المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 826 - بتاريخ: 02 - 05 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 826

- بتاريخ: 02 - 05 - 1949

ص: -1

‌2 - أمم حائرة

طغيان المادة وضعف الروح

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بجدة

كشف العقل أسرار الطبيعة فاخترع عجائب العلوم والفنون والصناعات، وغير تاريخ البشر كله. واهتدى الناس إلى سنن للحكومات، ونظم للجماعات، ضبطت كل شيء بالنظام والقانون. وعرفوا من قوانين الصحة ما عصمهم من كثير من الأوبئة والعلل، وافتنوا في عمران البلاد، وتعبيد الطرق، وتشيد المساكن، وذللوا كل صعب، وقربوا كل بعيد بفنون الهندسة وغيرها. وابتكروا في الملابس والزينة ما ابتكروا. وتهيأ لهم من أسباب الحضارة ووسائل الرفاهية ما لا يحتاج إلى بيان، فهو ملء الأسماع والأبصار.

ولكن الأنفس لم تساير العقول، والرقى الروحي لم يدرك الرقى الحسي، وليس عجيبا أن يسمو العقل، ويتسع العلم، ولا تسمو النفوس، وأن تتقدم الأفكار ولا تتقدم الأخلاق، فتصرف العقل أكثره في أمور خارجة عن نفس الإنسان، وإدراكه يجول في عالم الطبيعة. وهو في بحثه لا يفرق بين الإنسان وغيره، ولا يبالي بالخير والشر. فمقاصد العلم تتحقق بكشف الكهرباء - مثلا - وضبط قوانينها وتسخيرها. وسواء بعد هذا استعمال الكهرباء للإضاءة، أو المداواة، أو استعمالها للقتل والتدمير.

إلى العلم ترجع الحضارة الصناعية القائمة على قوانين الطبيعة والخارجة عن نفس الإنسان. وأما النفس الإنسانية وملكاتها وحالاتها ونزعاتها، فأمور وراء هذا كله وهى حقيقة الإنسانية.

وهى التي تدرك الجمال والقبح، وتميز ببين الخير والشر، وتقبل على الفضيلة، وتنفر من الرذيلة.

وهى مناط الأخلاق والعواطف والفضائل والرذائل، وإلى هؤلاء ترجع الحضارة الإنسانية وما يتصل بها من آداب وسنن ومادات ونحوها.

وبهذه تقدم الإنسانية، وبها يكون تقدمها الحق وتخلفها وعلوها أو شغولها. ومن أجل أن

ص: 1

العلم يتصرف في قوانين طبيعية خارجة عن نفس الإنسان كانت العلوم غير مختلفة بين الأمم في قوانينها، فلا تختلف الرياضة أو الكيمياء بين أمة وأمة، ولا بين إنسان وإنسان، إلا بمقدار ما تزيد أمة عن أمة، أو فرد عن فرد، في الإحاطة بقوانين الرياضة أو الكيمياء. وبهذا كان نقل علم من أمة إلى أخرى يسيرا لا إعضال فيه.

وأما الحضارة الإنسانية، فهي مختلفة باختلاف الأمم والأفراد يعسر أن تنقل من أمة إلى أخرى، إذ هي متصلة بصميم النفس، مرتبطة بالعواطف والأخلاق والتاريخ والآداب. ولكل أمة في هذا خصائصها، ولها مزاياها ونقائصها.

ليس هنا مجال الإفاضة في هذا، ولكني أردت أن أشير إشارة عاجلة إلى أن العلم والصناعة لا يسايران الآداب والأخلاق كل حين.

وغاية قولي أن الفجوة بين العلم والأخلاق، ومسافة الخلف بين العقل والروح من أسباب الاضطراب والقلق، والضوضاء والصخب والشقاء، التي تحيط بالإنسان بعد أن سخر الأرض والماء والهواء، فقد أعطى الإنسان بعقله وعلمه ملكا عظيما، وسخر له العالم، وانقادت قوى الطبيعة، ولكنه لم ينل من المعالي الروحية، والفضائل الإنسانية ما يكافئ هذا الملك، ويلائم هذا السلطان، ولم يبلغ من العدل والإحسان والعفة وأخواتها ما يسير هذا الملك على شريعة منصفة، وسنة قويمة، فكان كمن أوتى ولاية ليس أهلا لها، ومن ورث ثروة لا يحسن تدبيرها. ومن أعطى سلطانا تصرف فيه بأهوائه على غير هدى. وكالشرير المسلح بالبنادق والسيارات وما يشبهها مما يمكن له في الشر، ويبلغه مقاصده من الأضرار والإفساد.

ألا ترى إلى قوى العقل وقوانين العلم كيف يوجهها العدوان والبغي، والشره والجشع والضلالة والحيرة، إلى تدمير الحضارة وأهلها.

ولم يكف الأشرار عن الشر على كثرة ما اخترعت الحكومات من وسائل لأخذ المجرمين وتعقبهم ومراقبتهم، وعلى كثرة ما أقامت من شرط وحرس وجيوش، وما سنت من سنن للمحاكمة، وقوانين للعقاب. ذلك بأن كل هذه الوسائل لا تمس النفس، ولا تصل إلى الوجدان، وإنما هي قيود وسلاسل، وأخذ وضبط، وشجن للأجسام، ولو أن ارتقاء النفس الإنسانية كان على قدر افتنان البشر في وسائل السيطرة والأخذ والعقاب ما احتاج البشر

ص: 2

إلى هذه الوسائل، أو لاستفتوا عن معظمها، ولو أنصف الناس استراح القاضي.

ومن آثار هذا التباعد بين العلوم والأخلاق، والتفاوت بين العقول والأنفس أن سلك الناس إلى المال والجاه والشهوات مسالك شتى، وافتنوا في التوسل إليها بما عرفهم العلم ورضوا في سبيلها بالدنايا، ولم يقفوا في ابتغائها عند حد.

كل طامع جاهد مستزيد، لا يرضى ولا يقنع ولا يعف، ولا يقول هذا حسبي، وهذا حقي، وهذا حق غيري، وهذا حلال، وهذا حرام، وهذا شريف، وذاك خسيس (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم).

وضاع الحياء، وفقدت المروءة. . . ألا ترى بعض التجار يجذبون المشترين بنساء فاتنات يكلون إليهن البيع، أو قبض الأثمان، ومنهم من يدعوا إلى بضاعته في الصحف بصور مغرية، ولو كان امرأة في حمام، كما يفعل بعض تجار الصابون، ويعينهم على هذه الدنايا أصحاب الصحف ابتغاء الربح أيضا!

ألا ترى الصحف والجرائد والمجلات، إلا النادر، تستهوي الناس بنساء عاريات، وصور مفسدات، وقصص موبقات؟!

أليس معنى هذا، حين تسمى الأشياء بأسمائها، ويكشف عنها تمويهها، أن ناشر هذه الصور يتوسل إلى الرواج بأن يجذب الناس - بكل وسيلة - غير مبال بالأخلاق والأعراض، يستوي عنده الصلاح والفساد!

رحم الله من قال: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)!

ومن قال:

ولقد أبيت على الطَّوى وأظّله

حتى أنال به كريم المأكل!

غلبت الناس المادة، وضعفت فيهم الروح، فجهادهم ونزاعهم وصياحهم وضوضاؤهم في المادة ولها إلا قليلا. بل هذه الشيوعية التي فتن بها بعض الناس وحسبوها مثلا عاليا، أو المثل الأعلى في التسوية بين الناس هي مادية خالصة تنكر كل شيء إلا الخبز، فهي كالمساواة بين القطيع في المرعى، وليس للقطيع اختيار في المسير أو الوقوف، وليس له حق في غير الكلأ والماء.

فأما التدين والسمو الروحي والحرية والفضائل والأواصر الرحيمة التي تربط بين الوالدين

ص: 3

والأولاد، وكل ما هو بسبب من هذه، فتنكره الشيوعية، لأنها دين ولد في هذا العصر، وهذا العصر يعرف المادة، ويحرص عليها، ويخضع لها، ويموت فيها!

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌قطرات ندي

للأستاذ راجي الراعي

القبلة بنت الحب اقترن بالجمال فولدها.

الرماد نار شابت.

اليوم بيت من الشعر في ملحمة الخالق، صدره ما سبق الظهيرة، وعجزه ما تلاها، والغروب هو القافية.

الحصاة حجر يذوب هياما بالماء.

العقل جنون هادئ.

في القمة شيء يقول لك: قم.

الاحتضار غبش الموت!.

الغفران هبة.

القبل لهث الحب وأنفاس النفس.

القبلة كتاب النفس في كلمة، أو كلمتها في حرف.

كم من يد رسمت في باطنها خطوط الإجرام، ولا معصم لها يعصمها من المنكر.

إنك لا تستطيع أن تلد الرائعة إذا لم يختل توازنك. . ألا ترى المرأة كيف تمزق أحشاؤها لتلد جنينها.

هي ثورة منذ البدء إن الله جل جلاله حين قال: (ليكن النور)، ثار على الظلمة.

أذيبوا أثمن درركم في الكأس إذا قمتم تشربون نخب الله.

الغمد عقل السيف.

السيف لسان القوة.

الموجة شهوة البحر.

الصرخة رداء يتمزق، أو جدار ينشق في الصدر.

الصدور الواحد العرش الذي يتربع عليه الموت.

الرماد ثورة سكنت، أو جنون صحا، أو جريمة ندمت، أو فجور تاب. . .

كلما قرأت الشعر عجبت للخيال الحر يرضى بقيود الوزن والقافية. . . أتسميها تلك التي

ص: 5

هبطت عليك من سمائك صاعقة، ثم تأتيني بالطويل والمديد. . . ما هذا المارد الجبار الذي رميت به بين، فعولن، ومستفعلن، وفعلن، ومفاعلن، فألبسته ثوب القزم، وذهبت بنصف ما فيه إرضاء (للخليل) وقوافيه؟.

إذا تعريت من الدنيا لبست الله.

أنا بين تواضع السهل وكبرياء الجبل حائر لا أدري ما أفعل برأسي أأرفعه أم أحنيه. . .

الكلم، والسطور، والألحان، والألوان محاولات للتعبير عما في النفس.

لسانك واحد من ألسنة رأسك انفلت من بينها ولجأ إلى فمك فآواه.

الموت هبة تسترد.

الجسر بسطة ذراع وأداة صلح وتسوية.

الذئبة التي أرضعت مؤسس روما، محت شراسة الذئاب منذ كان الذئب.

الأعمى عينه مقلوبة تنظر إلى الداخل.

أنت الصخرة البطل، إذا انزلقت عنك الحياة فلم تأبه لها ولم تنل منك.

التوبة يدان: يد تمحو، ويد تكتب.

بين الأوراق والثمار، ما بين الأصداف والجواهر.

الصبر حفار يحفر في الصدور لحودا.

الجبين الذي ترجفه الفكرة الجريئة جبين جبان.

بيت الصلاة هو البيت، وما سواه من البيوت، حجر وطين.

الانطلاق طلاق بين طموحك ووهمك.

الموميات نساء عاصيات ساخرات يضحكن على الموت.

تولد في العاصفة، عاصفة الهوى. . . ونقيم في العاصفة، عاصفة الحياة. . . ونرحل في العاصفة، عاصفة الفناء، فكيف يرجى أن نكون عقلاء إذا كان العقل ذاك الذي نلبسه ثوب الهدوء والسكينة؟ أين وكان العقل هذا في قلب تلك العواصف؟؟.

الظل تعاسة تتذكرها أنها كانت شعاعا.

كلما رأيت تمثالا شعرت بالموت يقف منتصبا.

السيارات حول الشمس وصائفها.

ص: 6

إن الأرواح لا تندغم فبين قبلتين مشتعلتين تجد دائما قليلا من الرماد.

من الناس من حشر في الخليقة حشرا كحروف الكلمات التي لا تلفظ.

الصلاة هدير بحر الإيمان والمرساة التي تقف بها سفنكم في مرفأ الخالق.

في كل طية من طيات القدر مستقبل محجوب.

الجبال عناد الطبيعة، والماء خلقها الدمث.

لقد تقاسمت الأمجاد والقمم فلكل مجد قمة.

أزهار الشجرة أحلامها تتحقق في الثمار.

ظل الشجرة شفقتها.

الصحراء كف مبسوطة تستجدي الماء.

الأعماق آفاق مطوية.

الدخان والرماد يتقاسمان النار، فهي لا تملك نفسها.

الكسل يحتضن الحلم.

لو خيرت لاخترت أن أنسل من شمس إلى أخرى.

نحن دقائق هذا الغبار الذي يقال له: الزمن.

لو كنت الفتنة لاتخذت مقامي بين الحياة والموت.

أنت مهما تضخمت جثتك وطالت قامتك طفل على سريرين تهزهما الأم والمنون.

إذا أغضبت البحر أتاك بزبده وغرقاه فإذا استهنت به أخرج لك من قلبه الدرر.

الحمد لله الذي خلق الجفنين ليطبقا على وقاحة العين وشرودها والشفتين لتطبقا على الثرثرة.

الغصة بنت الحشرجة!.

السم لعاب الإثم.

الثرثرة ما تطفح به الكأس.

النور: نار ساكنة هادئة وادعة، والنار نور ثائر.

الذكرى ريح تعصف في العظام. . . ورقاد يفرك جفنيه. . . ونسيان ينسى نفسه. . .

الأقدار قدرة القادر.

ص: 7

الأمل فم يلثم جبين الغد.

أرى في الحياة شيئا يهزأ بك مهما أتيت بالمدهشات.

القوى النفسية تتجاذب قمة الرأس في صراع هائل مستديم.

كلما فشلت انقصف في غصن من شجرتي العاتية.

الله في شغاف قلبك وعصب عينك فحذار!.

إذا انبطح الجبل انقلب سهلا.

تتعاقب على الشموس كأنها تحاول أن تردني إلى أمر أو تردني عنه.

الحجر يقول للجدار: لولاي لم تكن. . . والجدار يقول للحجر: لولاي لم تلق وسادة تلقى عليها رأسك. . . الخمرة تقول للكأس: لولاي لم تنعم بك شفة والكأس تقول لها: لولاي لذهبت هدرا. . .

لو لم تكن حياتكم ليلا لما تقم إلى النور، ولعل الخالق أطلقها ظلمات تتبعها ظلمات لكي تنطفئ في صدوركم شعلة الإيمان فلو كنتم تسبحون في بحور من نور لألفتموه ولم تفكروا في الخالق، ولو كنتم في النعيم وأشجاره وأنهاره لما خطرت لكم جنة الخلد ولو كان في دموعكم ندى الفجر لما حسبتم للفجر حسابا. . .

ما رأيت غازيا كالوهم يغزو الناس جيلا بعد جيل. . إن له سيفا يشق كثافة الدهور كأن السيوف كلها مندغمة فيه فهو السيف ولا سيف بعده. .

المغامر الكبير سباح بحره الدنيا يعيش في الموجة ومن أجلها.

ليس لك أن تستصغر الطير والحيوان مادمت تصف الإنسان بالأسد إذا بلغ أقصى شجاعة وبالعقاب إذا بلغ رأس القمة.

في الدماغ سراديب يكمن فيها الخبث والدهاء والحيلة، وقمم شاهقة يتسلسل فيها المجد والشمم، ومنبسطات تعدو فيها جياد الإرادة، وبراكين تقذف بالشهوات والأهواء، وآفاق تحلق فيها نسور الخيال، وعروش من ذهب يتربع عليها العقل ذو السلطان والصولجان، وجنات تجري من تحتها الأنهار ينشد على ضفافها الإحساس أنغامه الشجية. . .

الموت عظمة في حلق الأمل وشبح يقهقه في رحم المرأة. .

