المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 828 - بتاريخ: 16 - 05 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٢٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 828

- بتاريخ: 16 - 05 - 1949

ص: -1

‌4 - أمم حائرة

الهداية والرقابة

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

إن قامت الجماعة على غير طريقة، وعملت على غير خطة، فكيف تستقيم على محجة، وكيف تقصد إلى غاية؟ وإذا انبهمت الغاية، واشتبهت السبل، ساغ لكل جاهل أن يدل على الطريق، واستطاع كل ناعق أن يقول:(هذا هو النهج) وليس بعد هذا إلا الضلال والحيرة.

لابد من عقل رقيب، وفكر ناقد ورأي سديد. ولابد أن يكون للعقل والفكر والرأي طريقة تؤدي إلى الناس نصيحتها، ونظام يعرف الناس بدعوتها، وقانون ينفذها فلا تضيع الآراء السديدة في ضوضاء المضلين، وصيحات المبطلين. ولابد من رقابة الجماعة ومن سلطانها متمثلين في نظام الحكومات وفي الطوائف التي تقر لها الجماعة بالهداية والرقابة والتقويم.

إني لأرى أموراُ تحدث في نظام الأسر وسنن الجماعة، لا يعرف كيف نشأت؛ وهي لا تجد من أولى الشأن رعاية إن كانت صالحة، ولا حرباُ إن كانت فاسدة. وأرى كثير من العادات تشيع على كره عقلاء الأمة والمصلحين فيها. فأسأل نفسي وأسأل أصحابي: لمن قيادة الجماعة؟ وبأي يد أزمتها؟ فأرى أحياناً مبتدعي هذه العادات الكريهة، ودعاة هذه العادات السيئة، من أصحاب الهوى المولعين بالتقليد، أو طائفة من التجار الساعين وراء الكسب بأية وسيلة، ومن أصحاب الملاهي أو وأشباه هؤلاء. فهؤلاء يقضون في أمور تحسب هينة، وهي في سير الجماعة ذات عواقب وخيمة؛ يراها المفكرون المبصرون وتكل عنها أبصار من لا يتجاوزون الظاهر، ولا يدركون ما بعد اليوم. هؤلاء ومن ورائهم الدهماء، يسيرون الجماعة أحيانا بأهوائهم ومآربهم، ويدعو الخيار فلا يستجاب لهم، ويقول المصلحون فيسخر منهم، ويغضي أولو الأمر تهاونا واحتقاراً، عن أمور يرونها صغيرة وما هي بصغيرة.

قد شمل القانون والنظام كل الجوانب في الجماعات الحاضرة قانون الحكومة وقانون الهيئات التي تقرها الحكومة على اختلاف النظم والأسماء.

ص: 1

كانت الجماعات، فيما سلف، لا ينالها القانون والسلطان إلا في بعض شئونها، ولكن حكومات هذا العصر تشرف على كل شيء، بالإجبار أو الإرشاد، فالتعليم والصحة والرياضة وأمور اجتماعية كثيرة تتولاها الحكومات أو الهيئات تقرها الحكومة وكانت من قبل لا تعنى بها الحكومات إلا قليلا.

فلا جرم أن هذه الحكومات والجماعات المختلفة قادرة على الهداية والرقابة والتقويم والتهذيب إن عنيت بالأمور النفسية والاجتماعية العناية الخليقة بها

وليس على الهداية الرقابة جور على الحرية. فإن الحكومة والهيئات الأخرى مشتقة من الأمة قائمة باختيارها ورضاها. والأمة تغتبط بأن تفيد بكل نظام صالح، وتربط بكل خلق كريم وسنة حميدة، وتصد عما يضر بها ويذهب بسعادتها.

ثم الصحف والمدارس ما خطبها في التقويم والإصلاح والقيام على النشء والإشراف على الجماعة؟ إن خطبها لعظيم. فأين هي من احتمال الاضطلاع بالعبء وتأدية الواجب؟ إن لكل منها لحديثاُ، وأبدأ بحديث الصحافة:

هي من نعم هذا العصر ومحاسنه، وهي من نقمه ومساوئه. وهي عظيمة الخطر كبيرة الأثر في الجماعات. تطلع على الناس صباح مساء بأخبار وآراء، وعلم وفن، وأمر ونهي، وجد وهزل، لا تدع أمراُ مما يهم الإنسان في معيشته الخاصة، أو أحوال الجماعة التي يعيش فيها، أو الأمم الأخرى إلا عرضت عليه خبراُ عنه، أو رأيا فيه، أو نبذة من علم يتصل به، أو فن يرجع أليه، أو تاريخ يبينه، أو قصة تصوره.

وهي تنتشر في كل جانب وتلقى الإنسان في طريقه وداره ومدرسته ومتجره ومصنعه وحيثما كان في شأن عام أو خاص. تطلبه وإن لم يطلبها، وتقتحم عليه وإن لم يدعها.

وأمر الصحافة أبين وأوضح، وأشيع وأجليمن أن يعني الكاتب ببيانه، أو يحس حاجة إلىالكلام فيه.

فانظر كيف أثرها إن صدقت، وتحرت الصدق، وطلبت الحق، وأخلصت في طلبه، وعملت للخير ودعت إليه، وسارت على طريقه لا تحيد ولا تضل، ولا تميل ولا تزيغ ولا تجور ولا تحابي!

وانظر كيف أثرها إن خلطت صدقاُ بكذب، ولبست حقاُ بباطل، وعملت لنصرة فرد أو

ص: 2

طائفة أو حزب، وزينت لها العصبية أن تزين كل ما يقول حزبها وما يفعل، وإن تقبح كل ما ينطق به خصمها وما يعمل! وانظر كيف أثرها إن بغت الانتشار والربح بكل وسيلة، واحتالت لهما بكل حيلة، ولم تبال صلاح الناس وفسادهم ولا خيرهم وشرهم! وانظر كيف هي إن فتنت القراء وأضلتهم وتركتهم على قلق وتردد في آرائهم وأعمالهم، ولبس وحيرة في أخلاقهم وآدابهم. وأقامتهم في بيداء مضلة لا تبين سبلها ولا تعرف أعلامها؟ كيف أثرها إن احتالت على القراء بما يهوي القراء، وبما يستهوي الدهماء من قصة مفسدة وصورة فاتنة وما إلى القصص والصور من أقوال لم يصدرها عقل ولم يراقبها وجدان. إن الداء عضال وإلى الله المشتكي.

إن الصحافة حبر ورأي ودعوة وتعليم. وشروط هذه كلها التثبت والنقد وقصد الحق والخير والإخلاص فيه ابتغاء وجه الله، فليس كل ما يسمع من أخبار يروى قبل التثبت والتحري. وليس كل ما يصح بعد التثبت والتحري ينشر حتى ينظر هل هو جدير بالنشر؟ أيستحق أن يذكر؟ أليس في نشره إثارة فتنة أو إضرار بفرد أو جماعة، أو إفشاء لسر يحسن أن يكتم، أو إظهار لأمر يجمل أن يسر؟ ومرجع هذا كله إلى وجدان القوام على الصحف وعملهم وبصرهم وإخلاصهم. وإن لهم من أولئك رقيباُ أكبر من كل رقيب وأعظم شأناُ وأقوى سلطان من الحكومات والقوانين.

وأما أن يختلق الخبر، أو ينشر تثبت، أو يذاع لنكاية أو لتشنيع أو تسميع أو إثارة فتنة فيها هوى للناشر أو مصلحة له أو لحزبه، فهذا تنكره مروءتنا وأخلاقنا وديننا وتاريخنا. ومهما يقل القائلون في حرية الأخبار وحق النشر، فلن يجد من عقولنا مقبولاُ ولا في ضمائرنا رضا، فليتق الله في أنفسهم ومواطنيهم وأمتهم وفي الناس جميعاً هؤلاء الكاتبون والقائمون على الصحف.

وأما الرأي فعماده علم ونظر وترو. فإن رمي بالرأي دون إحاطة بموضوعه، أو دون تفكير فيه، أو بغير إعمال الروية كان حرباُ أن يبعد من السداد، وأن يخذله الرشاد، وكان خليقاُ أن يضل ويضل ولا يصلح.

فهل الآراء التي تطلع الصحف صباح مساء، أعطيت حقها من المعرفة، وشرطها من الروية، وحظها من الإخلاص؟ أي فارق بين الكاتب الذي يكتب فيما لم يحط به علماُ،

ص: 3

وبين المعلم الذي يتكلم على تلاميذه وهو لم يحط بدرسه ولم يوفه بحثاُ وفكراُ؟

هذا، إن حاد بالرأي عن الصواب جهل أو تهاون أو عجلة. فما بالك إن زاغ به الهوى، وأربد به تضليل، وقصد به إلى مأرب؟ وكيف إذا اختلفت الأهواء وكثرت الآراء وكلها لا تهدي إلى الحق، ولا تبغي الخير، ولا تبالي إلا بهزيمة الخصم والتسميع به والقارئ الساذج في حيرة بين الآراء المتصادمة، والأهواء المتقاتلة حتى يميل به طبعه أو هواه إلى جانب، أو تستمر به الحيرة والضلال. إن كل من يمسك قلماُ ليكتب في صحيفة يتصدى لأمر عظيم، ويتحمل تبعة جسيمة. فليتق الله في كل فكرة يفكر فيها، وفي كلمة يسطرها. ولينظر ما أثر فكرته وكلمته في أمته، وما حق هذه الأمة عليه.

وأما الدعوة فينبغي أن تكون إلى الأخلاق العالية والسنن الصالحة يدعى إليها بكل وسيلة، وتسلك إليها كل سبيل. وينبغي أن يحذر كل الحذر من الدعوة، صريحة أو خفية، إلى التحلل من الأخلاق والفرار من التبعات؛ فإن النفوس قد احتملت أعباء الواجب وصهرت عليها ولم تبال بما فيها من مشقة وحرمان؛ ابتغاء ما هو أعلى وأشرف وأعظم، ابتغاء الحق والخير وإيثاراُ لما هو أجل من خير الناس وصلاحهم. فإن ارتابت في هذه الأعباء الثقيلة ودعيت إلى الدعة، وإيثار الأهون عليها والأحب إليها، والاستجابة إلى الأهواء والإخلاء إلى اللذات والخضوع للمطامع، والسكون إلى سفاسف الأمور والإشفاق من جليلها. صادفت الدعوة منها هوى ولقيت منها إصاخة واستراحة إليها باطناُ وإن نفرت منها ظاهراُ، إلى أن يضعف الوجدان الذي يحجب إلى النفس إيثار الأشق الأعظم من الأمور، وإلى أن تسف الهمة التي تتقدم بالإنسان على الصعاب وتنأى به عن اللذات، استجانة للمعاني الجليلة التي يسير الله بها البشر إلى الكمال الذي قدره لهم.

إن الإنسان يعيش تحت أوقار من الواجبات وأوامر الأخلاق وتكاليف المجد، كما يغيش تحت أثقال من الضغط الجوي. فإن دعي إلى هذه طرح هذه الأعباء واستراح إلى هذه الدعوة هلك كما يهلك إذا خف عنه ضغط الجو. ورب كلمة فاتنة أو قصة ساخرة تنقض في نفس الناشئ أو تزلزل كل ما أمرت التربية في نفسه، وتاريخ البشر في فؤاده! فلينظر الكاتبون وليتقوا الله.

وأما التعليم فكذلك يعمل له الفكر والنظر، ويختار ما هو أنفع للناس وأقرب إلى الصواب

ص: 4

من الأمور النفسية والآفاقية على هدى العلم، وإرشاد التجارب وهلم جرا.

ما أقدر الصحافة على الإصلاح! وما أقدرها على الإفساد! وما أكثر المصلح منها في عصرنا هذا وما أكثر المفسد منها! فمن كان مصلحاُ فليزدد إصلاحاُ، ومن كان مسيئاُ فلينزع عن إساءته.

عبد الوهاب عزام

ص: 5

‌الأدب بين عالمين

للدكتور إبراهيم سلامة

نحن نعيش بين عالمين يتجاذباننا ويحاول كل منهما أن يردنا إلى ناحيته: (العالم الخارجي) و (العالم الداخلي). ولك أن تقول إننا لا نحيا متجاذبين بين هاتين القوتين، بل نحن نعيش فيهما، فلنا حواس تنقل ما تقع عليها، فتدرك العين المرئيات، والأذن المسموعات، واليد الملموسات. فحواسنا تنقل إلينا صور الحياة كما هي، ولكننا لا نعيش في هذا المادي وحده، وإلا ضقنا به وتخلصنا منه، وكان من حرم حاسة من هذه الحواس كأنما اغلق أمامه باب من أبواب المعرفة بالحياة. وما هكذا خلقنا وما هكذا نعيش! فنحن نعيش في عالم داخلي من إدراكنا لما تجلبه حواسنا، ومن تأويلاتنا لهذا المدركات بعد عرضها على ما فينا من حاسية وميول ونوازع وتفكير نحلل به ما يرد إلي نفوسنا، وذكاء نرد به ما يرد علينا من العالم الخارجي إلي الناحية التي نجد فيها منفعته وصلاح شئوننا وغذاء عواطفنا. ومن هنا ما يقول (ديكارت): من أن (الأشياء التي تحرك حواسنا تهيج فينا الميول المختلفة لا للاختلافات الكثيرة التي تدور بها المحسات، ولكن لاتصال هذه الاختلافات بنفعنا أو ضررنا)

ومن هنا أيضاُ ما قاله (مال برانش) من أن حواسنا أمينة مخلصة في تعليمنا العلاقات المختلفة التي بيننا وبين ما يحيط بنا من الأشياء في العالم الخارجي، ولكنها نع أمانتها وإخلاصها لا تعطينا صورة صادقة عن كل ما نحس به، فما حواسنا إلا هبة إلهية لحفظ حياتنا).

فديكارت الفيلسوف ومال برانش الأديب متفقان على أن العالم الخارجي الذي تربطنا به حواسنا ليس عالمنا وحده، بل فينا ميول تهيج وتثار بتلك الآثار المحسة ليست صورة صادقة لما نحس به، فنحن نعيش أيضاُ في عالمنا الداخلي الذي يحررنا من الخضوع للعالم الخارجي، ويجعلنا عبيداُ له عبودية العالم إلى الملاحظة والمشاهدة الاستقراء، وعبودية التقليدي إلى قاعدة يلتزمها ويقيس بها مسائل العالم. والعالمان كما ترى مشتبكان متداخلان، ولكن ينفرد العالم (بالعالم الخارجي) يستمده في الملاحظة والمشاهدة، وينفرد الأديب (بالعالم الداخلي) يستغرق فيه ويتسع بطبيعته لتأملاته وتصوراته. إن الأديب الذي استمتع بمنظار

ص: 6

من مناظر الجمالية، ثم جلس بعد مشاهداته إلى مكتبه إنما يجلس إلى تأملاته، ويجلس إلى صور وتصورات قد تكون موادها الأولى من العالم الخارجي عالم المحسات، وقد يزيد فيها وينقص بما يهبها من حيوية وخيال وإضافات لم تكن لها في عالمها الأول. والفرق بين ما يسميه علماء النفس (بالخيال الاسترجاعي) و (الخيال الابتكاري) وإذا كان الخيال الثاني أسمى من الخيال الأول سمواُ قد يصل إلى درجة الاختراع في الصور العقلية، وإلى درجة الخلق والابتكار والإبداع في الصور الأدبية، فذلك لأن الخيال الاسترجاعي يعتمد على أكثر ما يعتمد على استعادت المحسات كما هي في العالم الخارجي، في حين يعتمد الخيال الابتكاري على العالم الذي يمده بكثير من القوى النفسية التي تعتبر أساساُ للجدة والإبداع.

