المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 827 - بتاريخ: 09 - 05 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 827

- بتاريخ: 09 - 05 - 1949

ص: -1

‌3 - أمم حائرة

نحن والمدينة الأوربية

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بجدة

أعني بكلامي هذا الأمة المصرية أولا، ويتناول الكلام الأمم المشابهة لها المتصلة بها من العرب والمسلمين بما تشابهت أحوالهم فيما ورثوا من حضارة قديمة، وبما تقارب نظرهم إلى الحضارة الحديثة.

طلعت هذه الحضارة على المشرق مع قوم يعدّهم الشرقيون - ولاسيما العرب والمسلمون - أعداء، سجَّل التاريخ كثيراً من حروبهم ووقائعهم، ولم يخل عصر من إغارتهم على المسلمين، أو إغارة المسلمين عليهم، منذ انتشر الإسلام في غربي آسيا وشمالي أفريقية وفي جنوبي أوربا: أسبانيا وجزر البحر الأبيض ثم البلقان.

وظهرت هذه الحضارة والنزاع مستمر، والمعارك دائرة، ولم يغير أصحاب هذه الحضارة من خططهم، ولا عدلوا عن سِيَرهم، بل استعانوا بما أمدتهم به الحضارة الحديثة من علم وصناعة في الغلبة والسيطرة على من عجزوا عن قهرهم وتذليلهم من قبل.

فلم يكن بد أن ينفر الشرقيون، وبخاصة الدول الإسلامية، إذ كانت مجاورة لأوربا، وكانت صاحبة السلطان في آسيا كلها ما عدا الصين، وفي أفريقية - لم يكن بد أن ينفر هؤلاء من الحضارة التي طلعت عليهم بين الحديد والنار على أيدي أعدائهم القدماء، وطلعت مشوبة بكثير مما يخالف عقائدهم وآدابهم وسننهم.

وسرعان ما أيقن المدافعون عن أنفسهم من أهل الشرق أنهم مغلوبون لا محالة إن لم يدفعوا هؤلاء الأعداء الأشداء، بمثل سلاحهم، ويلقَوهم بمثل عددهم، ويكيدوهم بمثل خططهم وتدبيرهم. فلم يجدوا مناصاً من أن يأخذوا من أوربا حضارتها الصناعية على قدر الطاقة وعلى قدر ضرورات الدفاع.

لم تكن هذه الحضارة موضع تردد، إذ دعت إليها ضرورة الدفاع عن الأنفس والأوطان، ولم تكن موضع ريبة لأنها قائمة على قوانين طبيعية لا تختلف في المشرق والمغرب، ولا

ص: 1

تلائم أمة دون أمة، ولا تتصل بتاريخ دون آخر، وهي لا صلة لها بالدين والأخلاق والآداب والعادات والعرف والطباع ونحوها.

أخذ المسلمون الحضارة الصناعية على قدر ما مكّنهم علمهم وخبرتهم وأحوالهم، وعلى قدر ما يسرت لهم أوربا الأخذ. أخذوا نتائج هذه الحضارة الصناعية، وحاولوا أن يأخذوا ما تعتمد عليه من علوم وفنون.

ثم أخذوا كذلك ما لم يجدوا مناصاً من المسارعة إليه من نظم للجيوش، ونظم للدولة، ونظم للإدارة.

ثم زاد اتصال الغرب والشرق بالاقتباس والاقتداء، ثم بغلبة الغربيين على كثير من الأقطار وإقامتهم فيها واختلاطهم بأهلها. وأخذت هذه الحضارة أمم الشرق بالرغبة والرهبة. وبالسطوة والزينة، فسايروها راضين وكارهين، وعارفين ومنكرين، وافتتن كثير من الناس فرأوا كل ما أتى من أوربا حسناً، وكل ما ورثه الشرق من تاريخه قبيحاً. وزادت هذه الحضارة إغراء بما ازينت به من مناظر، وما اتصلت به من لذة ولعب ولهو، فلم يقو على معارضتها والصبر على فتنتها إلا قليل.

واشتبهت الأمور، وانبهمت السبل، والتبست الأشياء، فلم يفرق الناس بين طيب وخبيث، ونافع وضار، ومعروف ومنكر، هذه الفتن التي تدع الحليم حيران، فكيف بالجهلاء والعامة في هذا السبل الجارف والطوفان الطام؟

ولم يفرق الناس في هذه الفتنة العمياء، وهذه المحنة الصماء، بين الحضارة الصناعية والحضارة الأخلاقية، ولم يميزوا بين ما يلائم وما لا يلائم، فقاسوا الأخلاق والآداب وسنن الجماعات وروابط الأسر، وقاسوا العقائد والمذاهب، على السيارات والطائرات والغواصات والمدمرات، وعلى البرق والهاتف والمذياع، وفتنوا بالمسرح والمرقص، وبالتزين والتبرج والتعري. واختلط الحابل بالنابل، وضاع الحق في هذه الضوضاء، وضلت المروءة في هذه السوق. ونادى العقلاء فلم يسمع لهم، وقال الحكماء فلم يبالَ بقولهم، وغُلِب الناس على أمرهم حتى أختلف القول والعمل، فترى الإنسان ينكر الشيء ويفعله سيراً مع الدهماء، ويخلفه اعتقاداً ورأياً وقولا ويخضع له في داره بين أهله وأولاده. وبلغت الفتنة أن قال بعض الكبراء وأنا أحاوره في الطرقة المثلى: (إن الطريقة المثلى هي

ص: 2

الواقع).

وقد أنكرنا أنفسنا وحقرنا ما عندنا وأعظمنا ما عند غيرنا وأخذتنا الرهبة والروعة من كل جانب. وكم زرينا على أشياء ورثناها وعرفناها، حتى أخذها أهل أوروبا وأعجبوا بها فنقلناها عنهم، ورضينا بها إذ رجعت إلينا من بلادهم، كما هجرنا الهندسة العربية في الأثاث وغيره، ثم حاكيناهم في الإعجاب بها فأخذناها بعد أن سميناها (أربسكا).

وكما أعرضنا عن سباق الخيل وضروب الفروسية والرياضة التي كانت لنا، ثم عكفنا على قمار في سباق يربِّي خيلا ولا ينشئ فرساناً. . . وأمثال هذين كثير.

والإنسان في هذا الضعف والخوف لا يصح له رأي، ولا تستقيم له طريقة. وكيف يصح الرأي إن لم يعتد الإنسان بنفسه، فيثق بعقله. ويعرف أن له كياناً واستقلالاً، وأن له الحق أن يأخذ يرد، ويستحسن ويستنكر؟

إن الحياة التي لا تشعر بنفسها، ولا تستمد قواها، ولا تستعين بمواهبها، لأشبه بالموت، لها صور الحياة وليس فيها حقائقها. . .

عظمت حيرتنا في التقليد على غير هدى، وقلقنا على المحاكاة على غير بينة، وضعفنا في هذا الاستسلام، والذهاب مع التيار، والتعلل بحكم الزمان وسنة العصر، وما حكم الزمان وسنة العصر إلا تعِلّة العاجزين، وعذر المفلسين، وإنما الإنسان الحق الذي يسير الزمان، ويخلق سنة العصر، ويرد الحادثات عن مجراها، ويسيرها على الطريقة التي يرضاها.

فلما ألفينا أفكارنا وحقرنا مذاهبنا، والطرق أمامنا مختلفة، والمذاهب ملتبسة، نزع كل منا منزعا ً، وذهب على ما تخيل مذهباً، فكان اختلاف الآراء في الجماعة، وتناكر المذاهب فيها، وكانت هذه الحيرة، وهذا القلق، وهذا الاضطراب.

ليتنا حين أخذنا عن غيرنا أخذنا الجليل والحقير، وحاكينا في الجد والهزل! وكم من الغربيين من قدوة صالحة، أسوة نافعة، وخطة حميدة. ولكن عظائم الأعمال لها وسائل من الكد والدأب واحتمال المشاق والصبر عليها. وللمجد مصاعد شاقة، وتكاليف مرهقة. وسفساف الأعمال هينة قريبة لذيذة يستطيعها كل من شاءها، ويهبط إليها من لم يكلف نفسه الصعود. فقد أسرعنا في هزل الغربيين ولهوهم ومظاهرهم، وشق علينا أن نضلع بكثير مما اضطلعوا به وعملوا له، في نظام محكم وخطة شاقة، ودأب لا يكل.

ص: 3

لسنا جاهلين بمحاسن الحضارة الحديثة وفضائلها ومزاياها، ولا غافلين لذاتها ومتعها؛ ولكنا لا نجهل كذلك رذائلها وعيوبها، ولا نغفل عما وراء لذاتها من مهالك للأمم ومفاسد للجماعات. ما أيسر أن يُعِفىَ الإنسان نفسه من الإصلاح، وينهز مع الغُواة، ويستمتع مع المستمتعين، ولسنا عن هذا عاجزين، ولكن الأمانة التي في أعناقنا للأمة، والواجب الذي علينا لها، والبصر بما وراء المظاهر، والبصر بما وراء المظاهر، إدراك ما بعد الحاضر، كل أولئك يعَنّي المفكر، ويقلقه ويسلط عليه هموما لا تنام ولا تُنيم. فيُلزم نفسه الدعوة إلى الإصلاح، والأخذ بالأشق، وحرمان نقسه من كل ما يأباه الوجدان اليقظ، والعقل الصحيح.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌إلى الأستاذ توفيق الحكيم

للأستاذ سيد قطب

- 1 -

صديقي الأستاذ توفيق الحكيم.

شكراً لك على هديتك الكريمة: كتابك الجدير (الملك أوديب) إنها شيء عزيز ثمين بالقياس إلى هنا في تلك (الورشة) الضخمة السخيفة، التي يسمونها:(العالم الجديد)!

لقد استروحت في كلمة الإهداء: (ممن يذكرك دائماً) نسمة رخيمة من روح الشرق الأليف - فالذكرى هي خلاصة هذه الروح - وما كان أحوجني هنا إلى تلك النسمة الرخيمة. . . إن شيئاً واحداً ينقص هؤلاء الأمريكيين - على حين تذخر أمريكا بكل شيء - شيء واحد لا قيمة له عندهم. . . الروح!

بحيث يقدم الدكتوراه في إحدى جامعاتهم - وقد قدم فعلا - عن: (أفضل الطرق لغسل الأطباق) أحب إليهم ألف مرة وأهم من رسالة عن (الإنجيل)، إن لم يكن أهم من ذات الإنجيل!

أمامي وأنا أكتب إليك هذه الكلمات في مطعم، شاب أمريكي يثب على صدره (سبع) ويجثم على ظهره (فيل)! لا تُرعْ! فذلك السبع إنما هو رسم يملأ فراغ رباط عنقه، وهذا الفيل إنما هو رسم كذلك يملأ فراغ صدريته! لقد رسم السبع باللون البرتقالي الفاتح على أرضية (أخضر زرعي)، ورسم الفيل باللون الكحلي على أرضية (كرنبي) وهذا السبع مع رباط الرقبة مدلى فوق الصدرية لا تحتها وحسب مزاج (التقاليع)!

هذا هو الذوق الأمريكي الغالب في الألوان!

والموسيقى. . . ولكن مالي وهذا كله؟ إن ذلك حديث آخر ليس وقته الآن.

أردت فقط أن أقول لك: كيف كانت هديتك لي في (العالم الجديد)!

أشعر بأنني أرد لك بعض جميلك حين أحدثك بصراحة كاملة عن عملك الفني الجديد، مؤثراً هذه الطريقة على كتابة مقالة نقد. ليست بي الآن أقل رغبة لكتابة مقالات، وليس لدي الوقت أيضا؛ إنما يشجعني إلى الكتابة اللحظة أنني أستحضر شخصك في خيالي، وأبادلك حديثاً بحديث، ليس فيه كلفة التحضير، ولا تعمل الفكرة، ولا اصطناع الأسلوب. .

ص: 5

ما أحوجني هنا لمن أبادله حديثاً بحديث، في غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. . . حديثاً في شؤون الإنسان والفكر والروح!

دعني أحدثك أولاً عن (المقدمة) فهي تكوِّن مع (مقدمة الترجمة الفرنسية) و (التعقيب على المقدمة الفرنسية) مبحثاً خاصاً له قيمة ذاتية في موضوعه. ثم إن الحديث عنه قد يكون في ذاته حديثاً عن تمثيليتك الجديدة.

ولنسر معاً خطوة فخطوة في بحثك الممتع الطويل. . .

مالي أحس - أيها الصديق الكريم - كأنك خائف قلق من ذاكرة التاريخ؟ ذلك الخوف وهذا القلق اللذان يدفعانك دفعاً إلى تسجيل دورك بقلمك في خط التمثيلية العربية؟

أحب أن أطمئنك منذ اليوم على التاريخ الأدبي لن ينسى لك دورك الأساسي الذي قمت به في وضع (القالب الفني) للمرة الأولى في التاريخ الأدب العربي للرواية التمثيلية. . . وصنعه على أساس فني صحيح. وإلا فإن محاولات كثيرة قد سبقتك لوضع هذا القالب (أشرت أنت إليها إشارة سريعة في مقدمتك، وسيتناولها تاريخ النقد بالتفصيل والتطويل) إلى أن جئت أنت فوفقت نهائياً لتكون قلب فني للحوار يحمل (فكرة) تدخله في باب الأدب، وينهج نهجاً لم يلحقك فيه إلى اليوم أحد، ولست أدري متى يظهر التالي لك، أو المتفوق عليك، فيه؟

هذا دورك الذي لن ينسى. دور في (تاريخ التطور الفني). أما نصيبك الذي سيبقى في باب (القيم الفنية المطلقة) فأخشى أن أقول: إنك لم تقم به، لأنك - في باب التمثيليات - لم تهتد بعد إلى النبع الأصيل الذي تستسقي منه روحك العميقة لا فكرك الواعي، فتنشئ عملا خالداُ فيه حياة وروح

لقد اهتديت أحيانا إلى النبع - ولكن في باب غير باب التمثيلية - في: (نائب في الأرياف) وفي (عودة الروح) وفي لمحات متفرقة في (زهرة العمر) وبعض كتبك الأخرى. أما في باب التمثيلية، فلم يكن لك - غير القالب الفني - شيء يبقى، اللهم إلا خفقات ضائعة مخنوقة في ركام أجنبي غريب!

معذرة يا صديقي، فذلك وجه الحق فيما أرى. وستعلم بعد قليل لماذا أرى. أما الآن فأحب أن أسجل حقيقة أخرى. . . إن دورك هذا الذي حققته إلى اليوم فعلاُ، ليس صغيراً ولا

ص: 6

قليل الأهمية. فهو دور حاسم في تاريخ هذا الفصل من كتاب الأدب العربي. أنه القنطرة التي لم يكن منها بد، ليعبر عليها الفنان الأصيل الموهوب فيما بعد. وقد تكون أنت نفسك ذلك الفنان الأصيل الموهوب في عمل فني جدير، حينما تهتدي إلى النبع الأصيل المخنوق في نفسك تحت ركام من الثقافة الغربية الطاغية.

إنني لا أعيب الثقافة - فهي أمر لا بد منه اليوم لتكوين الأديب - ولكن الذي أعنيه أنك أيها الصديق - شأنك في هذا شأن ذلك الجيل كله من الشيوخ - تستلهم ثقافتك الفنية الغربية، قبل أن تجد ذاتك الأصلية.

من هنا يفقد فنك - كما تفقد أعمالهم جميعاً - ذلك الطعم الخاص الذي يتذوقه القارئ في آداب كل أمة، والذي يميزه عن آداب الأمم الأخرى.

إنكم لا تجدون أنفسكم في خضم ثقافتكم. إنكم تمتحون من رؤوسكم أكثر مما تستحون قلوبكم. وهذا هو العنصر الخطر عليكم جميعا.

إنك تهتدي إلي النبع في مقدمتك، ولكن بذهنك الواعي، لا بشعورك الغامض. لهذا يخطئك التوفيق عند التطبيق.

تقول:

(ما من شيء أقوى من الميراث!. . إذا كان للخلود يد فإن يده التي ينقل بها الكائنات من زمان إلى زمان. . . ما طبائع الأفراد وخصائص الشعوب ومقومات الأمم، إلا ميراث صفات وسمات، تنحدر من جيل إلى جيل. وإن ما يسمونه العراقة في شعب ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب. وإن الأصالة في الأشياء والأحياء هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة كابرا ًعن كابر، وحلقة بعد حلقة. . هكذا يقال في شعب أو رجل أو جواد. وكذلك يقال في فن أو علم أو أدب. . .).

كلام صادق ثمين عميق جميل. . . ولكنك تعرفه بوعيك يا صديقي، ولا يكمن مبهماً فعالاً دون أن تدري، في اتجاهاتك الفنية وأعمالك. . .

لقد اتجهت وأنت تحاول وضع القالب الفني للتمثيلية المصرية إلى الأساطير الإغريقية تستلهمها موضوعاتك. . . لماذا لأن نشأة المسرح كانت إغريقية، ولأن الأوربيين - وهم ورثة الإغريق - قد جعلوا المسرح الإغريقي والتمثيلية الإغريقية والأساطير أساساً

ص: 7

لأعمالهم!

ولكنك أنت يا سيدي لست من ورثة الإغريق. لا أنت ولا شعبك الذي تعيش فيه. قد تكون من ورثتهم بثقافتك وقراءتك ولن هذه قشرة رقيقة لا تنشئ فناً خالداً أصيلاً.

(ما من شيء أقوى من الميراث. إذا كان للخلود يد فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات، كما تقول!

إنك في حاجة لأن تستلهم وراثتك الأصلية المتغلغلة في ضميرك آلاف السنين ومئات الأحقاب، لا أن تستلهم ثقافتك الطارئة في عمرك الفردي المحدود.

هنالك النبع يا صديقي لو شئت لأعمالك الخلود!

