثب من الباب تلقي بطرفها إلى الحقول والقرى وهي تمر بها في إثر بعضها، وقد استشعرت ألم الوحدة، وأحست لذع الوحشة في حياتها وهي عاطلة من أطفال يملؤونها بهجة وبشرا، وخالية من ذي رحم يحيلها مرحاً وأنساً. . . غير زوج ماتت في قلبه عواطف الحب، ونضبت منه عيون الحنان. . فلم يتورع أن يقذف بها في ركن قصي من العالم دون أن يصحبها كما ينبذون الخادم المريض في معزل عن الخلق!

وكن تابعها (إيفان) ينزع إليها في كل محطة لينظر إن كانت سيدته تروم أي شئ فيؤديه لها، وكان رجلاً كهلاً شديد الإخلاص، مغلق القلب على الطاعة، سريعاً إلى إنجاز كل أمر تلقي به إليه. . .

وفجأة عن لها أن تحسب ما قدم لها زوجها - في اللحظة الأخيرة - من النقود الذهبية الفرنسية، ففتحت حقيبتها الصغيرة، وأفرغت في حجرها ذلك الفيض الأصفر الرنان!

وعلى حين غرة أصابت وجهها نسمة قارصة من الهواء، فرفعت رأسها - وقد تولتها الدهشة - تستجلي الأمر، فإذا بالباب قد فتح، فلم تملك الكونتس المضطربة سوى أن تطرح غلالتها السمراء على ما في حجرها، ثم قبعت مترقبة!

فلم تمض لحظات، حتى دلف من الباب رجل عاري الرأس، جريح اليد، لاهث الأنفاس، وأغلقه من خلفه، واستقر في مقعد يلقي إلى جارته بنظرات حادة، ثم لم يلبث أن لف منديلاً حول رسغه المخضب بالدماء!

فأحست السيدة لفرط خوفها أنها تكاد تغيب عن وعيها، فلا مجال للريب في أن هذا الرجل قد لمحها وهي تحسب نقودها، فخف إلى سلبها. . . ثم. . . ثم يزهق روحها! إنه ما برح يحدجها بنظراته الثاقبة. . . مضطرب الأنفاس، مقطب السمات، يتربص بها الفرص حتى يثب عليها!

قال بغتة: سيدتي. . . لا تخافي ولا تجزعي!

فلم تنبس ببنت شفة، وقد تحجر لسانها، وطنت أذناها، وازداد قلبها خفقاً!

ص: 53

واستطرد فيما يقول: ما أنا بشرير. . . أيتها السيدة!

فأمسكت على صمتها، ولكن حركت ساقها فجأة - وهي لا تدري - فأخذ الذهب يتدفق إلى الأرض كما يتدفق الماء من الصنبور. . . فمكث هذا الرجل يحملق حيناً وقد أخذته الدهشة في ذلك السيل الذهبي، ثم لم يلبث أن انحنى يلتقطها ويجمعها!

فهمت مروعة، وألقت بكل ما معها على البساط، وهمت أن تجري تروم النجدة وتتوخى النجاة!

ولكن الرجل - قد أدرك ما هي مقدمة عليه - قفز إليها وأطبق على ذراعها، ثم دفعها في غلظة إلى حيث كانت تجلس وهو ممسك برسغها. . . وراح يقول في صوت مرتعد النبرات: اصغي إلي يا سيدتي. . . لست بشرير، ولا معتد أثيم. . . والبرهان على صدق ما أقول أني سأجمع هذا الذهب وأرده عليك لا ينقص دانق، ولكنك إذا لم تكوني لي عوناً وملاذاً حتى أعبر الحدود، فما أنا إلا رجل يساق إلى موته، ولن أبوح لك بغير ذلك!

ففي خلال ساعة سيمرق بنا القطار من الحدود الروسية، وحياتي معلقة حينئذ بين يديك رهن بمشيئتك. . . ولا يذهب بك الخيال، وتتوزعك الوساوس، إلى أني سفكت دماً، أو سلبت مالا، أو جئت أمراً يخالف الشرف ويدنس الضمير. . . أقسم لك أني لم أجانف إثما ولم أقارف ذنباً. . . ولكن لن أبوح لك بالمزيد!

ثم ركع ثانية، وراح يجمع الذهب، حيث انتثر تحت المقاعد وفي ثنايا البساط، حتى إذا امتلأت الحقيبة به مرة أخرى، ناولها لجارته في هدوء دون أن تنفرج شفتاه عن كلمة يرددها. . . ثم انثنى إلى الركن الآخر من العربة فجلس فيه لا يحرك ساكناً! ومكثت هي جانحة إلى الصمت وقد لفها السكون. . . وما برحت الغشية تراودها من أثر الخوف والرعب، وإن أفرخ روعها وبدأت نفسها تنزع عن الاضطراب ويطمئن قلبها رويداً رويداً!

