المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 825 - بتاريخ: 25 - 04 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 825

- بتاريخ: 25 - 04 - 1949

ص: -1

‌أمم حائرة

فوضى الآراء والأعمال

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بجدة

يحس الإنسان حيثما توجه في هذا العالم قلقاً واضطراباً وسخطاً، ويسمع أينما حل ضوضاء وصخباً وجدالاً. كأن قلق النفوس واضطرابها، أو هذه الضوضاء النفسية التي تدوي في كل فكر وكل قلب - صدى الضوضاء الحسية المستمرة المسلطة على الخلق في هذا العالم، من سياراته وقطاراته وطائراته ومجاهره ومذياعاته؛ أو كأن هذه الضوضاء الحسيه التي لا يجد الناس منها مفراً ولا عنها حولاً، صدى لتلك الضوضاء النفسية. لا جرم أن هذه الضوضاء متصلة بتلك، فالعالم في ضوضاء نفسية وحسية، وفي صخب ظاهر ومضمر، وعيشة الإنسان بين الضوضاء ين شقاء، وجهاده للخلاص منهما عناء.

كل طائفة لها مذهب، وكل إنسان له رأي، وإلى المذاهب والآراء، مآرب وأهواء، لبس فيها الحق بالباطل، والصدق بالكذب.

وقد طويت المسافات، ورفعت الحجب، فصار الإنسان في بقعة من العالم يقرأ ويسمع ما في أقصى البقاع كأنه يعيش فيها، ويقيم بين أهليها. فاجتمعت على الإنسان ضوضاء العالم كله، ونزاعه، وفتنه.

والمسائل الكبرى التي كانت شغل الفلاسفة والعلماء في العصور السالفة وضعت في هذا العصر، بهذه الوسائل، وسائل النشر والإذاعة، أمام كل قارئ، بل كل أمي، فشارك الجهلة العلماء، واستوت الأئمة والدهماء. كل يسمع أو يقرأ ويفكر ويقول. فما ظنك - مع هذا كله - بما تموج به الجماعات من مذاهب وأراء، وأقوال وأفعال؟

كل طائفة وكل فرد يعلن بما فكر وما قدر، وكل قارئ أو سامع يردد ما قرأ أو سمع، وتدعي كل طائفة وكل فرد أن له الحرية كاملة مطلقة في أن يعلن برأيه، وينشره على الناس بشتى الوسائل، ويدافع عنه بكل الطرائق.

فإن أعوزته الحجة، وخذله البرهان، ولم يجد لمذهبه في العقول قبولا، ولا لرأيه في

ص: 1

الجماعة مساغاً، فلا بأس عليه أن يكذب ويخدع ويفتري ويلبس الحق بالباطل، ويبذل المال إن استطاع، ويستعين بالشهوات إن قدر، ويتوسل بكل ما عرف الناس من وسائل الدعوة أو الدعاوة.

وإن لم تجد الدعوة، ولم ينفع الخداع والتلبيس، والتسميع والتشهير، فلا بأس أن يوجه حريته إلى الإخلال بالنظام، وإشاعة الفوضى، وعمل كل ما يذهب بسكينة الجماعة، ويخل بأمنها، ويقضي على طمأنينتها، ويصرفها عن عملها، ويذيع بينها التعادي والتنافر، والتخاصم والتقاتل، لتجد آراؤه في هذه الضوضاء مجالاً، وفي هذه الفوضى مسلكاً، وفي هذا القلق طريقاً، وفي هذا الحراب مأوى!

وللداعي من هؤلاء أن يستمسك بحقه في الحرية لنشر رأيه، فيقتل من يخالفه، من فرد أو جماعة، ويهدم الأبنية وينسفها نسفاً ليرغم الناس على الإذعان لرأيه. . . وماذا عليه في هذا؟ أليس حراً في أن ينشر مذهبه كما يشاء؟ هو حر، وليس للمخالف حرية مثله في أن يستمسك برأيه ويدفع عنه؛ بل ليس له الحرية في أن يعيش. وإذا أخذ بجريرته نادى بحقه في الدفاع عن نفسه والاستعانة بالمدافعين، وطالب بحريته في أن يقول ما يشاء، قبل أن يقضى عليه.

صارت هذه الحرية البائسة كلمة تقال في الحق والباطل، وينادي بها في الخير والشر، والصلاح والفساد. وأين هؤلاء الأغرار من أخلاق الأحرار؟ لقد اشتبه عليهم الأمر، والتبست عليهم السبل، فهم في أمر مريج.

هذه فوضى المذاهب والآراء، فوضى الحرية في الدعاء إليها والدفاع عنها!

وفوضى أخرى في سنن الجماعة وآدابها، وعمل الفرد وسيرته: فتحت على الناس أبواب من اللذات، وزينت لهم فنون من الشهوات، ونشأت بجانبها ضروب من التجارة وألوان من المكاسب، اتخذت إليها سبلاً شتى؛ وطرقاً مختلفة، لا يبالي سالكوها بما يقترفون إن أصابوا الربح الذي يبتغون!

افتن تجار المآثم في التزيين والترغيب والفتنة، فهفا كثير من الناس إليهم وعلقوا في شراكهم. وللناس شرائع تعصمهم من المآثم، ولهم آداب ومروءات تمسك بهم عنها، وفيهم إباء وحياء؛ ولكنها لذات فاتنة، وشهوات قاهرة، وخدع غالبة، وفتن محيطة. فيرجع

ص: 2

الخادعون والمخدوعون إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها فيقولون: الحرية والجمال والرياضة والفكاهة. . . إلى أسماء أخرى يحتجون بها لما أقبلوا عليه، ويقطعون بها ما يمسك على المعيشة الفاضلة من عقائد وفضائل وآداب ومروءات لتستريح النفوس إلى شهواتها، وتنطلق من قيود الأخلاق والآداب.

ويرى هؤلاء التجار الربح فيزيدون افتناناً في إغراء الناس، ويتنافسون في جذبهم إلى ملاهيهم، وكلما اعتدى الحدود واحد ليغري الجمهور بملهاه، أنف غيره أن يتخلف عن منافسه في تعدي الحدود، وهلم جراً إلى الهاوية.

وعلى قدر حرص هؤلاء المفسدين يقبل الأغرار عليهم، وعلى قدر افتنانهم في آثامهم يقع الشبان في مفاسدهم.

والحرية المظلومة يعتل بها هؤلاء وهؤلاء. وما هي الحرية، ولكنها العبودية، عبودية المال، وعبودية الشهوات.

والجماعات تسير إلى مهالكها سادرة في غفلاتها، والحكومات ذاهلة عن تبعاتها. يحسبون الأمر هيناً وهو يفعل فعله في آدابنا وأخلاقنا وجماعتنا وأسرنا وفي عقولنا وأجسامنا. وإليه فيما أرى يرجع كثير مما نحن فيه من عبث وفوضى وعصيان على القوانين قوانين الأسرة، وقوانين الجماعة، وقوانين الحكومة.

ولا بد للناس من سنن صالحة، وقوانين حازمة، تحمي الأغرار من عبث الفجار، وتصون الناشئين من تضليل المضللين، وتعصم الشبان من التهافت في هذه النيران التي لا تبقى ولا تذر!

هذه فوضى الأخلاق بعد فوضى الأفكار.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌مسرحية (سليمان الحكيم)

للأستاذ توفيق الحكيم

بقلم الدكتور محمد القصاص

- 1 -

يذكر الأستاذ توفيق الحكيم في مطلع مسرحيته أنه بناها على كتب ثلاثة: القرآن والتوراة وألف ليلة وليلة؛ وأنه سلك فيها مسلكه من استخدام النصوص القديمة والأساطير لإبراز صورة في نفسه. ولعل هذه الكلمة خير ما يلخص مذهب الأستاذ الحكيم ومنهجه في التأليف المسرحي. فماذا أخذ من هذه الكتب الثلاثة وماذا ترك؟ وما الذي أضافه إليها من فنه ومن فكره؟ هذا ما نريد الآن أن نعرفه.

أما قصة القمقم والصياد ففي ألف ليلة وليلة؛ ولكن الصياد فيها، لما رأى من لؤم الجني الذي أراد أن يقتله جزاء تخليصه إياه من سجنه، يحتال عليه حتى يدخله القمقم من جديد ويغلقه ثم يقذف به في البحر كما كان. وهو مسلك لا يتصور غيره من إنسان، لأنه يتفق مع طبيعته وفكرته عن العدالة حتى في أسمى صورها. ولكن صياد سليمان الحكيم لم يفكر في شيء من هذا، بل راح يحاور الجني ويداوره في بلاهة تشبه القداسة، أو قداسة تشبه البلاهة، ليصل معه إلى اتفاق شريف، وهو هادئ الطبع أمام الموت الذي يهدده كأنه سقراط يهزأ بالموت وبالجلاد في سمو يليق بسيد الفلاسفة. وتلك ظاهرة بارزة لدى الأستاذ توفيق الحكيم، وفي الرواية التي ندرسها على وجه الخصوص؛ ظاهرة تنزع إلى إظهار شخصياته الثانوية أكثر تميزاً من أبطاله أنفسهم، فنراهم في كثير من مواقفهم (يسمون على أنفسهم) على حد تعبير المؤلف - عن شعور أو غير شعور. وقد نرجع إليها في مقال آخر. وأما القرآن فهو الذي أمده بالشطر الأكبر من هيكل المسرحية: ففيه قصة الهدهد، وحكاية النمل، وخطاب سليمان إلى بلقيس يدعوها أن تمثل بين يديه، واستشارتها لرجال دولتها، وهديتها لسليمان، ورفض سليمان الهدية، ثم إذعانها لزيارته، وعرض أمرها عليه، وقصة عرش بلقيس، وصرح سليمان، وأخيراً موت سليمان الذي لم يعرف نبأه الأنس والجن إلا بعد أن دلتهم عليه دابة الأرض تأكل منسأته. هذا إلى إطرائه حكمة سليمان، وما

ص: 4

أوتي من علم وسلطان، وتسخيره للجن، ومعرفته للغة الطير والنمل وسائر الحيوان وما يشبه ذلك من التفاصيل التي تهيئ جو الرواية. والكاتب يسير على نهج القرآن في ترتيب الحوادث وتتابعها، لا يكاد يختلف عنه في شيء - من هذه الوجهة فحسب بالطبع. وإن اختلف القرآن والتوراة أخذ برواية الأول منهما في غالب الأحيان. وجل ما أخذه من الكتاب المقدس من هذه التفاصيل التي قلنا أنها تهيئ الجو المعنوي للرواية وما يسمى في لغة المسرح (بالديكور) زوجات سليمان الألف، وماشيته، وبذخ قصوره الذي لا يحيط به وصف، وثراؤه الذي لا يحده حصر. ولعل الكتاب المقدس هو الذي أوحى إليه بفكرة الرواية ولو من بعيد، أو على الأقل بالخاتمة التي انتهى إليها سليمان. ففيه أن سليمان - وكان يهيم بالنساء - قد حاد في شيخوخته عن سبيل الحكمة بإغراء من نسائه الأجنبيات اللائى حولن قلبه عما كان قد عاهد عليه ربه، فأصر الله على أنه ينتقم لعهده، ولكن لا من سليمان نفسه بل من أبنه. غير أن الكتاب المقدس لا يقول بأن بلقيس هي التي كانت سبباً في سقطة سليمان كما في المسرحية، ولكنه يرجعها إلى ًهيامه بالنساء على كل حال. ومع ذلك فنحن نعلم من قصة أخرى حبشية تتصل بتفاسير العهد القديم، أن سليمان أحب بلقيس، وسواء أبادلته بلقيس الحب أم لم تبادله، فأن هذا الحب قد أثمر مولوداً تنحدر من ذريته سلالة البيت المالك الحبشي. ولكنا لا نعرف أن كان مؤلفنا قد علم بأمر هذه الرواية أم لا.

هذه قصة الملك سليمان أو نبي الله سليمان كما وردت في الكتب المقدسة والأساطير القديمة. فماذا صنع بها توفيق الحكيم؟ كيف خلق منها بفنه وفكره شيئاً جديداً، عملاً أدبياً ورواية تمثيلية؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال نفضل أن نشير إلى بعض المسالك التي يسلكها المؤلفون عادة في استخدامهم للأساطير وحوادث التاريخ في الأدب القصصي والتمثيلي، لنرى أيها اختار توفيق الحكيم:

قد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي فيصوغه صياغة جديدة ليجعل منه قصة أو رواية فنية، دون أن يضيف إليه شيئاً من لدنه غير الصياغة والأسلوب القصصي أو التمثيلي، اللهم إلا أن يعمد إلى بعض نقط لم تكن بارزة في النص الأصلي، وإن كانت مما يسلم به ولو ضمناً، فيبرزها ويضخمها، أو إلى بعض الأبطال فيبالغ في إظهار بطولتهم ويشيد بفضائلهم، ولكنه لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن وجهة نظر النص الأصلي؛ بل إن كان

ص: 5

هناك اختلاف فهو اختلاف في الكم (والرتوش). وقد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي أو الاسطورة، فيفسرهما تفسيراً جديداً يختلف عما هو شائع من تفسيرهما، بل وعما يعطيه نصهما، كما فعل شوقي في مصرع كليوباترة أو كما أراد أن يفعل. وقد يناقض هذا التفسير الجديد مرمى النص القديم على خط مستقيم، كما فعل جان بول سارتر في أسطورة أورست لما أتخذ منها مادة لمسرحيته الخالدة (الذباب).

ومسلك ثالث، هو أن يتخذ الفنان من الحادث التاريخي أو من الأسطورة إطاراً يحيط به أفكاره الخاصة، إناء فارغاً يصب فيه مذهبه في الميتافيزيقا أو الأخلاق أو المجتمع أو غيرها، وقد تكون فكرة المؤلف لا تمت بسبب إلى ما في الأسطورة. ولكنه يتخذ من حوادثها المادية آلة ينشر عليها خيوطه وخاماته لينسج منها الثوب الذي يريد، ومن أشخاصها أبطالاً يتقمصون أفكاره لتحيى في نفوسهم، وتتجلى في أفعالهم وأقوالهم. وهذا هو المسلك الذي سلكه توفيق الحكيم لما خلق بفكره وفنه رواية (سليمان الحكيم) من النصوص التي تكلمنا عنها.

فما هو فن الأستاذ توفيق الحكيم في هذه المسرحية؟ وما هي الفكرة التي أراد هذا الفن على أن يحملها عنه إلى جمهوره، قراء كانوا أم متفرجين؟ الفكرة، بل الدعوى التي يجعل الأستاذ توفيق الحكيم من قطعته عرضاً لها ودفاعاً عنها، هي وجود قوة خفية، قوة عليا تسيطر على أعمال الإنسان وتختار له كما تشاء هي لا كما يشاء هو، حتى إذا ما سار في الطريق الذي اختطت له أو التي حملته على السير فيه دون إرادة منه، وضعت أمامه من العراقيل ما لا يستطيع التغلب عليه، أو ما لا ينبغي له أن يتغلب عليه، ما دامت تلك مشيئة الأقدار. وكأن هذه الأقدار أو القوة الخفية - إذا سلمنا بمنطق الأستاذ الحكيم - لا تبغي من وراء ذلك إلا العبث والسخرية من بني الإنسان. ولا أظن كاتباً يطمع في تصوير الإنسان في صورة من التفاهة والاحتقار أكثر مما عمل أو مما أراد أن يعمل مؤلف سليمان الحكيم. والميدان الذي أختاره الأستاذ المؤلف لإبراز فكرته وتحقيق صدقها هو ميدان الحب، ميدان القلب والعاطفة لا ميدان العقل والفكر؛ لأن شخصية الفرد - على ما تريد المسرحية أن تظهره - تتكون من واديين منعزلين: وادي العقل والذكاء وفيه الإنسان سيد نفسه ولكنه قليل الخطر في حياته وحياة العالم. ووادي القلب، وادي الحب والبغض، موطن السعادة

ص: 6

والشقاء، ومفتاحه في يد الأقدار، في يد تلك القوة الخفية التي تديره وتدير معه الإنسان (من خارجه) ولا سلطان لغيرها عليه. وتمزيق شخصية الإنسان على هذا النحو قد يرضي الأمثال المأثورة والحكم العامية، ولكن عقل المفكر قد ينبو عنه بعض الشيء. لأن الحب مثلاً قد يكون مبعثه الإعجاب والتقدير الشعوريين أو غير الشعوريين؛ وقد يكون منبعثاً عن أشياء أخرى كثيرة كامنة في عقل المحب الباطن، وعدم إطلاعنا عليها لا يبرر حكمنا عليها بالعدم. ولكن المؤلف يجعلنا نرى سليمان - ذلك الشيخ المتصابي، ذلك الزواج الذي يقتني في قصوره ألف امرأة - يهيم ببلقيس بمجرد أن سمع أسمها من الهدهد، وكأنه مدفوع إلى هذا الحب بتلك (القوة الخفية) التي تديره دون أن تختلط بنفسه والتي لا قبل له بها.