راجي الراعي

ص: 8

‌مسرحية (سليمان الحكيم)

للأستاذ توفيق الحكيم

بقلم الدكتور محمد القصاص

- 2 -

بعد الألاعيب والمفاجآت التي تكلمنا عنها في المقال السابق يرجع سليمان فجأة عن فكرته في استمالة قلب بلقيس إليه بعد أن أمعن في تعذيبها والسخرية منها حتى في أشد ساعات محنتها؛ فيتوب إلى الله ويخلو إلى تأنيب ضميره اللاذع وجحيم شعوره بسقطته، كما تعدل بلقيس عن (البصبصة) لمنذر وتبارك زواجه من شهباء حبيبته، ثم تغفر لسليمان زلته وتبالغ في الغفران، وتعزيه في محنته حتى لكأنها تهنئه على أن هيأت له (الأقدار) هذه الفرصة السعيدة لتطهره من الأدران. أو ليست هي التي تجيبه وهو يأسى على ما وقع منه:(من هذه الأخطاء تبرز أحيانا بصائرنا متفتحة. . . كما تتفتح الأزهار النابتة في الأوحال).! وهكذا يستقر كل أمر في نصابه: فقد أرغمت القوة الخفية سليمان إرغاما على حب بلقيس، وأرغمت بلقيس إرغاما على ألا تبادل سليمان حبا بحب، وكذلك الحال بالنسبة لبلقيس ومنذر سواء بسواء. ومن ذلك يعرف العاشقان غير المعشوقين (إن الحب قدر صارم يضرب ضربته حيث يريد هو لا حيث نريد نحن). فتهدأ نفساهما، ويندمان على أن لم يعرفا منذ البداية، ويباركان السماء أن جعلت الأشياء على ما هي عليه، (إذا لا ينبغي أن نكره هذا كثيرا. . . يجب أن تكون فينا زهرة لم ترو، وجوع لم يشبع، ورغبة لم تنل، وصيحة لم تسمع. . . بهذا نستطيع أن نكون جديرين حقا بالحكمة والتمييز، خليقين بفهم القلب الإنساني ومخاطبته، قادرين على أن نحمل إليه العزاء ورسالات السماء.) والغريب بعد هذا الكشف العجيب، كشف أن كل ما كان قد كان لغاية، بل لخير الغايات على حد تعبير فلتير متهكما على لسان بنجلس (وإن كان ذلك قول يتنافى مع فكرة الأستاذ الحكيم الأساسية) نقول الغريب بعد هذا أن يستمر سليمان في حزنه وندمه حتى يقضي الحزن والندم على حياته. ولكن لعل ذلك من فعل (القوة الخفية) لغاية في نفسها أيضا.

هذه هي الفكرة التي هدف المؤلف إلى إبرازها في كتابه، وتلك طريقة عرضها. وقد رأينا

ص: 10

أنها لا ترفع من قدر الإنسان، وأن عرض الكاتب لها لا يرفع من قدرها في حد ذاتها، بل يبرزها مشحونة بالمتناقض وبالتافه وما لا يفهم. وإلا فكيف نلمس في حب سليمان لبلقيس وإعراض بلقيس عن مبادلته حبا بحب أثرا لقوة خفية دفعتهما إليه؟ ألا يكون أقرب إلى المنطق أن نرى في رفض بلقيس أن (تنزل) عن حبها لمنذر (لتبيعه) إلى سليمان أثرا لفرديتها المستقلة عن فردية سليمان، وبرهانا على حريتها التي هي غير حرية سليمان؟ عندئذ تصير المسألة صراعا بين حرية وحرية، بين ميول وعواطف وظروف من جهة وميول وعواطف وظروف من جهة أخرى، بين نفس تعيش في زمان ومكان معينين ونفس أخرى تعيش في زمان ومكان معينين أيضاً اللهم إلا إذا كان الأستاذ يشترط في حرية الإنسان ليعترف بها أن تكون شيئا منفصلا عن مقومات شخصيته كل الانفصال، شيئا يدير الإنسان من خارجه على نحو ما رأى في القوة الخفية. أو إذا كان يرى أن الحرية في الحب، بل وفي غير الحب، يجب أن يتمتع بها طرف دون الآخر. فما دام سليمان قد أحب بلقيس فما عليها إلا أن تتبعه كالعجماء يلوح لها بحزمة البرسيم، بل كالحجر يلقى به من حالق دون حرية ودون شعور. وما دامت بلقيس قد أحبت منذرا فما على منذر إلا أن يلغى حريته وكل ما يكون شخصه المعنوي ليبادل بلقيس حبا بحب وهياما بهيام. إن كان ذلك ما يريد الأستاذ الحكيم، فإنه يحمل الحرية ما لا نطيق ويعرفها تعريفا لم يعرفه لها أحد من قبله، فتمنى لبني الإنسان أو لبعض بني الإنسان حرية الآلهة لا حرية البشر ليخرج بهم من حدود البشرية إلى ملكوت الألوهية. وإلا لم يعترف بأن لبني الإنسان حرية. تذكرني هذه النظرة في فهم الحرية بفكرة ساذجة عن الحرية أيضاً يلقنها سارتر لإحدى أبطاله لينقضها ويسخر منها. وكانت هذه الفتاة قد تآمرت مع أخيها على قتل أمها لسبب ما، فقتلاها. ولكن الفتاة بعد الحادث وقعت فريسة للندم، وصمد الفتى للضربة لأنه فعلها بحريته، فيقول لأخته لينتشلها من براثن الندم:(أنا حر يا إلكترا. لقد انقضت على الحرية انقضاض الصاعقة). وتجيبه الفتاة: حرا أما أنا فلست أشعر بأني حرة. أتستطيع أن تعيد ما كان وكأنه لم يكن؟ وقد وقع منا ما وقع ولسنا أحرارا في أن نرجعه إلى ما كان قبل أن يقع: أتستطيع أن تمنعنا من أن نكون قاتلي أمنا إلى الأبد؟ فيرد عليها أورست قائلا: (أو تظنين أني أريد منعه؟ إنه فعلي أنا، وسأحمله على كتفي إلى الأبد). أجل إن حرية الإنسان

ص: 11

محدودة بحد الإنسان، حرية غير تجريدية، بل متصلة بتفكيره وعواطفه وشهواته وكل ما هو من شخصه، ولكنها الحرية على كل حال. ولا يجوز في حكم العقل أن يدفعنا ما لها من صفة نسبية، من صفة الإنسانية إلى إنكار وجودها كما فعل مؤلفنا الكريم.

ربما رأى القارئ أننا أسرفنا بعض الشيء في عرض فكرة الأستاذ الحكيم وشرحها ونقدها. ولكننا إن فعلنا ذلك فلأننا نعتقد أن الفكرة في العمل الأدبي يجب أن تحتل المكان الأول لأن الكاتب إذ يكتب، لأن الكاتب إذا راح يجمع الكلمات في جمل يتوخى أن تكون واضحة مفهومة فلا بد أن أمرا غريبا عن مجرد الكتابة لذات الكتابة قد ساقه إليها، ذلك هو عزمه على أن يبلغ النتائج التي وصل إليها بذهنه إلى الآخرين. فإذا فعل ذلك دون أن يكون لديه شيء يقوله فقد فعل ما فعل في الفراغ. وأظن ذلك مما يجب أن تتنزه عنه أعمال العقلاء. وقد قلنا في مقال سابق إن إقصاء التفكير عن المسرح إفراغ له من مادته الأساسية وإنزال لقدره وحط لكرامته. كما نرى أنه من أجل أعمال الناقد أن يتتبع في العمل الأدبي نظرة الكاتب إلى العالم والحياة والناس، سواء أكانت هذه النظرة شعورية أو غير شعورية، ويحررها وينقدها ويقومها. لأنه إذا كان من أهم وظائف الأدب، كما يقول أندريه جيد. أن يضيف إلى المعرفة الإنسانية أرضين جديدة (في الميادين النفسية مثلا)، أرضين يتعسر الوصول إليها بطرائق أخرى غير طرائق الأدب فإن من وظيفة النقد أن يقوم هذه الأرضين ليجعلها صالحة للاستغلال، ويسهل للإنسان السيادة عليها. وفي اعتبارنا أن الأستاذ توفيق الحكيم جدير بهذا النقد الجدي، جدير به وأن لم نرضى عن أفكاره في رواية سليمان الحكيم التي ندرسها هذا العام مع طلبة الفلسفة بكلية الآداب. هذا إلى أن هذه الفكرة كان لها أثرها الفعال على فن الرواية نفسه كما سنبين فيما بعد. أما الآن فنود أن نشير إشارة عاجلة إلى الباعث الذي يجنح بالمؤلف إلى اختيار مثل هذه المواضيع مادة لمسرحه، وأن ندلي بوجهة نظرنا فيه.

يرى الأستاذ ويصرح بهذا الرأي في مقدمة مسرحيته: (أوديب الملك) بأن الدين كان أساس التراجيديا عند الإغريق القدماء فيقول: (أساس التراجيديا الحقيقية في نظري هو إحساس الإنسان أنه ليس وحده في الكون، وهذا ما أعبر عنه بعبارة الشعور الديني. . . مهما كان شكل التمثيلية وإطارها وأسلوبها والأثر الذي تحدثه في النفس فإن هذا كله لا يسوغ في

ص: 12

رأيي وصفها بالتراجيديا ما دامت لا تقوم على هذا الشعور الديني). وهذا كلام لا نرتاب في صدقه ونقائه. فموضوع التراجيديا عند إسخيل وسوفوكل مثلا مأخوذة من عبادة الشعب بطريق مباشر. وكانت تمثل أمام شعب مجتمع متجانس يرى في آلهته الآلهة الحقيقيين، وفي أبطاله الأبطال الحقيقيين، وكلهم أبلوا في حماية الوطن وإعلاء كلمته. فتعرض على الشعب أعمالهم الجليلة ومظاهر بطولتهم وكلها معروفة من الجميع، حية في نفوس الجميع. تعرض هذه الأفعال العالية والبطولة النادرة، وتعرض معها جرائم الأسلاف ونكباتهم، أولئك الأسلاف الذين يرزحون تحت سطوة القدر القاسي: فمن خرافة بروفين إله النار الذي يخدع الآلهة فتقضي عليه الآلهة بأن يظل طول الأبدية مشدودا إلى صخرة وقد جثم عليه نسر عات ينخر كبده دون أن يخفف عنه العذاب أو يقضي عليه فيموت، إلى الملحمة التي انتهت بهدم طرواده وما تخللها من أعمال البطولة التي تعلو على طوق الإنسان، إلى سلسلة المآسي الفاجعة التي ترتبت ترتبا حتميا على مآدبة أنرية المشؤومة حتى انتهت بحماقة أورست المروعة، إلى الانتصار الهليني على العدوان الفارسي، ذلك الانتصار الذي كانت ذكراه تلهب قلب كل يوناني بالحماس. فكلها موضوعات شعبية دينية ليس منها واحد لا يمتزج امتزاجا بروح كل فرد في الشعب وبأخفى خفايا نفسه. وقد دعي شعراء التراجيديا للاحتفال بها أي إلى الاحتفال بروح الشعب المشترك وإيمانه المشترك في وقار، بل في أسمى ما يكون الوقار. دعى الشعراء التراجيديون لتقديم أعمالهم عن هذه الموضوعات، وكان على الشعب أن يتفانى في تكريم من كان منهم أهلا للتكريم، أعني من استطاع خيرا ممن عداه أن يثير في نفسه (نفس الشعب) الانفعال الذي كان ينتظره من بروميتي وأجاممنون وأوديب وأورست بعد أن تقمصهم أمامه أشخاص أحياء بضع ساعات من نهار.

(للبحث بقية)

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس

ص: 13

‌القيم الروحية بين العلم والمادة

للأستاذ واصف البارودي

الإنسان مجموعة متناقضات؛ لذلك تراه متناقضا في طبعه وفطرته. فهو صادق كاذب، وكريم بخيل، وشجاع جبان. . . الخ ولا تجد صفه من هذه الصفات متلبسة بلباس الفضيلة والرذيلة حتى إمكان تلبسها بالكساء الآخر. فالصدق أب الفضائل، والكذب أم الرذائل؛ ومع ذلك ألا نجد الصدق رذيلة في النميمة ونقيصة في الغيبة؟. . . ثم ألا نعتبر بعض مظاهر من الكذب، في إصلاح ذات البين مثلا، فضيلة ندعو إليها؟. . . وهل في العالم إنسان يعتر البخل فيما تستلزمه الكرامة الإنسانية، وفيما تقتضيه واجبات المحافظة على الوطن رذيلة ما؟ وهل في السماح بأرض الوطن فضيلة ترتاح لها النفوس؟. . . مثلا. فأين الفضيلة؟ وأين الرذيلة إذن؟. . . أهما مستقران في الألفاظ؟ أم هما من المعاني المنبثقة من صميم النفس بحسب إشعاع روح المجتمع فيها بأمر من الخالق المدبر، وبحكمته؟. . .

المطلق هو الله وحده، وكل ما يصدر عن هذا الكون نسبي لأنه خاضع، بحسب تكوينه، للتطور والتحول، بحكم مطاوعته لفعل المؤثرات في الخارج، وبحكم استجابته لأحكام التفاعل التكويني المستمر في داخله. فلا غرابه إذا تجاذبته المتناقضات، ولا عجب إذا اشترط تحققه الإنساني بتحقيق التوازن بين تلك المتناقضات، وبتركيزها!. . .

لكل كائن خصائصه التي يتميز بها، ويعرف. وخصائص الإنسان إنما تنجلي بمظاهر إنسانيته. وهذه لا تبرز إلا بتحقق الإرادة والحرية. وبقدر ما يتنازل الإنسان عن إرادته وحريته، يتنازل، في الحقيقة، عن إنسانيته. ولذلك كانت الحياة البشرية في الأفراد والمجتمعات، كفاحا مستمرا بين عزة الحرية ومنعة الإرادة، وبين ذل الجبرية واستسلامها. فالجبرية ضعف وجمود، والحرية قوة وتجدد. وهاتان العقيدتان المتناقضتان تلخصان، في الحقيقة، تاريخ البشرية منذ وجد الإنسان.

فمنذ تعرف الإنسان بهذا الكون المادي فكر بالسيطرة عليه وكان التوفيق حليفه في جميع الأدوار. غير أن المادة لم تكن تحجم عن الانتقام منه كلما وجدت لذلك سبيلا، ومظهر انتقامها أبرز ما يكون في سوقه إلى جبريتها، والجبرية هي الصفة الملازمة للمادة، ووسيلتها في الإنسان جسمه، إذ الحرية صفة تلازم الأرواح، والإرادة مظهر سام لها؛ ولا

ص: 14

تكاد المادة تسوق الإنسان لجبريتها حتى ينقاد لهواه ويعق إرادته. ومنشأ الهوى فؤاد هدام، وسريرة مظلمة. وفي ظلام الفؤاد والسريرة تتناثر الفكرات السامية وتلتحق بالعدم، فلا يكون لها أي تأثير في توجيه الإنسان، أو في تحقيق إنسانيته؛ فيعيش حيوانا يدعي أنه إنسان ناطق.

الإنسان مجموعة متناقضات، وبقدر تقدمه في الحضارة تزداد مظاهر التناقض في نفسه، ولا تنجلي إنسانيته إلا في إيجاد التوازن بين تلك المتناقضات، وفي تركيزها، على ما سبق وألمعنا إليه. وهذه هي الحكمة التي تقضي بوضع كل شيء في محله؛ وبهذا تتكون حقيقة الفضائل وتتفاعل عناصرها. قال أحد الفلاسفة:(ليست الفلسفة إدراكا وتأملا وحسب، وإنما هي حكمة).

المادة والعلم:

من مظاهر التناقض في نفس الإنسان تعلقه بحقائق العلم ومستلزماته، وحرصه على مقومات الجسم والتنعم بملذاته. فالعلم والمادة متناقضان بحسب الظاهر، ولكنهما في الحقيقة، وسيلتان تصلحان لرفع مستوى الإنسان بتحقيق إنسانيته الفردية والاجتماعية، إذا أحسن التصرف، وعرف حدود كل منهما، وكان لبقا في استخدامه. والخير، وكل الخير، يستقر فيهما معا ما داما يستعملان أداة أو وسيلة؛ ومتى أصبح أحدهما غاية للإنسان في حياته، تبدأ الشرور.

فالمال، مثلا، مع فوائده الجمة يقوم عثرة في سبيل التقدم متى حصل اضطراب في نظام جمعه وتوزيعه، فيصبح بعيدا عما تقتضيه الحياة الاقتصادية والحياة الإنسانية من رقى. ويكون مظهر الاضطراب المادي في أمور ثلاثة هي:

1 -

تعقيم المال: وهو الرغبة في جمعه وكنزه في الأرض، أو في الصناديق، فيصبح عقيما، إذ لا ينتج أعمالا، ولا يساعد على تحقيق أي مشروع.