أما هو، فقد جلس لا يريم، ولا يختلج له طرف، وهو يحدق أمامه، شاحب الوجه، تعلوه صفرة كأنها صفرة الموت. . . وأخذت هي ترسل إليه - بين الفينة والفينة - نظرات عاجلة تختلسها اختلاساً، وسرعان ما ترتد عنه. . . بدا الرجل وضيء الوجه منبسط السمات، عليه سيماء السيادة والنبل، وقد تجاوز عقده الثالث!

ص: 54

وكان القطار ينساب في سرعة مخيفة خلال الظلمات الطامية، ويرسل بين آونة وأخرى صفيره الحاد يمزق هدأة الليل بحدته! ولكن ما لبث أن خفف من سيره. . . ثم سكنت حركته بعد أن زفر بعض الصفيرات. . . فلما برز (إيفان) من الباب، ألقت (الكونتس ماريا) نظرة عجلى على رفيقها، ثم قالت لخادمها في صوت خافت ونبرة سريعة:(إيفان سوف تعود إلى الكونت، فما بي حاجة إليك!)

فحملق فيها الرجل بعينين واسعتين يتراقص فيهما الاضطراب وقد تجلت على وجهه الحيرة، وأرتج على لسانه القول:(ولكن يا سيدتي!) فأجابته:

- (كلا. . . لا تصحبني. . . فقد غيرت من فكري ورجعت عن رأيي. . . ومن الخير أن تبقى في روسيا. . . إليك بعض النقود لتعود بها، وناولني قبعتك وعباءتك!)

فخلع الخادم في جزع ودهش قبعته وعباءته دون أن ينبس بسؤال يستجلي به الأمر، فقد عودته التجارب وعلمته الأيام أن يطيع أهواء سادته ويجيب نزواتهم ولو كانت غريبة مباغتة، ثم أرتد على أعقابه مغرورق العنين بالدموع!

ولم يلبث القطار أن أندفع يطوي الأرض شطر الحدود. فقالت (الكونتس ماريا) لرفيقها: (إن هذه الأشياء لك - أيها السيد - أنت الآن (إيفان) خادمي. . . ولا أروم إزاء ذلك سوى شرط واحد، هو ألا تحدثني بكلمة، ولو كانت تحمل معنى الشكر!). فانحنى الرجل في رقة دون أن ينبس ببنت شفة!

ثم عاد القطار إلى الوقوف ثانية، وصعد إليه نفر من الضباط في أرديتهم الرسمية، فمدت لهم الكونتس يداً بأوراقها قائلة - وهي تومئ إلى الرجل في مؤخر العربة -:

(ها هو ذا خادمي إيفان وأوراقه هنا!)

انطلق القطار في سيره من جديد، وقد جلس كلاهما غير بعيد من الآخر، والليل يضمهما، والصمت يحتويهما، حتى إذا انسلخ نور الصبح من دياجير الليل، وقف بهما القطار في محطة ألمانية، فنهض الرجل المجهول، وقام إلى الباقائلا في صوت هادئ رقيق:

- معذرة يا سيدتي إن أخلفت ما كان من وعدي، يبدو أني قد حرمتك من خادمك، فلا أقل من أن أحل مكانه، أما تعوزك حاجة؟!

فأجابته في فتور: اذهب وادع وصيفتي!

ص: 55

فمضى ثم طواه الخفاء، ولم يقع عليه طرفها بعد ذلك إلا حينما كانت تتناول غداءها في إحدى المحطات وهو يرمقها من بعيد، ثم أخيراً في (منتون) حيث استقر بها النوى!

- 2 -

وثاب الطبيب إلى صمت هنيهة، ثم وصل ما انقطع من حديثه قال:

(وذات يوم، بينما كنت أتلقى مرضاي في عيادتي، دخل علي شاب فارع القامة وسيم المحيا وسألني في هدوء وسكينة: (أيها الطبيب، لقد أقبلت متقصياً أخبار الكونتس ماريا بارنوا! إني من أصدقاء زوجها، وإن كانت لا تربطني بها معرفة!)

فأجبته: (لقد أفلت الزمام من يدها، ولن تطأ أرض روسيا بعد الآن!)

فإذا بي أرى الرجل يغرق في البكاء، ثم مضى في سبيله يترنح كمن ذهبت بلبه الخمر! وقد أخبرت (الكونتس) في المساء بما كان من شأن ذلك الرجل الغريب، فهزت رأسها وقد لاحت على وجهها سيماء التأثر. . . ثم أخبرتني بتلك القصة التي رددتها على أسماعكم لتوي!

ثم أضافت قائلة: (إن هذا الرجل الذي لا أدري عنه شيئاً. يتبعني الآن كظلي!. ولا أكاد أخرج يوماً حتى ألتقي به. . . فينظر إلي في رقة ونبل. . . بيد أنه لم يحاول أن يخاطبني أبداً!. . .

وران الصمت عليها حيناً، وهي تحاول أن تجمع شتات فكرها. . ثم قالت:(تعال. . . سأراهنك على أنه قائم تحت النافذة في هذه اللحظة!.)