لقد تساءلت. لماذا لا ينقل العرب، فيما نقلوا عن الإغريق، التراجيديا الإغريقية؟ وكان من بين التعديلات التي ذكرتها - وأن لم ترضها - (صعوبة الفهم لذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير لا سبيل إلى فهمها إلا بشرح طويل، يذهب بلذة المتتبع لها، ويقضي على متعة الراغب في تذوقها).

لقد كدت تضع يدك على السر، ولكنك تركته مسرعاً لتقول:

(لكن على الرغم من وجاهة هذا التعليل، فإني لا أعتقد أن هذا أيضاً يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن. فإن كتاب الجمهورية لأفلاطون قد ترجم إلى العربية. وما من شك أن فيه من الأفكار حول تلك المدينة المثالية ما يشق على العقلية الإسلامية أن تسيغه. ولكن ذلك لم يمنع من نقله. . . بل إن هذه الصعوبة بالذات قد دفعت الفارابي إلى أن يتناول جمهورية أفلاطون، فيضفي عليها ثوباً جديداً من خواطره، ويصبها في قالب عقليته الفلسفية الإسلامية).

وهكذا تبعد نهائيا عن السر وكان منك على لمسة إصبع!

إن الفارق بين كتاب الجمهورية والتراجيديا الإغريقية لبعيد. . . . إن الجمهورية موضوع يحتاج إلى (فهم) والتراجيديا موضوع يحتاج إلى (شعور). وهذه هي العقدة في قضية العرب والفن الإغريقي؛ ثم قضيتك أنت بالذات يا صديقي العزيز.

إن الصعوبة الأساسية في الأساطير واستلهامها ليست في الحاجة إلى (فهم) فالفهم قد يكون ممكناً بالشرح على نحو من الأنحاء. ولكن الصعوبة الحقيقية كامنة في الشعور بها في

ص: 8

أعماق الضمير. إن الأسطورة تنبع من ضمير الشعب لا من رأسه؛ وتعيش كامنة في دمه وأحاسيسه. هي (ميراث) شخصي لكل شعب، لا يمكن نقله إلى ضمائر الشعوب الأخرى، كما يمكن نقل الثقافات إلى الرؤوس، بل كما يمكن أحياناً نقل الأعمال الأدبية التي تقوم على أسس وراثية كالأساطير.

لابد أن تعيش الأسطورة حياتها في تاريخ الأمة وضميرها، حتى يستسيغها ذوقها، وتنبض لها قلوبها.

لهذا لم يكن ممكناً أن يشعر العرب بجمال التراجيديا الإغريقية المستمدة في صميمها من هذه الأساطير، ولا أن تنتقل إلى تراثهم كما انتقلت الفلسفة، لأن الفلسفة تراث ذهني في الأغلب، والأسطورة تراث شعوري في الصميم.

هذه هي المشكلة. أما ما قلته من أن السبب الأساسي هو شعور العرب بحاجتهم إلى الفلسفة وإلى العمارة، وعدم شعورهم بالحاجة إلى الشعر. فهو نفسه يحتاج إلى تعليل! لماذا لم يشعروا بحاجتهم إلى الشعر؟ لأن شعرهم كان فيه الكفاية للتعبير الكامل عن حياتهم الشعورية الأصلية؛ ولأن الشعر الإغريقي لم تعش أساطيره في ضميرهم، ولم تندس في كيانهم لتصبح شيئاً غامضاً تائهاً كما كانت في كيان الإغريق!

هنا نجيء لمشكلتك أنت بالذات. بل لمشكلة جميع اللذين يجعلون الأساطير الإغريقية أساساً لأعمالهم الفنية؛ ولو كانوا من الأوربيين - المحدثين - على أنهم ورثة هؤلاء الإغريق -!

إن الأسطورة لا تعيش في دمائكم - وفي دمك أنت بالذات المصري بوجه خاص. إنها لم تنبع من ضمير شعبك. إنها لم تصاحب تاريخك. فكيف تنشئ منها أدباً له حياة؟

قد تقول: إنك تحسن عملك الفني على أساس يتفق مع طبيعة الأسطورة؛ بل مع طبيعة التراجيديا الإغريقية، وقد قلت ذلك. قلت: إن الشعور الديني هو أساس التراجيديا، وأن هذا الشعور عميق في حسك. فأنت تشعر بازدواج العالم ولا ترى أن الإنسان وحده في هذا الوجود.

ولكن هذا كلام عام. ألمح فيه تفكير الذهن ولا أتذوق فيه طعم الشعور.

إن الميثولوجيا الإغريقية مختلفة في طبيعتها عن المتبعين الأصليين لك كمصري مسلم. فلا هي تتفق مع الميثولوجيا المصرية ولا مع العقيدة الإسلامية الحديثة.

ص: 9

الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية تدفعها حيوية عارمة إلى كل تصرفاتها. حيوية لا تعرف العدل والحق والخلق والضمير، لأنها حيوية عاتية شهوانية باطشة. فليس لديها ما يمنع من صب كل هذه اللعنة على (أوديب) لمجرد شهوة أو حقد من (أيولون). كذلك صنعت مع (هرقل) وكذلك صنعت مع (برومثيوس) وغيرهما. وجو الأساطير الإغريقية كلها يوحي بهذا الطابع الخاص الأصيل. . . وهذه الآلهة نفسها يسيطر عليها (القدر) أو قوة تشبهه، وقد لا تكون مخيرة هي الأخرى في دفعاتها وشهواتها وبطشاتها!

والآلهة في الميثولوجيا المصرية القديمة تسيطر عليها فكرة العدل والخلق والحق - في الغالب - فلعنة مثل لعنة (أوديب) غير مستساغة في ضمير الميثولوجيا المصرية القديمة.

فأنت - يا صديقي - بضميرك المصري القديم لا تعيش في نفسك هذه الأسطورة الإغريقية!

وأما الإسلام فينبذ نهائياً فكرة الشهوة والظلم عن ذات الله. وقد بينت أنت نفسك أن فكرة القدر في الإسلام لا تتفق مع الفكرة الإغريقية.

فأنت - يا صديقي - بضميرك الإسلامي الحديث، لا تعيش هذه الأسطورة الإغريقية!

وقد يعن لك أن تقول كما قلت فعلاً: إنك عالجت الأسطورة من جانب آخر جديد. جانبها الإنساني العام. ففي (أوديب) مثلاً جعلت (الموجب للكارثة طبيعة أوديب ذاتها. طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة).

ولكن الأسطورة هي الأسطورة. فلعنة الآلهة هي التي خلقت جوها وحوادثها.

لقد عاشت تراجيديا سوفوكل، لأنها نبعت من حرارة وجدانه بالأسطورة الحية في ضميره وضمير شعبه. أما عملك أنت وعمل الآخرين من المعاصرين الذين لا يؤمنون بالأسطورة إيمان سوفوكل. فلن تكتب له الحياة إلا بمقدار ما في نفس كل منكم من إيمان حار بأسطورة (أوديب)، وبمقدار ما عاشت هذه الأسطورة في ضمير شعبه وضميره من الحقب والسنيين، وبمقدار تناسق هذه الأسطورة مع الحياة الشعورية له بوجه عام.

ولا تؤمن بما يقوله الدكتور طه - مساء الله بالخير - ويردده من أن مصر إغريقية التفكير، لأن مدرسة الإسكندرية القائمة على أساس الفلسفة الإغريقية تركت آثاراً عميقة لا تمحى! لا تؤمن بهذا فإنما هذه هي فتنة الدكتور الكبرى بالإغريق!

ص: 10

قد يكون ذلك صحيحاً في الفلسفة؛ في منطقة من مناطق الفكر المصري لا في سائر مناطقه. أما المنطقة الشعورية فلم تمسها تلك الفلسفة. فضمائر الشعوب لا علاقة لها بالفلسفة. والأساطير تنبع من الضمائر الحية لا من الأذهان الجرداء!

والفنون لا تكتب لها الحياة إلا حين تمتح من هذه الضمائر المكنونة، حين تتصل بالنبع العميق الساري وراء الأذهان والأفكار. . .

ما من عمل واحد يخلد إلا إذا فاض من الشعور.

(واشنطون)

سيد قطب

ص: 11

‌منادمة الماضي:

الإسكندرية في عصورها الإسلامية

للأستاذ أحمد رمزي

قال ياقوت الحموي: (لو استقصينا في أخبار الإسكندرية جميع

ما بلغنا لجاء في غير مجلد)

قدَّم إلي في الأسبوع الماضي، حضرة رئيس مكتب السجل التجاري بمدينة الإسكندرية، نسخة من كتاب طبعته الغرفة التجارية المصرية وعنوانه (الإسكندرية) من وضع لجنة المدينة التي أشرفت على تنسيق قسم خاص للثغر في شارع وادي النيل بالعرض الزراعي الصناعي السادس عشر.

ولما تصفحت مقدمة الكتاب، قرأت نبذة تاريخية ألفها أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة فاروق، ما انتهيت منها حتى أكبرت همتهم، وشعرت بعظمة الإنتاج الذي تخلفه البيئات العلمية، تلك التي تعيش وتحيى حيث توجد الجامعات.

وكان تفاؤلي في محله لأني قرأت في الأقسام التي أفردت لتاريخ الإسكندرية الإسلامي، كلمات تعبر عن شعور النفس العربية المسلمة حينما يتعلق الأمر بتاريخها المهضوم الحق. انظر إلى كلمة الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة واستفتاحه:(ما فقدت الإسكندرية في العصر الإسلامي شيئاً إلا استعادت به غيره). واسمع قوله: (لم تلبث المدينة أن تعربت، ودليل ذلك أننا لا نجد إلا عصبيات عربية في فتنة الأندلس سنة 183هـ) فهذا كلام لم نسمعه من قبل: فيه حيوية وإخلاص.

ثم اطلعت على بحث الدكتور جمال الدين الشيال وعرضه للعصرين الأيوبي والمملوكي، فأعجبني حين أعطى لصلاح الدين حقه، وكلنا يعرف ما هي علاقة هذا العاهل العظيم بمدينة الإسكندرية. وكم كان موفقاً في حديثه عن تاريخ المدينة حينما أفاض عليها حلة شائقة من التحقيق العلمي وحين توج كل ذلك بذكره لزيارات الملك الظاهر بيبرس واهتمامه بأمرها.

كان هذا في نظري بمثابة فتح جديد في تأريخ مدننا المصرية. إذ ما رأيت كتاباً أو دليلا

ص: 12

تعرض لتعريف مدينة الإسكندرية إلا ومر على عهدها العربي والإسلامي مروراً بسيطاً لا يشفي الغليل كأن عهد الإسلام والعروبة كان عهداً غريباً عن مصر وأهلها!! فكل من كتب عن تاريخ الإسكندرية من كتاب الفرنجة وغيرهم يولي العهدين الروماني واليوناني جُلَّ اهتمامه، ويبرزهما بروزاً ساطعاً، بل منهم فريق يسرف في القول ويغالط في الحقائق حتى إذا جاء لعهدنا قال:(إن المدينة فقدت أهميتها وعمرانها وأصبحت خراباً بلقعاً). فكأنه يقول في مواجهتنا: لدى هؤلاء القدماء المدينة والحضارة، ولدينا الجهل والخراب.! لديهم كل ما يحبب ولدينا كل ما ينفر!. أليس في هذا دعوة إلى إنكار شخصيتنا وإلى الفناء في الغير فناء لا نرضاه لأنفسنا ولا لأحفادنا ولا لنهضتنا القومية؟!

كنت منذ سنة أعمل على رأس السياحة المصرية، وكان من ضمن عملي الاطلاع على بعض الكتب والنشرات التي تتكلم عن الإسكندرية وعرضت علي مجموعة من هذه منها القديم والحديث، وكان من بينها كتاب لعلم غربي أريد إعادة طبعه على نفقة الحكومة المصرية، ولما قرأته دهشت من كثرة ما حواه من الأخطاء عن تأريخنا القومي، فحاولت جهدي أن أرد الحق لنصابه وأرفع بعض الإبهام وأعطي صورة واضحة عن تاريخ المسلمين وأثرهم، وكنت أؤمل وقتئذ من جمهرة المثقفين في مصر ومن أهل المدينة أن يقوموا بواجبهم في سد هذه الثغرة التي تضعف من أيماننا في أنفسنا، وتقلل من أمجادنا، وتجعلنا في النهاية غرباء عن تاريخنا.

كل هذا دفعني إلى الإلمام إلماماً تمهيدياً لما كانت عليه عظمت هذه المدينة. فخرجت بأشياء تجعلني أسلم بما جاء به ياقوت الحموي في معجم البلدان من أن ما وصله عنها يستحق أكثر من كتاب واحد. ونحن أمام تاريخ الإسلام في الإسكندرية نقرر أنه في حاجة إلى عدد من المجلدات الضخمة.

وإليكم أول ما تبادر إلى ذهني في تلك الأيام، أنقله كما هو، قلت: (الذي أعرفه وأشعر به عن الإسكندرية حين أزور مدينتهم، هو أنهم أهل رباط ونجدة، نرى في وجوههم أن أصولهم وفروعهم تنحدر من صميم القبائل العربية التي رابطت في هذا الثغر الإسلامي؛ فيهم نخوة وشدة وحماس ودفعة وأقدام على المخاطر. وتلك صفات أنفرد فيها أهل المثاغرة والمرابطة في أنحاء العالم الإسلامي من أهل الثغور والعواصم الذين كتبوا بدمائهم ملاحم

ص: 13

الحروب، فهم أذن سلالة أولئك الذين فتح الله على أيديهم هذا الثغر وأبناء الأبطال الذين صدوا وهزموا كل من حاول الاعتداء على أراضي مصر الإسلامية طول مدة العصور الطويلة الماضية التي نعمت فيها البلاد بنعمة الاستقلال الصحيح والعزة والكرامة). وأراني اليوم أكثر تمسكا بهذا الرأي مما كنت.

رجعت إلى ما كتبته أيام السياحة؛ لأني أعجبت بالقسم التاريخي من كتاب الغرفة التجارية، فعدت إلى أوراق الماضي أقلبها، ثم حمدت الله أن تنبهت الغرفة لهذا التاريخ الإسلامي، وسلمت أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب هذه الأمانة، فأدوها وهذه لفتة جديدة لم تعرفها المدينة قبل اليوم.

ولكن مثلي يطمع في الكثير من هذا؛ يطمع أن تعرض عليه حوادث التاريخ الحي، وأن يتغنى بمواقف أهل المدينة، وينادم آثارها الإسلامية؛ ويشمخ بأدبها العربي وبروحها الوثابة وبما خلفته وتركته لنا تلك العصور العزيزة علينا، وهذا عمل عظيم، أؤمل أن يتولاه الأدباء والعلماء والمؤرخون وأهل الآثار ورجال الدين والقضاة وكل محب للإسلام والعروبة.

فهذه مدينة أصبحت أكبر منازل الرباط في مصر منذ أتم الله فتحها على يد منقذ مصر الأكبر (عمرو بن العاص)، فبرزت بروزاً في تاريخنا لا يمكن إنكاره ولا الإقلال من أهميته رغم الطعنات التي يوجهها الغير إلينا وتحديهم لنا.

إن أيام الفتح توحي بالكثير من المواقف وقد أوحت بالفعل شيئاً من ذلك: أنني لا أزال أذكر ما نقل عن عمر وهو يحدثنا قائلا: (ثلاث قبائل من مصر؛ أما مهرة: فقوم يَقتلون ولا يُقتلون، أما غافق: فقوم يقتلون ويقتلون، وأما بِلى: فأكثرها رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارساً). قال هذا عندما نزل بعض هذه القبائل في الإسكندرية إبان القتال الدائر حول أسوارها عندما حمل الروم على العرب فقتلوا لأول مرة رجلا من مهرة - ولم يكن قد قتل أحد منهم قبل ذلك اليوم - واحتزوا رأسه وحملوها. وقالوا: (لن ندفعها حتى نأتي برأسه). فقال لهم عمرو: (كأنكم تغضبون على من يبالي بغضبكم. احملوا على القوم واقتلوا منهم ثم ارموا برأس قتيل منهم يرموكم برأس صاحبكم) فخرجت الروم واقتتلوا. فقتل من الروم رجل من بطارقتهم، فاحتزوا رأسه ورموا به الروم، فألقت الروم

ص: 14

برأس المهري إليهم، فقال:(دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم). وقد تكون هذه القصة واقعية أو من عمل الرواة بقصد الدعوة إلى الحماس، وهذا لا يهمنا بقدر أنها تعرفنا من كان على أبواب الإسكندرية يقاتل. وهؤلاء هم أصحاب المدينة. إذ أجمع المؤرخون على أنهم عند الفتح كانوا من خلاصة القبائل العربية التي استوطنتها بعد جلاء الروم عنها. قال المقريزي:(إن لخماً كانت أعز من في ناحية الإسكندرية وأطرافها). وهي قبيلة امتدت فروعها وبطونها في صميم مصر ولا يزال أبناؤها في إقليمي البحيرة والشرقية، ولها المواقف التاريخية في كل حادث من حوادث التاريخ. وليس من السهل إنكار التاريخ والخروج على الأصول والأنساب.

وللإسكندرية مواقف ومعارك وأحداث تحدث التاريخ عنها وأهلها أحق من غيرها بآثارها والتفاخر بها، ولم يكن سكانها في تلك العصور ممن تلين قناتهم. أو لا يعتد الخصوم بهم فيصفونهم بالأصفار المتراصة، وإنما كانت سيوفهم مرهفة، ورماحهم للجهاد قائمة، وكانت لهم في البحر جولات، طالما أدخلت الرعب والخوف في نفوس الروم والفرنجة ومن معهم. نعم؛ جاءتهم قبائل عربية من المغرب ومن الأندلس، أنزلوها حيناً باختيارهم، وحيناً بعد حروب دامية. ومن نزل منهم رحبوا به، ومن لم ينزل على حكمهم أرجعوه على سفنهم وبعثوا به إلى البحر ثانية، فهم مرابطون بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.

نقل الكندي في فضائل مصر ما قاله سفيان بن عيينة لأحمد ابن صالح: (يا مصري، أين تسكن؟) قلت: (أسكن الفسطاط) قال: (أتأتي الإسكندرية؟) قلت: (نعم) قال سفيان: (تلك كنانة الله يحمل فيها خير سهامه).