2 -

تحكم الآلة: والآلة إذا تحكمت بالإنسان تحوله لآلة. ولا نخشى هنا من أن تصبح وسيلة لكثرة العاطلين عن العمل، وحسب؛ وإنما نخشى أن تنقلب نفسية الإنسان وروحه لنوع من الآلية فيفقد بذلك إنسانيته. وتدارك هذا الخطر إنما يكون بالتربية وبتبديل أنظمة العمل وتثقيف العمال.

ص: 15

3 -

اتخاذ المادة معيارا للقيم. ومتى اتخذ المادة معيارا للقيم انجذبت إليها النفوس فتتأثر بخصائصها المميزة لها، وأهمها الجبرية فيعتقد الإنسان بأن مساق جبر حسب النواميس التي تساق بها المادة نفسها. وهنا يمكن الخطر.

وأما العلم فإنه يظهر لأول بادرة أنه يتعلق بالنفس لتعلقه بالمعرفة. وهو من حيث الغرض متعلق بالمادة نفسه، لأنه وسيلة التحكم بها مبدئيا. ويخشى عندما يتعلق العلم بالمادة تعلقا شديدا أن يكتسب منها صفة الجبرية، فيقول بها، كما ظهر لنا من أقوال كثير من العلماء، ولا سيما في عصور الانحطاط. وقد ظهرت بوادر هذه العقيدة عند الكثيرين من علماء عصرنا هذا، فكانت دليلا على ظهور إمارات الانحطاط في مؤسساته العلمية والاجتماعية، وأخذت الحضارة تنذر بالانهيار.

قال مونتاني: (من الجرأة الغريبة أن يرفع إنسان نظره أمام العلم) فأجابه هنري ماريون مؤخرا قائلا: إننا نحترم العلم ونخضع له، ولكن هل يقضي علينا ذلك باحترام العلماء أصحاب النظرات التصاعدية التي تتصل بالأوهام والسخف، وبالخضوع للعالم الذي يتخذ علمه وسيلة لاقتناص المادة والمناصب، ولخداع الناس؟. .

أننا نعرف كثيرا من الحوادث التي اتخذ بها العلم وسيلة لتحقيق مآرب خاصة، واقتناص فوائد مادية، دجلا وتزييفا، ومن قبل أناس مشهود لهم بالعلم والثقافة، وكانوا، في الحقيقة، على شيء من العلم والمعرفة. ولا يندر أن نجد مثقفين يقولون ما لا يفعلون، نفاقا ورياء؛ فهم يتخذون المعرفة والمبادئ وسائل رخيصة في سبيل تحقيق ما تميل إليه أهواؤهم، وإشباع جشعهم وأطماعهم.

القيم:

العلم، بذاته، لا يعرف الخير والشر. والمادة بذاتها، لا تعرف الخير والشر. وكل شر أو خير يتأتى عن العلم أو المادة، إنما يكون منشأه الإنسان. فالخير والشر كامنان في نفس الإنسان وحده، وفي روحه. . . ومن هنا نستطيع أن ندرك أهمية القيم.

يقول الشاعر:

قيمة الإنسان ما يحسنه

أكثر الإنسان منه، أو أقل

وأسمح لنفسي أن أقول: قيمة الأعمال تقدر بنسبة صلتها بروح الإنسان. فالإنسان هو معيار

ص: 16

كل شيء، حسب تعبير بروتا غوروس لا العلم ولا المادة، ولا العمل نفسه.

القيم الروحية:

القيم تتصل بالأعمال التي يقوم بها الإنسان. فكل عمل نقوم به، إنما يقدر ببواعثه. فإذا كان منشأه الهوى، أي الفؤاد الهدام المظلم، أو بتعبير آخر: النفس الأمارة بالسوء، فلا تكون له أية قيمة إنسانية، لأنه في هذه الحالة يكون فعلا مجبرا. وليس للأعمال الإنسانية قيمة صحيحة إلا إذا صدرت عن الإرادة المتحققة في الحرية. فصلة الأعمال والسلوك بروح الإنسان أي بإنسانيته، هي التي تهبها قيمة ما. والروح لا تكون روحا إلا بالإرادة والحرية، لأن الروح، في حقيقتها، حياة وحركة وتقدم وثورة.

وتقدر قيمة الأعمال بالبواعث. فإذا كانت البواعث أمورا خارجة عن الروح، أو بتعبير آخر: إذا لم تكن منبثقة عن الفعالية الروحية، فلا يكون للعمل قيمة روحية، وإنما تنسب قيمته إلى الباعث الذي أدى لوجوده. فإن كان كسب المال، مثلا، فتكون قيمته مادية، وإن كانت الشهرة، فهي الزهو والغرور. فما رأيك فيمن يولم وليمة وينفق عليها بسخاء، ويكون له من ورائها مأرب تجاري؟ أيصح أن يدعي كريما؟ أعتقد أن من ينفق قرشا على فقير بباعث الشفقة والرحمة، هو أجدر بالاتصاف بالكرم من ذلك المستثمر. إن صفة الكرم وأمثالها لا تمنح إلا لمن يقوم بهذا العمل بباعث روحي داخلي، لا لمآرب خارجية.

فالقيم الروحية إنما تقوم بالروح، بصفة أنها عمل بذاتها، وبسبب البواعث على العمل. وهذه القيم يسبقها نزوع له مبدأ، وله غاية، وبينهما قوة حركية يبعثهما الحدس والعاطفة. فإما أن تذهب إلى النفس المظلمة فتنقاد للهوى، وإما أن تتصل بالفؤاد البناء فتتصل بالإرادة، فيكون العمل إراديا حرا، أي إنسانيا. صور أحدهم من يبذل من ماله دون أن يكون لبذله أية قيمة روحية فقال:

يعطى ويمنع، لا بخلا ولا كرماً

وإنما نزعات من وساويس

أثر الانفعال والتفكير في القيم:

ومما يقوي هذه النزعات، ويبعدها عن نظام القيم الروحية، الانفعال. والانفعال نسيب الهوى. ولذا يقول علماء النفس: إن الأمم الكثيرة الانفعال قليلة الإنتاج. ألا ترانا نحن في

ص: 17

مؤسساتنا وفي منظماتنا، كثيرا ما نبدأ بحماس شديد، وننتهي إلى لا شيء؟ ونعبر عن ذلك بقولنا:(إننا نفور فورة الحليب). وهذا ما يتهمنا به الغربيون فيقولون عنا: إنهم يسيطر عليهم الانفعال فلا تخشوهم؛ ولكن اصبروا عليهم بادئ الأمر، وسرعان ما يهدأ انفعالهم، ويسكن في نفوسهم الحماس.

إننا نحترم الأمم التي تعتمد على التفكير في سلوكها، فلم لا نجعل التفكير والتؤدة من مبادئ سلوكنا، أي من القيم الروحية التي يجب أن تصدر عنها انفعالاتنا النفسية؟ وهل شيد أسلافنا صروح الحضارة إلا بهذا التفكير؟. . .

المثلث الخالد:

تتجمع هذه القيم الروحية في المثلث الخالد، وهو الحقيقة والجمال والخير. فالحقيقة توافق داخلي بين فعالية الروح وموضوعها. والإنسان بحاجة لمعرفة الحقائق ليحيي إنسانا. ولا يمكن الحصول على الحقيقة إلا إذا تجردنا عن مصالحنا وأهوائنا.

فللحقيقة قواعدها الخاصة، وهي موجودة في الكون، ولكنها موجودة بالقوة، والإنسان هو الذي يخرجها لخير الفعل، فتصبح به كائنة بالفعل. والإنسان الذي أنيط به إخراجها لخير الفعل يستطيع تزييف هذه الحقائق وقلبها، ومن هنا يصدر إمكان الدجل والتزوير، من العلماء أنفسهم.

والفرق بين الحقيقة المجردة والحقيقة المزيفة أن الإنسان يصل للأولى بقدر ما يترك نفسه على سجيتها، ومتى أراد التزييف بذل جهدا خاصا. ولذلك تقع التبعة في تزييف الحقائق على الإنسان وحده، لأنه يقوم به بمحض إرادته. ولعمري أنها جريمة من أفظع الجرائم، سواء أخدع الإنسان بذلك نفسه، أم خدع الآخرين.

أما الجمال فهو ما يثير في النفس الانبساط والإعجاب معا. وأقصد بالانبساط معناه اللغوي، أي امتداد النفس واتساعها، فيشعر الإنسان أمام أي مظهر من مظاهر الجمال بامتداد في روحه يجعله يحاول أن يتجاوز نفسه في السمو.

تصور نفسك أمام أثر فني رائع، وأثر معماري خالد، أو أنك تقرأ قطعة أدبية فنية، أو تستمع إلى سيمفونية راقية، أو أنك أمام غير ذلك من آثار الفنون الجميلة، فتشعر بذلك التأثير، إذا كان في روحك انطلاق. وما ذلك إلا لأن الجمال، في حقيقته، حر مجرد؛

ص: 18

والتأثر به إنما يكون نتيجة لفعالية روحية حرة مجردة. فمتى اتصل هذا الإحساس بمأرب أو غرض ذهبت روعة الجمال، وضاعت على الإنسان مسرات سحرة، فيصبح حيوانا مخربا، يفسد على الجمال روعته. أو يخسر الجمال قيمته الروحية.

تذوق الجمال استجابة لفيض من القوة الروحية وفعاليتها، يبذلها الإنسان للبذل. كلنا يشعر، لا سيما في أوقات فراغه، بفيض من الفعالية يحتار في أمر استخدامها؛ فإذا لم تجد مخرجا ألقت بالإنسان في غياهب الذهول، فيصبح أسير الأحلام النهارية، ويتأثر بالمنامات. وهذه حالة كثيرا ما تؤدي إلى الضعف والفساد. إن قوى الإنسان بحاجة لأن تتمرن للتمرن، فلا تكتفي بالعمل العادي؛ فوجب أن تصرف في الألعاب ورياضة الجسد، وفي تذوق الجمال في مظاهره المختلفة من أدب وموسيقى وتصوير وغيرها من آثار الفنون الجميلة.

فإذا اهتمت الأمم الراقية بهذه الفنون وبالرياضة البدنية، فإنما تعني بذلك لتحفظ في الشباب قواهم الروحية، ولتنمي هذه القوى، خشية من تحولها لفساد، أو ذهول، تضعف معهما إنسانية الإنسان وقد تتلاشى. فلا غرابة إذا رأينا المربين يؤيدون مبدأ إصلاح المجتمع بالفنون الجميلة وبتشجيعها.

إن الفنان الجدير بفنه يتحكم بالزمن تحكما لا يستطيعه غيره. يستطيع كل إنسان أن يعود إلى أي مكان سبق ومر به؛ ولكنه لا يستطيع أن يستعيد لنا لحظة مرت سوى الفنان من بني الإنسان. والفنان يستطيع، عدا ذلك، أن يستبقي تلك اللحظة، وأن يخلدها. فإنه يأخذ من أي مظهر من مظاهر الجمال، وقد تجلى في زمن من الأزمان، عناصر هامة يركب منها رائعته التي تحفظ لك ذلك التجلي وزمنه، ويجعل باستطاعتك العودة إليه متى أردت. فكأنه يحرر هذه العناصر من جبرية المادة ونواميسها، ويمنحها كيانا جديدا يصله بروحك. وهذا ما يضمن للأثر الفني الخلود. إنه قد عبر عن نفسية الفنان، وانبثق عن روحه، فكانت له قيمته الروحية. ولهذا جعل الفلاسفة الجمال مبدأ للخير.

والخير هو حصول الشيء على كماله، أو، حسب تعريف بعض المعاصرين، ما يجب اختياره.

فالحرية والإرادة شرطان أساسيان في تحقيق وجوده ولا يستطيع الإنسان أن يكون حرا في اختيار ما يجب اختياره إلا إذا كان مثقفا لحد ما.

ص: 19

ومن هنا نشأت فكرة وجوب الغاية لتثقيف الجماهير في الأمم الديمقراطية الحرة، إذ مهما كان العمل عظيما، فلا يعتبر فضيلة، إن لم يقترن بالفهم والتفكير، أي بالروح العلمية.

فهذه القيم: الحقيقة والجمال والخير، مهما افترقت في مفاهيمها، فإنه يجمعها أنها تشترك كلها في تكوين المثل العليا الصحيحة. ولا تكون المثل العليا صحيحة إلا إذا دخلت في دائرة التأمل والإرادة، وكانت ثورية في طبيعتها.

قال بيجوي: (. . . وهكذا، فإن أول شكل للمثل الأعلى في التاريخ، وأول شكل يكشفه، هو النقد والمناظرة، وإنه، لدرجة ما، ثوري دائما). ولعله يقصد بالثورة، هنا، ثورة النفس على النفس، ليتم الانقلاب فيها أولا، قبل أن تفكر في قلب المجتمع:(لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (قرآن كريم)

إننا ندعو للقيم الروحية لتستقر مشاريعنا، ولتستمر؛ لأن المشاريع التي تتعلق بالفرد تزول بزواله، أو بزوال نشاطه. قال ويلز:(إذا أردت أن تبعث شعبا من الشعوب من غفوته، فحسبك أن تبعث في حياته روحا علمية في التفكير، وشعورا لطيفا في النفس يتفجر عنه الحب والعواطف).

ومن هنا يجب أن يندفع الإنسان إلى العمل. فلا بد في الحصول على مسرات القيم الروحية ومباهجها وفي بلوغ نتائج تأثيراتها الرائعة في توجيه الأمم وإنهاضها وعظمتها؛ لا بد في ذلك كله من أن يبدأ المواطنون بثورة النفس على النفس؛ ولا يتسنى لأي إنسان القيام بهذه الثورة إلا بعد تحطيم الأصنام المتربعة على عرش قلبه، قبل كل شيء.

لا يمكن معرفة الحقيقة الناصعة، وتذوق الجمال الرائع، والانجذاب إلى عمل الخير النافع، ولا يستطيع الإنسان اعتناق المثل العليا، وهي وحدها تبعث الاطمئنان في النفوس، إلا بمواجهة الواقع. ومواجهة الواقع بصدق وإخلاص ودراية يقضي حتما بتحطيم ما في النفس من أصنام تدفعها لطرق ملتوية لا تستقيم معها النفوس. والأصنام كثيرة: منها ما هو مادي خارجي يؤثر في النفوس، كالمظاهر المادية ووسائل الترف؛ ومنها ما هو نفسي داخلي يتآكل في النفس إنسانية الإنسان. وكل امرئ يعرف أصنامه، وما دام عابدا لها فليس له أن ينتظر رقيا ولا تقدما في نفسه، بلة في مجموع يعتمد عليه.

قال بارودي: (نخشى من جمود المؤسسات والأخلاق والعقائد، لئلا تتحول لآلية نفسية أو

ص: 20

اجتماعية، تصبح معها عائقا عن التقدم).

فلا يكفي إذن أن تتبنى القيم الروحية، بل يجب أن تتجدد حيويتها في نفوسنا بقوة فعاليتنا الروحية، ولا يتم ذلك على أكمله ويبعده عن التزوير والجدل والتزييف، إلا إذا اتصلت بالمثل الأعلى الأعظم، وهو جماع القيم الروحية في سموها، أي الحقيقة المطلقة، والجمال الأسمى، والخير الأعظم، وهو الله.

فمتى اتصلت قيمنا الروحية بالله، تصبح روحانية، فتتوازن وتتركز وتتوحد، وتكون منشأ الوحدة بين البشر، إذ لا يجوز أن يكون اسمه، جل شأنه، وسيلة تفرقه بين المواطنين والشعوب والأمم.

واصف البارودي

ص: 21

‌صور من الحياة:

سعادة البك. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

ما لهذه الحياة تمزج الجد بالهزل، وتخلط الحق بالباطل، وتجمع بين الشدة واللين، وتوائم بين الصعب والسهل؟ لعلها تبتغي أن تنفث في الناس الأمل فلا يعتريهم الملل، وتبعث فيهم المرح فلا يضنيهم الأسى، وترسل فيهم الرجاء فلا يقتلهم اليأس!