إن عالم الحس ضاغط ملزم، أما عالم الصور والتصور فحر طليق. إنني أمام شجرة وقع عليها نظري، ولابد لي من أن أراها شجرة، ولا يمكنني إلا أن أقول إلا إنها شجرة. أما الأديب فله أن يقول (إنها كلمة طيبة كالشجرة الطيبة) وله أن يقول إن صاحبه الذي لا فائدة فيه كشجر السرو (له رواء وما له ثمر) ولابن الرومي أن يقول إن صاحبه جاف جامد كشجر الخلاف:

فغدا كالخلاف يورق للعين

ويأبى الأثمار كل الآباء

إن المحسات تتحكم في الأدب لأنها ضاغطة ملزمة كما قدمنا. فلا حرية للأديب أمام العالم الخارجي، أما في عالمه الداخلي فحر طليق يتحكم في صوره حتى ولو جاءته من عالم الحس فيطاردها ويحل أخرى محلها ويجمعها ويفرقها ويتركها أمامه، تتجمع وتتفرق، وتتناصر وتتزاحم، وتتوالد وتتقلص، ليؤلف خياله كما يريد، أو لتطاوع هذه الصور خياله كما يريد أن يبرزها الخيال. فعالم الحس يعرف بشاراُ ضخماُ قوياُ لو توكأ على جدار لإنهدم الجدار؛ ولكن بشاراُ لا يرى في برديه إلا جسماُ ناحلاُ (لو توكأت عليه لإنهدم) والناس تسمع للمتنبي وتراه ملء العين وملء برديه، ولكنه يرى نفسه ضئيلاُ هزيلاُ، بل يريد أن يخائل الناس في حواسهم ليروه كما يرى نفسه من النحول والذبول ولولا كلامه ما كان في جسمه معلم يدل على حياته:

كفى بجسمي نحولاُ أنني رجل

لولا مخاطبتي إياك لم ترني

إن (تين) شيخ المقتنين في الأدب والنقد إذا كان لا يرى في (الصورة) إلا أنها (إحساس

ص: 7

ضعيف) وإذا كان (ابنجهوس) من علماء النفس يفرق بين الإحساس والصورة فيرى أنها باهتة مصفرة كأنها من مادة الأثير، وإذا كان غيره من علماء النفس أمثال بهنس لا يرى في الصورة إلا مادة ضئيلة شفافة متشمعة نحيلة قابلة للذوبان بل للتبخير، فأن الأدباء يرحبون بمثل هذه الصور ويرون فيها مادتهم المطاوعة للخيال، ومن ثم للخلق والابتكار. لنحذر إذن علم النفس فلا نتورط في تقسيماته وقواعده إذا أردنا أن نحتفظ بالأدب وموارده، فإن الصور هي متاع الأديب ينضده كيفما شاء ويستمتع بمرآها ولو كان باهتاُ مصفراُ. إن علم النفس (بموضوعيته) الحاضرة التي يريد بها أن يثبت شخصه أمام غيره من العلوم يريد أن يضغط على (الذاتية) التي يعتز بها الأدب ولا يمكنه أن يتخلص منها لا في الإنتاج ولا في النقد. فكما للأديب عالمه فإن للأدب (علم نفسه) الذي لا يحب أن يخضع إلى العلم الخاص دائماُ، بل له أن يتحكم فيه أحياناُ. إن هذه الصور الباهتة تتجسم أمام الأديب حتى تكون حقيقة ماثلة أمامه، وحتى لا يستطيع أن يفرق مع تسلطها بين الحقيقة وبين الخيال؛ وفي هذا الاتصال سر الأدب. فأجمله ما تخيلت فيه لترجع بحقيقة، وما حققت فيه لترجع بخيال. فحقيقة الأدب تبدو لجدتها أنها متخيلة، وخيال الأديب يبدو لإمكان وقوعه أنه حقيقة واقعة. فسر الجمال الأدبي في الإضافات التي تضيفها إلى العالم الخارجي، وفي المثالية التي ندركها من الصور الداخلية سواء أكانت صوراً نفسية محضة، أم صوراً خارجية تحولت وباعدنا بينها وبين عالمها الأول بما أضفينا عليها من المثالية. إن الأدب وجماله في هذه الزيادة التي نضيفها إلى القيم الوجودية في العالم الخارجي، وإلى القيم الإصلاحية اللغوية. وإن الذوق الأدبي ليس في القيم اللغوية للألفاظ ولا في القيم الحقيقية للمعاني، بل في القيمة التقديرية التي يهبها الأديب هبة للألفاظ والمعاني، أي في القيمة التصويرية. وبعبارة حديثة في الانسجام الذي نحسه في الموسيقى، ونحسه أكثر عند النشاز، وفي الملاءمة التي نحسها بين الألوان في التصوير، ونحسها أكثر إذا اختلطت الألوان ونبا بها النظر وفي الفترات الزمنية التي نحسها في التقسيم الوزن والفواصل وإيراد المعنى؛ هذا التقسيم المعبر عنه بالمقابلة وبقدر احتفاظنا بهذه التقديرية أو الإضافية تكون نظرتنا للأدب. فالأدب (الكلاسيكي) اهتم بالقيم الحقيقية وغالى فيها. والأدب (الرومانتيكي) اهتم بالقيم الإضافية والفردية التي نضيفها إلى القيم الوجودية الحسية

ص: 8

والعقلية. وقد غالت الرومانتيكية في أهمية القيم الإضافية الجمالية فأصبح كل شيء في نظرها فناُ، وكل ظاهرة ولو علمية فنية، حتى قيل أن الطبيعة نفسها عمل فني، وإن الكائن الحي نفسه فن، فالفن الحديث ليس في إضافة جمالية إلى قيمة علمية فحسب، بل في اتحاد الفكرتين: العلمية والجمالية في صورة تدرك في العمل العقلي المستمر.

هذه المغالات في الرومانتيكية وهذا التعصب للكلاسيكية آثار الأدباء والنقاد في القرن التاسع؛ فإن سيانت بيف وغيرهما بعد سنة 1855 قاموا للمناداة بالحقيقة في قومة ضد الرومانتيكية وضد الكلاسيكية معاً، وفي مصلحة المذهب (السريالزم)(الحقيقة) في الأدب.

لقد ابتدأ أنصار المذهب بوصف العالم الخارجي وحده فالتجئوا إلى الحياة نفسها بوصفها كما هي، ويصفون الأحياء في الأحياء الفقيرة كما هم، ولكنهم أخفقوا لأن الوصف كان لمجرد الوصف لا للحكم عليهم ولا للاهتمام بهم، فكانوا كالنباتيين ينظرون إلى المزروعات التي أمامهم من غير أن يميزوا بين أنواعها ولا بين الفروق البارزة في هذه الأنواع، وكشفت هذه النهضة عن أمثال ستاندال وبلزاك وفلوبير ممن جعلوا لهذه المدرسة الحديثة معالم مقررة، فلم يعد العمل الأدبي خيالياُ محضاُ أو فردياُ محضاُ يصدره الأديب وهو في عالمه الداخلي من غير رعاية للحياة. فلقد نادى فلوبير بأن الإنتاج الأدبي لابد أن يكون موضوعياُ وأن يكون في نفس الأديب عكساُ ذهنياُ لما تعرضه الحياة مؤسساُ على مصادر حقيقية يطيل الأديب فيها النظر ليتخير منها ما يريد (العالم الخارجي) هذه المصادر لا تشل الخيال ولا تمنعه الحركة، فإنه سيكون الرقيب على هذه المصادر والصور يتخير منها ما يتلاءم مع فنه وخياله (العالم الداخلي)، فكان فلوبير يجري هنا وهناك وراء الحقيقة التي تتفق وأحلامه، وبذا ينتقل عمله الأدبي من أن يكون مجرد وصف أو تحليل إلى أن يكون خلقاً وابتكاراً. لهذا أسبغ فلوبير على أدبه نوعاً من المنطق ولكنه منطق الحياة، وأفترض كثيراً من الصور العقلية للطب والفلسفة، ولكنه لم يفترض من الطب والفلسفة قوانين بل افترض منهما معنى الحياة. وأعمال الأبطال في رواياته تبدو طبيعية كما تبدو المسببات عن الأسباب، فالوسط والظروف والأمزجة التي تعيش فيها شخصياته الروائية هي التي تقودهم بدوافعها وتعقدها وتطلعاتها ورغائبها إلى مصائرهم، وكأنها أسباب لنتيجة حتمية

ص: 9

واقعية. وهذه الحقيقة أو هذه الواقعية في الموضوع قادت أسلوب فلوبير إلى الصورة المعبرة والكلمة الحقيقية والوزن المنسجم والرقابة على خياله حتى لحق أسلوبه بالكلاسيكية في كثير من مظاهره، وبعد عن الرومانتيكية باعتماده على الواقع؛ فقد كان يجمع بين حقيقة العبارة والكلمة في معناها الحاضر، وبين حقيقتهما في معناهما الدائم المعروف.

وكان إدموند، وجول دي كونكر، من أصحاب نظرية المصادر (العالم الخارجي) لكنهما لم يقفا موقفاً فاتراً بارداً أمام هذه المصادر فكانا فنانين تلتهب أعصابهما وتتألم لتألم الإنسانية (العالم الداخلي) فابتكروا صوراً وكلمات جديدة وأخضعاها لإحساسهما وخيالهما حتى قادها هذا الازدواج من ناحية إلى مذهب الطبيعة ومن ناحية أخرى إلى مذهب الثائريين

بعدما تقدم ننكر الأدب وننكر رسالة الأديب بل ننكر طبيعة النفس إن حاولنا أن نجعل من الأدب أداة وصفية لما يقع تحت أسماعنا وأبصارنا لنكون واقعيين من غير أن نتعرض لما تحدثه هذه المناظر والمشاهد في نفوسنا من ألم وامتعاض أو لذة ومسرة، وننكر رسالة الأدب ونمنع عنها مدداً غريراً إن حاولنا أن نصف نفوسنا وأن نفرضها فرضاً على قارئينا في غير رعاية للواقع وللحياة. إن الذكاء في آخر تحليلاته معناه إدراك العالم الخارجي والداخلي معاً، فالذكي هو الذي أدرك شيئاً ما وأدرك أنه المدرك لذلك الشيء. وللأدب ذكاؤه وحساسيته.

دكتور إبراهيم سلامة

ص: 10

‌إلى الأستاذ توفيق الحكيم

للأستاذ سيد قطب

. . . لكأنما أسمعك تقول في عتب يشوبه الألم والغضب: لماذا تنسى أنني من قبل قد عالجت: (أهل الكهف) و (شهرزاد) و (سليمان الحكيم) وكلها موضوعات إسلامية أو شرقية. ولم تكن محاولاتي قاصرة على (أوديب) و (بيجماليون) و (يراكسا).

شيئاُ من التمهل يا صديقي الكبير.

أتذكر على أي أساس عالجت هذه الأساطير الشرقية؟

لقد عالجتها على الأساس الذهني. . . فكرة تناضل فكرة؛ أفكار مجردة تتحرك على (مسرح الذهن) كما ألهمت أنت أن تسميه!

إن عبقرية الشرق الأصلية لم تكن مجرد عبقرية ذهن تجريدية. لقد كان الذهن قوة من قواتها ولكن لم يكن قوامها الأصيل: إنها أبدا كانت عبقرية حس حي أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعاُ حياُ متوفزا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانا.

إن عبقرية الشرق الأصيلة لم تكن يوما ما مجرد عبقرية ذهن تجريدية. لقد كان الذهن قوة من قواتها ولكنه لم يكن قوامها الأصيل: إنها أبدا كانت عبقرية حس حي أو روح رفاف. نجدها في الهند صوفية مضحية عميقة، وفي العرب طبعا حيا متوفرا، وفي مصر وداعة وبساطة وإيمانا.

إن عبقرية الذهن التجريدية عبقرية غربية. وعلى وجه خاص، عبقرية فرنسية!

آه يا صديقي! ليتك لم تذهب إلى فرنسا!

ولكنك ما كنت بمستطيع إذن أن تقوم بدورك الأساسي في وضع القالب الفني الصحيح للتمثيليةالعربية. فدراستك هناك للمسرح الإغريقي هي التي مكنتك من وضع القالب السليم.

إن الخير لا يمكن تمحيضه. والشر لا يخلو من الخير بحال.

والآن يا صديقي هل أدلك على النبع؟

لقد قال لك أستاذك الفرنسي كما قلت في زهرة العمر، وأنت تعرض عليه محاولاتك باللغة الفرنسية:(أكتب بلغتك لتبدع)!

ص: 11

هذا هو نفسه ما أقوله لك: استوح (ميراثك) لتبدع!

إن هذا الميراث هناك كامن في ضميرك، تخنقه ثقافتك الفنية الفرنسية. إنك تبعد عنه كلما ذهبت إلى الإغريق وغير الإغريق تستلهم أساطيرهم القديمة. إنك مصري. مصر القديمة الغائرة في أعماق التاريخ، السارية في ضمير الزمن. . . مصر هذه ما تزال كامنة في مصر الحديثة التي تعيش في ثوب مستعار. . . مصر القديمة بأساطيرها هي نبعك الشخصي العميق. ولن تحتاج إلى رحلة وراء آلاف السنين. ما عليك إلا أن تعيش مفتوح القلب والحس والعين في ريف مصر وفي أحيائها العامة. . . دعك من (سليمان باشا) و (الزمالك) و (المعادي) و (الدقي). . . هذه رقع مستعارة في الثوب الأصيل. هذه لطخ شوهاء في اللوحة المتناسقة.

أفتح قلبك وحسك وعينك، ثم أقرأ شيئا عن مصر القديمة ولاحظها ما تزال حية في ضمير الشعب وعاداته وسلوكه. . . ثم أكتب. . .

خذ القالب الأوربي. القالب وحده. ولكن صور في هذا القالب الضمير المصري، بروح مصرية، وحاول أن تهتدي إلى عبقرية الشرق الأصلية. وهي ليست مجرد عبقرية الذهن التجريدية!

وحين تتناول الأسطورة المصرية لا تحاول أن تجردها من اللحم والدم، والانفعالات والمشاعر، لترى ما وراء ذلك كله من فكرة ذهنية تجريدية. . . خذها حية بلحمها ودمها، وصغ منها مسرحيتك.

ولكنك لن تصنع هذا إلا أحسست الأسطورة حية في شعورك، غامضة غائرة في ضميرك.

إن أجمل الأعمال الفنية ما تمت في نصف وعي ونصف غيبوبة. أستيقظ حين تضع القالب فحسب، أما ذات الموضوعفيجب لكي يعيش ويخلد أن يكون غائرا في أعماق ضميرك إلى حد أن تشعر وأنت تكتبه كأنك عشته في زمن لا تذكره ولا تدريه!

إنك يا صديقي لن تتجاوز منطقة التاريخ الأدبي إلى منطقة القيم الفنية المطلقة، إلا حين تهتدي إلى النبع - نبعك الموروث الأصيل - والى عبقرية الشرق - عبقرية القلب والضمير.

ولكني أعرف أن هذا عمل عسير.

ص: 12

إن (اللعب) الذهني على الأساطير الإغريقية يسير على قواعد موجودة فعلا، فالأوربيون عبدوا الطريق. أما استلهام الأساطير المصرية فممل تبدؤه أنت بلا نموذج أمامك مرسوم!

ولقد يكون من المغالاة والإرهاق أن نطلب إلى فرد واحد، وضع القالب الجديد في الشكل وفي الوضع. . . ولكنني لا أجد حتى اليوم سواك في عالم التمثيلية أطلب إليه هذا الاقتراح المعقول!

لقد وجد في عالم القصة والرواية من يستلهم الطبيعة المصرية الخالصة، بروح مصرية خالصة - وهذا هو الأهم. فليس من الضروري - في غير الأساطير وما يشبه الأساطير - أن يكون الموضوع مصرياً، ولكن المهم أن يعالج بروح مصرية.

والاستطراد يسوقني إلى (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي. وإلى (خان الخليلي) لنجيب محفوظ.

لقد استلهم يحيى حقي أعمال الطبيعة المصرية وهو يصور الإيمان بكرامات الست (أم هاشم) وما يتصل بها من عقائد وأساطير. كذلك استلهم نجيب محفوظ هذه الأعماق وهو يصور (سخرية القدر) بآمال الناس وأحلامهم وحياتهم جميعاً.

لقد كانا مصريين دماً ولحماً وعاطفة وشعوراً في هذين العملين المعجبين. . . وذلك هو الطريق!

وعلى ذكر (نجيب محفوظ) فإني أستشعر في نفسي الخوف على هذا الشاب القصاص الموهوب!

لست أذكر متى سمعته يقول ونحن نتحدث عن رواية: (زقاق المدق) إنه أراد أن يدخل قالباً معيناً في الرواية المصرية. قالب الرواية العرضية لا الطولية، وأنه لهذا صاغ روايته في هذا القالب الجديد.

القالب. . .! هذا هو الخطر الأكبر يا صديقي نجيب! لست أفهم هذه الكلمة اللعينة! أفهم أن يتم العمل الفني أولا فإنك لا بد أن تخنق عملك ليكون وفق هذا القالب. وفي كل خطوة ستستيقظ لتقيس هذا العمل، وترى إن كان قد خرج على القالب الموضوع!

لا. لا. حذار أيها الصديق المرجو. إن القالب لا قيمة له إلا في عالم التاريخ!

معذرة - أيها الأستاذ الكبير توفيق الحكيم - لقد شطح بي الحديث إلى هنالك. والحديث

ص: 13

شجون!

فلنعد إلى ما كانا فيه. . .

فكرة أريد أن أصححها عن (الفلسفة الإسلامية) كما يصورها ابن رشيد وابن سينا والفارابي. . . فقد ألمت بهذا في بحثك الممتع الطويل.

إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها (الفلسفة الإسلامية) بمعنى أنها قد وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين.

ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها (فلسفة الإسلام) وقد آن أن تصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة!

إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات للفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة.

ما أشبه الدور الذي قام به هؤلاء الفلاسفة الإسلاميون بالدور الذي تقومون أنتم به الآن - أنت وجيل التمهيد من الشيوخ - فتنة بالفلسفة الإغريقية، ومحاولة لتفسير الإسلام على ضوء هذه الفلسفة. والإسلام يحمل فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها الأصلية، عن طبيعة الفكرة الإغريقية من الأساس!

من أذهانهم لا من قلوبهم استمدوا فلسفتهم. . . وهكذا تعملون!

لهذا وجدت تلك الفلسفة اهتماماً وعناية من الأوربيين ورثة الإغريق؛ لأنهم قادرون على فهمها والإحساس بها. أما فكرة الإسلام الصميمة الكلية عن الكون والحياة والإنسان فهي شيء آخر لم تصوره تلك الفلسفة، ولم يتمثله الأوربيون. وتبعاً لذلك لم يتمثله المحدثون من المسلمين الذين يتلقون كل ثقافتهم عن الأوربيين!

ومالي ألومكم أنتم، والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام!