ونقل السيوطي في كتابه: أنه نُعي إلى عبد الله بن مرزوق الصيرفي، ابن عم له اسمه خالد بن يزيد، وكانت وفاته بالثغر الإسكندري، فلقيه ثلاثة هم: موسى بن رباح وعبد الله بن لهيفة والليث بن سعد، منصرفين وكل منهم يقول:(ألم تكن ميتته بالإسكندرية؟. إذن هو حي عند الله يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما قامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك).

(البقية في العدد القادم)

أحمد رمزي

ص: 15

‌حكيم فيلسوف يتكلم.

. .

للأستاذ راجي الراعي

مشى كعادته كل صباح إلى ساحة المدينة بخطوات الفيلسوف الحكيم، وأقبل عليه الناس فحمد الله وشكر، ثم حدجهم بنظراته القوية الصافية العميقة، فأنشق ألف حجاب، وانقلب الظل شعاعاً وتجلت الفلسفة، وعبق الجو بالروحانية، وفاح عطر الحكمة. . .

وسأله واحد من الجمع:

حدثنا أيها السيد فقال:

- جميل أن تضحوا بنفوسكم في سبيل المثل العليا، وأجمل منه أن تبقوا أحياء لتكملوا أداء الرسالة الروحية. . .

جميل أن تحترقوا ليستضاء بكم ويهتدي بنوركم، وأجمل منه أن لا تضرموا فيكم الأحطاب لتنقذوا من تأكله النار، وتقطعوا عنه ألسنة اللهب.

لا تغرقوا أنفسكم في بحر الوجود ليتسنى لكم أن تنقذوا الغرقى. . وكلما أنقذتم غريقاً وأقفلتم في وجهه باب الموت فتح لكم باب في السماء. . .

أبقوا المناجل في أيديكم لتحصدوا حصادكم. . . إن الحياة ليست بمعطف تلقونه بسرعة وخفة عن أكتافكم، ولا هي قطعة النقد ترمون بها في الخزانة. . إن للحياة طعما ووزناً. . أن لها حوضاً من مائها لا يجوز لكم أن تفرغوه في لحظة لتسقوا الأرض مهما أشتد جفافها وطال. . . إن مياهكم تنبع من صدر الله. . الحياة أمانة في أيديكم فمن جازف بها خان الأمانة وإن ارتدت خيانته ثوب الصدق الإخلاص. . .

وسأله آخر: ما هي كلمتك في الكبرياء أيها الحكيم فقال

- لا صغير ولا كبير في الكون. . . كل شعاع من الشمس شمس مقتضبة وكل قطرة من البحر بحر بليغ، وكل حبة من الرمال صحراء مكبوتة، وكل نسمة في الأثير أثير ينطوي على نفسه. الجزء في الكل والكل في الجزء، والكل واحد. . . إن في الذرة الصغيرة ما في الأفق الذي لا حد له، هما صفحتان في كتاب وعينان في وجه. . .

ليس لأحد أن يشمخ على الآخر:

الحجر يقول للجدار: لولاي لم تكن، والجدار يقول للحجر لولاي لم تلق وسادة تلقى عليها

ص: 17

رأسك. . . الخمرة تقول للكأس: لولاي لم تنعم بك شفة، والكأس تقول لها: لولاي لذهبت هدراً. . .

لا كبير ولا صغير في الكون. . .

إن الرسالة واحدة وإن تغير الغلاف، واصل الحياة واحد وهدفها واحد فلا تشمخوا بأنوفكم على الخلق. . . المهود واللحود تجمعكم في صعيد واحد. .

كلما شمختم على الآخرين وتخيلتم أنفسكم عظاماً ضربتم القبور بهيا كل عظامها. . .

وارتفع في الساحة صوت ملائكي يسأل عن الصلاة فأطرق الفيلسوف ثم قال:

- الصلاة هدير بحر الأيمان، والمرساة التي تقف بها سفنكم في مرفأ الخالق. . . الصلاة هي وهج الأيمان الذي يشتعل فيكم فكلما ألقيتم الأحطاب في ناركم صليتم. . هي الحنين إلى الأصل الذي جئتم منه، والى الوطن الأكبر الذي تهتم عنه. . إنكم تصلون لتطلبوا إلى الخالق إكمال ما نقص فيكم وأيقاظ ما كمن في أعماقكم ولتبلغوه شوقكم إلى الآخرة، إلى اليوم الذي تنطلقون فيه من أسر هذه الكرة التي تستبد بكم وتدميكم بقيودها، ولتفتحوا له جراحاتكم فيرى فيها مواضع الألم وطوابع المجرمين وحنق الطغاة وقسوة الزمن. . .

الصلاة لسان الظمأ الناري في النفس يستجدي الماء من ينابيع النعيم. . . وأنتم كلما حننتم إلى جريح أقمتم لله هيكلا، وكلما حطمتم سيفاً من سيوف الغدر والخيانة والظلم برق لكم سيف في السماء، وكلما قابلتم الإثم والرذيلة بجباه مقطبة بسم لكم السيد. . .

الصلاة أن تستعجلوا الرحيل من هذه الفانية. . .

وإذا صليتم فلا تنسوا هذه الكلمات:

اجعلني يا رب صالحاً للمثول بين يديك. . . اعطني جناحين لأطير إليك. . . أنا تائه فأهدني. . خذني بيديك وتنقل بي من شمس إلى شمس ومن نجمة إلى نجمة ومن مجرة إلى مجرة حتى أقع متهالكا على عتبة بيتك وأستريح. . . أخل ساحة نفسي من كل شيء عداك. . . اعطني القوة لا لأصرع الجبار، ولكن لأجعل من الصعلوك جباراً يطاول برأسه النجوم حتى يشرف على دارك. قيدني بحبك. . أنت في ضميري وطفولتي فخذني بيدك ولا تدعني أنا الطفل الكبير أقع في الهاوية. . .

وسأله أحدهم عن الصبر فقال:

ص: 18

أنتم بين إرادتين: إرادة الإقدام وإرادة الصبر وأعظمها الثانية.

جميلة هي الموجة المقتحمة الهائجة وأجمل منها الصخرة التي تردها. . .

جميل السيف وأجمل منه الدرع التي تتقيه. . .

جميل البركان وأجمل منه الجبل الذي يعرف أنه الجبل الوقور الرصين فيبقى حممه في أحشائه لا يزعج بها الفضاء ولا يقلق العابرين. . .

وتقدم منه شاعر وسأله عن الطبيعة وكتابها فقال:

- إن الطبيعة رسوماً وأصواتاً فهل أنتم تنظرون وتسمعون؟ الشمس تقول: أنا صورة من خيال الله إطارها الأفق فيسمعها البحر فيقول: أنا خلجة في الصورة، وتسمعها الرياح والأعاصير فتتنادى وتصرخ بصوت عظيم: نحن من أبواق الله ننذركم بشر المصير إذا كنتم لا تؤمنون. . والجبل يتكلم ويقول: أنا الجلال والوقار لا أبرح مكاني ولكن الإيمان، الإيمان وحده يذهب بي حيث يشاء من مكان إلى آخر، أنا في مهب الإيمان على الرغم من صخوري وضخامتها وعلوها، ريشة طائرة. . . ويسمع الينبوع كلمة الجبل فيقول أنا قطرة من خمرة الله. . . وتهب الخمرة من الكأس لتقول: أنا من دمه. . . وكل نجمة من هذه النجوم تقول لكم: إن بيني وبين رفيقتي عالماً مهجورا وفراغاً مخيفاً، كذلك أنتم في مناطق نفوسكم التي لا تعد. . . إن بينها أبعاداً شاسعة وقد تموتون والمنطقة الواحدة تجهل الأخرى.

وللقمر كلمته وهي أن لا نخدع به فهو يستعير نوره من الشمس وفي شعاعه المطمئن اضطراب العاجز. . . والزهرة تتنهد وتتأوه قائلة: مادمتم تقطفونني بأيديكم السمجة الغليظة، فلستم من المؤمنين بالفن والأرج والجمال، وإذا ذبلت وتحولت عنكم فذاك لأنكم لا تفهمونني. . .

والمطر رحمة وكرم والبرق إلهام، والرعد غرور وثرثرة، والصاعقة جنون، والسنابل أصابع كف الحياة وهي تصفع الموت، والبركان عقل باطن ثار وانفجر، وندى الفجر دموع، والظهيرة جحيم، والأصيل هدنة والليل وشاح من أوشحة الموت، والغابة أسرار والدرر في الأعماق مواهب، والضباب حيرة والنار ألسنة تخطب على منبر الفناء، والنور نار وادعه ساكنة

ص: 19

وتعالت الأصوات صائحة:

- حدثنا عن الخالق والخليقة فنظر إلى السماء ثم قال:

- الخليقة قصيدة كانت مطوية تحت جناح الله فأطلقها شعراً منثوراً في ساعة طاب له فيها أن ينثر الشعر. . . هي قصيدة الحب والجمال وشاعرها الله. . . لقد كنتم طيوراً تغرد في حديقة الخالق، والشوق إلى تلك الحديقة التي تنقلتم على أفنانها قبل أن عرفتكم هذه الشمس هو اسمي وأبرز ما في نفوسكم التي تحن أجنحتها حنيناً لا يغذيه ولا يبلغه هدفه إلا الحب الروحاني ينير الطريق ويحرق الحجب الكثيفة. . . إن وجه الله الحبيب لا يُرى على ضوء العقل والعلم وإنما يُرى على ضوء النار التي يضطرم بها الوجدان. . . إن الله يدرك بالوجد وبالعشق الإلهي الذي يقطع إليه وحده المراحل والأدوية فإذا أطفأتم ناره في صدوركم انقلبتم رماداً. . .

واقترب منه ملاك وسأله عن الملك والملاكين فقال:

إن اليد التي تلتمس الأشياء ويندلع بين أصابعها لهيب الحلو والشوق والحنين هي اليد الحمراء الجميلة، فإذا ظفرت بها تروم وقبضت عليه أثقلها الرماد والتراب وتوارى جمالها. . . إلا ترون الينبوع كيف يفقد روحه إذا بلغ البحر، والصحراء كيف تهدم كيانها إذا اهتدت إلى الينبوع فجربوا ما استطعتم أن تطيقوا المسافة بين ينابيعكم وبحورها وبين صحاريكم وينابيعها. وبعد فما هو هذا الذي تملكون؟ هذه الأجسام، أجسامكم، أتحسبون أنها لكم؟ إنها للتراب الذي تخلى عنها إلى حين ثم يستردها ويقفل العين التي كانت النفس تطل منها على الوجود. . وهذه الأموال التي تحشدونها وخزائنها الحديدية، هي من التراب أيضاً، من مناجمه التي تفتحون لحودها ثم تعودون إليها وليس في أيديكم غير أصابعها التي تتحول إلى سنابل في الحقول. . . وهذه البيوت التي تقيمون بين جدرانها ليست لكم وكيف تملكونها وهي باقية يوم ترحلون. . . إن الحجر أشد منكم شكيمة وقوة وصبراً في ساحة البقاء. . . ما الذي تملكون؟؟ أتحسبون أنكم تملكون الفكرة والعاطفة، إن أفكاركم وعواطفكم حلقات كسلاسل قديمة لا يد لكم فيها ولا تعرفون من أمرها إلا أنها توثقكم. . . إن قلوبكم ليست لكم فهي تقيم فيكم على الرغم منها وتلح بنبضاتها المتعاقبة للخروج من أقفاصها، أصابها (كوبيد) ببعض سهامه الطائشة، فوقفت في صدوركم وظلت هناك جريحة تئن

ص: 20

وتستغيث طارقة باب النجدة للانعتاق من الأسر. . .

والمرأة التي تتخذونها لكم رفيقة ليست لكم أيضاً فستظل إلى الأبد لغزاً لا يدرك سره، وكيف يملك المجهول؟ وهؤلاء الأطفال الذين تلدونهم قطرات دم كثيفة من سهام (كوبيد) تجمدت وتجسدت وأطلقها (كوبيد) لتلعب في فنائكم. . . وهذه الحدائق ليست حدائقكم ففي أشجارها الألوف من الخلق الذي تقمصوا وتجلوا أزهاراً وثماراً. . . لا، إنكم لا تملكون شيئاً أنتم وملوككم. . الملك لله. . . هو وحده المالك. . .

وسألوه عن الصمت والكلام فقال:

الصمت هو الأصل، وقد خلق الإنسان ليفكر ويتأمل ويحلم. . . إن ما يحيط به من الأسرار والأعاجيب في السماء والأرض يوقفهم وقف المعجب الثمل المشدود المأخوذ بالعظائم والروائع لا تترك مجالا ً لكلمة يقولها. . .

إن الحيرة والإعجاب والوجد والذهول والانجذاب تخرس الألسنة وساحة الحياة أضيق من أن تسع قصور الخيال والتأمل والأحلام فأين فيها مكان الكلام؟ ألا ترونه الدخيل يحشر نفسه في صفوف الحياة حشراً ويتطفل على مائدتها؟ الصمت وشاح تتشح به النجوى والتقوى ويتورع به التصوف والإيمان وعليه يقوم بيت الله. . . الصمت يجمع نفوسكم والكلام يفرقها. . . إن الآفاق كلها بنيراتها وشموسها ومجراتها صامتة فكيف تتكلمون؟؟

ودنا منه فيلسوف وسأله عن الكلمات وقوتها وطنينها فقال:

إن الصور والرسوم التي تعرضها لكم الحياة لا تبدو لكم على حقيقتها فأنتم تلبسونها بكلماتكم الأثواب التي يحلو لكم أن تنسجونها. . . إن الكلمات التي تستقونها من معاجمكم هي التي تسيركم، الكلمات الضخمة القوية الطنانة التي تجعل من النسيم عاطفة ومن الشرارة ناراً تحرق الغابة، ومن الشيء التافه شيئاً يتضخم ويعلوا حتى يملأ الجو والساحة. .

قد يكون ما ترونه مظلماً فتطلقون عليه كلمة تشع فتصبح في نظركم منيراً. . . إن كلماتكم منافخ تنفخ الروح في الأموات ومطافئ تطفئ الحياة في الأحياء. . . كلها من نسيجكم وإبركم تضيق وتتسع بإرادتكم وأوهامكم ومعاجمكم. . . إن الفقر لا يحمل الجراحات التي تتخذونها ولكن كلماتكم فيه حملته المدى والطعنات القاتلة، والغنى ليس الطريق إلى

ص: 21

السعادة، ولكن ما نسجتموه حوله أجلسه على عرش العروش يوزع اللذات ويفتح أبواب النعيم.

إنكم تكثرون من الكلمات فيضيع عليكم الكثير من أهدافكم وانتم في ذلك كالشجرة التي تكثر أوراقها فتقل ثمارها. التفخيم والتضخيم ووراءهما التشويش والتعقيد والحيرة والإلهام والإبهام من صنع أيديكم كأنه يلذ لكم أن تكثروا النجوم في آفاقكم لتضيعوا في مسالكها. . . إنكم تلهون بطنين الألفاظ عن دقة المعاني وحقيقة الحياة وجوهرها وكأن كل كلمة من كلماتكم حجر تلقون به في البحيرة الهادئة الحكيمة الوداعة فتقلق وتضطرب وتفقد الكثير من سكينتها وجمالها. . .

إن الله لم يلفظ بغير كلمتين (ليكن النور) يوم رفع عنا الستار في حين أنه رب الأبجدية والمعاجم. . إن الخالق يوم خلقنا كان بليغاً. . .

وسألوه عن القوة الظاهرة والكامنة فقال:

- في عالم الروح قوى كامنة تنتظر من يطلقها فإن شخصية الإنسان لا يبدو منها إلا عشر ما تنطوي عليه والباقي مختزن راقد في الأعماق. . إن القوى الدفينة في رمالكم عديدة بعيدة الأغوار، وما يستطيعه هذا المخلوق البشري الذي يحسب نفسه ضعيفاً يمتد على مسافات لو كان له أن يجتازها في عالم الحقيقة المحسوس لأتى بالمدهشات. . . إن في الإنسان فيضاً من نور الخالق، ولكن العيون لا تقع منه إلا على بضعة أشعة هي التي تأتي بكل هذا الذي ندعوه العبقرية والموهبة والوحي والخيال الخلاق والفن الرفيع، والبقية الباقية غائبة عن الحس منطوية على نفسها ولا أدري ما يكون من أمركم وأية أهوال تقذفون بها في هذه الأجواء، وأية أسرار تهتكون حجبها إذا لم تصب شموسكم بالكسوف وتجلت شخصياتكم على وجهها الأتم. . خذوا من ساعاتكم ساعة الإلهام وساعة الخطر وساعة الحلم وساعة الخطر وساعة الخمر تلمسوا بأيديكم ما تقوى عليه عقولكم الباطنة إذا ما خرجت عن ذهولها. .

إن نظرة واحدة من نظرات تلك العقول في يقظتها تكفي لخلق هذه الروائع في الفن، وتلك العجائب في العلم، وإن شهاباً واحداً من تلك الشهب النفسية يتصل بكم نوره يكفي ليضعكم في عدد الأبطال والمستشهدين، ويجعل من أسمائكم سيوفاً تبلغ من المضاء حداً تخترقون

ص: 22

به كثافة الأجيال. .

آه لو استيقظتم اليقظة التامة الكبرى لتأخذ العين ما قدر لها من مجال في هذا الوجود، وتنطلق ذراتكم الروحية لتذليل هذه الصخرة الشامخة العاتية الهازئة القديمة القائمة في طريقكم، صخرة المستحيل. .

إن في قبتكم النفسية التي لا تقل عن هذه القبة الزرقاء روعة وسناء مائة ألف نجمة لا يضيء منها إلا نجوم قليلة معدودة فإذا ما أضيئت كلها وجدتم نفوسكم التائهة وشعرتم بذلك الارتياح النفسي الذي تسموه السعادة، ولقد حان لكم أن تنشروا كل ما في كتابكم من صفحات لتحقيق حلمكم الأكبر.