ويكشف لنا سليمان عن هذا الحب (الشيطاني) بدعوتها لزيارته، وفي قلقه وهو ينتظر مقدمها في قصره، حتى لكأنه جالس عل أحر من الجمر، وفي غيرته من منذر لما (حدثته بصيرته بأنه المالك لقلب الملكة دونه. وهو الذي (شم عطرها وبينهما بحار من رمال، ودعاها وبينهما آماد طوال). وما تكاد تستقر في ضيافته حتى (يفاوضها) في أن (تنزل) له عن قلبها، بعد أن صرحت له بهيامها بغيره. فإذا أنس منها إعراضاً راح يبهر عينها بمساعدة العفريت، ويمخرق لها بشعوذته وألاعيب سحره. قد يعترض علينا معترض بأن هذه الأشياء موجودة بالفعل في النصوص القديمة، وأن المؤلف لم يفعل غير أن استغلها في إبراز فكرته ودغمها ولكنه على أية حال استغلال غير موفق. بعد هذا عماذاً تنجلي التجربة، أو المعجزة إذا شئنا؟ عن إصرار بلقيس على ألا (تبيع) إلى سليمان، وإمعانها في حب منذر، إذ (لو كان قلبها في يدها ما زال حرا لمنحته إياه مرة أخرى)(هذه المرة دون تدخل القوة الخفية!!). ثم عن حب مكتوم ولكنه متبادل بين منذر وشهباء وصيفة بلقيس، كشف يفاجئ بلقيس فيكاد يقضي عليها بقسوته، ويهيئ بذلك الفرصة (لنبي الله) ليضاعف من شماتته بها وضحكه من خيبة أملها. أليس هو الذي يقول واصفاً لهذا المنظر:(استخدمت وسائل فظيعة لقهرها وتعذيب قلبها. . . لقد أردت التشفي من صدها برؤية دماء نفسها تشخب وجراح فؤادها تسيل. . . حتى انهدت بين يدي وانهارت وأنا أرسل في وجهها الشاحب الضحكات). وأي ضحكات؟ ضحكات تدوي بها أرجاء القصر، مما لا نتصور صدوره من شخص أضناه الحب وأذله.

ص: 7

(لها بقية)

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس

ص: 8

‌العمل الأدبي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

يقف الأديب عند سرير جندي جريح عائد من ميدان القتال، فيثير فيه منظره معاني شتى للبطولة والتضحية. أو يدخل مصنعاً قد أنصرف فيه كل عامل إلى آلته، ومضت الآلات في عملها تنتج مسرعة، فيوحي إليه ما يراه بخواطر عن الدأب والنظام والتقدم. ويحاول أن يسجل إحساسه إزاء ما رأى، وأن ينقل هذا الإحساس إلى غيره، فينشئ مقالة أو يقرض قصيدة أو يؤلف قصة أو رواية، ويختار لذلك ألفاظه وأساليبه، بحيث تنقل إحساسه نقلاً صادقاً غير منقوص.

هذه المقالة أو القصيدة أو القصة أو الرواية هي العمل الأدبي، فهي الصلة بين الأديب والسامع أو القارئ، وبها أنتقل إحساس الأول إلى الثاني. ونستطيع أن نعرف العمل الأدبي بأنه (التعبير عن تجربة للأديب بألفاظ موحية)، والتعبير بالألفاظ هو الذي يميز الأدب من باقي الفنون الجميلة، لأن الأدب يعبر باللفظ، بينما تعبر الموسيقى بالصوت، والرسم باللون، والنحت بالحجارة.

ونعني بالتجربة كل ما جربه الأديب ومر بنفسه من شعور، سواء أكان حقيقياً أم متخيلاً، فقد تكون حادثة صادفت المنشئ في حياته أو صادفت غيره، وقد تكون قصة سمع بها، أو منظراً رآه، أو فكرة عرضت له، أو وهماً مر بخياله، ومن هنا كان كل شئ في الحياة صالحاً لأن يكون مادة للأديب، يتخذ منها صوراً لبيانه، على شريطة أن يكون قد امتزج بشعوره وملك عليه جوانب نفسه، ودفعه إلى الكلام، ولهذا وجب أن يكون في التجربة أمر غير عادي مألوف، وأن تكون ذات قوة ممتازة، وشدة خاصة، حتى تبعث في الأديب القوة الضرورية لمجهود أدبي يستطيع به أن يصف التجربة في صدق ودقة، وإتقان وبراعة، وبذلك يستطيع أن يبعثها مرة أخرى في نفوس قارئيه.

هذا، وآن الحقائق العلمية، قد يمزج بها الأديب إحساسه، وينقلها بهذه الصورة إلى القارئ، فتصبح عملاً أدبياً رائعاً، كما سنرى فيما يلي:

إن التجربة لا تكون بسيطة أبداً، بل لابد أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتي به الفكر نفسه من معان يدعو بعضها بعضاً، فالواقف أمام نهر النيل مثلاً، لا

ص: 9

تنقل إليه حواسه لون مائه، وحركة موجه، وما على جانبيه من حقول فحسب، بل تنقل إليه أيضاً رقة النسيم، ولون السماء، وما قد يكون فيا من سحاب، وهو يضيف إلى ذلك احساسات أخرى ولدها خياله كموازنة هدوءه بالبحر وثورانه، وقد يطوف هذا الخيال بينابيعه، وبالشعوب التي تعيش على ضفافه، أو يعود متوغلاً في القدم، فيذكر ما قام على شاطئيه من حضارة ومدنية، فإذا كانت تلك اللحظة الشعورية قوية تتطلب التعبير عنها، فإن الأديب يستخلصها من بين ما يمر به من التجارب، ويحتفظ بها في نفسه، وكلما احتفظ بها ازدادت غنى بما ينضم إليها من ألوان الإحساس وبتداعي المعاني. فإذا أراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجب أن ينقلها كاملة، فلا نكتفي منه بأن يصور لنا آثار التجربة، ولا أن يذكر الظروف التي حدثت فيها فالشاعر الذي يروقه منظر من مناظر الطبيعة، لا يستطيع أن ينقل تجربته هذه إذا اكتفى بذكر المنظر الذي رآه، أو ذكر الإحساس الذي خالطه عندما رآه، بل يجب أن يؤدي تجربته كاملة الأجزاء لما شاهده وما أحسه معاً، مرتبطين ارتباطاً وثيقاً، حتى يحس بها القارئ إحساساً كاملاً، وتنتقل إلى شعوره، فيتخيلها، كما أدركها منشئها، وبمثل هذا التناول يخلد الأديب لحظة من لحظات شعور مرت به في حياته.

إن في الإنتاج الأدبي لعملاً إيرادياً للأديب، ذلك أنه يتناول تجربته، وهي مكونة من أجزاء، فيرتبها ترتيباً منسقاً، ثم يأخذ في إيضاح سلسلة خواطره واحداً واحداً، على أن يكون لكل خاطر منها دخل في تصوير التجربة وإكمالها، فيكون له وجود من أجل نفسه، ووجود من أجل الكل الذي هو جزء منه؛ وبجمع هذه الأجزاء تصير التجربة وحدة متسقة، وكلا موحداً، يتصل كل جزء فيها بسائر الأجزاء. أما إذا كان بعض الأجزاء لا دخل له في تكوين الصورة، ولكنه جاء بطريق الأستطراد، أو لم تكن التجربة مسلسلة الخواطر، يرتبط بعضها ببعض، فإنها تنقل إلى السامع مشوهه لا صلة بين أجزائها ولا اتساق. وهاك تجربه لقتيلة بنت الحارث وقد أخذت تعاتب الرسول لقتله أخاه النضر برغم قرابته له، واتصاله بنسبه:

أمحمد يا خير صنو كريمة

في قومها، والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما

من الفتى وهو المغيظ المحنق

ص: 10

والنضر أقرب من أصبت وسيلة

وأحقهم أن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقق

فقد بدأت حديثها معه تناديه باسمه نداء القريب الذي لا كلفة بينك وبينه، مشعراً إياه بشدة الصلة بينهما حتى لكأنها توحي إليه بأن هذه القرابة القريبة ما كانت تنتظر على يده هذا المصير. ثم أتبهت إلى مكانة الرسول في قومه، فنادته واصفة بما يتفق مع هذه المكانة، وكأن قلب الأم الذي في كل أنثى دفعها إلى أن تصفه بأنه خير ابنلأم كريمة في قومها، وأب عريق في الشرف، حتى إذا انتهت من استرعاء سمعه بهذا النداء أخذت تسأله سؤال الموجع الموقن بأن حكم القضاء قد تم ولا سبيل إلى استرجاعه، فاستخدمت لذلك هذا الاستفهام الحزين الموحي بأنه لم يكن ثمة خطر في إطلاقه، فضلاً عما في هذا الإطلاق من مكرمة المن، وأتت بكلمة (لو) المشعرة بالأسف لدلالتها على امتناع وجود الفعل. وما كان أدق ذوقها في اختيار كلمة مبما، الدالة على حسن الأدب، والتماسها العذر للرسول، وتلميحها إلى ما في العفو برغم الغيظ والحنق من مثل أعلى جدير بالإقتداء، حتى إذا انتهت من ذلك لمست من الرسول موضع العطف فذكرته بقربه منه واستحقاقه أن يظفر برعايته. ثم تنتقل من ذلك إلى تصوير هذا القريب الجدير بالود أو بالمن والعتق - هدفاً لسيوف أقربائه، تتناوله بأطرافها فتمزق بتمزيق أديمه القرابة وتقطع أواصرها.

وهكذا كان كل جزء له آثره في نقل هذه التجربة التي ملكت نفس قتيله، ونجحت في إيصال ألمها للسامع، حتى روي أن الرسول بكى، وقال: لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.

نستطيع أن نسمي التجربة التي تسيطر على الأديب، وتدفعه إلى التعبير عنها بالإلهام، وكلما عظم هذا الإلهام احتاج إلى قوة كبيرة تستطيع التعبير عنه تعبيراً يمثله تمثيلاً صادقاً، ولذا كان كبار الأدباء ذوي سلطان على اللغة، وقدرة قديرة على التعبير، فاستطاعوا أن ينقلوا إلينا من التجارب أعظمها وأسماها.

وإن لدى الأديب إحساساً لغوياً ممتازاً، يستطيع به أن يختار من الألفاظ ما هو قوي في تصويره، واضح في دلالته على مراده؛ ويدرك ما تستطيع الألفاظ أن توحي به إلى القارئ، وإن للألفاظ لوحياً يشع منها، فيملأ النفس شعوراً، ويثير الوجدان، ويحرك العاطفة، ذلك أن الألفاظ تراكم حولها بمضي الزمن والاستعمال، معان أخرى أكثر من هذه

ص: 11

المعاني التي نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معاني الألفاظ في المعاجم سوى هذه المعاني المتبلورة؛ والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان أضفاها عليها الزمن، فتثير في النفس أعمق الاحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور. وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معاني كلمات: أم، وطفولة، ومدرسة، ووطن مثلاً، فالأم في اللغة هي الوالدة؛ ولكن هذا اللفظ يثير في النفس إذا سمع أسمى معاني الحب، وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معاني الحنان.

وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر التي تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة؛ وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هي في المعجم مكان الدراسة.

أما كلمة الوطن فقد تراكم حولها من المعاني والذكريات ما أشار أبن الرومي إلى بعضه حين قال:

وحبب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة. وإن أردت أن تدرك شدة وحي الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ وانظر أي تقزز ونفور يثيره في النفس تخيل أكل لحم الأخ ميتاً. . .

واقرأ قول الشاعر:

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحة، فحنا عليه

حنوا المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا

ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا

فيحجبها، وبأذن للنسيم

يروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

وانظر ما توحي به إلى النفس (لفحه الرمضاء) فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن يلفح وجهك، ويرمض عينك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه السخونة

ص: 12

الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادي عليه، فقد حماه من وهج الشمس وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه أن يسقيه مضاعف الغيث. وانظر ما توحي به إلى خيالك كلمة (دوح) من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس بعد لفحه الرمضاء. وتخيل حنو المرضعات وما يثيره من معاني العطف والحنان. أما (أرشف) فتوحي إليك بهذه المتعة التي يحس بها الظمآن لفحه حر الشمس فأوى إلى ظل ظليل، وأخذ يشرب على مهل، ليستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ ألذ من المدامة. وتخيل كذلك ما يثيره عندك كلمة (يروع) والصورة التي ترسمها، وكلمة العذارى، وموضع الفاء التي تدل على هذه الحركة السريعة الناشئة من الروعة.

وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية أن يسيطر على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره. ولعل هذا هو السر في أن علماء البلاغة قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنه، فضلاً عن أن تثير هذه الخواطر التي تحيط بالكلمة إذا استعملت.

على أنه قد يشفع في بعض الأحيان لاستخدام الكلمة الغريبة أنها وضعت في موضع سهل الأسلوب فهمها، وكانت هي جرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقي:

خلوا الأكاليل للتاريخ أن له

يدا تؤلفها درا ومخشلبا

فهذا الجمع بين الدر والمخشلب يوحي بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة ما يوحي بأنها تعني شيئاً حقيراً.

والإحساس اللغوي عند الأديب هو الذي يختار اللفظ اختياراً دقيقاً، بحيث يؤدي المعنى على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات ويأخذ بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق. سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:

بالله ربك أن دخلت فقل لها

هذا ابن هرمة قائما بالباب

فقال له: لم أقل (قائماً)، أكنت أتصدق؟ قال:(قاعداً)؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: (واقفاً)، وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى.

بل إن الإحسان اللغوي قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين

ص: 13

الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحي به إلى الخاطر كما تحس بذلك في كلمة (أرشف) من الشعر السابق، وكما اختار المتنبي كلمة (تفاوح) في قوله:

إذا سارت الأحداج فوق نباته

تفاوح مسك الغانيات ورنده

فهي تدل بصيغتها على هذه الموجات النسيمية، تحمل في أردانها عبق المسك والرند، وكلمة صليل في قوله:

وأمواه تصل بها حصاها

صليل الحلي في أيدي الغواني

فهي تسمعك بحروفها وسوسة المياه تداعب الحصى.

وبعض ألفاظ اللغة أسلس على اللسان وأجمل وقعاً على الأذن من بعض، وهو جمال ظاهري يساعد الأديب على إيصال تجربته. وعلماء البلاغة يذكرون من صفات الألفاظ المفردة ما يصح أن تلتمسه هناك.

وفضلا عما للكلمات من خصائص يدركها إحساس الأديب كذلك النظم في العبارة الأدبية يحمل معنى أكثر مما تؤديه الجملة بجريها على النحو، فإن هناك قوى يبثها المؤلف فيها، عن غير عمد حيناً، وعن عمد حيناً أخر، فنجده يقدم ويؤخر ويذكر ويحذف ويصل ويفصل، ويأتي ببعض ألوان المعارف دون بعض، وحيناً يدع المعرفة إلى النكرة، وآنا يستخدم أداة من أدوات الطلب مكان أخرى، أو يأتي برخرفة في مكانها. وقد وصل علماء البلاغة إلى إدراك كثير من هذه الأسرار، فعقدوا علماً يتحدث عن خصائص الجملة، ودعوه علم المعاني، وعلماً للخيال الذي يعقد الصلة بين الأشياء ودعوه علم البيان، وآخر لبعض ألوان الجمال وسموه علم البديع.

ولكن خصائص النظم لا تقف عند حد الجملة بل إن للأساليب خصائص، فمنها ما يناسب الانفعال السريع والحركة المتوثبة، ومنها ما يناسب العاطفة الهادئة والحركة البطيئة، وقد يدفع الإحساس الفني الأديب إلى انسجام في النظم وموسيقى لفظية، تساعد على الإيحاء، وإن هذا الانسجام وهذه الموسيقى يصلان إلى الذروة في فن الشعر، وبذلك يستطيع الأديب أن يصل إلى أسمى درجات التأثير.