أنا واثق أن سيكون لنا أدب خالد؛ وأن ستكون لنا حياة فكرته وإنسانية ملحوظة. ذلك يوم نؤمن بأنفسنا، يوم نشعر أن لدينا ما نعطيه، يوم نستلهم طبيعتنا الأصلية. يوم نهتدي في ذواتنا إلى النبع العميق.

ص: 14

(واشنطون)

سيد قطب

ص: 15

‌صور من الحياة:

قبعة. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

أتذكر - يا صاحبي - يوم لبست القبعة لأول مرة، يوم أن كنت ترسف في قيود أربعة: أبيك وهو جافي الطبع شيطاني الجبلة أرضي النزعة، وأمك وهي مستكينة واهية متداعية، ورئيسك وهو يستذلك بفضله وأياديه، وعميدك وهو يتخذك صنيعة له وداعية لأغراضه. لطالما استيقظت كرامتك فتراءيت في عين نفسك سقيم الوجدان مستلب الرأي والإرادة، وكنت لا تجد خلاصاً إلا أن تعق والديك فلا تزورها أبداً ولا تعني بأمرها، وإلا أن تستخذي لرئيسك وأن تتودد لعميدك عسى أن تكسب الرضا أو تدفع الأذى.

ورأيت الميناء يموج بالسفر من كل جنس، وإلى جانب كل مسافر ثلة من الأهل والأصدقاء يودعون وينصحون ويشجعون. وإن كلمات الوداع الحارة لتصاعد حواليك تصك مسمعيك، وإن عبرات الحب والإخلاص لتنهمر هنا وهنالك على خطوات منك لتكون قذى في عينيك. ولكنكأنت لم تجد صاحباً واحداً يرفه عنك وينفث فيك من روحه ومن شجاعته ومن حبه، فوقفت وحيداً تنظر.

وتحركت الباخرة فوقفت على ظهرها جامداً ترمق أرض الوطن وهي تتوارى خلف الأفق فما نبض قلبك بشوق ولا خفقت روحك بحنين ولا جاشت مشاعرك بعاطفة. ثم وليت وجهك شطر الغرب، ورحت تتنسم أول نسمات الحرية - كرأيك - حين خيل إليك أنك ألقيت عن نفسك قيوداً أربعة كبلك بها الوطن.

ترى هل استمتعت هناك بالحرية التي افتقدت هنا؟

وتقبلك عميد الجامعة هناك بقبول حسن لأنك صنيعة معهد (كذا) الأجنبي، وإن جناب العميد لرجل علم وأدب وإنه لذو حيلة ودهاء، ولكن ماذا أفدت هناك؟

لقد عشت هناك مثلما عشت هنا: منقبض الأسارير تأنس بالوحدة وتطمئن إلى الخلوة، تغدو إلى الجامعة وتروح إلى الحجرة، تصغي إلى الدرس - صدر النهار - في غير ملل، وتنكّب على الكتاب - شطراً من الليل - في غير ضجر، وإن عميد الجامعة هنا ليحبوك بعطفه ويغمرك بفضله لأنه يمتّ إلى عميد المعهد هنا بأواصر هي: الصداقة في الشباب

ص: 16

والأخوة في الدرس والوحدة في الجنس والتآلف في الرأي. وأنت هناك طالب الجامعة مثلما كنت هنا طالباً في المدرسة ترضى بالقليل وتقنع بالتافه، وأنت هناك خامل الذكر مثلما كنت هنا وضيع الهمة، وأنت هناك بعيد عن لذائذ الحياة ومتعها مثلما كنت هنا تعاني الحرمان والضيق. ولكن عميد الجامعة أراد فأصبحت، بعد سنتين، دكتوراً في الفلسفة. وتراءيت في عيني رأيك فيلسوفاً وجرفتك الكبرياء، فما كان يليق بك أن تكون رجلاً ممن يعيش فيمضطرب الحياة ونوازعها، وأنت ابن سقراط وترب كنت وصاحب ديكارت. ولكن، آه - يا صاحبي - لقد عجزت الفلسفة عن أن تسوّى منك رجلاً آخر غير الذي كان منذ سنين، إلا أن تلوي لسانك بكلمات لاتينية فتزيدك عيّا على عيك، إلا أن تشوب لهجتك لكنة أعجمية بغيضة إلى القلب والنفس فتضيف حمقاً إلى حمق فيك، وإلا أن تجهر بآراء هدّامة تحسبها حديثة مبتكرة فتضم سفهاً إلى سفه فيك. ثم. . . ثم جلست إلى في ندوة ثقافية في القاهرة تحدثني بآرائك قائلا (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة. دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقال تشل عقلي وتصعق خواطري وتبعث بأفكاري) فعجبت أن يكون هذا حديثك وأنت ابن الريف وثمرة الغيط وربيب الدين!

ماذا دهاك يا صاحبي؟ أفكان لسنتين أن تحولا عقلك من حال إلى حال فتنزل عن كرامتك وتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة، على حين قد عشت نيفا واربعين سنة في وطنك، عشتها جميعا نتنقل بين المدينة والريف، وأنت في المدينة لا تحس إلا العمل الشاق المظنى وإلا هذا الزقاق الضيق القذر الذي تسكن في ناحية منه، وأنت في الريف لا ترى إلا اهلك وهم من أواسط الناس وإلا دارك وان رائحة الروث لما تبرح تتأرجح في جنباتها. يا عجباً! فما بال الشباب يذهب إلى هناك ليعيش سنوات وسنوات، وهو في ثورة الشباب وفورة الصبا، يستمتع بالقوةوالتراث ويتألق في النضارة والذكاء. . . ما باله إلى وطنه فلا تحس في لسانه التواء ولا في كلامه لكنه ولا في آرائه جفوة، على حين أنه بلغ غاية العلم وتسنم ذورة الفلسفة.

قد كان لي أن أقول: لعل أضواء المدينة في الغرب قد خلبتك فمشى بصرك فما عدت ترى في الشرق إلا ذبالة توشك أن تنطفئ، أو لعل نور الثقافة الإفرنجية قد سلبك عقلك فما

ص: 17

أصبحت تلمس هنا - في الشرق - إلا ظلمات من الجهل تكثف بعضها فوق بعض، أو لعل بهرج الحضارة هناك قد طمس على قلبك فرحت تحتقر الوطن والدين واللغة. . . قد كان لي أن أتلمس لك عذراً في شيء من هذا لو أنك أخذت منها بنصيب أو ضربت فيها بسهم، ولكنك عشت هناك على حيد الحياة لا ترى إلا الكتاب والدرس والحجرة، ولا تحس إلا العمل المرهق، ثم. . . ثم الوحدة والحرمان.

ورجعت - يا صاحبي - إلى وطنك لتتلقفك قيودك من جديد. ولكن القبعة التي لبست ترفعت عن القرية وتسامت عن الريف، وأبوك شيخ همّ عصفت به السنون فانحطت قوته ووهى جلده فهو يرنو إلى عطفك ويصبو إلى حنانك، وأمك عجوز شمطاء قد عبث بها الزمن فتقوس ظهرها وسقطت أسنانها فهي تهفو إليك، وقلبها يرف حواليك. لقد ترفعت القبعة عن القرية في حين أنها تعبدك لرئيسك القديم واستخذت لعميد المعهد الأجنبي. وهكذا تحررت من قيدين لترسف في قيدين.

وجاءك رسول أبيك يقول لك (إن أباك يكاد يلفظ آخر أنفاسه، وإنه ليهتف باسمك بين الحين والحين، وهو في غمرة المرض ووطأة الحمى. . .) وأصغيت إلى الحديث - يا صاحبي - بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية؛ فما انطلقت إلى القرية إلا حين جاءك البرق يقول (مات أبوك اليوم) مات أبوك وفي قلبه شوق يتأجج لأن يرى ابنه العاق.

وجلست إليك أمك في ضعفها وشيخوختها تستجدي عطفك ورجولتك، فأصغيت أنت إلى حديثها بأذنك، وقلبك في شغل لا يحس معنى الإنسانية. وجرفتك كبرياء القبعة فاستوليت على ميراثك من أبيك وهو ضئيل، ثم طرت عن القرية إلى الأبد لتذر أمك وحدها. . .

وجئت أنا - بعد أيام - لأعزيك في أبيك، فألفيتك تبسم - لأول مرة في حياتك - وأنت مسفر الوجه طلق المحيا. لقد كان يخيل إلى أنني سأراك منكسف البال شارد الذهن وقد أرمضك الحزن وهدّك الأسى، يفريك الندم على أن قصرت في حق أبيك، وامتهنت أمنيته الأخيرة وهو على فراش الموت. فما بالي أراك في نشوتك وسرورك لا يعنيك إلا أن تظفر ببعض ماله؟ لقد تراءيت في ناظري رجلاً نزل عن رجولتك وإنسانيته وكرامته في وقت معاً، فكرهتك واحتقرتك.

يا لقلبي! إن في الحياة أناساً يتشحون بثوب الإنسان وإن ضلوعهم لتنضم على مثل روح

ص: 18

الثعلب! آه لو انسلخوا من إهابهم لتكشف نفوسهم عن مثل نتن الجيفة!

وهناك، في البلد الأجنبي، تعلمت فلسفات ثلاثاً نبعث كلها من القبعة التي لبست بعد أن نيّفت على الاربعين: فلسفة العقوق والجمود، وفلسفة الكفران والكنود، وفلسفة الاستسلام والخضوع. . .

وتلقفك هنا رئيسك وعميدك معاً. أما رئيسك فموظف كبير في الحكومة ذو شأن ومكانة، وأما عميدك فرجل أجنبي ذو جاه وسلطان. وتنازعك الرجلان حيناً، ثم ظفر بك العميد. ظفر بك لتتحدث بلسانه وتفكر برأيه وتتفلسف بعقيدته، ولتنفث سموم جنسه في شباب الجيل، ولتعلم النشء أن القبعة شيء مقدس يستهوي العقل ويسجد له الفكر، على حين أنها شيطان يتوثب مكراً وخداعاً.

وجلست إلى تلامذتك توحي إليهم بفلسفة القبعة. وبدا لأعينهم ما يتوارى خلف كلماتك فتلاقت نظراتهم في عجب، وتقابلت ابتساماتهم في سخط، ثم انصرفوا من لدنك وعلى ألسنتهم كلمات الاحتقار والسخرية. لقد سخروا منك أنت أيها الفيلسوف العظيم لأنك أردت أن تمكر بهم وتستلبهم من الوطن والدين واللغة فما انطلى عليهم أسلوبك ولا خدعتهم فلسفتك. وقال واحد منهم: إن أستاذنا الفيلسوف قد لبس القبعة ذات مرة. . . لبسها لينزل عن كرامته، ولينبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة. . .

كامل محمود حبيب

ص: 19

‌الغريزة

للدكتور فضل أبو بكر

الغريزة عبارة عن ميل خاص ونزعة مجبولة في نفس الكائنات الحية منذ ظهورها إلى عالم الحس والوجود. وقد تكون نتيجة المعرفة وليدة التجارب حيناً، كما قد تتجرد عن كل ذلك في معظم الأحيان، وأن ذلك الميل وتلك النزعة تمليهما ضرورة الحياة والكفاح من أجلها.

ذلك الميل وتلك النزعة يتجليان في صورة نشاط تبدو بواكره في مستهل حياة الكائن، ويكون أشبه بالنشاط الفسيولوجي كما يظنه الإنسان لأول وهلة نتيجة لعقل أوروبية. وعمل الغريزة يكون أوضح في الحيوانات ولا سيما الدنيا منها مثل الحشرات مثلا.

أما موضوع الغريزة، فهو من المسائل التي كثر حولها الجدل وتضاربت الآراء إلى حد بعيد، إذ يرى البعض فيها عملا آلياً ميكانيكياً كعمل الساعة، أو فسيولوجياً بحتاً غير إرادي كعملية الهضم، وفريق آخر يعتبرها ناتجة عن معرفة وفهم، أو على الأقل فيها مسحة من الذكاء.

كذلك هم يتساءلون مختلفين عن نشأتهم ووجودها في الكائن: يظن البعض أنها تنشأ كاملة من أول وهلة ومن غير حاجة إلى صقل وتهذيب. ويقول البعض إنها تولد ناقصة بدائية ثم تنمو وتتطور بنمو الكائن. ويقف فريق آخر موقفاً وسطاً بين هذا وذاك ويعتقد بأن بعض الغرائز - وهي الموروثة - تولد كاملة من غير حاجة إلى تطور، وبعضها - وهي المكتسبة - تكون ناقصة تتم وتكتمل شيئاً فشيئاً بمرور الزمن.

يقف الإنسان حائراً إزاء هذه الآراء المتضاربة المتنافرة، وسبب هذا التنافر - كما اتضح أخيراً للباحثين - هو أن بعضهم يخلطبين الغرائز وبين بعض المظاهر الحيوية الفسيولوجية لما يوجد بينها من تشابه يشتد في بعض الأحيان. وأول من ألمع إلى هذا اللبس هو العالم السيكولوجي البلجيكي (لوي فرلين) وفرق بين الغرائز والظاهرات الفسيولوجية، وأن هذه الظاهرات وإن كانت في بعض الأحيان تحتم وجود الغرائز وتدعو لخلقها إلا أن هنالك عوامل أخرى غير العوامل الفسيولوجية كما سيتضح لنا جلياً فيما يلي:

خواص الغريزة ومميزاتها:

ص: 20

يقول البعض إن الغريزة لها صفة (نوعية) بمعنى أن كل الحيوانات التي تنتمي إلى نوع واحد تشترك في الغرائز، ويكون عمل الغريزة فيها بطريقة واحدة، والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها أن لحشرة الزنبور نحو ألف من الأنواع، وكل نوع له طريقته الخاصة في صيد الفريسة التي يقتات منها، فالنوع المسمى يفترس حشرة من ذوات الأربعة أجنحة، والتي تعيش على البقول الجافة والحبوب واسمها النوع من الزنابير - وكل الأفراد التي تنتمي إلى نوعه - له طريقة خاصة فيما يتعلق بالصيد، إذ يلسعها ويحقنها بمادة يفرزها، ومفعول هذه المادة هو شل حركة الفريسة فقط دون موتها، ثم ينقلها إلى مأواه ويبيض عليها، حتى إذا ما فقست البويضات، وجد صغار الزنابير طعاماً جاهزاً من دون سعي ولا مشقة. ونوع آخر من أنواع الزنابير هو دائماً على حشرات الذباب، وضرب آخر منها هو لا يأكل غير حشرات العنكبوت، إلى غير ذلك من الأنواع الكثيرة ولكل نوع طريقة خاصة في اقتناص الفريسة ونوع الفريسة.

كذلك لكل نوع طرقة خاصة فيما يتعلق بالمسكن، فمنها ما يحفر جحره في هامات الصخور، أو على أديم الأرض، أو فوق الجدر والحيطان، أو جذوع الأشجار؛ ومنها ما لا يحفر ولا يشق، ولكنه يعيش في مخابئ طبيعية بين لحاء عيدان الأشجار، أو داخل ما تجوف من الأصداف والمحار.

غير أن نوعية الغريزة لا يمكن أن نقبلها إلا بشيء من التحفظ، إذ هي ليست بنوعية مطلقة، ولكنها نسبية لحد ما، تعتريها بعض الشواذ، كما أشار إلى ذلك (فرلين) بعد تجاربه التي أجراها في الإناث من طير الكناري تولد في أقفاص الأسر، وجد أن بعض الإناث لا تكون عندها غريزة بناء العش كاملة، إذ تبني عشها بطريقة مشوهة ناقصة، وقد تخفق إخفاقاً تاماً، بينما البعض الآخر - وهو من نفس النوع - يعشعش بطريقة عادية تامة. كذلك يروي العالم السيكولوجي (أشيل يوربان) في كتابة (سيكولوجية الحيوانات المتوحشة) بأن لأشبال الأسود وصغار الفهود عادات وغرائز ليست ثابتة كما هو المتوقع.

هذا، ونجد العكس في بعض الحيوانات والحشرات بمعنى إنه رغماً من انتمائها إلى أنواع مختلفة، تتحد في بعض الغرائز أحياناً كعادة تصنع الموت، وهي حيلة تلجأ إليها بعض الحيوانات والحشرات بقصد الدفاع أو الهجوم. مثال ذلك حشرة من ذوات الأربعة أجنحة

ص: 21

حمراء مبرقشة بنقط سوداء، وهي أشبه شكلا بحشرة (الجعران) وهذه الحشرة اسمها وإذا ما أسرها الإنسان ووضعها على كفه مثلا أو فوق سطح مستو، فإنها تستلقي على ظهرها وتقبض أرجلها ولا تبدي أي حركة أو علامة للحياة، وإذا ما تركتها وشأنها استعادت حيويتها وأطلقت أنفاسها ثم ولت هاربة طلباً للنجاة. وهذه طريقة دفاعية مدهشة حقاً قد يحسدها عليها الإنسان في بعض الأحيان كما أن هنالك بعض الحيوانات من ذوات الثدي أشبه بالفار الصغير واسمه لأنه لا يأكل شيئاً إلا إذا غمسه وغسله في الماء، ويسميه الأنجلوسكسون النوع من ذوات الثدي يلجأ إلى نفس الحيلة ويشترك مع الحشرة المذكورة في هذه الغريزة، ولكنه يستعملها طريقة للهجوم على صغار الطيور.