راجي الراعي

ص: 23

‌مسرحية (سليمان الحكيم)

للأستاذ توفيق الحكيم

بقلم الدكتور محمد القصاص

(تتمة)

كنا نتكلم في نهاية المقال السابق عن رأي الأستاذ توفيق الحكيم في أن التراجيدية تقوم على أساس من الدين، ووافقناه على هذا الرأي، وذكرنا أن تلك كانت حالها عند الإغريق. والآن نقول بأن ذلك كان شأن التراجيدية أيضاً في أوربا المسيحية خلال العصور الوسطى. فقد كانت تستعد موضوعاتها من صميم العبادة المسيحية والطقوس الكنسية. ففي بادئ الأمر لم يكن المسرح إلا صورة مكبرة لما يعمل في الكنيسة أثناء القداس لجعله أبلغهم تأثيراً في النفوس، وأشد أسراً للقلوب، وأفعل في استثارة العاطفة. بعد ذلك صارت تمثل حياة ابن الإله في صورة درامية تنفطر لها القلوب، وحياة السيدة العذراء، ومعجزاتهما، ثم معجزات القديسين. ومن بعدهما أخذت الخرافات والأساطير الدينية تغذي التراجيديا بمادتها التي لا تنضب. وكلها أشياء شعبية أليفة للشاهدين، وفي متناول فهم الجميع وإحساسهم. كانت تمتزج بها الدعابة من حين لحين، بل كانت تنزل في بعض الأحيان إلى درجة من السخرية لا تليق بقداسة الدين؛ حتى كانت السلطة الزمنية تضطر إلى التدخل؛ ومع ذلك فقد ظلت الأرض الخصبة التي أزهر عليها المسرح التراجيدي أكثر من ثلاثة قرون هي عصره الذهبي دون جدال.

هل هذا ما يعني الأستاذ توفيق الحكيم عندما يقول بأن التراجيدية لا تقوم إلا على أساس ديني؟ إن كان ذلك مقصوده فإننا نوافقه كل الموافقة. ولكننا نأسف أن نرانا مضطرين إلى التصريح بأن التوفيق قد أخطأه دائماً عند الاختيار، لأن الأستاذ لعله يخلط بين الإيمان والعواطف الدينية من جهة، وبين جدل المتكلمين من أمثال أبي حنيفة، وإبراهيم النظام، وأبي الحسن الأشعري من جهة أخرى، فبدل أن يتخذ موضوع مسرحيته من صميم العاطفة الدينية وما يغذيها من أساطير، وكرامات، ومآس يؤمن المؤمنون بحقيقتها وواقعيتها إيمانهم بالتاريخ والحقائق الكونية، راح يبحث عن هذا الموضوع في الكلام والفلسفة السكولاستية.

ص: 24

أفيظن أن فكرة القضاء والقدر، ولا سيما على النحو الذي يعالجها به في مسرحيته، في وسعها أن تحرك قلب إنسان، أو أن تثير انفعال مؤمن أياً كان؟ الواقع أن الإيمان شيء والفلسفة مهما انحطت شيء آخر. ومع ذلك فقد عرف العالم الإسلامي - على نحو ما - هذا النوع من التمثيل، تمثيل المآسي الدينية في الطرقات والميادين العامة على نحو ما كان يفعل الإغريق القدماء أول عهدهم بالتمثيل. من ذلك مأساة مقتل الحسين، ابن بنت رسول الله (ص) التي يقوم الشيعة في إيران والعراق بتمثيلها يوم عاشوراء من كل عام.

في هذا اليوم يحي عامة الناس من ممثلين ومشاهدين أحداث يوم كربلاء، لا على حقيقتها، بل كما أرادت الأساطير وحماسة الإيمان أن تكون. يحيون هذه الأحداث الجسام التي تجتمع عليها خفقات قلوبهم، وتثير في نفوسهم عواطف اجتماعية، وبفنون في نفوس تكثيلها لشدة امتزاجها بنفوسهم واستيلائها على قلوبهم ولصوقها بإيمانهم. حتى لقد حدثني بعض الأصدقاء ممن شاهدوا هذا اليوم بأن من المشاهدين من نسي نفسه نسياناً تاماً، حتى ليصيب نفسه بأذى قد يودي بحياته على غير شعور منه. على مثل هذه (العواطف الدينية) قامت التراجيديا الإغريقية، وتراجيدية أوربا المسيحية حتى عهد كرني. وهذه العواطف الدينية هي التي يجب أن تكون أساساً للتراجيدية، هذه العواطف التي تلهب النفوس وتجمع بين القلوب، لا جدل المتكلمين ومذاهب الفلاسفة السكولستيين، كما فعل مؤلف سليمان الحكيم، خلطاً منه بين العاطفة الدينية، وبين الجدل حول الدين الذي لم يمس يوماً قلب إنسان، وقد ينبو عنه في عصرنا الحاضر عقل كل إنسان.

فإذا رأى الأستاذ الحكيم أن هذه المواضيع الدينية الساذجة أصبحت شيئاً بالياً، وأن على الكاتب أن يشغل قلمه بما هو أجدى في عصر طغى فيه جد الحياة وقسوة العمل، فليترك إذن ميدان التراجيديا لتموت في هدوء كما هي حالها في كل مكان من بلاد الغرب، ولينزل إلى ميدان (الدرامة) ميدان الحياة الاجتماعية، إلى العالم الذي نعيش فيه، فيصفه لنا بخيره وشره، وإلى العالم الذي يريد لنا أن نعيش فيه، فيهدينا إلى طريقه، سواء أكان ذلك في ميدان العمل أم في ميدان الروح، في ميدان الاجتماع أم في ميدان الميتافيزيقة. أما أن يصر على التراديجية وهو يبتعد عن موضوعها على غير شعور منه لأن نفسه غير مهيأة له، فتلك خسارة كبرى على فن توفيق الحكيم، وهو فنان كبير، وتبديد لمواهبه في الهباء، وهو

ص: 25

ذو مواهب حقة لا نظن أحداً يشك في قيمتها.

ومن أفدح ما أصاب فن الأستاذ الحكيم في القصة التي تدرسها من جراء الفكرة التي تقوم عليها، والتي دفع الكاتب إليها تشبثه بالتراديجية مع بعده عن الصواب في إدراكه للأسس التي تقوم عليها وإغراقه في حب التفلسف، أن جاءت روايته غير قابلة للتحقيق المسرحي لخلوها مما يثير قلب الإنسان أو يتصل بنفسه، وبعدها عن واقع الناس والحياة الحقيقية، والظاهر أنه يدافع عن هذا المذهب، ويعده مذهباً مقبولاً، أعني كتابة أدب مسرحي، وعمل روايات مسرحية، لا لتمثل بل لتقرأ في أوقات الفراغ. ففضلا عن تجلي هذه الظاهرة في (سليمان الحكيم) نراه يقول في مقدمته (لأوديب الملك):(وأعني بالمسرح هنا كل فن يرمي إلى تصوير الأشياء والأفكار على خشبة أو شاشة أو موجة أو صحيفة. . . بأن يقيمها حية تتحادث وتتحاور وتبرز مكنون سرها أمام الناظر أو السامع أو القارئ) ولكنا - كما قلنا في مقال سابق - إذا سلمنا بأن الأدب المسرحي فن من فنون الأدب قائم بذاته، وجب علينا أن نسلم بأن ميزة هذا الفن إنما هي في الصفات التي تمكنه من التحقق في الخارج، من اللعب على خشبة المسرح. لذلك قلنا أنه إذا تأتى له ألا يكون أدبياً فلا يصبح له بحال من الأحوال إلا يكون مسرحياً. هذا هو شرط المسرحية الأول بل حدها. فأول الأضرار التي أصابت المسرحية من جراء الفكرة التي حملها المؤلف إياها، إنما جاءت مسرحيته لا تمت بشيء إلى قلب الجمهور وعقله، مسرحية لا تحرك فيه عاطفة ولا صدى لعاطفة وهذا ضرر لا يستهان به لأنه جعل منها قصة غير تمثيلية ولكن في صورة حوار.

أما الضرر الثاني فلا يقل خطورة عن الأول، وهو انعدام الشخصيات في المسرحية، انعدام ما يميز بعضها من بعض تمييزاً ذاتياً. إذا لا تكاد توجد بينها شخصية واحدة تصدر في مسلكها في الحياة عن بواعث نفسية وإرادة إنسانية، عن تقدير شخصي، وعن عواطف وميول ودوافع داخلية هي ملك لها وجزء من كيانها المعنوي، وتمييزها عن غيرها من أبناء جنسها وتلون مسلكها في الحياة بألوان تختلف عما عند الآخرين اختلافاً قد يكون كبيراً وقد يكون طفيفاً ولكنه جوهري وذو خطورة عظمى، لأنه هو الذي يهب الإنسان إنسانيته ويسبغ على كل فرد فرديته. وهو الذي يجعل من كل إنسان كوناً شاملا شاسعا غامضاً يستحق الدراسة والتأمل، كوناً منطقياً تارة وغير منطقي تارة، تتصارع فيه الأهواء

ص: 26

والعواطف والشهوات والأفكار وجميع العوامل النفسية والانعكاسات الخارجية. من هذا الصراع الداخلي، جلياً كان أو خفياً، ومن اصطدام حرية الفرد بحرية الآخرين؛ ومن نضاله ضد القوانين الكون الراسخة، تنفجر درامة الحياة الواقعية بما فيها من مآس ومهازل وأبطال هم بنو الإنسان جميعاً. وكلهم شاهد، وكلهم ممثل. وكلهم يلعب دوراً أصيلا في الدرامة؛ دوراً لا يلغى شخصيته ولو كان ملغى الشخصية، ولا يجعل منه نسخة من الآخرين لأنه يصدر في عمله عن نفسه، عما فيه من صفات؛ حتى عندما يحاكي الآخرين؛ لأنه وجود إنساني له كيانه. درامة الحياة هذه هي التي يجدر بالكتاب المسرحي أن ينقلها على المسرح كما يراها بعينه وكما يدركها هو؛ ينقلها بأبطالها بعد أن بتقمصهم الممثلون.

أما شخصيات الأستاذ توفيق الحكيم في رواية سليمان الحكيم فهي أشبه بالآلات؛ تأتيها الحياة من خارجها بدل من أن تنبثق من داخلها؛ وتفرض عليها الحركة من السماء فرضاً بدلا من أن تخلق هي الحركة؛ لذلك كانت كلها بسيطة متجانسة تجانس حبات القمح، حتى عندما تبدو مختلفة بعض الشيء. وذلك لأن أفعالها وتصميمها غير ذاتية. ومرجع هذا كله، مرجع انعدام الصراع وعدم التميز والحياة الحقيقية في شخصيات سليمان الحكيم إنما هو إلى دعوى المؤلف أن الحب وسائر أمور القلب، بل كل وازع خلقي وكل ما يستطاع الحكم به على سلوك الفرد والجماعة إنما هو اثر لقدر صارم يضرب ضربته حيث يريد هو، لا حيث نريد نحن. وتلك عقبة كبرى تحول بين القصة وبين المسرح، لأن المسرح كما قلنا يشترط الحياة والحركة، الحركة الداخلية والحركة الخارجية، والارتباط بين هذه وتلك. ولكنا إذا أخذنا أبطال الحكيم واحداً واحداً، وقذفنا بهم خارج الرواية لنحل محلهم أفراداً غيرهم أياً كانوا، لبلغت الرواية نفس النتيجة التي بلغتها ولما تغير شيء في الوجود، مادامت القوة الخفية هي القوة الخفية والإطار المادي الذي يحيط بهم هو هو لم يتغير. فهي أشخاص تشبه العرائس الخشبية قد تصدر عنها حركات بهلوانية عجيبة، ولكن الفضل فيها يرجع إلى اليد الخفية التي تحركها من وراء الستار. وإلا فهل يمكن لإنسان، ولو كان المؤلف نفسه، أن يستخرج لنا من قصة سليمان الحكيم صورة لسليمان نتبين فيها أنموذجا بشرياً خاصاً؛ أو حتى صورة إنسانية شائعة؟ وأرجو من القارئ الكريم ألا يخلط بين ما قد يكون في ذهنه من صورة لسليمان الذي عرفه في النصوص القديمة وصورة سليمان الذي

ص: 27

نفتش عنه عبثاً في القصة.

فلسنا نعرف شيئاً عن باطن سليمان، ولا عن مذهبه في الحياة إن كان له فيها مذهب، ولا عن وازعه الخلقي، ولا عن صلة كل هذا بما يظهر من أعماله في الحياة الخارجية وبحظه فيها من سعادة وشقاء له ولمن يحيط به. بل كل ما نعرفه عنه أنه أوتي الحكمة والثراء، وأنه أحب بلقيس قضاء وقدراً، وأن بلقيس لم تحبه قضاء وقدراً أيضاً، فسعى له العفريت لاستمالة قلبها إليه بالوسائل التي نعرفها في القصة؛ فلما لم يفلح علم أن كل شيء بقضاء وقدر. ويمكننا أن نقول نفس الشيء بالنسبة لبلقيس ومنذر وغيرها، فبلقيس أحبت منذراً دون أن يحبها، فسعت لاستمالة قلبه إليها على غير جدوى، وبقدرة قادر استبان لها أن كل ذلك كان بقضاء وقدر. وأحب الصياد الجارية التي اشتراها بماله ولم تحبه، فسرحها من فوره، ولم يحاول أن يستميلها إليه كما فعل سليمان، وعرف من البداية أن كل ذلك بقضاء وقدر. عرف ذلك لأنه لم يعط ما أعطى لسليمان من القدرة التي تحجب المعرفة عن الإنسان وتجنح به دائماً - على ما يفهم من الفلسفة الأستاذ الحكيم - إلى أن يسيء استعمالها فيحاول المحال. يقول على لسان سليمان:(هي القوة يا بلقيس تغمض بصائرنا أحياناً عن رؤية عجزنا الآدمي، وتنينا ما منحنا من حكمة، وتزين لنا المضي في كفاح لا أمل فيه. . . فنسير بغرورنا تحت نظرات الرب الساخرة. . . آه يا بلقيس ليس يخشى شيء على الحكمة غير القدرة. . . الآن أدرك لماذا أعطاني ربي وهو السلطان والغنى والقدرة إلى جانب ما سألت وهو التمييز والحكمة). فليس يتميز الإنسان إذن إلا بما يحوطه من مظاهر الحياة الخارجية.

وكان الطبيعي أن تؤدي تفاهة الشخصيات وسطحيتها إلى خلوها من الصراع الداخلي (من أي نوع كان) خلواً يكاد يكون تاماً. أما الصراع الخارجي، صراع الإنسان ضد القوة الخفية التي أراد الكاتب الكريم أن يجعلها أساساً لمسرحيته، فلا يكاد يحسه القارئ في شيء؛ لأن الإنسان فيها إذا صارع هذه القوة، لم يفعله إلا بوحي من هذه القوة نفسها، وكان صراعه معها أقرب إلى العبث منه إلى الجد، لأنه صراع مدبر مصطنع، صراع الملهاة لا صراع المأساة، صادر من شخصيات سلبية، إذا صح لنا أن نستعمل هذا التعبير. وإذا خلت التراجيدية من الصراع، فقد فقدت كيانها كما يذهب الأستاذ الحكيم نفسه في رأيه الذي

ص: 28

أشرنا إليه في المقال السابق. وكانت نتيجة كل ذلك لصوق الرواية بحروفها، وضحالة حوارها وجموده. نعم نحن لا نخفي إعجابنا الشديد بمهارة الأستاذ النادرة في إدارة الحوار، وقدرته الفذة في جعله يتتابع بعضه من بعض سلساً كالماء، دون أن يبدو فيه أدنى تكلف. ولكنه خلو من الحياة والحركة؛ إذ كان أصحابه شخصيات مجردة منهما. وذلك يجعل إحساسنا بوجود تلك الشخصيات الإنسانية التي مسخت أحجاراً؛ فجاء حوارهم حواراً غير مسرحي، وصار الكتاب من الوجهة الفنية، أشبه بمحاورات أفلاطون مثلا منه برواية تمثيلية. فلولا تدخل الكاتب في كل حين ليلقي بحكمه وأحكامه الحلقية والميتافيزيقية لتعذر على القارئ فهم غرضه من روايته ونظرته للحياة. من مجرد تتبعه لمسلك أبطاله النفسي (إذا سلمنا بأن في الرواية ما يشعر بما يبدو في طوايا نفوسهم) والخارجي. ولعل الفصلين السادس والسابع من الرواية خير شاهد على ما نقول، ففيهما يحاول الأستاذ أن يلخص وجهة نظره، ويحرر دعواه الفلسفية، ويستخلص مغزى قصته، التي كان قد نوى أن تحملها عنه أحداث الرواية إلى القراء والشاهدين؛ يفعل ذلك على نحو ما يفعل مؤلفو الدراسات والرسائل العلمية فيما يسمونه بالخاتمة ولكنه يرسله على شكل حوار على لسان أبطاله. والواقع أن هذا العمل ضروري لإيضاح مقاصد المسرحية ولكنه عمل غير مسرحي.

والآن إذا أردنا أن نجمل في سطور ما فصلناه في مقالاتنا الثلاثة قلنا بأن أساس الفكرة التي بنا عليها الأستاذ توفيق الحكيم قصته غير سديد، ولا سيما أن استخراج هذه الفكرة من وقائع المسرحية أمر عسير، بل قد توحي هذه الوقائع نفسها على ما فيها من بعد عن واقع الحياة الحقيقي - بعكس الفكرة المدعاة، وفي تلك الحياة يبدو التناقض من وقائع الرواية وبين الحكم والأحكام التي ينطق بها المؤلف أبطاله. ولما كانت فكرة الرواية غير جديرة بإثارة الجمهور أو تحريك عواطفه، كان حظ الرواية من النجاح في التمثيل ضئيلا. وإذا أضفنا إلى ذلك تفاهة شخصياتها وحرمانهم من الحركة الذاتية، نقول كل هذه الأشياء مجتمعة تبعد عن الرواية صفة المسرحية الحقة بعداً شاسعاً. كما أن اطمئنان الأشخاص النفسي، إلا فيما يضيف المؤلف في حكمه على لسانها من قلق لا يظهر أثرها في مسلكها في الحياة، مما جعل الرواية خالية من كل صراع.