أحمد أحمد بدوي

ص: 14

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 15

‌من أدبنا المجهول:

المنصف لابن وكيع المصري المتوفى سنة 393هـ

للأستاذ السيد أحمد صقر

كان أبو الطيب المتنبي (354هـ) يرسل قصائده الفرائد فتسري في أرجاء العالم العربي مسرى الأضواء، حاملة بين اطوائها بذور نقدها، فتملأ الدنيا بدويها، وتشغل الناس بحديثها، فمنهم من يكبرها ويغلو في إعظامها والإعجاب بها، حتى يملك عليه الإعجاب أقطار نفسه، ويأخذ بمسارب حسه؛ ومنهم من يحقرها، ويغض من شأنها، ويسرف في ثلبها، حتى ليكاد يخرجها من حلبة الشعر، ويسل صاحبها من بين الشعراء؛ وبين أولئك وهؤلاء أقوام قد تفارتت حظوظهم من المودة والبغضاء، والإعجاب والإزراء، فيكثرون من الحديث عنها والجدل فيها كما قال المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويغتصم

ولعل أهم مسألة شغلت النقاد، واستأثرت بنشاط أفكارهم مسألة سرقات المتنبي، فقد كان الرجل واسع الثقافة، دائب الإطلاع على أشعار الشعراء، يجيل النظر فيها، ويعمل العقل، ويدير الفكر بنفس مشوقة وحس جميع، فكان إذا جاشت نفسه بالقريض ربما ألم بهذا المعنى أو ذاك، وطاف بهذه الفكرة أو تلك شاعراً بما صنع أو غير شاعر، وقد اهتبل النقاد مسألة السرقات هذه، وحاول بعضهم أن يصدم بها المتنبي في مجالس الإنشاد، وأتخذها الحساد غرضاً يصوبون إليه سهامهم المسمومة لعلهم ينالون من عظمته، ويديلون من ذكره، فيشفوا بذلك نفوسهم، ويذهبوا غيض قلوبهم. وكان أول من عرض لها وكتب فيها الصاحب ابن عباد وأبو علي الحاتمي (388). ولما ألف الجرجاني (366هـ) كتاب (الوساطة) أدار الحديث فيه عن هذه السرقات، وأفاض حتى أنفق فيها أكثر صحائف الكتاب. وجاء معاصره ابن وكيع المصري فألف كتاب (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي) وابن وكيع هذا (شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعه تسحر الأوهام، وتستعبد الإفهام) وله ديوان شعر جيد ولد في مدينة تنيس بالقرب من دمياط، ومات بها في جمادي الأولى سنة 393، وقد ضاع ديوان شعره، ولم يبق من كتاب المنصف إلا نسخه واحدة فيما يقول برو كلمان، محفوظة في مكتبة برلين

ص: 16

برقم 7577، وهي تقع في 167 لوحة، وفي كل لوحة صفحتان، يستغرق الجزء الأول منها 148 لوحة، واللوحات الباقية من الجزء الثاني. . . وهو كتاب نفيس حقاً أضعه في ثقة وأمن في طليعة كتب النقد الأدبي، واعد مؤلفه في مقدمة الطبقة الأولى من أعلام النقد، لا في القرن الرابع وحده بل في كل العصور. ولنفاسة هذا الكتاب وطرافته، لا أريد أن أحدثك عن فكرته وأسلوبه ومنهجه، بل أذر مؤلفه يحدثك عن ذلك كله لتتبين بنفسك أغراضه ومقاصده، وتتعرف بذوقك رأيه وتفكيره، ولئن كان الكتاب يعرف من عنوانه كما يقال فإنه أيضاً يفهم من مقدمته.

قال ابن وكيع: (أما بعد حمد الله والصلاة على رسوله الكريم، وعلى آله المصطفين الأخيار الطيبين الأبرار، فإنه وصل إلي كتابك الجليل الموضع، اللطيف الموقع، تذكر إفراط طائفة من متقدمي عصرنا في مدح أبي الطيب المتنبي وتقديمه، وتناهيهم في تعظيمه وتفخيمه، وأنهم قد أفنوا في ذلك الأوصاف وتجاوزوا الإسراف، حتى لقد فضلوه على من تقدم عصره عصرَه وأبر على قدرِه قدره. وذكرت أن القوم شغلهم التقليد فيه عن تأمل معانيه، فما ترى من يجوز عليه جهل الصواب، في معنى ولا إعراب. وذكرت أنهم لم يكتفوا بذلك حتى نفوا عنه ما لا يسلم فحول الشعراء من المحدثين والقدماء منه، فقالوا: ليس له معنى نادر، ولا مثل سائر، إلا وهو من نتائج فكره، وأبو عذره، وكان لجميع ذلك مبتدعاً، ولم يكن متبعاً، ولا كان لشيء من معانيه سارقاً، بل كان إلى جميعها سابقاً، فادعوا له من ذلك ما ادعاه لنفسه على طريق التناهي في مدحها، لا على وجه الصدق عليها فقال:

أنا السابق الهادي إلى ما أقوله

إذا القول قبل القائلين مقول

وهذا تناه ومبالغة منه كاذبة، وقد يأتي الشاعر بضد الحقائق، ويتناهى في الوصف وهو غير صادق. وذكرت أنك عارضت دعواهم بأبيات، وجدتها في شعره مسروقات، فادعوا فيها اتفاق الخواطر، ومواردة شاعر لشاعر. واحتجوا عليك بامرئ القيس في قوله:

وقوفاً بها صحبي علىَّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

فوافق خاطره خاطر طرفة في قوله:

وقوفاً بها صحبي علىَّ مطيهم=يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وأحببت إنهاء ما عندي إليك، غير متحيف لك ولا عليك، فأقول والله الموفق للصواب:

ص: 17

إن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتقريظ منه خاملاً، بل فضلوا شاعراً مجيداً، وبليغاً سديداً، ليس شعره بالصعب المتكلف، ولا اللين المستضعف، بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإطالة؛ كثير الفصول، قليل الفضول. لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصراً، وأحسن شعراً، كأبي تمام والبحتري وأشباههما، فإني لا أزال أرى من منتحلي الآداب من يعارض شعريهما بشعره، ويزن قدريهما بقدره، من غير انتقاء للشعر استعمل فيه كد فكره، ولا استقصاء نظره، وإنما قلد الخطوة الرافعة، والشهرة الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال والنقل، لهجة بالاستطراف والملل، ولكل جديد لذة، فلما كان شعره أجد فيهم عهداً، كانوا له أشد ودا. وهبنا أغضينا لهم عن تفضيلهم إياه على من لا يشق غباره، ولا يعشر مقداره، مع علمنا في ذلك أن مذهبهم أوضح فساداً من أن نطلب لهم المعارضة، أو نتكلف من أجلهم المناقضة، فكيف بالإغضاء عن نقيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري، جاهلي أو إسلامي، من استعارة الألفاظ النادرة، أو الأمثال السائرة. وإذا كانت مستعملة في أشعار جميع الناظمين من القدماء والمحدثين. وسلمنا لهم نفيهم عن أبي الطيب ذلك كنا قد سلمنا لهم أنه أفضل أهل الشعر في كل أوان وعصر. وهذه دعوى لا بد من كشف أسرارها وإظهارها، وهي بالعناية أولى من الأولى، لأن تلك دعوى خصت طائفة، وهذه تعم جميع القائلين من الأولين والآخرين. ولقد ادعى قائلها إفكاً واسعاً، وظل للحق فيها دافعاً؛ لأنه أدعى وقوع جميع الشعراء فيما سلم أبو الطيب منه، وفقرهم إلى ما غنى عنه، وهذه صفة تتجاوز الصفات، وتكاد تشبه المعجزات. ولو علم صدقها أبو الطيب من نفسه لجعلها آية له عند تنبيه، ودلالة على صحة ما ادعاه من تنويه، يتحدى بها أهل دعوته.

(البقية في العدد القادم)

السيد أحمد صقر

ص: 18

‌صور من الحياة:

حرمان. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا صاحبي، لا تمتهن عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. فالعبرة - يا سيدي - هي ذوب القلب السامي حين بطل على آلام الإنسانية وهي تضطرم وتتأجج، وهي خلاصة الدم النبيل حين تأخذه الرقة والحنان، وهي الصريح المحض من صفاء الروح وحرارة الحياة وسمو النفس ولعمري إن جامد العين إنسان لم يبلغ بعد درجة الحيوان.

أنني أذكر - الآن - يوم أن فررت من حجرة الشيخ علي، ذلك الفتى القميء العبوس. لقد أختاره أبي ليكون قائداً لي فوجدت فيه غلاً بغيضاً إلى نفسي ثقيلاً على قلبي، فرحت أحطم هذا القيد بطريقة صبيانية جميلة. وتدفقت النشوة في قلبي حين رأيتني أمكر بالشيخ علي فأغلبه على أمره وانتظر على أساليبه الملتوية الوضيعة. وظفرت - لأول مرة - بالحرية التي تدفعني إلى أن لا أخشى الرقيب ولا أخاف أبى ولا أرهب الشيخ علي. وأصبحت وما في حياتي من ينهرني عن لهو ولا من يردعني عن غي ولا من يدفعني عن طيش، فارتدغت في حماقات ما دعني عنها واحد من رفاقي ولا ذوي قرابتي: فأنا لا أذهب إلى الأزهر إلا حين يحلو لي ولا أطمئن إلى أستاذ إلا حين أجد فيه الفتور والضعف ولا أستمع إلى درس إلا حين ألمس فيه ما يجذبني إليه؛ ثم لا أجد وازعاً يغريني بالقراءة والمطالعة ولا أحس ميلاً إلى الاستذكار والتحصيل، فاطمأنت نفسي إلى عبث الطفولة ولهو الصبا. وأبي في القرية لا يعلم من أمري شيئاً وفي رأيه أن ابنه الشيخ الصغير يوشك أن يسمو إلى مرتبه ذوى المكانة والشأن من مشايخ الأزهر وإلى جانبي الشيخان حامد وحسن لا يستطيع واحد منهما أن يلومني على أمر ولا أن يؤذيني بحديث.

وذهبت غير بعيد، ثم استحالت حالي فلمست في حريتي معاني رجولتي. وللرجولة في نفس الصبي علامات لا تتم إلا بها. فأنا أقضي صدر النهار جالساً إلى عمامتي أهيئها على نسق وأرتبها على طريقة، أطويها وأنشرها ثم لا أبرح أطويها وأنشرها فلا أهتدي. وأنا أخلو إلى جبتي طرفاً من الليل - أزيل عنها ما علق بها من غبار وأمسح ما لوثها من

ص: 19

طين، والطريق بين الأزهر والدار ضيق قذر تتراكم فيه - دائماً - الأوساخ والوحل، ثم يعجزني أن أدفع بها إلى الكواء ومالي طاقة بما يطلب من أجر، فأنشرها تحت الحشية علها تبدو في رأى العين قريبة عهد بالمكواة. وأنا أنطوي على حذائي - ساعة من زمان - أطليه بالورنيش حيناً وأغسله بالماء أحياناً. ثم تصنعت الرجولة فأخذت أمشي الهوينى منتصب القامة متزن الخطو، وأتحدث في هدوء ورزانة، وأجلس إلى شيخي في ثقة واطمئنان، وأستمع إلى الدرس في أناة وصبر. ومضت أيام ثم غلبتني طبيعتي الصبيانية وضاقت بما أتصنع فإذا أنا صبي بين صبيان يملئون الحارة صياحاً وضجيجاً ويندفعون في لهو ولعب ما ينتهيان إلا أن يثور بنا صاحب الدار أو يهربنا رجل من الجيران فننطلق في ذعر صوب الحجرة كفئران أفزعهم قط كاسر.

وأنست إلى حجرة الشيخ حسن وما هي بأوفر حظاً من حجرة الشيخ علي ولا أسعد حالاً من حجرة الشيخ فهمي، وما فيها غيرنا: أنا والشيخ حسن، والشيخ حامد. ثلاثة ضمتهم آصرة القربى وجمعتهم وشيجة السن فكلاهما تربى في الكتاب وزميلي في الملعب ورفيقي في الغيط وصاحبي في القرية. هنا وجدت الحرية والراحة وسعدت بالهدوء والطمأنينة.

أما الشيخ حامد فهو فتى مدلل رقيق الحاشية لين الأعطاف لدن الأوصال غض الإهاب. وضئ الوجه، وسيم القسمات، يتألق نضارة وجمالاً، يتأنق في لباسه ويتثنى في مشيته ويتأرج في عطره، ليس فيه من معاني الرجولة إلا ثياب الرجل ولكنه صاحبنا وعلينا أن نرعاه ونتعهد حاجاته.

وأما الشيخ حسن فهو فتى في فجر العمر أيد في غير نزق، صلب في غير جفوة، رقيق القلب رضي النفس حلو الحديث خفيض الصوت. أخذ نفسه بالشدة والقسوة فهو يصرفها عن نوازع الحياة ويلفتها عن شهوات المدينة، ويجد لذته في الدرس والكتاب، فيقبل على الدرس في نهم ويطمئن إلى الكتاب في رضا، ويقضي سحابة النهار في صحن الأزهر لا يبرحه إلا إلى حلقة الدرس أو إلى الصلاة. وعلى وجهه سمات حزن ما ينجلي، وفي عينيه عبرات تترقرق ما تنحدر، من أثر ما لاقى من عنت الأيام وجفوة الحياة.

لقد أحس الشيخ حسن اللوعة والأسى حين ماتت عنه أمه صبياً فوقع بين فظاظة أبيه الجاهل وشراسة زوجه القاسية. وأبوه رجل ريفي لم تصقله الحياة ولا هذبته التجارب فهو

ص: 20

جافي الطبع غليظ الكبد لا تأخذه الرأفة ولا تهزه الشفقة؛ وزوج أبيه فتاة في مقتبل العمر ورونق الشباب، مكرت بالرجل فأذاق ابنه البأساء والضراء وضربه بالجوع والعرى وأرهقه بالعمل في الحقل وفي الدار، ولكن أحقاد نفسها كانت تتأرث حيناً بعد حين فراحت تمكر بالصبي وأبيه في وقت معاً فدفعه إلى الأزهر. . . دفعه إلى هناك ليعيش ضائعاً يعاني غمرات الحياة وشظف العيش وقسوة الحرمان. ولكنه رضي بالكفاف أن وجده، واطمأن إلى الجوع، وسعد بالعرى، وصبر على الحرمان، ووجد اللذة والسعادة في الدرس.

وعاش الفتى في دنيا نفسه يسكن إلى آلامه ويستقر بين خواطره، يفزع عن الناس لأنه لا يجد فيهم الصاحب، وينفر من الجماعة وما فيهم من يشعره بالعطف. وهو أبي النفس كريم الأخلاق يترفع عن أن ينشر ضعفه أمام واحد من الناس لأنه يخشى أن يسخروا منه ويتندروا به. وأبوه في القرية في شغل عن أن يعني بابنه ومن ورائه زوجه توحي إليه بأمر فهو لا يرسل إليه إلا نفاية الخبز، وإلا قدراً من المش، وإلا قروشاً يدرأ بها سفاهة صاحب الدار. ثم هو يرى الشيخ حامد إلى جواره، هذا الفتى المدلل، وهو يستقبل أطايب الطعام والمال تترادف إليه من القرية الفينة بعد الفينة، فلا يهش لها وإن نفسه لتجذبه إليها جذباً عنيفاً، والشيخ حامد يلح عليه في أن يشاطره الطعام والشراب والمال فيتأبى عليه. ولشد ما كان يحزننا أن يفر من هذا الطعام وهو شهي لذيذ فيعتصم بالأزهر من بكرة النهار حتى الهزيع الأول من الليل، فلا يجلس إلينا إلا حين يوقن بأن الطعام قد نفد أو فسد.

ولطالما أزعجني أن يعيش هذا الفتى بيننا لا يطمئن إلى واحد منا، ولا يلمس المتعة في صحبتنا، ولطالما حاولت أن أصل إلى قرارة نفسه لأستل عنها أشجانها فما ظفرت إلا بالخيبة والإخفاق فعاش بيننا غريباً عنا.

وسار الفتى في سبيله لا يلوي على شيء يدفعه قلبه وعقله وكرامته معاً إلى غاية يبتغيها، فتقدم في خطى فساح يقفز فوق هامات رفاقه حتى أوشك أن يبلغ.

يا عجباً! ما لهذا النبت الغض وقد غذته القسوة وغمرته أشعة الشدة وسقاه الحرمان. . . ما له أينع ونما وأشتد غراسه فأثمر الرجولة والعبقرية والنبوغ؟ أفكانت جميعاً تصقله من صدأ وتحفزه إلى غرض؟

وفي ذات مساء دخلنا الحجرة - أنا والشيخ حامد - فإذا الشيخ حسن يلقانا في بشر وإشراق

ص: 21

على غير عادته، ويتبسط معنا في الحديث على غير شيمته، ويشاركنا اللهو على خلاف طبعه. واستولت علينا الدهشة والذهول أن رأيناه متهللاً، وقد انبسطت أسارير وجهه، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة رقيقة، وزادت عنه سمات التجهم والعبوس. وعهدنا به أن ينزوي في ناحية لا يأنس إلا للوحدة، ولا يلوذ إلا بالصمت. ماذا جرى؟ لقد جاء رسول من عند أبيه يحمل إليه - لأول مرة في حياته - ألواناً من الطعام ومبلغاً من المال. لقد كان الطعام تافهاً والمال ضئيلاً، ولكنهما أزاحا عنه كابوس الهم والأسى حين أحس فيهما معاني جياشة من عطف أبيه وحنانه.

وفزعنا نحن عن طعامه مثلما كان يفزع عن طعامنا، وعجز عن أن يثنينا عن عزمنا، فراح يأكل بقدر ويدخر من طعام اليوم لمائدة الغد، والطعام يكفيه أياماً.