نشأة الغريزة:

يقول عالم الحشرات الفرنسي (فابر) بأن الغريزة تولد كاملة منذ وجود الحيوان وعليه فهي ليست في حاجة إلى صقل وتهذيب مستشهداً بما أجراه من تجارب في مجموعة من حشرات الفراش والزنابير؛ غير أن الكثير من العلماء نذكر منهم (بول مارشال) لا يرى رأي (فابر) إذ يقول (مارشال) بأن بعض إناث الزنابير وإن كانت حقيقة كما شاهد (فابر) بأنها تلسع الفريسة لسعة من غير أن تميتها ثم تتركها لصغارها لتأكل منها طعاماً شهياً يقيم الأولاد ويسد الرمق بعكس ما إذا كانت الإناث تميت فريستها وتتركها جثة هامدة، إذ يكون الطعام في هذه الحالة أقل إثارة للشهية وأضعف قيمة غذائية، كما أن هذه الغريزة عند إناث الزنابير والتي تبدو لأول وهلة وليدة عقل مدبر؛ إلا أنه يظن أن الإناث لم تصل إلى هذا الحد من الإتقان إلا بعد مرور أزمان سحيقة خلال تطورها ونشوئها.

كذلك العالم البيولوجي الإنجليزي (بريد) يعتبر الغريزة ناقصة في أول نشأة الحيوان تتطور وتنمو بنموه. مثال ذلك ما نشاهده في صغار الدجاج إذ هي لا تجيد في حداثتها عملية (التنقير) الأزمة لقوتها، فتراها تخطيء كثيراً حين تنقر الحبوب إذ لا تصل إلى هدفها إلا بعد محاولات ثم تزداد مهارة شيئاً فشيئاً خلال نموها.

ويوافق (بريد)(فرلين)؛ إذ هو أيضاً يؤمن بتطور الغريزة؛ إذ شاهد أن إناث بعض الطيور لا تتقن بناء الأوكار في حداثتها ولا تصل إلى حد الإجادة إلا بعد أن تبلغ من عمرها حداً يؤهلها لذلك.

ص: 22

غاية الغريزة وأهدافها:

إن المرمى البعيد الذي تهدف إليه الغرائز إنما هو بقاء النوع على مدى الأزمان. وتتخذ لذلك عدة وسائل: منها ملائمة البيئة، وهي غريزة سبق أن تكلمنا عنها في مقال سابق وتعرضنا إلى آراء (دروين) و (لامارك) و (اسبنر) فيما يتعلق بها. ونضيف إلى ذلك أنه كلما كان الحيوان أرقى كانت ملاءمته للبيئة أوضح وأكبر. وعلى ذلك فهي عند الطيور دائماً ملاءمة البيئة في بناء أوكارها من حيث طقس المكان الذي تعيش فيه وباختلاف الفصول في ذلك المكان. أما عند الحشرات فهي أقل وضوحاً. مثال ذلك ما شاهده (فرلين) في بعض أنواع الحشرات التي تبني بيوتها من الطين أو الصلصال، يقول (فرلين) إذا أدخل بعض التعديلات داخل تلك البيوت فإن بعض الحشرات لا تعيره انتباهاً وتستمر في حياتها كما لو لم يحدث شيء؛ ولكن البعض الآخر - وهو من نفس النوع - لا يحلو العيش ولا يطيب له المقام في هذه البيئة الجديدة فيعيد هندسة ويقدم ما قوض من أركانه مهما طال أمد التجربة ومهما كلفه من مشقة وعناء.

قلنا إن المرمى البعيد للغريزة هو بقاء النوع فهي في خدمة النوع أكثر مما هي في خدمة الفرد، ولو تراءى العكس في بعض الأحيان. والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما شاهده (فابر) و (فرلين) في هذه الحالة إذ تبين لهما أن إناث الدبور عند ما تدخر لصغارها الحشرات التي تشلها وقبل أن تفقس البويضات وتظهر الصغار إلى عالم الحس والوجود في هذه الفترة شاهد أن الإناث قد تجوع وتشتد بها غائلة الجوع إذ يندر الصيد أحياناً ويتعذر الطعام. وقد شاهدا أيضاً أن تلك الإناث تلف وتدور حول الفريسة المشلولة وتتلمسها في حالة عصبية. ولم يشاهد قط عنها أن التهمت ما نذرته لبنيها من طعام، فتؤثر بنيها على نفسها رغماً عما بها من خصاصة وحرمان.

غير أن (أشيل بوربان) في كتابه سيكولوجية الحيوانات المتوحشة يقول أن هذه القاعدة قد ينتابها بعض الشذوذ أحياناً، إذ شاهد بعد تجارب أجراها في بعض الحيوانات المتوحشة المأسورة لهذا القصد، شاهد بعض إناث النمور والأسود والدببة تتخلى عن صغارها يوم ولادتها وتنفر منها نفوراً تاماً، وسمى هذه الظاهرة الشاذة (بالغريزة الضالة) وقد عزاها غير إلى حالة مرضية تنتاب تلك الإناث. وقد يكون الأسر دخل في ذلك وشبهوها بما

ص: 23

يحدث للمرأة النفساء أحيناً بما يسمى (جنون الولادة) وهو نوع من الذهان والهلوسية الحسية والشعور بالاضطهاد يقودها إلى التخلي عن مولودها بل وقتله إذا اشتدت وطأة الداء ولم تتخذ الاحتياطات اللازمة بإبعاده عنها.

وهنالك ظاهرة أخرى غربية تشبه من حيث الشذوذ - الغريزة الضالة وتسمى (بغريزة الروتين) بمعنى أنها لا ترمي - كغيرها من الغرائز - إلى هدف يستفيد منه الحيوان وهو ما نشاهده عند الكثير من الكلاب وهي عادة دفن الأطعمة كاللحوم أو العظام أو غيرها بعد أن تحفر له حفرة بمخالبها الأمامية ثم تواريه التراب. وقد تلجأ أو لا تلجأ إليه بعد ذلك مع أن بعض الكلاب التي تفعل مثل هذا قد تكون كلاباً مدللة من أصحابها ولم تعرض إلى الجوع يوماً ما!!

ولكن (روسل) يقول إن الكلاب إنما تخبئ ما زاد على حاجتها وتدخره مهما توفرت الأطعمة، وفي هذا شيء من بعد النظر بلا شك، وهو ما يطابق المثل العربي الذي يقول:(أن ترد الماء بماء أكيس).

قد يكون (روسل) مقبولا لحد ما، ولكن هنالك فريقاً من الكلاب يدفن أشياء غير قابلة للأكل مثل الحجارة، أو قطع الأخشاب، أو الملابس، وهو يدفنها بنفس الاهتمام كما لو كانت ذات فائدة غذائية. وفي هذا المثل الأخير تتضح غريزة الروتين بصورة أوضح. ثم إن الكلاب في دفنها الأشياء من غذائية أو غير غذائية تختلف، فتارة تلجأ إلى مكان بعيد وتختفي عن الأنظار، وتارة تدفن ما تريد بمرأى ومسمع عن الناس بغض النظر عما إذا كان المدفون مما يؤكل أو مما لا يؤكل!!

أسباب الغريزة ودوافعها:

إن للغريزة أسباباً داخلية وأخرى خارجية مؤثرة على الحيوان. ويقول (رابو) إن عمل الغريزة يتوقف على استمالات خارجية ومؤثرات حسية، فإناث بعض الحيوانات حين تتهيأ للحبل وتكون في حالة فسيولوجية قابلة له تبعث منها روائح خاصة من شأنها جلب الذكور وإغرائها جنسياً، وحاسة الشم عند تلك الحيوانات تلعب دوراً أهم من غيره فيما يتعلق بالناحية الجنسية، والدليل على ذلك ما قام به (فابر) من تجارب. وضع (فابر) أنثى من أنواع الفراش هو ما يسمى داخل إناء مقفل الجوانب عدا نافذتين صغيرتين تسمحان

ص: 24

للهواء بالمرور ووضع الإناء وما يحوي في مكان منعزل، فوجد بعد مضي ثلاثة أيام نحو ستين من ذكور الفراش تلتف حول الإناء لما ينبعث منه روائح جلبت ذلك الجيش من الذكور، ثم وضع بعد ذلك نفس الأنثى في إناء من زجاج يشف عما بداخل الإناء، ولكنه محكم القفل لا يسمح بمرور الهواء، ثم تركه في مكان منعزل مدة ثلاثة أيام، فلم ير غير اثنين من الذكور، وقد أجرى العمليتين عدة مرات، وكانت النتائج دائماً واحدة. أما لدى بعض الحشرات مثل العنكبوت، فإن حاسة السمع تلعب دوراً أهم من غيره من بقية الحواس، إذ تعتمد عليها في اصطياد الفريسة.

من هذا يحق لنا أن نقارن عمل الغريزة بظاهرة عبارة عن قوة طبيعية تؤثر على الكائن وتجذبه إليها فتكون إيجابية، أو تصده عنها وتقصيه فتكون في هذه الحالة سلبية مثل ذلك (الجذب الأرضي)، إذ يكون إيجابياً في النبات بالنسبة للأصول والعروق، إذ هي تتجه نحو الأرض وتندفن في جوفها، وسلبياً بالنسبة للسيقان والجذوع والأوراق، إذ تتجه اتجاهاً مضاداً وتنفر عن جوف الأرض، وكذلك ظاهرة (الجذب الضوئي) تكون في النبات عكس ما يحدث بالنسبة إلى ظاهرة الجذب الأرضي.

كذلك نشاهد مفعول تلك الظاهرة، أي بعض أنواع الحشرات من ذوات الأجنحة النصفية تعيش على عصير النباتات واسمها فإذا وضعتها في مكان فهي تتجه دائماً نحو النور. وكذلك نوع من أنواع الذباب الروائح الأثيرية والحمضية المنبعثة من الفواكه المختمرة، وهذا ما يسمونه بالجذب الكيمائي.

وقد حاول العالم الإنجليزي (لوب) تعليل مثل هذه الظاهرات، ولكنه عللها تعليلا ميكانيكياً خالياً من الإدارة، بل ومن مظاهر الحياة، وزعم بأن كل أنواع ما هي إلا إحدى مظاهر الجاذبية العامة خاضعة لها، وهي كذلك أشبه بالجذب المغناطيسي.

لقيت آراء (لوب) شيئاً من الرواج حيناً ولكنها هوجمت وتبين خطأها. خذ مثلا حشرة العثة فهي تنجذب نحو النور ولكن حين يحين موعد البيض تبحث عن مكان مظلم لا يتطرق إليه بصيص من نور. والأمثال كثيرة في هذا الصدد مما دعا الباحثين إلى أن يعتقدوا بأن عملاً ميكانيكياً كما يظن (لوب) وأن الغريزة ليست إلا نوعاً منه كما كان يعتقد.

ص: 25

كذلك توجد عند الحيوانات غريزة التوجيه تعتمد فيها على الذاكرة وعلى حاسة البصر أكثر من سواها من الحواس؛ فإذا فصلت النحل من خلاياه وباعدت بينه وبينها نحو أكثر من أربعة كيلو مترات ثم أطلقت سراحه بعد ذلك فإنه يرجع بسهولة إلى خلياه من غير ما يضل طريقه إليها، كما تتفاوت درجة غريزة التوجيه لدى الحيوانات.

الغريزة والعقل:

رأينا مما تقدم أن الحيوانات حتى الدنيا منها مثل الحشرات كالنحل والزنبور والطيور تقوم بأعمال يظنها الإنسان لأول وهلة ناتجة عن عقل مفكر مدبر مما دعا إلى الخلط بين العقل والغريزة في كثير من الأحيان. فبرجسون يقول إن العقل والغريزة ينشآن جنباً لجنب ويتشابهان في كثير من الأحيان ويكمل بعضها عمل البعض الآخر ولكنهما يختلفان في كثير من الأوجه، ويعتقد بأن الغريزة أميل إلى الآلية وإن كانت لا تخلو من مهارة وشيء من الإلهام.

فالغريزة تتوغل داخل الأشياء، بينما العقل يطرقها من الخارج ويعلم ما يربطها ببعضها البعض، فهو يبتكر ويحلل ولكنه مع ذلك يفتقر إلى موهبة فلسفية وفنية لفهم الحياة على وجهها الصحيح.

كذلك كان يظن (أسبنسر)(ودانتك) بأن الغريزة عبارة عن صفة فسيولوجية يرثها الفرد من النوع الذي ينتمي إليه؛ ولكن المتفق عليه الآن هو أن الغرائز عبارة عن ميول سيكولوجية وفسيولوجية بعضها موروث وآخر مكتسب، تولد ضعيفة مترددة ثم تتهذب وتنصقل بنمو الحيوان.

ولنذكر الآن بعض الغرائز عند الإنسان:

غريزة الملك:

وهي تظهر جلياً عند الطفل إذ يحاول أن يمتلك كل ما تمتد إليه يده أو يقع تحت بصره. وسبب ذلك تنازع البقاء وطلب الخلود؛ وهذه الغريزة تشمل عدة غرائز أخرى مثل غريزة الصيد؛ فإذا أتيحت للطفل الفرصة أن يقتحم عشاً للطير أو قفصاً للدجاج فإنه يأسر صغارها ويستولي على بيضها، كما يحلو له أن يتصيد الحشرات مثل الجراد والفراش

ص: 26

وتبدو عليه سيماء الغبطة؛ وقد يكون ذلك بدافع من غريزة التملك أو يكون ذلك نتيجة لبقايا وآثار وراثية كامنة في نفسه وقتما كان الصيد ضرورة حيوية للإنسان الأول يقتات منها.

غريزة الحروب:

كثيراً ما نشاهد الأطفال من مختلف الأجناس والبيئات مولعين بتنظيم صفوفهم في هيئة جنود محاربة، ويشنون الحرب بعضهم على بعض متسلحين بالطوب والحجارة أو العصي الرفيعة في حرب هجومية قد يكون الدافع لها غريزة التملك إذا كان هنالك من الأشياء ما ينازعون من أجله ويود كل فريق أن يكون له دون غيره، أو بدافع حب السيطرة، أو تكون حرباً دفاعية بمواعز من غريزة حب البقاء.

غير أن بعض السيكولوجيين يرى في حروب الأطفال هذه عاملاً جنسياً؛ إذ أن الطفل يتهيأ بهذه الحروب الصغيرة إلى حرب أكبر وهي حرب الغرامية بكرها وفرها، بعنفها ولينها، مع المرأة، أو حرب دامية من أجل المرأة إذا ما حاول غيره أن يتملكها أو يغتصبها منه. غير أن هذا التأويل قد يكون بعيداً لا يخلو من المبالغة حتى أن (فرويد) نفسه الذي يعزو كثيراً من مظاهر سيكولوجية الإنسان إلى دوافع جنسية لا يرى في غريزة الحروب عاملاً جنسياً. ويقول فرويد: إن غريزة الحروب عند الأطفال ناشئة عن غريزة الاعتداء والميل إلى الخراب والتدمير.

الغريزة التناسلية

كان الرأي السائد قديماً أنها تبدو عند سن المراهقة، ولكن المسلم به الآن أنها تظهر عند الطفل وهو في مهده رضيعاً كما يقول (فرويد) كما تدخل في طور جديد عند ما يبلغ الطفل الخامسة من عمره، ومن الخامسة إلى أن يبلغ سن المراهقة يسمونه (بالطور الكامن) تكون فيه الغريزة مكبوتة بدافع من الحياء وحب قواعد الأخلاق والعرف، ثم بعد سن المراهقة بعامين أو ثلاثة يكون ميل الشاب أو الشابة أقرب إلى الحب الأفلاطوني والهوى العذري البريء إلى الحب المادي. والسبب في ذلك أن الشاب في مثل هذه السن يكون ميالاً إلى المثالية (والرومانتزم) وتحوله الأحلام وقد يتهرب من لقاء المرأة مكتفياً بالطيف محتقراً - إلى حد ما - الملذات الجسدية. وقد عزا السيكولوجي (مندوس) هذه الظاهرة إلى حصانة

ص: 27

من جانب الطبيعة ترمي إلى التراث حتى تنضج الأحياء الملقحة فتكون وقتئذ أقدر على أداء وظيفتها. وقد شرح (مندوس) هذه الظاهرة وغيرها في كتابة الممتع (عقلية المراهق).

والغريزة التناسلية كما يعلم الجميع ترمي إلى بقاء النوع. وكلما كان الكائن الحي من حيوان أو نبات ضعيفاً كان لزاماً عليه أن يكثر من النسل؛ لأن أغلب ذراريه - لضعفها - عرضة للفناء على حد قول الشاعر العربي:

بغاث الطير أكثرها فراخا

وأم الصقر مقلاة نذور

دكتور فضل أبو بكر

عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا

ص: 28

‌منادمة الماضي:

الإسكندرية في عصورها الإسلامية

للأستاذ أحمد رمزي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

فهذه الإسكندرية التي يحاول البعض أن تطغى على عروبتها كليوبطرة والبطالة الأغارقة! هي كما ترى في تاريخنا الحي الذي ننحدر من أصلابه: كانت موئل المجاهدين والمقاتلين والمثاغرين الذين لم ترهبهم قوة الحدثان، ولا أخافهم بأس العدو ولا هد من عزيمتهم توالي الخطوب.