وبعد فتلك دراسة إجمالية للرواية لا ندعي لها الشمول؛ فقد تركنا التفاصيل جانباً، ولم نهتم

ص: 29

بتحليل حوارها، وبيان مقدار ما فيها من ملائمة بين أصلها ومعانيها. وإذا كنا قد سجلنا عليها بعض المآخذ، فإننا نعترف لمؤلفها الكاتب الكبير بأصالة فنه، وصدق فهمه للأدب فهماً يختلف عما هو شائع لدى كثير من كتابنا - ولا سيما في باب القصة - من أن الأدب فن مهارة وحذق يهدف إلى توليد المعاني المبتكرة البراقة المعجبة وخلق المفاجآت العجيبة المسلية دون أن يكون فيه أثر لنماء الفكر الجدية. وإذا كان ذلك حكمنا على سليمان الحكيم، فإننا نعتقد أن أدب الأستاذ توفيق الحكيم وفنه أوسع وأخطر من أن يمثلها كتاب واحد من كتبه. لذلك نرجو أن تتاح لنا فرصة قريبة ندرسه فيها دراسة تليق بمكانه في نفوسنا ومقامه في نهضتنا الأدبية. ونرجو أن تحتل هذه الدراسة مكانها في كتابنا عن المسرح في مصر الذي نعمل على إخراجه إن شاء الله.

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس

ص: 30

‌صور من الحياة:

ضعف

للأستاذ كامل محمود حبيب

تباً لك يا من تتشح بالمبادئ الفجة والنظريات السقيمة لتغوى العقول المتداعية والأذهان الضعيفة فتخدعهم عن الوطن وهو روح القلب، وتصرفهم عن الدين وهو روح الحياة، وتشغلهم عن اللغة وهي سر الكرامة. أي شيطان وسوس لك - يا صاحبي - فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذر هم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية. لقد قلت لي يوماً (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة. دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقيلة تشل عقلي وتصعق خواطري وتعبث بأفكاري) آه يا صاحبي، إنك حين تنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة تسجل على نفسك أن في عقلك لوثة وأن في خواطرك خللاً، وأن في أفكارك صدعاً.

لقد درج أحمد وشب في كنف الريف، ونما وترعرع في حضن الغيط، وقوى وأشتد في ظل الدين. ثم دفعه أبوه إلى الكُتاب ليقرأ - أول ما يقرأ - القرآن، ويتعلم - أول شيء - الوضوء والصلاة. وقضى سنوات يغدو إلى الكتاب ويروح إلى الدار أو إلى الحقل ويختلف إلى المسجد، وأبوه رجل ريفي جلف، غليظ الكبد، شديد البخل، سريع الغضب، ضيق العقل، ثائر الأعصاب، تنزعج الدار لرؤيته، وتتفزع لغضبه، وهو - دائما - يتلمس أوهى الأسباب ليزجر زوجه في عنف، ويعاقبها في جفوة ويقسو عليها في إفراط، والزوجة تضطرب بين يديه في صمت وتبكي في تخاذل، والدار في عينيها جحيم تتسعر ما يهدأ أوارها، ولا يسكن لهبها إلا حين يتوارى هذا الوحش الكاسر.

وشب الفتى بين أب جاف وأم متكسرة، يشهد عنت الأب وثورته ويقاسي هوان الأم وذلتها، وهو عاجز اليد واللسان لا يستطيع أن يرد أباه ولا أن يدفع عن أمه، فعاش هملاً في ناحية من الدار يفتقد العطف، وقلب أبيه صلب لا ينبض بشفقة، ولا يخفق برحمة. والبخيل - دائماً - رجل أرضي النزعات ترابي المشاعر طيني الجبلة لا تشرق في نفسه أضواء الرجولة ولا ومضات الإنسانية. وأمه في شغل تجتاحها العواصف من حولها فلا تحس في

ص: 31

قرارتها معاني المرأة ولا روح الأنثى.

وهكذا اضطربت الحياة في ناظري الفتى وتزعزعت أركانها، فنشا ضعيف النفس، واهي الروح سقيم الخلق وضيع الهمة، وبدا منقبض الأسارير مشلول العقل، لا يحس السعادة في طفولته ولا يجد اللذة في صباه ولا يستشعر المتعة في شبابه، يأنس بالوحدة ويطمئن إلى الخلوة، وتعقدت نفسه فأنحط عن أترابه، وسفل عن زملائه. ولزمته هذه الخصال فعاش عمره مضعضع الجانب مفلول العزيمة مستلب الحرية.

وحين أنتظم في سلك المدرسة وجد في الكتاب سلوه وعزاء فدفن نفسه بين دفتيه لا يبغي عنه حولا، فصدأ عقله من طول ما أنكب على الدرس، ونحل جسمه من طول ما أرهق ذهنه، وذوى شبابه من طول ما ذاق من حبس ومن حرمان. وإن الطالب في المدرسة ليقع بين عدوين: المدرس والمنهج. فالمدرس في المدرسة يسيطر عليه الفتور والملل فهو يشرح في خمول ويعامل تلامذته في قسوة، لا يندفع إلى العمل في نشاط، ولا يهب إلى الدرس في رغبة، وإن نفسه لتتوثب سخطاً وكراهية حين يحس عنت العمل وضياع الحق، وإن حيويته لتخبوا رويداً رويداً حين يخيل إليه أنه قد تخلف عن الركب، فهو - في رأي نفسه - يبذل غاية الجهد ولا يجد الجزاء، ويستفرغ منتهى الطاقة ولا يلمس الوفاء. أما المنهج فهو أخلاط من العلم ينوء بها العقل المتألق، وأشتات من النظريات يتيه في أضعافها الذهن المشرق، وألوان من الدرس يضل في ثناياها الفكر المتوثب. فما بال أحمد؟ لطالما كان يتعثر في علومه، ولكنه سكن إلى الدرس لا يريم، فهو يخشى وطأة أبيه وإن يده لغليظة، ويكره داره في القرية، وإن جنباتها لموحشة، ولا يطمئن إلى أمه وإن فيها التكسر والخذلان.

وتخرج أحمد - بعد لأي - في مدرسة المعلمين العليا قسم الآداب ولكن أعجزه أن يكون مدرساً ناجحاً بالمدارس الثانوية فأنطلق يتلمس مخرجاً. ووجد الخلاص على يد رجل من رجال الدولة ذي مكانة وشأن، فراح يتملقه ويستخذي له ويستجدي عطفه، فقربه الرجل إلى نفسه وأدناه من مجلسه، ونقله من المدرسة إلى الديوان ليكون صنيعة له هو، وليكون مرءوساً، وليكون آلة صماء يديرها على أي نسق شاء.

وجلس الفتى إلى مكتبه في الديوان وإن قلبه ليتوثب أن رأى نفسه ساقة بين زملائه، منبتاً

ص: 32

عن رفاقه، لا يكاد يبلغ شأوهم، ولا يستطيع أن يرقي إليهم، فاستولى عليه اليأس وتملكته الحيرة.

أما الرجل، فهو موظف كبير في الحكومة، وسمته الوظيفة بميسمها ولّفته في خصالها. والوظيفة الحكومية تسم الموظف الكبير بالغطرسة والكبرياء وتصبغه بالعظمة والتسامي، فهو - يركن دائما - إلى من يتملق ويتمسح به، وينفر - أبداً - ممن يحس فيه الإباء والكرامة والشرف. وتسم الموظف الصغير بالضعة والذلة. واطمأن الفتى إلى رئيسه الكبير حين وجد فيه العون والساعد، واطمأن الرئيس إلى الفتى حين لمس فيه الطاعة والاستكانة. وعاش أحمد تبعاً لرئيسه يتصاغر أمامه إن أغلظ له القول، ويتضاءل له إن أرهقه بالعمل، لا يستشعر في ذلك الاحتقار ولا المهانة، وهو يرى أن الأمر قد تهيأ له واستقام، وأن المستقبل - في رأي عينه - قد تفتح له وازدهر على يدي هذا الرئيس. . .

وكان الرئيس يتصنع الأدب ولم توافرت له أداته، ويتكلف العلم وما تكاملت له أسبابه، فاتخذ من الشباب المثقف صنائع ضمهم تحت جناحيه وحباهم بعطف موهوم، بذل لهم الوعد الخلاب، ومد لهم في الأماني البراقة، ثم راح يستنزف شبابهم الغض ويستغل عقولهم الناضجة، فامتلأت داره بمن يقدم له الأبحاث العلمية، ومن يترجم له أمهات الكتب الغربية، ومن ينشئوا له المقالات القيمة لقاء كلمة معسولة، أو ابتسامة عابرة، أو دريهمات لا تقيم أود. . .

ووجد الرئيس في أحمد فتى سلس القياد، سهل الخضوع، لين العريكة، لا يمل العمل وأن أضناه، ولا يضيق بالجهد وأن أسقمه، ولا يقصر في أمر وإن أعضل عليه، فأصطفاه لنفسه وعهد إليه - فيما عهد - أن يترجم فصولا من كتاب الفلسفة

ودخلت - ذات مرة - إلى مكتبه في الوزارة فألفيته جالساً إلى هذا الكتاب يترجم فصوله إلى اللغة العربية، وبين يديه قاموس كبير، ومن حوله رفاقه في المكتب وقد انغمروا في نقاش عنيف صاخب، فامتلأت أرجاء الحجرة بالضجة واللغط والضوضاء والفتى منصرف عن الحديث إلى الترجمة لا يعبأ بما حوله. . . وعجبت أن يؤدي الفتى هذا العمل الفني الدقيق في هذه الضجة الصاخبة، وهو يتطلب المكان الساكن والأعصاب الهادئة والفكر المتفرغ!

ص: 33

وَيْ. . . كأن هذا الفتى يعمل عملا آلياً لا روح فيه ولا معنى! لا عجب إن أخرج للناس صفحات مهلهلة متداعية تتكدس في جوانبها الأخطاء اللغوية والأغلاط الفنية. . . ولكن الفتى كان حريصاً على أن يرضي رئيسه وأن يقدم له أكبر إنتاج في أقصر وقت. . .

وحين لمس الرئيس في الفتى الجد والإخلاص والجلد عزم على أن يجزيه أجر ما فعل. وفي ذات يوم أخذ يحدثه قائلا: (كيف تقضي وقت فراغك يا أحمد؟) قال: (في البيت يا سيدي). فقال الرئيس: (أفلا تريد أن تشغل فراغك بعمل يدر عليك مالاً؟) قال الفتى: (وكيف السبيل يا سيدي؟) قال: (لقد وجدت لك عملاً يرضيك، أقدمه لك جزاء إخلاصك واجتهادك) قال الفتى في سرور ونشوة: (وما هو يا سيدي؟) قال: (أن تقوم بالتدريس مساءً في معهد (كذا) الأجنبي). . . واندفع الفتى إلى رئيسه يلثم راحته شكراً له على فضله وتقديره!

ودخل الفتى المعهد ليبيع كرامته وشرفه ورجولته بثمن بخس دراهم معدودات. . . واطمأن عميد المعهد إلى استخذائه وضعفه، فشمله بعطفه وحباه بصداقته. . . ثم. . . ثم قرر - بعد حين - أن يوفده في بعثة إلى الخارج ليتم دراسته على نفقة المعهد ليكون صنيعة له وعوناً وساعداً.

ولبس الفتى القبعة. . لبس القبعة لينزل عن كرامته ولينبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة. . .

كامل محمود حبيب

ص: 34

‌القبائل والقراءات

للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

- 8 -

تقدم ما شاركت قبيلة أسد فيه غيرها عند الكلام على تميم وهذيل، وهذا ما نسب إليها بخصوصها، أو مع غيرها مما لم يسبق الكلام عليه، وقد مرت الترجمة لها وتبيان أماكنها.

1 -

الفعل الماضي الثلاثي المعتل الوسط، وهو المسمى الأجوف مثل: قال، وباع إذا بني للمجهول، فأكثر القبائل تكسر الحرف الأول وتقلب حرف العلة ياء يقولون: بيع وقيل بإخلاص الكسر في أول اللفظ، وهذه اللغة هي المشورة بين قبائل العرب، لكن بني فقمس وبني دبير من أسد، وبعض قبيلة هذيل يضمون الحرف الأول ويقلبون الألف واواً يقولون: بوع وقول بإخلاص الضم في أول اللفظ، وقد روي عليه قول الشاعر:

ليت وهل ينفع شيئاً ليت

ليت شباباً (بوع) فاشتريت

وقول الآخر:

(حوكت) على نيرين إذ تحاك

تختبط الشوك ولا تشاك

ولم يقرأ أحد على هذه اللغة مما ورد مبنيًا للمجهول في القرآن الكريم.

وهناك وجه ثالث في طريقة هذا النوع للمجهول وهي لهجة لبعض أسد وبطول من قيس منها عقيل ذلك بأن يجعلوا حركة الحرف الأول بين الضمة والكسرة، وبهذه اللهجة قرأ الكساني وهشام: قيل وغيض وحيل وسيء، وجيء وسيق وافقهما نافع وابن ذكوان في سيء، وسيئت وزاد ابن ذكوان في موافقته: حيل وسيق. وهذه اللهجة تسمى في اصطلاح القراء والنحاة: الإشمام. وهناك إشمام آخر ليس هذا موضع بحثه.

2 -

ما كان صفة على وزن فعلان بفتح الفاء، فالقبائل العربية تجعل مؤنثة إذا كان له مؤنث على فعلى ما عدا صفات قليلة، عددها الأشموني، تبلغ أربع عشر صفة منها خمصان بمعنى الضامرالبطن، وقشوان بمعنى الرقيق الساقين، وسيفان للرجل الطويل.

ولهذا فإن ما كان مؤنثه فعلى يمنع من الصرف - أي التنوين - ويرفع بالضمة، وينصب ويجر بالفتحة بشرط عدم إضافته، وعدم تعريفه بأل، لكن قبيلة أسد تجعل المؤنث دائماً على وزن فعلانة، فيقولون مثلاً في مؤنث غضبان: غضبانة، وغيرهم يقول غضبى.

ص: 35

وغلى لغة أسد تصرف جميع الصفات المذكرة وتجر بالكسرة.

وهنا نتساءل عن هذه الصفات الأربع عشر التي استثناها النجاة وقالوا إن مؤنثها فعلانة، أكانت في أول أمرها تستعمل بلفظها، ومعناها عند قبيلة أسد؟ أو غلب استعمال أسد لها؟ وعنها أخذتها القبائل العربية بمؤنثها؟ واستعملت مذكرها مصروفاً كاستعمال أسد لها؟ أم أن النجاة واللغويين وجدوا في الآثار الأدبية مؤنثها فعلانة - وما ذلك إلا من استعمال أسد - فحكموا بصرفها ومنعوا غيرها من الصرف؟ مع أنه قد يكون هناك مثلها؟ وإذا كانت هذه الصفات مستعملة من أول الأمر عند القبائل العربية الأخرى، فلم كانت وحدها هي التي تؤنث على فعلانة؟

في رأيي أن هذا كان من الآثار الأدبية التي استقرأها النجاة واللغويون فاقتصروا على استثنائها وكان حقهم ألا يخضعوا لهذا الاستثناء. كما أرى أنه يجوز لنا أن نمنعها من الصرف حتى تسير على النمط الغالب في القبائل الأخرى بأن تعرب إعراب ما لا ينصرف كما يجوز لنا أن نؤنثها على فعلى تبعاً للقاعدة العامة عند القبائل حتى مع عدم النص على ذلك في معاجم اللغة! ولا معنى لاستثناء بدون معنى، ويجوز لنا أن نصرف جميع الصفات المذكرة التي على هذا الوزن إذا سلكنا طريقة أسد. على أن بعض هذه الصفات التي استثنوها، سمح له تأنيث على فعلى بجانب تأنيثه على فعلانة. حكي ابن الأعرابي امرأة خمصى؛ وأنشد للأصم الدبيري:

لكن فتاة طفلة خمصى الحشى

غريرة تنام نومات الضحى

ونلحظ هنا أن الأصم الدبيري من دبير وهي بطن من أسد فإما أنه خالف لغته وجرى على نهج القبائل الأخرى في تأنيث فعلانة، وإما أن هذا البطن الذي ينتمي إليه، يخالف بقية بطون أسد في تأنيثه.

وسمع أيضاً: كبش أليان ونعجة أليانة وأليا. وجاء ضحيانة وضحيا.

ونجد صفات لم يستثنوها ومؤنثها فعلانة، فقد ورد شفة ذبانة أي ذابلة، ونظر القاموس لها بقوله كريانة. وقال شارحة إنها من الصفات التي جاءت إلى فعلانة في حين أن القاموس وشارحه لم يذكروا لفظة ريانة في مادتها. وقالت أعرابية: أجد عيني هجانة لم يذكروها في المستثنيات ولم ذكروها أيضاً في مادتها، وإنما جاءت غرضاً في مادة أخرى.

ص: 36

وقد جرت القراءات القرآنية على اللهجات الغالبة في استعمال ما كان له مؤنث على فعلى ممنوعاً من الصرف حيث لم يقرأ أحد بالتنوين (غضبان أسفاً. . .)(حيران له أصحاب) بل اتفقوا على منع الصرف. ولم تجيء أي لفظة من المستثنيات في القرآن حتى نحكم عليها.

3 -

بنو مالك من أسد يضمون (ها) التنبيه التي تأتي بعد (أي) فيقولون في يا أيها الرجل، ويا أيها الناس: أيه ' الرجل، ويا أيه الناس إلا إذا تلاها اسم إشارة، فحينئذ يوافقون بقية القبائل في فتحها وذلك مثل أيهذا. وقد قرأ ابن عامر أيه الثقلان وأيه المؤمنون بالضم في حالة الوصل على لغة بني مالك. ونسب شارح القاموس هذا إلى بني أسد عموماً.