ما لي أهب اليوم من نومي مضطرب الأعصاب مقلقل الخاطر مفزع الوجدان كأني أنتظر حادثة أو أتوقع أمراً. لقد ظللت طول يومي أحس في نفسي خيفة وفي قلبي ذعراً، رغم أن هذا اليوم من أيام الربيع الجميلة الهادئة. وكان قد مضى ثلاثة أيام منذ أن استقبل الشيخ حسن رسالة أبيه التي أزاحت عنه خواطره السود، فعجب وهو في مرحه ونشوته أن يراني ساهماً مقطب الجبين مشغول البال، فجلس إلي يريد أن يصل إلى قرارة نفسي ليستل منها أشجانها فما ظفر إلا بالخيبة والإخفاق. وانطلقت أنا إلى الأزهر أريد أن أتحلل من أعباء نفسي وألقي ثقل همي هناك بين رفاقي وأصحابي. وعند الأصيل جاء الشيخ حامد يندفع نحوي وعلى وجهه سمات الفزع والرعب وعلى حركاته علامات الخوف والاضطراب. وحين رآني تشبث بي يجرني وهو يردد في ذهول (تعال، تعال! الشيخ حسن، الشيخ حسن!) فطرت معه إلى الحجرة، إلى حيث أرى الشيخ حسن يتلوى من الآلام وجبينه يرفض عرقاً، وهو صامت لا ينطق بكلمة، ولا يفصح عن شكاه ولا يرسل صيحة. لقد كان جلداً صبوراً حتى حين سرى السم في عروقه من أثر الطعام الذي أزاح عنه الغمة فحفظه في صندوقه وفي قلبه أياماً حتى فسد وتسمم. وأنسرب الرعب في نفسي من أثر ما رأيت فأنعقد لساني وشلت حركتي، فجلست إلى جانبه أنظر ثم ألقيت بنفسي عليه. . . ألقيت بنفسي عليه وهو يلفظ أخر أنفاسه ثم اندفعت أبكيه، أبكي فيه الصداقة الصافية والشجاعة الكاملة والرجولة الباكرة وهو ما يزل في سن الصبا.

ص: 22

فلا تمتهني - يا صاحبي - عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. . .

كامل محمود حبيب

ص: 23

‌طرائف من العصر المملوكي:

شعراء أميون

للأستاذ محمود رزق سليم

ما الأمية؟ وما مبلغ صلتها بالشعر؟

أول ما يطالعنا من معاني الأمية أنها الجهل بمبادئ القراءة والكتابة، اللذين هما مفتاح الثقافة، والطريق المؤدى إلى العالم. غير أننا نجد أحياناً أناساً ممن مهروا في القراءة والكتابة، ونالوا من العلم والثقافة حظاً، ينحدرون إلى جهالة جهلاء وضلالة عمياء، إذ لا يفرقون بين حق وباطل، ولا يميزون بين فضيلة ورذيلة، ولا يؤدون حق العلم عليهم بالترفيه عن قومهم، وبخدمة أوطانهم، أولئك والأميون سواء، بل أن بعضاً من الأميين الذين لم يمحصهم أدب، ولم يوقحهم تعليم، قد يكونون أسلم نية، وأطهر طوية، وأصدق عاطفة، وأعرف بأقدار الناس وحقوق الأوطان. وقد استعاضوا بالذكاء والتجربة عن أميتهم، ودرسوا علوم الحياة في مدرستها فتخرجوا فيها فضلاء يشاءون أولئك الذين أخرجتهم الكتابة من ربقة الجهل، وخلصتهم القراءة من حظيرة الأمية، ولكن لا تزال بنفوسهم من الجهل الأصيل علقة، ومن الأمية الراسخة لوثة.

وليس معنى ذلك أننا نتجنى على الكتابة والقراءة، ونضلع مع الأمية، ونحط من قدر الثقافة. كلا وحاشا: ولكننا نحبها جميعاً على أن تكون الطريق الموصلة إلى فهم الحق فهماً صحيحاً؛ وبلوغ الفضيلة بلوغاً كاملاً.

ويبدو أن هذا المعنى الذي نفهمه الآن عن الأمية، لم يكن معروفاً قبل أن تسلك الكتابة الخطية سبيلها إلى الانتشار والذيوع. فكان الأميون هم العامة لا الخاصة، والأوشاب لا الأشراف، والإمعات المغمورين لا الرؤساء المشهورين، ولهذا أطلق اليهود قديماً لفظ (الأميين) على عرب الجاهلية استهانة بأمرهم، وتحقيراً لشأنهم، حتى رفع الله هذا اللفظ وشرفه وكرمه، فنعت به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.

أما الشعر فهو فطرة موهوبة لأخلة مكسوبة، ولحن إلهي لا نغم تعليمي، تكسبه المقادير في نفوس جبلت منذ أزلها على أن تكون شاعرة، نفوس تتوثب عاطفاتها، وتتوقد احساساتها وتسجل عليها الأيام ما يطيب لها من جادثات بشرية ومشاعر إنسانية.

ص: 24

وتولد هذه النفوس أمية كسائر النفوس، فإذا خرجت عن أميتها ونزعت منزع الثقافة زادت حذقاً وفراهة، وأصبحت دانية إلى كمالها.

وقد أنجبت البشرية، وولدت قبل عهد الكتابة والقراءة، كثيراً من الشعراء. وشعراء العرب في العصر الجاهلي كانوا يمتون إلى هذه الأمية بأوشج الصلات. غير أن هذه الأمية لم تمنعهم أن يكونوا شعراء، ولم تمنع نفوسهم أن تتغنى بما تجيش به وأن يكون غناؤهما على جانب من الرونق والجودة والصدق والسمو، أستأهل إعجاب الأجيال، وأستحق أن يكون موضع دراسة، بل باباً من أبواب العلم والثقافة حتى اليوم. وقد أفادتهم - بلا ريب - زجاجة عقولهم وثقوب نظرهم وسمو تجاربهم، عوضاً عما عانوه من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة.

ويتبين لنا مما سبق أنه لا غضاضة على عصر - أدبي من عصور الكتابة والقراءة أن يكون من بين شعرائه قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون. بل العجيب حينذاك ألا تطرد طبيعة الأقدار وفطرة البشرية، فتقصر الشاعرية على قوم من المثقفين بالقراءة والكتابة، بدلاً من توزيعها على الناس والبيئات والطوائف بقسطاس مستقيم عادل، ما دامت الشاعرية فطرة موهوبة لا خلة مكسوبة - كما أشرنا -

وفي الحق أن الأقدار مطردة في طبيعتها، والبشرية متشابهة في عصور فطرتها، جارية على وثيرة واحدة، وتوزيع الموهبة قائم على العدالة منذ القديم. فلكل جيل شعراؤه، وكذلك لكل بيئة ولكل طائفة. لا تبالي الأقدار في توزيعها واختيارها بأن تخص من يقرءون ويكتبون بأوفر حظ من الموهبة، وأوفى نصيب، دون سواهم.

ومنذ ذلك العصر الذي وجدت فيه الكتابة الخطية سبيلها إلى الوجود والحياة والقوة والاستمرار، واتخذت منهجاً أولياً، تعليمياً، وللراغبين في العلم، والساعين إلى الثقافة، ومن ثم فرقت الناس إلى شطرين: عالم يقرأ ويكتب، وجاهل أمي لا يقرأ ولا يكتب. ومنذ ذلك العصر الذي تولدت فيه اللغات العلمية، وافترقت فيه لغة العامة عن لغة الخاصة. نقول: منذ العصرين المذكورين، والطبيعة سائرة على وتيرتها، مطردة في بابها، توزع موهبتها توزيعها العادل. ولهذا كثيراً ما ترى مخايل الشاعرية، ودلائل الفنية بادية في أوساط الأميين.

ص: 25

غير أن حرص أهل الفصحى ومؤرخيها عليها، وحفاظهم الشديد على سلامتها، نفرهم من الأمية والعامية، ومن أدبائهما، وشعرائهما. لا يلمون بحياتهم ونتاجهم إلا في حذر وإباء، وأنفة وكبرياء. ولهذا طغى عليهم سيل الحرمان، وسحب عليهم ذيل النسيان. فعاشوا نكرات مغمورة، وأغفالاً مهجورة. . .

وبعد فنحن لا ندري بالضبط، ما موقفنا من الشعراء العوام، وما رأينا في إنتاجهم الشعري؟ أنحمده لهم أم نجحده، ونشكره أم نكفره. وهل نغبط عصرهم عليهم أم نفمطه، ونهنئه بهم أم نعزيه؟. . .

وقد قلنا (الشعراء العوام) لا (شعراء العامة)، لأننا نقصد أولئك الأدباء، الذين شبوا أميين لم يتعلموا الكتابة والقراءة، ولذلك لم يسلكوا سبيلهم إلى المطالعة والبحث والتحصيل والدرس، ولكن غلبت عليهم حرفة الأدب، ونزعت بهم نازعة الشعر، فنظموا بالفصيحة السليمة شعراً قوياً بارعاً، ومشرقاً ساطعاً، يتضمن الجديد من المعنى، والمفيد من الرأي، والسلس من الحديث - فضلا عما نظموه من الشعر العامي.

فهل أمثال هؤلاء وصمة في جبين عصرهم؟ من حقنا أن نشوهه بهم، ونعيره بوجودهم؟ أم نعتبرهم حلية من حلاه، وزينة من زيناته، لأنهم استطاعوا على رغم عاميتهم وأميتهم، أن ينفذوا بفنهم وشاعريتهم، إلى الفصحى، فينظموا بها، ويصوغوا الأبيات مصقولة بصقالها؟.

هؤلاء كشعراء الجاهلية ولكن بفرق يسير. . . وهو أن شعراء الجاهلية كانوا يعيشون والفصحى سليقة في اللسان، تجري مع الخاطر مجرى الطباع. أما شعراؤنا العوام فقد عاشوا في بيئة عامية اختلطت لغاتها وتبلبلت لهجاتها، فكانت محرفة اللسان سقيمة البيان.

هكذا عاش عدد من الشعراء في العصر المملوكي. ولكنهم برغم هذا، قادتهم فطرتهم السليمة، وأذواقهم المصقولة، إلى أن يدلفوا إلى الفصيحة المعربة من، بابها ويعيشوا ردحاً في رحابها، وينظموا الأبيات الرائقة في جنابها. فوعت بطون الأسفار طرفاً من أخبارهم، وروت لمعامن أشعارهم، تنم عن فنهم وتدل عليه، كما نم الأرج عن الزهر، ودل الحرير على النهر.

وكان بعضهم يحكم عاميته، ينظم كذلك الأزجال، وما إليها؛ ولكنه يضرب في وديان من الظرف واللطف، ويفيض بألوان من السحر والبيان.

ص: 26

ونحن فيما يلي ننوه ببعض هؤلاء فمنهم:

الأمير بيبرس الفارقاني. كان من المعمرين، وتوفى عام 808هـ وأسس حماماً تجاه المدرسة البندقدارية. وكان من أهل الدين والصلاح. وله مشاركة في العلم. وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. ويزن الشعر بطبعه، وله شعر جيد باللغة الفصحى. ومن قوله في الغزل، وفيه تورية:

من لي بظبي غرير

باللحظ يسبي الممالك

إذا تبدي بليل

جلا سناه الحوالك

من حور رضوان أبهى

لكنه نجل مالك

روى ذلك ابن إياس في البدائع.

ومنهم ابن الربيع. وهو مجاهد بن سليمان بن مرهف ابن أبي الفتح المصري التميمي، ويعرف بالخياط. كان أديباً رقيقاً ويعتبر من كبار أدباء العوام. عاصر الشاعر المصري البارع أبا الحسين الجزار، والأديب ناصر الدين بن النقيب، وغيرهما من أدباء الحلبة الأولى في العصر المملوكي. وكانت بينه وبين كثير منهم مراسلات ومساجلات. وقد سل لسانه زمناً على الشاعر أبي الحسين الجزار، فهجاه وهجا شعره. ومن هجائه قوله:

أبا الحسين تأدب

ما الفخر بالشعر فخر

وما تبللت منه

بقطرة وهو بحر

وإن أنيت ببيت

وما لبيتك قدر

لم تأت بالبيت إلا

عليه للناس حكر

ومن شعره في التشوق والحنين، مخاطباً البرق:

أعد يا برق ذكر أهيل نجد

فإن لك اليد البيضاء عندي

أشيمك بارقاً فيضل عقلي

فوا عجباً تضل وأنت تهدي

ويبكيك السحاب وأنت ممن

تحمل بعض أشواقي ووعدي

بعثت مع النسيم لهم سلاماً

فما عطفوا عليَّ له برد

وقد توفي مجاهد عام 672هـ. وتحدث عنه صاحب فوات الوفيات.

ومنهم أيضاً شرف بن أسد المصري. قال عنه صاحب الفوات (شيخ ماجن متهتك ظريف

ص: 27

خليع، يصحب الكتاب، ويعاشر الندماء، ويشبب في المجالس على القيان). ونقل أيضاً عن صلاح الدين الصفدي قوله عن هذا الأديب، قال (رأيته غير مرة بالقاهرة وأنشدني كثيراً من البلاليق والأزجال والموشحات وغير ذلك. وكان عامياً مطبوعاً، قليل اللحن. يمتدح الأكابر ويستعطي الجوائز. وصنف عدة مصنفات في شاشات الخليج والزوائد التي للمصريين والنوادر والأمثال، ويخلط ذلك بأشعاره وهي موجودة بالقاهرة عند من كان يتردد إليهم.

وقد توفى ابن أسد المصري عام 738هـ.

ولم يرو له الصفدي شيئاً من شعره الفصيح. وروي له موشحه زجلية طريفة يخاطب بها شهر رمضان في دعابة وتفكه ويبدو أن رمضان إذ ذاك كان شديد الحرارة، فأثارت حرارته في الشاعر هذه الدعابة.

ومن لطيف ما رواه الصفدي لهذا الأديب العامي، مقامة منثورة مسجوعة، فيها فكاهة وفيها حوار بين أحد النحاة وأحد الأساكفة، يطلب فيها النحوي من الإسكافي نعلا، طفق ينعتها له، ويصف شروطها. فرد عليه الإسكافي رداً محنقاً ملأه بالكثير من الكلمات الغريبة.

ومما جاء في هذه المقامة، وصفاً للنعل على لسان النحوي قوله:(ظاهرها كالزعفران، وباطنها كشقائق النعمان. أخف من ريشة الطير، شديدة البأس على السير، طويلة الكعاب، عالية الأعتاب، لا يلحق بها التراب. ولا يعرفها ماء السحاب تصر صرير الباب، وتلمع كالسراب، وأديمها من غير جراب. جلدها من خالص جلود الماعز. ما لبسها ذليل إلا أفتخر بها وعز). الخ

ومن الشعراء الأميين أيضاً إبراهيم بن علي الحراني، ويعرف بعين بصل. كان حائكاً، وكان عامياً أمياً، نظم الشعر الفصيح في الغزل والوصف وغيرهما.

ومن غزلياته قوله من قصيدة:

جسمي بسقم جفوته قد أسقما

ريم بسهم لحاظه قلبي رمى

كالريح معتدل القوام مهفهف

مُرَّ الجفا لكنه حلو اللمى

رشأ أحل دمي الحرام وقد رأى

في شرعه وصلى الحلال محرما

رب الجمال بوصله وبهجره

القي وأصلي جنة وجهنما

ص: 28

وله قصيدة جيدة في وصف دمشق وجناتها يقول في مطلعها:

ولوع جلق للأوطار أوطان

وليس فيها من الندماء ندمان

كم لي مع الحب في أقطارها أرب

إذ نحن في ساحة الجيرون جيران

أيام تجرير أذيالي بها طرباً

ولي مكان له في السعد إمكان

إذ بت أنشد في غزلانها غزلا

لما عزت كبدي باللحظ غزلان

ومنها يقول:

قم يا نديمي إلى شرب المدام بها

من قبل يدرك بدر السعد نقصان

فأنت في جنة منها مزخرفة

وقد تلقاك بالرضوان رضوان

وأنت فيها عن اللذات في كسل

أنهض فما بلغ اللذات كسلان

أما ترى الأرض إذ أبكى السحاب بها

آذارها ضحكت إذ جاء نيسان

والزَّهر كالزُّهر حياه الحيا فبدت

في الروض منه إلى الأبصار ألوان

زمرد قضب فيها مركبة. . .

جواهر ويواقيت ومرجان. الخ

ومن يقرأ هذه القصيدة بتمامها، يستروح فيها أنساماً من قصيدة أمير الشعراء شوقي بك في وصف دمشق؛ ولا سيما أن القصيدتين من بحر واحد وروي واحد.