سعادة البك رجل نيف على الأربعين، نال حظا ضئيلا من الثقافة العربية والفرنسية، درج في بيت من بيوت المجد والغنى والجاه، وكان أبوه الباشا يعتز به ويدلله ويقربه إلى نفسه وقلبه في وقت معا، فشب يرفل في الثراء والنعمة، ويتألق في الصحة والعافية، ويتقلب في السكينة والهدوء. يأوي إلى المسكن الرحب الأنيق، ويسعد بالثوب الغالي الجميل، ويسكن إلى الطعام الشهي اللذيذ. يقضي أيامه بين القاهرة والعزبة، يأخذ من هناك لينفق هنا عن سعة، ويستمتع في الريف بالهدوء الوداع والخمول الرخو، والهواء النقي، والخضرة النضيرة، ويستمتع في القاهرة بالصخب المثير، والحركة المستمرة، واللهو البريء. وهو إن وجد في العزبة ما يشغل بعض وقته فهو في القاهرة لا يجد إلا صراعا عنيفا بينه وبين الزمن: يريد أن يقتل الوقت فيقتله هو، ويحاول أن يلمس فيه الراحة والطمأنينة، فلا يحس إلا الضيق والضجر. والأيام تمر وهو يقضي صدر النهار قلقا مفزعا لا يجد الصاحب ولا الرفيق، والناس في شغل عنه. وهو في آخر النهار بتذبذب بين شرفتي الكونتنينتال وشبرد، يضطرب من نضد إلى نضد، ومن جماعة إلى جماعة، وصحابه جميعا من ذوي المكانة والشأن، ومن أصحاب الرأي والكلمة، يجلس إليهم في الشرفة ويزورهم في المنزل، ويرافقهم في اللهو، ثم هو يهيئ لهم المآدب الفخمة، والسهرات العابثة، يدعوهم إلى الملهى والمسرح فلا يتمنعون. وهم لا يملون صحبته، ولا يمل هو، فهو خفيف الظل لطيف المعشر، طيب القلب، حلو الحديث، بارع النكتة، حاضر البديهة، لا يثقل على واحد منهم بحاجاته، لأنه في غنى، وهو لا يشغل نفسه بحاجات غيرة.

عرفته منذ شهور، وقد ران عليه القلق من أثر الفراغ، وسيطر عليه الاضطراب من أثر الخمول. ولقد اطمأن إليّ فراح ينشر أمامي نوازع نفسه وخطرات ضميره: فهو يطمع في

ص: 22

أن يلي منصبا عاليا من مناصب الدولة، ولكن أنى له الشجاعة التي تدفعه إلى أن يتحدث بذات نفسه إلى واحد من صحابه، وهو في نفسه عظيم بين عظماء، لا يسمو عليه الوزير، ولا يبذه الباشا، ولا يعلو عليه المدير. لا ريب فإن طلبه سيضع من قيمته في نظرهم جميعا، ولكنه سيجد الخلاص. وشمله مركب العظمة فهو لا يتكلم إلا عن عظمته هو، وعن مواهبه وعبقريته ونبوغه.

وفي ذات يوم قال لي (أرأيت؟ لقد ولى فلان باشا وزيرا لوزارة كذا، ولولا أنه صديقي لنازعته المنصب، ولو أنني فعلت لظفرت به ولغلبته على أمره) وابتسمت لكلماته الجبارة حين رأيت مركب العظمة يتوثب شامخا في غير تواضع مترفعا في غير تحرج، ثم قلت (وأنت لو شئت لاختارك معالي الباشا، وهو صديقك، وكيلا لوزارته) قال لي (حقا، حقا! غدا أذهب إليه لأهنئه ولأطلب إليه ما أريد في شجاعة وتشبث).

وغدوت إلى مدير مكتب معالي الوزير، وإن بيني وبينه صلات العمل وأواصر الصداقة، فألفيت صاحبنا البك جالسا على كرسي وثير وعليه سيما العظمة والكبرياء، وبين يديه ورقة وبين أنامله قلم، فحييته في احترام وجلست إلى جانبه أحدثه (ماذا تفعل يا سيدي البك) قال (لقد أردت أن أقابل معالي الوزير فلم أجده فأنا أكتب إليه خطبا أهنئه بالمنصب الجديد، وأطلب إليه ما أريد) قلت (وماذا تريد؟) قال (أريد أن أكون عضوا في مجلس الشيوخ في المكان الذي خلا بوفاة فلان باشا) قلت: وماذا عسى أن يملك الوزيرة من هذا الأمر، وهو بين يدي مولانا الملك) قال (لا عجب أن تقول هذا القول وأنت موظف صغير لا تفهم عن المناصب الكبيرة شيئا. ألا تعلم أن معالي الوزير إن شاء حدث دولة الرئيس في شأني حديثا طيبا، فما يحجم دولة الرئيس عن أن يزكيني لدى مولانا الملك) قلت (عجبا! كيف فاتني هذا الرأي!)

ثم أنطوى البك على قلمه وقرطاسه، وفرغت أنا إلى مدير المكتب، فقال لي (أو تعرف شيئا عن هذا الأفندي؟) قلت عابثا (لا تقل هذا! إنه رجل من ذوي المكانة والخطر، وهو صديق روحي لصاحب المعالي الوزير، لا يوصد في وجهه بابآ، ولا يرد له شفاعة) قال (ولكنه يجهل التقاليد الحكومية) قلت (ولمه؟) قال (لقد طلب إلي أن يلقى الوزير ليهنئه، وليطلب إليه أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وهذا أمر لا يد للوزير فيه) قلت (الآن

ص: 23

ترى!).

وناديت سعادة البك ليشاطرنا الحديث فجاء فقلت له: (إذا قال لك الوزير إنني لا أملك أمر تعيينك عضوا في مجلس الشيوخ، ولا أستطيع أن أحدث دولة الرئيس بذلك، لأنك لم تكن يوما سياسيا من ذوي الرأي والمبدأ والعقيدة، ولم تكن عضوا في حزبه).

قال: (آه، نعم. لقد فاتني هذا الرأي، ولكن إذن أطلب إليه أن أكون مديرا عاما لإدارة كذا).

قلت: (وأنت رجل لا عهد لك بما تتطلبه هذه الإدارة من أعباء، وهي إدارة فنية، ثم إن هذه وظيفة تحط من قدر رجل عظيم مثلك).

قال: (فماذا أفعل؟)

قلت: (إذن لا معدى لك عن أمر واحد، هو أن تكون مديرا لمكتب معالي الوزير).

قال في غضب: (أي خساسة وأي ضعة! لقد جئت أرجو الرجل - وهو لا يعرفني - فتلقاني في بشر واحترام، أفأسعى - بعد ذلك - لأنتزع كرسيه؟ لا، لا. لن يكون ذلك أبدا!)

قلت: (هذا مكانك أنت، فستلقى هنا عظماء الدولة يرجون رضاك، ويتملقون كبرياءك، وينحنون لك، وستكون أنت - إلى ذلك - صاحب الرأي لدى معالي الوزير، وكاتم سره، ورفيق نفسه).

قال: (لا، لا. لن يكون ذلك أبدا!)

قلت: (وماذا عليك والمدير نفسه راض، لا يجد غضاضة في أن ينزل لك عن كرسيه؟)

قال: (أفيرضى هو؟ فلنسأله. . .)

وبدا للمدير ما أحاول من عبث ومزاج، وراقه ما أفعل، فأراد أن يسري عن نفسه بعض عنت العمل، فقال في مكر:(نعم، أنا راض على شريطة واحدة).

فأجابه البك في لهفة: (وما هي؟)

قال المدير: (أن تسعى لدى معالي الباشا لأكون مديرا للإدارة التي ذكرت).

قال: (لا بأس، فهذا أمر سهل بسيط).

ثم خلا البك إلى قلمه يديره على القرطاس مرات ومرات فلا يهتدي. وأعجزه أن يكتب كلمة واحدة فناداني لكي أعينه على أمره وقد حزبه، قال (تعال، يا أستاذ، أرني كيف تكتب

ص: 24

طلبا أقدمه إلى معالي الوزير. فأنت - كما تزعم - أديب كبير) قلت (وما للأدب وللطلبات الحكومية. إن الأديب يكتب على نسق خاص لا تستسيغه الأوراق الحكومية وهي لا تنضم - عادة - إلا على ألوان من التملق وأساليب من الخضوع وفنون من الذلة وأنواع من المسكنة، وأنا لا أحسن شيئا منها) قال في غضب (ومن ذا الذي يحسنها غيرك أيها الموظف؟) قلت في ابتسام (مدير المكتب يمليك فهو يختار - دائما - من الكلام ما يرضي الوزير ويتملقه) قال وهو يلتفت إلى المدير (نعم، أفتسمح يا سيدي المدير فتملي).

ورأى المدير أن المزاح يوشك أن ينقلب جدا، فاضطرب في كرسيه حين تراءى له ما سيكون بعد، فاعرض عن البك ومال إلى يسر في أذني (أرأيت كيف جرنا المزاح إلى الهاوية؟) قلت (أي هاوية؟) قال (هذا الرجل صديق الوزير، ما في ذلك من شك، وهو سيصر على أمر وسيحدث به الباشا، فماذا ترى سيقول حين يعلم ما كان مني وما كان من هذا الرجل. لا ريب أنه سيثور علي ويقذف بي إلى أقصى الأرض رغم ما تعرفه من ثقته بي وحرصه علي) قلت (لا تخف!) ثم التفت إلى سعادة البك أحدثه قائلا (أتطلب إلى الوزير أن تكون مديرا لمكتبه؟ كيف ترضى أن تكون خادما له تحمل حقائبه وتتبعه كما يتبع الكلب الأمين سيده، وتنمحي أنت بين مشاغله ورغباته؟) فثار حينا ثم قال (ومن قال ذلك؟) قلت (هذا هو عمل مدير المكتب) قال (لا، لست أرضى بأن أكون تبعا لأحد، يكفيني أن أعين عضوا في مجلس الشيوخ) قلت (حسنا، هذا مركز ذو شرف وجاه).

وأخذ مدير المكتب يملي والرجل يكتب إلى الوزير رجاء أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وتنفس المدير واطمأن وهدأت وساوسه. ورضى سعادة البك. ثم التفت البك إلى مدير المكتب قائلا (مر من يكتب هذا الطلب على الآلة الكاتبة، وسأحضر غدا لأقدمه بنفسي إلى معالي الوزير) وأجاب المدير بالإيجاب. ولكن الشواغل شغلته عن أن يفعل.

وجاء البك في الميعاد فألقى طلبه ملقى في ناحية. وبدا له أن مدير مكتب الوزير قد أهمل شأنه فثار به. وعلى حين غفلة منه اندفع صوب باب الوزير يقتحمه ليشكو هذا الموظف المهمل، فما انتبه المدير إلا ليرى البك أمام الوزير وجها لوجه، والوزير يهش له ويبسم ويلقاه في سرور. وعجب المدير لما يرى ولكن الوزير أمره بأن لا يوصد بابه في وجه سعادة البك لأنه صديق روحه ورفيق قلبه.

ص: 25

لقد دخل البك الثري حجرة الوزير لم يقف ببابه لحظة واحدة. . . دخل وخلف من ورائه موكبا لجبا يقف لدى الباب، تنطوي الأيام وأن الواحد منهم ليخشى أن يحين حينه قبل أن يلقى معالي الوزير. . .

كامل محمود حبيب

ص: 26

‌موكب الربيع.

. .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

النغم النشواق

يا حبيبي، ظمئت روحي وأضناها الحنين

أنا هيمان وشكى فيك يا حلو يقين

رقد الليل فما تفضح نجوانا العيون

قم نلَبَّ دعوة الحب فدنيانا الفتون

زورق الحب على الشط كقلبي المطمئن

قم فهذي ليلة الحب وهيا لنغني

أقبلت أطياف آذار تحيينا ابتساما

جددت للقلب أفراحاً وللروح هياما

فأقيموا للربيع السمح عيداً يا ندامى

عمت الفرحة وادينا أنسلوها نياما

يا هنائي آه لو كنت على الأحزان عونى

أتمناك على البعد وهل يجدي التمنى؟

يا ليالينا بوادي السحر عودي يا ليالي

لم أزل نشوان أستلهم أقباس الجمال

فالدجى غاف وبدري والأمانيُّ حيالي

الهوى يوحي إلى نفسي تهاويل الخيال

أين يا ليل نداماي وأكوابي ودني؟

أترى يرجعها الليل فأسقي وأغني

الضحى النشوان يغويني وسحر الصبح يغري

فأغني وأغاني مع الأنسام تسري

الهوى يحويه لحني والشذا يطويه شعري

فأنا زنبق سح عليها صوب عطر

ص: 27

قل لمن ينكر شدوي أين من سمعك لحني

لو تفهمت أناشيدي لما أنكرت فني

(بغداد)

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 28

‌من أدبنا المجهول:

المنصف

لابن وكيع المصري المتوفى سنة 393هـ

للأستاذ السيد أحمد صقر

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

أو لم يسمع النافون عنه أخذ الكلام من النثر والنظام قول الفرزدق: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة؟ أو ما سمعوا قول الحكماء: من العبارة حسن الاستعارة؟ وما شيء بأعجب من وقوع جملة الشعراء في أمر يشترك فيه قديمهم ومحدثهم من استعارة الألفاظ والمعاني إلى مر الزمان بتحكيك الفحول منهم الشعر وتنقيتهم إياه، حتى أنهم كانوا يسمون قصائدهم الحوليات، لأنهم كانوا يعيدون فيها النظر حولا حولا قبل ظهورها، فلم يعصمهم طول النظر وكد الخواطر والفكر من أن يلم بعضهم بكلام بعض. ثم لا يرضى مقرظ أبي الطيب حتى يدعي له السلامة الكاملة من عيب لم يتكامل في أحد قط تكامله فيه. وأنى له بالسلامة من ذلك وقد جاء على ساقة أهل الشعر بعد استيلاء الناس على حلو الكلام ومره، ونفعه وضره، وهذا الظلم الواضح والأمك الفاضح.

وسأدل أولا على استعمال القدماء والمحدثين أخذ المعاني والألفاظ، ثم أعود إلى تنخل شعر أبي الطيب ومعانيه، وإثبات على ما أجده فيه من مسروقات قوافيه التي لا يمكن فيها اتفاق الخواطر، ولا تساوي الضمائر، لأن ذلك يسوغ في النذر القليل، ويمتنع في المتواتر الكثير. وسأنصفه في كل ذلك، فما استحقه على قائله سلمته إليه، وما قصر فيه لم أدع التنبيه عليه، لئلا يظن بنا الناظر في كتابنا خورا في قصد، أو تقصيرا في نقد. وذلك يلزمنا إلحاق ما فيه عيب غير السرقة بالمسروق، خوفا من أن يقول قائل قد تجاوز عن أشياء من الغثاثات واللحون والمحالات كانت أولى من الذكر للمسارقات. هذا إن لم يعبر عنا بالغفلة عنها إلا لتجاوز لها. وينبغي إذا عملنا على تسليم ما له من السرقات إليه، ورد المقصر منها عليه، أن أثبت لك وجوه السرقات، محمودها ومذمومها، وصحيحها وسقيمها، وأعرفك ما يوجب للسارق الفضيلة، وما يلحقه الرذيلة، ليكون ما نورده له وعليه مقيسا

ص: 29

على أس قد أحكمناه، ونهج قد أوضحناه، وما غرضنا في ذلك الطعن على فاضل، ولا التعصب لقائل، وإنما غرضنا إفادتك ما استدعيناه، وكفايتك الفحص عما أستكفيناه، لتظهر على خصمك، وتزداد قوة في علمك، وبالله نستعين، وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل).

هذه هي المقدمة الرائعة التي قدم بها ابن وكيع المصري بين يدي كتابه، وفيها كل الغناء لمعرفة قيمة الكاتب والكتاب.

وقد تحدث ابن وكيع بعد ذلك عن السرقات ووجوهها العشرة المحمودة، ومثيلاتها المذمومة حديثا معجبا مطربا مركزا شاملا، ثم قال:(وقد عرفتك الآن وجوه السرقات محمودها ومذمومها لتسلم من الحيف عليه، وتقضي في الحقائق بما له وعليه مما أوجبه حكم السرقة من الإنصاف، ولقبنا كتابنا (المنصف) لما قصدنا من إنصاف السارق والمسروق منه).