4 -

إذا كان الاستثناء مفرغاً بمعنى أن المستثنى منه ليس مذكوراً في الكلام فإن ما بعد إلا يكون حسب ما يقتضيه العامل تقول ما جاءني إلا محمدٌ. ومعلوم أن لفظة (غير) تقوم في بعض استعمالها مقام (إلا) على أن تكون حركة المستثنى التي يستحقها ظاهرة على (غير) نفسها وهي مضافة إلى ما بعدها تقول ما جاءني غير محمد برفع غير، وإضافتها إلى ما بعدها. . . الخ المعروف في علم النحو لكن بعض بني أسد ويشاركهم بعض قضاعة يفتحون (غير) في الاستثناء مطلقا سواء تم الكلام قبلها أم لم يتم يقولون (ما جاءني غيرك)(وما جاءني أحد غيرَك) بفتح الراء فيهما وتكون لفظة (غير) على لغتهم هذه مبنية على الفتح عند استعمالها في الاستثناء.

5 -

فقيس ودبير من أسد يخفضون (حيث) في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب يقولون كان ذلك التقينا. ومن حيث لا يعلمون (ولم يقرأ أحد عن لهجتهم في حالة الجر أما حالة النصب فقد وافقوا بعض بني تميم. وسبق من قرأ بها كما سبق أن اللغة المشهورة هي بناء حيث على الضم دائماً.

6 -

بنو أسد يلقون حركة الهمزة إلى ما قبلها إذا كان ساكناً وذلك في حالة الوقف فيقولون هذا البُطُؤ وكرهت البُطَأ وهو يسير ببطيء. وسبق أن بعض تميم يفعلون ذلك.

7 -

تقدم أن فعل الأمر المضعف يفك إدغامه عند الحجازيين ويظل على إدغامه عند النجديين إلا أن النجديين يختلفون في حركته الأخيرة فكعب وغنى وقيس تحركه بالكسرة مطلقاً وأغلب النجديين يحركون بالفتح سواء كان ساكن أم متحرك أما أسد فتحركه بالفتح

ص: 37

ما لم يكن بعده ساكن فإنها تكسره فمثل قولك. ردَّ الجواب يقولون ردَّ الجواب وتقدم لنا أن بعض تميم يحركون الآخر بحرَكة فاء الكلمة في الأمر فتحاً وضماً وكسراً.

8 -

الفعل الذي ينتهي بواو الجماعة أو ياء المؤنثة يقف عليه بنو أسد وبعض قيس في قوافي الشعر بحذف الضمير يقولون عند الوقف على صنعوا وتكلمي: صنع وتكلم وليس لوقفهم هذا أثر في القراءات.

9 -

تقول أسد في جبريل بالام (جبرين) بالنون بكسر الجيم أو فتحها ولم يقرأ أحد بلغتهم. كذلك يؤنثون الهُدى والسُرى بمعنى أنهم يعيدون إليها الضمير مؤنثاً. . . الخ والقرآن الكريم استعمل الهدى على اللغة المشهورة بالتذكير. (قل إن هدى الله هو العدى. وذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) ولم تقع لفظة السرى في القرآن الكريم.

10 -

هُوَ وهَي الضميران يسكنون آخرهما في الموصل والوقف ولا يفتحون الواو ولا الياء وقد روي:

وكنا إذا ما كان يوم كريهة

فقد علموا أني وهُو فتيان

11 -

العضد بفتح فضم ينطقونه بفتح فكسر وذكر البحد أن بعضهم قرأ سنشهد عضدك بأخيك بفتح فكسر أي على لغتهم ولم يسم القارئين.

12 -

يقولون قنط يقنط كضرب يضرب وغيرهم يقول كعلم يعلم وقرأ الجمهور قنطوا بالفتح على لغتهم وقرأ الأعمش وابن وثاب بالكسر على لغة غيرهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش ومن يقنط على لغتهم بالكسر والباقون بالفتح على لغة غيرهم.

13 -

المسكين ينطقونه بفتح الميم. ويكسره غيرهم ولم يقرأ أحد بلغة أسد.

14 -

من ألفاظهم: إن السعر لمخادع: أرتفع وعلا. كلمت فلاناً فما رأيت له ركيزة: أي ليس بثبات العقل. ما أعوج بكلامه: أي ما التفت إليه كرثأ الشعر وغيره: كثر والتفت وتراكم. الأصلج: الأصم.

15 -

حكي الأخفش أن بني أسد يقولون فإنهم، وإما بكسر الفاء والواو بمعنى أن الكسرة أثرت فيما قبلها وتغلبت عليها.

قبيلة كنانة:

وهذا ما ينسب إلى كنانة التي سبق أن ترجمت لها وبينت مساكنها.

ص: 38

1 -

المشهور في المثنى أن يرفع بالألف وينصب ويجر بالياء ولكن بني الحرث بن كعب وزبيد ومراد وهم من مذحج من كهلان وخثعم وهمدان من كهلان وعذرة من قضاعة وبطون من ربيعة وبكر بن وائل من ربيعة وبني العنبر وبني الهجيم من تميم كل هؤلاء مع كنانة يلزمون المثنى الألف في جميع أحواله رفعاً ونصباً وجراً، وقد جاء على لغة هؤلاء في القراءات المشهورة إن هذان لهاجران، وقرأ أبو سعيد الخدري والجدري فكان أبواه مؤمنان وحمل على هذه اللغة حديث (لا وتران في ليلة) وقد أقتصر كتاب الصاحبي وكتاب النوادر وكتاب المغنى على نسبة إلزام المثنى الألف مطلقاً إلى لغة بني الحارث بن كعب، وذكر غيرها كنانة وأضاف بعض الكتب قوله: وأهل تلك (الناحية) وأغلب هذه القبائل متجاورة وكنانة التي تشترك في هذا الإجراء هم بنو بكر بن عبد مناة لأنهم هم المجاورون لبني الحارث بن كعب.

ويلحق بما سبق أن كلاً وكلتا في اللغة المشهورة ترفعان وتنصبان وتجران بالياء إذا أضيفتا إلى الضمير وتعربان إعراب المقصور بأن تلزما الألف في جميع الأحوال إذا أضيفتا إلى الاسم الظاهر لكن لغة كنانة - ولا بد أن من شاركوها في المثنى مثلها - تلزمهما الألف دائماً.

والقرآن الكريم جاءت به كلتا في حالة رفع بالألف (كلتا الجنتين) وليس فيه كلتا في حالة نصب أو جُر لتبين استعماله وكذلك (كلا) في القرآن جاءت في حالة رفع (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما).

2 -

الأسماء الخمسة أو الستة ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء، لكن كنانة وخثعم وبني الحارث بن كعب - ولابد أن من سبق ذكرهم مثلهم - يلزمونها الألف في الرفع والنصب والجر وقد روي:

إن أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وفي البيت شاهد على إلزامهم المثنى الألف.

وقد صرح أبو زيد في كتابه النوادر وأحمد بن فارس في كتابه الصاحبي وغيرهما أن هذه القبائل تقلب الياء ألفاً إذا جاءت ساكنة بعد فتحه ولو كان ذلك في الحرف وقد روي:

(طاروا علاهن فطر علاه)

ص: 39

وأصله عليهن وعليها وروي:

فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى

مساغاً لناباه الشجاع لصمها

ورويت أبيات كثيرة على لغتهم.

3 -

تقول كنانة في (نعم) حرف الجواب نعم بكسر العين وقد قرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي بكسرها على لغتهم.

4 -

أكثر العرب تقول سيناء بالفتح والمد أما كنانة فتقول سيناء بكسر السين والمد أيضاً. وقد0 قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والحسن (طور سيناء) بكسر السين على لغة كنانة. وقرأ الباقون بالفتح.

5 -

تقول كنانة لقيته على غشاش بكسر الغين وفتحها ولقيته غشاشاً بالفتح والكسر بمعنى لقيته على عجلة.

6 -

تقدم أن هذيلاً تقول يازع فيوزاع ولم ينصوا على أنها تبدل الواو ياء أما بنو ضمرة من كنانة فقد نص بعض اللغويين إلى أنها تقلب الواو ياء يقولون يازع في وازع وقد روي لخصيب الضمري:

لما رأيت بني عمرو ويازعهم

أيقنت أني لهم في هذه قود

لكن هذا النص أرى أنه توسع كثير فهل يقولون في والد ووارث وواهب وواحد. . الخ يالد وياهب. . . أو أن نصه استنتاج من لفظة بازع التي نطقها شاعر منهم؟ أو أن لها نظائر وأمثال أخرى لم يذكروها؟ على أننا لا ينبغي أن نقيس على هذا الإبدال فيه على السماع.

عبد الستار أحمد فراج

المحرر بالمجمع اللغوي

ص: 40

‌ربيع. . . وربيع!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

قال لي صاحبي غداة رآني

باكياً، فوق الروابي

كيف تبكي وفي الوجود ربيع

شارف الكون من وراء السحاب؟!

وسرى فيه بهجة ونماء

وشباباً يضم روح الشباب

هو في الزهر رقة وعبير

وخرير في الجدول المنساب

وهو في الأفق بسمة وصفاء

وانطلاق من أسر كل حجاب

وهو في القلب كل عذراء حُلمٌ

بحياة في جنة الأحباب

أَنت يا صاح بلبل فترنم

في الروابي أو في رحاب الفضاءِ

واقطف الزهر، وانسم العطر، واسكر

من رحيق الندى، وخمر الضياءِ

زهرة في الربيع - لو كنت تدري -

هي خير من عالم في الشتاء

قطرة الماء في الربيع تراها

بهجةَ النفس، وهي قطرة ماء!

لمعة النور في الربيع لها في النفس رَجعٌ كأعذب الأصداء!

ساحر ذلك الربيع المفدَّى

مبدع للحياة والأحياء!

أنت في ريقَّ الشباب، فلا تب

ك، فإن الشباب روح الحياةِ

وإذا لم يكن من الدمع بُدُّ

فتنظّر عهد المنى الضائعات

حين يأتي المشيب وهو خريف

تدرك النفس فيه سر الممات

سوف تبِكي عند المشيب كما تج

هش نفس عميقة الحسرات

أو كروح قد أخطأت عالم النو

ر، فهامت في عالم الظلمات

لذة العمر في الشباب، فبادر

لذة العمر قبل يوم الفوات!

ليت شعري: ما سر هذا البكاء

والمعاني نشوى بخمر الغناءِ؟

فالربيع الجميل لحن جميل

عرفته ملائك في السماء

والصباح الوضيء لحن مضيء

تتراءى ظلالهُ في السماء!

كل ما في الحياء يعزف لحناً

من بهاء ورقة وصفاء

كل ما في الحياة ينشر في النف

س أريج المنى، وعطر الرجاء

ص: 41

أنت تبكي، وكل شيء يغني!

ليت شعري: ما سر هذا البكاء؟

قلت: يا صاحبي بكيت لأني

لم أجد الحياة أسباب أُنسي!

الربيع الذي تراه، بعيد

عن شعوري وعن ضميري وحسي

والربيع الذي أريد، بعيد

عن حياتي كأنه حلم أمسي

أنت لا تنظر الوجود بعيني

لا. . . ولا تدرك الحياة بنفسي

رب شمس تشع في الكون نوراً

حجبتها عني سحائب يأسي!

وربيعٍ يسقي الرحيق المصَّفى

ما سقاني إلا مرارة كأسي

لا تحدث عن الربيع، فإني

قد عرفت الربيع روحاً ومعنى

أنت لا تعرف الربيع إذا كنت

تراه زهراً ونهراً وغصناً

ليس روح الربيع ما تجد النف

سُ، ولكنه الذي تتمنى

هو عند العشاق ليلة حب

طار فيها طير الهوى وتغنى

ويراه المفزَّعون الحياري

في صحاري الحياة، هدناً وأمناً

خير ما في الحياة أن تتمنى

فمُرِ القلب دائماً أَن يخبَّا

إن تمنيتَ أََن تعيش وحيداً

في الصحاري، أو في أََعالي الجبال

فهناك الربيع. . . تبصره النف

س إذا حلقت وراء الأعالي

وهناك الربيع. . . في هدأَة اللي

ل، وهمس الربا، وصمت الرمال

وانطلاق الحياة من عالم الحس،

إلى عالم الرؤى والخيال

واهتزاز الوجدان إذ يتلقى

من جمال الحياة سرَّ الجمال

خالد ذلك الربيع المرجىَّ

وربيع الأنام مِلك الزوال

وإذا شئت أن تعيش مع النا

س، وتلقى الربيع زهراً وعطراً

فاقطف الزهر، وانسم العطر منه

واملأ الكأس من ندى الفجر خمراً

غير أنَّ الزهر الجميل سيفنى

ثم يغدو في باطن الأرض سراً!

وتجف الأوراق في كل غصن

فترى الغصن ذاهلاً مصفراً!

هذه سُنَّةُ الحياة، فلا تح

زن إذا أَقبل الربيع ومرَّا

كل ما ليس باللباب سيمضى

ثم يأتي، وهكذا مستمراً

ص: 42

لا تلمني إذا أََضعت ربيعي

فربيعي مكفن بالدموع!

ما غناء الربيع إن لم يُثر قل

بي وروحي، ولم يهز ضلوعي؟

ما غناء الربيع ما دام لم يب

عث ولهفتي ونزوعي؟

كان عندي من الربيع مثال

فأباد الردى مثال الربيع!

فطويت الأعراس. . . أعراس أيا

مي، وأطفأ بالدموع شموعي!

إن يكن حل في الربوع ربيع

فربيعي هناك تحت الربوع!

يا ربيع الحياة إني غريب

عنك، فاذهب إلى سواي ودعني

يا ربيع الحياة إن حياتي

لربيع أضلاعه الموت مني!

كان روحاً مرفرفاً في ضميري

وشعوري، وكان قلباً يغني

كان وحيداَ لكل فن جميل

ومثالاً لكل روعة حسن

كم سقاني الأفراح في كأس أيا

مي، وأصغى إلى غنائي ولحني

ثم جفَّت أفراح كأسيَ لما

غاب عني، فصرت أشرب حزني!

لا تحدث عن الشباب، فإني

فقدت الشباب قبل المشيب!

أين مني الشباب، والقلب يحيا

بين جنبيَّ كالأسير الغريب!

كان قلبي - إذ كنت أحيا بقلبي -

يتغنى مثل الهزار الطرُوب

كان يبني بالوهم عشاً، ويمضي

بالأماني في كل أفق رحيب!

ماله الآن لا يعيش على الوه

م، كما عاش منذ وقت قريب!

أين أشواقه، وخفقُ جناحي

هـ، وراء الأفق البعيد الرهيب!

ليت شعري كيف استحال رماداً

بعد أن كان جذوة من لهيب!

هذه آية المشيب، وإن كن

تُ أراني في عمر غصن رطب!

كيف لا أذرف الدموع وقد حا

ن مغيبي من قبل وقت المغيب!

الوداع الوداع أيامَ عمري

وسلام على الشباب الحبيب

(الإسكندرية)

إبراهيم محمد نجا

ص: 43

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

طالبات الفلسفة بكلية الآداب وحقوق المرأة المصرية:

قرأت في (الرسالة) الغراء كلمتكم التي تدور حول (حقوق المرأة المصرية بين الأنصار والخصوم). . . لقد كانت كلمة قاسية، ولكن ماذا يضير؟ لقد علمتنا القسوة التي يرمينا بها الدهر من حين إلى حين رحابة الصدر، وهذه ميزة أخرى تفيدنا في حياتنا السياسية التي هي حياة كفاح ونضال وصبر على المكاره!

تقولون عن كلمة الأستاذ زكي عبد القادر إنها موزونة، ولست أدري ماذا يضيركم معشر الرجال أن تروا المرأة وقد أعجبت بمدح أو إطراء! أتريدون أن تخرج عن طبيعتها الوداعة ولو في أشد الشئون قسوة ومشقة؟ إن هذا لما يسري عنها ويجعلها تطمئن إلأى مستقبلها بخطى وئيدة وهو إنها بالرغم من اشتغالها بهذه الأعمال المضنية إلا أنها ما زالت محتفظة بأنوثتها الفياضة. . . إن هذا من جانبكم لا يعد حسداً بل غبطة!

ثم ذلك السؤال الذي لا تنتظرون الجواب عنه، وهو أن عدد المثقفات قليل. . مهلاً مهلاً يا سيدي الأستاذ! كم كان عدد الرجال المثقفين يوم سن القانون الانتخاب عام 1924؟! لقد كنا نود أن يوجه إلينا السؤال بعد مضي ربع قرن آخر من تعديل قانون الانتخاب تعديلاً يلائمنا نحن معشر النساء. . . إنني لواثقة من أنه لو كان هذا العدد الموجود الآن من المثقفات وهو لا يرضيكم لقلته، أقول لو كان موجوداً يوم أن سن قانون الانتخاب لكفل المرأة وحقوقها من ربع قرن مضى! ولكن في تلك الأيام لم يكن إقبال الفتيات على كليات الجامعة كمثل إقبالهن اليوم، مما يبشر بالمضي في تحقيق هذه الغاية وإخراجها إلى حيز التنفيذ. والآن وقد أصبحت الكليات مفتوحة الأبواب للطالبات، تراهن وقد أسند إليهن ما يسند إلى الرجل من أمور يقمن بها على ما يرجى وينتظر، بعد هذا ما الذي يمنع من إعطاء المرأة حقوقها السياسية، بل وأقول كرسي الوزارة؟!

أما قولكم بأن الفتاة المصرية لا تذهب إلى الجامعة طلباً للعلم بل طلباً لزواج فما كنا ننتظر من أستاذنا هذا الكلام. . لنفرض أنه بطريق المصادفة قد لمستم بعض الأمثلة الشاذة يوم أن كنتم في الجامعة، ألا يكون من الظلم أن تخرجوا من هذه الأمثلة بقاعدة عامة تطبقونها

ص: 45

على المئات؟! إن الإنجليز وهم أساتذتنا في العلم والسياسة قد منحوا المرأة حقوقها السياسية متمثلين بقول شريدان: (النساء يحكمننا فلنجهد في جعلهن صالحات). . . ولقد برهنت في سنين قلائل على أنها جديرة بهذا الحق، وجديرة بقول لامارتين:(إن كل عمل مجيد وعظيم أساسه المرأة)!