ولذلك عاشوا وفي قلوبهم - كما قلت - نخوة وحماسة ودفعة، وفي أخلاقهم بأس المجاهدين والمرابطين، وفي عروقهم دماء أولئك الأبطال، الذين كانوا يقومون كل عام بالصائفة في بلاد الروم، ويحشدون الحشود إلى آسيا الصغرى وإنطاكية وثغورها. فأين هم والأغارقة؟!. ولماذا لا تسمي الأشياء بأسمائها؟!.

ومن الغريب أن أسلافنا لم يغمطوا القدماء حقهم!!.

فقد ذكر المقريزي في خططه: (أن المدينة أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعاً). ونقل عن وصيف شاه: (أن العمارة كانت ممتدة من رمال رشيد إلى الإسكندرية ومنها إلى برقة.) فكيف يأتي إلى عصرنا من يغمط حق أسلافنا؟ ومع هذا فالعمران الذي كان سائداً في القدم تولاه بعنايتهم المسلمون في أيامهم، فقد ذكر جغرافيو العرب أن هذا العمان يبقى وزاد بدليل ما جاء من وصف البلاد بين سخا والإسكندرية، وما ذكروه عن الحمامات والمساجد والأسواق على الطريق ووصفهم لزراعة الكتان ومعاصر زيت الفجل، وما كانت عليه المدينة من رواج الصناعةوالتجارة، واحتكارها للتوابل وطرق النقل بين الشرق والغرب. . فأين هذا مما يدعون من الخراب والفوضى وحشر هذا دائماً مع العروبة والإسلام؟!.

فإذا تركنا العصور الأولى ودخلنا العصور الوسطى كما يقولون: أراني على حق إذا أشرت إلى ما جاء به الدكتور جمال الدين الشيال في العصر المملوكي: من ذكره ما أدخل على نيابة الإسكندرية من محاسن ووصفه كيف كان يخرج نائبها بالموكب الرسمي من دار

ص: 29

الأمارة. وقد عدت إلى صبح الأعشى وقرأت ما كتب عنها وما ذكر من أنها نيابة جليلة ونائبها من الأمراء المقدمين وهي تضاهى في الرتبة نيابة طرابلس الشام، وجاء فيه:(فإذا سار (النائب) إلى دار النيابة. . . وضع الكرسي في صدر الديوان مغشى بالأطلس الأصفر ووضع عليه سيف تمجاه سلطانية ومد السماط تحته).

لقد أنصف قسم التاريخ - في شخص الدكتور الشيال - الإسكندرية لأول مرة، وانصف فيها تاريخ مصر الإسلامي. وكم يكون عمله مستكملاً لو كشف لنا أسماء النواب ابتداء من سنة 767 هجرية أي في الدولة الأشرقية شعبان إلى زوال الدولة المصرية بانتهاء حكم الغورى.

إنه ليسهل الحصول عليها في نظري، فقد اطلعت في عصر الملك الظاهر برقوق من حوادث يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة 789 هجرية (ديسمبر 1387 - يناير 1388 ميلادية):(خلع الملك الظاهر برقوق على الأمير زين الدين أمير حاج بن الأمير علاء الدين مغلطاي وولاه نيابة السلطنة بثغر الإسكندرية عوضاُ عن الأمير بجمان المحمدي بحكم عزله. وفي يوم الجمعة 12 ذي الحجة توجه طلب الأمير زين الدين أمير حاج إلى ثغر الإسكندرية نائباً بها).

وممن ولى نيابة الإسكندرية بزلار بن عبد الله العمري المتوفى سنة 791 هجرية ترجم له القاضي زين الدين طاهر بن حبيب فقال عنه: (كان أميراُ لطيف المقالة وافر الهمة والشجاعة في كل ملحة شديد القوة في اللعب بالسمهري والحسام نصيب سهامه كل غرض بصوبها عليه).

فهؤلاء رجال الحكم في العهد الإسلامي، وأعتقد أن أسماءهم جديرة بأن توضع على الطرق والشوارع، بل هي أولى من الأسماء الأعجمية التي يواجهها كل من زار الثغر الإسكندري؟ فينظر أليها ويتأسف.

إنني واثق من أن جامعة فاروق ستكشف صفحات خالدة في تاريخنا القومي للمدينة، وتغير رأي الناس فينا.

أكتب هذا وانتظر الشيء الكثير من معهد الإسكندرية الديني وأؤمل أن يبعث رجاله وعلماؤه الحياة في التراث الديني للثغر الإسكندري لكي نتعرف إلى أئمته لزيارة قبورهم

ص: 30

وتبهرنا آثارهم وما خلفوه من ورائهم.

وإليك قطرة من بحر زاخر بالأحبة من السلف الصالح، قطرة من أوائل القرون الأولى:

في 177 هجرية توفى بالإسكندرية عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني صاحب أبي هريرة.

135 -

(توفي أبو عقيل زهرة بن معبد بالإسكندرية عن سن عالية. قال الدرامي زعموا أنه كان من الإبدال روي عن أبي عمر وابن الزبير.

167 -

(في أبو شريح عبد الرحمن بن شريح المعافري بالإسكندرية روى عن أبي قبيل وطبقته وكان ذا عبادة وفضل؛ قال السيوطي في حسن المحاضرة ذكره ابن حيان في الثقاة.

181 -

(ومات بالإسكندرية يعقوب بن عبد الرحمن القارئ المدني روى عن زيد بن اسلم وطبقته.

281 -

(توفي العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المواز الإسكندراني المالكي صاحب التصانيف اخذ عن أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم وانتهت إليه رياسة المذهب واليه كان المنتهى في تفريع المسائل.

أين علماء الإسلام وحملة أنوار الشريعة المحمدية وأين قضاة الإسكندرية في هذا الزمن، بل أين أصحاب المذهب المالكي؟ ما لهم يخفون هذه الأنوار عنا وراء ظلال المتهجمين على تاريخنا الخالد؟

أقولها كلمة حق: يا قوم إن تسعة أعشار الأيمان قوة وصلابة وشجاعة في برج من أبراج مدينتكم وكان له شبا كان أحدهما يطل على البحر والآخر على المدينة وتردد عليه أسلافكم من الأكابر والأعيان والفقهاء يقرؤون ويستفيدون منه، فهل هد الاعتقال من عزيمته؟ وهل أنقصت الأيام وشدتها من حماسته وشجاعته؟ كان قوة من قوى الإسلام الدافعة، فليكن منكم فريق على سنته وإقدامه. . .

أقول هذا وأمامي أسماء من تولوا القضاء بهذا الثغر في عصور الإسلام الزاهية، أود لو يتسع المدى فأتكلم عن كل واحد منهم، أحقق عصره واخرج من كتب التراجم حياته وآثاره؛ ولا أخص أشهرهم ولا أعلمهم، وإنما بين يدي قضاة الملك الظاهر برقوق وبينهم القاضي جمال الدين الشهير بالحميدي الفقيه الحنفي تولى بعد القاضي همام الدين، ولو

ص: 31

شئت المزيد فارجع إلى ما تركه من آثار نجد أن ناحية القضاة الإسلامي ميدان لا يزال بكراً بطلب البحث والدرس والتقييد والإفاضة.

فإلى قضاة الثغر الوطنيين والشرعيين أوجه كلامي ففي عنق كل منهم أمانة. وما الفضاء الوطني إلا تكملة للقضاء الإسلامي وشعاع انبثق من أنوار ساطعة في فترة أربعة عشر قرناً من الزمن.

أما تاريخ الإسكندرية الحربي فهو صفحة من صفحات الخلود لم تكتب بعد. ولن أحدثكم عن عمل الإسكندريين في حروبهم وقتالهم، وأنما أكتفي بأن أشير إلى بطولة امتازوا بها خلال القرون الماضية وهي حماية الحصون والقلاع، وخدمة الأساطيل الإسلامية.

جاء في حوادث سنة 261 هجرية أن إبراهيم بن أحمد بن محمد ابن الأغلب ولي أفريقية وحسنت سيرته فكانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة، وبنى الحصون والمحارس على ساحل أبحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبته إلى الإسكندرية فيصل الخبر منها الإسكندرية في ليلة أو اكثر وبينهما مسيرة أشهر

وجاء في حوادث سنة 671: اهتمام الملك الظاهر يبيرس بأمر الشواني وكيف أمر بأعداد مائة منجنيق ونصبها على أسوار الإسكندرية.

وجاء ذكر أبطال من الرجال حذقوا رماية القوس من أهل الثغر واختصوا بحماية الأبراج؛ فهؤلاء آتي يوماً الظاهر برقوق واستعرضهم بالقاهرة تحت اسم رماة القوس بالرجل؟

ولست أعرف مدينة من مدن البلاد العربية ضاعت آثارها الإسلامية وأزيلت أغلب معالمها مثل الإسكندرية وقد حاولت أن أجد لذلك مبرراُ فلم أقدر: سوى تلك الرغبة التي نراها في عبادة المدينات التي انقرضت، واتهام المسلمين بأنهم قوم يسرع الخراب على أيديهم. فأسوار المدينة في العهد الإسلامي وأبراجها قد أزيلت؛ وكانت بقايا باب رشيد لا تزال قائمة فإذا بمكانها يستعمل حديقة عامة؛ وتحت شعار أن القبور لا تحوي أصحابها أزيلت معالم المدينة الإسلامية وقبور العلماء والأولياء والصالحين، وكل ما يذكرنا بماضينا: حتى أسماء الأحياء والشوارع قد تغيرت باسم التجديد. فكأنما قد ولدنا اليوم، وكأننا قد بعثنا وليس لنا ماض يذكر وتاريخ يعرف. ولولا عناية كريمة شملت قلعة السلطان قايتباى تستحق أن تحمد وتشكر، لبقيت جدرانها مهدمة ولزالت مع الزمن.

ص: 32

إن النهضة الصحيحة هي التي تستند على تاريخنا العربي وتذكرنا بأيامنا ومواقفنا، وأعيد ما سبق لي أن كتبته يوماً ونشرته:

(إننا معاشر الأمم الإسلامية أصحاب مجد وتاريخ وصوله على هذا الكوكب الأرضي، وهو تاريخ حافل بأيام العراك والكفاح والنصر والهزيمة، وهو في قوته وبروزه وأثره لا يمكن أن يقارن به تاريخ أية أمة من أمم الأرض مهما علا كعبها في الحضارة).

أحمد رمزي

ص: 33

‌كيف تقرأ كتاباُ؟

للأستاذ إيليا حليم حنا

كيف أقرأ كتاباً؟!

نعم كيف تقرأ كتاباُ تنغمس فيه فيستغرقك ويستولي عليك فتعيش في عالم كاتبه وتحيط نفسك بجوه، تشعر بإحساساته وشعوره وخوالجه التي هي عصارة عقله قلبه، وتحلق بروحك وفكرك في عالم علوي ساحر متجرداُ عن الزمن والمكان وكل ما يدور في محيطك المادي سائراً في دروب التفكير العميق منسجماُ مع الكاتب تحادثه وتناقشه بصوت عقلك. في هذا العالم الفكري المهيمن الأخاذ تستشف ما وراء الكلمات والسطور وترى غير ما يراه الناس وتحكم غير حكمهم وتحس إحساسا خاصاً بك وتصل إلى نتائج قد تكون مكملة لما قصد الكاتب، وهذه ناحية من نواحي الإبداع والتوليد لا تظهرها إلا الحمية الذهنية والتركيز الفكري والاندماج في جو الكاتب.

هذه هي القراءة التي أعنيها والتي توسع الفكر وتصقل الملكات وتغني النفس وتظهر ما تنطوي عليه من قوى الخلق والابتكار الكامنة وتخلق من الفرد العادي شخصاً ممتازاُ متفوقاً بمثل أرقى طبقات الذهن البشري.

والنقاط الآتية هي دستور القارئ الذي يرى في القراءة نموه الفكري وزاده النفسي، ويسعى إليها يقضي فيها أهنأ أوقاته وأحبها إلى قلبه كلما أراد الاستزادة والاستلهام.

1 -

لا تستفيد مما تقرأ إن لم يكن لك غرض من قراءتك؛ فلا تدع الكتاب يكون لذة عابرة بل اخزن من ثروته وأضف جديداً إلى معلوماتك وحياتك.

2 -

يجب أن تقرن القراءة بالتفكير يرمى فيه القارئ

إلى فهم ما يقرأ وحذفه وهضمه ولا يتأتى هذا إلا بالتجرد عن العالم الخارجي وحصر كل

انتباهه وتفكيره وانطوائه وتفكيره وانطوائه على نفسه وهو صامتاُ.

3 -

اقرأ بسرعة متفاوتة، فالعسير من الأفكار والآراء يحتاج إلى تأن حتى تنفذ إليه. والسهل أقراه بأقصى سرعتك في القراءة

4 -

إلى جانب الكتاب الذي تقرأه جهز كراسة تقيد فيها سوانحك الطارئة كما هي بغير تهذيب أو صقل حتى تفرغ من قراءة الكتاب، فتعود إليها تصوغاً صوغاُ مناسباً. ولكن لا

ص: 34

تدع هذه الخاطرة تفلت وتطير.

5 -

إذا آتتك فكرة تجلو غوامض موضوع سبق قراءته فبادر بكتابتها حتى لا تضيع فبضباب الذاكرة المطبق لئلا تفر ويتقطع أثرها.

6 -

إذا عرضت لك فكره وسلكت بك طريقاً جديدة من التفكير فدع عقلك يسبح طليقاً مسجلاً تفكيرك حتى تفرغ منه ثم تعود إلى الكتاب.

7 -

اكتب ملاحظاتك واستنتاجاتك التي تعن لك على هامش الكتاب - إذا كان ملكك - وضع الخطوط تحت الأفكار والقطع التي ترغب في تذكرها بصفة خاصة.

8 -

لاحظ كيف تسير النقاط الفرعية ومقدار انسجامها مع الغرض الرئيس ثم سجل الفكرة الرئيسية في كل جزء مما تقرأ وضع علامة استفهام أمام النقاط التي صعب عليك فهمها أو التي تريد أن تتوسع فيها واكتب ملخص الفكرة التي استخلصتها من الجزء الذي تقرأه وسجل كل ما يخطر ببالك من الأسئلة والأفكار.

سجل الآراء الجديدة التي هي نتاج تفكيرك وضع تحتها الحرف الأول من اسمك أو علامة تدل على أنها لك.

9 -

لا تنتقل من فكرة إلى فكرة دون غاية ودون رابطة معقولة بين الأفكار حتى تشعر بلذة التفكير وتنساق مع الكتاب في عالم فكري جميل وقد حصرت كل انتباهك وتأملك دون أن تشعر.

10 -

لا تأخذ كل ما تقرأ قضية مسلمة بل زن أهم الآراء وانقدها نقداً بريئاً ثم احكم عل كل منها حكماً مجرداً عن الأهواء على ضوء معلوماتك السابقة واربط الماضي بالحديث فيتحول إلى فكرة جديدة مستقلة بعد أن تعمل فيها تفاعلاتك الذهنية وتجاربك. قف عند هذه الفكرة متسائلاً (ماذا عسانا أن تستخلص منها لأنفسنا وللإنسانية من فائدة عملية؟).

11 -

بعد الفراغ من قراءة الكتاب حاول في اليوم التالي أن تكتب بإيجاز رأيك عنه وما يعن لك من آراء حرة في الموضوع وسيدهشك انك تكتب عنه أكثر مما قرأت فيه؛ وتنساب الأفكار على القرطاس سلسلة طبيعة لا التواء ولا صعوبة في تسلسلها كأنك تنقل من صفحة أمامك بل أسهل؛ ذلك لان العقل الباطن يشتغل بالموضوع في الوقت الذي يبدو لنا فيه أن عقلنا الظاهر في دعة وخمول.

ص: 35

12 -

إذا كان موضوع الكتاب قد أثار اهتمامك فاجعل هذا حافزاً للاستزادة من نفس الموضوع في كتب أخرى.

13 -

إذا كنت لا تعرف شيئاُ عن الكتاب الذي تريد قراءته فاقرأه بسرعة لتكون لك فكرة إجمالية عنه بعد ذلك انتقل إلى دراسة التفاصيل فيه أن أعجبك موضوعه.

14 -

ليكن رائدك (أقرأ وفكر واعمل) فإن أجمل صيغ الحياة وأجلها وانفعها هي التي يمتزج فيها نبل المثل الأعلى وجدوى العمل المحك، والعمل بغير ثقافة حركة بصيرة، والثقافة بدون عمل بصيرة مشلولة.

الأبيض - سودان

إيليا حليم حنا

دبلوم عال في التربية - دبلوم صحافة

ص: 36

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

ومضات فكر من وحي الربيع:

قلت لنفسي وجحيم يلفح الوجوه في يوم من أيام الأسبوع الماضي: أنحن حقاً في الربيع؟. . أين هو الربيع الذي يفيض على الحياة من رقة أنسامه، ويضفي على الأحياء من روعة أحلامه، ويوحي إلى الأقلام من سحر معانيه؟!.

الربيع في لغة الفن بسمة ترف على الشفة، وومضة تشع في العين، وفرحة تختلج في الشعور، وهمسة تحلق في فجاج الروح. . .

والربيع في لغة الطبيعة زهرة تفوح بالأرج، وطير يصدح على غصن، موجة تهدهد موجة، ونسمة تداعب نسمة، ونغم ينساب من خرير جدول. . فأين لغة الفن والطبيعة من لغة الواقع الذي نعيش فيه؟!.