وعقد بعد ذلك فصلا ضافيا عن أنواع البديع أو وجوهه، كما يعبر، ثم عقب عليه بقوله:(وقد قدمت لك من هذه الأقسام ما تقوي به معرفتك بنقد الشعر فائقة ومقصره، وأطلعتك على سرائر رذله ومتخيره، لتفاضل بين الشعراء بأصل، وتنطق بعدل). ثم شرع في مقصوده الأصيل، وهو بيان سرقات المتنبي. وقد نهج في تبيانها منهجا ممتازا، ذلك أنه تتبع شعر المتنبي تتبعا تاريخا، وسايره بالنقد من أبياته الأولى إلى آخره قصيدة قلها. . .

وقد خلا كتاب المنصف من ذلك الثقل البغيض الذي يشيع الملل في نفس القارئ، والذي تحسه واضحا قويا في كتاب الوساطة. وما كان خلوه من ذلك الثقل مصادفة ولا عفوا، وإنما كان أمرا قصد إليه المؤلف قصدا، واحتال للخلاص منه احتيالا بإيراد الأخبار النادرة، والمعاني الباهرة، كاملة غير مخدجة كلما اقتضى المقام إيرادها، واستدعت المناسبة القوية ذكرها.

وقد نبه على صنيعه هذا في مواطن كثيرة يقول في أحدها:

(وإنما قصدناه قصدا، وأتيناه عمدا، لأن موضوع الكتاب الفائدة للقارئ، ولسنا نأمن عليه من الإكثار عاقبة الإضجار بمعنى واحد من السرقات، فتريد أن ننقله إلى استماع شعر مطرب، أو خبر معجب، لنروح عن قلبه، ونجلو صدره، بما في الانتقال، من حال إلى حال، من مداواة القلوب من الأملال).

ص: 30

ومما هو جدير بالذكر أن ابن وكيع قد اعتمد على ذوقه الخاص في نقد شعر المتنبي، ولم يقتصر على سرد أقوال السابقين من النقاد، كما صنع غيره من المؤلفين، وإنما أجال نظره، وأعمل فكره، وأدار عقله في شعاب شعره، ثم عبر عن مشاعره وآرائه وأحاسيسه وأفكاره في قوة ووضوح وثقة واعتزاز؛ ومن هنا كانت نفاسة الكتاب، وسمو منزلته بين كتب النقد الأدبي.

وقد حرص ابن وكيع في كتابه على أمرين عظيمين: نقد الصورة الشعرية ومحاولة إصلاحها، والموازنة المفصلة بين المعاني التي يتوارد عليها الشعراء. فقد ضرب في هذين اللونين من ألوان النقد بسهام وافرة، وأتى فيها بما يعجب ويطرب، ويلذ ويشوق

قرأ ابن وكيع قول المتنبي:

بدت قمراً ومالت خوط بان

وفاحت عنبراً ورنت غزالا

فلم ترفه الصورة الشعرية، لأن المتنبي قد أفسدها بإقحامه (العنبر) بين المشبهات التي شبه بها محبوبته، وهي القمر، والغصن، والغزال؛ فقال: وقوع (فاحت عنبرا) بين هذه التشبيهات التى هي أعضاء، قلة صنعة، وضيق عطن بما يليق في البيت، ولو قال (وماجت لجة) يريد ردفها كان البيت كله تشبيهات، وكان أحسن في صنعة الشعر؛ ولو جعل البيت بثلاثة تشبيهات فقال:(تثنى مائداً ورنت غزالا) لاكتفى بذلك.

وجميع البيت موجود في قول ابن الرومي:

إن أقبلت فالبدر لاح وإن مشت

فالغصن مال وإن رنت فالريم

وقال البحتري:

فهي الشمس بهجة والقضيب ال

نضر ليناً والريم طرفاً وجيداً

ويقرأ قول المتنبي:

بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا

وجدت بي وبدمعي في مغانيكما

فعم صباحاً لقد هيجت لي شجناً

وازدد تحيتنا إنا محيوكا

بأي حكم زمان صرت متخذاً

رئم الفلا بدلا من رئم أهليكا

أيام فيك شموس ما انبعثن لنا

إلا ابتعثن دماً للحظ مسفوكا

فلا يعجبه البيت الأخير لأنه لا يشاكل البيت الذي قبله، ولا تنسق به الصورة الشعرية

ص: 31

فيقول: (هذا بيت رديء الصنعة، لأنه كان في حديث الوحش ثم قال: (شموس) ولو قال (ظباء) كان قد أورد ما يجانس البيت الأول) وأحسن من قوله في بقية البيت قول أشجع:

وإذا نظرت إلى محاسنها

فلكل موضع نظرة قتل

وقال أبو نواس:

رسم الكرى بين الجفون محيل

عفى عليه بكا عليه طويل

يا ناظراً ما أقلعت لحظاته

إلا تشحط بينهن قتيل

قال ابن وكيع: وقد أخذت هذا المعنى فقلت:

لا ووجه لك بيدي

صفحة السيف الصقيل

وسواد الشعر الأس

ود في الخد الأثيل

وعيون لك لا تط

رف إلا عن قتيل

ما جميل الصبر عن مث

لك عندي بجميل

ومن ميز بين اللفظين عرف الفرق بينهما.

ويقرأ ابن وكيع قول المتنبي:

شاب من الهجر فرق لمته

فصار مثل الدمقس أسودها

فيقول: (تخصيصه الشيب في فرق اللمة ضيق عطن بلفظ يعم جملة اللمة وكان ينبغي إذا خصص فرق اللمة بالشيب أن يقول (فصار مثل الدمقس أسوده) لعود الهاء على المذكر.

ولو قال:

شابت لهجر الحبيب لمته

فصار مثل الدمقس أسودها

كان في الصنعة أملح، وهو مأخوذ من قول القائل:

بيني عنه أبان في شعَري

أبيضه بعد حسن أسوده

في هذا البيت مجانسة من ذكر البين والإبانة، وفيه مطابقة، وفيه ضرب من استخراج معنى احتذى عليه، وإن فارق ما قصد به إليه، من ذلك قول امرئ القيس:

فظل العذارى يرتمين بلحمها

وشحم كهداب الدمقس المفتل

فشبه الأبيض بالأبيض، فنقل أبو الطيب هذا التشبيه من الشحم إلى الشيب وشبه الأبيض بالأبيض، ففي هذا البيت رجحان على ما قاله أبو الطيب والسابق أولى به.

ص: 32

ويقف ابن وكيع عند قول المتنبي:

وقابلني رمانتا غصن بانة

يميل به بدر ويمسكه حقف

ويقول: (إضلفة الرمانتين إلى غصن البانة تدل على أن أغصان ألبان من ثمرها الرمان، وقد عرفنا مقصده، إنما شبه الثديين بالرمانتين وقدها بالغصن، وأرانا جمع خلفها غرائب لا تجتمع، ولا تقع إلا فيه، ولو أمكنه أن يقول: (رمانتان في غصن بانة) كان أسوغ في مقصده كما قال ابن الرومي:

أغصان بان عليها الدهر فاكهة

وما الفواكه مما يحمل ألبان

فكل يعجب مما ليس في العادة اجتماعه. فأما إطلاقه اللفظ على الرمان أنه من ثمر ألبان بغير مقدمة توضح مراده فلا أستحسنه هاهنا. وقوله: (يميل به بدر) فالبدر وجهه، وليس يميل وجهه بقده، لأن قده إذا مال، مال يوجهه حيث يميل. وابن الرومي أشعر منه في إثباته أن الفواكه ليست مما يحمل ألبان، فدل على أن المراد التشبيه لا الحقائق، وهو أولى به. وهذه معان متداولة إذا نشط لأحدها فلا بد من إخراج مواضعها، ومع ذلك فقد عرفتك نقصان صنعته فيها، وكلاهما بالسلامة أرجح وهما أولى بما قالا).

ويوازن ابن وكيع بين قول المتنبي:

هم الناس إلا أنهم من مكارم

تغنى بهم حضر ويحدو بهم سفر

وبين قول ابن الرومي:

وقد سار شعري شرق أرض وغربها

وغنى به الحضر المقيمون والسفر

فيقول: (فألفاظ بيت ابن الرومي ويأخذ بعضها بأعناق بعض، وقد عرف (الحضر والسفر) بالألف واللام، فيمكن أن يقال: إن الناس كلهم قد عنوا به، وأبو الطيب نكر، فأمكن أن يكون المعنى فرقة من الحضر وفرقة من السفر. وإذا كان كلام ابن الرومي أشرح وأمدح بإمكان العموم فيما خص فيه أبو الطيب، فابن الرومي أحق بما قال. ولعل قائلا أن يقول: جمع أبو الطيب حالتي الغناء والحداء، فصارت له زيادة فإنه إنما يحتسب له بذلك لو كان الغناء لا يكون إلا في الحضر، فإذا صلح للحضر والسفر، لم يصح تقسيمه، وقد قال عمر بن الخطاب: نعم زاد الراكب، فجعله بمنزلة الزاد للمسافر.

ويقرأ ابن وكيع قول المتنبي يخاطب حاديي عير حبيبته.

ص: 33

قفا قليلا بها عليَّ فلا

أقل من نظرة أزودها

فيقول: (معنى هذا البيت غير غريب. ولكن أبى الطيب لا يحقر شيئا، بل يأخذ الشعر الرفيع والوضيع، وهو في هذا الأخذ كما قال ابن المعتز في العشق:

قلبي وثاب إلى ذا وذا

ليس يرى شيئاً فيأباه

يهيم بالحسن كما ينبغي

ويرحم القبح فيهواه

فيجب علينا الاهتمام بما اهتم، وهذا البيت من قول ذي الرمة:

فإن لم يكن إلا تعلل ساعة

قليل فإني نافع لي قليلها

وهو من قسم المساواة، وقال ابن أبي فنن:

ما ضر لو زودت خلك نظرة

قبل الرحيل وقلت قولا يجمل

إلى آخر ما هنالك من النفائس التي تضمنها كتاب (المنصف).

السيد أحمد صقر

المدرس بالليسية الفرنسية بمصر الجديدة

ص: 34

‌إلى وكرك يا قلبي!

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

إلى وكرك يا قلبي

ففي وكرك أحلامك

تعانق فيه ما يوحي

هـ من شعرك إلهامك

وتفنى في جلال الح

ب والأحلام آلامك

وتزخر فيه أصداؤ

ك بالنجوى وأنغامك

فقد تسحرك الدنيا

فتستيقظ آثامك

إذا ما حدت عن وكسر

ك أو غرتك أوهامك

إلى وكرك يا قلبي

فقد حاضرنا الليل

وجنت حولنا الدنيا

فلا وحي ولا عقل

وخفت زمر العشا

ق كالأحلام تنسل

دعتها الشهوة العميا

ء قانساق بها الرحل

وهامت في ضلالتها

بكأس قلما تحلو

فلذ بالوكر يا قلبي _

حسبك ذلك الظل

إلى وكرك يا قلبي

لتطرح عنك أعباءك

وتسمع في سكون اللي

ل من جارك أصداءك

ولا تعبأ بأضواء

ينسينك أضواءك

فحلمك لم يزل يقظ

ان يستلهم إحياءك

يطل عليك من مرقا

هـ يستطلع أنباءك

فلا تحفل بمن تبسم

، أو تزعم إغواءك

إلى وكرك يا قلبي

فإن الليل خداع

ترى الأضواء ساحرة

وهذا السحر إيقاع

وهذى الفتنة الحيرى

غوايات وأطماع

وهذا الحب يا قلبي

ملذات وإمتاع

وهذى حية الجنات

تلهو بالألي انصاعوا

ص: 35

فعد للوكر يا قلبي

فلا تشقى وتلتاع

حسن كامل الصيرفي

ص: 36

‌دعاء الملاح الحائر

للأستاذ محمد خليفة التونسي

أيها الخابط في اليم اتئد

قد توغلت، فهل تسمعني؟

يمم الشط، فما فيما تود

راحة، آمنت أم لم تؤمن!

يمم الشط الذي منه أتيت

تحظ بالراحة فيه والسكون

أنت - لا شك، إذا أوغلت - ميْت

حيثما يبتلع اليم السفين

يمم الشط، ولا تخدع بما

يتراءى لك في الأفق البعيد

تلك أوهام كِذَاب كلما

زدت إيغالاً تراءت من جديد

تلك أوهام على اليم تلوح

راقصات في جمالي الساحر

لا يراها غيري ذو القلب الطموح

فيغاديها بعزم صابر

فإذا أوغل لم يظفر بما

كان يرجو من نعيم وسلام

وهو - لا بد - سيفنى ندما

إذ يرى اليم ظلاماً في ظلام

قد يريد المرء ما فيه دماره

ولقد ينكر ما فيه علاه

من له - والغيب محجوب سراره

عنه - أن يعرف ماذا منتهاه

أيها السادر في أحلامه

لا تطاوع شهوة السبح اللجوج

آفة الإنسان في أوهامه

وإذا شط الهوى عز الخروج

ما لهذا اليم حد ينتهي

عنده، والسبح لا يجديك غنما

لا، ولن تلقى به ما تشتهي

من منى أفنين أيامك هما.

يمم الشط، ودع ما يثقلك

حسبك الشط، ففي الشط غناء

خير أوهامك وهم يحملك

ويعزيك إذا عز العزاء

إنما دنياك لهو ولعب

وهما أنفس ما يقني الرجال

فاله والعب طالما اسطعت تصب

خير ما في وسع أبناء الزوال

(كوبري القبة)

محمد خليفة التونسي

ص: 37

‌رسالة العلم

من طرائف العلم:

عندما تتقلص الشمس

صرح العلامة سير جيمس جينز أن الشواهد تدل على أن الذرات الكائنة في مركز الشمس تكاد تتقلص تقلصا هائلا، فيصير مصدر إضاءة المجموعة الشمسية نجما باهت اللون، يعجز عن إمداد وجه البسيطة بالحرارة التي تكفل استمرار الحياة، وأن احتمال انقلاب الشمس إلى نجم ضعيف الضوء قد يحدث في أية لحظة.

فهل معنى ذلك أن حياة البشر تبلغ نهايتها سريعا؟! إن مقياس الزمن - لحسن الحظ - في تقدير الفلكيين لمثل هذه النهاية يعادل ملايين الملايين من السنين. فإن تكن خاتمة الأرض قريبة في عرفهم، فأنا نستغرق أجيالا وأجيالا قبل أن تكون.

على أن الباحث قد يتأمل ويسأل: ما الذي يحدث إذا تقلصت

الشمس وتحولت إلى نجم من النجوم التي تدعى (الأقزام

البيض)؟ إن مثل هذا النوع من النجوم له كثافات تفوق كثافة

الماء آلاف المرات. فتوأم الشعري 4و40 أيرداني، وفان مانن

كثافتهما على التواني 440 ألف، و90 ألف و550 ألف كثافة

الماء. أي أن جزءا صغيرا من النجم فأن مانن في حجم عود

الثقاب قد يزن ربع طن على الأرض. أما توأم الشعري فكتلته

تضارع كتلة الشمس تقريبا. ولذلك يمكن الباحث أن يفرض

أنه إذا حدث للشمس انقلاب ما، فإنها تتحول إلى ما تحول إليه

هذا النجم. وسيجد في هذه الحالة أن جزءا صغيرا جدا من

ص: 39

الشمس المتقلصة قد يزن عدة أرطال على الأرض. ولكن

كثافة الشمس في حالتها الراهنة تعادل كثافة الماء 1 ، 41

مرة. فجزء منها في حجم عود الثقاب يزن ضعف وزن عود

الثقاب العادي المصنوع من الخشب الذي كثافته 0 ، 7 من

كثافة الماء. أي أن هذا الجزء من الشمس يزن 51 من

الأوقية.