عن طالبات قسم الفلسفة بكلية الآداب

آنسة رسمية علي خليل

أشكر للآنسة الفاضلة أدب الخطاب ولطف العبارة. . . أنه ليسعدني حقاً أن يكون بين فتيات الجامعة في هذه الأيام من تخاطبني بهذا الذوق الجميل، ومن تناقشني بهذا الخلق الكريم، ومن ترد على بهذا الأسلوب المهذب.

بعد هذا أقول للآنسة الفاضلة إن ما جاء بكلمتي من عبارات غلقت بالقسوة واتشحت بالمرارة، كان مرده ' إلى الواقع الذي تكشف لعيني يوم أن كنت في الجامعة، ممثلاً في جيل الفتيات قد تكون منه اليوم بقية. . ولمن هذه البقية لا يمكن أن تحول دون وجود المثقفات والمهذبات من أمثال الآنسة ومن تحدثت إلي باسمهن من طالبات قسم الفلسفة بكلية الآداب. هذا أمر يفرض على الحق أن أسجله في كثير من الغبطة، ويفرض علي الإنصاف أن أخصه بكثير من الإعجاب. . . وأكتفي بهذا القدر الذي تنوب فيه الإشارة عن الإفاضة ويغني فيه التلميح عن التصريح، حتى لا نثير الغبار من جديد حول قضية طالبات العلم وطالبات الزواج!

تسألني الآنسة الفاضلة في مجال التعرض لعدد المثقفات في مصر كم كان عدد المثقفين يوم أن سن قانون الانتخاب في عام 1924. من قال لك يا آنستي إنني أنظر إلى القلة في عدد المثقفات بمنظار؟ إنني ما نظرت في يوم من الأيام إلى عدد المثقفين في مصر ممن منحوا حقوقاً سياسية إلا بمنظار قائم يمتزج فيه الإشفاق بالرثاء! أقسم لك لو كان الأمر بيدي لما منحت طلاب الحقوق السياسية ما يتطلعون إليه من سلطان إلا بمعيار. . . معيار قوامه الثقافة الكاملة في كل أمر من أمور الحياة، ولا ضير على الإطلاق من أن نظفر بمائة رجل من هذا الطراز لأنهم لو وضعوا في الميزان لكانوا خيراً من ألوف!

ص: 46

المثقفون في مصر قليل يا آنستي والمثقفات أقل. . . ومن الخطأ أن نعمم وضعاً من الأوضاع بما فيه من أسباب النقص والقصور لأنه قد أصبح حقيقة واقعة، كلا! فما كان النقص في صورة من الصور ليبيح لنا أن نتخذه مقياساً في نظرتنا إلى كل قيمة من القيم وكل حق من الحقوق. . إنني أرد بهذه الكلمات على ما سقته من حجج وما أتيت به من براهين، ولو شئتِ لنقلتُ القضية من ميدان إلى ميدان ولا بأس لدي من هذه النقلة التي تتيح للحديث أن يفيض ولأفق النقاش أن يمتد! إننا نستطيع أن ندير دفة الجدل إلى ناحية أخرى لا صلة لها بمسألة القلة العددية في مجال التعليم والتثقيف. . . هناك حيث نلتقي في رحاب قضية أخرى تتصل بوظيفة المرأة الأساسية في الكون ومكانها الطبيعي في الحياة.

تطالب المرأة بحقها في كرسي النيابة وبحقها في كرسي الوزارة، وبالمشاركة في كل أمر من أمور الدولة وكل شأن من شئون الحكم، وكأننا قد فرغنا من كل ما يواجهنا من صعاب في إصلاح المجتمع ولم يبق أمامنا ما يتطلب العلاج الحاسم غير هذه المشكلة بالذات، لا فقر هناك ولا مرض ولا جهل ولا ألف مشكلة تتفرع عن هذه المشكلات الثلاث وتتطلب الكثير من الرعاية والاهتمام! تنسى المرأة المصرية هذا كله وتنسى معه وظيفتها الحيوية وطبيعتها الأنثوية. . تنسى وظيفتها في كيان الأسرة، وطبيعتها في نظام البيت، ومكانها في رحاب الأمومة، ولا تفكر إلا في أن تكون صاحبة جاه وسلطان!

إننا نريد أن نسأل المرأة المصرية عن غايتها من كرسي النيابة وعن هدفها من كرسي الوزارة؟ إن الغاية المبرأة من الهوى وإن الهدف المنزه من الغرض هو أن تضع جهودها وعلمها وثقافتها وخبرتها بشئون الحياة في خدمة المجتمع الذي تعيش فيه. . . كل هذا ميسر وكل هذا جميل، ولكنها تنسى أن البيت سيهمل في سبيل كل أمل مرجو وكل منصب منشود، والبيت الذي تشرف الزوجة الصالحة والأم الفاضلة هو صانع الرجال وخالق الأجيال!. إن المرأة تستطيع أن تحقق رسالتها المثلى وهي في رحاب البيت وفي نطاق الأسرة؛ تستطيع أن تمد الوطن عن طريق الرعاية الكاملة والتربية الناضجة والتوجه الرشيد بالأبناء النابغين. . وعن طريق هؤلاء الأبناء يتهيأ لها أن تضع يديها على عدد من المناصب بدلا من هذا المنصب الواحد الذي تسعى إليه، حين ينوب عنها في خدمة المجتمع أفراد متعددون، وعشرون يداً تشارك في إقامة البناء خير من يدين!!

ص: 47

في هذا المجال يا آنستي نطق شريدان بكلماته وكذلك مرتين، وحول هذا المعنى الذي قصدت إليه دار أغلب ما قيل في المرأة من كلمات جهر بها رجال الإصلاح أما عن عدد النساء في البرلمان البريطاني والكونجرس الأمريكي فإنه لا يتجاوز أصابع اليدين. وهذا مع بعد الفارق بيننا وبينهم في ميدان العلم والسياسة والتقاليد والعادات إذا لم يقنعك اليوم المنطق يا آنستي، فأرجو أن يقنعك منطق الحياة في مقتبل الأيام!

مقال قيم عن الشيوعية للأستاذ العقاد:

يهودي، متعلم فاشل، وفتاة عابثة، وماجن مستهتر، ومشاغب يبيع الشغب لمن يشتريه، ومسخ مشوه منبوذ من الحياة هذا هو قوام كل مجموعة شيوعية توجد في مصر أو في غيرها من فلا تخلو الخلايا الشيوعية من أصناف هذه التشكيلة، وقد يكون الشيوعي الواحد تشكيلة كاملة من جميع هذه الأصناف!

وكل شيء يمكن أن تدعيه هذه المخلوقات فيصدق، إلا أنهم محبون للخير مخلصون لبني الإنسان غيورون على الإنصاف؟ ولم يعجب أحد إذا قيل له إن هذه (اللمامة) البشرية تسعى إلى الخراب، وإنهم يدينون بالشيوعية لأنها ترضي في نفوسهم تلك النزعة إلى التخريب! أما أن يقال، ولو من قبيل الخيال إن هذه اللمامة هي التي تنشد الخير وتصلح نظام الاجتماع فذلك من وراء التصديق، ومن وراء المعقول!

وكلهم معقولون مفهومون إذا كان التخريب هو الغاية التي يسعون إليها، لأن اليهودي يستفيد من هدم المجتمع أن يستولي على العالم الذي لا أثر فيه للأخلاق، أو للعقائد، أو للوطنية، أو للأسرة والمتعلم الفاشل يحقد على الناجحين فلا يبالي أن ينفي غليل الحقد بكل مصيبة تسوي بين الإخفاق والنجاح والفتاة العابثة تهدم المجتمع الذي يسميها على الأقل عابثة، وتتطلع إلى المجتمع الذي يسميها (بطلة) أو رائدة من رواد التقدم والتحرر من قيود الآداب والأخلاق. والماجن المستهتر بطل كتلك البطلة حين يصبح الأدب وضبط النفس نكسة إلى الوراء وجموداً يعاب. والعامي الجاهل تابع لكل ناعق. والمشاغب المتاجر بالشغب صاحب بضاعة يعرضها في كل سوق، ولا سيما السوق التي تضاعف له الثمن وتغنيه عن الكدح الشريف والمسخ المشوه لديه من أسباب التخريب مالا يحتاج إلى بيان!!

طالعت هذه الكلمات منذ أيام في جريدة (الأساس) للأستاذ العقاد. . وأجمل ما فيها هذا

ص: 48

التقسيم الرائع لعناصر الشيوعية في مصر وغير مصر، وهو تقسيم لا يعدو الواقع الذي تراه العين ويتمثله الفكر ويردده اللسان؛ ولا يعدو الحق حين نرده مع الأستاذ العقاد إلى مصادره الأصلية من التحليل والتعليل ونقيمه على دعائمه الطبيعية من الدراسة النفسية والخلقية!. . . أنا واثق أن هناك (أحراراً وتقدميين) سيشفقون علي من هذه (الرجعية الفكرية) التي أؤيدها بقلبي وقلمي فيما كتب الأستاذ العقاد، ولكنهم لو علموا مبلغ إيماني بهذه (الرجعية) لأشفقوا على أنفسهم من نعمة التقدم والتحرر التي تدفع بكل مثل أعلى إلى الحضيض! حسبهم كما يقول العقاد أنك لن تلقي منهم أحداً يعرف الشيوعية معرفة بحث وتحقيق، فإن وجدت منهم من قرأ بعض الكتب فيها أو أحاط بما نشره كارل ماركس ولنين وغيرهما من (فلسفتها) فلن تجد الباعث له على الإيمان بها فكرة صالحة للإقناع؛ فما من فكرة صالحة للإقناع تقنع أحداً سليم العقل والنفس بتقويض المجتمعات الإنسانية كافة تنفيذاً لحكم قضى به فيلسوف واحد أو مائة فيلسوف!. . . إن العقاد يبلغ الغاية حين يقول: كل فكرة لغط بها كارل ماركس وأتباعه هي في الواقع محل بحث طويل وشك كثير، كلها جدليات في جدليات، ولكن الشيوعي (المفطور) يؤمن بهذه الجدليات إيماناً لا يسمح بذرة من الشك ولا بشيء من الحيطة والمراجعة؛ لأنه لا يؤمن بالشيوعية على قدر ما في عقله من برهان بل على قدر ما في نفسه من الهجوم على الخراب!

أدباؤنا بين الشرق والغرب:

هذا عنوان مقال كتبه الدكتور محمد مندور منذ أسبوعين في جريدة (الأهرام) متحدثاً فيه عن مدى تأثر كتابنا وشعرائنا بالثقافة الغربية في إنتاجهم الأدبي، ولقد ذهب الدكتور إلى أن روح هذه الثقافة قد ظهرت في بعض شعرائنا ولم تظهر في البعض الآخر. . . إن أكبر شاعرين عرفتهما مصر الحديثة في رأيه وهما محمود سامي البارودي وأحمد شوقي قد اتصلا بثقافة الغرب لمعرفتهما باللغة الفرنسية، ومع ذلك لا نكاد نعثر على أثر للآداب الغربية في شعرهما، بينما يظهر هذا الأثر في شعر ولي الدين يكن وخليل مطران وإسماعيل صبري!

إن الذي يدهشني في كلام الدكتور مندور هو فهمه الاتصال بثقافة الغرب متمثلاً في معرفة اللغة! متى كان فهم اللغة وإجادتها دليلاً على أن صاحبها قد نهل من ثقافة هذه اللغة وعب

ص: 49

من آدابها؟! إنني أعرف أفراداً هنا في مصر يعرفون اللغة الفرنسية كما يعرفها الدكتور مندور ومع ذلك فهم لا يعرفون إذا كان (سارتر) فرنسياً أم أمريكياً، فيلسوفاً يتحدث عن (الوجود والعدم) أم عالماً يبحث في (النسبية وتحطيم الذرة)!. . . ثم هل تأثر رجل كإسماعيل صبري بالثقافة الغربية في شعره كما يقول الدكتور مندور؟ إن ديوان صبري بين يدي وأنا أكتب هذه الكلمة، وهذا شعره أراجع في قصائده نفسي وأرسل وراء أبياته ذوقي فلا أخرج بشيء على الإطلاق مما انتهى إليه الدكتور مندور. . إن صبري كما يدل عليه شعره لأبعد من ذكرهم الدكتور جميعاً عن التأثر بروح الثقافة الغربية، اللهم إلا إذا كان الدكتور يفهم (التأثر) على وجه لا يشاركه فيه أحد من الناس، كما فهم (الاتصال) على أنه معرفة لغة من اللغات!

سلامة موسى أشهر مني:

بعد أن فرغت من كتابة التعقيبات تلقيت رسالة عاجلة من قارئ شاء أن يغفل ذكر أسمه، خضوعاً لمقتضيات الشجاعة. يكفي أن القارئ الفاضل قد غضب علي غضبة مضرية ختمها بهذه الكلمات:(مهما حملت على الأستاذ سلامة موسى فهو أشهر منك في مصر والبلاد العربية وأعرف عند الناطقين بالضاد)!

أنا لا أنكر يا أستاذ أن سلامة موسى أشهر مني. . . ولكن لا تنس أيضاً أن محمود شكوكو أشهر مني بكثير!!

أنور المعداوي

ص: 50

‌البريد الأدبي

الاتجاهات الحديثة في إعداد المعلمين:

كانت قاعة المحاضرات هذا المساء بمعهد التربية العلي بالإسكندرية لا تكاد على سعتها تسع المستمعين. وما إن جاء موعد المحاضرة حتى وقف صاحب العزة عميد المعهد يقدم السيدة أسماء فهمي بقوله: إنها كانت أول طالبة في الجامعة المصرية وقد سافرت إلى أوربا وتخصصت في التربية. وكانت أول عميده مصرية لمعهد التربية للمعلمات. ثم وقفت السيدة (أسماء فهمي) وأشارت إلى أنها ستعرض للاتجاهات الحديثة في إعداد المعلمين لا في مصر وحدها بل في أمريكا وإنجلترا وفرنسا. فقالت: لم تكن هناك مشكلة الإعداد للمعلمين فكان كل من أراد أن يتصدى للتعليم يجد أمامه السبيل ميسره. وفي سنة 1872 أنشئت أول مدرسة لهذا الغرض وهي دار العلوم. وفي سنة 1880 أنشئت مدرسة المعلمين؛ حتى إذا كان الركن الأول من القرن التاسع عشر أنشئت أول مدرسة لإعداد المدرسين للمدارس الأولية كانت تدرس فيها التربية بجانب المواد الأخرى. ثم أشارت إلى الحالة في إنجلترا فقالت: وفي لإنجلترا حتى سنة 1861 ألفت لجنة لدراسة حال المعلمين، وأشارت إلى من كان يتولى التدريس في تلك العهود بقولها: فالخدم والعاملون وأصحاب المطاعم والفقراء والمصبون بالسل، كل هؤلاء كان يمكنهم التدريس في المراحل الأولى. أما التدريس في الثانوي فكان يستمد من الجامعات. وفي أمريكا قبل منتصف القرن التاسع عشر لم تكن هناك مدارس للمعلمين، حتى إذا ارتفع لسان النقد قائلاً: كيف لا نفكر في المعلمين وإذا أردنا إصلاح حذاء فكرنا فيمن يجيدون ذلك! وسرعان ما اتجهت بفضل هذا النقد إلى طرق إعداد المعلمين. وبعد الحرب العالمية الأولى نشطت الاتجاهات الإنسانية وتجلى ذلك في إعداد المعلمين ففي مصر اتجهت العناية بمدرسة المعلمين واهتموا بتعديل مناهج المدرسة السنية، ولم يكتفوا بمدارس المعلمين، بل قامت معاهد التربية. ثم تحدثت عن إعداد المعلم في أمريكا بقولها إن أهم الهيئات في أمريكا لإعداد المعلمين هي الجامعات، والكليات ومدارس النورمال؛ ففي الولايات يبلغ عدد الجامعات 95 جامعة. وبأمريكا 1700 معهد لإعداد المعلم وأمريكا مع هذا تشكو قلت المعاهد. وأهم ما يسترعي النظر أن الجامعة هناك تطلب إلى من يتقدم إليها للتدريس شهادة بحسن السير والسلوك

ص: 51

وشهادة تثبت اهتمامه بالشئون الاجتماعية. وفي أمريكا يجمعون بين التعليم المهني والنظري. أما في إنجلترا فالدراسة في الجامعة نظرية؛ وبعد الجامعة يتلقى الطالب التعليم المهني. وفي أمريكا لا يفرقون في الإعداد بين المدرس الأولي والثانوي فشهادتهما واحدة، وإن كان بينهما اختلاف ففي بعض المواد التي يقومان بتدريسها وتبدي أمريكا اهتمامها الشديد بمشاكل البيئة، فكل طالب يكلف ببحث عن البيئة التي يعيش فيها، ثم تقرأ هذه البحوث في اجتماعات خاصة ومن الاتجاهات الحديثة في أمريكا عمل دراسات صيفية يختلف إليها المدرسون في الصيف فتكون الجامعات في الصيف أشبه بخلايا. وهناك عيادات لعلاج عيوب القراءة أو عدم القدرة على النطق. وفي أمريكا خصصت الجامعات مراكز للإيضاح فيحصل المدرس على ما يريد من أشرطة سينمائية أو ملابس أو غيرها بواسطة الأخصائيين. ثم أشارت إلى أن الجامعات في أمريكا يقصدها الشعب من جميع الطوائف من أطباء وتجار وأصحاب مهن؛ فإذا ما اجتمع المدرس بهؤلاء كان عاملاً مهماً في توسيع دائرة فكره. ومن الاتجاهات الحديثة أيضاً العناية بسيكولوجية الطفل المباشر ولا يكتفي بالمحاضرات في علم النفس بل يطلب إلى الطالب أن يلازم بعض التلاميذ إلى البيت والمدرسة وفي ألعابهم وفي غدوهم ورواحهم ويدرسهم على ضوء علم النفس دراسة موضوعية غير مفسرة، ثم تقدم هذه الدراسة إلى الجامعة.