هذا، ويقول صاحب فوات الوفيات: أن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان (المتوفى عام 681هـ) - كان قد قصد هذا الشاعر، واستنشده من شعره فقال له: أما القديم فلا يليق وأما نظم الوقت الحاضر، فنعم. وأنشده:

وما كل وقت فيه يسمح خاطري

بنظم قريض رائق اللفظ والمعنى

وهل يقتضي الشرع الشريف تيمماً

بترب وهذا البحر يا صاحبي معنا

ومن الأميين أيضاً: ذلك الأديب الشاعر الرقيق صاحب البيتين المشهورين:

قد بلينا بأمير

ظلم الناس وسبح

فهو كالجزار فينا

يذكر الله ويذبح

ذلك الشاعر هو إبراهيم المعمار. قال عنه صاحب الدرر الكامنة: شاعر مشهور عامي، لكنه ذكي الفطرة، قوي القريحة، لطيف الطبع ولم يتمدح بأحد. وقال إنه مات عام 749هـ.

ص: 29

وبمناسبة ذكر عام وفاته، نشير إلى أن المؤرخين اختلفوا فيه والذي يبدو لنا أنه من شعراء النصف الأول من القرن الثامن.

وقد نظم الشعر في أغراض كثيرة منها: النقد، والفكاهة، والغزل والمجون والخمريات والوصف. وقد اصطنع البديع وبخاصة التورية. وكان سلس الأسلوب، واضح المعاني؛ غير أن له أخطاء لغوية أحياناً.

وإلى جانب شعره الفصيح، نظم الزجل والمواليا، في نفس الأغراض الشعرية التي طرقها.

ومن شعره قوله؛ وفيه اقتباس:

قال لي العاذلون أنحلك الحب

وأصبحت في السقام فريدا

أئذا صرت من جفاهم عظاما

أبوصل تعود خلقاً جديداً

ما رأينا ولا سمعنا بهذا

قلت كونوا حجارة أو حديداً

ومنه وفيه تورية:

يا قلب صبراً على الفراق ولو

روعت ممن تحب بالبين

وأنت يا دمع إن ظهرت بما

يخفيه قلبي سقطت من عيني

وبعد فهؤلاء خمسة شعراء أميين لا يقرءون ولا يكتبون، جاد بهم عصر المماليك، فجادوا الناس بالبديع الممتع من الشعر، فلا أقل من أن نذكرهم بالحمد والشكران بدل الذم والنسيان.

حلوان

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 30

‌فزان بين يدي الفرنسيين والطليان

للأستاذ أحمد رمزي بك

(تتمة)

احتلال فرنسا:

في سنة 1940 وقبيل عقد الهدنة بين فرنسا وألمانيا دعت الحكومة الفرنسية الجنرال والقائد العظيم فيجان لتولي القيادة العامة وسد ثغرة سيدان، لقد تحطمت الجبهة واندكت حصون خط ماجينو في الشمال والزحف الألماني لا يقف وراديو برلين يصيح (لو بعث نابليون من قبره، لما كان في وسعه أن يغير القدر المحتوم) لقد هزمت فرنسا وتمزقت جيوش الجمهورية.

وكنت جاراً للجنرال كابو وقد زالت الكلفة بيننا وفي عصر أحد الأيام دعاني لمنزله وقال لي إنه يغادر البلاد الليلة إلى مصر فالسودان فأفريقيا الغربية فمراكش إلى فرنسا، وذلك بناء على دعوة فيجان الذي طلب إليه أن ينضم إلى هيئة أركان الجيش الفرنسي، إذن يجب أن يكون بجبهة القتال قبل أربعة أيام قلت (إنكم تنتظرون قرارات حاسمة لإيقاف هذا الزحف المستمر) قال:(إن إنقاذ فرنسا يحتاج إلى معجزة). أن ذكر أربعة أيام للوصول إلى فرنسا هي التي لفتت نظري، فهذا القائد يغادر بيروت إلى القاهرة ومنها إلى الخرطوم ومنها إلى واداي ومنها إلى بحيرة نشاد ثم تمبو كتو ومنها إلى وسط الصحراء ثم الدار البيضاء ليصل في أربعة أيام إلى فرنسا (التي كان بوسعه أن يصلها في ساعات).

هذا الموقف الحاسم في استراتيجية البحر المتوسط سببه دخول إيطاليا الحرب تلك الدولة التي تملك من المراكز ما يمكنها من أن تشل حركة الحلفاء جميعاً وتجعل من البحر قسمين وتدخل في صميم القارة الأفريقية بقطاع يهدد أملاك إمبراطوريتين.

ومن هذا نفهم أول مبرر يدفع الفرنسيين للتمسك بأقليم فزان على أساس أنه على الطريق الجوي بين مدغشقر وفرنسا.

وحينما عقدت الهدنة ظهرت حركة الفرنسيين الأحرار التي ترأسها الجنرال ديجول أخذ يسعى إلى جمع شمل الإمبراطورية تحت لوائه فكان أول من أنضم إليه الجنرال كاترو

ص: 31

بالهند الصينية ولكن موقف اليابان حال دون استمراره فغادرها واتجهت الأنظار إلى منطقة قريبة فكان الكنغو الفرنسي أول المقاطعات التي انضمت إلى الحركة والغريب أن الظروف تركت هنالك حاكماً وطنياً من الشعوب الملونة وهو الذي توفى قبل نهاية الحرب بالقاهرة وكان أمل فرنسا يستهدف أن تحتفظ بمكان لها على مائدة الحلفاء، ولذلك تغير اسم فرنسا الحرة إلى فرنسا المقاتلة وحاول الجنرال ديجول مراراً أن يسمح له بالجلوس مع روزفلت وستالين وتشرشل، وكان الأولان يعترضان على وجود فرنسا لأنها سلمت ولم تحارب ولذلك اتجهت إرادة فرنسا الحرة إلى تحمل أعباء قتال في أي جهة وكان أن سمعنا بفراق من المتطوعين وجنود المستعمرات تحارب في صف البريطانيين وبين أيدينا في سوريا ولبنان ذكريات ضباط البر والبحر والجو الذي كانوا يخترقون حدود فلسطين للانضمام إلى قوات فرنسا المحاربة، وكان أن ظهرت قوات في ميدان سوريا ولبنان، ثم في الحدود المصرية في بير حكيم حين استبسلت قوة فرنسية أمام قوات تفوقها عدداً عن جنود المحور.

إلا أن العملية الحربية المنفصة والمستقلة تماماً عن بقية جيوش الحلفاء هي العملية التي تولتها فرنسا المقاتلة بزحفها من بحيرات تشاد عبر الصحراء الكبرى وانتهت إلى فزان وهي من أعظم حركات حروب البادية.

ولقد كان رأي فرنسا في الحكم الإيطالي يختلف تماماً عن رأيها اليوم وإليك الدليل من نشرة رسمية لحكومة الفرنسيين الأحرار وسأقرأها بالفرنسية:

كانت مقدمة هذه الحركة. عملية من أخطر العمليات التي مرت في تاريخ حروب البادية ولكنها أشبه بحركة كشفية منها بعملية حربية. فقد قام من الجانب الفرنسي ضابط أسمه جان كولوتا دورنافو من ضباط قوات البادية الفرنسيين واشتركت معه ضابطان بريطانيان اجتمعا في القطاع الجنوبي حيث تلتقي الحدود بين المستعمرات الإيطالية والفرنسية وحدود السودان وكان هذا في 4 يناير سنة 1941 وفي11 يناير تمكنت هذه القوة المخاطرة من تدمير مطار مرزوق والسودة بعد أن ظل الضابط الفرنسي كولوتا دورتانو تحت وابل رصاص الطليان. وتعرضت بعد هذه الحملة واحة كفرة والجزء الجنوبي من فزان لعدة هجمات سنة 1942 وفي أوائل سنة 1943 زحفت قوة الجنرال الفرنسي من الجنوب

ص: 32

وأهم أغراضها احتلال فزان وتحريرها وكان مركز التجمع ثم وأتت المؤن والذخائر وبالسيارات من برازافيل، وكانت القوة الزاحفة عددها 738 ضابطاً ورجلاً.

وقد اختير موعد الزحف بين شهري نوفمبر وفبراير وفي 25 ديسمبر أذيع أول بلاغ عن العملية يتضمن دخول القوة في يوم 22 ديسمبر 1942 أراضي فزان، وفي 30 ديسمبر احتلت أم الأرانب بعد مناوشات مع قوة إيطالية وسلم عشرة من الضباط وأكثر من مائتي جندي وطني وفي الوقت نفسه سلمت البطرون ثم سبها وفي 12 يناير سلمت مرزوق.

كان الاستعداد لهذه العملية كامل من جميع الوجوه وجاءت في الوقت المناسب الذي كان الحلفاء يدفعون بجيوش المحور إلى الحدود التونسية، ولذلك تمكنت الحملة الفرنسية بعد احتلال فزان أن دخلت طرابلس في 25 يناير، واحتلت في 26 يناير سنة 1943 غد أمس.

وقد اشتركت القوات الهوائية الفرنسية وأبلت في المعارك بلاء حسناً، ولكن عظمة الحملة فهي في تنظيمها وسيرها وأنها حركة مفاجأة رغم أن الحرب التي واجهت الحملة هي حرب مع الطبيعة أكثر من أنها حرب مع الطليان، وقد دلت عمليات الصحراء من 1941 إلى 1943 على أن قيادة الحلفاء كانت تحسب حساباً للمطارات الإيطالية في الكفرة وفي مرزوق، وقد ذكر الفرنسيون أنهم وجدوا في مطار الكفرة البريد السري الذي كان يرسله حاكم جيبوتي التابع لحكومة فيشي مما يدل على أن مطارات الصحراء كانت تسمح باتصال الإيطاليين بأثيوبيا مع دولتي المحور.

هذه هي العمليات التي أدت إلى دخول الفرنسيين وهي بطبيعتها مكملة لحركات الحلفاء في شمال أفريقيا، ولقد كانت الأهداف تبدو مستعصية وبعيدة عن التحقيق لو كانت مستقلة تماماً ولكنها كعملية للحروب الاستعمارية الصحراوية تستدعي أن تقف قليلاً لنتحدث عن الصحراء.

حروب الصحراء:

للصحراء روعة تحدث عنها الكثيرون من أهل أوربا من رجال الجندية وغيرها. فحافتها تمثل في نظرهم حدود بحر متسع من الرمال يدعو الواقف على شاطئه أن يركب الأخطار فيكتشف فيها ما وراء الأفق أو هي قطعة من عمل الطبيعة تتحدى الإنسان - أقصد

ص: 33

الإنسان الواعي - وتدعوه أن يقدم عليها ويواجهها وينازلها ليكتشف ما تخفيه في أنحائها.

ولذلك كثر عدد الرواد وانتهى الأمر إلى أن أصبح للصحراء حروب ومعارك وأنظمة علق عليها المستعمرون أهمية خاصة. وكان من أهم مظاهرها وفوائدها أنها تخلق تلك الفئة الممتازة من الرجال الذين تخرجهم مدارس الحروب الأفريقية والأسيوية بتجاربها القاسية. ويعد أفراد هذه الفئة ذخراً لا يقدر بثمن للبلاد التي تملك المستعمرات الشاسعة البعيدة عن العمران والتي يحتاج استتباب الأمن فيها إلى القيام بحملات دائمة ومستمرة ضد أهالي وسكان البلاد الوطنين الذين يحدثون أنفسهم بالدفاع عن أوطانهم.

فلكي يكون لدينا مثل هذه الفئة الممتازة لنرد العدوان وشره، يجب أن ندفع بعدد من رجالنا دائماً إلى الأخطار فإن لم تكن لدينا حروب وجب أن نشجع هذا الفريق أن يتطوع خارج البلاد وأن يشترك في أية حروب قائمة بصرف النظر عن ميلنا لهذا الفريق أو ذاك من المتحاربين. إنما يكون غرضنا الأساسي الحصول على تجارب كل فريق وأساليبه في القتال متجهين إلى تربية روح المغامرة في النفوس.

من هذه المدرسة تخرج قواد المستعمرين الذين قادوا الحروب في أوربا وكانوا قوة للبلاد التي ينتمون إليها ذلك لأن وجودهم في جو يدعو إلى تحمل المتاعب ومواجهة الأخطار وأخذ المسئوليات بثقة في النفس يخلق فيهم صفات ممتازة أهمها الجرأة على الوقوف أمام عقبات تبدو مستعصية ووسط ظروف تعد خطيرة ثم تعويد النفس على أحد القرارات السريعة الحاسمة وتنفيذها وهي صفات تبدو في كثير من الأمم وكأنها قد فقدتها مع اليوم الذي فقدت استقلالها فيه.

وليس معنا هذا أننا معاشر الشعوب الإسلامية في تاريخنا الطويل المملوء بالحروب المتتالية سواء في آسيا أو أفريقيا لم تذق طعم الانتصار وحلاوته، بال كان لدينا من هذه الفئة الممتازة كثيرون، ومنهم من لا يمكن مقارنته بغيرهم من الرجال الأوربيين نظراً لتفوقه ومنهم لا يقل في صفاته عنهم.

ولقد كان من أسلافنا من قادوا الحملات عبر الصحراء عدة مرات ودانت لهم القارة الأفريقية بحسب الأساليب التي كانت متبعة في عصرهم فهناك حملات من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء الكبرى وحملات من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الغرب قام

ص: 34

بها أسلافنا من المرابطين والموحدين على شكل أوسع وأعظم مما يفتخر به قواد المستعمرين من الإيطاليين والفرنسيين. ولكننا اليوم مضطرون أن نأخذ من الغرب وأن نتتبع خطواته، وأن ندرس هذه الحملات ونقلدها حتى أساليب القتال على أراضينا وأوطننا.

بعد مضي سبعين عاماً على حملة فرنسا التي ساقتها على الجزائر أي في سنة 1900 احتلت القوات الفرنسية المقيمة في جنوب الجزائر واحة عين صلاح، وكان هذا الاحتلال بمثابة فتح جديد قابله العالم بدهشة زائدة ذلك لأن فرنسا فاجأت العالم بإنشاء قوة عسكرية جديدة للبادية يرجع الفضل في تدريبها وتهيئتها إلى المأجور لابرين فهذه القوه أشار إليها جراتزياني في كتابه عن إخضاع ليبيا وقال إن إيطاليا أدخلت هذا النظام لديها وزادت عليه فتولى قيادة رجال البادية الدوق داوستي الذي أخذ هذا العمل بجد ولا أزال أذكر حديثه عن الأيام التي قضاها وسط الصحراء وكيف أنه كان يعبر عن حنينه الدائم وهو في أربا عن أيامه في تلك البقاع.

والتكلم عن قوات البادية وتنظيمها لا بد أن يذكر العمل الذي قام به المأجور جلوب باشا المسمى بأبي حنبك في بادية الشام، فهذه وإن كانت بعيدة عن فزان إلا أنها نوع من أعمال الأوربيين يستحق اهتمام أولي الأمر وتفكيرهم.

ماذا نستخلص من محاضرة فزان:

أولا: اهتمام الدول الأوربية بالصحراء الأفريقية مما يتطلب ضرورة التعجيل بإنشاء معهد الصحراء لدراسة مستقبل الصحاري في بلادنا وفي القارة الأفريقية وفي أسيا خصوصاً جزيرة العرب.

ثانياً: اهتمام الدول الاستعمارية بطرق المواصلات عبر الصحراء وهي مواصلات برية وهوائية.

فالأولى ستعود بنا إلى طرق القوافل القديمة فعلينا أن نستعد من الآن على دراسة هذه الطرق ورسمها على الخرائط ثم العمل على إعادتها واكتشاف مواقع المياه فيها، أما الطرق الهوائية فأول واجب يحتم علينا إنشاء مطارات حديثة في مناطق الواحات المصرية حتى تكون دائماً على استعداد للمساهمة مع الآخرين في تعمير الصحراء.

ص: 35

يسير العالم بخطوات سريعة نحو توطيد سيطرة الدول الأوربية مرة أخرى على المشارق والمغارب، ومشكلة فزان إحدى المشاكل المرتبطة بمستقبل ليبيا، وقد ظهر للعيان كيف تطورت السياسة العامة بالنسبة لإيطاليا فهي قد كانت تقبل منذ سنتين مساعدات الدول العربية بأصواتها لاستعادة إرتريا والصومال في مقابل الاعتراف باستقلال ليبيا كاملاً، أما اليوم فلا أدرى هل تقبل ذلك؟

من الناحية الفرنسية يبدو لنا أن فرنسا تحاول أن تعمل على إعادة نفوذ إيطاليا كاملاً، وفي هذه الحالة هل تسلمها حدودها القديمة أم تقتطع فزان، وإذا سلمت لها بفزان هل تحتفظ بـ 100 ، 000 كيلو متراً من الأراضي التي سلمها لافال إلى موسوليني؟ وما هو موقف الإنجلو أمريكان؟

إن موقفهم يتلخص في الاحتفاظ بالمراكز الاستراتيجية.

ولا يوجد شك في أن بريطانيا لها مراكزها في برقة كما لا يوجد شك في أن أمريكا لها مراكزها في طرابلس.

في مصلحة من استقلال ليبيا موحدة. .