وعندما تتقلص الشمس، ينكمش قرصها إلى ما يقرب من

121 من قطرها الحالي، وبذلك تنقص مساحتها آلاف المرات

عن مساحتها الراهنة. وإذا فرض أن حرارة سطح الشمس

وشدة إضاءتها لا تتغيران أثناء التقلص، فإنهما ستكونان بعد

ذلك أقل ألف مرة من ذي قبل. إن شدة إضاءة الشمس لسطح

الكرة الأرضية في يوم من أيام الصيف تقدر بنحو عشرة

آلاف شمعة للقدم الواحد. أي أنه إذا وضعت عشرة آلاف

شمعة على ارتفاع قدم واحدة من سطح الأرض فإن إضاءتها

تعادل إضاءة الشمس، للقدم الواحدة. وعندما تتقلص الشمس

تنخفض شدة إضاءتها إلى ما يقرب من عشر شمعات للقدم

الواحدة في يوم صافي السماء، أو خمس شمعات في يوم كثير

ص: 40

الغيم. وعلى ذلك، فإضاءة الأرض نهارا لن تعادل أكثر من

إضاءة إحدى الغرف ليلا بمصباح كهربائي عادي. ولما كانت

شدة إضاءة الغرفة نهارا تقدر بحوالي 1001 من الإضاءة في

العراء، فإن الشمس المتقلصة لن تكون قوة إضاءتها في

الداخل تقدر بأكثر من عشر الشمعة. وستصبح حينئذ إضاءة

القمر 10001 من إضاءته الحالية، وبذلك تتعذر رؤيته.

ولكن قبل أن تصل الأرض إلى حقبة التثلج الأبدي، تمر عليها أطوار غريبة الحوادث أثناء التغييرات المستمرة داخل الشمس. ويتنبأ العلماء أنه عندما تفقد ذرات الشمس المركزية آخر كهاربها يحدث تقلص عام فيها، يكون من جرائه تولد الزلازل على الأرض، وانتشار البرودة على سطحها، ولكن قد تحدث في بعض الأحيان اندلاعات نارية قصيرة الأمد تسبب جوا حارا على سطح البسيطة، فينشأ من هذه الحرارة الفجائية كثير من الأمراض كضربة الشمس والحميات وغيرها. ويتلف المحصول الزراعي من التغير الحراري، وتموت العضويات الصغيرة. وتقوم الشعوب الجائعة تطالب بتشكيل هيئة حكومية عالمية قادرة على توفير الغذاء. وتقوم هيئة تنفيذية دولية بتنظيم السفر إلى المناطق الاستوائية الحارة، حيث الحرارة تلائم المعيشة. ولم تمنح تصريحات السفر إلا لكل من ينتفع بمعلوماته وأعماله للمحافظة على كيان البشر. وسيهلك الكثيرون جوعا.

وأول من يسافر إلى المناطق الاستوائية علماء طبقات الأرض والمهندسون والمعدنون والكيمياويون. فعلماء طبقات الأرض يبحثون عن أماكن مناسبة لإيواء الناس، والمهندسون يعملون على تشييد الملاجئ والمساكن. وستكون لخبرة المعدنين في إنشاء طرق تحت الأرض منفعة هائلة يتمتع المعدنون من جرائها بنفوذ اجتماعي كبير. أما الكيماويون فيقومون بإنتاج شتى أنواع الطعام الصناعي بدلا من ذلك الذي ضاع بتلف المحصول الزراعي، وهلاك الماشية.

ص: 41

وعندما يستقر الناس في معيشتهم الجديدة، سيجدون أن سطح الأرض قد تغير تغيرا كبيرا. فتجمد مياه المحيطات والبحار تجمدا تاما، وتزداد البرودة زيادة هائلة، ويتكاثف بخار الماء من الجو وبذلك تخلو السماء تماما من السحب.

ولعل الإنسان يعمل على تكييف نفسه في ذلك الوسط الجديد، فإن لم يستطع فقد وصل إلى نهايته المحتومة.

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 42

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة:

إني لمغتبط إذ أرى شخصية أدبية ممتازة كشخصيتك، تقف في (الرسالة) الغراء طارقا بأسلوبك التحليلي النفيس شخصية الأستاذ توفيق الحكيم الأدبية. . الواقع أن هذا الكاتب الكبير الذي تربى في أحضان القانون واجتذبه الأدب إلى أحضانه وانتزعه من البيئة التي نبت فيها وعاش في كنفها، كان شمسا جديدا ضمت إلى شمس الأدب فزادت الأدب العربي نورا وبهجة ورواء!.

إنني لا أوافقك على رأيك عندما تقول: (إن توفيق الحكيم في واقع الحياة يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس). . إن أمامنا مثلا واضحا يظهر جليا في كتابه (يوميات نائب في الأرياف) الذي ألفه بعد أن كان وكيلا للنائب العام. يقرأه الإنسان فيحس إحساسا عميقا من قرارة نفسه أن الأستاذ الحكيم في هذا الكتاب أديب وفيلسوف. . . تارة يتهكم على بعض مفارقات الحياة، وتارة أخرى يسمو بفكرته ويحلق بالقارئ فيخيل إليه أنه في قلب المحكمة يسمع ويرى المتقاضين والمتهمين، ويعالج بقلمه بؤس الفلاحين فيؤكد لنا أنه يعيش في دنيا الناس لا في دنياه هو كما تقول!.

فهل للأستاذ أن يتناول بقلمه الرائع لمحة خاطفة عن شخصية الأستاذ الحكيم في كتابه (يوميات نائب في الأرياف)، الذي يصدره بتلك الكلمات:(أيتها الصفحات التي لم تنشر، ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق)؟.

محمد رضوان

كلية الحقوق جامعة فؤاد

الفن في ميزان القلب والشعور:

إن كلمتك التي طالعناها في (الرسالة) عن الأستاذ توفيق الحكيم رغم قصرها وتركيزها قد أطلعتنا على كثير من الحقائق والقيم التي لم يطلعنا عليها كاتب من قبل، إننا نهنئك من أعماق نفوسنا على أنك لم تتأثر في نقدك - كما يفعل الغير - بالصداقة وما نفرضه من

ص: 43

مجاملات! ولكن الحقيقة الكبرى التي أحب أن تفسرها لنا تفسيرا كاملا وصريحا هي قولك: (صراع نفسي وهذا هو العجب، وقلب إنساني وهذا هو الأعجب). . . هل نفهم من هذه اللمسة السريعة العابرة أن الأستاذ توفيق الحكيم لا يهتز بين جنبيه قلب قوي الخفقات مكتمل النبضات؟ إن هذه النقطة هي أهم ما يجب أن تكشف لنا عنه في كلمات حاسمة وفاصلة، لأنها في الواقع مثار كل خلاف بين أنصار فن الأستاذ الحكيم وبين خصومه!.

مصطفى عبد العليم

دبلوم معهدي الصحافة والتربية

ناحيتان جديرتان بالبحث والدراسة بعد أن عرض لهما في هاتين الرسالتين أديبان فاضلان. . . الواقع أنني كنت أشعر وأنا أكتب عن الأستاذ توفيق الحكيم أن هناك قراء سيدفعهم التركيز فيما كتبت إلى شئ من الاستفسار، لأنني كنت أحرص كل الحرص على إبراز القواعد العامة وأعنى كل العناية برسم الخطوط الرئيسية. ومرجع هذا إلى أن الأديب الفاضل الذي رغب إلى أن أكتب في هذا الموضوع، قد ألزمني أن أدور حول هذا الهدف وأن أتحدث في حدود هذا النطاق. . . وإذن فلا بأس من العودة إلى ما سبق أن عرضت له من آراء وأحكام، لأتناول بالتوضيح بعض ما لم يتضح عند الإشارة العامة واللمحة العابرة، لينتفي في رحاب الشرح والتفضيل ما غمض في رحاب الإيجاز والتركيز!.

أول شئ أقرره في مجال الرد على الرسالة الأولى هو أنني أوافق صاحبها على ما أبداه من رأي في شخصية الأستاذ الحكيم الأدبية. . . الواقع أن هذا الفنان مهما وجه إليه من نقد ومهما أخذ على فنه من نقص، فستبقى حقيقة يقررها كل منصف حين تؤرخ هذه الفترة من أدبنا العربي المعاصر، وهي أن توفيق الحكيم هو واضح الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث في مصر. قد يأتي بعده في هذا الجيل أو الجيل الذي يليه من يرفع البناء الفني لهذا الأدب طبقات، ولكن توفيق سيضل في ميزان التاريخ الأدبي هو الباني الأول هو الموجه الأول، فلولاه ما كان عندنا قصة فنية، لما كان عندنا مسرحية ناضجة، ولما كان عندنا نفير من كتاب الشباب يستطيعون أن يحملوا الراية حين يخلو لهم الميدان. . . إن لم

ص: 44

يكن اليوم ففي الغد القريب على كل حال. والفضل كل الفضل لأن هذا الفنان قد حمل المشعل منذ سنين فأنار الطريق، ودفع السالكين بكلتا يديه إلى الأمام!.

إنني حين أعلم أن بعض جوانب هذه الشخصية الأدبية لا يرضيني فليس معنا هذا أن توفيق الحكيم يقف وحده في مجال النقص والقصور، كلا. . . فما يسلم كاتب في الشرق ولا في الغرب من هذا الذي يأخذه النقد على توفيق الحكيم! إن (أوديب الملك) التي أخرجها منذ شهور لم تبلغ الغاية التي كنت أرجوها من كاتب يدرك تمام الإدراك ما ينتظره من صعاب وهو يطرق أبواب سوفو كليس، ولكن هذا العمل الفني الذي أخفق فيه توفيق الحكيم وهو يواجه عميد الترتديجيا اليونانية يعلو فوق مستوى أمثاله عند من حاولوا نفس المحاولة من كتاب المسرحية في أدب الغرب، وسأقف في كل وقت وفي كل مكان لأقول إن (أوديب) توفيق الحكيم أفضل بكثير من (أوديب) جان كوكتو ، أندرية جيد!

بعد هذا أعود فأقول للأديب الحقوقي الفاضل إنني حين قلة عن توفيق الحكيم إنه يعيش في دنياه هو لا في دنيا الناس كنت أرمي إلى أدبه المسرحي لا إلى هذا الأدب الذي يدخل في باب اليوميات. . . إن الكتاب الذي أشار إليه لا يعد قصه بالمعنى المفهوم من القصة، ولكنه مشاهدات نقلها الأستاذ الحكيم من واقع الحياة إلى الفن بعد أن لونتها ريشة القصاص بألوان العرض الفني الذي يأخذ من القصة ثوبها الخارجي ولا يتعداه. ومع ذلك فأنا أحب أن أوضح نقطة تدخل في صميم هذا الجانب الذي نبحث فيه، وهو أن توفيق الحكيم قد مضى يعالج فن المسرحية في الوقت الذي ابتعد فيه عن الحياة وانطوى على نفسه. إنك عندما تقرأ أعماله الفنية الأولى التي سجلها ليصور بها تلك البيئات المختلفة التي عاشه فيها بالجسم والفكر والروح والحواس تلمس أن الحياة تتنفس تنفسا عميقا في فنه، وأن عدسة القصاص قد بلغات من دقة اللقطات ما لا يتهيأ إلا لكل فنان مفتوح العينين والقلب والذهن. . . اقرأ مثلا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) تحس أن الحياة فيهما تكاد تنتقض بين يديك وتتحرك أمام ناظريك؛ تنتفض بمواكب لا تحصى من الصور النفسية والنماذج البشرية! لقد كانت العدسة البارعة تنتقل من الشوارع إلى الأزقة، من المدينة إلى القرية، من القصر إلى الكوخ؛ ترقب، وتتأمل، وتسجل. . . وإذا حرارة التعبير قد ارتفعت لتلفح إحساسك على الورق، وإذا لمحة الخاطر قد استحالت فكرة في ثنايا

ص: 45

العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!

لقد كان توفيق الحكيم يعب الحياة عبا إن صح هذا التعبير ويوم أن كان بطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينية كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة للتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات المستيقظة في فن توفيق الحكيم. . . فترات مستيقظة نقلت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح وأصالة، فإذا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فإن الصورة قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!. . . هذا هو الفن الرفيع حين يتصل بالحياة وحين يقبس من الحياة، ليعيدها إليك لوحة تكتمل فيها الزوايا وتأتلف الأبعاد.

في حي السيدة زينب جلس توفيق الحكيم إلى مائدة الحياة فتذوق من ألوان الطعوم ما شممت رائحته في (عودة الروح). وفي مدينة دسوق قضى فترة من شبابه وكيلا للنائب العام، يتحدث إلى الحياة وتتحدث إليه، حتى نقل إليك حديثهما ذلك الطلي النابض في (يوميات نائب الأرياف). . وفي مدينة النور قدمت إليه الحياة كأسا غير الكأس وسقته من رحيق غير الرحيق، وكان مذاق هذه الكأس الجديدة هو تلك الجرعة الملهبة في (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق). في كل عمل من هذه الأعمال الفنية خامة قصصية تستمد نفاستها من هذا المعدن الممتاز الذي لا يخبو له ضوء. . . معدن الحياة!

ولكن توفيق الحكيم ينتقل من حال إلى حال. . . يغلق النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، وكأني به قد سئم ضجيج الحياة والأحياء! ولا بأس عنده من أن يرقب هذا المسرح الزاخر بالنظارة والممثلين من وراء هذه النافذة ذات الزجاج (المصنفر) الذي يحجب الرؤية عن الأنظار، ولكن هذا الزجاج (المصنفر) لا يتيح له الرؤية الكاملة لتلك الفصول المتعاقبة من رواية الحياة. . . وإذن فلا مناص من الرجوع إلى المخيلة في تمثل حركات النظارة والممثلين! وهنا مفرق الطريق بين عهد وعهد في أعمال توفيق الحكيم الفنية. . . فن يأخذ مادته من الحياة في فترة من فترات شبابه، وفن آخر يأخذ مادته من المخيلة في فترة من فترات ما بعد الشباب، ويسدل الستار

ص: 46

أو يكاد على تلك الألوان التي تستمد عناصرها ومقوماتها من واقع الحياة، ليرفع مرة أخرى عن تلك الألوان التي تستمد عناصرها ومقوماتها من واقع الأساطير!. . . قد يقول بعض النقاد إن الأسطورة في فن توفيق الحكيم مرجعها إلى أنه يريد أن يحلق في كل أفق ويريد أن يطرق كل ميدان؛ وقد يبدو هذا التفسير مقبولا لو كان هناك شئ من الاقتصاد في العمل الفني الأسطوري ولكنه إغراق له دلالته ومرماه، وأبلغ الدلالة فيه أن توفيق الحكيم قد ابتعد عن الحياة وأن الحياة قد ابتعدت عنه، وحين غاب عالم الصور الحية عن ناظرية لجأ إلى عالم الرؤى والأطياف؛ عالم المخيلة التي ترتب المنظر، وتحرك الشخوص، وتصنع الحوار، من وراء النافذة المغلقة لا في رحاب الهواء الطليق!

ومن يدري فلعل توفيق الحكيم يعود مرة أخرى إلى الحياة بعد هذا الهجر الذي طال أمده واتسع مداه، ولعله يكون قد عاد في هذه المسرحية التي تعرض منذ أيام على مسرح الأوبرا الملكية. . . إنني لم أشاهدها بعد، وأرجو إذا مشاهدتها أن تتحقق هذه الأمنية التي أنتظرها منذ بعيد، وهي رؤية فن توفيق يعب الحياة عباً كما كان. عندئذ سألهب قلبي من الإعجاب وكفي من التصفيق!

بعد هذا أعود إلى الرسالة الثانية لأقول لصاحبها إن مسألة القلب الإنساني في فن توفيق الحكيم هي مشكلة المشكلات. . . هل يملك قلباً إنسانياً أم لا يملك؟

هذا هو السؤال! إنه يملك هذا القلب، ولكنه القلب الذي لا يفتح على مصراعيه لتندفع النبضات قوية جياشة متدفقة. إنه قلب يفتحه صاحبه للحياة بمقدار، ويفتحه للناس بمقدار، ويفتحه للفن بمقدار. . . وفي غمرة هذا الضعف في الخفقة القلبية تطغى الموجة الفكرية والومضة الذهنية، هذا الطغيان الجارف في قصصه ومسرحياته!