الربيع عندنا حلم من أحلام اليقظة يستغرق فيه الخاطر ولا تراه العيون، وصفة من كتاب الطبيعة نطالعها في وجوم وحيرة، ونطريها في سكون وصمت. . ثم لا تثير بعد ذلك في حنايا الضلوع عاطفة!

وقلت لنفسي: إن أدبنا لو خلا من الروح فهو مظلوم. . أين الطبيعة الوادعة التي يستطيع في رحابها أن يتنفس، وأين الأفاق الحانية التي يتهيأ له في ظلها أن يعبر، وأين الأجواء الطليقة التي تمده بينابيع الجمال ليتدفق ويفيض؟!.

لا شيء في أيدينا من هذه النعم التي اصطفى بها الله أرضاً دون ارض، وخص بها سماء دون سماء. . . وبشراً يموجون في موكب الحياة دون بشر!!

من صفاء الطبيعة يستمد الأدب إشراقه اللفظ، ومن إشعاع الطبيعة يقبس الأدب حرارة العبارة، ومن ألوان الطبيعة يرسم الأدب جوانب الصورة، ومن توثب الطبيعة يحلق الأدب على أجنحة الفكر والخيال. . . ولكننا محرمون من الربيع في ريعانه، ومحرومون من عيد الطبيعة في أبانه؛ ومن هنا عاشت نفوسنا في حرمان من البهجة التي تفيض ولا تقطر، وعاش أدبنا في حرمان من الموهبة التي تبدع ولا تقلد، وانتهى بنا المطاف إلى لون من الفن الكئيب الذي ينقل عن الطبيعة الواجمة كال معنى حزين، وكل فكرة حيرى، وكل

ص: 37

مشهد قاتم. . . هناك حيث تلقى الحياة في خمارها الأسود الذي يحيل البسمات إلى أنات!

أدبنا المصري صورة من بيئتنا المادية. . . فيه ما فيها من طابع الكآبة والخمول، وفيه ما فها من صبغة التكرار والجمود، وفيه ما فيها من سمة المظهر البراق الذي يلوذ بالسطوح ولا يدرك الأعماق!.

إنك تظلم الأديب في مصر حين تدفع إليه بالقلم وهو محروم من مصادر الوحي، وتظلم الفنان في مصر حين تفرض عليه الإبداع وهو بعيد عن عناصر الخلق، وظلم هذه البقعة من الأرض حين تطالبها بإخراج العباقرة وهي خواء من منابع الإلهام!!

أدبنا في الخريف، ونفوسنا في الخريف. . . وذنبنا أننا نتلقف أنسام الربيع من صفحات الكتب ومن أفواه الناس!

ردود قصيرة علي رسائل القراء:

حقيبة البريد في هذا الأسبوع عامرة بالرسائل. . . بعضها شعر بعث به إلى أصحابه ليأخذ طريقه إلى صفحات (الرسالة)، وبعضها الآخر أسئلة من القراء وتعقيبات.

أما الرسالة الأولى فمن الأديب الشاعر يوسف جبرا وبها قصيدة اسماها (صرخة)؛ إنه يسألني عن رأيي في قصيدته قائلاً: (وإن كان فيها خروج على أدب يحول دون نشرها فلماذا لا تحرق (الدبكامرون) و (ألف ليلة) و (اعترافات جاك جاك)؟. .

أود أن أجيب الشاعر الفاضل بأنني من الذين يدينون بالقول المأثور:: ' ' الفن للفن. وقد كتبت في هذا الموضوع مقالاً في (الرسالة) تحت عنوان (دفاع عن الأدب) تعرضت فيه لرأى الفيلسوف الإيطالي نبدتوكر وتشه في أدب الاعترافات عامة وأدب جاك جاك على الأخص. هذا من جهتي، أما من جهة الأستاذ صاحب (الرسالة) فأعرض القصيدة عليه ليرى فيها رأيه. . . في نطاق فكرتها الفنية لا في نطاق روحها الشعرية، لأنها ترضيني في حدود هذا النطاق الأخير.

أما الرسالة الثانية فيها قصيدة أخرى للأديب الشاعر كيلاني حسن سند تحت عنوان (في طريق الحياة). . . في شعر الأديب الفاضل نفحات طيبة تنبئ عن موهبة، وسأعرض قصيدته على الأستاذ الزيات مع قصيدتين أخريين إحداهما تحت عنوان (ذكرى وربيع: للشاعر الإسكندري احمد محمود عرفه، والأخرى تحت عنوان (إلى السودان يا أماه)

ص: 38

للشاعر الدمنهوري عبد المطلب منجى.

وهذه رسالة خامسة من (كوستى - سودان) أشكر لمرسلها الفاضل (ع. م) ولعله الأديب الشاعر عبد الله موسى كريم تقديره، وأجيبه بأنني في انتظار رسالته الثانية لأرد عليه في رسالة خاصة. ورسالة سادسة من (أم رواية - سودان) يعرض علي فيها الأديب الفاضل محمد الحسن شاع الدين بالنيابة عن زملائه أعضاء نادي (أم رواية) الأدبي، أن يوجه إلى الأعضاء بعض الأسئلة الأدبية في كل أسبوع لأجيب عنها على صفحات (الرسالة) نظراً لخلو بلدهم من أديب (حجة) يرجعون إليه. . . إنني مع شكري الخالص لهذه التحية الكريمة يؤسفني جد الأسف إلا أستطيع تلبية هذه الرغبة الغالية نظراً لضيق وقتي من جهة، ولكثرة الموضوعات المحلية التي تحتاج إلى تعقيب من جهة أخرى. . .

وفي الرسالة الساعة يسألني الأديب الفاضل محمود احمد سعيد بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية عن بعض كتاب (الرسالة) القدماء، ولماذا اثروا هجر رسالتهم في خدمة الأدب والفن باختفائهم عن العيون والأسماع. . . الحق يا أخي أنني اعجب معك لهذا الاختفاء الذي لا اعرف سبباُ يبرره أو يدعو إليه! وانتقل إلى الرسالة الثامنة. . أن مرسلها الأديب الفاضل ع. ص العرابي من (ساحل سليم) يعقب على ما كتبه حول الصبي الأمريكي المقعد الذي أذاع نداء الحاجة إلى ذوى القلوب الرحيمة من إحدى دور الإذاعة الأمريكية بقوله:(إن هذا الصبي المقعد لو كان في مصر لما سمح له بالوقوف أمام باب الإذاعة، فما بالك بالوقوف أمام الميكروفون الذي اصبح وقفاً على المحا سيب والأذناب. . ومع ذلك يقولون أن الشرق شروق ونور وأن الغرب غروب وظلام)! أما الرسالة التاسعة فمن (العدلية)، يعبر فيها الأديب الفاضل مصطفى احمد عثمان عن رغبته في أن أفسح له طريقاً إلى صفحات (الرسالة) بعد استئذان عميدها في عرض نتاج قلمه. . إن ردي بعد شكره على كلماته الأولى التي خصني فيها بفيض من ثنائه، هو أن (الرسالة) ترحب بكل إنتاج أدبي يتسم بالنضج والأصالة بصرف النظر عن الأسماء والألقاب!.

وهذه هي الرسالة العاشرة والأخيرة يقول فيها مرسلها الأديب القاهري الفاضل عمر إسماعيل منصور بعد كلام طويل عن الأستاذ سلامة موسى: (أناشدك الله يا سيدي إلا تكتفي بما كتبت عن هذا الرجل. . . أننا نلح في الرجاء بأن تنزع عنه هذا الثوب الشفاف

ص: 39

الذي يضلل به المخدوعين والجهلة وضعاف)! وأنا أقول للسيد عمر أن الأستاذ سلامة موسى أهون من أن اشغل نفسي به وأشغل معي القراء، بعد أن كتبت عنه ما كتبت على صفحات (الرسالة)!

ولهؤلاء الأصدقاء جميعاً خالص الشكر وعاطر التحية.

حقوق الأدباء بين الرعاية والإهمال:

كتب الأستاذ توفيق الحكيم منذ أيام كلمة في (أخبار اليوم) أشاد فيها بتلك الروح المثالية التي تجلت في موقف معالي وزير المعارف من الأستاذ الشاعر على محمود طه والدكتور طه حسين بك فقد اصدر الوزير آمرا بتعيين الشاعر وكيلاً لدار الكتب المصرية ثم أفاض في الثناء على الدكتور بمناسبة فوزه بجائزة من جوائز المغفور له الملك فؤاد، وهي جائزة الأدب. أشاد الحكيم بتلك الروح النادرة أن صاحبها قد تجرد من رداء الحزينة حين كرم الأدب في شخص الكاتب والشاعر، وكلاهما لا يمت بصلة من الصلات إلى حزب الوزير وميوله السياسية. . . ثم انتهى الأستاذ الحكيم إلى أن هذه الظاهرة الكريمة أن دلت على شيء فإنما تدل على أن الأدب بخير ما دامت الدولة ترعى حقوق الأدباء.

كتب الأستاذ الحكيم هذا الكلمة في (أخبار اليوم) فانبرى الدكتور إبراهيم ناجي للرد عليه في جريدة (صوت الأمة) بكلمة أخرى ذهب فيها إلى أن الأدب في مصر ليس بخير كما يخيل للأستاذ توفيق الحكيم؛ لان الدولة إذا كانت قد رعت حق الكاتب الكبير والشاعر الكبير فما أكثر المهملين من الكتاب والشعراء. . . أولئك لم يحظوا من رعاية الدولة بنصيب؟

إنني أعقب على الرأيين فأقول: إن بعض الأدباء في مصر قد ظفروا برعاية الدولة وهم آهل لهذه الرعاية، فليس لمعترض أن يعترض على ما رد إليهم من حقوق. . . ومن هذا البعض الدكتور طه حسين والشاعر على محمود طه! ولا أستطيع أن أختلف مع الدكتور ناجي في أن هناك أدباء قد أغفلت جهودهم في خدمة الأدب إغفالا لا يليق بدولة ناهضة أن تقدم عليه. . كما لا يستطيع الدكتور ناجي أن ينكر أن هناك أدباء قد نالوا من عطف الدولة أكثر مما يستحقون لأنهم أبواق، ولا حاجة بي إلى الإفصاح فهم أغنياء عن التعريف!!

نخرج من هذا كله بأن الأدب في مصر بخير بالنسبة إلى الفئة الأولى من الأدباء، وليس

ص: 40

بخير إلى الفئتين الأخريين وهذا هو التحديد الذي يجب أن يذكر عند التعرض لموقف الدولة من الأدب وأهله بوجه عام!

الفن والحياة بين أمس واليوم:

هذا عنوان كلمة في (الأهرام) تناولت فيها السيدة بنت الشاطئ بالعرض الطلي والتحليل النابض موقف الفن من الحياة بين الماضي الغابر والحاضر المشهود. ولقد كانت الكلمة من وحي مشاهدتها للحفل الرائع الذي أقيم لتكريم الأدب والعلم في جامعة فؤاد الأول، حين أقبل مندوب صاحب الجلالة الملك ليقدم الجوائز للمتفوقين الأعلام.

لقد كان رائعاً حقاً أن تجول الأدبية الفاضلة بفكرها بين ألامس واليوم، لتقوم بموازنة طريفة بين موقف الفن من القصر وموقف القصر من الفن في عهد القدامى والمحدثين. . . يوم أن كان الشعراء يقفون بأبواب الملوك وقفة الذل والخضوع في انتظار صلة قد يظفرون بها وقد لا يظفرون، ولا بأس من صيغة الكرامة الشخصية والعقلية في غمرة القول الملفق والشعور المصنوع. . كما فعل ابن نباته السعدي حين ورد على ابن العميد، وكما فعل ابن هانئ الأندلس حين طرق أبواب المعز، وكما فعل أبو الطيب المتنبي حين احسن الظن بتقدير كافوراً!

من عهد أولئك القدامى تنتقل السيدة بنت الشاطئ إلى عهد المحدثين بهذه الكلمات: (فأين هذا مما ترى اليوم؟ اليوم تقدم جائزة الملك تقديراً للأدب وتكريماً للعلم!. . . ولمن تقدم؟ للأديب والعالم، لم يقفا بباب، ولا امتهنا بسؤال، وإنما عكفا على الدرس وشغلا به!. . . وعلى أي شيء تمنح؟ على درس أدبي لم يرد فيه ذكر الملك صاحب الجائزة، وعلى بحث علمي لا صلة له بالقصر!. . . وأين؟ في دار العلم، يسعى بها من القصر العامر رسل كرام مختارون، تقديراً للجامعة واعتزازاً بها!. . . وهكذا أصبحت أموال الملوك ترعى الفن والعلم وتبذل لرفع شأنهما، وقد كانا - كلاهما - من قبل مسخرين في خدمة كل ذي مال أو سلطان! فهل انعكست الأوضاع ودارت الدنيا وتغير نظام الكون؟ كلا، لا شيء من ذاك. . فأن مشهد اليوم ومشهد ألامس ليسا سوى مظهرين اثنين، لصلة الفن بالحياة).

هذا كلام جميل، وأجمل منه قول الأديبة الفاضلة:(ونحن (الأمناء) الذين اتخذنا الكرامة شعاراً وحاربنا الأدب الرخيص المرتزق، نبارك هذا المظهر الكريم، ونرى فيه طلائع

ص: 41

النهضة التي طالما تمثلناها، وبشرنا بها)!.

أنور المعداوي

ص: 42

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

تقرير الدولة للأدباء:

بدا في الأسبوعين الأخيرين تقدير الدولة للأدب والأدباء في أشخاص جماعة كرمة من رجال الأدب، فقد ظفر الدكتور طه حسين بك بجائزة فؤاد الأول الأدبية لهذا العام، وتفل مندوب جلالة الملك في الحفل الذي أقيم لذلك بالجامعة فصافح عميد الأدباء وسلمه الجائزة. وقد كان للعطف الملكي الكريم نحو الدكتور طه وقع حسن وأثر بليغ وخاصة في نفوس الأدباء، لما ينطوي عليه من التكريم والتقدير لعميدهم العظيم.

وانتخب أستاذنا الكبير احمد حسن الزيت عضواً بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، ولم يكن من اللائق أن يظل الأستاذ بعيداً عن المجمع وقد ضم أقرانه من أعلام الأدب في مصر؛ وأن لانتخابه لمعنى من التقدير الخالص، فهو لا ينتمي إلى حزب يقدمه ولا شيعة تنصره.

وعين الأستاذ الشاعر على محمود وكيلاً لدار الكتب المصرية، وكان قد ترك خدمة الحكومة لملابسات اضطرته إلى الاستقالة، ولكن معالي الأستاذ على أبواب وزير المعارف مسح على آثار تلك الملابسات فأعاد للشاعر حقه. وإن لمعاليه فضلاً ملحوظاً في ذلك رددته الصحف وتحدثت به المجالس، إذ تعالى بهذا العمل وبتحيته السمحة للدكتور طه حسين في احتفال الجامعة في كل اعتبار من الاعتبارات التي اعتدنا أن نرى رجال السياسة عندما يضعونها موضع الاهتمام. ويضاف إلى ذلك عطف معاليه على الأستاذ محمد سعيد العريان؛ إذ أحله المحل اللائق به في الوزارة بعد أن تفاد فته الوظائف المختلفة على كره منه.

وإن الدولة، إذ ترعى الأدب بمثل هذه العناية وذلك الروح إنما تقوى الحركة الأدبية في الآمة وتنمي ثروتها الفكرية الخالدة وإذا كانت الدولة تهتم بتقويم الجيش وتعزيز أسلحته للدفاع عن حرية البلاد واستقلالها، فإن أقلام الأدباء لها شأنها في الدفاع المعنوي ضد كل الشرور والآفات إلى ما تضطلع به من رسم المثل وتحقيق الغايات البعيدة والقريبة.

قلة الأدب في الإذاعة:

ص: 43

لا أقصد هذه الأغاني الرخوة التي يشكو بعض الناس من أذاعتها على أبنائهم وبناتهم إذ يخشون بأسها على أخلاقهم ولا أقصد تلك الألحان المثيرة التي أذاعتها الإذاعة فاعترض عليها فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وأقنع إدارة الإذاعة بأنها تنافي الحياء، فاقتنعت. وكثيراً ما تخطيء الإذاعة، وقليلاً ما تهتم بإصلاح الخطأ، ويكون هذا القليل من قبل ما لا قبل لها بدفعه.

ولندع هذا، فما إليه قصدت، إنما أقصد الأدب بالمعنى الفني وما إليه من ألوان الفكر والثقافة. والأدب في إذاعتنا المصرية قليل من زمان، ولكنا نراه أخيرا يكاد يمحى في برامجها، وقد كانت تذيع سلسلة اسمها (أعلام الأدب العربي) وقد قطعتها منذ شهور. وحسناً فعلت، فما كان هذا البرنامج إلا صفحات من مذكرات تاريخ أدب اللغة في المدارس الثانوية، وليست أدري هل منعتها الإذاعة لتفاهتها وسخفها أو لغير ذلك، ولكن هلا فكرت في برنامج أدبي آخر؟ ويقولون أن في الإذاعة قسماً لسماع الإذاعات الأجنبية للاستفادة من برامجها، فهلا استمع هذا القسم إلى الإذاعات العربية المختلفة التي تقدم ألوانا حية من الأدب العربي قديمه وحديثه. وفي العام الماضي قام مدير الإذاعة برحلة إلى عواصم أوربا لزيارة دور الإذاعة فيها والاطلاع على برامجها. . . أفلا قام بزيارة لدور الإذاعة العربية ليرى كيف تنتفع بالكفايات الأدبية وخاصة المصرية؟ وقد زار فيما زار دار الإذاعة البريطانية، فهل عرج على القسم الأدبي فيها ورأى الجهود المصرية الأدبية فيه؟.