وغادرت كرسيها الطويل، وخطت إلى النافذة. . ثم أزاحت الستار عنها، وجعلتني أرى ذلك الرجل الذي أتاني في الصبيحة. جالساً على مقعد في الروضة أمامنا. . يمد بصره إلى المنزل. . فما إن وقع بصره علينا - ونحن في النافذة - حتى نهض من جلسته، ومضى في الطريق لا يلوي على شيء، حتى غاب عن ناظرينا!. .

وحينئذ فطنت إلى شيء عجيب يبعث الحزن ويثير الإعجاب. لقد أدركت سر ذلك الحب الصامت الذي توثقت عراه وتمكنت وشائجه بين هذين المخلوقين اللذين جهل كل منهما صاحبه كل الجهل!. .

إنه يهيم بها ويعبدها عبادة خالصة، ويود أن يفديها بحياته. فكان يقبل علي في كل صباح

ص: 56

يسألني: (كيف حالها؟!.) وهو على يقين من أني أدرك مدى أحاسيسه ومشاعره. . . ثم ينشج في نحيب وجزع وقد أسدل على وجهه راحتيه. . . كلما أحس بأنها تزداد ضعفاً وتشتد نحولاً. . . وقد ثقلت عليها وطأة العلة.

قالت لي يوماً:

(إني لم أخاطب ذلك الرجل العجيب سوى مرة واحدة. ولكن يبدو الآن كأني أعرفه منذ عشرين سنة. . .) وحينما التقت به ردت على انحناءته الرقيقة؛ بابتسامة أضاءت على ثغرها، وفاضت على صفحة وجهها! وقد أحست - على الرغم خطاها السريعة إلى القبر - أنها سعيدة كل السعادة هانئة كل الهناء بذلك الحب الذي يفيضه عليها هذا الإنسان ويغمرها به في وفاء نبيل وإخلاص شاعري. . . يكاد أن يذهب بنفسه كل مذهب!. ولكنها أبت أن تعرف اسمه ورفضت أن تخاطبه وهي. . تردد:(كلا. . . ثم كلا. . . أن هذا سوف يمحو تلك الصداقة الغريبة بيننا. . . ويفسدها. . ينبغي أن يظل كل منا جاهلاً صاحبه. قريباً إليه بقلبه بعيداً عنه بلسانه!)

أما هو، فقد كبت نفسه وراضها على ألا يدنو من صاحيته. . . وحزم أمره على أن يفي بعهده الذي قطعه على نفسه في العربة وهو ألا يكلمها أبداً. . . وقد كانت هي خلال الساعات الطوال التي يشتد بها الوهن عليها ويضيق صدرها بالحياة. . . تنهض عن مقعدها وتسعى إلى النافذة فتزيح ستارها. . . حتى تنظر إن كان تحت النافذة؟! فإذا اطمأن بصرها إليه وهو جالس على مقعده لا يريم. . . انثنت إلى فراشها، وقد انفرجت شفتاها الذاويتان عن ابتسامة رقيقة!. .

وأشرقت عليها الشمس ذات يوم جسداً بلا روح، وقد طوى الموت صفحة حياتها!. . وبينما كنت أهم بمغادرة البيت. . . أقبل على الرجل شاحب الوجه زائغ العنين، وقد تجلى على محياه أنه علم بوفاتها منذ لحظة. . وابتدرني قائلا في صوت كله رجاء وتوسل:(كم أود أن أراها ولو لحظة في حضرتك!) فأخذته من ذراعه ودلفنا إلى المنزل معاً. فلما بلغنا حيث سجيت السيدة الميتة. ركع إلى جوارها في خشوع، وأمسك بيدها في رفق، وطبع قبلة طويلة حارة تبللها الدموع. . . ثم انقلب على أعقابه. . . وانطلق في سبيله. . . وكأنما تجرد من مشاعره وتعطل من أحاسيسه!. .

ص: 57

وخيم الصمت برهة على الطبيب! ثم عاد الحديث: (إن هذه الحادثة هي أغرب ما مر بي من الحادثات. بل لعلها الوحيدة التي تظهر لكم الناس. . . وما هم عليه من غرابة وجنون!. .) فتمتمت إحدى النساء في نبرة خفيضة: (لم يكن هذين المخلوقان سادرين في جنونهما كما تذهب بك الظنون. . . بل إنهما كانا! إنهما كانا!. .)

بيد أنها لم تمض في عبارتها. . . فقد شرقت بالدموع! ولم يدرك أحد منا ما كانت ترمي إلى قوله. . . إذ حولنا دفة الحديث لنهدئ من روعها وننزل على قلبها السكينة.

مصطفى جميل مرسي

(طنطا)

1 قارن هذا بعمليات اليهود في النقب وخليج العقبة1949 33 * 32

2 جريدة المصري1521949

3 كتاب رسائل الصداقة بين نيتشة وفاجنر.

4 سانت هيلير في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو

? ?

? ?

? ?

? ?

ص: 58