في (عودة الروح) و (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق) و (الرباط المقدس) و (شهرزاد) و (بجماليون) و (أهل الكهف) تحس إحساسا عميقا أن نافذة القلب الإنساني في فن توفيق الحكيم لم تكن تفتح لتهب منها رياح الوجدان، حتى تعود فتغلق أمام عواصف الفكر المنبعثة من تأملات الذهن وسبحات الخيال! أما في (سليمان الحكيم) فقد انتصر القلب على العقل. . . وهذه هي المعجزة التي دفعتني إلى القول بأن هذه المسرحية تقف منفردة باكتمال (الصراع النفسي) وقوة النبضات في القلب الإنساني، ودفعتني إلى الظن

ص: 47

بأن توفيق الحكيم كان يعيش في نفس التجربة الشعورية التي صورها بقلمه لقلب (بلقيس) بين حب (منذر) وجاء (سليمان)!. . . من هنا قلت وأنا في معرض الحديث عن (سليمان الحكيم): (صراع نفسي وهذا هو العجب، وقلب إنساني وهذا هو الأعجب)؛ لقد كان مصدر العجب البالغ أن توفيق قد خلا إلى قلبه خلوة طويلة، تمت في غفلة من عين هذا الرقيب الصاحي الذي لا يغفل، وأعنى به الفكر!.

إن الفن في ميزان الذهن المجرد شئ، وفي ميزان القلب النابض شئ آخر؛ هناك هزات فكرية، وهنا هزات شعورية. وما أبعد الفارق بين الفنين في حساب النفس وحساب الزمن!.

دفاع مضحك عن سلامة موسى:

لي صديق أديب هو في الوقت نفسه صديق للأستاذ سلامة موسى، ولكن يظهر أن إخلاصه للكاتب (الجبار) يفوق إخلاصه لي. . . والدليل على ذلك كتب في الرد على مقالين أحدهما في (الأديب) والآخر في (المقتطف)، حاول فيهم بكل ما أوتي من علم أستاذه أن يرفعه إلى السماء؛ ولكن السماء كانت قد امتلأت بضحكات الساخرين فلم يبق فيها مكان للكاتب الجبار فبقى كما تركته منذ أسابيع. . على الأرض!! إن سلامة موسى في رأي تلميذه الذي لا أعرف له تلميذا سواه (مفخرة خمس أجيال في تاريخ مصر، وإذا كان لكل كاتب مدرسة فإن المدرسة الأولى للدكتور طه حسين بك بلا منازع، والمدرسة الثانية منسوبة إلى الأستاذ سلامة موسى بغير شك). . . هكذا والله العظيم! ولو سئلت النملة رأيها في الذبابة لقالت: هذا فيل كبير!!.

أنور المعداوي

ص: 48

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

أين هو الربيع:

حفلت الصحف والمجلات المصرية في هذا الأسبوع بالكلام على الربيع وبصور الربيع، وتفنن بعضها في عرض صور الحسان فهذه تخلع للربيع، وهذه تغفو ليصف الشاعر الفتنة النائمة، وهذه تتحدى أزهار الربيع بما تبدى من مفاتن. وترى هنا وهناك قصائد يتغنى فيها الشعراء بالربيع وما يسبغ على الكون من جمال.

ذلك كله على رغم هذا الجو المتقلب الذي لا يستقر على حال وعلى رغم هذه الرياح، رياح الخماسين، التي تقذى العيون وتزكم الأنوف. فأين هو الربيع؟ إن هذا الجو الكدر المضطرب سينقلب بعد قليل إلى حر لا يطاق.

إذا كان للربيع وجود فهو في بلاد أخرى غير مصر، شرقية وغربية، وهم يشعرون به لأنه يأتي عندهم بعد شتاء قاس، وينتقل فيه الجو ببطء وتدرج؛ أما عندنا فهو انتقال من شتاء معتدل، وإيذان بصيف ثقيل، وهو فترة مضطربة لا يستقر فيها الجو على حال. وإني أشعر أن الخريف عندنا أجمل من الربيع، فهو يقبل بعد الصيف كما تقبل نسمات الأصيل بعد الهجير، والجو فيه أكثر استقرارا من الربيع، ولم أر فيه شجرا يسقط ورقه كما يقولون، فالشجر في مصر دائم الإيراق وقليل منه يسقط في الشتاء، والأزهار كثيرة ناضرة فيها على مدى العام، وحتى صور الحسان في الصحف والمجلات لا تنقطع لها مناسبة. . .

فما نصيب تلك المظاهر التي نصطنعها في الربيع من الصدق؟ أليست كلها تقليدا في تقليد؟ وكم من شاعر يتغنى بجمال الربيع وليس في عالمه إلا جدران قهوة أو غرفة مغلقة، ويتحدث عن الحب في الربيع وهو لا يحب غير نشر القصيدة أو إلقاؤها في حفل، ويشيد بشدو الطيور وهو لا يسمع غير ما يطلبه المستمعون من الإذاعة. . .

إن الربيع الحقيقي في مصر هو (البرسيم) ربيع الحمير. . .

ذكرى إقبال:

احتفت سفارة الباكستان في القاهرة بالذكرى الحادية عشرة للشاعر الفيلسوف محمد إقبال،

ص: 49

يوم الخميس الماضي في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية. وقد ألقى سفير الباكستان الحاج عبد الستار سيت كلمة ترحيب، وألقى الدكتور حسين الهمداني محاضرة عن حياة الشاعر وشعره، وألقى الدكتور عثمان أمين محاضرة عن (إقبال الفيلسوف) وأنشد كل من الشاعرين محمود حسن إسماعيل ومحمد مصطفى حمام قصيدة، وألقى آخرون كلمات أخرى.

وقد تضمنت كلمة الدكتور الهمداني أن إقبال ولد سنة 1873 في عائلة براهمية تشتغل بالزراعة في قرية (لوهار) بكشمير. وبعد أن أتم تعليمه في المعاهد الهندية لم يلتحق بخدمة الحكومة لضعف بصره فتفرغ للأدب والشعر. ثم رحل إلى أوربا سنة 1905 قاصدا كمبردج ثم هيدلبرج بألمانيا ثم ميونخ حيث حصل على شهادة الدكتوراه نتيجة لرسالة قدمها بعنوان (تتطور الفكرة العقلية في إيران) وفي سنة 1908 حصل على شهادة في القانون وعاد إلى وطنه.

وقال إن إقبال عندما اقتحم باب الشعر ألقى الوخم والكسل والقنوط مخيمة على حياة الناس كافة كما وجد روح التشاؤم سائدا من جراء الاستعمار، فأيقظ قومه وبعث فيهم الكفاح والحياة، ومزق الأستار التي كانت تحجب الحقائق عن أعين الشعب. ولم يقتصر على الخيال والجمال الفني في شعره بل راح يجاهد ويهيب بقومه أن يقلعوا عن أفكارهم القديمة ويتجردوا من روح التواكل الذي كان يشيع بينهم. وقد نادى بوجوب انفصال المسلمين عن الهندوس وتكوين دولة خاصة بهم، فتحققت أحلامه بعد وفاته وقامت دولة الباكستان.

وقد ألقى سعادة السفير كلمته بالإنجليزية، ومما يذكر لذلك أن في الباكستان الآن حركة تهدف إلى نشر اللغة العربية، فقد تقرر تعليمها بالمدارس الباكستانية على نطاق واسع، وجاء في نشرة لسفارة الباكستان بالقاهرة أن متحدثا بلسان وزارة المعارف الباكستانية قال إن الحروف العربية أثبتت تفوقها على الحروف الأردية، وقد عرف المؤيدون لاستعمال الحروف العربية أن ذلك يدعو إلى توثيق العلاقات بسائر الأمم الإسلامية، كما أنه يعتبر الوسيلة الفعالة للنهوض بالتجانس الثقافي وتوحيد الغايات إلى المستقبل القومي.

ومما يذكر أيضاً أن رجال الدولة في الباكستان ضربوا المثل بأنفسهم فجعلوا يتعلمون اللغة العربية. ولا شك في أنه لن يطول الأمد حتى يلقى سفير الباكستان بالقاهرة كلمته في

ص: 50

ذكرى إقبال باللغة العربية.

المصري أفندي:

هو الفلم الذي عرض في الأسابيع الأخيرة بسينما مترو بالقاهرة، وقد ألف قصته محمد كامل حسن، وأخرجه ومثل البطل الأول فيه حسين صدقي وممن اشترك معه في التمثيل إسماعيل يس ومديحة يسري ولولا صدقي. ويعالج الفلم قضية إنسانية في صور من البيئة المصرية، تلك هي مشكلة الأولاد وحالة الأب المعيشية، فالمصري أفندي (حسين صدقي) شاب فقير يرزق أو (يصاب) بأولاد كثيرين، توائم وغير توائم، من زوجته (مديحة يسري) وتمر الأسرة بشدائد تجعل الوالد يضيق بأولاد، ويكاد يتحطم عندما يفاجأ بثلاثة توائم. ثم تنجاب الشدائد ويقبل المال وتتبدل الحال غير الحال. . . ولكن الأحداث تذهب بالأولاد ولا يبقى إلا بنت واحدة (عيشة) التي تصاب بمرض شديد فلا تشفى منه إلا وهي مقعدة. ويصبح الوالد من كبار الأغنياء ولكنه في الوقت نفسه أكبر الأشقياء، فقد هذه الحزن على أولاده وخاصة حسن الذي اختفى ولم يعرف له مقر، وتنتهي الرواية باللقاء بين الولد المفقود الذي صار شابا وبين والديه المحطمين والأخت المقعدة التي تذهلها المفاجأة السارة عن حالها، فتهب واقفة تمشي نحو أخيها حسن. . .

ويعرض الفلم صورا رائعة من الحب الزوجي والتعاون بين الزوجين في الملمات، إلى جانب ما بينه من تفاهة المال وعدم جدواه في السعادة الحقيقية. ويمتاز الفلم بالروعة الأصلية، والوصول إلى الأهداف عن طريق العرض الفني من غير إشعار يوعظ، والخلو من التهريج والحشو، والفكاهة فيه طبيعية غير مقحمة، ويبلغ فيه إسماعيل يس غاية الظرف، وهو يؤدي دور الغني الذي لا يشعر بحاجة إلى تنمية المال حتى يولد له ولد بعد انتظار طويل، وكانت المفارقة أن يقترن هذا بما يتوالى على (عديله) المصري أفندي الفقير من الأولاد وهو في شوق ولو إلى نصف ولد. . .

و (المصري أفندي) فلم عظيم من غير شك، وهو يأتي الآن في هذه المرحلة من مراحل الفن السينمائي في مصر، كما أتى فلم (العزيمة) لحسين صدقي أيضاً في المرحلة الأولى، كل منهما ينقل هذا الفن إلى (الموضوعية) مصاغة في قالب من الفن الممتع الشائق. وقد تعمدت أن أغفل فلم (نحو المجد) الذي أخرجه حسين صدقي أيضا، لأنه وإن كانت قصته

ص: 51

جيدة إلا أن هناك أشياء أفسدته، منها إقحام (شكوكو) في الفلم من غير مناسبة فجاء ثقيل الظل.

وفي فلم (المصري أفندي) هنات قليلة، منها (السبوع) الذي احتفل فيه الولد الأول للمصري أفندي، فإن (برجيلاتك وحلقة في وداناتك) لا تتفق مع استنارة الزوجين وعصريتهما، وقد تم زواجهما على طريقة عصرية في غاية البساطة.

الأدب وغذاء العقل في الصحافة:

ألقى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني محاضرة عن (الصحافة المصرية في ربع قرن) يوم الجمعة الماضي بالجامعة الأمريكية، عرض فيها للصحافة في طورها الأول ثم قال: وفتحت الصحف صدورها للأدباء فصاروا ينشرون فيها شعرهم ونثرهم، وكانت أسبق الصحف إلى ذلك - على ما أذكر - جريدة الدستور لصاحبها الأستاذ فريد وجدي بك، وكان عونه في هذا الباب هو الأستاذ العقاد؛ وجريدة (الجريدة) التي كان يتولى أمرها الأستاذ الجليل لطفي السيد باشا، وقد استعان بجمهرة من الأدباء منهم المرحوم محمد السباعي؛ ثم تلتهما جريدة المؤيد فجعلت للقسم الأدبي صفحة خاصة وكلت أمرها إلى الأستاذ العقاد.

ثم انتقل إلى الصحافة في طور تقدمها الحديث، وقال: وقد جر هذا الرقى الصحفي إلى أمور يشكو منها العقلاء والمشفقون منها أن كثرة المادة في الصحف والمجلات وتنوعها وحسن عرضها وقرب منالها، كل ذلك صرف الكثيرين عن قراءة الكتب، وعودهم الاكتفاء بهذا المادة السهلة الميسرة، وهذا شر كبير لأنه لا غنى عن غذاء العقل كما أنه لا غنى عن الغذاء للبدن، ومادة الصحف لا تكفي لتغذية العقل.

يقولون لي:

يقول الأديب محمد فتحي سعيد بمدرسة دمنهور الثانوية (وقد وصلني كتابه منذ أسابيع ولكني رأيت أن أعود إليه): قلت في ما كتبته ردا على الأستاذ الأسمر (ليست هذه أول مرة يأخذ فيها الجارم من شعر شوقي) ومعنى ذلك أن الجارم كان يسطو على شعر شوقي ولكننا نعرف عن الجارم أنه شاعر فذ وأديب مجيد. إلى أن يقول: وجدير بنا الآن أن

ص: 52

نترحم على الجارم بعدما استعصى على الشعراء رثاؤه.

وأقول: إن الوقوع في سرقات أدبية لا ينافي الإجادة والشاعرية الفذة، وقد ألفت كتب في سرقات شعراء كالمتنبي، وقد وصل الأمر إلى الاغتصاب مع إكراه الشاعر القائل على أن يتنازل عن ملكية ما قاله مفاداة لعرضه من هجاء المغتصب. والدلالة على السرقة الأدبية لا تنافي أيضاً الترحم على الفقيد، وعندما تتقدم في الدراسة الأدبية سترى في باب السرقات بكتب الأدب أن كل السارقين المذكورين في هذه الكتب قد ماتوا. . يرحمهم الله. . .

ويقول لي الأديب الشحات السيد زغلول (مدرسة رأس التين الثانوية - توجيهة آداب): من الله علي بالنجاح فهممت بقلمي لأكتب لك وأزف إليك تلك البشرى، كأنك ممن يهمهم أمري وممن يسرون لنجاحي.

وقد يبدو لبعض القراء أن هذا (المقول) تافه، ولكنه ليس كذلك، فهو تعبير عن شعور. إن الطالب الأديب (الشحات السيد زغلول) دائب على قراءة (الرسالة) وقد كتاب إلي قبل ذلك، وهو يشعر من طول الملازمة الفكرية كأني من أسرته. . . وحقا لقد سرني نجاحه كأنني ممن يهمهم أمره. نجاح مبارك يا سيد شحات. . .

ويقول لي الأستاذ أحمد طه السنوسي: اطلعت على كلمة لكم تحت عنوان (نصف مليون جنيه يصدع رأس الدولة) في الرسالة الغراء، فأحببت أن أكتب لك شيئا عن ذلك (الروتين) العجيب، وإن له مساوئ ولكنها طريفة تفتر لها الأفواه عن بسمات، وقد صارت هذه البسمات أيضاً من (الروتين). . كثيرا ما ترسل المصالح الحكومية خطابات مسجلة إلى أفراد من الناس تطالبهم فيها بمبالغ قد تكون عشرة مليمات أو سبعة، وتنفق على الخطاب ثمانية عشر مليما!

ويقول لي الأستاذ الشاعر محمد العديسي: إن الأبراج المقدسة لم تدع لنا إلا آمالا في أمثالكم الذين يهيئون لأنفسهم مكانة عند أمثالنا. . .

وأقول له: إن (رغبتنا) في المكانة عند أمثالكم لا تجديكم شيئا. . . كما أننا لم نستفد من رغبة أحد في مكانة لدينا. . .

عباس خضر

ص: 53

‌البريد الأدبي

في تفسير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:

ترتيب آيات الكتاب العزيز حصل بتوقيف من الرسول صلوات الله وسلامه عليه، على ذلك انعقد الإجماع، فكان الرسول إذا نزلت عليه الآية وتلقاها من جبريل الأمين لقنها أصحابه فوعتها صدور الحفظة منهم، وأمرهم بأن تكون مع آية كذا من السورة التي تكون فيها الآية، وإن كان ذلك على خلاف ترتيبها في النزول. وعلى أساس هذا الترتيب الذي أرشد إليه الرسول قام بناء نظم القرآن المعجز، وأحكمت آياته، وتوثقت معانيه واتسقت كلماته.