ومما كانت تقدمه الإذاعة من ألوان الأدب وأمسكت عنه التعريف بكتب الأدب العربي القديمة، وكان يقوم بذلك الأستاذ على أذهم على خير وجه، ويعلم علام الغيوب لم منعت الإذاعة هذا البرنامج، وتقول هي في مجلتها أنها تهتم بالأحاديث التي تعالج الشؤون الحيوية والمسائل العامة، ولنفرض أن المستمعين جميعاً. أغلقوا أذهانهم وأذواقهم دون الغذاء الأدبي والفكري وأصبحوا لا تعنيهم إلا المنافع المادية القريبة، فلماذا تقدم لهم الإذاعة؟ نظرة واحدة إلى البرنامج - ولا أجشمك الإصغاء إليه - ترى منها أن اكثر الموضوعات لا فائدة منها، فهذا (أهم حوادث الأسبوع) يتلو عليك ما نشرته الصحف من أيام، وكذلك البرلمان في أسبوع، وهذه أحاديث يلقيها كبار الموظفين كالنشرات التي تصدرها المصالح بالإحصاءات وما تم من الأعمال وما أدرج في مشروع الميزانية إلى

ص: 44

غير ذلك من الهذر الذي لا فائدة منه إلا بأقفال أجهزة الإذاعة فيخف الضغط على تيار الكهربا ويقل الاستهلاك. . .

الليل لنا:

هو الفلم الذي عرض أخيرا بسينما استديو مصر، ألفه يوسف جوهر، وأخرجه ومثل دور البطل الأول فيه محمود ذو الفقار، وأشترك في التمثيل سليمان بك نجيب والمطربة صباح. يبدأ عرض الفلم فإذا حشد من الحوادث المختلطة المزدحمة يؤدي إلى نشوء حب بين نوال (صباح) المغنية بفرقة الكواكب وبين طبيب شاب (محمود ذو الفقار) من أبناء الباشوات، ينتهي هذا الحب إلى الزواج. ولا بد أن تجتاز كل هذه الحوادث الكثيرة حتى تصل إلى نبضة القصة أو فكرتها، عند ما تلجأ نوال إلى شقة رسام شاب هربا من الشرطي الذي اشتبه فيها فظنها من بنات الليل، وكانت في أثناء ذلك لا تزال تعمل بفرقة الكواكب ولم تتزوج بعد من الطبيب؛ يستقبلها عباس (الرسام) في شقته ويعرض عليها الشراب فتأبى، فيستشعر نبل الفنان ويرفق بها، ثم يسرف في الشراب ويأخذه النوم، ثم يصحو فيجدها نائمة على مقعدها فيتأمل جمالها ويغطيها بمعطفه ويعود إلى النوم، ثم تصحو هي فتجده نائماً على مقعده فتغطيه بالمعطف، وتتسلل خارجة بعد أن اطمأن إلى ذهاب الشرطي من أمام المنزل. ويتهم بعد ذلك الرسام بقتل عمه لخلاف بينهما، وقد وقعت جريمة القتل في الليلة التي كانت نوال بشقته فيها، وفي الوقت الذي كانا فيه معاً؛ وعند محاكمته يطلب شهادة نوال وكانت قد تزوجت من الدكتور وحيد (الطبيب ابن الباشا) ويصل علم ذلك إلى زوجها وأبيه، فيعمل الباشا (سليمان نجيب) على أبعادها عن الشهادة خشية تلويث سمعته وتعاني هي صراعاً هائلاً بين واجبين: المحافظة على كرامة أسرة الزوج، وإنقاذ الشاب البريء من الإعدام وليس له دليل على البراءة غير شهادتها، وتبدع صباح في تمثيل هذا الموقف ونصب حيرتها في أغنية رائعة. وأخيراً تذهب إلى المحكمة وتشهد بأنها كانت مع المتهم في شقته وقت وقوع حادث القتل، وتم ذلك في موقف أجاد المخرج تهيئته بحيث لم يغضب الباشا الذي كان بعارض في شهادة زوج ابنة أشد المعارضة.

هذا الجزء الذي ذكرته من وقائع الفلم هو أقوم ما فيه، ولكنه لم يأخذ حقه من العرض والإبراز، بل راح ضحية الزحمة والاختلاط في حوادث القصة وضحية تلك الفواصل

ص: 45

الطويلة من الرقص والغناء، والغناء خاصة في غير موقعه؛ ولم أفهم الحكمة في عرض منظر الرقص الزنجي الذي كانت تغني فيه نوال وهي مطلية بالسواد في شكل قبيح إمام حبيبها الدكتور وحيد الذي جاء يشاهدها في فرقة الكواكب بعد أن عرف إنها ممثلة، وتسميها حوادث الفلم ممثلة مع أنها تمثل شيئاً إنما كانت تغنى فقط، هل أريد بذلك أن يراها الدكتور على هذا القبح فيزداد شغفه بها؟.

وفي منظر واحد يبدو على مسرح فرقة الكواكب أبو الهول والأهرام في وسط أشجار وأزهار. . وغناء لبناني ورقص مصري بلدي والقدرة التي تجمع بين كل ذلك في مكان واحد هي التي تجمع في طبق بين السمك واللبن والتمر هندي. .

وعندما تلتقي نوال وصاحبتها الراقصة بالدكتور وحيد لأول مرة، وتزعمان انهها مدرستان، تنفرج فلقتا ثوب الراقصة عن بطنها العاري في زي الرقص، فيلاحظ الدكتور ذلك، وأنه لا يتفق مع ادعائهما انهما مدرستان، فتقولان انهما كانت في حفلة مدرسية. . . فأي حفلة مدرسية ترقص فيها المدرسات عاريات البطون؟.

وأظن أن حكاية ابن الباشا الذي يحب البنت الفقيرة (الخفة) قد أكلت عليها الأفلام المصرية وشربت حتى شبعت وارتوت، ومن المؤسف أنها تلف في هذا الجزء المدعم القيم؛ ومن عيوب الأفلام المصرية أن بعضها يحاكي بعضاً، ثم تتكرر المحاكاة حتى تمل، ثم تسخف.

أما اسم الفلم (الليل لنا)، فهو كلمة من أغنية غنتها المغنية في فترة الكواكب بالليل. . . ولست أدري إذا كانت المغنية غنت بالنهار - هل كان يسمى الفلم (النهار لنا)؟!

دفاع شاعر عن الربيع:

يقول صديقي الشاعر الأستاذ إبراهيم محمد نجا: أنت تقول يا صديقي أن الربيع لا وجود له في الطبيعة المصرية، والربيع موجود أمام ناظري ألان وأنا أكتب لك هذه الكلمات. . . موجود في الحديقة التي أشرف عليها من نافذتي، موجود في أزهارها المختلفة الأشكال والألوان، هذه التي كانت في فصل الشتاء سراً في باطن الأرض، حتى جاء الربيع فكشف السر وأزاح الستار! وقد أعجبني قوله: أما اضطراب الجو في بعض أيام الربيع فذلك شيء لا يؤثر على الشعر والشعور، لان القصيدة هي وليدة حالة نفسي في لحظة زمنية تمتلئ فيها النفس بالمشاعر ويمتلئ فيها الذهن بالتأملات.

ص: 46

وهو دفاع صادق من شاعر إزاء هجوم رآه موجهاً، ضمناً، إلى ما قال من الشعر في الربيع، وللأستاذ نجا قصيدة في العدد الماضي من (الرسالة) عنوانها (ربيع وربيع) وقد عدل في خلالها عن الحديث في ربيع الطبيعة إلى ربيع القلوب والأماني، وأنا أوافقه على هذا النحو فهو حقيقة شعورية ظاهرة، أما ربيع الطبيعة في مصر فأنا لا أزال أسال: أين هو؟ وقد وصل إلى كتاب الأستاذ في يوم شديد القيظ وهو اليوم التالي لكتابته! فإن كان ينعم بالربيع في الإسكندرية، حيث هو، فأنا في القاهرة لا نجد ربيعاً ننعم به، وقد نالني الربيع المزعوم بالقذى في عيني فحجب وجه (الأدب والفن) في الأسبوع الماضي. . . وإذا كانت الإسكندرية تنعم بالربيع فربيعها إذن يتصل بربيع آخر، هو الصيف على شاطئ البحر، كما يقول الأستاذ في رسالته، ربيع آخر أزهاره السابحات الفاتنات!

وقلت في كلمتي السابقة: إن الفصل الممتع عندنا حقاً هو فصل الخريف، وقد قال البحتري:

وليالي الخريف خضر ولكن

شغلتنا عنها ليالي الربيع

وكان البحتري يعيش في بلاد ذات ربيع جميل، ولذلك شغلته ليالي الربيع، أما نحن فما لنا - ما عدا الأستاذ نجا في الإسكندرية - غير ليالي الخريف.

عباس خضر

ص: 47

‌البريد الأدبي

العمل الأدبى:

عرف الأستاذ أحمد أحمد بدوي العمل الأدبي في مقاله بالرسالة الغراء أنه (التعبير عن تجربة للأديب، بألفاظ موحية) وقد لفت هذا التعريف نظري إلى ما عرف به الأستاذ سيد قطب العمل الأدبي في كتابه (النقد الأدبي. أصوله ومناهجه) أنه (التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية). . ولعل التعريف الثاني أعم وأوحى. . واستشهد الأستاذ بأبيات لقتيلة بنت الحارث وهي تعاتب الرسول. . . الخ. بأبياتها البليغة. . . وأن الرسول (صلعم) بكى.

فأذكر هنا أيضاً أن المرحوم الأستاذ الكبير النشاشيبى قد تعرض إلى هذه الأبيات (في إرشاد الأديب إلى معرفة الأديب) في الرسالة الزهراء العدد 645 السنة الثالثة عشر - بنقله عن السيرة لابن هام - تعرضاً أثبت اختلافها. وقال المرحوم في تعليقه على النقل: (إن الذي قيل هو من الأباطيل، فما عملت قتيلة في أخيها شعراً، ولم يقل النبي ما عزى إليه، وما كان النضر المحتشد المجتهد في هدم ذاك البناء الإسلامي الإنساني العربي حقيقيا بان يمن ذلك الباني عليه) ولولا أن الخبرين نشرا في الرسالة الزهراء، ما كتبت هذه الكلمة، وذكر. . . وجاء أيضاً في الاستشهاد يقول الشاعر (وهو حمدونة الأندلسية)(نزلنا دوحه فحنا عليه) والصواب (فحنا علينا) حتى يستقيم المعنى ويجمل؛ أبقى الله الرسالة سجلاً للحق والأدب الرفيع.

صبري حسن علوان

1 -

الأشقياء:

قرأت حديثاً في الصحف: أن الحكومة توالى البحث عن هؤلاء الأشقياء. والكتاب يريدون المجرمين والقتلة واللصوص. ويستعملون كلمة الشقي بمعنى المجرم أو الجاني. والصحيح الذي نؤيده المعاجم: أن الشقي ذو الشقاء. . والشقا، والشقاء، والشقوة، والشقاوة: البؤس والشدة ونقيض السعادة فالصواب أن يقال: توالى الحكومة البحث عن الجناة والجرمين.

2 -

الكساء:

ص: 48

نقرأ كثيراً، أن كثيراً من الوزارات قد أقيلت: لأنها لم تهيئ للشعوب الغذاء والكساء. وهذا تعبير خاطئ؛ لأن الكتاب يستعملون الكساء بالمد: لمطلق الملبوس.

والحق الذي تؤيده النصوص أن الكساء: ثوب بعينه. وهو نحو العباءة من الصوف. قال الشاعر:

جزاك الله خيراً من كساء

فقد أدفأتني في ذا الشتاء

فأمك نعجة وأبوك كبش

وأنت الصوف من غزل النساء

والصواب: أن يقولوا: (الكسا) بالقصر مع ضم الكاف جمع كسوة بكسر الكاف وضمها. وهو كل ما يكتسي.

عبد السميع على محمود

المدرس بمعلمات أسيوط

رجعة إلى الفلم الصنع:

قلت في عدد سابق معقباً أن ال (قلم صناع) خطأ وأن الصواب (قلم صنع) لا صناع؛ إذ الصنع وصف للمذكر، والصناع للمؤنث غير أن هذا القول لم يرض الأستاذ العجمي وأصر على صواب (قلم صناع) مسدلاً بهذه العبارة في القاموس (رجل صناع اليدين، وصناعهما).

والحق أن (القلم صناع) خطأ، والعبارة القاموسية لا تنهض دليلاً على الجواز، لأن (اليد) مؤنثة (والقلم) مذكر. فنقول القاموس (صناع اليدين) وصف مضاف للفاعل المؤنث فلا تقس القلم المذكر على اليد المؤنثة. واليك ما في لسان العرب نصل الصاد حرف العين قال:(رجل صنع اليد وصناع اليد وامرأة صناع اليد. والذي اختاره ثعلب رجل صنع اليد وامرأة صناع اليد. . ورجل صنع اللسان ولسان صنع).

وفي هذا الكفاية؛ لمن يريد الهداية.

(المنصورة)

إسماعيل أبو ضيف

ص: 49

الضبع يذكر ويؤنث:

قرأت كلمة في مجلة الرسالة الغراء تحت عنوان (الضبع مؤنثة) أنكر فيها كاتبها الضبع، وهذا ليس بصحيح؛ فقد جاء في المصباح ومعيار اللغة: الضبع بضم الباء في لغة قيس بسكونها في لغة تميم، وهي أنثى، وقيل تقع على المذكر والأنثى، وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء كما قيل في سبع والذكر ضبعان بكسر الضاد كسرحان، والأنثى منه ضبعانة أ. هـ

وجاء في حياة الحيوان للدميري وعن ابن ألا نباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى، وكذلك حكاه ابن هشام الحضر أوى في كتاب الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس (المبرد) وغيره أه

علي حسن هلال

المجمع اللغوي

وقعة صفين:

قال الدكتور جواد علي في رسالة: (وقد ألف غير واحد من المؤرخين في وقعة صفين)، وسرد طائفة منهم، وفي (تاريخ الإسلام للذهبي) الذي يطبع في القاهرة أن ممن ألف في هذا الموضوع يحيى الجعفري، حيث نقل عنه.

راقني ذلك:

ويقول الأستاذ عبد الستار احمد فراج في عدد (الرسالة 807): (واقتبسوا من لغاتهم ما راق لهم). والصواب: (ماراقهم).

عبد الله معروف

ص: 50

‌القصص

قصة مصرية:

(من وراء الأبد)

للأستاذ أنور المعداوي

(إلى الذين يفهمون القصة على خير ما تفهم القصة على أنها لوحة نفسية، وطلال إنسانية، وفكرة من أعماق الحياة).

يا صديقي العزيز:

تسألني عن هذا السر الذي آثار فضول الناس، سر زواجي الذي لم يدم؟. . ولم لا تقول إنه أثار فضولك أيضا فكتبت إلى تسألني!؟ ومع ذلك فسأكشف لك عن سري الذي أصبح ذكرى. . . كل ما أرجوه منك أن تحتفظ بهذه الذكرى الغالية كما احتفظت بغيرها من ذكريات شبابنا. فلا تدعها أذن تترك مكانها من قلبك، حسبها أنها تركت مكانها من قلبي. . . لنقص عليك وحدك قصة الحرمان!.

أتذكر يوم كنت تصفني بأنني أضاع عمره محلقاً على أجنحة الخيال يرتاد عوالم مجهولة، ويطرق آفاقاً لم يطرقها مخلوق على أرض البشر؟!. أنا معك يا صديقي في أنني كنت وما أزل ذلك الإنسان الذي يقف على الأرض كما يقف غيره من الناس، ومع ذلك فهو يمد يديه إلى السماء ليلتقط النجوم!. . لقد كنت أعيش في دنياي الخاصة وكنت تعيش في دنياك، وعلى الرغم من هذا التناقض فقد التقينا حول مائدة العلم في الجامعة، لقاء شب من لحظاته الأولى بين أحضان الصداقة. . وكانت صداقة بريئة حلوة، لم يعكر صفوها بعد الشقة بين طبعي وطبعك، وبين مزاجي ومزاجك. أنت في أعماق الواقع وأنا في أعماق الخيال. . . ومع ذلك فقد التقينا في الجامعة، وتركناها ذات يوم إلى الحياة، وظللا كما كنا صديقين!.

وفرقت بيننا بعد ذلك الأيام، بقيت أنا في القاهرة وذهبت أنت إلى أطراف الجنوب. . . واختلف طريقي وطريقك ألم نكن دائماً في نظرتنا إلى الحياة مختلفين؟! لقد فضلت العمل في وظائف الحكومة وآثرت العمل الحر. . . أتذكر يوم خطر لي أن افتح محلاً لبيع الزهور في حي الزمالك؟ إنك رميتني بما كنت ترميني به دائماً يوم كنا في الجامعة. . .