هذا ما تمليه تطورات السياسة العالمية ومقدار الثقة التي يحصل عليها أهل ليبيا وبرقة أنفسهم.

أما أهل فزان فداخل السور الحديدي أسلاك شائكة وجنود السنغال، مثلهم كمثل ملايين من بني آدم لا يتمتعون بما يسمى حقوق الإنسان: تحرمهم منها أمم كانت هي أول من نادى بحرمة حقوق الإنسان.

أحمد رمزي

ص: 36

‌رسالة العلم

انفعال الجو الأرضي من السفع الشمسية

لماذا اضطرب الراديو في العالم؟

للأستاذ نقولا الحداد

في الخامس من هذا الشهر اضطربت الإذاعات اللاسلكية في العالم من الصباح حتى الساعة الأولى بعد الظهر فلم يعد أحد يسمع إذاعة واضحة كأن البحر الأثيري التج وأمواجه هاجت فضرب بعضها بعضاً والتطمت لججه. وكانت الإذاعات اللاسلكية يطغي بعضها على بعض، فلم يعد أحد يفهم كلاماً أو يميز نغماً إلى أن أذاع راديو لندن:(نأسف أن إذاعاتنا لم تنتظم اليوم بسبب اضطراب صاخب في قرص الشمس).

ذلك لأن براكين السفع الشمسية هاجت متجاوزة حد هياجها المعتاد. فأثرت مغنطيسيتها في مغنطيسية الأرض وكهربائيتها في كهربائية هذه وقلقلت إيجابيتها وسلبيتها وعكست اتجاهاتها فاضطربت إبرة الحك بحيث لم يعد الملاح يعرف يمينه وشماله واتجاهه القويم وانتفضت كهربائية الشمس فصادمت كهربائية الأرض واضطربت ميزانها. وبالإجمال يقال أنه لم يبق اعتدال كهربائي أو اعتدال مغنطيسي على الأرض.

وقد لاحظ العالم الإنساني كله أن شتاء هذا العام كان صارماً جداً وبرده كان قارصاً وثلجه ومطره متدفقين. وفي أوائل هذا الشهر (إبريل)، ونحن الآن في الربيع، كان الطقس قاسياً حتى أنه كان في الخامس عشر منه كأنه طقس يناير. فعاد الناس يرتدون المعاطف الثقيلة بعد أن خلعوها.

هذه تأثيرات الشمس على الأرض حين تثور السفع الشمسية وتهيج براكينها كأن الشمس غضبت فانقضت صواعق غضبها على أولادها السيارات وأقمارها ومن جملتها الأرض وما الأرض بأعز عندها من سائر الكواكب، إلا إذا كانت الشمس قد استائت من هذه الفتاة المدللة من بين فتياتها الأخريات لما بدا من أخلاق أهل الأرض الجهنمية فاختصتها بهذه النقمة.

أما هذه السفع فهي بقاع على سطح الشمس تكثر أو تقل بلا ميعاد مقرر، ولا قرار معين.

ص: 37

وإنما تكثر إلى ناحيتي القطبين وتقل جداً عند خط الاستواء. والبقعة الشمسية تكبر أو تصغر بلا سبب معروف. فقطر الواحدة يختلف بين بضعة عشر ميلاً إلى 50 ألف ميل وأكثر. والظاهر أنه كان من سفع هذا العام أو هذا الشهر سفع ضخمة جداً سببت هذا الاضطراب في الجو المتيورولوجي الأرضي.

والسفع الشمسية كمعظم الظاهرات الشمسية غامضة لم يتفق العلماء حتى الآن على تفاسير مقنعة لها. ولهم فيها نظريات مختلفة ومعظمها ظنون وتخمينات.

وأكثرهم يرجحون نظرية العلامة (هايل) الذي اشتغل كثيراً في دراسة الظاهرات الشمسية وتعليلها. وهذا ملخص نظريته السفعة هي في الظاهر بقعة قائمة في الشمس وسطها ظل ثقيل ومن حوله ظليل خفيف. وتحيط بها بقع ساطعة. ولدى التدقيق في رصدها من مرصد قوي تبدو كأنها بركان هائج. وشكلها كشكل القمع - القمع الذي يسكب فيه الماء إلى القارورة - منفرج كثيراً في خارجه. وهو قائم في الجو الشمسي الخارجي المسمى (فوتوسفير). وأنبوبته تتدلى إلى ما تحت الفوتوسفير. ولما يقذف منه من غاز يظهر بشكل (بالوعة) أي دوامة أو (دردور) وسرعة دوران هذا الدردور هي في الغالب مرافقة لأصل المجال المغنطيسي الذي في الشمس. هي بالوعة فوارة لا بلاعة والغالب أن دورانها لولبي. ثم أن الغازات المتصاعدة منها تحمل معها كثيراً من الذرات المكهربة ومنها تتدفق التيارات الكهرطيسية.

وقد أثبت التحقيق أن التيارات التي تتصاعد من السفعة الواحدة، وهي لا تزال في الجوف، إنما هي منخفضة الحرارة عن معدل حرارة سطع الشمس الذي هو ستة آلاف درجة من مقياس سنتيغراد. وحرارة تلك الغازات المتصاعدة لا تتجاوز ألفي درجة سنتيغراد. إذن فلا بدع أن يكون تعدد السفع وتضخمها سبب هبوط الحرارة على سطح الأرض وتساقط الأمطار.

ولا يزال هبوط الحرارة هناك مجهول السبب، على أنها صاعدة من بيئة أشد حرارة من السطح.

والراجح أن المجال المغنطيسي في الشمس ذو صلة بدوران الشمس المحوري. وفي رأي أحد العلماء أن الدردور (أو الدوامة) الأصيل ممتد تحت سطح الشمس على عمق عميق

ص: 38

امتداداً أفقياً، ولعله يمتد في دائرة حول باطن الشمس، وأحياناً يلتوي إلى سطحها حيث يطلق من هناك مقادير عظيمة من طاقته. وهذا ما يفسر انطلاق الغاز من نصفي الكرة الشمسية على مقربة من القطبين مدة أسابيع، وهو يعلل ظهور السفع ثم انطفاءها هنا فهناك حيناً بعد حين من غير مواعيد أكيد ة. وكذلك يعلل نشاط السفع في اتجاهها نحو خط الاستواء الشمسي.

وقد ظهر من مباحث (هايل) أن للشمس مجالاً مغنطيسياً مشابهاً جدا للمجال الأرضي. والقطب الشمالي المغنطيسي كزميله في الأرض. وهو قريب جداً لقطب الدوران الشمالي ولكنه غير مطابق له تمام المطابقة.

وقد لوحظ جيداً أن التغيرات حتى الطفيفة في المحور المغنطيسي تنبثق من الأرض أو ترد إليها بفعل دوران الشمس المحوري. وقد رئي أن القطب المغنطيسي منحرف 4 درجات عن قطب الدوران. وأن ذاك يدور حول هذا في 31 يوماً ونصف اليوم. ومقدار حدته المغنطيسية الشمسية مائة ضعف حدتها الأرضية.

هذه السفع تنشأ في نصفي الكرة الشمسية وكل من الجانبين ضد الآخر في الإيجابية والسلبية. ومتى بلغت أشدها في الضخامة ظهرت الاضطرابات المغنطيسية والكهربائية في الشمس وبالتالي على الأرض.

مدة حياة السفعة الواحدة من يوم إلى 4 أيام للسفع الصغيرة. وأما السفع الكبيرة فقد تطول حياتها أياماً وأسابيع وأشهراً حتى 18 شهراً أحياناً.

ولما كانت السفعة كالدردور أي كالبالوعة تدور على نفسها حول محورها دورة لولبية، فهي ترحل ولو ببطيء نحو خط الاستواء الشمسي أو من الشرق إلى الغرب أو بالعكس، والصغيرة منها أسرع من الكبيرة.

أما أقطار هذه السفع فمتفاوتة من 50 ميلاً إلى 40000 و50000 (من أربعين إلى خمسين ألفاً) وأحياناً تبلغ إلى 150 ألف ميل، وهذا نادر. فطبيعي إذن في هذه الحالة أن يكون تأثيرها على الأرض شديداً جداً. ولا بدع أن تختل الإذاعات اللاسلكية، وأن نرى سفعة كهذه رأي العين عند الغياب، أو من وراء زجاجة مموهة بالسواد، أو إذا كان الجو الأرضي غائماً قليلاً شفافاً. ولا يستغرب القارئ هذا الكبر إذا علم أن حجم الشمس مليون

ص: 39

و300 ألف مرة كحجم الأرض، وسعة سطح الشمس 13 ألف مرة كسعة سطح الأرض. وإذا وضعنا الكرة الأرضية في السفعة الكبيرة غرقت فيها وبقي حولها فراغ كبير.

أما سبب ظهور هذه السفع فلا يزال مجهولاً، وقد ظن أن للكواكب السيارة والرجم تأثيراً في الشمس ولا سيما حين تتقارب بعض السيارات على جانب واحد من الشمس، ويخرج قطب محورها أو يزوغ عن موضعه. ولكن هذا الظن لم يصادف تحبيذاً من جميع العلماء، وإنما يقال بالإجمال في هذا الموضوع أن الطاقة في باطن الشمس حيث الضغط شديد تتفلت هنا وهناك كأن الشمس تتنفس الصعداء لكي تسري عن نفسها، فتنفجر الطاقة كانفجار البراكين، وتظهر السفع بشكل فوهة البركان المنفرجة وتشرع تتسع كاتساع البالوعة التي تدور دوراناً لولبياً، وتتسع وتتسع حتى تبلغ عشرات ثم مئات الألوف من الأميال، وهي تتحرك متجهة إلى خط الاستواء الشمسي. وحين تنشأ السفعة على مقربة من القطب الشمالي تنشأ أخت لها على مقربة من القطب الجنوبي.

ومتى صارت كل منهما تدنو من خط الاستواء تشرع تصغر وتتقلص حتى تتلاشى تماماً، ويندر أن تعبر خط الاستواء، ومتى تقاربت السفعتان إلى خط الاستواء تتفانيان متنافيتين تنافي الإيجابية والسلبية.

وجماعات السفع في إبان تضخمها ترى في متوسط كل من نصفي الكرة الشمسية كنطاقين حول الشمس يحزمان نصفيها.

تنشأ السفع هكذا قليلة أو كثيرة، وتتضخم وتترحل من عند القطبين إلى الاستواء على طول السنة عاماً بعد عام، وتبلغ في بعض الأعوام أشدها. وقد لوحظ أن شدتها دورية، كل إحدى عشر سنة تقريباً تحتد مرة احتداداً فائقاً، كما حدث في هذا العام وفي هذا الفصل. وبعد ذلك تخف هذه الحدة رويداً رويداً إلى أن تبلغ درجة التراخي والخمود أو الهمود.

بناء على هذا بعد 11 سنة تقريباً سيرى سكان الأرض غالباً اشتداد البرد في مثل هذا الفصل، واختلاط اللاسلكي، واضطراب الجو على العموم.

نقولا الحداد

2 شارع البورصة الجديدة بالقاهرة

ص: 40

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

مع الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى:

أخي الأستاذ

أملي الدكتور طه حسين بك في كتابه (الفتنة الكبرى) الجزء الأول الآراء الثلاثة التالية:

1 -

(وسيرى الذين يقرءون هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهم وقام من دونهم. وأن غير عثمان لولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيها عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن) ص 5.

2 -

(هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها أو أثيرت أيام عثمان - لا لأن عثمان كان هو الخليفة - بل لأن الوقت قد أن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه وليثير الناس بعضها الآخر) ص 9.

3 -

(ولكن لو سار عثمان سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس لما كانت الفتنة. ولما احتجنا إلى إملاء هذا الكتاب) ص 156.

وإنني لأرى من ظاهر هذه الآراء تضاربها الواضح عندما يحاول الدكتور تركيز رأيه في أسباب الفتنة ومشكلاتها. فأرجو من الأستاذ المعداوي أن ييسر لنا الأمر ويوضح ما أراده الدكتور ويدلنا على الحقيقة التاريخية في هذا الحدث المهم في الحياة الإسلامية. . . ودمتم عوناً لمحبي المعرفة وطالبي الثقافة الصحيحة.

حسين حسن

معلم المدرسة الغربية

العراق الناصرية

أشكر للأستاذ الفاضل حسن ظنه، وأجيبه بأن هذا التناقض الذي يبدو له من ظاهر هذه الآراء مرجعه إلى أنها تقف وحدها في رسالته الكريمة، دون أن ترتبط بما حولها من شروح وملاحظات تتناول أسباب الفتنة ودواعيها. . . ولو ربط الأستاذ بينها وبين ما سبقها وجاء بعدها من تحليل لمقدمات الفتنة ونتائجها لا ننفي التناقض الذي يبدو له من

ص: 42

ظاهر الألفاظ فيما كتب الدكتور طه حسين؛ هذه الألفاظ التي تحتفظ بدلالتها المعنوية إذا ما طبقت على ما جاء بكتاب (الفتنة الكبرى) من تفسير لمجرى الحوادث ووقائع التاريخ.

يشير الدكتور طه في الرأي الأول إلى أن غير عثمان لو ولى خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيما عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ثم يشير في الرأي الثالث إلى أن عثمان لو سار سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس لما وقعت الفتنة. . . وقد يبدو هنا شيء من التناقض بين الرأيين؛ لأن كلمة (غير عثمان) في الرأي الأول قد تنصرف إلى غيره من صحابة الرسول وفيهم عمر بن الخطاب؛ ولأن الدكتور قد قطع في الرأي الثالث بأن عثمان لو سلك مسلك عمر في معالجة الأمور لما وقعت الفتنة على هذا الوجه الذي وقعت عليه. الواقع أنه لا تناقض هناك ولا شذوذ؛ لأن الدكتور يقصد من وراء (غير عثمان) أولئك الذين رشحوا للخلافة بعد مقتل عمر وكان من الممكن أن يليها أحدهم لو لم يقع الاختيار على عثمان. . . فلو وليها علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص أو طلحة بن عبيد الله أو الزبير بن العوام لتعرض كل واحد منهم لمثل ما تعرض له عثمان من ضروب السخط وصنوف الكيد وفنون الوقيعة! كل ما حدث هو أن عثمان رضي الله عنه قد عجل بوقوع الفتنة بضعفه وتسامحه وقلة خبرته بشئون السياسة وأصول الحكم وطبائع النفوس، ولو قدر لغيره من هؤلاء الذين أتينا على ذكرهم أن يأخذ الأمور بشيء من الحزم والعنف لأبطأت الفتنة في سيرها بعض الإبطاء ولتأخرت النهاية عن موعدها بعض التأخير، ولكن هذا كله لم يكن ليحول بينهم جميعاً وبين هذا المآل الذي كان بالنسبة إلى عثمان خاتمة المطاف.

هذا التفسير المقبول يمكن أن نعالج به الشق الأول من الرأي الثاني حين يقول الدكتور طه حسين بأن هذه المشكلات التي ثارت من نفسها أو أثيرت أيام عثمان - لا لأن عثمان كان هو الخليفة - بل لأن الوقت كان قد أن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه وليثير الناس بعضها الآخر. . . أقول الشق الأول من هذا الرأي لأننا لا نستطيع أن نبرئ عثمان من هذه المشكلات التي أثيرت وكان لطبيعته النفسية والخلقية في إثارتها أكبر أثر وأوفى نصيب. أما تلك المشكلات الأخرى التي ثارت من تلقاء نفسها فأوافق الدكتور طه على أنها

ص: 43

لم تثر لأن عثمان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان هو السبب الأول والدافع الأصيل إلى بعثها وإثارتها بعد أن كتمت أنفاسها يد عمر، وأخمد صوتها حزم عمر وحد من جموحها سوط عمر. . . يوم أن كان يدوي فوق الرءوس ويلهب الأجساد!.

بعض المشكلات أثاره الوقت ولم يكن لعثمان يد فيه وبعضها الآخر أثاره عثمان (الخليفة) بضعفه وتسامحه واستسلامه لذوي قرباه. . . أقول هذا لأن هناك كتاباً عن (عثمان بن عفان) يطمس حقائق التاريخ حين ينظر صاحبه إلى الفتنة ودواعيها من وراء هذا المنظار الديني الساذج الذي يظهر له عثمان فوق مستوى الشبهات والتبعات! ما هكذا تعالج القضايا التاريخية بوضعها فوق مشرحة العواطف الدينية؛ إننا لا نستطيع أن نضع على أعيننا هذا المنظار إلا إذا استطعنا أن نلغي العقل والمنطق حين نتحدث عن هذه الفتنة الكبرى دون أن نقدم النتائج مستندة إلى المقدمات. . . موقف عثمان من مقتل الهرمزان، تدليله لقرابته، إنصافه المنتمين إليه على حساب الناس، عزله ابن أبي وقاص عن الكوفة ليحل محله الوليد بن عقبة، إقصاؤه أبا موسى الأشعري عن البصرة ليضع في مكانه عبد الله بن عامر، خلعه عمرو بن العاص عن مصر ليخلفه فيها عبد الله بن أبي سرح، إيثاره الحكم بن العاص طريد الرسول، إغداقه المال على مروان بن الحكم صفيه المقرب، خضوعه لتوجيهات معاوية في نفي أبي ذر، اعتدائه أو اعتداء رسوله على عمار بن ياسر. . . كل هذه الأمور وأشباهها قد فرقت الشمل وعصفت بالصفوف، لأن عثمان كان هو الخليفة، ولئن كان السخط قد ولد في النفوس هذا الانفجار، فلأن عثمان قد شارك في الأمر بضعف رأيه وقصور نظره وسقوط هيبته!