ثم أشارت إلى الحالة في مصر بقولها: إلى أي حد يتمشى في مصر هذا النظام لقد تعددت فيها المعاهد دون ترابط: فهذه معاهد التربية ومدارس المعلمين والمعلمات الأولية والراقية. وإلى جانب ذلك يوجد عدد آخر، فلا شك أنها تشكيلة كبيرة، وهذا ينافي مبدأ الديمقراطية. ولا يزال الكثير منا يدين بالتفرقة بين مدرس المدارس الأولية والابتدائية والثانوية، ويذهب في زعمه إلى أنه لا حاجة بنا إلى إمداد مدة دراسة المعلم الأولى، فعمله لا يحتاج إلى كثرة المعلومات.

وهذا خطأ من الوجه السيكولوجية، فمهمة المدرس خطرة في كل مرحلة من المراحل الأولية أو الابتدائية أو الثانوية، ويجب أن يكون حاصلاً على أكبر قدر من الثقافة. وقد يكون لنا بعض العذر في قبولنا لهذا القدر الضئيل من الثقافة بالنسبة للمدرس الأولى لو كان الغرض هو إيصال المعلومات، ولكنه مدرس ومرب ومنشئ جيل. وختمت السيدة

ص: 52

الفاضلة المحاضرة بالإشارة إلى حاجتنا إلى تقوية الوعي القومي في معاهد المعلمين، ثم قالت: وعلى المعلم تقع أخطر المسائل، وفي عنقه أعز الأمانات، فإذا نجحنا في إعداد المدرس الصالح فلابد أن ننتصر على كل مشاكلنا التي تعترضنا في التربية والأخلاق.

محمد عبد الحليم أبو زيد

إحياء الجليس:

عهد المجمع اللغوي الملكي إلى لجنة من الأدباء في تحقيق هذا الكتاب للقيام بنشره، والمنتظر من هذه اللجنة أن لا تغفل التعليق عليه بمآخذ العلماء عليه. وإني ناقل كليمة من (سيرة الإمام أبي يوسف للعلامة الكوثري) كمثال لعثرات المعافى النهرواني مؤلف الجليس الصالح: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقرىء، حدثنا محمد بن خزيمة بنيسابور عن المزني عن الشافعي قال: مضى أبو يوسف القاضي ليسمع المغازي من ابن إسحاق أو من غيره، فترك مجلس أبي حنيفة أياماً، فلما أتاه قال له أبو حنيفة: يا أبا يوسف من كان صاحب راية جالوت؟ قال له أبو يوسف: إنك إمام، وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ: أيها كانت أولاً، بدر أو أحد؟ فإنك لا تدري أيها كان قبل، فأمسك عنه. يقول الأستاذ الكوثري: هذا اختلاق صرف تكذبه شواهد الحال، لأن أبا حنيفة هو الذي يحدث أصحابه في مسانده عن تفضيل عمر - رضوان الله عليه - أصحاب بدر فيما فرض لهم من الديوان على باقي أصحاب الغزوات المتأخرة. وهو الذي يتلو في ختماته ليلاً ونهاراً قوله تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) المعروف نزوله في أحد. . .

وصاحب الجلس الصالح يحكي أن المأمون حمل الشافعي على شرب عشرين رطلاً من النبيذ، ففعل ولم يتغير عقله، كما في لسان الميزان: يقول الأستاذ الكوثري: إن الإمام الشافعي لم يلقى المأمون في عهد خلافته ألبتة. فهذا كذب بحت كتلك الأقصوصة. والمعافى النهرواني ليس من رجال التحري في النقل، وكتابه يجمع بين الجد والهزل. وفي سند الحكاية الأولى محمد بن الحسن بن زياد، وهو النقاش المشهور بالكذب. قال الخطيب البغدادي: في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة. وقال الذهبي أنه كذاب وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر، وقال طلحة بن محمد الشاهد: كان النقاش يكذب في الحديث، والغالب

ص: 53

عليه القصص. وترجمته في تاريخ بغداد للخطيب ولسان الميزان وميزان الاعتدال وغيرها.

عبد الله معروف

ص: 54

‌القصص

بنت عمي راقصة

للأستاذ عباس خضر

حينما أقبلت على صديقي الأديب المعروف الأستاذ محمد مختار البرجي، وهو جالس في إحدى أمسيات الصيف الماضي على طوار (بار اللواء) - ألفيته متثاقلا يضع مرفقه على المنضدة ويسند رأسه إلى راحته، فأخذت مجلسي على الكرسي المقابل له في الناحية الثانية من المنضدة، مكتفياً بتحية خفيفة دون أن أمد يدي لمصافحته، ورد هو التحية رداً خفيفاً أيضاً، ثم أردف يقول وهو يميل برأسه على يديه المشتبكتين فوق المنضدة:

- سأنعس خمس دقائق.

- فلتكن عشراً.

وأرسلت بصري إلى الشارع وإلى العابرين به، ولكن فكري كان مشغولاً بأمر الصديق، أهو متعب أم مهموم؟ ولم يدع هو هذا التفكير يشغلني طويلاً ويقلق بالي، فقد رفع رأسه وأشعل لفافته؛ وابتدأ الحديث بيننا تافهاً، وقد تجنبت أن أسأله عما يهمه، ولكنه نظر إلي وقال:

سأقص عليك قصة. . . كنت أصطاف منذ سنين في رأس البر، فقام بنفسي في إحدى الليالي أن أجول بمدينة دمياط، وطاب لي الجلوس على قهوة بها. وبينما أنا جالس اقترب مني شاب كان يتأملني من بعد وأنا أتغافل عنه وقال لي:

- حضرتك الأستاذ محمد مختار البرجي. .؟

- أتعرفني؟

- أنت خالي. . .

- خالك؟! ومن أنت؟

- أتعرف أن لك عماً اسمه على مختار؟

- نعم أسمع عنه، لقد توفى أبي وأنا صغير، ونشأت مع أمي في القاهرة، وكانت تذكر لي عمي هذا وعماً آخر وتقول إنهما في دمياط، ولكن من أنت؟ وما مكانك من عمي علي مختار؟ قل لي أولاً كيف عرفتني!

ص: 55

- كيف لا أعرفك وصورك تملأ بيتنا. . نفصلها من الصحف والمجلات ونزين بها الجدران، واسمك يملأ أسماعنا ويبعث النشوة في نفوسنا. . . هلم يا خالي. . . كم تسر أمي برؤيتك! أمي بنت عمك علي المختار. . .

طرق الشاب باب منزلهم، وقد طلب إلي أن أتأخر قليلاً حتى أكون بحيث لا يراني من يفتح الباب، وفتحت له أمه، فبادرها بأنه سيفاجئها الآن بهدية نفيسة هي أعز أمانيها، ثم أردف: سترين الآن يا أماه ابن عمك الأستاذ محمد مختار البرجي.

وتقدمت، وكن لقاء حاراً أترك وصفه لأنك تدركه من طبيعة الموقف. واستمر الصديق يقول: لا أطيل عليك الكلام. عرفت مما دار بيننا من حديث أن الشاب يحل محل أبيه المتوفى في تجارته الموفقة، وأن عمي الثاني وله أولاد يعيشون أيضاً في دمياط، كما عرفت من بنت عمي هذه أن لها شقيقتين متزوجتين.

وتبادلنا الزيارات العائلية، وتوطدت العلاقة، وتم التعارف بين هؤلاء الأقارب الأعزاء وبين أسرتي وأولادي في القاهرة، وساد هذه العلاقة مودة وسرور كان لهما أثر كبير في تجديد نفوسنا جميعا. ثم مضت الأيام، وصرنا نشعر بالقرابة، وغفرنا لصروف الزمن ما قضت به من التشتت فيما مضى.

واحتسى الأستاذ البرجي قهوته، وجذب أنفاسا من لفافة أشعلها واستأنف يقول: وجاء إلى مرزوق أفندي، وهو ابن عمي الثاني، وقد اعتاد زيارتي عندما يأتي إلى القاهرة، ولكنه هذه المرة جاء لأمر. . . قال:

- أعد نفسك لما سألقي عليك من نبأ.

- قل. . .

- إنه نبأ مؤلم! وأحب أن تكون شجاعاً في تلقيه.

- هاته، أسرع، فقد يكون كلامك أشد منه.

- ما أحسبك لقيت في حياتك أشد مما سأفضي إليك به، ولا مفر لي من ذلك، لأن هذا الأمر يهمك كما يهمنا.

- لا تخش شيئاً فأنا أليف شدائد.

- أتعلم أن لك أبنت عم اسمها سنية وأنها. . . راقصة!!

ص: 56

- إيِه. . .

- ألم تقل إنك حليف شدائد؟ لا تجزع يا أخي لأني أريد أن تعاونني في ثبات على ما جد في أمرها. وأجمل لك قصتها في أن أمها كانت قد تزوجت بعد وفاة أبيها، وكانت أخواتها الثلاث قد كبرن وتزوجن، أما سنية فقد ضاق بها زوج أمها، وضاقت هي بما لقيت من قسوة وخشونة، فتسللت إلى القاهرة، ثم احترفت الرقص، وهي الآن تعمل في إحدى (الصالات) وكانت قد تزوجت بشاب من أهل الفن توثقت بينها وبينه أسباب المودة في أثناء عملها معاً في (الصالة) وعاشرها سبع سنين ثم طلقها أخيراً.

- إيِه. . .

- وقد ذهبت إليها اليوم وأردت أن أنقذها من هذه البيئة فعرضت عليها الزواج، فأبت، وسخرت مني. وقد اعتزمت أمراً أريد أن تعاونني عليه. . . نقتلها فنغسل عارنا بدمها.

- هون عليك يا أخي، فالذي بنفسك سيذهب بعد حين، ولن تقتلها، وأنا لا أستطيع قتل دجاجة. اذهب إلى حالك ودع الأمور تجري في مجاريها.

ولم أرد أن أخاشن ابن عمي وهو في زيارتي، فتلطفت معه حتى ودعته وانصرف بعد الغداء، وقد انفثأ غضبه، وعاد أدراجه إلى بلده كأن لم يكن شيء. وكنت حرياً أن أسأله عما جد في شأن ابنة عمنا وهي هي كما يعلم منذ أمد بعيد، وجعلت أفكر في الأمر وأنا لا أستطيع أن أتصور كيف نقتل فتاة دفعها التيار إلى هذه الناحية من الحياة. . . وهل تقتل الفتاة لأنها راقصة؟! وكلما تذكرت ما كان يريدني عليه من المعاونة على قتلها عرتني رعدة اشمئزاز واستنكار لفكرة القتل البشعة. ويختلط هذا كله بألم يحز فيها حينما أتصور حياة الراقصات التي أعرفها، وأن بنت عمي واحدة منهن. . . ودار رأسي من التفكير والألم.

وأخذت طريقي إلى نادي الصحفيين. وما أخذت مجلسي هناك حتى جاء الخادم يدعوني إلى التليفون، فأمسكت السماعة وأصغيت، فسمعت صوتاً ناعماً يقول:

- أنا قريبة لك.

- أعرفك. . . سنية بنت عمي.

- إذن حضر إليك اليوم مرزوق أفندي. ولكن كيف تقول إني بنت عمك؟ ألا تنكرني؟!

ص: 57

- إنك بنت عمي من غير شك. أريد أن أراك.

- وتريد أيضاً أن تراني؟ أجاد أنت في كلامك؟

- دعي هذا، ولنتم الحديث حين تحضرين.

وأقبلت سنية بعد قليل، ومن المتبع في النادي أن يكتب الزائر اسمه في دفتر الزائرين، فأمسكت أنا القلم وكتبت اسمها هكذا: سنية علي البرجي.

- وانتبذنا ركناً قصياً بالنادي، وهي تقول لي:

- إنّ اسمي سنية علي فقط. فلم أرد أن ألوث اسم (البرجي) الذي عرفت أنت به.

- ليكن اسمك من الآن سنية علي البرجي!

- لا أكاد أصدق ما أرى، فما كنت أطمع أن أنال اعترافك بي فيما بيننا فضلاً عن مجاهرتك بقرابتي!

قالت ذلك وطأطأت تفتح حقيبة يدها وتخرج منديلاً تمسح به دموعها، ثم تابعت:

أما مرزوق أفندي سامحه الله. . . لقد كان منزلي مثواه كلما جاء إلى القاهرة، ولم أكن أضن عليه بما يطلب حين تقصر يده. . . فما باله اليوم يستشعر العار في مسلكي؟!

- قال لي أنه عرض عليك الزواج.

- نعم ورفضت. ومن أجل هذا تعرضت لعاصفته. . . وأنا ما زلت - ولا أخفي عنك - أحب زوجي السابق، وقد تعودت لوناً من الحياة معه، ولم يذهب من نفسي الأمل في أن يعود إلينا حسن التفاهم ويرجع الماء إلى مجراه. ثم أنا إن تزوجت مرزوق أفندي فسيكون خيال الماضي منغصاً لحياتنا، وهناك الأهل الذين لفظوني ثم أنكروني. . . كيف يطيب لي العيش في وسطهم؟ ثم نظرت إلى نظرة فيها مزيج من الحنان والشكر، وقالت:

وأنت يا أبن عمي. . . كم أنا سعيدة بهذه الكلمة. ابن عمي كلمة بحثت عنها كثيراً فلم أجدها إلا حينما رأيتك تكتب أسمي في الدفتر سنية على البرجي!

وأجهشت، فانخرطت في بكاء. . . ثم قالت:

وأنت يا ابن عمي جبرت نفسي، جبر الله نفسك!

وانصرفت سنية وقد وعدتها بالزيارة في منزلها. وارتاحت نفسي لحسن استقبالي لها واغتباطها بذلك. ولكن كان في نفسي شيء يدفعني إلى بحث ما يحيط بها. . . نعم لقد

ص: 58

مكثت سبع سنين متزوجة، وقد عرضت عليها في النادي أن يكون على حريتها فتطلب ما تشاء ففي المقصف كل شيء. . . ولكنها أبت وأكدت أنها لا تشرب الخمر وأنها ليست كما قد أظن. . . الخ. ولكني في الوقت نفسه أعرف (الصالات) وما فيها من (فتح) وغيره. . . لذلك جعلت أرقب أحوالها في زياراتي لها؛ فلم أجد ما يريب.

وكنت مرة في نادي نقابة الممثلين مع صديقي الأستاذ أحمد كامل أحد نجوم المسرح والسينما وعضو مجلس إدارة النقابة؛ وقصصت عليه قصة بنت عمي؛ وتعمدت أن أذكر اسمها - في عرض الكلام - قبل أن أفضي إليه بقرابتها وقصتها؛ وهو صاحب مغامرات مع كثيرات من هؤلاء الراقصات ومثيلاتهن. فلما وصلت في القصة إلى التلويح بشيء من التشكك، قال لي: حسبك لأن تطمئن أن تعلم أني لا أعرفها!

وصحبت سنية بعد ذلك إلى نادي نقابة الممثلين؛ وعرفت أعضاء النادي بها. ثم طلبت أن تشترك في النقابة؛ فقال لي الأستاذ أحمد كامل: إننا لا نقبل في النقابة راقصات (الصالات) ولكن من أجلك سأعمل على قبولها.

وقيد اسم سنية في نقابة الممثلين. وأقترن ذلك بالاتصال بأحد منتجي الأفلام؛ وتم الاتفاق على أن تظهر سنية في فلم جديد، وهي الآن تعمل به وقد تركت العمل في (الصالة).

واغتبطت اغتباطاً كبيراً بهذا التوفيق في نقل ابنة عمي من بيئة (الصالات) إلى مستوى الممثلين والممثلات، وأنت تعلم أن هذه الطائفة من أهل الفن قد أصبحت لها اعتبارها ومكانتها في مجتمعنا الحديث. وقد صرت أنظر إلى سنية نظرة المطمئن الذي لا يجد غضاضة في الظهور معها في المجتمعات، ولا أخفى أنني كنت قبل ذلك أواجه الأمر الواقع، وكنت أحدث نفسي بأنه يجب أن أقول للناس: هذه ابنة عمي! فلا أدعهم يتسارون بذلك. . . وكان سرورها بي وبمسلكي هذا يعوض في نفسي بل يفوق كثيراً ما أشعر به من خفي الشعور، بل يكاد يمنعه. أما بعد أن صارت ممثلة وعضواً في نقابة الممثلين فقد طابت نفسي وراق بالي.

وسكت الأستاذ البرجي، وهو ينزع الغلاف الشفاف عن علبة اللفائف الجديدة، ويطويه بيده ويرمي به، ثم يشعل لفافة ويأخذ منها نفسا؛ ويسند رأسه المثقل إلى راحته وسحابة الدخان تتراقص أمام سحابة الهم على وجهه.

ص: 59

قلت له: إن ما فعلت شيء عظيم، وهو يدعو إلى الارتياح، فما لك مهموماً؟

فنظرت إلى كمن يطلب الصبر حتى آخر القصة، وقال:

كنا أمس في النادي، أنا وسنية وأحد الوزراء السابقين، وهو صديق قديم معروف بميله إلى الأدباء والفنانين. جلسنا نحن الثلاثة معاً، فطاب مجلسنا، وتبسط معنا صديقنا الوزير السابق فأكثرنا من الطرف والدعابات، وأشرقت البسمات على وجوهنا، حتى جذب ذلك إلينا الأنظار. ثم أنفض المجلس، وتفرقنا في أرجاء النادي، وإذا أحدهم يدنو مني قائلاً في شبه همس:

لا تسرف في الظهور مع بنت عمك فنحن في مصر. . .

ولست أدري أحاسد هو أم ناصح، وعلى أي حال قد قال ما قال. . .

عباس خضر

ص: 60