ص: 51

بالنزق والطيش والجري وراء الخيال! لقد كنت تقول لي بلهجتك الساخرة الحبيبة: زهور؟ يالك من شاعر! ماذا من وراء الزهور يا حليف الخيال؟. . . ستذيل زهورك يوماً ما، وستمشي وحدك في جنازة العطر!! ومضيت في طريقي لا أكاد أصغي إلى سخرياتك فتحت المحل، وربحت الكثير من المال، وانتصرت بسلاح الخيال في أول معركة خضت غمارها ضد الخيال!. . ومع ذلك فإن كلماتك لا تزال ترن في أذني رنينها بالأمس، ترى أكنت تقرأ صفحة الغيب سطوراً خطتها لي وحدي يد الزمن؟ أم أنك يوم أطلقت جملتك تلك الساخرة كنت تنفذ بوعيك الباطن إلى ما وراء المجهول؟!. . لقد ذبلت زهوري يا صديقي، ومشيت وحدي في جنازة العطر، والأمل، والدنيا التي ذهبت إلى غير ميعاد!

أتذكر يوم كنت ترغبني في الزواج وتقود أفكاري إلى حواء؟ لقد كنت ألقاك دائماً بجواب واحد هو أنني لم أجدها! إن الذين يعيشون في دنيا الواقع ترضيهم نفحات من الجمار المادي المنشود بالأرض، أما أنا فكنت أبحث عن جمال آخر جمال تربطه بالسماء خيوط إلهية غير منظورة! إن جمال الروح يا صديقي هو الذي كنت أبحث عنه، وحين يثبت من وجوده على أرض البشر رحت أنشده في سماء الوهم! لقد كنت ألتمس في الزهور شيئاً من العزاء. . . رائحتها، نظارتها، ألوانها البهيجة. . أليس في هذا كله بعض ما كنت أنشد من جمال الروح؟ هل تصدق أن هذا الخاطر هو الذي حملني على أن افتح محلاً لبيع الزهور أنسقه بذوق الشاعر وخيال الفنان؟!. . . بالله لا تدع الابتسامة ترف على شفتيك، فقد تستحيل في عينيك دموعاً!!

لعلك تستحثني على أن القصة، فاستمع أذن لقصتي:

كان أول لقاء بيني وبينها ذات صباح، حين هبطت من عربة التاكسي ودلفت إلى المحل تطلب باقة من الزهور. . . ولأول مرة رأيتني أترك مكاني، وأسبق أحد عمالي إلى لقائها، وأقدم لها بنفسي باقة من زهور البنفسج غلفتها - كما طلبت - بزهور البانسيه، ونظرت إلى الفتاة نظرة امتنان، وتمتمت بضع كلمات شكر. . . وخرجت!

كان مظهرها ينم عن حزن عميق، تجلى واضحاً في قسمات الوجه ونبرات الصوت. . . وخيل إلى أن هناك عزيزاً قد فقدته، وأن تلك الزهور قد أعدت لتوضع فوق القبر الذي لف أحلام شبابها بغلاف من الصمت الأبدي الرهيب، هناك حيث تقفز من كوى الفناء

ص: 52

أشباح وطيوف! أما جمالها فريداً في نوعه. . . لم يكن جمالاً صارخاً يهز العيون حين تنظر إليه، ولكنه كان جمالاً هادئاً، وعبراً، يهز الروح والعاطفة. . . كان أشبه بقطعة موسيقية حزينة يثرى لإيقاعها الفكر الحار والشعور الملتاع!. . . أما عيناها، فقد كان فيهما أكثر من معنى مبهم، لقد كان فيهما يا صديقي آثار رحلة طويلة إلى عالم مجهول. . وفي هذا اللقاء الأول رثيت للجمال يتشح في الربيع بوشاح الأسى والشجن! وتكرر بعد ذلك لقاؤنا في موعد لا يتغير. . . في الساعة العاشرة من صباح كل ثلاثاء، حين تهبط من عربة التاكسي، تلك الزائرة الحزينة لتطلب كعادتها باقة من زهور البنفسج أغلفها كعادتي بزهور ألبانسيه! وعلى مر الأيام نشأ بيننا نوع من الود البريء تحول معه الرثاء في قلبي إلى حب عميق. . . وجاء على يوم شعرت فيه بأن أحلامي الحيرى في خضم الحياة في متاهات الخيال السابح وراء الوهم قد وجدت ملاذها هنا. . . في هذا الوجه النبيل الذي شعت منه في روحي ومضات الأمل!!

سألت عن أسرتها فعلمت أنها من أكرم الأسر، وسألت عن قصتها فعلمت أن خطيبها الشاب قد ودع الحياة منذ شهور، وان هذا الأسى الدفين هو كل ما خلف لها من ثروة أثقلتها الأحزان. . . وفكرت في غير تردد بأن أتقدم لخطبتها لأملأ فراغ قلبها ودنياها وفراغ قلبي ودنياي، وخيل إلى أنني قد وجدتها. . . حواء، تلك التي قضيت العمر أبحث عنها في سماء الوهم حتى لقيتها أخيراً على أرض البشر!

وفي رحاب الزوجة الحبيبة ذقت - لأول مرة - طعم الحياة. . . كانت قبل أن ألقاها أشبه لفكرة شريدة معذبة لم تجد دفء خاطر تأوي إليه! كانت لحناً حائراً لا معنى له. . . لحناً نبذته شفتاي حين لم تستجب لأنغامه في حنايا الضلوع عاطفة! كان الوفاء والحب المتبادل هي كل معالم الطريق الذي سرنا فيه جنباً إلى جنب، وقلباً إلى قلب، وروحاً إلى روح. . . كنت أنسى كل متاعب الحياة حين تلقاني وعلى شفتيها ابتسامة مشرقة، وفي عينها بريق العودة من لقاء طويل، هيأته الأحلام تحت ظل وريف في واد من أودية السعادة!

ومضت بنا الحياة في طريقها تطوى الأيام حتى أقبل يوم لا أنساه. . . كان ذلك حين خرجت من البيت ذات صباح، ثم عدت إليه بعد ساعتين لأمر من الأمور فلم أجدها هناك! سألت عنها الخادمة الصغيرة فأنبأنني بأن سيدتها لن تعين لها المكان الذي ذهبت إليه.

ص: 53

وساورتني الظنون وانتابني شك قاتل ملح عنيف. . . ترى أكانت زوجتي تترك البيت قبل اليوم أثناء غيابي عنه؟! عدت إلى الخادم الصغيرة أسألها فأنكرت، وتحت الضرب المبرح لم تجديداً من الاعتراف، وأصبح الظن حقيقة. . . سيدة محترمة تغادر بيتها مرة في كل أسبوع إلى حيث لا يعلم أحد، ترى ماذا يخبئ لي القدر القاهر في جعبته؟! ورحت أذرع أرض الشرفة ذهاباً وجيئة في انتظار الزوجة الغائبة. . . وفي غمرة الوعي الذاهل والفكر المحموم، لم أدر كم من الوقت مر علي وأنا أتلفت إلى كل عربة مقبلة من هنا أو من هناك، مترقباً أن تكون قد عادت بها من المكان المجهول!

وأخيراً أقبلت عربة تاكسي ما لبثت أن هدأت من سرعتها ووقفت أمام البيت. . . وهبطت منها زوجتي! وأسرعت كالمجنون أهبط الدرج وثباً حتى كنت في ثوان معدودات أمامها وجهاً لوجه. . وحين رأيت لونها قد شحب، ونظراتها قد عراها الذهول. . . رحت أسأل السائق عن المكان الذي ركبت منه. . . وفي صوت هامس متلعثم أنبأني الرجل بأنه قد عاد بالزوجة الحبيبة من مقابر الأمام الشافعي!

وصعدنا إلى البيت صامتين. . . وحين احتوتنا إحدى حجراته رحت أنظر إلى عينها الشاردتين، محاولاً أن أستشف سرهما المخبأ وراء قطرات الدموع!

أما هي، فقد أطرقت برأسها إلى الأرض، وراح صدرها يعلو ويهبط، وجسدها ينتفض انتفاضة الحمى. . .

وأخيراً أمسكت بيدي بين يديها لتقول لي بصوتها اللاهث المتهدج:

- محمود. . . يا زوجي الحبيب. . . إغفر لي أن أقول لك كل شيء. . . أقسم لك أني كنت أضع بعض الزهور على قبره. . . لقد عاهدته أن أظل وفيه لذاكراه. . . لقد أقسمت له يوماً أن أظل على عهدي له. . . كان ذلك حين ودع الدنيا وتركني من بعده وحيدة. . . محمود. . . إن قلبي الذي كان له أصبح لك. . . حسبك قلبي. . . بالله لا تضق بأفكاري إذا انحت إليه لتؤنسه في وحشته. . . وبيدي إذا وضعت يوماً على قبره زهوراً ترطب ثراه. . . محمود. . . هل تغار من رجل مات؟. . . تكلم. . . تكلم يا زوجي الحبيب واغفر لي. . . اغفر لي أنني لم أبح لك قبل اليوم بشيء!!

حاولت أن أتكلم فماتت الكلمات على شفتي. . . كنت كمن أغفى إغفاءة طويلة استيقظ من

ص: 54

بعدها على حلم مخف بعث رجة افزع في أوصاله!

ولأول مرة شعرت بأن أشباح الشقاء ترفرف على المكان بأجنحتها السود فتحيل النور في عيني ظلاماً. . . وتركتها تنتخب وعدت إلى غرفتي مكدود القوى، أشبه بجندي عاد إلى بيته بعد المعركة. . . عاد ليبحث عن أحبابه بين ركام الأنقاض!

ومرت على ليال لم أذق للنوم فيها طعماً. . حاولت أن أنسى وأن أغفر ولكني لم أستطيع! لقد تكشفت لي الحقيقة الكريهة البشعة، وهي أن زوجتي لم تكن صادقة في حبها لي. . لقد كان قلبها هناك، يمسح بيد الذكريات فوق ألقب الذي طوى بين جنباته أول أمل!. . . سبع ليال مرت علي كأنها سبعة ذئاب جائعة تنشب أظفارها في قلبي، كنت أشعر شعوراً عميقاً أن هذا القبر الرابض في صحراء الأمام قد سلبني أعز ما أملك، وأن هذا الفتى المسجى في جوف الثرى لص. . . ضل طريقه إلى بيوت الناس وقادته قدماء إلى بيتي وحده، ليسق أنفس كنز وهبته لي الحياة! وكلما نظرت إلى وجه زوجتي بدت لي الدنيا جحيماً لا يطاق، لقد عاد إلى سابق عهده يوم رأيتها لأول مرة: الحزن العميق والأسى الدفين! أما عيناها فقد أطل منهما الماضي البعيد. . . حار فيهما ألف معنى مبهم أو ألف رحلة طويلة إلى عالم مجهول!

ومر شهر وشهران وثلاثة وكلانا يعيش في العذاب. . . العذاب الملح المبرح المتصل الذي تراودني أشباحه الرهيبة في الليل والنهار، وتقذف بي إلى خارج بيتي أنشد العزاء في الجلوس إلى الناس! لم أعد أطيق رؤية البيت إلا حين آوي إليه لأنام، لا تجمع بيني وبينها كسابق عهدنا حجرة واحدة. . . كان الخيال يصور لي أن هناك حاجزاً هائلاً يحول بين ضم جسمينا في فراش واحد، هو ذلك القبر الكئيب البغيض الرابض في صحراء الأمام. القبر الذي كان يخيل إلى أنه يترك مكانه كل ليلة لينعم بأحضان زوجتي حتى الصباح!!

ولم يكن هناك يا صديقي بد من نفترق. . ترى هل جنى علي الخيال؟ لست أدري!. . كل ما أدريه أن حواء قد ذهبت، وأن زهوري قد ذبلت، وأنني قد طويت القلب على أحلامه وقذفت به بعيداً. . . بعيداً في وادي الذكريات.

أنور المعداوي

خوفاً من أبيه!

ص: 55

وأخيراً تهالك (خالد) على مقعده في قنوط وقد أيقن أنه فقد ساعته، فلم يترك مكاناً إلا بحث فيه ولا صديقاً إلا سأله عنها

وبالرغم من أن حجرته خالية إلا من أجلاد جسمه، هادئة إلا من دقات قلبه، فأن طيفاً فارع العود منقبض الأسارير راح يحدق فيه مستخفاً بذكائه وعلى شفتيه ابتسامة تهكم وفي صوته نبرة ازدراء!!

وخرج من الغرفة إلى عرض الطريق ضائقاً بذلك الطيف الذي أعاد إلى خياله صوراً كتلك المواقف التي تكون بينه وبين والده حين يفقد أحقر حاجاته!!. .

واستقبله الشارع على غير ما تعود. لقد بدا له كالرسوم الحائلة في كراس عتيق! وكأنما أصوات المارة لضعفها تصل إلى أذنيه من بعيد. . .

وعجزت أضواء الطريق الألافة ومعروضات المحال المغرية أن تخرجه عن نفسه أو تبعث إليها شعاعاً من أنس. . .

ولكن محلاً لبيع الساعات في نهاية الطريق استطاع أن يخترق بأضوائه نطاق كآبته، وأن يستوقفه أمام معرضه، وأن يتملق نظراته الموزعة بمرأى ساعاته الجذاب. . .

وأخذت عيناه في لهفة ساعة تشبه ساعته في لحجم والغطاء، وأن كانت دونها في الثمن والرواء!

وهنا افتر ثغره ليبارك فكرة رائعة تفتح عنها ذهنه المضطرب. إن والده لا يستطيع أن يدرك الفرق الداخلي بينهما؛ وسيكفى شراؤها لتعود المياه إلى مجاريها. . .

ولكن سرعان ما شعر بخيبة مرة تخاذلت لها قدماء وانطبقت شفتاه على حطام ابتسامة. . . الشراء؟! إن ما معه من المال لا يبقى منه إذا اشترى الساعة ما يسد عوزه إلى أن تبدأ الإجازة

التي سيرجع فيها إلى قريته. . .

وهنا مرت أمام عينيه متلاصقة لتلك المواقف التي تكون بينه وبين والده حين يفقد شيئاً من أشيائه، ثم تذكر في مرارة زوجة أبيه وهي تفترص تلك المواقف لتملأ عينها الوقحة بمنظر دموعه الذليلة وهي تتلمس طريقها على حده الشاحب الهزيل!

وهنا وجد نفسه مدفوعاً إلى شراء تلك الساعة، هازئاً من آلام الحرمان التي سيلاقيها ما دام

ص: 56

يقاسيها وحده ولن يطلع عليها سواه!

وبعد أسبوع كانت مائدته قد سئمت تلك الوجبات الخشنة، ومعدته قد عافت تلك الأكلات التافهة. وكان قد تعود أن يسمع رفاقه يتساءلون عن تلك الصفرة التي تغطي وجهه والإعياء الذي يحد نشاطه! واستطاع أن يجيب رفاقه بما تعود من لباقة، وأن يتحمل الألم بما أنفطر عليه من صبر. .!!

ولكننا نرى نفسه القوية تنهار في يد الألم وتتخاذل في حلبة الصراع مع الأقدار، حين يطلب ناظر مدرسته إلى كل طالب أن يتبرع بعشرة قروش للنشاط الرياضي بالمدرسة!!

لقد شعر بأن القدر يتحداه ويسخر من إيمانه بكرامته!!

إنه لا يستطيع أن ينكص عن دفع هذا المبلغ لشهرته الرياضية بالمدرسة، ولا يستطيع أن يدفعه إلا إذا قدر أن يبقى يومين بدون طعام

وتحامل الشجاع الجريح على نفسه وصوب إلى صدر القدر آخر سهم من كنانة صبره وإيمانه. . .

وفي اليوم الذي ابتدأت فيه أجازته كان يسرع على إفريز المحطة ليلحق بالقطار المسافر إلى قريته. . .

وفي إحدى عربات الدرجة الثالثة ألقي بجسمه المنهوك وجعل يستعرض آلامه المضنية التي مرت به، وكأنه جندي مثخن يشفى غليله بمرأى قتلاه في الميدان!

واختلجت على شفتيه ابتسامة باهتة كانت تسترجع شجاعته وتستنهض أمله وتزف إليه كرامته في إطار من الثقة. . .

وسمع صوتاً يهتف من أعماقه: مرحى أيها الجندي الباسل! لقد آن لك أن تلقي الجزاء!! ولكن أي جزاء يا ترى؟؟

لقد راح يتخيل موقف واله منه وقد علم بفقد ساعته وطفق ينحي عليه بألوان من القسوة وضروب من العنف لتكون فرحته أشد حين يعلم أن شيئاً من ذلك لن يحدث!! وازدادت البسمة وضوحاً حين غادر القطار إلى بيته في أقصى القرية، كأنما استردت نشاطها من طول ما نامت على شفتيه. . .

وفي حجرة من حجرات البيت وقف يقبل يد والده قبلة آلية، ثم رفع رأسه ليرى وجه

ص: 57

والده، وكأنما غادر حجرته بالمدينة منذ أسابيع، وسمعه يقول وعلى شفتيه ابتسامة تهكم وفي صوته نبرة استخفاف: ما هذا الذهول الذي لا ينفك مستولياً عليك؟ كيف نسيت أن تأخذ ساعتك وأنت مسافر؟!

محمد أبو المعاطي أبو النجا

ص: 58