وأما ترتيب السور فيرى كثير من العلماء أنه توقيفي كترتيب الآيات وقال آخرون إنه عن اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم. وسوى أكان الترتيب بين السور بتوقيف من الرسول أم كان عن اجتهاد من الأصحاب، فمما لا شك فيه أن اتفاق جمهور الصحابة على هذا الترتيب المعروف الذي عليه المصحف العثماني أمر له قيمته ومعناه، وليس يخفى على ذوي البصائر من أهل العلم والذوق سره ومغزاه، وإن لم يكن على حسب ترتيب السور في النزول؛ فالترتيب بين السور كالترتيب بين الآيات ليس مبنيا على ترتيبها في النزول ولكنه قائم على ما بينها من الروابط والمناسبات.

وإدراك ما بين الآيات وما بين السور من صلة ومن مناسبات يحتاج إلى علم جم، وطبع ملهم، وشعور مرهف، وبذلك اختلفت أنظار العلماء وتفاوتت مداركهم. ولقد كان للأستاذ الإمام القدح المعلي والسبق في هذا الميدان، يعرف ذلك بالإطلاع على تفسيره جزء (عم).

أسوق هذا لمناسبة ما كتبه الأستاذ محمد عبد الله السمان في الرسالة - عدد 18 إبريل - ردا لما قرره الأستاذ الإمام في تفسيره (جزء عم) من بيان المناسبة بين سورة (الليل) وسورة (الشمس)، إذ اختلط الأمر على الكاتب والتبست عليه المناسبة بين السورتين والمناسبة بين القسم والمقسم عليه في (سورة الليل) فقال ما نصه:

(جاء في تفسير جزء عم للأستاذ الإمام رحمه الله عند تفسير أول سورة الليل ما يأتي (والليل إذ يغشى) يبتدئ في هذه السورة بأن يقسم بالليل وهو الظلمة لأنها الأنسب بما ختمت به السورة السابقة - سورة الشمس - من الدمدمة وإطباق العذاب. . اه (ولم يذكر

ص: 54

بقية المناسبة)، ثم قال: والمعلوم أن سورة الشمس سابقة لسورة الليل في الترتيب لا في النزول، إذ أن سورة الليل نزلت بعد سورة الأعلى (لعله يريد أن يقول إن سورة الليل نزلت قبل سورة الشمس)، وبذلك يكون لا محل هنا لذكر المناسبة التي ذكرها الإمام. أما المناسبة فلما كان المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة اشتملت صيغة القسم على أشياء مختلفة لتركيز المعنى المقصود في عقول المخاطبين. . فقد أقسم بالليل والنهار في قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) وهما مختلفان - كما أقسم بخالق الذكر والأنثى في قوله (وما خلق الذكر والأنثى) وهما مختلفان أيضا، كأنه يريد أن يقول لهم:(إن اختلاف سعيكم في الحياة مؤكد تأكيد اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى. .) اه

وأعود فأقول إن الكاتب قد وهم في رد ما قرره الأستاذ الإمام، إذ توهم أن ترتيب السور مبني على ترتيب النزول وأن المناسبة بينها تتبع ذلك، وإذ ئوهم المناسبة بين المقسم عليه والقسم مناسبة بين السورتين، فالتبس عليه الأمر. ووهم أيضاً في زعمه أن المقسم عليه هو تقرير اختلاف سعي الناس في الحياة فحسب، وأن الغرض من القسم تركيز هذا المعنى المقصود في عقول المخاطبين. ذلك بأن المقسم عليه هو الإجمال والتفصيل معا في قوله تعالى (إن سعيكم لشتى، فأما من أعطى واتقى). . الخ، وأن المقصود من القسم هو تقرير المعنى الإجمالي والتفصيلي في النفوس وتأكيده حتى لا يرتاب أحد في أن عواقب الخير والجزاء عليه ليست كعاقبة الشر وجزائه. وقد أوضح الأستاذ الإمام هذا المعنى أتم إيضاح إذ يقول:(فإن خطر لك سؤال كيف يقسم سبحانه على أن سعي الناس شتى مختلف مع أن هذه القضية بديهية لأن جميع من يفهم الخطاب يعلم أن مساعي الناس وأعمالهم مختلفة متنوعة إلى هذه الأنواع التي ذكرت، ومثل هذا الخير البديهي لا يحتاج إلى تأكيد، بل الإخبار به غير مقيد - فإني أجيبك أولا بأن المقسم عليه هو الإجمال والتفصيل معا؛ ولا شك في أن الوعد على الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى بالتيسير لليسرى، والوعيد على البخل والاستفناء والتكذيب بالحسنى، بالتيسير للعسرى، يحتاج إلى تأكيد، فيكون التأكيد لمجموع الأخبار للأول منها فقط). . فما ذكره الكاتب من الرد والتعليل بعيد عن الصواب.

محمد أحمد العمراوي

ص: 55

المرحوم خليل بيدس:

سلاما وإكراما، وبعد فلا بد أنك سمعت بخليل بيدس وعلمت من هو من الناس.

لقد مات خليل بيدس وكل الناس يموتون. بيد أنه أبى، ويشق على أن أنعاه إليك في مثل هذا الوقت وفي بلاد غير البلاد التي أحبها وتمنى على الله أن يكون فيها مثواه الأخير.

مات أبي بعيدا عن بيت المقدس. وكان أخي قد رجا منه أن يغادرها أسوة بسواه فينقذ نفسه وينجو بمكتبته وأثاث منزله. ولكنه أبى وسفه رأى كل محبذ للفرار، وأكد للجميع بأن الجيش العربي سوف لا يتأخر عن احتلال القدس في ليلة 15 أيار سنة 1948. كان يؤمن بذلك إيمانا عظيما. . . ويسخر من كل من يرتاب بنوايا الملك عبد الله. بيد أن الملك عبد الله خيب الأمل، وسقطت القدس الجديدة في يد العدو. وكان أبي وابنته هما الشخصين الوحيدين الباقيين في حي البقعة، فانسحبا على أثر احتلال اليهود للتلال المشرقة على ذلك الحي، وكابدا في هربهما المشقات والأهوال.

ولما استقر به المقام في بيروت، وأجال الطرف حوله، فلم يجد كتبه ومخطوطاته ومؤلفاته، ولم يعثر على مقعده ومكتبه، طارت نفسه شعاعا؛ بيد أنه تجلد وأخفى ما جاش في صدره. . . . ولم يزل يتقلب على جمرات متفدة من اللوعة والأسى حتى اخترمه الموت أخيرا، فأراحه من همه وغمه، وأراحه من وصبه وألمه.

وفي الليلة التي فاضت فيها روحه، نفث جميع أحزانه في كلمات وجيزة خاطب بها زوجه. . . قال لها وهو يتألم ولكن لا يدري أنه سينام فلا يستيقظ: نفسي حزينة حتى الموت. .

والشيء الذي حز في قلبي وأرمض نفسي يا سيدي، هو أن يمضي والدي فلا يلتفت إليه أحد ممن نهل منه مناهل أدبه، ولا يكترث بموته مخلوق من الذين كانوا يطرونه ويمتدحونه ويثنون عليه ويشيدون بعلمه وبفضله أثناء حياته. . . وكأنه إنسان عادي ما خدم العلم والأدب وما هذب النشء وما وضع المؤلفات وما أنشأ الفصول والقصص والمقالات. .! هذا الجحود يا سيدي أمضني كثيرا وهذا النكران للجميل هطلت له دموعي.

أرجو أن تتكرم علي أو على الأستاذ خليل بيدس - الذي لم يجد بعد موته من يكتب عنه سوى ابنه - بنشر الكلمة المرفقة مع هذا الكتاب في الرسالة الغراء. وتفضل بقبول جزيل

ص: 56

احترامي وتقديري.

أميل خليل بيدس

(الرسالة) ستنشر الكلمة في العدد التالي، ورحم الأستاذ خليل بيدس وجزاه خيرا على ما قدم للعربية، وعوضه برضاه عنه من جحود الناس لفضله.

تصويب:

حدث سقط مطبعي في فقرة من موضوع (عراك فكري بندوة الرسالة) في العدد الماضي؛ إذ جاءت الفقرة هكذا: (وأنا لا أرى أن هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر) والصواب: (وأنا لا أرى أن هناك شرقيا وغربيا، وإنما هناك إنسان متقدم وإنسان متأخر).

عباس خضر

ص: 57

‌القصص

أسطورة الديك الذهبي

لألكسندر بوشكين

كان يجلس على عرش مملكة قوية، لن أذكر اسمها، قيصر اسمه دادون، لا شبه له في الرجال. ولما كان دادون شجاع القلب، فإنه لم يترك واحدا من جيرانه دون أن يشن عليه الحرب. أما وقد كبر الآن فقد رأى أن يتيح لجسمه الهرم شيئا من الدعة والاطمئنان. غير أن الأعداء انتهزوا الفرصة، فهاجموا المملكة من دون رحمة، ونهبوا الديار، وطحنوا جيش دادون طحنا. أما جنوب المملكة فقد كان محصنا، والشرق هو الجهة التي كان يأتي منها العدو.

وفي ذات يوم نزلت بالشواطئ كتببة عاصفة، فاضطرب القيصر أيما اضطراب، وهجر النوم جفنه. خيل إليه أن حياته لم تكن في يوم ما أمر منها الأن، فلم ير إلا أن يطلب العون من منجم الدولة، ذلك الخصي الشيخ الممتلئ حكمة ومعرفة. . لبى الخصي النداء، وجاء البلاط يحمل في حقيبته ديكا ذهبيا، وقال:(ليأمر مولاي بنصيب هذا الديك على عمود من الخشب، فيحرس المملكة. فإنه إذا لم يكن ثمت خطر ظل هادئا مطمئنا، فإذا لاح الخطر في الأفق انتفض من سكونه، وانتفخ عرفه الأحمر، وصاح صيحة تنبه القوم، وأشار إلى الجهة التي يأتي منها العدو).

فرح القيصر لهذا الحل السعيد، وقال:(سأعطيك في مقابل هذا ما تريد. ستكون رغبتك رغبة القيصر أين شئت ومتى أردت).

وجثم الديك في مكانه يسهر على المملكة، بينما أوى القيصر الهرم إلى فراشه ينعم بالنوم الهنيء، ولا يلقي بالا إلى حوادث الزمن. ولم يعد الخطر يدهم الناس، ولم تعد فخاخ تهدد القيصر العجوز. . دادون!. . .

فلما مر عامان كاملان، إذا بأصوات تزلزل الأفق وتطرد النوم الهنيء عن عيون الناس. وأقبل قائد الجيش صائحا: قيصري وسيدي، انهض فالمملكة في حاجة إلى ابنيك الباسلين! تأوه القيصر ثم قال: ما الخبر؟ فأجاب قائد الجيش: الديك صاح. . والناس في رعب شديد. وتلفت القيصر حواليه، وأرهف السمع، فإذا صيحات من المشرق، وإذا الديك قائم منتفض

ص: 58

يصيح: كوكو. . روكو!. . كوكو. . روكو! فالتفت القيصر إلى القائد صارخا: أعدوا الجياد. . أعدوا السلاح. . . انطلقوا سريعا إلى الحدود!. وإلى الشرق طار الجيش الكثيف يقوده الابن الأكبر لدادون. . حينئذ هدأت ثورة الديك؛ وكف عن الصياح!.

مضت أيام ثمانية ولم يأتي عن الجيش خبر: أقاتل، أم فر؟ صه. .! صه. .! لقد صاح الديك من جديد - فليذهب الجيش الثاني إلى الشرق وعلى رأسه الابن الثاني لدادون. نعم، وفي هذه المرة أيضاً مرت أيام ثمانية ولم يأت الخبر! فلما صاح الديك للمرة الثالثة، هب دادون العجوز، وقاد سائر الجند بنفسه، ومضى إلى الشرق وهو يطمئن الناس، وإن لم يكن هو في داخيلة نفسه بمطمئن. . .

ساروا الليل والنهار حتى أدركهم التعب وهمدت قواهم. هذا والقيصر في عجب ودهشة: لا دليل على معركة. . . ولا أثر لساحة. . . ولا معسكر. . . ولا رجمة يثوى تحتها بطل. . .

في نهاية اليوم الثامن، صعد القيصر في شعب نل، فصعد خلفه الجنود - فماذا رأوا؟!

بين قمتين من الصخر رأوا خيمة من الحرير قائمة! كان صمت عجيب يسيطر على المكان. . وفي مجرى ضيق بسفح الجبل، وجد القيصر أبطاله الذين أرسلهم مذبوحين. . . وأمام باب الخيمة وجد ابنيه الأكبر والأصغر، كلا ملقى بلا دروع، وقد أغمد سيفه في جنب أخيه. كان الكلأ مصبوغا بالدم، والجياد تمرح في الوديان والقيصر المسكين يولول في جنون: آه يا ابنيَّ! كلا النسرين صاده الصياد. . . وا ضيعتي!!) وناحت الجنود لنواحه، ورددت الآفاق الصدى، فكأنما شارك الجماد في الحزن والأنين. . .

وعلى حين فجأة انشق ستار الخيمة عن ملكة شاماخان تلمع لمعان الشروق، أومأت إلى القصر محيية، فلاح دادون وكأنه طير من طيور الليل في سناها الخاطف، سمرت عيناه في جمالها، وطار من رأسه كل حزن وأسى على ابنيه اللذين لقيا الهلاك. وتبسمت هي لدادون، ثم انحنت قليلا، فأمسكت بيده وقادته إلى داخل خدرها، وقدمت إليه طعاما ملكيا فاخرا، فلما تناول منه، قادته إلى أريكة موشاة بالذهب، مسترة بالدمقس.

سبعة أيام وسبع ليال، والقيصر (دادون) ينهل من السرور، ويطيع الملكة طاعة عمياء. ثم حان الرحيل، فتأهبت الجنود، وهيئوا الركاب، وسار الجميع في طريقهم إلى عاصمة

ص: 59

المملكة. .

كان الناس قد بلغهم الخبر، فإذا جموع هائلة بأبواب المدينة، وإذا هتاف عال يستقبل الموكب: عاش دادون! عاشت الملكة! عاش دادون! عاشت الملكة!

ولكن من هذا الرجل الأبيض الرأس واللحية الذي يشق الجموع ليلحق بعربة القيصر؟ إنه الخصي الحكيم!

أقبل على القيصر يقول: تحيتي يا مولاي! فقال القيصر: ماذا تريد؟ قال: حساب بيننا يا سيدي. . . لقد أقسمت أن تجيب رغبتي. . . إني أريد هذه الفتاة. . . ملكة شاماخان!

فصرخ الملك دهشا: إنك تهذي. . . ما نفع فتاة لخصي؟ اطلب شيئا آخر فأقدمه إليك. . . اطلب خير ما في حظيرتي من جياد، أو مرتبة من مراتب الحكم، أو إن شئت فاطلب ذهبا. . . حتى نصف ما في المملكة!

قال الساحر: لا شيء مما يوهب يستحق أن يرغب فيه. . . إني لا أطلب غير ملكة شاماخان!

جن القيصر من الغضب وصاح: لقد أخطأت في تقدير ثمنك أيها العبد. . . لم يكن جديرا بي أن أتركك تتحدث!

وبصولجانه قرع دادون هامة الخصي قرعة شديدة، فسقط الرجل على الأرض ميتا!

وحينئذ اهتزت المدينة اهتزازا شديدا ارتعب له قلب دادون! ولكن الفتاة علا ضحكها في تلك الساعة. . . فما كان منه إلا أن تكلف الابتسام، وأمر بمواصلة المسير. . .

وعلى حين فجأة سمع صوت ضئيل، وإذا بالديك الذهبي يطير إلى العربة الملكية، وإذا به يستقر على هامة القيصر فنفض ريشه أولا، ثم نقر دادون في وسط هامته، ثم حلق في الجو عائدا إلى السماء. . .

ونزل القيصر من العربة، فإذا به يسقط على الأرض بدوره، وإذا به يئن أنة واحدة. . . ثم يسلم الروح!

أما الملكة، فإن أحدا لم يرها بعد، وكأنها لم تكن هناك!!

إن الأساطير وإن بعدت عن الحقائق قد يستفيد منها اللبيب عظة أو اثنتين. .

يوسف جبرا

ص: 60