أما المشكلة الكبرى التي أثارها الوقت ولم يكن لعثمان فيها ذنب ولا جريرة، فهي أتساع رقعة الفتوح، وتدفق الأموال، وانطلاق الأرستقراطية القرشية من معاقلها انطلاق الأسود السجينة قد تخلت عن زجرها قبضة السجان. ولم تكن القبضة الجبارة غير قبضة الجبار العادل عمر بن الخطاب لقد كان عمر يقف أبداً في طريق هذه الأرستقراطية التي لا يصدها جشع ولا يحدها طموح، لأنه كان أخبر الناس بالطبيعة القرشية إذا ما خلي بينها وبين ما تطمح إليه من سؤدد وما تطمح فيه من سلطان. . . الدرة في يمينه تخشع لرؤيتها رءوس السادة من قريش والكلمة تحت لسانه تخضع لسطوتها نفوس السادة من قريش: (ألا

ص: 44

إن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، أني قائم دون شعب الحرة أخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار)!

ولكن عمر يموت وتتنفس قريش بملء رئتيها بعد أن لقيت العواطف المكبوتة ما لقيت من قسوة الكبت ومرارة الحرمان، وما كان لرجل غير عمر أن يقف في وجه هذه القوة المتحفزة للتوثب والانطلاق في غير حكمة ولا روبة ولا اتزان. . . لا هذا الخليفة المستضعف ولا هؤلاء الذين قاموا من بعده ليخلفوا، لأن الأرض لم تظفر بغير عمر واحد لا شبيه له في العدل ولا النظير!

في رحاب الوقت على التحقيق ثارت من تلقاء نفسها هذه المشكلة الرئيسية وما تفرع عنها من مشكلات، وفي رحاب عثمان على التحقيق أثار الناس وأثار هو ما جد بعد ذلك من أزمات!

دفاع مضحك عن السير ربالزم:

يذكر القراء أنني تناولت مذهب السير ريالزم بالنقد في عددين سابقين (من الرسالة)، حيث تحدثت عنه في مجال الأدب والفن عند عميديه في فرنسا: بريتون وبيكاسو. . . ويذكرون أيضاً أنني رميت هذا المذهب بأنه شعوذة فنية لا أكثر ولا أقل، وبأنه (لخبطة) ولا شيء غير (اللخبطة)! قلت هذا فتصدي للرد عليه في جريدة (البصير) التي تصدر في الإسكندرية أديب لا داعي لذكر أسمه لأن أحدا أيضاً لا يعرفه. . . ولقد هاجمني الأديب الإسكندري في بداية كلمته حتى خيل إلي أنه يمد بصلة القرابة إلى مسيو أندريه بريتون أو أنه على الأقل أحد تلاميذه النابغين! قال الأديب النابغ بعد تهجمه النابغ:(وبذلك شاء الأستاذ المعداوي أن يقضي بجرة قلم على مدرسة فنية ذات شهرة ذائعة ترتكز إلى مبادئ يدين بها فنانون هم الآن في طليعة حركة التجديد، يكفينا أن نذكر أسم زعيمهم (بيكاسو) للتدليل على أهمية ثورتهم على التقاليد القديمة. وبيكاسو فنان معاصر، مبدع مذهب السير ريالزم، ولنا إلى تاريخ حياته رجعة. إنما حديثنا اليوم حول موضوع السير ريالزم في حوار مع (نيكولا كالاس) وهو شاعر يوناني يعيش الآن في نيويورك، وقد طبع له في باريس منذ عشر سنوات كتاب (النقد الفلقي) من أجمل ما يتضمنه ما جاء في موضوعنا.

- ما هي أغراض السير ريالزم؟

ص: 45

- يرى السير ريالزم إلى التقليل - إن لم يكن التخلص نهائياً - من المتناقضات المفضوحة القائمة بين الحلم والحياة المستيقظة، أو بين الخيال والواقع، أو بين الشعور واللا شعور.

ويرمى أيضاً إلى الخروج بالشعر من (غرفات) الشعراء المشهورين إلى عالم واسع الجنبات، يصبح فيه هذا الشعر ملكاً مشاعاً للجميع!.

- ولكن ألم يكن الشعر أو التصوير ملكاً مشاعاً للجماعات!

- لم يكن الشعر أو التصوير ملكاً للجماهير على النحو الذي يقصده السير ريالزم. فيما مضى كان الشعر والتصوير مجرد تضليل وخداع للفرد. أما الآن فالسير ريالزم يفهمهما على أنهما تعبير عن أعمق الرغبات التي تختلج في أعماق الفرد.

- ما هي أهم قواعد السير ريالزم؟

- الشيء الذي يجب أن يكون نصب أعيننا دائماً هو الحقيقة والحقيقة لا ضير عليها مع التخفي وعدم التصريح! بل إننا بأتباعنا هذه السبيل إنما نساعد على التحلل من القيود الشكلية وهذا يعتبر من أظهر أهدافنا!.

إلى هنا ونكتفي بهذا القدر من كلمات هذا الشاعر اليوناني المخرف. . . وأي تخريف أروع من قوله بأن الحقيقة لا ضير عليها من التخفي وعدم الوضوح؟ لست أدري كيف تختفي الحقيقة عن أعيننا وعن أذهاننا ثم يتهيأ لنا القول بأننا قد عثرنا على الحقيقة، ولست أدري كيف نعيش في ظلام الحيرة من الفهم لأهداف المذهب السريالي في لوحة فنية أو قطعة شعرية ثم يتيسر لنا القول بأننا نعمل في رحاب النور! أليس من المضحك حقا أن يذهب السرياليون إلى أن الشعر والتصوير كانا مجرد تضليل وخداع للفرد، وأن السير ريالزم هو وحده الذي ينهض بهما إلى مستوى رفيع من التعبير عن أعمق الرغبات؟!. . . تصور أن الغموض ينهض بالوضوح، وأن المجهول ينهض بالمعلوم، وأن الشعوذة تنهض بالعقل، وأن الخيال السقيم ينهض بالمعنى الجميل! هل تستطيع أن تتصور؟ لا أظن. . . اللهم إلا إذا فقدنا نعمة الذوق والشعور!!

حقوق المرأة المصرية بين الأنصار والخصوم:

تدور منذ أيام على صفحات الصحف اليومية معركة حول مطالبة المرأة المصرية بحقوقها

ص: 46

السياسية، وفي هذا الموضوع قرأت في (الأهرام) كلمة (موزونة) للأستاذ محمد زكي عبد القادر يقول فيها:(. . . وذكرت أنه منذ سنوات دخلت الفتاة المصرية المحكمة وعليها روب المحاماة، وحسب الرجال أن الفتيات سيهرعن إلى هذا الروب، ولكن المهنة الشاقة ظلت وقفاً على الرجال!. . . لو كنت صاحب سلطان لفتحت أبواب البرلمان ومنصات الوزارة للمرأة، وأطلب لها كل عمل تزاوله كما تشاء، واثقاً أنها ستظل حتى وهي في أوج السلطان، يسعدها أن تسمع من رجل كلمة إعجاب أضعاف ما يسعدها أن تبلغ كرسي الوزارة!).

هذا الذي يقوله الأستاذ زكي عبد القادر يقرر الواقع بلا جدال. . . وكم أود - لضيق النطاق - أن أسأل المطالبين بحقوق المرأة سؤالاً واحداً لا أنتظر الجواب: كم في مصر من المثقفات اللائي يستطعن النهوض بهذا العبء الخطير ويشاركن بثقافتهن الناضجة في ركب الحياة السياسية؟

إنني أنظر فلا أرى منهن من تعينها ثقافتها على تحمل المسئولية الضخمة غير عدد ضئيل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك فقد بحت الأصوات من المطالبة بحقوق المرأة في مصر. . . بالله خففوا من هذه الغلواء، وإذا قال واحد منكم بأن الجامعة يمكن أن تخرج لنا جيلاً ناهضاً من الفتيات المثقفات فقد كذب على الواقع الذي لمسته يوم أن كنت في الجامعة؛ أن الفتاة المصرية لا تذهب إلى الجامعة طلباً للعلم. . . ولكنها تذهب إليها طلباً للزوج!

أنور المعداوي

ص: 47

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

عراك فكري بندوة الرسالة:

لقد أصبحت محنة فلسطين والحوادث التي وقعة أخيراً على مسرحها ومن أجلها - محنة لأفكارنا ومشاعرنا في هذه الأيام ابتلينا ولا نزال نبتلي بها من أفراد نحمد الله على أنهم قلة لا يعبأ بها. أفراد من مواطنينا اضطربت أفكارهم واختلطت عليهم حقائق الأمور من جراء تلك الحوادث، فصاروا يجادلوننا في (العروبة) فيخلطون بين حقيقة الوحدة الخالدة وروح الشعوب المتآخية وبين اختلاف الساسة وتهويم الجامعة.

ألحت علي تلك المقدمة فلم أجد مناصاً منها، على كراهية للمقدمات، قبل أن أدخل إلى (ندوة الرسالة) حيث اعتركت في هذا الموضوع وما تفرع منه - أفكار جماعة من أدباء العرب: من مصر، ومن لبنان، ومن العراق. كان أحد طرفي المعركة الدكتور فلان، ولا أسميه خشية أن يعتبر ما قاله مما يتحدث به في المجالس وبتحرج من نشرة، ويكفي أن أذكر أنه كاتب معروف، وكان يكتب بالرسالة فيما مضى، وهو إلى ذلك من هيئة التدريس بالجامعة. أما الطرف الثاني فهم سائر من كان في الندوة وعلى رأسهم الأستاذ الزيات عميد الرسالة، والباقون هم الأساتذة محمود الخفيف وكامل حبيب، ومحمد علي الحوماني وإبراهيم الوائلي، وكاتب هذه السطور.

وقد كنا أو كان الطرف الثاني يناقش الدكتور (الطرف الأول) فتخطر لهم الفكرة الواحدة أو يورد أحدهم خاطراً ويأتي أخر بحجة أخرى؛ وسأورد ما علق بذهني من ذلك جملة، أي من غير تفصيل وإسناد إلى فلان أو فلان، وأضيف إليه ما خطر لي بعد الجلسة؛ وقد ذكرت الأسماء لما لأصحابها من فضل في المناقشة، وعلى أي حال ليس بين الخيرين حساب. . .

كان مثار المناقشة ما تضمنه (كشكول الأسبوع) في الأسبوع الأسبق من الإشارة إلى ما نشرته إحدى الصحف لأحد قرائها من استنكاره ترحيب مصر بأبناء شقيقاتها العربية وتعليمهم في معاهدها، ومقارنة ذلك بما أبدته الحكومة الأسبانية من الاستعداد لقبول بعثة من الطلبة المصريين على نفقتها في جامعاتها. بدأ الحديث بالدهشة لذلك الذي نشر في تلك

ص: 48

الصحيفة فانبرى الدكتور يقول:

- أتريدون الحق؟ أن أبناء مصر أولى. . ويجب ألا نبذل جهداً أو مالاً لغيرنا ونحن في حاجة إليه، وكفى ما بذلنا. .

فجاءه الرد يقول:

- يا أخي، كيف تقول بهذا؟ أتنكر التعاون العلمي بين الشعوب العربية؟ وإذا كانت الهيئات العلمية تدعو العالم كله إلى التعاون الثقافي أفلا يجدر ذلك بالبلاد العربية وهي ذات لغة واحدة وثقافة مشتركة؟ ولم التفاضل بين المصريين وغيرهم في هذا المجال؟ وبما يؤثر هذا القدر الذي تبذله مصر لتعليم أبناء شقيقاتها في تعليم أبنائها؟ وإذا كانت الجامعات الغربية تفتح أبوابها للطلبة من مصر وغيرها من البلاد العربية أفتقفل مصر أبواب جامعاتها ومعاهدها في وجوه شقيقاتها؟ على أن ما نبذله من مال أو جهد في الميدان العربي على اختلاف جوانبه إنما نبذله في تعزيز القومية العربية التي يدفع إليها وعي الشعوب العربية، والتي تدعو إلى التكتل والتعاون والتقارب، والتي لا ينال منها إخفاق في تجربة سياسية أو فشل من جراء الألاعيب الخارجية والدسائس الاستعمارية.

قال الدكتور: لا اعتبار عندي لكل هذا، إنما مدار الأمر في نظري على ما نستفيد نحن؛ ونحوا عني ألفاظ العروبة والوحدة والأخوة، أنا أريد استفادة مادية.

- أنت أحد المؤلفين المصريين، فلك عدة كتب ولا شك أنه قد وزع منها عدد كبير في البلاد الشقيقة ربما يكون قد غطى نفقات الطبع أن لم يكن جلب ربحاً، فما نظن ما وزع في مصر كافياً لذلك، هذا مثل قريب لاصق بشخصك نسوقه إليك مجاراة لمقياسك المادي، وإذا كان لا بد من هذا المقياس فإن الاستفادة لا ينبغي أن تقتصر على الفوائد الوقتية والمنافع القريبة، فإن مصر أغنى البلاد العربية وأكثرها حظاً من العلم والثقافة، وهي إذ تمد يدها إلى شقيقاتها وتتيح لها ما ينقصها فإنها تكسب مودتها وثقتها فتتحول إليها بدل أن تتيح إلى الأمم الغربية، والشقيقات ولا شك يستفدن من مصر، لأن معاملة مصر لها تختلف عن معاملة الغرب من حيث الإخلاص أو على الأقل من حيث تجرد مصر من المطامع التي ينطوي عليها الغرب فتحمله على عرقلة تقدمها. أما فائدة مصر مما تتيحه لسائر البلدان العربية من التقدم فهي إنها تجد فيها أخوات قوية قادرة على مبادلة النفع بالنفع. ولما لا

ص: 49

تقول معنا إنها تكون حينئذ أجزاء متينة في كل العام وهو الكيان العربي؟ والفائدة إذن هي كفائدة الفرد مما يعود على الجماعة من الخير العام. ثم قل لنا يا أخانا في أي سبيل كانت مصر ولا تزال تبذل للأجانب من الغربيين؟ وهل استفادت مصر من كل ما أغدقته على هؤلاء؟ بل هل نجت من تشهيرهم بها وتقولهم عليها؟ وما هي الفائدة التي يجنيها الشعب المصري من فرق الممثلين والراقصات التي تجلب إلى مصر كل عام؟ قال الدكتور: ما دامت هناك استفادة ملسم بما تريدون.

ولم يرد الأستاذ الخفيف أن تنتهي المناقشة عند هذا الحد فقد أقبل في أثنائها ولم يحضر أولها، فلم يشبع من منازلة صديقه الدكتور، فأعلن أنه يريد أن يصفي معه الحساب هذه الليلة في قضية طالما أتعبه بالجدال فيها، وكان الأستاذ الخفيف يعاني ألماً في الحلق وبحة في الصوت، فما استشعر الحماس للنزال حتى لان حلقه وتوضح جرسه، قال:

ألا تعلمون أن هذه الأفكار منشؤها عند الدكتور أنه لا يؤمن إلا بالغرب في كل شيء وينكر الشرق والعروبة وما إليهما، ويرى أنه يجب أن نغلق هذا الباب الشرقي ونفتح الباب إلى الغرب على مصراعيه فنقطع كل صلة بماضينا وعروبتنا ونأخذ عن الغرب كل شيء بل نسعى إلى الاندماج فيه. .؟

اتجه الجميع إلى الدكتور مندهشين، ونظراتهم تسأله: أحقاً ترى هذا؟!

قال الدكتور نعم. . . فأنا أتصور مثلاً أنا مدير جامعة، وأردت أن أضع برنامجاً لدراستها فهل أجد غير العلوم الغربية؟ ليس في الشرق ما يستحق أن يدرس، وحتى الثقافة العربية أكتفي منها بما درسه وحققه المستشرقون، ولا قيمة لما عدا

ذلك!! وأنا لا أرى أن هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر، وإني أراكم تلوكون كلمة العروبة فمن هم العرب؟!

ارتفعت درجة الحرارة في المجلس، وتدفقت الردود تقول:

- أنسأل عن العرب؟ نحن العرب. . . نحن العبر بوراثتنا التاريخية وما كسبناه ومزجناه بها من الثقافات العصرية، نحن العرب الذين نتحد في قيمنا الروحية واتجاهاتنا الفكرية والاجتماعية، ونختلف في كل ذلك عن الغرب. وها نحن أولاء في مجلسنا هذا تمثل ثلاثاً من الدول العربية، يطبعنا طابع واحد في التفكير والمشاعر، ونتشابه حتى في الشكل

ص: 50

والسحنة، لا يختلف مصري عن عراقي أو لبناني إلا كما يختلف أبناء الأمة الواحدة من حيث الفروق الفردية، ولو أننا انتقلنا بكامل هيئتنا إلى مجتمع إفرنجي لأحسسنا أننا غرباء عنه ولتزايل الدم من الدم. . .

وليس معنى أن نأخذ العلوم والمخترعات الحديثة عن الغرب أن نفقد شخصيتنا ونفني فيه. وإذ كنا الآن نأخذ من الغرب علومه فقد أخذ كثيراً من حضارتنا وعلومنا واستعان بها في نهضته الحديثة، وفي مكتبات أوربا نحو خمسمائة مجلد في الإشادة بالحضارة العربية وما أسدت إلى العالم الغربي.

إننا لا نغلق الباب الغربي بل نحن دائبون على الاتصال بالغرب والاقتباس منه والانتفاع بحضارته، فلم تقول أنت بغلق الباب الشرقي وقطع الصلة بماضينا وثقافتنا العربية بما فيها من آداب وعلوم وفنون؟ ولا شك أننا استطعنا في نهضتنا أن نكون ثقافة عربية حديثة مبنية على تراثنا الثقافي وعلى ما اقتبسناه من الثقافة الغربية، وعجيب أن تدعو إلى ما درسه المستشرقون من الثقافة العربية وفي نفس الوقت تدعونا إلى هجر هذه الثقافة فأنت تحرم علينا ثقافتنا وتبيحها للمستشرقين!

على أن ثقافة الغرب إما علوم أو آداب وفنون، فالعلوم نتلقاها منه باعتبارها أدوات لتنظيم الحياة وتيسير وسائلها، أما الآداب والفنون، وهي ألصق بالأرواح والمشاعر، فنقتبس منها ما يلائمنا لنضيفه إلى آدابنا وفنوننا التي هي الأساس في ذلك لأنها نتاج بيئتنا وصورة حياتنا ومرآة نفوسنا.

وهنا قال الدكتور:

- ما هي فنوننا؟ هل عندنا موسيقى كالموسيقى العالمية؟

- فنوننا هي التي نتذوقها، وإن كان فيها نقص فإننا في سبيل استكماله. ونحن نتذوق موسيقانا ونطرب للجيد منها ولا يضيرنا أن غيرنا لا يستسيغها، وماذا يهمنا من كلمة (عالمية) ما دام الوصف بها لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لأذواقنا؟

- إن الطفل يضرب (الصفيحة) بالعصا ويسر لما يحدثه ذلك من صوت، فهل معنى ذلك أنه موسيقى راقية؟

- إن هذا التشبيه يمكن أن ينطبق على الموسيقى الغربية بالنسبة للشرقي الذي لا يرى فيها

ص: 51

إلا تصديعاً للرءوس.

نحن نسمع مثلاً موسيقى عبد الوهاب وغناء أم كلثوم، وغير عبد الوهاب وأم كلثوم من فنانينا المجيدين، فنتذوق فنهم ونسر به، لأنه يعبر عن مشاعرنا ويخاطب قلوبنا، فهو منا وإلينا، ولذلك نشعر بقرب الموسيقى الأسبانية من نفوسنا أكثر من موسيقى البلاد الأوربية الأخرى، لأن الأسبانية تنزع إلى أصل عربي كان في الأندلس. وليس مما يقع أن تحول مشير المذياع إلى محطة أجنبية، وأم كلثوم تذيع إحدى حفلاتها الغنائية، لتسمع بدلاً منها ثغاء إحدى الفرنسيات أو الإنجليزيات.

قال الدكتور وهو يتهيأ للانصراف: أن تذوق الموسيقى الأوربية يحتاج إلى تربية وتثقيف.

فسأله أحد الجماعة: عمن أخذ الأوربيون موسيقى (الجاز)؟ فسكت، وناب عنه من أجاب: من موسيقى الزنوج. . .

ثم أنصرف قبل أن يبدي رأيه في تذوق موسيقى الزنوج وهل يحتاج إلى تربية وتثقيف. . .

عباس خضر

ص: 52

‌الكتب

الموالي في العصر الأموي

تأليف الأستاذ محمد الطيب النجار

بقلم الدكتور محمد يوسف موسى

كنت دائما أرى أنه من الخير أن نغير من فهمنا للتاريخ عامة والإسلامي خاصة، ومن الغاية التي ندرسه من أجلها، ومن المنهاج الذي نصطنعه في دراسته. فقد أعتاد الباحثون في التاريخ العناية التامة بالأحداث السياسية في كل تفاصيلها، ولكنهم يهملون تماماً أو يكادون التأريخ للنواحي الاجتماعية والفكرية ونحو ذلك من مقومات الحضارة الإسلامية، هذه النواحي التي توفر على دراستها واستخراج النتائج والعبر منها نفر من أفاضل المستشرقين.

كنت دائماً إذاً أن أنقد طريقتنا في دراسة تاريخنا الإسلامي، وأدعو إلى الأخذ بطريقة أخرى تكون غايتها الأولى دراسة الحضارة الإسلامية؛ بمعنى ألا نسرف في العناية بالناحية السياسية، هذه الناحية التي لا يجب أن يكون القصد من دراستها إلا بالقدر الذي يتيح لنا أن نفهم تماماً ما كان من تطور في نواحي الاجتماع والفكر وما يتصل بذلك من ألوان الحضارة.

من أجل ذلك أراني مسروراً حقاً إذ أقدم لقراء (الرسالة) كتاب (الموالي في العصر الأموي) لمؤلفه الفاضل الأستاذ الشيخ محمد الطيب النجار أحد أساتذة التاريخ الإسلامي بالأزهر، والحائز لدرجة الأستاذية في التاريخ. أن هذا الكتاب، في الغاية التي قصدها المؤلف، وفي المنهاج الذي سار عليه، يحقق ما كنت أرى أن يكون في دراسة التاريخ الإسلامي.

بحث الأستاذ - ؤ قد أخذ نفسه حقاً بالحيدة التامة إزاء صراع الأحزاب والمذاهب، وبأن يكون غرضه البحث عن الحقيقة وحدها - في الفصل الأول من الكتاب نشأة الرق في الإسلام والعصبية العربية التي تحولت فيما بعد إلى عصبية إسلامية، وحالت الموالي الاجتماعية قبل العصر الأموي. وفي الفصل الثاني توفر في بحثه على تصوير حالة

ص: 53

الموالي في العصر الأموي، هذا العصر الذي كان يموج بالعصبية موجاً حتى كان نافع بن جبير بن مطعم إذا مرت به جنازة قال:(من هذا؟ فإن قالوا قرشي قال وا قوماه! وإذا قالوا عربي قال وا بلوتاه! وإذا قالوا مولى قال هذا مال الله يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء)! ص35.

وفي الفصلين الثالث والرابع تناول البحث سياسة الدولة الأموية نحو الموالي، وكيف وجد الأمويون أنفسهم في هذه المشكلة بين تيارين عنيفين: الإسلام وما يدعو إليه من عدالة عامة ومساواة بين الأجناس، والعصبية الجنسية العربية الحادة التي لم تقبل هوادة إلا في عهد عمر بن عبد العزيز. وأنتهى البحث بالإشارة إلى أن الموالي لم يجدوا لأنفسهم فرجاً إلا في التوفر على العلم والسيطرة على الحركة الفكرية فكان لهم من الرفعة من هذا السبيل عوض ما فاتهم بسبب التعصب عليهم من الدولة والأفراد؛ ثم مقاومة تيار العصبية العربية بتيار آخر قوي هو تيار الشعوبية؛ وأخيراً مؤازرة الحركات الثورية، التي انتهت بزوال الدولة الأموية، وذلك لكي ينتقم لأنفسهم، وتكون دولة جديدة يكون لهم فيها مركز السيادة والقيادة.

هذه الوسائل الثلاث، التي حاولوا بها استرجاع مجدهم الذي قضى عليه الإسلام، هي موضوعات الفصول الأخيرة من الكتاب. وبعدها كانت خاتمة ونتيجة البحث كله، ثم بحث خاص بالرق والولاء في الإسلام لصلة هاتين المسألتين بموضوع البحث العام الأصيل.

هذا هو موضوع الكتاب الذي نقدمه الآن للقراء؛ وقد رجع المؤلف في بحثه إلى أمهات المراجع الأصيلة العربية والأجنبية، وسار في معالجته على نور وبصيرة وفي أسلوب علمي واضح؛ وإن كان النقد الدقيق يجد في لغته وأسلوبه أيضاً بعض الهنات.

وهنا أجهر مرة أخرى بكل قوة بضرورة أن يخرج الأزهر من بقية الجمود الذي يلابسه فيعني عناية شديدة باللغات الغربية، ويقرر دراسة بعضها دراسة جدية منذ أول مرحلة الدراسة الثانوية، بحيث لا ينتهي الطالب من الدراسة العالية حتى يكون أجاد لغة واحدة على الأقل وألم بلغة أخرى. ذلك ضروري وبديهي لطلاب الأزهر، إذا أردنا أن يكون منهم علماء حقاً، وإذا كنا حقاً جادين في دراساتنا.

محمد يوسف موسى

ص: 54

‌البريد الدبي

الفن بين الإبداع والاستمتاع:

حفلت قاعة المحاضرات بمعهد التربية العالي بالإسكندرية مساء الاثنين 17 إبريل بجمع كبير من رجال الأدب والتربية والعليم بسماع المحاضرة التي ألقاها الأستاذ - أحمد زكي - عن موضوع الفن بين الإبداع والاستمتاع. وحاول فيها أن يفسر نفسية المبدع أو المنشئ ونفسية المستمتع على ضوء علم النفس. فاستطاع أن يعرض أحدث ما بلغه علم النفس في تفسير نفسية كل من الفنان الخالق والمستمتع.

وسأحاول أن أقدم إلى القارئ خلاصة تلك المحاضرة: فقد ابتدأ بتعريف الفن بأنه الطبيعة نفسها موشاة بوجدان الفنان، وأن عمل الفنان يقوم على التفاعل بين الشعور وبين اللاشعور، أي بين الوعي والعقل الباطن، وهي الحالة التي نعرف بحالة الوحي الفني. وفيها تخف وطأة الرقيب على اللاشعور فيظفر الفنان بذلك الإنتاج الذي قد يعجب هو نفسه كيف تأنى له.

وهذه الظاهرة هي ما كانت تسمى قديماً بشياطين الشعر. ثم تناول نفسية المستمع وقسمها إلى طوائف أربع:

الطائفة الترابطية: وتقدر جمال الفن على قدر ما يثيره هذا الفن في نفوسهم من ذكريات. فتتوقف قيمته على ما يحمل من هذه الخصائص.

الطائفة الذاتية: ونقيس الفن بمسبار تأثيره على احساساتهم وكلما زاد الأثر الفني في تأثيره على حاسة من حواسهم كاللون مثلاً كان تأثيرهم أشد وانفعالهم أكثر.

الطائفة الموضوعية: وهؤلاء هم أندر الطوائف بين المستمتعين بالآثار الأدبية وهم ما يعرفون بنقاد الفن وواضعي مقاييس نفده. فهم يقفون من الأثر الفني موقف موضوعي ويحاولون بيان ما فيه من أسرار الفن ودلائل العبقرية، ولا يدعون لتأثرهم الشخصي دخل كبير في تقويم هذه الآثار.

الطائفة التعبيرية: وهم يخلعون على الأشياء والظواهر الطبيعية صفات إنسانية عامة مثل البحر غاضب والأمواج تختال الخ. .

ثم تناول بعد ذلك المذهب الذي كان يذهب إلى أن الجمال عبارة عن نسب عددية، بمعنى

ص: 56

أن الوجه الإنساني يجب أن يكون بالنسبة للجسم كله بمقدار كذا حتى تصبح الصورة جميلة. وأبان بطلانه. ثم أشار إلى تأثير هذا التقسيم في الاستمتاع بالفن، ومقياسه مما حمل بعض الناس على القول بأن الجمال ذاتي لا موضوعي. ولكن لا شك في أن الجمال موضوعي إلى حد كبير، ولا بد له من عاملين أساسيين هما الوحدة والتنوع. فالوحدة هي المحور الذي يدور حوله العمل الفني. والتنوع هو الذي يلون الصور ويساوق بينها حتى يتم خلقها. وتتمثل الوحدة في القصة في الحبكة، وفي الصورة بوحدتها العامة وهي أن كل ما فيها من ألوان يخضع لغرض عام، ويهدف إلى تحقيق غرض معين. والمستمتع عادة لا يبحث في العمل الفني عن كل هذه الخصائص حتى يستمتع، بل هو يحس ما فيه من اضطراب لم يستطع أن يثيره عنده ما هو خليق بأثارته، وهو ما يعرف مثلاً في اللحن بالنشاز. ثم لم ينسى المحاضر أنه في معهد التربية وبين مدرسين فختم محاضرته بالإشارة إلى وجوب الوحدة والتنوع في الدرس حتى يثير في نفسية الطفل الاحساسات المختلفة ويبعث يقظته للدرس. ويتعهد جوانب شخصيته المختلفة من وجدانية ومزاجية وفكرية، لأن المدرس الحديث يجب أن يعنى بكل هذه الجوانب حتى يتسنى إخراج الشخصية المتكاملة، لا أن نعنى بأفكار التلاميذ، ونهمل جوانبهم الأخرى فنخرج رجالاً حظهم من تكامل الشخصية ضئيل.

محمد عبد الحليم أبو زيد

دبلوم في التربية وعلم النفس

1 -

المزه:

في مساء 13 إبريل حدثنا بالمذياع الدكتور عزمي بك عن حالة سورية بعد الانقلاب الأخير، وعرض لنزول الوطني الكبير السيد القوتلي اليوم في (المزه) ونطق بها بفتح الميم، والصواب كسرها على ما في معجم البلدان والقاموس المحيط وغيرهما، بل طبعت مكتبة القدسي بالقاهرة لعشرين سنة خلت رسالة خاصة بتاريخ هذه البلدة اسمها (المعزة) وفيها النص على ضبطها بذلك.

2 -

سيف بن عمر المؤرخ:

ص: 57

يقول الدكتور جواد علي في عدد (الرسالة 822): (سيف بن عمر الذي هو موضع ثقة الطبري). ويقول العلامة الكوثري في مقالة له في ذلك: سيف بن عمر يقول عنه أبو حاتم: متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال الحاكم: انهم بالزندقة وضعفه غير واحد. والطبري نفسه يقول: لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج. .، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا.

عبد الله معروف

الضبع مؤنثة:

جرت الصحف على تسمية القائد المظفر بطل الفلوجة (الضبع الأسود)، وألمعت إحداها أنه يغضي عن تلك التسمية مبدياً الغضاضة، ولديه الحق في إغضائه وغضاضته، لأن (الضبع) مؤنثة، وليست - كما هو شائع - ذات فتك، بل متسمة بالجن، فالمقام ناه عن الاتسام بها، وأين الألقاب في دولة الآساد؟

إن مذكرها (ضبعان)، والجمع (ضباعين)، وأنثاه - بتلك الصيغة - (ضبعانة)، والجمع (ضبعانات)، وجمع الذكر والأنثى (ضباع)، وتحياتنا (للأسد الأسود!).

(بور سعيد)

أحمد عبد اللطيف بدر

ليث العربية تزحف:

يمتلئ القلب سرورا - ولا شك - حين تزحف اللغة العربية على يد وزير المعارف ويرتفع لواؤها على مكاتب السفراء ورجال السلك السياسي الأجنبي، فليس هناك - كما يقول الأستاذ العباس - لغة حية ولغة ميتة. ومن حقنا أن نكتب بلغتنا لمن نشاء

ذكرت - بهذه المناسبة - أن مكتب الجوازات بوزارة الداخلية المصرية يضع تأشيرة الإقامة على جوازات أبناء البلاد العربية باللغة الأجنبية؛ فقلت لنفسي: ألا ليت اللغة العربية تزحف إلى هذا المكتب. . فأرى تأشيرة الإقامة على كل جواز - ولو كان أجنبياً - بلغتنا القومية. فليس في الكرامة مجاملة أعز الله هذه اللغة وأهلها.

ص: 58

(فتى الفجاء)

القلم الصناع:

في العدد 824 من (الرسالة) الغراء نقل أديب بالمنصورة بعض ما ورد في المصباح المنير في مادة صنع زاعماً أني أخطأت في قولي: (بهذا القلم الصناع) وفي القاموس المحيط: (رجل صنع اليدين بالكسر وبالتحريك وصنيع اليدين وصناعهما حاذق في الصنعة) فليس في قولي خطأ، وإنما الخطأ في المراجع الناقصة والمراجع العجلان.

أحمد أحمد العجمي

ص: 59